عناصر الموضوع
الصدق
أولًا: المعنى اللغوي:
الصدق لغة: أصل الكلمة، الصاد والدال والقاف أصل الكلمة وهي تدل على قوة الشيء في القول وغيره، والصدق: هو خلاف الكذب، وسمي بالصدق لقوته في نفسه، فالصادق يثق بما يقول ويقوى في نفسه؛ لأنه يعلم أنه يتكلم الحق، بعكس الكذب فإنه لا قوة له؛ لأنه باطل، ونفس الكاذب مطربة؛ لأنه يعلم أنه جانب الصواب وترك الحق إلى الباطل، وأصل هذا من قولهم: شيءٌ صدق، أي صلب، ورمح صدق، أي مستو يصيب الهدف من غير أن يخطئه، والصدق هو الكامل من كل شيء، والصدق: مطابقة الحكم للواقع، ومطابقة القول والضمير والمخبر عنه معًا، وصدقني ـ بفتح الصاد والدال المخففة ـ فلان: أي قال لي الصدق، وكل ما ينسب إلى الصلاح والخير يضاف إلى الصدق، لذلك يقال: رجل صدق؛ أي رجل ذو صلاح، وخمار صدق أو ثوب صدق؛ أي ثوب ذو جودة، والصداقة مصدر صدق، أي أنه صدقه المودة والنصيحة.
والصديق: هو الرجل الكثير الصدق، وأطلق هذا اللقب على أبي بكر الصديق؛ لأنه صدق النبي صلى الله عليه وسلم ولم تكن له كبوة في الإسلام1 .
ثانيًا: الصدق اصطلاحًا:
لا يختلف المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغوي.
قال الماوردي: «الصدق هو الإخبار عن الشيء على ما هو عليه، والكذب هو الإخبار عن الشيء بخلاف ما هو عليه، والصدق والكذب يدخلان الأخبار الماضية، كما أن الوفاء والخلف يدخلان المواعيد المستقبلية» 2.
وردت مادة (صدق) في القرآن الكريم (١٥٥) مرة3، يخص موضوع البحث منها (١٣٠) مرة.
والصيغ التي وردت، هي:
الصيغة |
عدد المرات |
المثال |
الفعل الماضي |
٢٢ |
(ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ) [يس:٥٢] |
الفعل المضارع |
٣ |
(ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ) [الواقعة:٥٧] |
المصدر |
١٦ |
(ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ) [الإسراء:٨٠] |
اسم الفاعل |
٨١ |
(ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ) [مريم:٥٤] (ﯽ ﯾ ﯿ) [الحديد:١٨] |
الصفة المشبهة |
٢ |
(ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ) [الشعراء١٠٠-١٠١] |
صيغة المبالغة |
٦ |
(ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ) [يوسف:٤٦] |
وجاء الصدق في القرآن بمعناه اللغوي، وهو: مطابقة الخبر للواقع بحسب اعتقاد المتكلم، والإخبار عن الشيء على ما هو به، نقيض الكذب، ويكون في الأقوال والأفعال والأحوال4.
الكذب:
الكذب لغة:
مادة كذب: الكاف والذال والباء: أصلٌ صحيحٌ يدل على خلاف الصدق5.
الكذب اصطلاحًا:
قال الجرجاني: «هو الإخبار عن الشيء على خلاف الواقع؛ سواء بالقول، أو بالإشارة، أو بالسكوت»6.
الصلة بين الكذب والصدق:
بينهما علاقة تضاد، فالصدق مطابقة الكلام لواقع الحال، والكذب خلافه.
إن الصدق من أعظم الأخلاق التي أمر بها القرآن الكريم، وهذا الخلق العظيم إذا اتصف به إنسان حسنت أخلاقه؛ لأنه من الصفات التي تقوم عليها كثيرٌ من الأخلاق.
والصدق مطلب أساسٌ في حياة المؤمن، وهو رأس الفضائل والأخلاق، وعنوان الصلاح والفضل، أثنى الله عز وجل على من اتصف به، فصار له خلقًا قال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ) [الحديد:١٩].
وبالصدق يتميز أهل النفاق عن أهل الإيمان، وسكان الجنان عن أهل النيران، وهو سيف الله في أرضه الذي ما وضع على شيء إلا قطعه، ولا واجه باطلًا إلا أرداه وصرعه، ومن اعتمده سما قدره، وعلت مكانته، ومن نطق به علت على الخصوم كلمته وظهرت حجته، وهو أساس بناء الدين وعمود فسطاط اليقين، ودرجة تالية لدرجة النبوة التي هي أرفع درجات العالمين7.
إن الإسلام جاء بقواعد وأركان، وحث على فضائل الأعمال، وكان يهدف وراء ذلك إلى إعداد مجتمع إسلامي فاضل، يقوم على حسن الخلق والاحترام والتعايش، من خلال إيجاد الفرد المسلم الرباني الذي يلتزم حدود ما أنزل الله على رسوله، ويعطي كل ذي حق حقه، ويسلم الناس من لسانه ويده.
وصدقًا، فقد أحدث الإسلام في بدايته تغييرًا جذريًا للنفوس والعقول، فأنشأ ذلك الجيل، وبحق كان خير أمة أخرجت للناس، حيث إنهم تربوا على مائدة القرآن وبين يدي معلم وصفه أعداؤه قبل أصدقائه بالصادق الأمين، فأنشأ ذلك الجيل الفريد الذي يملأ الأرض عدلًا ونورًا، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق)8.
لذلك فنحن في أمس الحاجة إلى التسلح بفضيلة الصدق، ونحن تتجاذبنا التيارات الفكرية الهابطة التي تعمل على انحطاط منظومة القيم والأخلاق والمثل العليا التي جاء بها هذا الدين، ليعيد للإنسان كرامته وإنسانيته، ويغرس فينا القيم الفاضلة والأخلاق الحسنة.
قال تعالى: (ﭢﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ) [إبراهيم:١].
وهل هناك ظلمة أعظم من ظلمة الكذب والاستبداد والجهل والفساد والرذيلة.
وبذلك تبرز أهمية الصدق؛ لأنه واحد من أهم الفضائل والقيم التي حث عليها الإسلام أتباعه.
قال تعالى: (ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ) [التوبة:١١٩].
وجاء في الحديث الشريف عن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله: (عليكم بالصدق، فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقًا، وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابًا) 9.
ومن أبرز فضائل الصدق:
أولًا: إسناد الصدق إلى الله تعالى:
لقد وصف الله تعالى ذاته القدسية بالصدق في آيات كثيرة، وتمثل ذلك في جانبين رئيسيين:
١. قوله صدق.
فكل ما نزل به الوحي، وأخبر به عن الخالق عز وجل من أمور الدنيا والآخرة هو الصدق الذي لا ريب فيه.
قال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ) [النساء:٨٧].
يقول إمام المفسرين في تفسيره «ومن أصدق من الله حديثًا، يعني بذلك: واعلموا حقيقة ما أخبركم من الخبر؛ فإني جامعكم إلى يوم القيامة للجزاء والعرض والحساب والثواب والعقاب يقينًا، فلا تشكوا في صحته، ولا تمتروا في حقيقته، فإن تولي الصدق الذي لا كذب فيه، ووعدي الصدق الذي لا خلف له، ويقول: وأي ناطق أصدق من الله تعالى حديثًا؟ وذلك أن الكاذب إنما يكذب ليجتلب بكذبه إلى نفسه نفعًا أو يدفع به عنها ضرًا، والله تعالى ذكره خالق الضر والنفع فغير جائز ومحال أن يكون منه كذب»10.
والقرآن الكريم هو كلام الله تعالى ذكره وكل ما جاء في القرآن الكريم هو الحق والصدق، فقد نزل مصدقًا لنفسه ولغيره من الكتب السماوية المنزلة قبله.
قال تعالى: (ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ) [المائدة:٤٨].
وشهد الله سبحانه وتعالى على صدق كلامه، فقال تعالى: (ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ) [النساء:١٢٢].
وقال تعالى: (ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ) [آل عمران:٩٥].
٢. صدقه في الوعد والوعيد.
إن التصديق بوعد الله ووعيده ثابت في الكتاب والسنة النبوية، ومن مستلزمات الإيمان بالله والغيب واليوم الآخر والملائكة والنبيين، وقد أقسم الله تعالى في عدة آيات على تحقيق ما يوعد به الناس.
قال تعالى: (ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩﯪ ﯫ ﯬﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳﯴ ﯵ ﯶ ﯷ) [الذاريات:١-٦].
وأقسم الحق تبارك وتعالى في مطلع سورة المرسلات بأن ما وعد به فهو واقع.
قال تعالى: (ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ) [المرسلات:١-٧].
كما أقسم الحق تبارك وتعالى في مطلع سورة الطور فقال: (ﮞ ﮟﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ)[الطور:١-٧].
وقد تحقق وعد الله ووعيده في الدنيا في القرون الماضية، فكم من أمة حقق الله لها العز بسبب الطاعة.
قال تعالى: (ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ) [نوح:١٠-١٢].
وكم من الأمم أهلكها الله بسبب ذنوبهم.
إن كل ما وعد الله به أنبياءه، وعباده الصالحين، كالنصر على الأعداء والغلبة وغيرها قد تحقق، فقد جاء في شأن رسله قوله تعالى: (ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ) [غافر:٥١].
وتحقق وعد الله سبحانه وتعالى في نصر المؤمنين يوم بدر، قال تعالى: (ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ) [الأنفال:١٠].
ومن أمثلة ذلك: صدق وعده عز وجل بفتح مكة (ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ) [الفتح:٢٧].
ووعد الله بنصر المؤمنين العاملين بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فقال تعالى: (ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ) [الروم:٤٧].
وتحقق نصره في غزوات ومعارك كثيرة للمؤمنين.
وجاء عن صدق وعده يوم الأحزاب قوله تعالى: (ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ) [الأحزاب:٢٢].
وقوله تعالى حكاية عن أهل الجنة: (ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ) [الزمر:٧٤].
كما أن وعيد الله تحقق عندما أخذ الظالمين أخذ عزيز مقتدر، إما بالريح العقيم، قال تعالى: (ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ) [الذاريات:٤١].
وإما بالصاعقة كما حدث لقوم ثمود، حيث قال تعالى: (ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ) [الذاريات:٤٣-٤٤].
وكذلك أخذ الله قوم فرعون بكفرهم فتم إغراقهم في اليم وهو مليم.
قال تعالى: (ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ) [القمر:٤١-٤٢].
وكذلك أخذ الله سبحانه وتعالى سائر الأقوام التي كذبت المرسلين، فقال تعالى: (ﯼ ﯽ ﯾﯿ ﰀ ﰁ) [الأنعام:١٤٦].
ثانيًا: التزام معية الصادقين:
إن الصدق رأس لكل فضيلة، وهو أجمل خلق حميد إذا اتصف به الإنسان يزداد هيبة ووقارًا، وإن الصدق ضرورة لتحقيق النظام، وكل معاني الخير في هذا العالم، فبه تحفظ الحقوق، وتصان النفوس، ويتم النظام ويعيش الناس آمنين مطمئنين على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم، فهو عنوان الإسلام وميزان الإيمان، وأساس الدين وخصلة حميدة في حق من اتصف بها، وقد أمر الله عباده بلزوم الصدق وصحبة الصادقين، فقال تعالى: (ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ) [التوبة:١١٩].
أي: أصدقوا والزموا الصدق تكونوا مع أهله، وتنجوا من المهالك، ويجعل الله لكم فرجًا في أموركم ومخرجًا11.
وعن عبد الله بن عمر: (ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ) أي: مع محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وقال الضحاك: «مع أبي بكر وعمر وأصحابهما»، وقال الحسن البصري: «إن أردت أن تكون مع الصادقين، فعليك بالزهد في الدنيا والكف عن أهل الملة غير الصادقة»12.
وقوله تعالى: (ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ) [النساء:٦٩].
قال الشوكاني في تفسيرها: «ومن يطع الله والرسول كلام مستأنف لبيان فضل الطاعة لله والرسول، من أولئك المطيعين، فهم مع الذين أنعم الله عليهم بدخول الجنة والوصول إلى ما أعد الله لهم، والصديق المبالغ في الصدق كما تفيده الصيغة، وقيل هم الفضلاء أتباع الأنبياء، والشهداء: من ثبت لهم الشهادة، والصالحين: هم أصل الأعمال الصالحة»13.
ثم ذيل الآية الكريمة بقوله: (ﮉ ﮊ ﮋ) هذا هو الرفيق الذي يجب أن تعض عليه بالنواجذ، هذا الرفيق الذي يجب أن تلازمه؛ لأن أثر تعامل المؤمنين الصادقين يأثر تأثيرًا طيبًا من خلال تعلم البعض من البعض خلال الصدق والورع والزهد والاستقامة والتقوى، فإذا المجتمع مجتمع مؤمن، فاحرص أن تكون علاقاتك ومجالسك وندواتك في أفراحك مع المؤمنين الذين صدقوا الله.
قال تعالى: (ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ) [المائدة:١١٩].
«أي ينفع الصادقين في الدنيا صدقهم في الآخرة، ولو كذبوا لختم الله على أفواههم، ونطقت به جوارحهم فافتضحوا» 14.
لقد اقتضت حكمة الله في خلقه أن جعل الإنسان ميالًا بطبعه إلى مخالطة الآخرين ومجالستهم ومصاحبتهم، وهذه الصحبة لها أثرها الفعال في مصير الإنسان وسعادته في الدنيا والآخرة، فإن المرء يتأثر بجليسه، ويصطبغ بصبغته فكرًا ومعتقدًا وسلوكًا وعملًا، فقد أخبر الحق تبارك وتعالى عن ندم الظالم يوم القيامة وتأسفه على مصاحبته للمنحرفين؛ لأنهم كانوا سببًا في انحرافه وإضلاله.
قال تعالى: (ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ) [الفرقان:٢٧-٢٩].
يوم القيامة تشتد حسرات الظالم، وتتصاعد زفراته وهو يقول يا ليتني لم أصاحب هذا الذي أضلني عن الذكر، يعني القرآن أو مواعظ الرسول؛ لأنه أوقعه في الضلال، فهو كالشيطان يعده ويمنيه في الدنيا، ما يسبب له الحسرة في الآخرة15.
وقال عليه السلام: (إنما مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك وإما أن تبتاع منه وإما أن تجد منه ريحًا طيبةً، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد منه ريحًا خبيثة)16.
فأوضح عليه السلام أن الجليس له تأثير على جليسه سلبًا أو إيجابًا بحسب صلاحه وفساده، حيث شبه الجليس الصالح بحامل المسك وهو على أدنى الأحوال أن تجد منه الرائحة الطيبة المؤثرة على نفسك وبدنك وثيابك، أما الجليس السوء فهو إما أن يحرق ثيابك أو تجد منه رائحة منتنة تسبب له غصة وعاهة في رئتيك؛ فيسبب لك الضرر بمجالسته.
وببركة مجالسة الصالحين فإن الله يغفر لهم ولجليسهم وإن لم يكن منهم، حيث جاء في الحديث الشريف عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن لله ملائكةً يطوفون في الطرق يلتمسون أهل الذكر فإذا وجدوا قومًا يذكرون الله تنادوا: هلموا إلى حاجتكم، قال: فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا، قال: فيسألهم ربهم عز وجل وهو أعلم منهم: ما يقول عبادي؟ قال: تقول يعني الملائكة يسبحونك ويكبرونك ويحمدونك ويمجدونك، قال فيقول الله: فأشهدكم أني قد غفرت لهم، قال: فيقول ملكٌ من الملائكة: فيهم فلانٌ ليس منهم إنما جاء لحاجةٍ، وفي لفظ: فيهم فلانٌ عبدٌ خطاءٌ إنما مر فجلس معهم، قال: فيقول: هم الجلساء لا يشقى جليسهم)17.
فلنحرص على مصاحبة من وصفهم الله بقوله تعالى: (ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ) [الأحزاب:٣٥].
لقد أعد الله سبحانه وتعالى لهؤلاء الموصوفين بتلك الصفات الحميدة والمناقب الجليلة التي هي ما بين اعتقادات وأعمال قلوب، وأعمال جوارح، وأقوال لسان، وما بين أفعال الخير وترك الشر، الذي من قام بهن، فقد قام بالدين كله، ظاهره وباطنه، وبالإسلام والإيمان والإحسان، فجزاهم على أعمالهم بالمغفرة من الذنوب والأجر العظيم؛ لأن الحسنات يذهبن السيئات، نسأل الله سبحانه أن يجعلنا منهم، إنه سميع مجيب الدعاء 18.
ثالثًا: الصدق صفة الأنبياء والصالحين:
١. الصدق صفة الأنبياء.
إن أعظم صفات الرسل الصدق؛ لأنهم المبلغون عن الله وحيه، والمرسلون بشرعه إلى خلقه، وكيف لا يتصفون بالصدق؟ فلزم أن يكون الصدق ملازمًا لهم في الأفعال والأقوال، وهذا ما حكاه الله سبحانه وتعالى عنهم في عدة مواضع من القرآن الكريم، كقوله جل جلاله: (ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ) [يس:٥٢].
وذكر في حق إبراهيم عليه السلام قوله تعالى: (ﭧ ﭨ ﭩ ﭪﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ) [مريم:٤١].
وأيضًا قوله تعالى: (ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ) [الشعراء:٨٣-٨٤].
ووصف الحق سبحانه وتعالى إسماعيل عليه السلام بالصدق في الوعد، فقال تعالى: (ﭡ ﭢ ﭣ ﭤﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ) [مريم:٥٤].
وجاء في حق إدريس عليه السلام، قوله تعالى: (ﭸ ﭹ ﭺ ﭻﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ) [مريم:٥٦].
ونزل بشأن إسحق ويعقوب عليهما السلام قوله تعالى: (ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ) [مريم:٤٩-٥٠].
ونزلت آيات توضح صدق يوسف عليه السلام، فقال تعالى: (ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ) [يوسف:٤٦].
وآية أخرى يؤيد الله نبيه يوسف بدليل يؤكد على صدقه، قال تعالى: (ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ) [يوسف:٢٧].
ووصفه بالصدق باعتراف امرأة العزيز، حيث جاء حكاية في قوله تعالى: (ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ) [يوسف:٥١].
الصدق في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم:
لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مثالًا وقدوة في صفة الصدق، وكان معروفًا بالصدق في قومه قبل البعثة، فلقبوه بالصادق الأمين، واشتهر بهذا اللقب وعرف به بين أقرانه، وبعد البعثة المباركة كان تصديق الوحي له مدعاة؛ لأن يطلق عليه أصحابه «الصادق الأمين» وصدق الله عز وجل إذ قال: (ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ) [النجم:٢-٤].
وأكبر من هذا كله شهادة رب العالمين على صدقه صلى الله عليه وسلم، فقال تعالى: (ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ) [الزمر:٣٣].
والذي جاء بالصدق هو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، والذي شهد لما جاء به هو الله سبحانه وتعالى من فوق سبع سموات، وأيد ذلك ابن عاشور في تفسيره شارحًا لهذه الآية: «الذي جاء بالصدق هو محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم والصدق هو القرآن»19 .
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم دائمًا يحث المسلمين على الصدق في أقوالهم وأفعالهم، ويوجه خطابه للمسلمين قائلًا: (اضمنوا لي ستًا من أنفسكم أضمن لكم الجنة، اصدقوا إذا حدثتم، وأوفوا إذا وعدتم، وأدوا إذا اؤتمنتم، واحفظوا فروجكم، وغضوا أبصاركم، وكفوا أيديكم)20 .
وكان صلى الله عليه وسلم يغرس في نفوس أصحابه الصدق ويربيهم عليه، وأكبر دليل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك؛ فإن الصدق طمأنينة، وإن الكذب ريبة)21.
صدق رسول الله في الحرب:
لننظر إلى موقفه قبيل غزوة بدر، التي خرجت فيها قريش لتقضي على المسلمين، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر الصديق رضي الله عنه؛ ليتعرفا على أخبار المشركين، فوقفا على شيخ من العرب، فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قريش، وعن محمد وأصحابه، وما بلغه عنهم، فقال الشيخ: لا أخبركما حتى تخبراني ممن أنتما؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أخبرتنا أخبرناك) قال: ذاك بذاك؟ قال: (نعم)، قال الشيخ: فإنه بلغني أن محمدًا وأصحابه خرجوا يوم كذا وكذا، فإن كان صدق الذي أخبرني، فهم اليوم بمكان كذا وكذا، للمكان الذي به رسول الله صلى الله عليه وسلم وبلغني أن قريشًا خرجوا يوم كذا وكذا، فإن كان الذي أخبرني صدقني فهم اليوم بمكان كذا وكذا، للمكان الذي فيه قريش، فلما فرغ من خبره، قال: ممن أنتما؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نحن من ماء) ثم انصرف عنه، قال يقول الشيخ: من ماءٍ؛ أمن ماء العراق22.
صدق رسول الله في الفكاهة:
لقد اتصف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصدق في كل أفعاله وأقواله، حتى في مزاحه ومفاكهاته صلى الله عليه وسلم، التي يظن البعض أن الكذب فيها مباح، فعن أنس بن مالك، أن رجلًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فاستحمله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنا حاملوك على ولد ناقة)، قال: يا رسول الله ما أصنع بولد ناقة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وهل تلد الإبل إلا النوق)23.
فكانت هذه الفكاهة من النبي صلى الله عليه وسلم مع رجل من عامة المسلمين من باب تقارب النفوس، وزيادة المحبة، لكنه صلى الله عليه وسلم كان صادقًا ولم يستعمل إلا الصدق.
٢. الصدق صفة الصالحين.
إن الله تعالى وصف عباده المؤمنين بصفات عديدة وخصال حميدة، ومن أعظمها: صفة الصدق.
قال تعالى: (ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ) [التوبة:١١٩].
وهذا الأمر جاء بعد قصة الثلاثة الذين خلفوا عن غزوة تبوك، وأوضحت الآيات كيف نفعهم صدقهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول القرطبي في تفسيره: «هذا الأمر بالكون مع الصادقين حسن بعد قصة الثلاثة حين نفعهم الصدق، وذهب بهم عن منازل المنافقين، قال مطروف: سمعت مالك بن أنس يقول: قلما كان رجل صادقًا لا يكذب إلا متع بعقله ولم يصبه ما يصيب غيره من الهرم والخرف وقال حق من فهم عن الله وعقل عنه أن يلازم الصدق في الأقوال والإخلاص في الأعمال، والصفاء في الأحوال، فمن كان كذلك لحق بالأبرار ووصل إلى رضا الغفار»24 .
ويقول ابن كثير في تفسيره لقوله تعالى: (ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ) [التوبة:١١٩]: «أي: اصدقوا والزموا الصدق تكونوا من الصادقين وتنجوا عن المهالك، ويجعل الله لكم فرجًا من أموركم ومخرجًا»25.
إن للصدق أثرًا كبيرًا على الصادقين، فظهر منهم العجائب في صدقهم، فأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا أصدق الناس إيمانًا وأصدقهم يقينًا، فظهر عليهم الصدق في كل أحوالهم، فهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه صدق النبي في حادثة الإسراء والمعراج، حيث جاء نفرٌ من المشركين إلى أبي بكر رضي الله عنه فقالوا: إن صاحبك يزعم أنه ذهب إلى بيت المقدس وعاد في ليلة واحدة، ونحن نضرب أكباد الأبل شهرًا ذهابًا وإيابًا، فقال: أهو قال ذلك؟ قالوا: نعم، فقال: إن كان قد قال ذلك فقد صدق، إني أصدقه على أعظم من ذلك، إني أصدقه أنه يأتيه خبر السماء، وسمي بالصديق26.
ووصف الله سبحانه وتعالى الصحابة بالصدق، فقال تعالى: (ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ) [الحشر:٨].
وأوضح صلى الله عليه وسلم أن التاجر عندما يتحلى بالصدق يكون ذلك في أسباب الفلاح، والفوز يوم القيامة، حيث جاء عن رفاعة عن أبيه (أن النبي خرج على المصلى فرأى الناس يتبايعون، فقال: يا معشر التجار! فاستجابوا الرسول الله صلى الله عليه وسلم ورفعوا أعناقهم وأبصارهم إليه، فقال: (إن التجار يبعثون يوم القيامة فجارًا، إلا من اتقى الله وبر وصدق)27.
وقال ابن عباس رضي الله عنه: «أربع من كن فيه فقد ربح: الصدق، والحياء، وحسن الخلق، والشكر»28.
فلنصدق الله في إيماننا، ولنصدق الله في إخلاصنا، ولنصدق الله في سائر أعمالنا، فلا منجى من عذاب الله إلا الصدق الذي نلتزم به، ونخالف المنافقين الذين كذبت ألسنتهم وكذبت قلوبهم، فالمؤمن صادق في قوله وفعله وفي تصرفاته.
رابعًا: دعاء الصالحين يجعلهم من الصادقين:
إن لنا الأسوة الحسنة في خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام في التضرع إلى الله بطلب الدعاء، حيث جاء حكاية عنه قوله تعالى: (ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ) [الشعراء:٨٣-٨٥].
ويتضمن دعاؤه في هذه الآيات ما يلي:
- طلب الحكمة.
قال تعالى: (ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ) أي: أعطني معرفة به، بحدودك وأحكامك، علمًا أعرف الحلال والحرام، لأحكم به بين الناس، وامنحنى الحكمة التي أعرف بها القيم الصحيحة من القيم الباطلة الزائفة29.
- طلب اللحاق بالصالحين.
قال تعالى: (ﰇ ﰈ) يقولها إبراهيم عليه السلام الأواه الحليم، أي: اجعلني من الصالحين في الدنيا والآخرة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم عند الاحتضار: (اللهم في الرفيق الأعلى) قالها ثلاثًا 30.
وهذا هو مطلب وسؤال رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم: (اللهم توفنا مسلمين، وأحينا مسلمين، وألحقنا بالصالحين، غير خزايا ولا مفتونين)31.
إنه الحرص من الأنبياء على اللحاق بالصالحين الصادقين، وبالتوفيق إلى العمل الصالح الذي يلحق صاحبه بركب المخلصين الصالحين الصادقين.
- طلب الذكرى الحسنة بعد وفاته.
قال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ) يعني: الثناء الحسن بين الناس، والذكر بالخير والقول الطيب والصدق بين الأمم الآتية من بعدي، قال ابن عاشور: «وهذا يتضمن سؤال الدوام والختام على الكمال وطلب نشر الثناء عليه، وهذا ما تتغذى به الروح من بعد موته؛ لأن الثناء عليه يستدعي دعاء الناس له، والصلاة والتسليم جزاء على ما عرفوه من زكاء نفسه»32.
وقد استجاب الله عز وجل له وحقق دعوته، وجعل له لسان صدق في الآخرين وبعث فيهم رسولًا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين.
- طلب جنة النعيم.
قال تعالى: (ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ) أي: من السعداء في الآخرة الذين يستحقون ميراث جنات الخلد.
وقد أجاب الله تعالى دعوته، فرفع منزلته، وفي هذا حث للعباد على الجد في الدعاء الذي يحقق الخير في الدنيا والآخرة للمؤمنين المخلصين الصادقين مع الله عز وجل ومع الناس ومع أنفسهم، وجاء في شأن المهاجرين قوله تعالى: (ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ) [الحشر:٨].
إن الصدق فضيلة وصف الله عز وجل بها المهاجرين، عندما خرجوا من ديارهم وأموالهم لنصرة الله ورسوله، فكانوا مخلصين لله، مبتغين مرضاته ورضوانه فقال: (ﯢ ﯣ ﯤ) أي في إيمانهم وجهادهم 33.
فهم الصادقون أهل الإيمان واليقين والمجاهدة.
قال تعالى: (ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ) [الحجرات:١٥].
إن الصادق مستجاب الدعاء بإذن الله تعالى، وأجره محقق، وإن عجز العبد عن العمل الذي نواه بصدق، حيث جاء عن سهل بن أمامة عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء، وإن مات على فراشه)34.
والصادق تحصل له البركة في بيعه وشرائه، حيث أخرج البخاري عن حكيم ابن حزام رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما)35.
خامسًا: الثناء على أهل الصدق ووصفهم بالتقوى ومحبة الله:
وصف الله سبحانه وتعالى عباده المؤمنين بصفات عديدة وخصال حميدة، من أعظمها صفة الصدق.
قال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ) [الأحزاب:٢٣-٢٤].
فهم أهل صدق ووفاء للعهود والمواثيق التي يبرموها مع الآخرين، وقبل ذلك أهل وفاء مع الله في أدائهم للتكاليف والشرائع التي كلفوا بتطبيقها، ولقد حث الإسلام على الوفاء بالعهود والعقود، فالموفون بعهدهم، هم الصادقون الذين يقومون بأداء الواجب.
ويكفي أهل الصدق فضلًا، أن الله جعل لهم الجزاء العظيم بجنات تجري من تحتها الأنهار.
قال تعالى: (ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ) [المائدة:١١٩].
فجعل الله سبحانه وتعالى أنه لا ينفع العبد وينجيه من العذاب يوم القيامة إلا صدقه، فهو الذي يحقق رضا الله ويدخل صاحبه الجنة.
بل إن منازل أهل الصدق من أعلى المنازل وأعظمها حتى ظن البعض أنها منازل الأنبياء عليهما السلام.
قال سبحانه وتعالى: (ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ) [النساء:٦٩].
وجاء عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم: (اضمنوا لي ستًا من أنفسكم أضمن لكم الجنة: اصدقوا إذا حدثتم، وأوفوا إذا وعدتم، وأدوا إذا ائتمنتم، واحفظوا فروجكم، وغضوا أبصاركم، وكفوا أيديكم)36.
إن الصدق هو الطريق الأقوى المؤدي إلى رضوان الله تعالى: فمن سلكه كان من الناجين، ومن حاد عنه وانحرف كان من المنقطعين الهالكين، وبين الله سبحانه وتعالى أن المتقين هم الذين صدقوا الله فصدقهم، فدرجتهم تالية لدرجة النبوة، التي هي أرفع الدرجات، وما نال الصادقون هذه الدرجة العالية والإنعام العظيم إلا بطاعتهم لله ورسوله في كل الأوامر والنواهي.
والصدق المساوي للتقوى، هو الصدق في الأقوال، بأن تكون أقواله مساوية للحقيقة والواقع، والصدق في الأعمال والأفعال هو استواء الأفعال على الأمر والنهي لله ولرسوله، والصدق في الأحوال هو استواء أعمال القلب والجوارح على الإخلاص لله، حيث جاء عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة وإن الرجل ليصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقًا، وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب ويتحرى الكذب، حتى يكتب عند الله كذابًا)37.
وحكم الله سبحانه وتعالى في ختام آية البر بعد أن ذكر خصاله التي يريدها من المؤمن، أن من فعل هذه الخصال فإنه الصادق والتقي، فقال سبحانه وتعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿﮀ ﮁ ﮂ ﮃﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ) [البقرة:١٧٧].
إن هذه الآية الكريمة حاويةٌ لجميع الكمالات البشرية تصريحًا أو تلميحًا، ومع كثرة الخصال المذكورة فيها، إلا أننا نستطيع أن نجمعها في خصال ثلاث هي: البر في العقيدة، والبر في الأخلاق، والبر في العمل، وختمت الآية بالإشارة إلى أن من جمع هذه الخصال، هم الذين صدقوا في الدين واتباع الحق، وتحري البر، ثم كرر لفظ الإشارة، للتنويه بشأن من جمع هذه الخصال، فجاء بالضمير (هم) بين اسم الإشارة والمتقين؛ لبيان أن من جمع هذه الخصال تنحصر التقوى فيهم، فقال تعالى: (ﮅ ﮆ ﮇ) [البقرة:١٧٧].
فالصدق في الإيمان وفي الإسلام، والصدق في الأخلاق، يحقق التقوى لنا على الدوام، ندعو الله أن نكون من الصادقين لننال التقوى، وإذا تحققت التقوى في النفوس، فهي عامل أساس في إيجاد محبة الله؛ لأن الله يحب المتقين الصادقين العاملين بمنهج الله سبحانه وتعالى38.
قال تعالى: (ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ) [التوبة:٤].
وقال تعالى: (ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ) [التوبة:٧].
وأوضح الحق تبارك وتعالى أنه يحب التوابين ويحب المتطهرين ويحب المقسطين ويحب المحسنين.
قال تعالى: (ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ) [آل عمران:١٤٨].
وفضيلة الصدق تجمع هذه الفضائل؛ لأن من اتصف بالصدق، كان من الذين استقاموا، واتقوا، وأحسنوا، وتابوا، وتطهروا، وأقسطوا أي: عدلوا إذا حكموا في أي قضية، إذًا فالصدق يورث محبة ومعية الله تعالى للصادقين؛ فمن أراد أن يكون الله معه ويحبه، فليلزم الصدق في جميع أحواله؛ فإن الله تعالى مع الصادقين، وإن الله تعالى يحب الصادقين المتقين.
إن الصدق خلق عظيم، وهو من أهم أخلاق المسلم وخاصة الداعية إلى الله تعالى وهو أساس يقوم عليه الإسلام العظيم.
يقول ابن القيم رحمه الله: «هو منزلة القوم الأعظم، الذي منه تنشأ جميع منازل السالكين، والطريق الأقوم الذي من لم يسر عليه فهو من المنقطعين الهالكين، وبه يتميز أهل النفاق من أهل الإيمان، وسكان الجنان من أهل النيران، وهو سيف الله في أرضه الذي ما وضع على شيء إلا قطعه، ولا واجه باطلًا إلا أراده وصرعه»39.
وكثيرة هي الآيات الآمرة بالتحلي بالصدق والمرغبة فيه.
قال تعالى: (ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ) [التوبة:١١٩].
يقول الإمام الألوسي رحمه الله: «وفي الآية ما لا يخفى من مدح الصدق»40.
ومن الآيات المرغبة بفضيلة الصدق قوله تعالى: (ﭰ ﭱ ﭲﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ) [محمد:٢١].
يقول الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله: «والصادقون هم المعتصمون بالصدق والإخلاص في جهادهم إذا جاهدوا، وفي عهودهم إذا عاهدوا، وفي أقوالهم ووعودهم إذا حدثوا ووعدوا وفي توبتهم إذا أذنبوا أو قصروا»41.
يتضح من ذلك أن الصدق يدخل في ميادين كثيرة نذكر منها النقاط الآتية:
أولًا: صدق النية والإرادة:
ينبغي على الإنسان حينما يقوم بأي عمل في هذه الحياة، أن يعقد النية مع الله، وأن يكون صادقًا في ابتغاء مرضات الله تبارك وتعالى لكي يكون عمله مقبولًا وله ثماره الطيبة.
قال تعالى: (ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ) [البينة:٥].
وأوضح صلى الله عليه وسلم أن الصدق في النية هو الأساس لقبول الأعمال، عن أبي حفص عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأةٍ ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه)42.
وهذا الصدق له متعلق بالإخلاص، بمعنى أنه لا يكون له باعث للعمل إلا رضا الله سبحانه وتعالى، وصدق النية يجدد مقاصد المكلفين من أي عمل يقومون به، فإن انحرفت عن هذا المقصد إلى حظ من حظوظ النفس بطل صدق النية، ويرشد إلى ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أول الناس يقضى فيه يوم القيامة ثلاثةٌ: رجلٌ استشهد أتي به فعرفه نعمة فعرفها فقال: ما عملت فيها؟ قال: قاتلت في سبيلك حتى استشهدت، قال: كذبت إنما أردت أن يقال فلانٌ جريء، فقد قيل: فأمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجلٌ تعلم العلم وقرأ القرآن فأتي به فعرفه نعمه فعرفها فقال: ما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وقرأت القرآن وعلمته فيك، قال: كذبت إنما أردت أن يقال فلان عالم وفلان قارئ فقد قيل، فأمر به فسحب على وجهه إلى النار، ورجلٌ أتاه الله من أنواع المال فأتى به فعرفه نعمه فعرفها فقال: ما عملت فيها؟ فقال: ما تركت من شيء تحب أن ينفق فيه إلا أنفقت فيه لك، قال: كذبت إنما أردت أن يقال فلان جوادٌ فقد قيل فأمر فسحب على وجهه حتى ألقي في النار)43.
ثانيًا: صدق الظاهر مع الباطن:
إن الصدق يعني مطابقة الظاهر للباطن، والأفعال للأقوال، بحيث توافق الأفعال الأقوال، فيعيش المسلم توافقًا كاملًا في حركاته وسكناته، فلا يبطن غير ما يظهر، ولا يخبر بغير ما وقع، ولا يقول ما لا يفعل، وإذا وافق الظاهر للباطن عند الإنسان، يكون تحلى بأعظم الصفات وأرفع الأخلاق، فيعيش مرتاح الضمير هادئ النفس؛ لأن الكذب يجعل النفس في اضطراب وعدم راحة، وإن المنافق الذي يخالف ظاهره عن باطنه، فيظهر الإيمان ويبطن الكفر، فهذا عين التملق والنفاق، وكذب بين ظاهره وباطنه، وكذلك يدخل في ذلك ذو الوجهين، وهو شر الناس في ميزان الشرع، فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن شر الناس ذو الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه)44.
ونقل ابن حجر العسقلاني في شرحه عن القرطبي قوله في ذي الوجهين: «إنما كان ذو الوجهين شر الناس؛ لأن حاله حال المنافق، إذ هو متملق بالباطل، وبالكذب، مدخلٌ للفساد بين الناس»، ونقل عن النووي قوله: «هو الذي يأتي كل طائفة بما يرضيها، فيظهر لها أنه منها ومخالف لضدها، وصنيعه نفاق محض وكذب وخداع وتحيل على الاطلاع على أسرار الطائفتين»45.
فالمسلم صادق الحال لا يظهر خلاف ما يبطنه، ولا يتظاهر بما ليس فيه من التقوى والإخلاص، فهو في سكينة وراحة نفسية، بعكس المنافق الذي يعيش في فزع واضطراب في حياته.
قال تعالى: (ﯭ ﯮ ﯯ ﯰﯱ ﯲ ﯳ ﯴﯵ ﯶ ﯷﯸ ﯹ ﯺ) [المنافقون:٤].
ثالثًا: الصدق في القول:
الصدق في الأقوال يستوجب من المسلم أن يحفظ لسانه، فلا يتكلم إلا بصدق ولا ينطق إلا الحق، فأحسن الكلام ما صدق فيه قائله، وانتفع به سامعه، ونهى الله تبارك وتعالى عن مخالفة القول للعمل.
قال تعالى: (ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ) [الصف:٢-٣].
وأمر سبحانه وتعالى بالقول السديد النابع من تحلي المؤمن بتقوى الله، قال تعالى: (ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ) [الأحزاب:٧٠].
ونهى الحق تبارك وتعالى عن تتبع الناس في قفاهم لمعرفة أسرارهم ومن ثم إذاعتها بين الناس.
قال تعالى: (ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ) [الإسراء:٣٦].
والصدق في القول مطلوب وأوجب في الشهادات والتزكيات ونقل الأخبار، حتى لو كانت الشهادة على النفس أو أقرب المقربين لنا.
قال تعالى: (ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ) [النساء:١٣٥].
وأخبر صلى الله عليه وسلم أن شهادة الزور من أكبر الكبائر، عن أبي بكرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر) -ثلاثًا- قلنا: بلى، قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس).وكان متكئًا فجلس، وقال: (ألا وقول الزور وشهادة الزور فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت!!)46.
كما أن على المسلم أن يتحرى الصدق في نقل الأخبار، فيتطلب من الناقل اجتناب الظنون والأوهام، ولا يجوز التعاطي مع الأخبار الكاذبة وترويجها في المجتمع المسلم، خوفًا من إحداث الفتن.
قال تعالى: (ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ) [الحجرات:٦].
فالمسم إذا أخبر فلا يخبر إلا بما هو مطابق للواقع، فإن الكذب آية المنافق وعلامة له، قال صلى الله عليه وسلم: (آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان)47.
أما بالنسبة إلى الكذب فإنه محرم، ويتفاوت في القبح والإثم، وأشنع صوره: الكذب على الله والرسول؛ لأنه افتراء في الدين، وتجرؤ عظيم على الله، ولذلك كان من صفات النبي صلى الله عليه وسلم صفة الصدق في تبليغ ما أمره الله بتبليغه وفي سائر شئون حياته.
قال تعالى: (ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ) [الأنعام:١٤٤].
ونظير ذلك الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم، كما جاء في الحديث الشريف عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار)48.
والأصل في الكذب عدم الجواز، ولكن توجد حالات جاء الشرع بجواز الكذب فيها تحقيقًا للمصلحة العظيمة أو دفعًا للمضرة، فمن تلك الحالات: أن يتوسط إنسان للإصلاح بين فريقين متخاصمين، إذا لم يمكنه أن يصلح إلا بشيء منه؛ لحديث النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فيمني خيرًا أو يقول خيرًا)49.
ومن تلك الحاجات: حديث الرجل لامرأته، في الأمور التي تشد أواصر الوفاق والمودة بينهما وما قد يصاحب ذلك الكلام من المبالغات، كما جاء في الحديث الشريف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل الكذب إلا في ثلاث يحدث الرجل امرأته ليرضيها، والكذب في الحرب، والكذب ليصلح بين الناس) 50.
رابعًا: الصدق في الفعل:
إن الصدق في العمل والالتزام به من أخلاق المؤمنين الصادقين.
قال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ) [الأحزاب:٢٣].
إن الآية صريحة في بيان صدق الأفعال والالتزام الحاصل من الصحابة رضوان الله عليهم في جميع أعمالهم؛ حيث إنهم كانوا يصبغونها بمقتضى العلم الشرعي، وكان لهم الأسوة الحسنة في شعيب عليه السلام.
قال تعالى: (ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ) [هود:٨٨].
وأنكر الله سبحانه وتعالى على من خالف فعله ما عنده من النصوص الشرعية.
قال تعالى: (ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫﮬ ﮭ ﮮ ﮯ) [البقرة:٤٤].
والصدق يكون في إتقان العمل الذي يقوم به المسلم، بأداء الأعمال والحقوق إلى أصحابها كاملة، فلا بخس ولا غش ولا خداع ولا ظلم، بل يؤدي عمله على خير وجه، فيحسن إلى نفسه فلا يلحقه تبعه من عمله، ويحسن إلى الآخرين بتوفيتهم حقوقهم عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملًا أن يتقنه) 51.
إن الصدق في الأعمال لا يتحقق إلا بثمن، ولا يصير خلقًا للإنسان إلا بتضحية ومجاهدة شاقة، إنه خلق لا يتحمله إلا المخلصون المتجردون لله تعالى من كل حظوظ النفس ومتاع الحياة الدنيا.
قال تعالى: (ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ) [البقرة:٢٠٧].
الصدق في الأفعال يقتضي أن يكون المسلم مطيعًا لربه، ممتثلًا لأوامره، ومجتنبًا لنهيه في السراء والضراء، آخذًا بتعاليم القرآن الكريم، ومقتديًا بسنة رسوله الكريم، وأشار صاحب خلق المسلم فقال: «العمل الصادق هو العمل الذي لا ريبة فيه؛ لأنه وليد اليقين، ولا هوى معه؛ لأنه قرين الإخلاص، ولا عوج عليه؛ لأنه نبع من الحق»52.
فعلينا بالصدق في القول والعمل؛ ففيه النجاة والفرج من كل كرب مبين، وهذا الباب واسع فهو يشمل كل معاملات الناس وعلاقاتهم، وقد أصل له قول النبي صلى الله عليه وسلم حينما رأى صبرة طعام فأعجبته، وحينما أدخل يده فيها وجد فيها بللًا فنهى صاحب الطعام عن ذلك الغش بأسلوب فيه من الحدة53.
عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على صبرة طعام فأدخل يده فيها، فنالت أصابعه بللًا، فقال: (ما هذا يا صاحب الطعام) قال: أصابته السماء يا رسول الله! قال: (أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس من غش فليس مني)54.
ويؤخذ من الحديث أن من غش واحدًا من المسلمين يعتبر غاشًا للأمة وللمجتمع، لأن المؤمنين كالجسد الواحد، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم.
قال تعالى: (ﯿ ﰀ ﰁ) [الحجرات:١١].
فالذي يلمز الناس في أعراضهم كأنما يلمز نفسـه؛ لأن المؤمنين أخوة في العقيدة والإيمان، تجمعهم آصرة واحدة في دين الله55.
خلاصة القول: إن الصدق قيمة أساسية في كل معاملات الناس، بل الدارس لفقه المعاملات يجد أن أي معاملة يغيب فيها الصدق تحظر ولا يعمل بها، لتغيبها لحقوق الناس، ومن هذا الوجه، حرمت جملة من البيوع كالنجش والغرر، وبيع المجهور، وتلقي الركبان وغيرها من البيوع التي تتضمن نوعًا من الخديعة، وفقدان المصداقية.
خامسًا: الصدق في الوعد:
إن الصدق في الوعد وفي العهد من الفضائل الخلقية التي يتحلى بها المؤمنون، ويشترك الوعد والعهد بأن كلًا منهما، إخبار بأمر يجب على المخبر أن يفعله، ويفترقان بأن العهد يزيد على الوعد بالتوثيق الذي يقدمه صاحب العهد، ومن أيمان مؤكدة، ويعاهد كلٌ من الفريقين المتعاهدين صاحبه بما سيفعل.
وأمر الله سبحانه وتعالى بالوفاء بالعهود والمواثيق في آيات كثيرة، قال تعالى: (ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ) [البقرة:١٧٧].
ثم أوضح أن الإنسان يسأل يوم القيامة عن العهد، قال تعالى: (ﯚ ﯛﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ) [الإسراء:٣٤].
وهو وصية الله للمسلمين، قال تعالى: (ﭰ ﭱ ﭲﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ) [الأنعام:١٥٢].
ووصف القرآن الكريم الذين يوفون بالعهد بأحسن الصفات، فقال: (ﭵ ﭶ ﭷ ﭸﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿﮀ ﮁ ﮂ ﮃﮄ ﮅ ﮆ ﮇ) [البقرة:١٧٧].
ثم أوضح أن محبة الله واقعة في حق المتقين الذين يوفون بالعهود وما أبرموه مع الآخرين، قال تعالى: (ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ) [آل عمران:٧٦].
وحذر تبارك وتعالى من نقض العهد والميثاق؛ لأنه يؤدي إلى سوء السلوك والأخلاق.
قال تعالى: (ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ) [البقرة:٢٧].
وإخلاف العهد ونقضه، ينحط بصاحبه إلى أسوأ البشر أخلاقًا، وبخاصة إذا كان العهد مع الله، فإن المتصف بتلك الصفة ينتقل من مجتمع الصادقين المتقين إلى تجمع المخادعين الكاذبين من المنافقين.
قال تعالى: (ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ) [التوبة:٧٧].
ويوحي تفسير الآيات السابقة، بأن الوفاء بالعهد هو جزء لا يتجزأ عن الإيمان بالعقيدة الإسلامية، لذلك فالمسلم يلتزم بالعهد سواء كان مبرمًا مع عدو أو صديق، ولا يجوز التلاعب به، فليس العهد من باب مصلحة المعاهد متى شاء أوفى به، ومتى شاء نقضه على حسب المصلحة، وإنما العهد يتعلق بالتعامل مع الله، فينبغي الوفاء به متى أبرمه الإنسان دون النظر إلى من عقد معهم العهد، طالما هم يستقيمون على العهد، قال تعالى: (ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ) [التوبة:٧].
والوفاء بالعهد يعتبر من مبادئ الإسلام الأخلاقية في التعامل، فهو أولًا تعامل مع الخالق عز وجل وطلب لمرضاته، واجتناب سخطه، وأوضح صاحب الظلال ذلك فقال: «إن الباعث الأخلاقي ليس هو المصلحة، وليس هو عرف الجماعة، ولا مقتضيات ظروفها القائمة، وإنما ينبغي أن نستمد القيم والمقاييس من الله بمعرفة ما يرضيه عن الأخلاق والتطلع إلى رضاه والشعور بتقواه»56.
ونستطيع القول مما سبق، أن الإسلام حريصٌ على بناء الشخصية الإسلامية العادلة السوية التي تلتزم وتنفذ ما تعقده من معاهدات ومواثيق التزامًا كاملًا مهما كانت الصعاب؛ لأن المسلمين عند شروطهم وعهودهم التي يقطعونها على أنفسهم.
قال تعالى: (ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ) [المائدة:١].
لقد كان الصدق ضرورة من ضرورات المجتمع الإسلامي، وفضيلة من فضائل السلوك البشري ذات النفع العظيم للمجتمعات الإنسانية وسبب بناء حضارتها، وأمر الإسلام بالصدق.
قال تعالى: (ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ) [التوبة:١١٩].
وقال تعالى: (ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ) [محمد:٢١].
والصدق يشمل الصدق مع الله بإخلاص العبادة لله، والصدق مع النفس بإقامتها على شرع الله، والصدق مع الناس في الكلام والوعود والمعاملات في البيع والشراء والشهادة والنكاح فلا تدليس ولا غش ولا تزوير، ولا إخفاء للمعلومات، وهكذا حتى يكون ظاهر الإنسان كباطنه وفي سره علانيته، فحينئذ تظهر آثار الصدق على الصادقين، فظهر في الرعيل الأول العجائب من صدقهم، فأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا أصدق الناس إيمانًا وأصدقهم يقينًا، وظهر الصدق عليهم في جميع أحوالهم، فهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه لقب الصديق؛ لأنه كان أسرع الناس في تصديق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسبقهم في تأييده، فكان أفضل الصحابة رضي الله عنه.
ولما نزل قوله تعالى: (ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ) [الزمر:٣٣].
جاء في تفسيرها أنها إخبار عن الفائزين من عباد الله، وهم الصادقون في كل ما يخبرون به، والمصدقون بما أوجب الله تعالى التصديق به، ويدخل في هذا الفريق دخولًا أوليًا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر الصديق ثم سائر الصحابة والمؤمنين إلى يوم الدين57.
ويتضح لكل ذي عقل وبصيرة، أن للصدق فوائد جليلة وثمرات عظيمة وعديدة يجنيها الصادق بصدقه، ويسعد بهذا الخلق العظيم في الدنيا والآخرة، جعلتها في النقاط الآتية:
أولًا: آثار الصدق الدنيوية:
١. الصدق دليل على الإيمان والتقوى.
إن الاتصاف بفضيلة الصدق يعد صفة من صفات المؤمنين المتقين، فقد أخبر الله تعالى عن أهل البر وأثنى عليهم بأحسن أعمالهم من الإيمان والإسلام والصدقة والصبر ثم وصفهم بأنهم أهل الصدق، كما جاء في قوله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿﮀ ﮁ ﮂ ﮃﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ) [البقرة: ١٧٧].
جاء في تفسيرها ليس فعل الخير وعمل الصالح محصورًا في أن يتوجه الإنسان في صلاته جهة المشرق أو المغرب، ولكن البر الصحيح هو الإيمان بالله واليوم الآخر، وأخذ النص القرآني يعدد صفاتهم التي تتبع الإيمان، إعطاء المال على محبته للمحتاجين وتفقد اليتامى ومساعدة ابن السبيل المسافر المنقطع عن ماله وأهله، وإعطاء السائل وتخليص الأسرى والأرقاء بالفداء، والمحافظة على إقامة الصلاة وإخراج الزكاة لمستحقيها، ويوفون بالعهود ولا يخلفون الوعود، ووصفهم بأنهم صابرون أمام الشدائد وحين القتال في سبيل الله وذيل النص القرآني (ﮁ ﮂ ﮃﮄ ﮅ ﮆ ﮇ)، أي أهل هذه الأوصاف هم الذين صدقوا في إيمانهم وأولئك هم الكاملون في التقوى، وفي الآية ثناء على الأبرار وإيحاء إلى ما يلاقونه من اطمئنان وخيرات حسان في الدنيا والآخرة58 .
٢. الصدق دليل على البراءة من النفاق.
لقد قسم الله تعالى الناس إلى صادق ومنافق، فقال تعالى: (ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ) [الأحزاب:٢٤].
فالإيمان أساسه الصدق، والنفاق أساسه الكذب، فلا يجتمع كذب وإيمان إلا وأحدهما يطرد الآخر، ومن هنا كان الاستمساك بالصدق في كل شأن من شئون الحياة، وتحريه في كل قضية، وإبرازه في كل حكم بين الناس، فالصدق دعامة أساسية في خلق المسلم، وصفة ثابتة في سلوكه، وكذلك قام المجتمع الإسلامي على محاربة الظنون، ونبذ الإشاعات الكاذبة التي تحرق الأواصر الاجتماعية في المجتمع الإسلامي، وهذا الذي تسعى وتتحرك إليه حركة النفاق لأحداث الشرخ في المجتمع والفرقة بين الناس، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يبلغني أحدٌ من أصحابي عن أحدٍ شيئًا، فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر)59 .
٣. الصدق يورث الطمأنينة، والراحة النفسية.
إن المنهج القرآني يغرس فضيلة الصدق في نفوس أبناء المجتمع الإسلامي إلى جانب الفضائل التي دعا إليها، لينقل الناس إلى المستوى الرفيع في عالم القيم العليا والأخلاق الفاضلة، فيحدث الطمأنينة والراحة النفسية في نفوس الصادقين بصدقهم، وهذه النقلة الواسعة تفوق ما تصوره الفلاسفة وأصحاب المدن الفاضلة؛ لأن الذي وضع هذا المنهج الرباني هو الله سبحانه العليم الخبير بالنفس الإنسانية وشعابها المتعددة، فوضح منهجه الرباني متناسقًا مع فطرة الإنسان، لكي يتحرر من الماديات، ويسمو في عالم الروح والأخلاق والمحافظة على فضيلة الصدق التي توجد النفس السوية المطمأنة60.
قال صلى الله عليه وسلم: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك فإن الصدق طمأنينة والكذب ريبة)61.
فالصدق طمأنينة في النفس، والكذب اضطراب في النفس وريبة، والصدق دليل القوة والثقة بالنفسب، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أربع إذا كن فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا حفظ أمانة، وصدق حديث، وحسن خليقة، وعفة في طعمه)62.
٤. الصدق منجاة من الشدائد.
إن الصدق في النية والقول والعمل، يجعل العمل صالحًا، والعمل الصالح له من الثمار الدنيوية كما أن له من الأجر العظيم في الآخرة، ولنا الموعظة الحسنة في حديث الثلاثة الذين أغلق عليهم الغار أنه قال بعضهم لبعض: إنه والله يا هؤلاء لا ينجيكم إلا الصدق، فليدع كل رجل منكم بما يعلم أنه صدق فيه فتوسل أحدهم بعفته، وآخر بأمانته، وآخر ببره بوالديه ففرج الله عنهم63.
فهؤلاء الرجال الثلاثة دعوا الله بأصدق أعمالهم وأخلصها لله في أحلك الظروف عندما أغلق عليهم باب الكهف، وكادوا يشرفون على الموت، فأنجاهم الله تبارك وتعالى بصالح أعمالهم.
وكذلك ظهرت النجاة بالصدق في قصة الصديقة بنت الصديق عائشة رضي الله عنها في حادثة الإفك، عندما خاض المنافقون في عرضها، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أما بعد يا عائشة فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه) فنزلت براءتها من فوق سبع سموات، قال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ) [النور:١١].
ثم خرج صلى الله عليه وسلم إلى الناس فخطبهم وتلا عليهم ما أنزل الله تعالى من القرآن في ذلك64.
وأعجب من ذلك قصة إبراهيم الخليل عليه السلام حين صدق الله في تنفيذ الرؤيا بذبح ولده فلذة كبده، فإنه لما صدق مع الله، وشرع في تنفيذ الأمر، كان الفرج وكانت العطايا والخيرات من الله تعالى للمخلصين الصادقين، وصور القرآن الكريم هذه الحادثة.
قال تعالى: (ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨﭩ ﭪ ﭫ ﭬ) [الصافات: ١٠٤-١٠٧].
حصول البركة في البيع والشراء: إن من فوائد الصدق؛ أنه بركة في الرزق وسبب في نماء المال وكثرة الرزق -بإذن الله- حيث جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: (البيعان بالخيار، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما)65.
فالبيعان يعني البائع والمشتري، لهما الخيار، ويسمى خيار المجلس في البيع قبل أن يفترقا، فإن صدقا كل منهما صدق الآخر، فإن الله عز وجل يبارك للبائع في المال الذي أخذه، وللمشتري في السلعة التي اشتراها من ماله الحلال الطيب، ولو افترضنا أن كلًا منهما كذب على الآخر، فإنه تمحق بركة بيعهما كما أرشد إليه الحديث بمفهوم المخالفة.
وجاءت السنة النبوية توضح وتأمر بالعمل والسعي والبيع والشراء لتحصيل الأرزاق، وأن الله تعالى يبارك في التجارة إذا كانت قائمة على الصدق وفيما أحل الله سبحانه وتعالى، قال صلى الله عليه وسلم: (لأن يأخذ أحدكم حبله ثم يأتي الجبل، فيأتي بحزمةٍ من حطب على ظهره فيبيعها، فيكف الله بها وجهه خيرٌ له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه)66.
ثانيًا: الآثار الأخروية للصدق:
١. الفوز بمرتبة الصديقية التي تلي مرتبة النبوة.
قال تعالى: (ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ) [النساء:٦٩].
٢. الصدق ينجي العبد من أهوال يوم القيامة.
فقد أخبر الله تعالى أنه لا ينفع العبد وينجيه من العذاب إلا صدقه يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم في يوم القيامة.
قال تعالى: (ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ) [المائدة:١١٩].
٣. الصدق يورث منازل الأبرار والشهداء.
الصدق يورث منازل الشهداء والصالحين ويجعله بعد منزلة النبيين.
قال تعالى: (ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ) [النساء:٦٩].
وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من سأل الله تعالى الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء، وإن مات على فراشه)67 .
٤. دخول الجنة.
إن من أعظم ثمار الصدق أنه يهدي إلى البر ثم إلى الجنة، كما جاء في حديث ابن مسعود، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة، ولا يزال الرجل يصدق، ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقًا)68.
وجاء عن عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اضمنوا لي ستًا من أنفسكم أضمن لكم الجنة: اصدقوا إذا حدثتم، وأوفوا إذا وعدتم، وأدوا إذا اؤتمنتم، واحفظوا فروجكم، وغضوا أبصاركم، وكفوا أيديكم) 69.
فيجب علينا نحن معشر المسلمين التحلي بالصدق، فإن الصدق طريق إلى كل خير في الدنيا، وطريق إلى الفوز والفلاح في الآخرة، كما أنه طريق إلى تحقيق الأمن في المجتمع والمحبة داخل الأسرة المسلمة، وطريق إلى تحقيق الاستقرار والنماء الاجتماعي، والأخلاقي والاقتصادي في المجتمع المسلم، وهو طريق إلى السعادة في الدارين.
ولنحذر من آفة الكذب؛ لأن الكذب طريق إلى كل شر وبلاء، وفتنة واقتتال ومرض يضعف الأمة، كما أنه طريق إلى الشقاء والتعاسة في الدارين، ومن عهده الناس بالكذب مرة واحدة سقطت مكانته بينهم، وقلت الثقة بحديثه.
وقبل الختام نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من الصادقين، ويحشرنا في زمرة الصديقين، وأن يرزق ألسنتنا قول الصدق في كل حين.
موضوعات ذات صلة:
الإخلاص، التقوى، الزور، الكذب، الوفاء
1 انظر: لسان العرب، ٣/٤٢٠-٤٢١، تاج العروس، الزبيدي، ٥/٢٦.
2 أدب الدنيا والدين، ص٣٢٢.
3 انظر: المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، محمد فؤاد عبد الباقي، ص ٤٠٤-٤٠٦، المعجم المفهرس الشامل، عبد الله جلغوم، باب الصاد ص٦٩٣-٦٩٦.
4 انظر: الكشف عن وجوه القراءات السبع وعللها وحججها، مكي بن أبي طالب، ٢/٣١٠-٣١١.
5 انظر: مقاييس اللغة، ابن فارس ٥/١٦٨، المصباح المنير، الفيومي ٢/٥٢٨.
6 التعريفات ص٧٤.
7 انظر: مدارج السالكين، ابن القيم ٢/٢٤.
8 أخرجه أحمد في مسنده، ١٤/٥١٢، رقم ٨٩٥٢.
وصححه الألباني في صحيح الجامع، ١/٤٦٤، رقم ٢٣٤٩.
9 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأدب، باب قول الله تعالى: (يا أيها الذين أمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين)، ٨/٢٥، رقم ٦٠٩٤.
10 جامع البيان، الطبري، ٥/٢٢٦-٢٢٧.
11 انظر: تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، ٤/٢٣٠.
12 المصدر السابق ٤/٢٣٤.
13 فتح القدير، الشوكاني، ١/١٧٢.
14 معالم التنزيل، البغوي، ٢/١٢٣.
15 انظر: محاسن التأويل، القاسمي، ١٢/٢٥٨.
16 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب البر والصلة والآداب، باب استحباب مجالسة الصالحين ومجانبة قرناء السوء، ٤/٢٠٢٦، رقم ٢٦٢٨.
17 صحيح البخاري، كتاب الدعوات باب فضل ذكر الله سبحانه وتعالى، ٨/٨٦، رقم ٦٤٠٨.
18 انظر: تفسير تيسير الكريم الرحمن، السعدي، ص٦٦٤.
19 التحرير والتنوير، ابن عاشور، ٢٤/٨٦.
20 أخرجه أحمد في مسنده، ٣٧/٤١٧.
وصححه الألباني في صحيح الجامع، ١/٢٣٤، رقم ١٠١٨.
21 أخرجه الترمذي، كتاب صفة القيامة، الباب باب، ٤/٦٦٨.
وصححه الألباني في صحيح الجامع، ١/٦٣٧، رقم ٣٣٧٨.
22 انظر: السيرة النبوية، ابن هشام، ١/٦١٥، السيرة النبوية، ابن كثير، ٢/٣٩٦.
23 أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الأدب، باب في المزاح، رقم ٤٩٩٨، ٧/٣٤٨.
وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد، رقم ٢٦٨.
24 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، ٨/١٨٣.
25 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، ٢/٥٢٢.
26 انظر: تهذيب سيرة ابن هشام، ص١٠٢، فقه السيرة، البوطي، ص١٤٧.
27 أخرجه الترمذي في سننه، أبواب التجارات، باب التوقي في التجارة، ٣/٥١٧، رقم ١٢١٠.
قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
28 انظر: إحياء علوم الدين، ٤/٣٨٧.
29 انظر: جامع البيان، الطبري، ١٩/٣٦٤، الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، ٧/١٠٥، التفسير الواضح، ١٩/٥٠.
30 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المغازي، باب مرض النبي ووفاته، ٦/١٠، رقم ٤٤٣٧.
31 أخرجه أحمد في مسنده، ٢٤/٢٤٧، رقم ١٥٤٩٢.
وصححه الألباني في صحيحه الأدب المفرد، ١/٢٤٣، رقم ٦٩٩.
32 انظر: معالم التنزيل، البغوي، ٤/٣١٨.
33 التحرير والتنوير، ابن عاشور، ١٩/١٥٦.
34 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإمارة، باب استحباب طلب الشهادة، ٣/١٥١٧، رقم ١٩٠٩.
35 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب البيوع باب ما يمحق الكذب، ٣/٥٩، رقم ٢٠٨٢.
36 أخرجه أحمد في مسنده، ٣٧/٤١٧.
وصححه الألباني في صحيح الجامع، ١/٢٣٤، رقم ١٠١٨.
37 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأدب، باب قول الله تعالى: (يا أيها الذين أمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين)، ٨/٢٥، رقم ٦٠٩٤.
38 انظر: تيسير الكريم الرحمن، السعدي، ص٦٦٤.
39 مدارج السالكين، ٢/٢٤.
40 روح المعاني، الألوسي، ٤/٤٣.
41 المنار، محمد رشيد رضا، ١١/٥٨.
42 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإمارة، باب إنما الأعمال بالنيات، ٣/١٥١٥، رقم ١٥٥.
43 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإمارة، باب من قاتل للرياء، ٣/١٥١٣، رقم ١٩٠٥.
44 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأحكام، باب ما يكره من ثناء السلطان وإذا خرج قال غير ذلك، ٩/٧١، رقم ٧١٧٩.
45 انظر: فتح الباري، ابن حجر، ١٠/٤٧٥.
46 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الشهادات، باب ما قيل في شهادة الزور، ٣/١٧٢، رقم ٢٦٥٤.
47 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الإيمان، باب علامة المنافق، ١/١٦، رقم ٣٣.
48 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجنائز، باب ما يكره من النياحة، ٢/٨٠، رقم ١٢٩١.
49 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الصلح، باب ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس، ٣/١٨٣، رقم ٢٦٩٢.
50 أخرجه الترمذي في سننه، أبواب البر والصلة، باب ما جاء في إصلاح ذات البين، ٤/٣٣١، رقم ١٩٣٩.
وحسنه الألباني في صحيح الجامع، ٢/١٢٨٦، رقم ٧٧٢٣.
51 المعجم الأوسط، ١/٢٧٥، رقم ٨٩٧.
52 خلق المسلم، محمد الغزالي، ص٤٥.
53 انظر: من توجيهات الإسلام، ص١٩١.
54 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب قول البي من غشنا فلس منا، ١/ ٩٩، رقم ١٠٢.
55 انظر: تفسير محاسن التأويل، ٣/٤٦٥.
56 في ظلال القرآن، ١/٤١٨.
57 انظر: أيسر التفاسير، أبو بكر الجزائري، ٤/٤٨٧.
58 انظر: صفوة التفاسير، الصابوني، ١/١١٧، ١١٨.
59 أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الأدب، باب في رفع الحديث من المجلس، ٤/٢٦٥، رقم ٤٨٦٠.
وضعفه الألباني في ضعيف الجامع، رقم ٦٣٢٢.
60 انظر: منهج القرآن في تربية المجتمع، ص٢٢٩.
61 سبق تخرجه.
62 أخرجه أحمد في مسنده، ١١/٢٣٣، رقم ٦٦٥٢.
وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، ٢/٣٦١، رقم ٧٣٣.
63 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب أحاديث الأنبياء، باب حديث الغار، ٤/١٧٤، رقم ٣٤٦٥.
64 انظر: فقه السيرة، البوطي، ص٢٨٠- ٢٨١.
65 سبق تخريجه.
66 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المساقاة، باب بيع الحطب والكلأ، ٣/١١٣، رقم٢٣٧٣.
67 أخرج مسلم في صحيحه، كتاب الإمارة، باب استحباب طلب الشهادة، ٣/١٥١٧، رقم ١٩٠٩.
68 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأدب، باب قول الله تعالى: (يا أيها الذين أمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين)، ٨/٢٥، رقم ٦٠٩٤.
69 سبق تخريجه.
لا يمكنك إضافة تعليق فارغ.