عناصر الموضوع

مفهوم الأمثال

الأمثال في الاستعمال القرآني

الألفاظ ذات الصلة

أنواع الأمثال

ميادين ضرب الأمثال

مقاصد ضرب المثل

آثار ضرب الأمثال

الأمثال

مفهوم الأمثال

أولًا: المعنى اللغوي:

(مثل): الميم والثاء واللام: أصلٌ صحيحٌ يدل على مناظرة الشيء للشيء، وهذا مثل هذا: أي نظيره وشبيهه، والمثل: الشيء الذي يضرب لشيء مثلًا، فيجعل مثله، ويطلق على الصفة والعبرة والآية والأنموذج الذي يحتذى به1.

ثانيًا: المعنى الاصطلاحي:

عرف الراغب الأصفهاني المثل بقوله: «والمثل عبارة عن قول في شيء يشبه قولًا في شيء آخر بينهما مشابهة؛ ليبين أحدهما الآخر ويصوره»2.

ونلاحظ مما سبق أن هناك ارتباطًا بين المعنى اللغوي والاصطلاحي في كون المثل يضرب في المشابهة في القول، ولكنه يتضمن معانٍ أخرى كالصفة والعبرة والآية.

الأمثال في الاستعمال القرآني

وردت مادة (مثل) في القرآن (١٦٧) مرة3.

والصيغ التي وردت هي:

الصيغة

عدد المرات

المثال

الفعل الماضي

١

( ﭿ ) [مريم:١٧]

اسم التفضيل

٢

( ) [طه:١٠٤]

صفة مشبهة

٧٥

( ) [البقرة:٢٧٥]

اسم بمعنى الصفة

٨٨

( ) [آل عمران:٥٩]

اسم على وزن فعلات

١

( ) [الرعد:٦]

وجاءت الأمثال في القرآن على أربعة أوجه4:

أحدها: السنن، ومنه قوله تعالى: ( ) [البقرة:٢١٤]. يعني سنن الذين خلوا من قبلكم.

الثاني: العبرة، ومنه قوله تعالى: ( ) [الزخرف:٥٦]. يعني: عبرة لمن بعدهم.

الثالث: الصفة والشبه، ومنه قوله تعالى: ( ) [الفتح:٢٩]. يعني: صفتهم.

الرابع: العقوبة، ومنه قوله تعالى: ( ) [الرعد:٦]. يعني: العقوبات.

الألفاظ ذات الصلة

المثل:

المِثْل لغة:

فالمَثَل والمِثْل يدلان على معنى واحد، وهو كون شيء نظيرًا للشيء، وفي القاموس: «المثل -بالكسر والتحريك- الشبه»5.

المثل اصطلاحًا:

عرفه الإمام السيوطي بقوله: «المساوي من كل وجه»6.

الصلة بين المَثَل المِثْل:

المثل في دلالته اللغوية الأصلية يعني (المشابهة) بين شيء وشيء، ولكن لفظ (المثل) أوسع من لفظ (التشبيه) يقول الراغب الأصبهاني: «المثل عبارة عن المشابهة لغيره في معنى من المعاني، أي معنىً كان، وهو أعم الألفاظ الموضوعة للمشابهة»7، يعني أنه أعم من (المثل).

الشبيه:

الشبيه لغة:

قال ابن منظور: «الشبه والشبه والشبيه: المثل، والجمع أشباه، وأشبه الشيء الشيء: ماثله»8.

الشبيه اصطلاحًا:

قال محمد الغزي الشافعي: «هو عبارة عن محاولة الإنسان أن يكون شبه المتشبه به، وعلى هيئته وحليته ونعته وصفته»9.

الصلة بين المثل والشبيه:

المثل أعم من الشبيه؛ لأن المثل ما تكافأ في الذات، أما الشبيه لا يستعمل إلا في المتجانسين، فالشبيه يأخذ بعض صفات الذات، أما المثل فيأخذ كل الصفات10.

النظير:

النظير لغة:

المماثل والشبيه، يقال: فلان نظير فلان إذا كان مثله، وشبيهه (نظير) الشيء مثله11.

النظير اصطلاحًا:

ما قابل نظيره في جنس أفعاله وهو متمكن منها 12.

الصلة بين المثل والنظير:

المثل ما تكافأ في الذات على ما ذكرنا، والنظير ما قابل نظيره في جنس أفعاله وهو متمكن منها؛ كالنحوي نظير النحوي وإن لم يكن له مثل كلامه في النحو أو كتبه فيه، ولا يقال: النحوي مثل النحوي؛ لأن التماثل يكون حقيقة في أخص الأوصاف، وهو الذات 13.

أنواع الأمثال

يعتمد المثل القرآني في بنيته الأسلوبية على لفظ (المثل) مفردًا أو مجموعًا، وهذا هو الشائع في صياغته.

وقد يقدر تقديرًا، ويدل عليه حرف العطف، كقوله تعالى: ( ) [البقرة: ١٩].

وقد يفهم من السياق، كقوله تعالى: ( ﭖﭗ ) [الأعراف: ٥٨].

وقد توسع الزركشي في تقسيماته للمثل القرآني، فعد كل تشبيه في القرآن كقوله: ( ) [الواقعة: ٢٣]، من قبيل الأمثال، فعنده (الأمثال الصريحة) المعتمدة على لفظ (المثل)، و(الأمثال الكامنة) التي تفهم من السياق من غير تصريح بلفظ (المثل).

والأمثال الواردة في القران الكريم على أنواع، هي: الأمثال الحسية، والأمثال المعنوية، والأمثال الافتراضية العقلية.

وتفصيلها فيما يأتي:

أولًا: الأمثال الحسية:

ضرب الله تعالى في القرآن الكريم الكثير من الأمثال الحسية التي تقرب المراد للعقل وتصوره بصورة المحسوس، يقول البيضاوي: «فإن التمثيل إنما يصار إليه لكشف المعنى الممثل له ورفع الحجاب عنه، وإبرازه في صورة المشاهد المحسوس؛ ليساعد فيه الوهم العقل ويصالحه عليه، فإن المعنى الصرف إنما يدركه العقل مع منازعة من الوهم؛ لأن من طبعه الميل إلى الحس وحب المحاكاة»14.

وقال أبو السعود: «فإن التمثيل ليس إلا إبراز المعنى المقصود في معرض الأمر المشهور، وتحلية المعقول بحلية المحسوس، وتصوير أوابد المعاني بهيئة المأنوس؛ لاستمالة الوهم، واستنزاله عن معارضته للعقل، واستعصائه عليه في إدراك الحقائق الخفية، وفهم الدقائق الأبية؛ كي يتابعه فيما يقتضيه، ويشايعه إلى ما لا يرتضيه؛ ولذلك شاعت الأمثال في الكتب الإلهية، والكلمات النبوية، وذاعت في عبارات البلغاء، وإشارات الحكماء ...، فالتمثيل ألطف ذريعة إلى تسخير الوهم للعقل، واستنزاله من مقام الاستعصاء عليه، وأقوى وسيلة إلى تفهيم الجاهل الغبي، وقمع سورة الجامح الأبي، كيف لا وهو رفع الحجاب عن وجوه المعقولات الخفية، وإبرازه لها في معرض المحسوسات الجلية، وإبداء للمنكر في صورة المعروف، وإظهار للوحشي في هيئة المألوف»15.

والمقصود أن في القرآن الكريم آيات كثيرة جاء التمثيل فيها بالأشياء الحسية؛ لإبراز المعاني المعقولة الخفية، وجعلها كالمشاهد المحسوس، ومن ذلك:

ما ضربه الله مثلًا لحال المنفق رياء، حيث لا يحصل من إنفاقه على شيء من الثواب، قال تعالى: ( ﯼﯽ ﯿ ﰃﰄ ) [البقرة: ٢٦٤].

ففي هذا الآية ضرب الله مثلًا للمنفق رياءً بالصفوان، وهو شيء حسي، فالصفوان: اسم جنس جمعي، واحده: صفوانة، وهو الحجر الكبير الأملس ...، و(الوابل): المطر الشديد، و(الصلد): هو الشيء الأجرد النقي من التراب الذي كان عليه.

والمعنى: يا أيها المؤمنون لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى فيكون مثلكم كمثل المنافق الذي ينفق ماله من أجل الرياء، لا من أجل رضا الله، وإن مثل هذا المنافق في انكشاف أمره، وعدم انتفاعه بما ينفقه رياء وحبًا للظهور مثل حجر أملس لا ينبت شيئًا، ولكن عليه قليل من التراب الموهم للناظر إليه أنه منتج، فنزل المطر الشديد، فأزال ما عليه من تراب، فانكشفت حقيقته، وتبين للناظر إليه أنه حجر أملس صلد، لا يصلح لإنبات أي شيء عليه16.

ومن ذلك: ما ضربه الله مثلًا لحال الدنيا بالماء الذي ينزل من السماء -وهو شيء حسي-، فيختلط به نبات الأرض، فيصبح هشيمًا تذروه الرياح، فقال: (ﯿ ﰏﰐ ) [الكهف: ٤٥].

يصور الله تعالى زوال الدنيا ونعيمها، وعدم خلودها كي لا يغتر بها المغترون والمتمسكون بها، بالماء الذي ينزل من السماء فيختلط بنبات الأرض فتنسفه الرياح وتطيره، وهذا مثل على أن الدنيا زائلة، مثلما يزول النبات والمطر وغيرهما من مخلوقات الله في الأرض، مما لا يدع مجالًا للاغترار بشيء يزول بعد حين.

ويشبه هذا المثل قوله تعالى في مثل آخر: (ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ) [الحديد: ٢٠].

ما ضربه الله مثلًا لحال المؤمنين وتشبههم بالزرع -وهو شيء حسي- الذي يعجب الزراع؛ ليغيظ بهم الكفار، فقال: ( ﭿ ) [الفتح: ٢٩].

فهذا المثل المضروب لهم، يهدف إلى الثناء عليهم ومدحهم، فكان التركيز فيه على صفاتهم الحسية والمعنوية، من صفات العبادة، والسجود البارزة في قسمات الوجه والنواصي، وصفات الخير المجسدة في سلوكهم وأفعالهم، ثم جاء مثلهم في الإنجيل معتمدًا على تشبيههم بالزرع النامي الملتف؛ لإبراز التفافهم حول الرسول صلى الله عليه وسلم، ومؤازرتهم له حتى قوي الإسلام، واشتد عوده، وتكاثرت الأمة، ونمت في كيانٍ موحد، كالزرع الذي أخرج شطأه فنمت أعواده الصغيرة على جانبيه، فتكاثرت وتآزرت حتى قوي الزرع، واستوى قائمًا شديدًا، وصورة هذا الزرع في مراحل نموه تشبه صورة المؤمنين، ومراحل نموهم من الضعف إلى القوة، ومن القلة إلى الكثرة حتى قوي وجوده واشتد متحديًا العواصف والرياح، وهذا الوجود يعجب الزراع الذين أسهموا في نموه وحراسته، ويغيظ الكفار الذين لا يريدون للإسلام هذا الوجود القوي17.

وبعد بناء صورة هذا المثل، واستعراض عناصره، واستحضار صورة الممثل له في الذهن، جاء التعقيب بقوله: (ﭿ ) [الفتح: ٢٩].

فكأن هذا التعقيب بيانٌ للغرض من التمثيل، وهذه هي الطريقة الأسلوبية المتبعة في الأمثال القرآنية، فبعد تصوير المثل بشكل تفصيلي، يعود التعبير من جديد إلى الممثل له ويتابع الكلام عنه.

ما ضربه الله من مثل حسي لحال اليهود الذين كلفوا العمل بالتوراة ثم لم يعملوا بها، كشبه الحمار الذي يحمل كتبًا لا يدري ما فيها، فقال: ( ﮔﮕ ﮜﮝ ) [الجمعة: ٥].

فضرب الله لهؤلاء مثلًا بحال حمار يحمل أسفارًا لا حظ له منها إلا الحمل دون علم ولا فهم؛ ذلك أن علماء اليهود أدخلوا في التوراة ما صيرها مخلوطًا بأخطاء وضلالات، ومتبعًا فيه هوى نفوسهم، وما لا يعدو نفعهم الدنيوي، ولم يتخلقوا بما تحتوي عليه من الهدى والدعاء إلى تزكية النفس، وقد كتموا ما في كتبهم من العهد باتباع النبي الذي يأتي لتخليصهم من ربقة الضلال، فهذا وجه ارتباط هذه الآية بالآيات التي قبلها، وبذلك كانت هي كالتتمة لما قبلها. قال في الكشاف عن بعضهم: «افتخر اليهود بأنهم أهل كتاب، والعرب لا كتاب لهم، فأبطل الله ذلك بشبههم بالحمار يحمل أسفارًا18.

«وهذا التمثيل مقصود منه تشنيع حالهم، وهو من تشبيه المعقول بالمحسوس المتعارف؛ ولذلك ذيل بذم حالهم: ( ) [الجمعة: ٥].

و(بئس) فعل ذم، أي: ساء حال الذين كذبوا بكتاب الله، فهم قد ضموا إلى جهلهم بمعاني التوراة تكذيبًا بآيات الله، وهي القرآن»19.

ثانيًا: الأمثال المعنوية:

الأمثال المعنوية هي الأمثال التي تتعلق بالأمور المعنوية، أو الغيبية، ومن أمثلتها:

قوله تعالى: ( ﭘﭙ ﭥﭦ ) [الأنعام: ١٢٥].

يمثل الله ضيق الصدر -وهو أمر معنوي- الذي يصيب الكفار حينما يدعون إلى الإسلام بضيق الصدر الذي يحصل للمتسلق إلى الأعلى في الجبال؛ إذ تتناقص كمية الأكسجين اللازمة والكافية للتنفس، فضيق صدر المتسلق يكاد يخنقه، كذلك الكافر الذي تحجزه أهواؤه وبدعه وكفره عن انشراح صدره.

ومن الأمثال المعنوية قوله تعالى: ( ﮨﮩ ) [الأنعام: ١٢٢].

فالمثل في هذه الآية معنوي، وفيه تمثيل حال من أسلم وتخلص من الشرك بحال من كان ميتًا فأحيي، وتمثيل حال من هو باقٍ في الشرك بحال ميت باقٍ في قبره، ولقد جاء التشبيه بديعًا؛ إذ جعل حال المسلم بعد أن صار إلى الإسلام بحال من كان عديم الخير عديم الإفادة كالميت، فإن الشرك يحول دون التمييز بين الحق والباطل، ويصرف صاحبه عن السعي إلى ما فيه خيره ونجاته، وهو في ظلمة لو أفاق لم يعرف أين ينصرف؟ فإذا هداه الله إلى الإسلام تغير حاله، فصار يميز بين الحق والباطل، ويعلم الصالح من الفاسد، فصار كالحي، وصار يسعى إلى ما فيه الصلاح، ويتنكب عن سبيل الفساد، فصار في نور يمشي به في الناس، وقد تبين بهذا التمثيل تفضيل أهل استقامة العقول على أضدادهم20.

ومن الأمثال المعنوية أيضًا: قوله تعالى: ( ) [الحج: ٣١].

فالشرك بالله أمر معنوي، والمشرك عندما يقترف شركه يسقط من المرتبة العالية التي وضعها الله للمؤمنين، فيعيش هذا المشرك في اضطراب وقلق وعدم طمأنينة، فيمثل الله لهذه الحالة بمن يخر من السماء فتخطفه الطير، وهو تصوير لحالة التمزق النفسي الذي يعتري المشرك، الذي هو أشبه بحال من يقع من السماء، فتخطفه الطير، أو تهوي الريح به في مكان سحيق، وهي كناية عن أن المؤمن يرفعه إيمانه إلى المكانة العالية في الجنة، بدل قعر جهنم السحيق المعد للكافرين.

والمقصود أن القرآن قد يستخدم بعض العناصر غير الحسية التي لا توجد في بيئة الإنسان المخاطب أو الممثلات المعنوية المعروفة لدى الناس، لكنها لا تدرك بالحواس الخمس، وإنما بالشعور والوجدان، وهي في القرآن قليلة جدًا، ومنها ضرب المثل بالشيطان أو بصفاته، وقد تقرر في عقل كل إنسان بشاعة الشيطان ومظهره وصفاته؛ لذا فضرب المثل به، وإن كان لا يدرك بالحواس إلا أنه مما يمكن تخيل بشاعته، وهذا هو المراد، كما قال الله تعالى: ( ﯿ) [الحشر: ١٦].

وكقوله تعالى: ( ) [الصافات: ٦٤ - ٦٥].

وكقوله تعالى: ( ) [النساء: ٧٧].

ثالثًا: الأمثال الافتراضية:

ضرب الله العديد من الأمثلة الافتراضية -التقديرية- التي لم تقع، وإنما هي أمثلة افتراضية؛ لقصد التوضيح والتقريب، والغرض منها تقريب المراد للعقل، وتصويره بصورة المحسوس؛ ليحصل بها التذكر والاتعاظ.

ومن هذه الأمثال الافتراضية:

  1. ما ضربه الله مثلًا للمشرك والموحد.

    قال تعالى: ( ﯷﯸ ﯺﯻ ﯿ) [الزمر: ٢٩].

    حيث ضرب الله هذا المثل الافتراضي؛ لبيان حال من يشرك بالله ومن يوحده، فشبه المشرك بمملوك بين جماعة من الشركاء، يتنازعون فيه، والمملوك بينهم في أسوأ حال، وشبه من يوحد الله بمملوك لرجل واحد21.

    و(الشكس): السيئ الخلق، يقال: شركاء متشاكسون، أي: متشاجرون لشكاسة خلقهم، و(سلمًا) أي: خالصًا لا يملكه إلا شخص واحد ولا يخدم إلا إياه، وهذه الآية تمثل حالة الكافر والمؤمن، فهناك مشبه ومشبه به، أما المشبه به فهو عبارة عن عبد مملوك له شركاء سيئو الخلق، متنازعون فيه، فواحد يأمره، وآخر ينهاه، وكل يريد أن يتفرد بخدمته، في مقابل عبد مملوك لرجل يطيعه ويخدمه، ولا يشرك في خدمته شخصًا آخر، فهذان المملوكان لا يستويان.

    وأما المشبه فحال الكافر هو حال المملوك الذي فيه شركاء متشاكسون، فهو يعبد آلهة مختلفة لكلٍ أمره ونهيه وخدمته، ولا يمكن الجمع بين الآراء والأهواء المختلفة بخلاف المؤمن، فإنه يأتمر بأمر الخالق الحكيم القادر الكريم.

    وهذا المثل وإن كان مثلًا واضحًا مفهومًا لعامة الناس، ولكن له معنى لا يقف عليه إلا أهل التدبر في القرآن، فهو سبحانه بصدد البرهنة على توحيده الذي أشار إليه في قوله: ( ﯥﯦ ) [الأنبياء: ٢٢].

    وقال سبحانه: ( ) [يوسف: ٣٩].

    والمراد من المثل: تصوير استراحة الموحد وانجماعه على معبوده، وتعب المشرك وتشتيت باله، وخصوصًا مع فرض التعاكس من الشركاء، فيصير متحيرًا، وفي عنتٍ كبير من الجمع بين أغراضهم، بل ربما يتعذر ذلك ويستحيل للتضاد في الأغراض والتناقض، مع فرض التخالف والتنازع بينهم، واعتبر ذلك بحال الوالدين، إذا اختلفا على الولد فإنه يعسر إرضاؤهما إلا بمشقة واحتيال، وكذلك عابد الأوثان فإنه معذب الفكر بها، وبحراسة حاله منها، ومتى توهم أنه أرضى واحدًا في زعمه تفكر فيما يصنع مع الآخر، فهو أبدًا في تعب وضلال، وكذلك هو المصانع للناس، الممتحن بخدمة الملوك22.

    وجعل الممثل به حالة رجل ليس للاحتراز عن امرأة أو طفل، ولكن لأن الرجل هو الذي يسبق إلى أذهان الناس في المخاطبات والحكايات؛ ولأن ما يراد من الرجال من الأعمال أكثر مما يراد من المرأة والصبي؛ ولأن الرجل أشد شعورًا بما هو فيه من الدعة أو الكد، وأما المرأة والصبي فقد يغفلان ويلهيان23.

    ويتضح من هذا حال المشرك في تقسم عقله بين آلهة كثيرين، فهو في حيرة وشك من رضا بعضهم عنه، وغضب بعض، وفي تردد عبادته إن أرضى بها أحد آلهته لعله يغضب بها ضده، فرغباتهم مختلفة، وبعض القبائل أولى ببعض الأصنام من بعض، ويقابله تمثيل حال المسلم الموحد يقوم بما كلفه ربه، عارفًا بمرضاته، مؤملًا رضاه وجزاءه، مستقر البال بحال العبد المملوك الخالص لمالك واحد، قد عرف مراد مولاه، وعلم ما أوجبه عليه، ففهمه واحد، وقلبه مجتمع، وكذلك الحال في كل متبع حق ومتبع باطل، فإن الحق هو الموافق لما في الوجود والواقع والباطل، مخالف لما في الواقع فمتبع الحق لا يعترضه ما يشوش عليه باله، ولا ما يثقل عليه أعماله، ومتبع الباطل يتعثر به في مزالق الخطى، ويتخبط في أعماله بين تناقص وخطأ24.

    وهذا يعد من أبلغ الأمثال، فإن الخالص لمالك واحد يستحق من معونته وإحسانه والتفاته إليه، وقيامه بمصالحه، ما يستحق صاحب الشركاء المتشاكسين25.

  2. ما ضربه الله مثلًا له سبحانه ولمن يعبد من دونه.

    قال تعالى: ( ﭿ ﮀﮁ ﮃﮄ ﮆﮇ ) [النحل: ٧٥].

    ففي هذه الآية ضرب الله تعالى مثلين افتراضيين له ولمن يعبد من دونه، أحدهما عبد مملوك، أي: رقيق لا يملك نفسه ولا يملك من المال والدنيا شيئًا، والثاني: حرٌ غنيٌ، قد رزقه الله منه رزقًا حسنًا، من جميع أصناف المال، وهو كريم، محب للإحسان، فهو ينفق منه سرًا وجهرًا، هل يستوي هذا وذاك؟! لا يستويان مع أنهما مخلوقان غير محال استواؤهما، فإذا كانا لا يستويان فكيف يستوي المخلوق العبد الذي ليس له ملك ولا قدرة ولا استطاعة، بل هو فقير من جميع الوجوه بالرب الخالق المالك لجميع الممالك القادر على كل شيء؟! 26.

    فيكون المثل في الآية: مضروبًا لله سبحانه وللأوثان، فالله سبحانه هو المالك لكل شيء، ينفق كيف يشاء على عبيده سرًا وجهرًا، وليلًا ونهارًا، يمينه ملأى لا يغيضها نفقة، سحاء الليل والنهار، والأوثان مملوكة عاجزة، لا تقدر على شيء، فكيف يجعلونها شركاء لي، ويعبدونها من دوني، مع هذا التفاوت العظيم، والفرق المبين.

    وقيل: هو مثل ضربه الله للمؤمن والكافر، ومثل المؤمن في الخير الذي عنده، ثم رزقه منه رزقًا حسنًا، فهو ينفق منه على نفسه، وعلى غيره سرًا وجهرًا، والكافر بمنزلة عبد مملوك عاجز لا يقدر على شيء؛ لأنه لا خير عنده، فهل يستوي الرجلان عند أحد من العقلاء؟!

    والقول الأول أشبه بالمراد، فإنه أظهر في بطلان الشرك، وأوضح عند المخاطب، وأعظم في إقامة الحجة، وأقرب نسبًا بقوله: ( ﭤﭥ ) [النحل: ٧٣ - ٧٤].

    ثم قال: ( ) [النحل: ٧٥].

    ومن لوازم هذا المثل وأحكامه أن يكون المؤمن الموحد كمن رزقه منه رزقًا حسنًا، والكافر المشرك كالعبد المملوك الذي لا يقدر على شيء، فهذا ما نبه عليه المثل، وأرشد إليه، فذكره ابن عباس منبهًا على إرادته، لا أن الآية اختصت به فتأمله، فإنك تجده كثيرًا في كلام ابن عباس وغيره من السلف في فهم القرآن، فيظن الظان أن ذلك هو معنى الآية التي لا معنى لها غيره، فيحكيه قولًا27.

    ووصف () هنا بقوله: () تأكيد للمعنى المقصود، وإشعارًا لما في لفظ عبد من معنى المملوكية المقتضية أنه لا يتصرف في عمله تصرف الحرية، وجملة: ( ) صفة () أي: عاجزًا عن كل ما يقدر عليه الناس، كأن يكون أعمى وزمنًا وأصم، بحيث يكون أقل العبيد فائدة28.

    والثاني وصف بالرزق الحسن، فهو ينفق منه سرًا وجهرًا، أي: كيف شاء، وهذا من تصرفات الأحرار؛ لأن العبيد لا يملكون رزقًا في عرف العرب.

    (ﭿ ﮀﮁ) حالان من ضمير ()، وهما مصدران مؤولان بالصفة، أي: مسرًا وجاهرًا بإنفاقه، والمقصود من ذكرهما تعميم الإنفاق كناية عن استقلال التصرف، وعدم الوقاية من مانع إياه عن الإنفاق، وهذا مثل لغنى الله تعالى وجوده على الناس، وجملة ( ) بيان لجملة ( ) فبين غرض التشبيه بأن المثل مراد منه عدم تساوي الحالتين؛ ليستدل به على عدم مساواة أصحاب الحالة الأولى لصاحب الصفة المشبهة بالحالة الثانية، والاستفهام مستعمل في الإنكار، والمقصود من هذه الجملة أنه تبين من المثل اختصاص الله بالإنعام، فوجب أن يختص بالشكر، وأن أصنامهم لا تستحق أن تشكر29.

    ثم ضرب مثلًا آخر لنفسه الكريمة والأصنام، فقال تعالى: ( ﮟﮠ ﮦﮧ ) [النحل: ٧٦].

    وهذا مثال افتراضي ضربه الله تعالى لإبطال المشاركة بينه وبين الأصنام، وقيل: للكافر والمؤمن، والأصوب: كون المثلين معًا في الله مع الأصنام؛ لتكون الآية من معنى ما قبلها، وما بعدها في تبيين أمر الله، والرد على أمر الأصنام، كذا قال ابن عجيبة 30. وتقريره: أنه لما تقرر في العقول أن الأبكم العاجز لا يساوي في الفضل والشرف الناطق القادر الكامل مع استوائهما في البشرية، فلأن يحكم بأن الجماد لا يكون مساويًا لرب العالمين في المعبودية أولى31.

    فالأصنام التي لا تسمع ولا تنطق ولا تعقل هي كلٌ على عابدها، يحتاج الصنم إلى أن يحمله عابده، ويضعه ويقيمه ويخدمه، فكيف يسوونه في العادة بالله الذي يأمر بالعدل والتوحيد، وهو قادر متكلم غني، وهو على صراط مستقيم في قوله وفعله، فقوله صدق ورشد ونصح وهدًى، وفعله حكمة وعدل ورحمة ومصلحة، هذا أصح الأقوال في الآية، وهو الذي لم يذكر كثير من المفسرين غيره، ومن ذكر غيره قدمه على الأقوال، ثم حكاها بعده، كما فعل البغوي، فإنه جزم به، وجعله تفسير الآية.

    وقيل: إن المثل مضروب لمعبود الكفار، ومعبود الأبرار، والقولان متلازمان، فبعضهم ذكر هذا، وبعضهم ذكر هذا، وكلاهما مراد من الآية، وقيل: كلاهما للمؤمن والكافر32.

    وقد قرن في التمثيل هنا حال الرجلين ابتداء، ثم فصل في آخر الكلام، مع ذكر عدم التسوية بينهما بأسلوب من نظم الكلام بديع الإيجاز؛ إذ حذف من صدر التمثيل ذكر الرجل الثاني؛ للاقتصار على ذكره في استنتاج عدم التسوية تفننًا في المخالفة بين أسلوب هذا التمثيل وأسلوب سابقه الذي في قوله تعالى: ( ) [النحل: ٧٥].

    ومثل هذا التفنن من مقاصد البلغاء كراهية التكرير؛ لأن تكرير الأسلوب بمنزلة تكرير الألفاظ33.

    وبذلك نرى أن الآيتين الكريمتين قد ساقتا مثلين واضحين؛ لبيان الفرق الشاسع بين ذات الله تعالى الخلاق العليم، الرزاق الكريم، وبين تلك المعبودات الباطلة التي أشركها الضالون في العبادة مع الله عز وجل.

    والمقصود من قوله: ( ) [النحل: ٧٦] أن الرب سبحانه على صراط مستقيم، وذلك بمنزلة قوله: ( ) [آل عمران: ١٨].

    فإن الاستقامة والاعتدال متلازمان، فمن كان قوله وعمله بالقسط كان مستقيمًا، ومن كان قوله وعمله مستقيمًا كان قائمًا بالقسط34.

    ومن الأمثال القرآنية ما هو مختلف فيها هل هي حقيقية أم افتراضية؟

    ومنها: قوله تعالى: ( ) [الكهف: ٣٢].

    يقول الشيخ ابن عثيمين في تفسير قصة (صاحب الجنتين) في سورة الكهف: «إن هذا المثل الذي ضربه الله في هذه الآيات هل هو مثل حقيقي أو تقديري؟ يعني هل هذا الشيء واقع أو إنه شيء مقدر؟ والجواب: من العلماء من قال: إنه مثل تقديري، كقوله تبارك وتعالى: ( ﮟﮠ ﮦﮧ ) [النحل: ٧٦].

    وكقوله: ( ﯷﯸ ﯺﯻ ﯿ) [الزمر: ٢٩].

    وما شابه ذلك، فيكون هذا مثلًا تقديريًا وليس واقعيًا، ولكن السياق وما فيه من المحاورة والأخذ والرد يدل على أنه مثل حقيقي واقع، فهما رجلان أحدهما أنعم الله عليه، والثاني لم يكن مثله»35.

ميادين ضرب الأمثال

  1. تنوعت ميادين ضرب الأمثال في القرآن والتي منها: مجال العقيدة، ومجال الأعمال، ومجال الأخلاق، وهذا ما سنبينه فيما يأتي:

    أولًا: ميدان العقيدة:

    من المجالات المهمة التي تناولتها الأمثال القرآنية مجال العقيدة؛ فقد كانت أمور العقيدة والإيمان والغيبيات التي مثل الله لها في القرآن صعبة الإدراك على الجاهليين، بل كان كثير من المسلمين الأوائل يستصعبون إدراك تلك العقائد؛ لانغماس معظمهم -قبل إسلامهم- في عبادات مادية محسوسة، تمثلت في عبادة الأصنام والأوثان من صخور وخشب وغيرها مما يدركونه بحواسهم؛ فلذلك كانوا بحاجة إلى أمثال تبين لهم المعتقدات البعيدة عن حيز إدراكهم الحسي، كالإيمان بالله وملائكته واليوم الآخر ونعيم الجنة وعذاب النار؛ لذا كانت أغلب الأمثال القرآنية في العقائد والغيبيات، فالأمثال تلعب دورًا مهمًا في تحويل الغيبيات إلى مشاهد حاضرة أمام العيان، حتى لا يشرد الخيال بعيدًا في إدراك الحقائق كما هي، وكما يقال: بالمثال يتضح المقال، ومعلوم أن كلام الله واضح، ولكن سياق المثل يستثير في الإنسان نوعًا من التفكر وتدبر العبرة والعظة؛ لتغيير المسار الخاطئ، والاتجاه إلى الطريق الصحيح، وهذا كثير في القرآن الكريم.

    وأبرز الأمثلة على ضرب الأمثال في العقيدة: قوله تعالى: ( ﯿ ) [إبراهيم: ٢٤].

    هذا مثل ضربه الله لكلمة (الإيمان) وهي: شهادة أن لا إله إلا الله، فمثلها بالشجرة الطيبة، والشجرة الطيبة المقصود بها (المؤمن). . .، فإنه كالشجرة من النخل، لا يزال يرفع له عمل صالح في كل حين ووقت، وصباح ومساء36.

    فشبه سبحانه وتعالى الكلمة الطيبة بالشجرة الطيبة؛ لأن الكلمة الطيبة تثمر العمل الصالح، والشجرة الطيبة تثمر الثمر النافع، وهذا ظاهر على قول جمهور المفسرين الذين يقولون: الكلمة الطيبة هي: شهادة أن لا إله إلا الله، فإنها تثمر جميع الأعمال الصالحة الظاهرة والباطنة، فكل عمل صالح مرضي لله ثمرة هذه الكلمة. . .، والتشبيه على هذا القول أصح وأظهر وأحسن، فإنه سبحانه شبه شجرة التوحيد في القلب بالشجرة الطيبة الثابتة الأصل، الباسقة الفرع في السماء علوًا، التي لا تزال تؤتي ثمرتها كل حين، وإذا تأملت هذا التشبيه رأيته مطابقًا لشجرة التوحيد الثابتة الراسخة في القلب، التي فروعها من الأعمال الصالحة الصاعدة إلى السماء، ولا تزال هذه الشجرة تثمر الأعمال الصالحة كل وقت بحسب ثباتها في القلب، ومحبة القلب لها، وإخلاصه فيها، ومعرفته بحقيقتها، وقيامه بحقوقها، ومراعاتها حق رعايتها، فمن رسخت هذه الكلمة في قلبه بحقيقتها التي هي حقيقتها، واتصف قلبه بها، وانصبغ بها بصبغة الله التي لا أحسن صبغة منها، فعرف حقيقة الإلهية التي يثبتها قلبه لله، ويشهد بها لسانه، وتصدقها جوارحه، ونفى تلك الحقيقة ولوازمها عن كل ما سوى الله، وواطأ قلبه لسانه في هذا النفي والإثبات، وانقادت جوارحه لمن شهد له بالوحدانية طائعة سالكة سبل ربه ذللًا، غير ناكبة عنها، ولا باغية سواها بدلًا، كما لا يبتغي القلب سوى معبوده الحق بدلًا، فلا ريب أن هذه الكلمة من هذا القلب على هذا اللسان لا تزال تؤتي ثمرتها من العمل الصالح الصاعد إلى الله كل وقت، فهذه الكلمة الطيبة هي التي رفعت هذا العمل الصالح إلى الرب تعالى، وهذه الكلمة الطيبة تثمر كلامًا كثيرًا طيبًا يقارنه عمل صالح، فيرفع العمل الصالح إلى الكلم الطيب.

    كما قال تعالى: ( ) [فاطر: ١٠]37.

    ومثل الله الكلمة الخبيثة بالشجرة الخبيثة، فقال: ( ) [إبراهيم: ٢٦].

    فهذا مثل كفر الكافر، فإنه لا أصل له ولا ثبات، وشبه بشجرة الحنظل، ويقال لها: الشريان38.

    والكلمة الخبيثة هي الكلمة التي تنبعث من خبث النفس أو ضلال الفكر والمعتقد، فهي على نقيض الكلمة الطيبة؛ لأنها لا تنبعث من إخلاص لله ولرسوله، ولا تكون طيبة في واقعها، ولا في نتائجها، وما يترتب عليها، وأوضحها الكذب. والكلمة الخبيثة كالشجرة الخبيثة اجتثت من فوق الأرض، أي: أنها ليس لها جذور ممتدة في باطن الأرض، بل هي على السطح، كبعض أنواع النباتات، التي ليس لها جذر تغوص في أعماق الأرض.

    ولهذا قال: ( ) [إبراهيم: ٢٦] أي: استقرار وثبات في باطن الأرض.

    ومما يدخل في الكلمة الخبيثة دخولًا أوليًا كلمة الشرك والضلال، وكل ما يؤذي الناس في عقيدتهم الصحيحة، وفي شريعة العدل، وفي حياتهم الطيبة، فهي كشجرة خبيثة لا قرار لها ولا ثمار ولا ظلال ولا أغصان، سوى الشوك الذي يؤذي؛ ولذلك فهي سهلة الاجتثاث مثل الشرك والكفر والضلال، لا يثبت، ولا يستمر، ولا يستند إلى الحق، يتهاوى في أي لحظة، ولم يتوهم المشركون والضالون أنهم أقوياء، بينما كلمة التوحيد تخاطب العقل السليم، والنفس اليقظة، والوجدان الواعي، فلا يستطيع أحد مهما أوتى من قوة وسلطان أن يحرفها؛ لأنها الحق من عند الله.

    والمؤدى من هذا التشبيه أن الكلمة الخبيثة لا تدوم في الوجود، بل إنها تنتهي بانتهاء زمانها، كالسعاية والنميمة والكذب والخديعة والغيبة، ليس لها وجود إلا بمقدار زمانها، وقد تضر، لكن عاقبتها وخيمة، وطعامها موبئ، ولا تبقى إلا الكلمة الطيبة، وما يكون لله، وللحق وحده39.

    وختم الله هذا المثل بقوله: ( ) [إبراهيم: ٢٥].

    أي: الأمور المتشابهة بين بعضها البعض، فيبين المعنوي بالحسي حتى يصير كأنه محسوس مرئي، ويبين الله سبحانه وتعالى ذلك البيان عسى أن يتذكروا ويعتبروا.

    والمقصود أن الكلمة الطيبة هي التوحيد وهو كالشجرة، والأعمال ثمارها في كل وقت، والكلمة السيئة هي الشرك، والأعمال السيئة ثمارها.

    ومن ضرب المثل القرآني في مجال العقيدة: أن الله تعالى ضرب مثلًا لنوره في قوله تعالى: ( ﮬﮭ ﯓﯔ ﯗﯘ ﯬﯭ ﯰﯱ ﯶﯷ ﯻﯼ ﯿ ) [: ٣٥].

    والضمير في قوله: () عائد إلى اسم الجلالة، أي: مثل نور الله، أو الدين الذي اختاره، أي: مثله في إنارة عقول المهتدين، فالكلام تمثيل لهيئة إرشاد الله المؤمنين بهيئة المصباح الذي حفت به وسائل قوة الإشراق، وإنما أوثر تشبيهه بالمصباح الموصوف بما معه من الصفات دون أن يشبه نوره بطلوع الشمس بعد ظلمة الليل؛ لقصد إكمال مشابهة الهيئة المشبه بها بأنها حالة ظهور نور يبدو في خلال ظلمة، فتنقشع به تلك الظلمة في مساحة يراد تنويرها، ودون أن يشبه بهيئة بزوغ القمر في خلال ظلمة الأفق؛ لقصد إكمال المشابهة؛ لأن القمر يبدو ويغيب في بعض الليلة بخلاف المصباح الموصوف، وبعد هذا فلأن المقصود ذكر ما حف بالمصباح من الأدوات؛ ليتسنى كمال التمثيل بقبوله تفريق التشبيهات وذلك لا يتأتى في القمر.

    وقوله: ( ) [: ٣٥].

    المقصود: كمصباح في مشكاة، وإنما قدم (المشكاة) في الذكر؛ لأن المشبه به هو مجموع الهيئة؛ فاللفظ الدال على المشبه به هو مجموع المركب المبتدئ بقوله: () والمنتهي بقوله: ( ) [: ٣٥].

    فلذلك كان دخول كاف الشبه على كلمة (مشكاة) دون لفظ (مصباح) لا يقتضي أصالة لفظ (مشكاة) في الهيئة المشبه بها دون لفظ (مصباح) بل موجب هذا الترتيب مراعاة الترتيب الذهني، في تصور هذه الهيئة لمتخيله حين يلمح الناظر إلى انبثاق ، ثم ينظر إلى مصدره، فيرى مشكاة، ثم يبدو له مصباح في زجاجة40.

    والمشكاة هي الكوة غير النافذة تكون في الحائط، ويكون المصباح فيها شديد الإضاءة، وقيل: المشكاة العمود الذي يكون المصباح على رأسه، والأول أصح وأشهر، والمعنى صفة نور الله في وضوحه كصفة مشكاة فيها مصباح على أعظم ما يتصوره البشر من الإضاءة والإنارة، وإنما شبه بالمشكاة -وإن كان نور الله أعظم-؛ لأن ذلك غاية ما يدركه الناس من الأنوار، فضرب المثل لهم بما يصلون إلى إدراكه41.

    وقوله: ( ) [: ٣٥].

    المعنى أنه في قنديل من زجاج؛ لأن الضوء فيه أزهر؛ لأنه جسم شفاف، ( ) [: ٣٥].

    شبه الزجاجة في إنارتها بكوكب دري؛ وذلك يحتمل معنيين: إما أن يريد أنها تضيء بالمصباح الذي فيها، وإما أن يريد أنها في نفسها شديدة الضوء؛ لصفائها ورقة جوهرها، وهذا أبلغ لاجتماع نورها مع نور المصباح.

    ( ) [: ٣٥] المعنى: توقد من زيت شجرة مباركة، ووصفها بالبركة؛ لكثرة منافعها، أو لأنها تنبت في الأرض المباركة وهي الشام، ( ) [: ٣٥].

    قيل: يعني أنها بالشام، فليست من شرق الأرض ولا من غربها، وأجود الزيتون زيتون الشام، أو يكون المراد أنها منكشفة تصيبها الشمس طول النهار، فليست خالصة للشرق، فتسمى شرقية، ولا للغرب فتسمى غربية، بل هي غربية شرقية؛ لأن الشمس تستدير عليها من الشرق والغرب، أو المراد: أنها في وسط دوحة لا في جهة الشرق من الدوحة ولا في جهة الغرب، أو أنها من شجرة الجنة، ولو كانت في الدنيا لكانت شرقية أو غربية.

    وقوله: ( ) [: ٣٥].

    مبالغة في وصف صفاته وحسنه ( ) [: ٣٥].

    يعني: اجتماع نور المصباح وحسن الزجاجة وطيب الزيت، والمراد بذلك كمال الممثل به، وقوله: ( ) [: ٣٥].

    أي: يوفق الله من يشاء لإصابة الحق42.

    ومن ضرب الأمثلة القرآنية في مجال العقيدة: أن الله تعالى ضرب ببيت العنكبوت مثلًا لضعف آلهة الكفار ووهنها، وهو من أحسن الأمثال، وأدلها على بطلان الشرك، وخسارة صاحبه، وحصوله على ضد مقصوده، فقال تعالى: (ﭿ ﮉﮊ ﮏﮐ ) [العنكبوت: ٤١].

    فهذا مثل ضربه الله لمن عبد معه غيره، يقصد به التعزز والتقوي والنفع، وأن الأمر بخلاف مقصوده، فإن مثله كمثل العنكبوت اتخذت بيتًا يقيها من الحر والبرد والآفات ( ): أضعفها وأوهاها ( )، فالعنكبوت من الحيوانات الضعيفة، وبيتها من أضعف البيوت، فما ازدادت باتخاذه إلا ضعفًا، كذلك هؤلاء الذين يتخذون من دونه أولياء، فقراء عاجزون من جميع الوجوه، وحين اتخذوا الأولياء من دونه يتعززون بهم ويستنصرونهم، ازدادوا ضعفًا إلى ضعفهم، ووهنًا إلى وهنهم.

    فإنهم اتكلوا عليهم في كثير من مصالحهم، وألقوها عليهم، وتخلوا هم عنها، على أن أولئك سيقومون بها، فخذلوهم، فلم يحصلوا منهم على طائل، ولا أنالوهم من معونتهم أقل نائل، فلو كانوا يعلمون -حقيقة العلم- حالهم، وحال من اتخذوهم لم يتخذوهم، ولتبرءوا منهم، ولتولوا الرب القادر الرحيم، الذي إذا تولاه عبده وتوكل عليه كفاه مئونة دينه ودنياه، وازداد قوة إلى قوته، في قلبه وفي بدنه وحاله وأعماله43.

    ومن أبلغ الأمثال التي تبين أن المشرك قد تشتت شمله واحتار في أمره: ما بينه تعالى بقوله: ( ﯷﯸ ﯺﯻ ﯿ) [الزمر: ٢٩].

    فهذا مثل ضربه الله تعالى للمشرك والموحد، فالمشرك لما كان يعبد آلهة شتى شبه بعبد يملكه جماعة متنازعون مختلفون، سيئة أخلاقهم، يتنافسون في خدمته، لا يمكنه أن يبلغ رضاهم أجمعين، فهو في عذاب.

    والموحد لما كان يعبد الله وحده لا شريك له فمثله كمثل عبد لرجل واحد، قد سلم له، وعلم مقاصده، وعرف الطريق إلى رضاه، فهو في راحة من تشاحن الخلطاء فيه واختلافهم، بل هو سالم لمالكه من غير تنازع فيه، مع رأفة مالكه به، ورحمته له، وشفقته عليه، وإحسانه إليه، وتوليه لمصالحه، فهل يستوي هذان العبدان؟ والجواب: كلا، لا يستويان أبدًا44.

    والمقصود أن الله تعالى يضرب الأمثال في كتابه من أجل بيان التوحيد، أو من أجل بيان أعداء التوحيد، كما قال الله: ( ﮗﮘ ) [التحريم: ١٠].

    فالله جعل حالة هاتين المرأتين عظة، وتنبيهًا للذين كفروا، أي: ليذكرهم بأن الله لا يصرفه عن وعيده صارف، فلا يحسبون أن لهم شفعاء عند الله، ولا أن مكانهم من جوار بيته، وعمارة مسجده، وسقاية حجيجه تصرف غضب الله عنهم، فإن هم أقلعوا عن هذا الحسبان أقبلوا على التدبر في النجاة من وعيده بالنظر في دلائل دعوة القرآن، وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم، فلو كان صارف يصرف الله عن غضبه لكان أولى الأشياء بذلك مكانة هاتين المرأتين من زوجيهما رسولي رب العالمين 45.

    أو يضرب الأمثال في كتابه في الذين ثبتوا على مبدأ التوحيد، كما قال تعالى: ( ) [التحريم: ١١].

    فلما ضرب المثل للذين كفروا أعقب بضرب مثل للذين آمنوا؛ لتحصل المقابلة، فيتضح مقصود المثلين معًا، وجريًا على عادة القرآن في إتباع الترهيب بالترغيب، وجعل المثل للذين آمنوا بحال امرأتين لتحصل المقابلة للمثلين السابقين، فهذا مراعاة النظير في المثلين، وجاء أحد المثلين للذين آمنوا لإخلاص الإيمان، والمثل الثاني لشدة التقوى، فكانت امرأة فرعون مثلًا لمتانة المؤمنين، ومريم مثلًا للقانتين؛ لأن المؤمنين تبرءوا من ذوي قرابتهم الذين بقوا على الكفر بمكة46.

    ومن ضرب الأمثال في ميدان العقيدة: قوله تعالى: ( ﭿ ﮀﮁ ﮃﮄ ﮆﮇ ) [النحل: ٧٥].

    وقوله تعالى: ( ﮔﮕ ﮘﮙ ) [هود: ٢٤].

    وقوله تعالى: ( ) [البقرة: ١٧].

    وقوله تعالى: ( ﮆﮇ ﮘﮙ ) [الروم: ٢٨].

    وقوله تعالى: ( ﭴﭵ ) [البقرة: ١٧١].

    وقوله تعالى: ( ﮬﮭ ) [آل عمران: ٥٩].

    وهي أمثال غاية في البلاغة والتأثير، وغاية فيما تحويه من نهاية في العظة والعبرة، ونهايةٍ في البلاغة، وإيجاز اللفظ، وحسن التشبيه، وقوة الكناية.

    ثانيًا: ميدان الأعمال:

    ومن المجالات المهمة التي تناولتها الأمثال القرآنية مجال الأعمال؛ أعمال المؤمنين، وأعمال الكافرين.

    فكثرت الأمثال التي توضح بطلان أعمال الكافرين، وتجسم أعمالهم بالرماد المتجمع بعضه فوق بعض، ثم تذروه الرياح، فتتناثر ذراته في كل اتجاه.

    يقول تعالى: ( ﯧﯨ ﯰﯱ ﯷﯸ ) [إبراهيم: ١٨].

    فيصور الله في هذا المثل أعمال الكفار في مقاومة رسل الله، ومحاربة دينه، بالرماد المتجمع في مكان ما، لكن لا تماسك بين ذراته، وهو خفيف جدًا، فاشتدت به الريح في يوم عاصف، فنسفت ذلك الرماد، وبددته في كل مكان، حتى لم يعد له وجود حقيقي، كذلك أعمال الكافرين في مواجهة الرسول، وأولياء الله، فهي كالرماد متفرقة مشتتة في كل مكان، ويوم القيامة يجعل تلك الأعمال هباء منثورًا، وهي كناية عن أن أعمال الكافرين لا تقوى على مقاومة قدرة الله وقوته.

    وفي مثلٍ آخر يتخذ من (الريح) أيضًا أداة التدمير، كما كانت في المثل السابق أداة البعثرة للرماد، ونثره في كل مكان، فيقول الله تعالى: ( ﭶﭷ ) [آل عمران: ١١٧].

    فيصور الله لنا أعمال أهل الكفر التي يظنون أنها تفيدهم بأنها مثل السراب في صحراء قاحلة، تظهر من بعيد للظمآن ماء، لكنه إذا اقترب منه لم يجده شيئًا، فينخدع من بعيد، وعند الحاجة تنكشف له الحقيقة، بأنه مجرد سراب لا يسمن ولا يغني من جوع، كذلك الكفار يظنون أن أعمالهم في الدنيا تغنيهم شيئًا يوم القيامة، لكن هذا الزعم الخادع ينكشف لهم يوم القيامة.

    فالمثلان مترابطان في بيان ضياع أعمال الكافرين، والتركيز فيهما على أعمالهم لا على ذواتهم، كما يلاحظ اتحاد المثلين في الإفناء والضياع.

    ولكن القرآن الكريم يركز في مثلٍ آخر على شخصية الكافر وآماله بما يتناسب مع السياق، مع تغييرٍ في البنية الأسلوبية، ففي المثلين السابقين كان التركيز على الرماد والزروع والنبات والرياح، وفي المثل الآتي يتم التركيز على بنية أسلوبية جديدة، مادتها الماء والسراب والظلام، فيقول الله تعالى: ( ﭿ ﮈﮉ ﮚﮛ ﮥﮦ ) [: ٣٩ ٤٠].

    فالمثل هنا يجمع بين الأعمال وأصحابها في الضياع؛ إذ نلحظ التركيز أيضًا على شخصية الكافر في المثل المعروض إلى جانب أعماله، فأعماله سراب خادع، وهو ظمآنٌ يظنه ماء، فيجري وراء ظنه، فيكتشف حقيقة السراب الخادع، وجاء التعقيب هذه المرة بقوله: ( ) [: ٣٩].

    لإبراز الغرض الديني من تصوير المثل؛ ولبيان تلك الحياة التي عاشها الكافر في وهم وظنون وخداع، حتى جاء اليوم الموعود في الحساب والجزاء.

    ثم عقب على هذا المثل بمثل آخر زيادةً في الإيضاح والتنويع في البنى الأسلوبية، ففي المثل الثاني يركز على الصحراء وما يتراءى فيها من سراب خادع، والمثل الثاني يركز على ظلمات البحر تتلاطم أمواجه، وتغطيه السحب الكثيفة، كما تغطيه ظلمات الليل، فتنعدم الرؤية البصرية في هذه الظلمات المركبة المتراكمة، ويبرز التقابل في المثلين بين عناصر التعبير والتصوير؛ لاستيفاء تفصيلات المعاني الدينية المطلوبة، فالسراب في المثل الأول يوحي بالأوهام والخراب، والكافر يجري وراء السراب والأوهام، والظلمات المتراكمة من البحر والسحاب وظلمات الليل توحي بانعدام الرؤية، والكفر ظلمات يحجب ما أنفقته يد الخير فلا تفيد صاحبها شيئًا.

    ويأتي التعقيب متناسقًا مع جو الليل والظلمات: ( ) [: ٤٠].

    ويبرز نور الله من خلال ذلك هو الوحيد الذي ينير للإنسان طريقه في ظلمات الحياة المتراكمة.

    وفي الجانب الآخر يضرب الله تعالى الأمثال لأعمال المؤمنين الصالحة، فيقول: ( ﭿ ﮒﮓ ) [البقرة: ٢٦١].

    فشبه سبحانه إنفاق المنفق في سبيله سواء كان المراد به الجهاد أو جميع سبل الخير من كل بر بمن بذر بذرًا فأنبتت كل حبة سبع سنابل، اشتملت كل سنبلة على مائة حبة، والله يضاعف بحسب حال المنفق وإيمانه وإخلاصه وإحسانه ونفع نفقته وقدرها ووقوعها موقعها، فإن ثواب الإنفاق يتفاوت بحسب ما يقوم بالقلب من الإيمان والإخلاص والتثبت عند النفقة، وهو إخراج المال بقلب ثابت، قد انشرح صدره بإخراجه، وسمحت به نفسه، وخرج من قلبه قبل خروجه من يده، فهو ثابت القلب عند إخراجه غير جزع ولا هلع، ولا متبعه نفسه، ترجف يده وفؤاده، ويتفاوت بحسب نفع الإنفاق ومصارفه، وبحسب طيب المنفق ونيته47.

    ونظير المثل السابق قوله تعالى: ( ﭧﭨ ) [البقرة: ٢٦٥].

    وتحت هذا المثل من الفقه أنه سبحانه شبه الإنفاق بالبذر، فالمنفق ماله الطيب لله لا لغيره يبذر ماله في أرض زكية، فمغله48 بحسب بذره، وطيب أرضه، وتعاهد البذر بالسقي، ونفي الدغل والنبات الغريب عنه، فإذا اجتمعت هذه الأمور ولم تحرق الزرع نار ولا لحقته جائحة جاء أمثال الجبال، وكان مثله كمثل جنة بربوة، وهي المكان فيه نصب الشمس والرياح، فتربى الأشجار هناك أتم تربية، فنزل عليها من السماء مطر عظيم القطر متتابع فرواها ونماها، فآتت أكلها ضعفي ما تؤتيه غيرها بسبب ذلك الوابل، وإن لم يصبها وابل فطل، والطل: مطر صغير القطر، يكفيها لكرم منبتها تزكو على الطل، وتنمى عليه، مع أن في ذكر نوعي الوابل والطل إشارة إلى نوعي الإنفاق الكثير والقليل، فمن الناس من يكون إنفاقه وابلًا، ومنهم من يكون إنفاقه طلًا، والله لا يضيع مثقال ذرة49.

    ثالثًا: ميدان الأخلاق:

    جاءت الأمثال القرآنية ترغب في كثير من الأخلاق والسلوكيات الحسنة، وتحذر من غيرها، مستعينة بالترغيب والترهيب والإقناع العقلي.

    ففي جانب الأخلاق الحسنة، قال تعالى -وهو يشبه حال المخلص في النفقة في سبيل الله-: ( ﭧﭨ ) [البقرة: ٢٦٥].

    والربوة: هي التل المرتفع، والطل: المطر الخفيف، فشبه سبحانه في التمثيل السابق عمل المنفق لمرضاة الله تبارك وتعالى بجنة خضراء يانعة تقع على أرض مرتفعة خصبة، تستقبل النسيم الطلق، والمطر الكثير النافع، وقيد المشبه به ببستان مرتفع عن الأرض؛ لأن تأثير الشمس والهواء فيه أكمل، فيكون أحسن منظرًا، وأزكى ثمرًا، أما الأماكن المنخفضة التي لا تصيبها الشمس في الغالب إلا قليلًا فلا تكون كذلك.

    ووجه التمثيل في هذا المثل أن المنفق ابتغاء مرضاة الله هو في إخلاصه وسخاء نفسه وإخلاص قلبه كالجنة الجيدة التربة الملتفة الشجر، العظيمة الخصب في كثرة بره وحسنه، فهو يجود بقدر سعته، فإن أصابه خير كثير أغدق ووسع في الإنفاق على ذوي الحاجات، وإن أصابه خير قليل أنفق منه بقدره، فخيره دائم، وبره لا ينقطع؛ لأن الباعث عليه ذاتي لا عرضي كأهل الرياء، وأصحاب المن والإيذاء، فـ(الوابل) و(الطل) على هذا عبارة عن سعة الرزق، وما دون السعة.

    ولك أن تقول: إن وجه التمثيل هنا أن النية الصالحة في الإنفاق كالوابل للجنة، فبها تكون النفقة نافعة للناس؛ لأن أصحابها يتحرون مواضعها، فيضعون نفقتهم موضع الحاجة، لا يبذرون بغير روية، وأن أمثال هؤلاء المخلصين لا يخيب قاصدهم؛ لأن رحمة قلوبهم لا يغور معينها، فإن لم تصبه بوابل من عطائها لم يفته طله، فهم كالجنة التي لا يخشى عليها اليبس والزوال.

    وهذا التمثيل يفيد أن إنفاق المؤمن قد يكون إنفاقًا كثيرًا مثل المطر الغزير، وقد يكون إنفاقًا قليلًا مثل المطر القليل، وفي كلٍ خير، وهو يعبر عن اهتمام المؤمن بغيره، والعمل على النهوض بأمته قدر استطاعته، وبحسب إمكاناته.

    وضرب الله تعالى مثلًا في الإنجيل لعباده المؤمنين أنهم كالزرع، يظهر في أول أمره رقيقًا ضعيفًا متفرقًا، ثم ينبت بعضه حول بعض، ويغلظ ويتكامل حتى يقوى ويشتد، وتعجب جودته أصحاب الزراعة العارفين بها؛ فكذلك النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا في أول الأمر في قلة وضعف، ثم لم يزالوا يكثرون ويزدادون قوة، فقال تعالى: ( ﭓﭔ ﭛﭜ ﭤﭥ ﭫﭬ ﭰﭱ ﭿ ﮁﮂ ) [الفتح: ٢٩].

    فبعد أن ذكر الله وصفهم في التوارة ذكر مثلهم في الإنجيل، فهم موصوفون فيه بوصف آخر، فهم في كمالهم وتعاونهم ( ) أي: أخرج فراخه، فوازرته فراخه في الشباب والاستواء، () ذلك الزرع، أي: قوي وغلظ ( ): جمع ساق، ( ) من كماله واستوائه وحسنه واعتداله، كذلك الصحابة رضي الله عنهم هم كالزرع في نفعهم للخلق، واحتياج الناس إليهم، فقوة إيمانهم وأعمالهم بمنزلة قوة عروق الزرع وسوقه، وكون الصغير والمتأخر إسلامه قد لحق الكبير السابق وآزره وعاونه على ما هو عليه من إقامة دين الله والدعوة إليه، كالزرع الذي أخرج شطأه فآزره فاستغلظ؛ ولهذا قال: (ﭿ ) حين يرون اجتماعهم وشدتهم على دينهم، وحين يتصادمون معهم في معارك النزال ومعامع القتال50.

    إنها صورة عجيبة يرسمها القرآن الكريم بأسلوبه البديع، صورة مؤلفة من عدة لقطات لأبرز حالات هذه الجماعة المختارة، حالاتها الظاهرة والمضمرة، فلقطة تصور حالتهم مع الكفار ومع أنفسهم ( ) ولقطة تصور هيئتهم في عبادتهم ( ) ولقطة تصور قلوبهم، وما يشغلها ويجيش بها ( ) ولقطة تصور أثر العبادة والتوجه إلى الله في سمتهم وسحنتهم وسماتهم ( ) وهذه صفتهم فيها، ولقطات متتابعة تصورهم كما هم في الإنجيل51.

    وفي جانب الأخلاق السيئة:

    ضرب الله مثلًا لحال المنفق رياءً حيث لا يحصل من إنفاقه على شيءٍ من الثواب، فقال تعالى: ( ﯲﯳ ﯼﯽ ﯿ ) [البقرة: ٢٦٤].

    فقد مثل حال المرائي في إنفاقه بحال الحجر الأملس يكون عليه تراب، فيصيبه مطر غزير، فيذهب بما عليه من تراب، فأعمال المرائي مثل التراب الذي كان على الحجر، فإنها تذهب هباء، ولا يجد لها ثوابًا، وفي هذا المثل تقرير لخيبة المرائي على وجه أبلغ ما يكون.

    ومن ذلك تشبيه المنتكس بالكلب في كثرة مساوئه:

    حيث ضرب الله مثلًا لحال العالم المنحط في أهوائه بحال الكلب الذي هو أخبث الحيوانات وأخسها نفسًا؛ ذلك أن المنحط في أهوائه شديد اللهف على الدنيا، قليل الصبر عنها، فلهفه نظير لهف الكلب الدائم في حال إزعاجه وتركه، فقال: ( ﯓﯔ ﯞﯟ ﯥﯦ ) [الأعراف: ١٧٥ - ١٧٦]. وهذه الآيات وإن نزلت بسبب رجل من بني إسرائيل52 إلا أنه كما يقول المحققون من أهل العلم: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، والله أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يخبرنا ويقول: ( ) أخبر أمتك يا محمد! بنبأ ذلك الرجل الذي آتيناه آياتنا؛ آتيناه العلم، وآتيناه الآيات والدلالات الواضحات على عظمة الله، فبدل أن يعمل بها ويستمر عليها، انسلخ منها، والانسلاخ عن الشيء هو: تركه مع عدم الرغبة في العودة إليه، أي: انسلخ منها كما تنسلخ الحية من جلدها، والمراد أنه خرج منه بالكلية، بأن كفر بها، ونبذها وراء ظهره، ولم ينتفع بما اشتملت عليه من عظات وإرشادات، وحقيقة السلخ: كشط الجلد وإزالته بالكلية عن المسلوخ عنه، ويقال لكل شيء فارق شيئًا على أتم وجه: انسلخ منه، وفى التعبير به ما لا يخفى من المبالغة53.

    فالانسلاخ حقيقته خروج جسد الحيوان من جلده حينما يسلخ عنه جلده، والسلخ: إزالة جلد الحيوان الميت عن جسده، واستعير في الآية للانفصال المعنوي، وهو ترك التلبس بالشيء، أو عدم العمل به، ومعنى الانسلاخ عن الآيات الإقلاع عن العمل بما تقتضيه؛ وذلك أن الآيات أعلمته بفساد دين الجاهلية54.

    وقوله: ( ) [الأعراف: ١٧٥].

    أي: فلحقه الشيطان وأدركه فصار هذا الإنسان بسبب ذلك من زمرة الضالين الراسخين في الغواية، مع أنه قبل ذلك كان من المهتدين، وفى التعبير بقوله: ( ) مبالغة في ذم هذا الإنسان وتحقيره، جعل كأنه إمام للشيطان، والشيطان يتبعه، فهو على حد قول الشاعر55:

    وكنت أرى من جند إبليس فارتقى

    بي الدهر حتى صار إبليس من جندي

    فلو مات قبلي كنت أدركت بعده

    دقائق كفرٍ ليس يدركها بعدي

    ورتبت أفعال الانسلاخ والاتباع والكون من الغاوين بفاء العطف على حسب ترتيبها في الحصول، فإنه لما عاند ولم يعمل بما هداه الله إليه حصلت في نفسه ظلمة شيطانية، مكنت الشيطان من استخدامه وإدامة إضلاله، فالانسلاخ عن الآيات أثر من وسوسة الشيطان، وإذا أطاع المرء الوسوسة تمكن الشيطان من مقاده، فسخره وأدام إضلاله، وهو المعبر عنه بـ(أتبعه) فصار بذلك في زمرة الغواة المتمكنين من الغواية56.

    وقوله تعالى: ( ) [الأعراف: ١٧٦].

    أفاد أن تلك الآيات شأنها أن تكون سببًا للهداية والتزكية لو شاء الله له التوفيق، وعصمه من كيد الشيطان وفتنته، فلم ينسلخ عنها، وهذه عبرة للموفقين؛ ليعلموا فضل الله عليهم في توفيقهم، فما ألطف نسبة إتيان الآيات والرفع إليه تعالى، ونسبة الانسلاخ والإخلاد إلى العبد، مع أن الكل من الله تعالى؛ إذ فيه من تعليم العباد حسن الأدب ما فيه.

    فالمعنى: ولو شئنا لزاد في العمل بما آتيناه من الآيات، فلرفعه الله بعمله، والرفعة مستعارة لكمال النفس وزكائها؛ لأن الصفات الحميدة تخيل صاحبها مرتفعًا على من دونه، أي: ولو شئنا لاكتسب بعمله بالآيات فضلًا وزكاء وتميزًا بالفضل، فمعنى () ليسرنا له العمل بها الذي يشرف به، وقد وقع الاستدراك على مضمون قوله: ( ) [الأعراف: ١٧٦].

    بذكر ما يناقض تلك المشيئة الممتنعة، وهو الاستدراك بأنه انعكست حاله، فأخلد إلى الأرض، أي: ركن ومال إلى الأرض، والكلام تمثيل لحال المتلبس بالنقائص والكفر بعد الإيمان والتقوى بحال من كان مرتفعًا عن الأرض فنزل من اعتلاء إلى أسفل، فبذكر الأرض علم أن الإخلاد هنا ركون إلى السفل، أي: تلبس بالنقائص والمفاسد، واتباع الهوى ترجيح ما يحسن لدى النفس من النقائص المحبوبة على ما يدعو إليه الحق والرشد، فالاتباع مستعار للاختيار والميل، والهوى شاع في المحبة المذمومة الخاسرة عاقبتها57.

    وقوله: ( ) [الأعراف: ١٧٦].

    فهو دائم اللهث في الحالين؛ لأن اللهث طبيعة فيه، وكذلك حال الحريص على الدنيا المعرض عن الآيات بعد إيتائها إن وعظته فهو لإيثاره الدنيا على الآخرة لا يقبل الوعظ، وإن تركت وعظه فهو حريص أيضًا على الدنيا وشهواتها.

    فهذا الضال تحمل كلفة اتباع الدين الصالح، وصار يطلبه في حين كان غير مكلف بذلك في زمن الفترة، فلقي من ذلك نصبًا وعناء، فلما حان حين اتباع الحق ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم تحمل مشقة العناد والإعراض عنه في وقت كان جديرًا فيه بأن يستريح من عنائه لحصول طلبته، فكانت حالته شبيهة بحالة الكلب الموصوف باللهث، فهو يلهث في حالة وجود أسباب اللهث من الطرد والإرهاب والمشقة، وهي حالة الحمل عليه، وفي حالة الخلو عن ذلك السبب، وهي حالة تركه في دعة ومسالمة، والذي ينبه على هذا المعنى هو قوله: ( ) .

    ونلحظ أنه ليس لشيء من الحيوان حالة للتشبيه بها في الحالتين غير حالة الكلب اللاهث؛ لأنه يلهث إذا أتعب وإذا كان في دعة، فاللهث في أصل خلقته، وهذا التمثيل من بلاغة القرآن، فإن اللهث حالة تؤذن بحرج الكلب من جراء عسر تنفسه عن اضطراب باطنه، وإن لم يكن لاضطراب باطنه سبب آتٍ من غيره، فمعنى ( ) إن تطارده وتهاجمه.

    فهذا تشبيه تمثيل مركب منتزعة فيه الحالة المشبهة والحالة المشبه بها من متعدد، ولما ذكر ( ) في شق الحالة المشبه بها تعين أن يكون لها مقابل في الحالة المشبهة، وتتقابل أجزاء هذا التمثيل بأن يشبه الضال بالكلب، ويشبه شقاؤه واضطراب أمره في مدة البحث عن الدين بلهث الكلب في حالة تركه في دعة تشبيه المعقول بالمحسوس، ويشبه شقاؤه في إعراضه عن الدين الحق عند مجيئه بلهث الكلب في حالة طرده وضربه تشبيه المعقول بالمحسوس58.

    وتأمل ما في هذا المثل من الحكم والمعاني، فمنها قوله: ( ) فأخبر سبحانه أنه هو الذي آتاه آياته، فإنها نعمة، والله هو الذي أنعم بها عليه، فأضافها إلى نفسه، ثم قال: ( ) أي: خرج منها كما تنسلخ الحية من جلدها، وفارقها فراق الجلد يسلخ عن اللحم، ولم يقل: فسلخناه منها؛ لأنه هو الذي تسبب إلى انسلاخه منها باتباع هواه، ومنها قوله سبحانه: ( ) أي: لحقه وأدركه...، وكان محفوظًا محروسًا بآيات الله، محمي الجانب بها من الشيطان، لا ينال منه شيئًا إلا على غرة وخطفة، فلما انسلخ من آيات الله ظفر به الشيطان ظفر الأسد بفريسته ( ) العاملين بخلاف علمهم، الذين يعرفون الحق ويعملون بخلافه، كعلماء السوء.

    ومنها: أنه سبحانه قال: ( ) فأخبر سبحانه أن الرفعة عنده ليست بمجرد العلم، فإن هذا كان من العلماء، وإنما هي باتباع الحق، وإيثاره وقصد مرضاة الله، فإن هذا كان من أعلم أهل زمانه، ولم يرفعه الله بعلمه، ولم ينفعه به، فنعوذ بالله من علم لا ينفع، وأخبر سبحانه أنه هو الذي يرفع عبده إذا شاء بما آتاه من العلم، وإن لم يرفعه الله فهو موضوع لا يرفع أحد به رأسًا، فإن الخافض الرافع هو سبحانه، والمعنى: لو شئنا فضلناه وشرفناه ورفعنا قدره ومنزلته بالآيات التي آتيناه.

    وقوله: ( ) المخلد من الرجال هو الذي يبطئ مشيته، ومن الدواب التي تبقى ثناياها إلى أن تخرج رباعيتها59.

مقاصد ضرب المثل

  1. مقاصد ضرب الأمثال في القرآن لا تنحصر، لكنها ترد في جملتها إلى مقصد واحد، وهو بيان الحق الذي جاءت به الرسل لهداية الخلق، ودعوتهم إلى عبادة الله وحده، والانقياد لطاعته؛ وذلك بوضع منهج متكامل روعيت فيه مصالح العباد في العاجل والآجل60.

    وقد جمع الزركشي عددًا من فوائد ضرب الأمثال في القرآن فذكر: التذكير، والوعظ، والحث والزجر، والاعتبار، وترتيب المراد للعقل، وبيان تفاوت الأجر، والمدح والذم، والثواب والعقاب، وعلى تفخيم أمر أو تحقيره، وعلى تحقيق أمر أو إبطاله، فامتن الله علينا بذلك لما تضمنت هذه الفوائد، فقال تعالى: ( ) [الروم: ٥٨].

    «ومن حكمته تعليم البيان، وهو من خصائص هذه الشريعة، والمثل أعون شيء على البيان»61.

    وتأتي أمثال القرآن مشتملة على بيان تفاوت الأجر، وعلى المدح والذم، وعلى الثواب والعقاب، وعلى تفخيم الأمر وتحقيره، وعلى تحقيق أمر أو إبطاله.

    وإذا كان العلماء قد أظهروا أهمية المثل البيانية والفنية الإبداعية، وأثر ذلك في النفس وفاعليته، فإن هناك أمورًا أخرى شرعية تستفاد من ضرب الأمثال في القرآن، وقد ذكر الإمام الماوردي أن «من أعظم علم القرآن علم أمثاله، والناس في غفلة عنه؛ لاشتغالهم بالأمثال، وإغفالهم الممثلات، والمثل بلا ممثل كالفرس بلا لجام، والناقة بلا زمام»62.

    فالأمثال القرآنية جاءت شاملة متضمنة كل ما تقدم، ولها من القدرة ما يمكنها من تحقيق أغراضها وغاياتها عبر صور بيانية، ومشاهد فنية، تلقي بظلالها وآثارها الفاعلة في النفس البشرية، والتي ما سيقت هذه الأمثال إلا لها ومن أجلها؛ بغية خيرها وصلاحها في حالها ومآلها.

    وعلى هذا يمكننا القول: إن الأمثال القرآنية تعد مقاييس عقلية، وقواعد عامة، وكليات شاملة، وعلامات هادية شاخصة ومنتصبة، تصلح أن يقاس عليها ما يؤكد علوها على الحصر، مما يمكن أن يكون حسيًا أو عقليًا أو نفسيًا، حقيقة أو مجازًا، وهي تدور حول محور واحد، متمثل في هذا الإنسان بعناصره المختلفة، وأبعاده المتجاورة والمتآلفة: العقل، والروح، والحس، والوجدان، تحقيقًا لتطلعاته إلى سعادته في معاشه ومعاده.

    وعلى هدي هذا المفهوم للمثل القرآني نستطيع الوقوف على معنى قوله تعالى: ( ﮦﮧ ) [العنكبوت: ٤٣].

    وقوله تعالى: ( ) [الزمر: ٢٧].

    أولًا: التوضيح والتقريب:

    التوضيح والتقريب أبرز مقاصد الأمثال.

    فيقرب صورة المُمَثَل له إلى ذهن المخاطب؛ وذلك بأن يكون المخاطب جاهلًا بحقيقة الشيء الممثل له فيأتي المثل القرآني لرفع هذه الجهالة، وإزالة هذا الغموض.

    قال ابن القيم: «وقد ضرب الله ورسوله الأمثال للناس؛ لتقريب المراد، وتفهيم المعنى، وإيصاله إلى ذهن السامع، وإحضاره في نفسه بصورة المثال الذي مثل به، فقد يكون أقرب إلى تعقله وفهمه وضبطه واستحضاره له باستحضار نظيره، فإن النفس تأنس بالنظائر والأشباه، وتنفر من الغربة والوحدة وعدم النظير، ففي الأمثال من تأنيس النفس، وسرعة قبولها، وانقيادها لما ضرب لها مثله من الحق أمر لا يجحده أحد، ولا ينكره، وكلما ظهرت الأمثال ازداد المعنى ظهورًا ووضوحًا، فالأمثال شواهد المعنى المراد، وهي خاصية العقل ولبه وثمرته»63.

    ويقول رحمه الله: «إن النفس تأنس بالنظائر والأشباه الأنس التام، وتنفر من الغربة والوحدة وعدم النظير، وبالأمثال يزداد المعنى ظهورًا ووضوحًا، فالأمثال شواهد المعنى المراد، ومزكية له، فهي كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه، وهي خاصة العقل ولبه وثمرته»64.

    وقد أشار الزمخشري أيضًا إلى هذا المقصد من الأمثال، حيث قال: «ولضرب العرب الأمثال، واستحضار العلماء المثل والنظائر شأنٌ ليس بالخفي في إبراز خبيات المعاني، ورفع الأستار عن الحقائق، حتى تريك المتخيل في صورة المحقق، والمتوهم في معرض المتيقن، والغائب كأنه مشاهد، وفيه تبكيت للخصم الألد، وقمعٌ لسورة الجامح الأبي، ولأمرٍ ما أكثر الله في كتابه المبين وسائر كتبه أمثاله»65.

    وقال أبو السعود: «إن التمثيل ليس إلا إبراز المعنى المقصود في معرض الأمر المشهور، وتحلية المعقول بحلية المحسوس، وتصوير أوابد المعاني بهيئة المأنوس لاستمالة الوهم واستنزاله عن معارضته للعقل، واستعصائه عليه في إدراك الحقائق الخفية، وفهم الدقائق الأبية؛ كي يتابعه فيما يقتضيه، ويشايعه إلى ما لا يرتضيه؛ ولذلك شاعت الأمثال في الكتب الإلهية، والكلمات النبوية، وذاعت في عبارات البلغاء، وإشارات الحكماء ...، فالتمثيل ألطف ذريعة إلى تسخير الوهم للعقل، واستنزاله من مقام الاستعصاء عليه، وأقوى وسيلة إلى تفهيم الجاهل الغبي، وقمع سورة الجامح الأبي، كيف لا وهو رفع الحجاب عن وجوه المعقولات الخفية، وإبرازها لها في معرض المحسوسات الجلية، وإبداء للمنكر في صورة المعروف، وإظهار للوحشي في هيئة المألوف»66.

    هكذا يأتي المثل لزيادة الإفهام والتوضيح والتذكير؛ ولتصوير المعنوي بالمحسوس والمشهد بالغائب، فيكون وقعه بذلك أمكن في النفوس، وأشد علقة بالقلوب، وهذا من شأنه أن يبعد الحيرة والشكل عن المترددين، وضعاف الإرادة.

    ومن الأمثلة القرآنية التي جاءت لهذا الغرض -وهو التوضيح والتقريب-: ما ضربه الله تعالى من مثلٍ لحال الدنيا، وركون الناس إليها، والإعراض عن الآخرة، قال تعالى: ( ﯹﯺ ﯻﯼ ﯿ) [يونس: ٢٤].

    فالمثل المضروب هنا لتقريب وتوضيح حال الدنيا، وهو مثل قصير موجز، يتناسق مع حال الدنيا في سرعة زوالها، وقد أسهمت البنية الأسلوبية له في إلقاء ظل الفناء في حس الإنسان وذهنه، وهو يتابع الماء النازل بسرعة ممتزجًا بنبات الأرض، ثم يغدو هشيمًا تذروه الرياح من غير تصوير للنبات النامي بثماره وأزهاره، فيبقى الإنسان مشدودًا إلى صورة النهاية للحياة لا إلى بهجتها ولذاتها.

    يقول ابن القيم معلقًا على هذا المثل: «شبه سبحانه الحياة الدنيا في أنها تتزين في عين الناظر، فتروقه بزينتها، وتعجبه فيميل إليها ويهواها اغترارًا منه بها، حتى إذا ظن أنه مالك لها قادر عليها سلبها بغتة أحوج ما كان إليها، وحيل بينه وبينها، فشبهها بالأرض التي ينزل الغيث عليها فتعشب، ويحسن نباتها، ويروق منظرها للناظر، فيغتر به، ويظن أنه قادر عليها، مالك لها، فيأتيها أمر الله، فتدرك نباتها الآفة بغتة، فتصبح كأن لم تكن قبل، فيخيب ظنه، وتصبح يداه صفرًا منها، فكذا حال الدنيا والواثق بها سواء، وهذا من أبلغ التشبيه والقياس»67.

    وتشبيه الحياة الدنيا بالنبات يحتمل وجوهًا:

    أحدها: أن عاقبة هذه الحياة التي ينفقها المرء في هذه الدنيا كعاقبة هذا النبات الذي حين عظم الرجاء في الانتفاع به وقع اليأس منه؛ لأن المتمسك بالدنيا إذا عظمت رغبته فيها يأتيه الموت، وهو معنى قوله: ( ) [الأنعام: ٤٤].

    وثانيها: أنه تعالى بين أنه كما لم يحصل لذلك الزرع عاقبةٌ تحمد، فكذلك المغتر بالدنيا المحب لها لا يحصل له عاقبة تحمد.

    وثالثها: أن هذا التشبيه كقوله تعالى: ( ) [الفرقان: ٢٣].

    أي: لما صار سعي هذا الزرع باطلًا بسبب حدوث المهلك فكذلك سعي المغتر بالدنيا.

    ورابعها: أن مالك هذا البستان لما أتعب نفسه في عمارته، وكذلك الروح، وعلق قلبه بالانتفاع به، فإذا حدث السبب المهلك صار العناء الشديد الذي تحمله في الماضي سببًا لحصول الشقاء الشديد له في المستقبل، وهو ما يحصل في قلبه من الحسرات.

    فكذلك حال من أحب الدنيا، وأتعب نفسه في تحصيلها، فإذا مات وفاته كل ما نال صار العناء الذي تحمله في تحصيل الدنيا سببًا لحصول الشقاء العظيم له في الآخرة.

    وخامسها: لعله تعالى إنما ضرب هذا المثل لمن لا يؤمن بالمعاد؛ لأنا نرى الزرع الذي انتهى إلى الغاية في الحسن، ثم إن ذلك الحسن يزول بالكلية، ثم تصير تلك الأرض موصوفة بتلك الزينة مرة أخرى، فذكر تعالى هذا المثال؛ ليدل على أن من قدر على ذلك كان قادرًا على إعادة الأحياء في الآخرة؛ ليجازيهم على أعمالهم68.

    وقد قامت (الفاء العاطفة) في قوله: ( ) [يونس: ٢٤].

    في تسريع حركة التصوير لأطوار النبات التي هي في حقيقتها أطوار الحياة، وجاء التعقيب على المثل في الآية الأخرى بقوله: ( ) [الكهف: ٤٥]؛ لترسيخ معنى القدرة الإلهية على الإحياء بعد الإماتة، كي لا تكون صورة الفناء هي الصورة النهائية للإنسان بعد المثل المضروب.

    وقوله: ( ) [يونس: ٢٤].

    فلو قلنا: بأن الباء للمصاحبة يكون معناه أي: اختلط مع ذلك الماء نبات الأرض؛ لأن المطر ينفد في خلل النبات، وإن كانت الباء للسببية يكون المراد أنه اختلط بسبب الماء بعض النبات ببعض، حيث إن الماء صار سببًا لرشده، والتفاف بعضه ببعض.

    وقوله: ( ) [يونس: ٢٤].

    تعبير رائع حيث جعلت الأرض آخذة زخرفها على التمثيل بالعروس؛ إذا أخذت الثياب الفاخرة من كل لون، فاكتستها وتزينت بغيرها من ألوان الزينة، وقوله: ( ) [يونس: ٢٤].

    أي: متمكنون من استثمارها والانتفاع بثبوتها، وقوله: ( ) [يونس: ٢٤].

    كناية عن نزول بعض الآفات على الجنات والمزارع حيث يجعلها () شبيهًا بما يحصد من الزرع في استئصاله.

    وقوله: ( ) [يونس: ٢٤]بمنزلة قوله: كأن لم ينبت زرعها، على وجه يلتف بعضه ببعض، يروق الإنسان منظره، فلم يزل على تلك الحال إلى أن ينتقل إلى حالة لا نجد فيها غضاضة، وهذا ما يعبر عنه القرآن بقوله: ( ) [الكهف: ٤٥].

    أي: كثيرًا مفتتًا، تذروه الرياح، فتنقله من موضعه إلى موضع، فانقلاب الدنيا كانقلاب هذا النبات.

    ثانيًا: الترغيب:

    ومن مقاصد ضرب المثل في القرآن الترغيب بالأعمال الصالحة والأخلاق الحسنة التي تهذب النفوس وترقق الطباع.

    فنجد المثل القرآني يحث النفس الجموح على إنفاق المال في سبيل الله، ويعد المتقين وعدًا حسنًا على ذلك، ويضاعف لهم الأجر في صورة اعتمد فيها التشبيه صيغة تهيئ المناخ النفسي للبر بتفاعلها مع الجو الداخلي عند الإنسان، حيث يجد إنفاقه مضاعفًا بإمدادٍ غير مترقب مما يدفعه عن طيب خاطر، وتسليم لأمر الله إلى الإنفاق بيد مبسوطة، يقول تعالى: ( ﭿ ﮍﮎ ﮒﮓ ) [البقرة: ٢٦١].

    وقد يطنب المثل القرآني في الأمور الترغيبية، ويوالي ضرب الأمثال لها، ويحذر من مخالفتها، ويريدها خالصة لله وحده، ويستقصي المعاني على أكمل وجه، ويأتي بجميع لوازمها ومتعلقاتها، وهو ما يسمى عند البلاغيين (الاستقصاء)، وهو نوع من أنواع الإطناب بذكر محاسن ما يرغب فيه، كما في قوله تعالى: ( ﯿ ﭖﭗ ) [إبراهيم: ٢٤ - ٢٦].

    يقول الرازي: «إن المقصود من ضرب الأمثال أنها تؤثر في القلوب ما لا يؤثره وصف الشيء في نفسه؛ وذلك لأن الغرض في المثل تشبيه الخفي بالجلي، والغائب بالشاهد، فيتأكد الوقوف على ماهيته، ويصير الحس مطابقًا للعقل، وذلك في نهاية الإيضاح، ألا ترى أن الترغيب إذا وقع في الإيمان مجردًا عن ضرب مثل له لم يتأكد وقوعه في القلب كما يتأكد وقوعه إذا مثل ب، وإذا زهد في الكفر بمجرد الذكر لم يتأكد قبحه في العقول، كما يتأكد إذا مثل بالظلمة، وإذا أخبر بضعف أمر من الأمور وضرب مثله بنسج العنكبوت كان ذلك أبلغ في تقرير صورته من الإخبار بضعفه مجردًا؛ ولهذا أكثر الله تعالى في كتابه المبين، وفي سائر كتبه أمثاله، قال تعالى: ( ) [العنكبوت: ٤٣69.

    واتخذها المربون وسيلة للترغيب، ويستطيع معلم التربية الإسلامية أن يستخدم ضرب الأمثال للترغيب ولتقريب المعاني المجردة التي ترد في القرآن والسنة إلى أذهان التلاميذ؛ ويمكنه أن يستخدم هذا الأسلوب كوسيلة للتهذيب الخلقي من حثه على الخير أو دفع للشر، فالأمثال بما فيها من تجسيد للمعاني المجردة أقرب إلى النفوس في إحداث الترغيب والترهيب من الوعظ المباشر.

    ومن الأمور التي رغب فيها المثل القرآني: الجنة.

    قال تعالى: ( ﭖﭗ ﭛﭜ ﭟﭠ ﭤﭥ ) [الرعد: ٣٥]

    والإشارة إلى الجنة بصفاتها بحيث صارت كالمشاهدة ترغيبًا فيها، أي: صفة الجنة التي وعد الله بها الذين يخشونه أنها تجري من تحت أشجارها وقصورها الأنهار، ثمرها لا ينقطع، وظلها لا يزول ولا ينقص، تلك المثوبة بالجنة عاقبة الذين خافوا الله، فاجتنبوا معاصيه، وأدوا فرائضه، وعاقبة الكافرين بالله النار.

    ونظيره: ( ﮊﮋ ﮠﮡ ﮩﮪ ) [محمد: ١٥].

    فهذا المتاع والاسترواح، ومشهد الظل الدائم، والثمر الدائم، والأنهار المتنوعة، مشهدٌ تطمئن له النفس وتستريح وترغب، وتشتاق إليه.

    ومن الأمور التي رغب فيها المثل القرآني: الإيمان والإسلام.

    قال تعالى: ( ﮨﮩ ) [الأنعام: ١٢٢].

    فقد جاء هذا التشبيه بديعًا مشوقًا؛ إذ جعل حال المسلم بعد أن صار إلى الإسلام بحال من كان عديم الخير عديم الإفادة، كالميت، فإن الشرك يحول دون التمييز بين الحق والباطل، ويصرف صاحبه عن السعي إلى ما فيه خيره ونجاته، وهو في ظلمة لو أفاق لم يعرف أين ينصرف؟ فإذا هداه الله إلى الإسلام تغير حاله فصار يميز بين الحق والباطل، ويعلم الصالح من الفاسد، فصار كالحي، وصار يسعى إلى ما فيه الصلاح، ويتنكب عن سبيل الفساد فصار في نور يمشي به في الناس70.

    ثالثًا: التنفير:

    ومن مقاصد ضرب المثل في القرآن التنفير من الأعمال السيئة والأخلاق القبيحة، كقوله تعالى: ( ﯓﯔ ﯞﯟ ﯥﯦ ) [الأعراف: ١٧٥ - ١٧٦].

    يكشف هذا المثل الأبعاد النفسية التي اشتملت عليها شخصية الذي يتخلى تمامًا عن آيات الله، ويعرض عنها ابتغاء عرض زائل، ومتاع قليل، وقد استعار كلمة (انسلخ) وعبر بها تعبيرًا دقيقًا عن مدى التصميم في الإعراض والتخلي، وصور بذلك حالة النزاع الشديد في مفارقتها، فهذا التجرد من عناصر الخير يوحي بكيفية تجرد الشاة عن أهابها، ونزعها لردائها أثناء السلخ في مشهد أليم، حتى عادت سنحًا آخر في الهيكل والصورة والتحول، وكذلك أمر هذا الرجل؛ إذ استحال إلى حقيقة أخرى، جوفاء مترهلة، وتأتي الصور متقاطرة العبارات والعبائر، مجلجلة الوقع، فيعقب صورة الانسلاخ صورة الكلب اللاهث في حالتيه، وإخلاده إلى الأرض، وهي شديدة الأثر في تحقيرها لشأن المشبه، وإظهارها لضياعه، وتشرده وضلاله.

    فقد ضرب الله عز وجل هذا المثل لمن لا يعمل بعلمه على سبيل التبكيت والتشنيع والتنفير؛ حتى لا يصير الإنسان مثل الحمار حينما يكون له علم ولا يعمل به.

    وكقوله: ( ﭝﭞ ﭥﭦ ﭫﭬ ﭾﭿ ) [البقرة: ٢٧٥].

    ضرب الله هذا المثل للتنفير من تعاطي الربا، بعد الترغيب في بذل الصدقة لمستحقيها.

    والآية الكريمة تصور المرابي بتلك الصورة المرعبة المفزعة التي تحمل كل عاقل على الابتعاد عن كل معاملة يشم منها رائحة الربا، وهنا ينبغي توضيح أمرين:

    الأول: أن جمهور المفسرين يرون أن هذا القيام المفزع للمرابين يكون يوم القيامة، حين يبعثون من قبورهم، فقيام المرابي يوم القيامة كذلك مما نطقت به الآثار، وهو مما لا يحيله العقل ولا يمنعه؛ ولعل الله تعالى جعل ذلك علامة له يعرف بها يوم الجمع الأعظم عقوبة له.

    أو يكون المراد: تشبيه المرابي في حرصه وتحركه في اكتسابه في الدنيا بالمتخبط المصروع، كما يقال لمن يسرع بحركات مختلفة: قد جن، ولا يخفى أن هذا تأويل مصادم لما عليه سلف الأمة؛ ولما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير داعٍ، سوى الاستبعاد الذي لا يعتبر في مثل هذه المقامات.

    والصواب: أنه لا مانع من أن تكون الآية تصور حال المرابين في الدنيا والآخرة، فهم في الدنيا في قلق مستمر، وانزعاج دائم، واضطراب ظاهر، بسبب جشعهم وشرههم في جمع المال، ووساوسهم التي لا تكاد تفارقهم، وهم يفكرون في مصير أموالهم، ومن يتتبع أحوال بعض المتعاملين بالربا يراهم أشبه بالمجانين في أقوالهم وحركاتهم، أما في الآخرة فقد توعدهم الله تعالى بالعقاب الشديد، والعذاب الأليم71.

    وجمهور المفسرين يرون أيضًا أن التشبيه في الآية الكريمة على الحقيقة، بمعنى أن الآية تشبه حاله بحال المجنون الذي مسه الشيطان؛ لأن الشيطان قد يمس الإنسان فيصيبه بالصرع والجنون، ولا عبرة بمن أنكر ذلك، قال القرطبي: «وفي هذه الآية دليل على فساد إنكار من أنكر الصرع من جهة الجن، وزعم أنه من فعل الطبائع، وأن الشيطان لا يسلك في الإنسان، ولا يكون منه مس»72، فالذي عليه جمهور العلماء من أن التشبيه على الحقيقة هو الحق؛ لأن الشيطان قد يمس الإنسان فيصيبه بالجنون.

    وكذلك ضرب الله مثلًا للتنفير من الركون إلى الدنيا فقال تعالى: (ﯿ ﰏﰐ ) [الكهف: ٤٥].

    يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم أصلًا ولمن قام بوراثته بعده تبعًا-: اضرب للناس مثل الحياة الدنيا؛ ليتصوروها حق التصور، ويعرفوا ظاهرها وباطنها، فيقيسوا بينها وبين الدار الباقية، ويؤثروا أيهما أولى بالإيثار، وأن مثل هذه الحياة الدنيا كمثل المطر ينزل على الأرض فيختلط نباتها، تنبت من كل زوج بهيج، فبينا زهرتها وزخرفها تسر الناظرين وتفرح المتفرجين، وتأخذ بعيون الغافلين إذ أصبحت هشيمًا تذروه الرياح، فذهب ذلك النبات الناضر، والزهر الزاهر، والمنظر البهي، فأصبحت الأرض غبراء ترابًا، قد انحرف عنها النظر، وصدف عنها البصر، وأوحشت القلب، كذلك هذه الدنيا، بينما صاحبها قد أعجب بشبابه، وفاق فيها على أقرانه وأترابه، وحصل درهمها ودينارها، واقتطف من لذته أزهارها، وخاض في الشهوات في جميع أوقاته، وظن أنه لا يزال فيها سائر أيامه؛ إذ أصابه الموت أو التلف لماله، فذهب عنه سروره، وزالت لذته وحبوره، واستوحش قلبه من الآلام، وفارق شبابه وقوته وماله، وانفرد بصالح أو سيئ أعماله، هنالك يعض الظالم على يديه، حين يعلم حقيقة ما هو عليه، ويتمنى العود إلى الدنيا لا ليستكمل الشهوات بل ليستدرك ما فرط منه من الغفلات، بالتوبة والأعمال الصالحات، فالعاقل الجازم الموفق يعرض على نفسه هذه الحالة، ويقول لنفسه: قدري أنك قد مت ولابد أن تموتي، فأي: الحالتين تختارين؟ الاغترار بزخرف هذه الدار، والتمتع بها كتمتع الأنعام السارحة، أم العمل لدار أكلها دائم وظلها، وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين!! فبهذا يعرف توفيق العبد من خذلانه، وربحه من خسرانه73.

آثار ضرب الأمثال

  1. لضرب الأمثال آثار تربوية، وآثار دعوية، وآثار جمالية وفنية، نبينها فيما يأتي:

    أولًا: آثار تربوية:

    ضرب الأمثال أسلوب من أساليب التربية يحث النفوس على فعل الخير، ويحضها على البر، ويدفعها إلى الفضيلة، ويمنعها عن المعصية والإثم، وهو في نفس الوقت يربي العقل على التفكير الصحيح، والقياس المنطقي السليم؛ لما فيه من تقريب وتسهيل للمعاني البعيدة، أو الغامضة عن طريق عرض أمثالها، وما يشابهها من المعاني المحسوسة والواضحة.

    فالأمثال أوقع في النفس، وأبلغ في الوعظ، وأقوى في الزجر، وأقوى في الإقناع، ولأهمية الأمثال وفعاليتها استخدمها القرآن الكريم في مواضع كثيرة، وقد أخبر سبحانه وتعالى أنه لا يعقلها ولا يعيها إلا العالمون، فقال تعالى: ( ﮦﮧ ) [العنكبوت: ٤٣].

    فالأمثال القرآنية ذات مدلولاتٍ تربويةٍ عميقة التأثير، عظيمة الفائدة، تتضافر مع غيرها من وسائل التربية القرآنية، كالقصة، والحوار، وأساليب الإقناع وغيرها في تكوين النظرية التربوية الإسلامية الرائدة، يقول عبد الرحمن النحلاوي ما ملخصه: «لم تكن الأمثال القرآنية والنبوية مجرد عمل فني يقصد من ورائه الرونق البلاغي فحسب، بل إن لها غايات نفسية تربوية، حققتها نتيجة لنبل المعنى، وسمو الغرض، بالإضافة إلى الإعجاز البلاغي، وتأثير الأداء»74.

    وهناك آثار تربوية عديدة للأمثال، منها:

  1. شحذ الذهن واستثارته للتفكير والقياس والتأمل.

    وغير ذلك من العمليات الفكرية والذهنية التي يثيرها المثل، بقصد الإقناع بصحة رسالة الإسلام وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم، حيث تنطوي معظم الأمثال على قياس تذكر مقدماته ويطلب من العقل أن يتوصل إلى النتيجة التي لا يصرح القرآن بها في كثير من الأحيان، بل يشير إليها ويترك للعقل معرفتها.

    ونذكر منها على سبيل المثال: المعنى الذي ضربه الله مثلًا للحق والباطل، في قوله تعالى: ( ﯙﯚ ﯥﯦ ﯫﯬ ﯰﯱ ﯸﯹ ) [الرعد: ١٧].

    ففي هذا المثل استثارة العقل على التفكير والتأمل، حيث شبه الباطل بالزبد الذي يذهب جفاء، وشبه الحق بالماء الذي يمكث في الأرض، فالباطل يضمحل وينمحق، كالزبد الذي يحتمله السيل، وإن علا على الحق في بعض الأوقات، كما يعلو الزبد، والحق ثابت باقٍ، يمكن في القلب، فينتفع به المؤمن، فيثمر عملًا صالحًا، كما يمكث الماء وأسباب الإنبات في الأرض، فيثمر عشبًا وزرعًا ونخلًا وأعنابًا.

  2. تقريب ما غاب عن الذهن من المعاني بصورة بلاغية موجزة.

    تنفذ إلى أعماق النفس، مثيرة للعواطف والوجدان، اعتمادًا على التصوير والتشبيه، كطريقة تربوية وتعليمية، تساعد على توضيح المقاصد، وشرح الأفكار، وتقريب المعاني للأذهان.

    فضرب الأمثال من الأساليب التربوية الإسلامية التي تقرب المعاني المجردة إلى الأذهان، وتقرب المعقول إلى المحسوس فيتقبله العقل، ويدركه ويفهمه؛ وتؤثر في سلوك الأفراد، فتذكر الغافل، وتنبه المعاند، وتبرز المعقول في صورة المحسوس، كما تكشف الأمثال عن الحقائق، وتعرض الماضي في معرض الحاضر، وتضرب الأمثال للترغيب والترهيب.

    وقد تنبه علماء التربية المسلمون إلى هذا الغرض التربوي، فبينوا في دراساتهم أن القرآن يستخدم التشبيه والتمثيل كي يقرب المعاني، ويشير إلى أمور حسيةٍ لشرح أفكار مجردة، فالقرآن لا يخاطب فئة المثقفين وحدهم وإنما يخاطب مختلف الفئات التي منها أقوام أميون لا تستطيع عقولهم أن تقفز مرة واحدة إلى المعقولات، وإنما لابد لها من المرور بمرحلة الإدراك الحسي، فيكون بذلك أقرب إلى الأفهام وأرسخ.

  3. إثارة الانفعالات المناسبة للمعنى وتربية العواطف.

    فنجد المثل القرآني أحيانًا يثير في النفس انفعالًا إيجابيًا، وأحيانًا يثير انفعال الاشمئزاز من الضالين والشعور بتفاهتهم وضياع عقولهم، فانظر إلى معنى قوله تعالى: ( ) [الجمعة: ٥].

    أي: كلفوا العمل بما فيها ( ) [الجمعة: ٥].

    فتشبيههم بالحمار الذي يحمل أسفارًا يثير في النفس قمة النفور والاشمئزاز من حالهم.

  4. حمل الناس على الخير وتنفيرهم من الشر، صيانة لفطرهم من الزلل، ووقاية لهم من الوقوع في الخطأ.
  5. توضيح الفضائل والترغيب فيها.

    فالأمثال كما أنها وسيلة نافعة في الترغيب فهي كذلك وسيلة نافعة للتنفير من الأشياء التي لا يرغب فيها.

  6. القدرة على التوضيح والتأثير والإقناع وعرض الحقائق والاحتجاج لها.

    وذلك مع ما فيها من الإيجاز الذي يفعل فعل الإطناب، فإن ما يحمله المثل من المعاني يفوق بكثير قدرة ما يعادله في الحجم من الكلام المجرد؛ ولهذا يوصى بالتعمق في دراسة أمثال القرآن والسنة وأسلوبهما من أجل الوصول إلى ما فيهما من مناجم السبل النافعة في التعليم والتربية، وبلورتها في منهج واضح يساعد على الانتفاع بها.

    كما ضرب الله مثلًا للدلالة على أنه الإله الحق، وأن الأوثان لا تستحق أن تعبد بقوله: ( ﭿ ﮀﮁ ﮃﮄ ﮆﮇ ) [النحل: ٧٥].

    إذ دل بالمثل على عجز الأصنام عن أن تنفع عابدها بشيء؛ إذ مثل حالها بحال العبد المملوك الذي لا يقدر على شيء، ودل على كمال قدرته؛ إذ جعل في مقابلة العبد المملوك الممثل للأصنام من اتسع رزقه، وكان ينفق منه كيف يشاء، ومن له مسكة من العقل لا يتولى العاجز بالعبادة ويدع عبادة القادر على كل شيء.

  7. تختصر القول وتدرب الإنسان على جودة التفكر وسلامة القياس.

    ولأهمية الأمثال في التربية جاء في كتاب: (التربية الإسلامية وتحديات العصر): «أن الأمثال أوقع في النفس، وأبلغ في الوعظ وأقوى في الزجر، وأقوم في الإقناع، والباحث في التراث التربوي الإسلامي يجد إلى جانب استخدام القرآن الكريم والحديث الشريف للأمثال والأشباه طريقة للتربية والتعليم اهتمام المربين المسلمين بذلك»75.

  8. إشراك أكثر من حاسة من الحواس الإنسانية في تلقي المعنى.

    وتوظيف قدرة العقل الإنساني على التخيل والتصوير في تجلية الحقائق وتقريبها وفهمها، كما أنه يجعل الحقائق أعلق في النفوس، وأثبت في العقول، ويسهل استدامتها وبقاءها في الذاكرة فترة أطول، هذا بالإضافة إلى أنها تساعد في جعل المعنى واضحًا ومشوقًا وممتعًا، وتسهم في دفع الملل عن نفس المتلقي.

  9. مخاطبة النفس الإنسانية بكل أبعادها وجوانبها.

    وتركيزها على العبرة والفائدة المتوخاة دون الاعتداد بالمظهر أو الشكل أو الحجم، ما لم تكن العبرة من المثل متعلقة بشيء منها، وهي تتميز بالدقة في اختيار اللقطة المنتقاة التي تبرز أشد جوانب المثل إثارة، وكذلك استخدامها وشمولها لمختلف مظاهر الطبيعة مما هو من أسرار خلودها، إضافةً إلى السهولة والقرب والبعد عن التعقيد والصعوبة، مما أضفى عليها الصلاحية لمخاطبة مختلف المستويات العلمية والاجتماعية.

    ومن الآثار التربوية التي تثيرها الأمثال القرآنية أيضًا:

    تعرية الباطل وتزييفه، وفضح مواقفه.

  10. كشف الحقائق وإيضاح المعنى في عبارة موجزة بليغة.
  11. توضيح الحق وتثبيته وإقامة حججه وبراهينه.
  12. التحذير من عاقبة كفر النعمة وبطر المعيشة.
  13. استخلاص سنن الله تعالى في الكون والحياة والإنسان.
  14. تقريب الحقائق الغيبية للأذهان.
  15. تصوير الحقائق الإيمانية المجردة بصورة محسوسة.
  16. ربط عالم الشهادة بعالم الغيب.
  17. فضح تناقض المشركين والمنافقين في مواقفهم.
  18. تقرير حقائق للترغيب بها أو التنفير منها.
  19. تفاهة مواقف الكافرين من الحقائق الكبرى76.

    ثانيًا: آثار دعوية:

    للأمثال القرآنية أثر بليغ في تلقي الدعوة بالقبول لما لها من تأثير على النفس والعقل والوجدان؛ ولما تحتويه من بلاغة وإعجاز؛ ولما فيها من تقريب وتسهيل للمعاني البعيدة أو الغامضة، عن طريق عرض أمثالها، وما يشابهها من المعاني المحسوسة والواضحة.

    يقول الزركشي: «وفي ضرب الأمثال من تقرير المقصود ما لا يخفى؛ إذ الغرض من المثل تشبيه الخفي بالجلي والشاهد بالغائب، فالمرغب في الإيمان -مثلًا- إذا مثل له ب تأكد في قلبه المقصود، والمزهد في الكفر إذا مثل له بالظلمة تأكد قبحه في نفسه، وفيه أيضًا تبكيت الخصم، وقد أكثر الله تعالى في القرآن، وفي سائر كتبه من الأمثال»77.

    ويقول العز بن عبد السلام: «إنما ضرب الله الأمثال في القرآن تذكيرًا ووعظًا، فما اشتمل منها على تفاوت في ثواب، أو على إحباط عمل، أو على مدح أو ذم أو نحوه، فإنه يدل على الإحكام»78.

    ولقد جاء القرآن الكريم داعيًا إلى الهداية والرشاد بأساليب شتى؛ فتارةً بالوعد والوعيد، وتارة بالإقناع العقلي، وتارة ثالثة بوخز الضمير والوجدان، ورابعةً بتوجيه الفطرة إلى حقيقتها، وخامسة بالإعجاز بشتى ألوانه، وأحيانًا بأسلوب ضرب المثل الذي هو أقرب الوسائل الدعوية إلى فطرة الإنسان، وأكثر العوامل النفسية تأثيرًا، لما له من الواقعية والصدق، ودقة التصوير، وله من السمات ما ليس لغيره! فيمكن أن يستخدم هذا الأسلوب كوسيلة للتهذيب الخلقي من حثه على الخير أو دفع الشر، فالأمثال بما فيها من تجسيد للمعاني المجردة أقرب إلى النفوس في إحداث الترغيب والترهيب من الوعظ المباشر.

    وهناك آثار دعوية عديدة للأمثال، منها:

  1. ما تورثه في النفس من العظة والعبرة والتذكر.

    قال تعالى: ( ﯞﯟ ) [الزمر: ٢٧].

    وهو نظير قوله: ( ) [القصص: ٥١].

    وتأكيد الخبر في قوله: ( ) [الزمر: ٢٧].

    بلام القسم وحرف التحقيق منظور فيه إلى حال الفريق الذين لم يتدبروا القرآن، وطعنوا فيه، وأنكروا أنه من عند الله، والتعريف في (الناس) للاستغراق، أي: لجميع الناس، فإن الله بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم للناس كافة، و(ضرب المثل): ذكره ووصفه، وتنوين (مثلٍ)؛ للتعظيم والشرف، أي: من كل أشرف الأمثال، فالمعنى: ذكرنا للناس في القرآن أمثالًا هي بعضٌ من كل أنفع الأمثال وأشرفها، والمراد: شرف نفعها.

    وخصت أمثال القرآن بالذكر من بين مزايا القرآن؛ لأجل لفت بصائرهم للتدبر في ناحية عظيمة من نواحي إعجازه، وهي بلاغة أمثاله، فإن بلغاءهم كانوا يتنافسون في جودة الأمثال وإصابتها المحز من تشبيه الحالة بالحالة.

    ومعنى الرجاء في ( ): منصرف إلى أن حالهم عند ضرب الأمثال القرآنية كحال من يرجو الناس منه أن يتذكر، وهذا مثل نظائر هذا الترجي الواقع في القرآن.

    ومعنى التذكر: التأمل والتدبر؛ لينكشف لهم ما هم غافلون عنه، سواء ما سبق لهم به علم فنسوه، وشغلوا عنه بسفساف الأمور، وما لم يسبق لهم علم به، مما شأنه أن يستبصره الرأي الأصيل، حتى إذا انكشف له كان كالشيء الذي سبق له علمه، وذهل عنه، فمعنى التذكر معنًى بديع شامل لهذه الخصائص79.

    ومما ضربه الله لنا من الأمثال للعظة والعبرة قوله تعالى: ( ) [النحل: ١١٢].

    حيث أخبر الله تعالى هنا أن هناك قرية كان أهلها في أمن واستقرار وسعادة ونعيم، تأتيها الخيرات من كل جهة، فلم يشكر أهلها ربهم على ما آتاهم من خير ورزق، فسلبهم الله نعمة الأمان والاطمئنان، وأذاقهم آلام الخوف والجوع والحرمان بسبب كفرهم ومعاصيهم.

    وهذا مثل أهل مكة الذين أمنهم الله بالبيت العتيق، يقصده الناس جميعًا، ولهم تجارتان، في الصيف للشام، وفي الشتاء لليمن، فلما جاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى الإيمان بالله كفروا به وعصوه، فإن لم يتوبوا إلى الله فجزاؤهم سيكون كجزاء أهل القرية المضروب بها المثل، حيث نزلت بها عقوبة الله، وحلت بساحتها نقمته. والمقصود أن من آثار ضرب الأمثال في القرآن حصول التذكر والاتعاظ بما فيها، والتدبر هو غاية كل ذلك ونتيجته؛ ولذلك قال الله عز وجل: ( ) [ص: ٢٩].

    فجعل غاية الإنزال للقرآن التدبر والتذكر؛ ولولا التدبر لما حصل التذكر الذي هو يقظة القلب، وعمران الوجدان بالإيمان.

  2. ما تورثه من الفهم الصحيح لمراد الله ومراد رسوله.

    قال تعالى: ( ﮦﮧ ) [العنكبوت: ٤٣].

    فقوله: ( ) أي: بالله وصفاته وأسمائه، وبمواقع كلامه وحكمه، أي: لا يعقل صحتها وحسنها، ولا يفهم حكمتها إلا هم؛ لأن الأمثال والتشبيهات إنما هي طرق إلى المعاني المستورة حتى يبرزها ويصورها للأفهام، كما صور هذا التشبيه الذي بين فيه حال المشرك وحال المؤمن80.

    والعقل هنا بمعنى الفهم، أي: لا يفهم مغزاها إلا الذين كملت عقولهم، فكانوا علماء غير سفهاء الأحلام، وفي هذا تعريض بأن الذين لم ينتفعوا بها جهلاء العقول، فما بالك بالذين اعتاضوا عن التدبر في دلالتها باتخاذها هزءًا وسخرية...، وهذا من بهتانهم، وإلا فقد علم البلغاء أن لكل مقام مقالًا، ولكل كلمة مع صاحبتها مقامًا81.

    وفي هذا مدح للأمثال التي يضربها، وحثٌ على تدبرها وتعقلها، ومدح لمن يعقلها، وأنه عنوان على أنه من أهل العلم، فعلم أن من لم يعقلها ليس من العالمين، والسبب في ذلك أن الأمثال التي يضربها الله في القرآن إنما هي للأمور الكبار، والمطالب العالية، والمسائل الجليلة، فأهل العلم يعرفون أنها أهم من غيرها؛ لاعتناء الله بها، وحثه عباده على تعقلها وتدبرها، فيبذلون جهدهم في معرفتها، وأما من لم يعقلها مع أهميتها فإن ذلك دليل على أنه ليس من أهل العلم؛ لأنه إذا لم يعرف المسائل المهمة فعدم معرفته غيرها من باب أولى وأحرى؛ ولهذا أكثر ما يضرب الله الأمثال في أصول الدين ونحوها82.

  3. ما تورثه من التدبر والتفكر السليم في كلام الله وكلام رسوله.

    قال تعالى: ( ) [الحشر: ٢١].

    فالله جل وعلا ذكر تلك الأمثال للناس؛ ليتفكروا ويتدبروا فيها، وانظر إلى قوله تعالى: ( ﭧﭨ ) [البقرة: ٢٦٥].

    فهذا المثل يبين لنا مدى الخير الذي يحمله لنا الإنفاق في سبيل الله، ومدى ارتباطه الوثيق بحياتنا، فهو يجعل البركة في الرزق أضعافًا، وهذا في الدنيا، ويجعل الثواب مضاعفًا في الآخرة لمن أراد له الله في الدنيا والآخرة، كما أن هذا المثل أيضًا يعلمنا خلقًا جميلًا من مكارم الأخلاق، وهو ألا يمنن الغني صاحب المال على الفقير ذي الحاجة وألا يؤذيه بالقول أو الفعل.

  4. أنها ذات أثر عميق في تنمية القيم الأخلاقية والاجتماعية لدى المسلم.

    لما لها من تأثير إيجابي في العواطف والمشاعر، وفي تحريك نوازع الخير في النفس البشرية.

    يقول الماوردي: «للأمثال من الكلام موقع في الأسماع، وتأثير في القلوب لا يكاد الكلام المرسل يبلغ مبلغها، ولا يؤثر تأثيرها؛ لأن المعاني بها لائحة، والشواهد بها واضحة، والنفوس بها وامقة، والقلوب بها واثقة، والعقول لها موافقة؛ فلذلك ضرب الله الأمثال في كتابه العزيز وجعلها من دلائل رسله، وأوضح به الحجة على خلقه؛ لأنها في القلوب مقبولة، وفي العقول مقبولة»83.

    ومن الآثار الدعوية للأمثال القرآنية أيضًا:

  1. تنبيه المخطئ إلى خطئه، والمحسن إلى إحسانه.
  2. الإعانة على فهم المعاني الرائعة بألفاظ موجزة، وتقديم أفكار غزيرة ودقيقة؛ لتدل على المراد بعبارة مختصرة.
  3. تقرير المقصود، ففيها كشف للمعاني، وتشبيه الخفي منها بالجلي، والغائب بالشاهد.
  4. الترغيب والترهيب، وذلك إما بالمدح أو التعظيم، أو بالذم أو التحقير، مما ينعكس على السلوك إقبالًا أو نفورًا.
  5. قوة وقعها على الأسماع، وتأثيرها في القلوب، فهي بالغة في الوعظ، قوية في الزجر، وإقامة الحجة والقياس والاستنباط، وأقوم على الإقناع بذكرها محاسن الحق والترغيب فيه، وذكرها قبائح الباطل والتنفير منه.
  6. إثارة المشاعر بتركيزها على محور الطمع أو الرغبة أو الخوف أو الحذر لدى الشخص المخاطب.
  7. تحريك الطاقات الفكرية، وشحذ الذهن؛ لتوجيهه للفكر والتأمل من أجل إدراك المراد.
  8. الدلالة على الحكم والفوائد العلمية والأحكام الشرعية في جوانب العقيدة.
  9. تربية النفوس بإظهار نموذج القدوة الحسنة؛ للاقتداء بها، وإظهار نموذج القدوة السيئة؛ للنفور منها، والاعتبار بها.
  10. ترسيخ مفاهيم التوحيد والإيمان، والإبلاغ عن المغيبات، كما توجه المخاطب إلى أداء العبادات، والالتزام بالأخلاق الحسنة، وتجنب الأخلاق السيئة.
  11. تبكيت الخصم، وإقناعه، وإقامة الحجة عليه.

    ثالثًا: آثار جمالية وفنية:

    ضرب الأمثال في القرآن الكريم من أساليب الصياغة الفنية الرائعة الدالة على إعجاز القرآن في إبراز المعاني في قالب حسن يقربها إلى الأفهام، وفي صور حية تستقر في الأذهان؛ لما فيها من تشبيه الغائب بالحاضر، والمعقول بالمحسوس، وقياس النظير على النظير. وقد سميت الحكم القائم صدقها في العقول أمثالًا؛ لانتصاب صورها في العقول مشتقة من المثول الذي هو الانتصاب84.

    وترجع جمالية الأمثال القرآنية إلى جمالية كلام الله تعالى فهو كلام معجز، له رونق وجمال وحلاوة وطلاوة، يقف البليغ أمامها عاجزًا، ويصمت الناقد أمامها مندهشًا حائرًا، ومنذ قرون عدة والكتب في إعجازه وبلاغته وفصاحته تؤلف وتدرس، ولم يحط ببلاغته الأدباء والبلغاء.

    وترجع جمالية المثل القرآني إلى أنه يجتمع فيه أربعة أمور لا تجتمع في غيره من الكلام: إيجاز اللفظ، وإصابة المعنى، وحسن التشبيه، وجودة الكناية، فهو نهاية البلاغة85.

    يقول الزركشي رحمه الله مبينًا أهمية المثل: «ومن حكمته: تعليم البيان، وهو من خصائص هذه الشريعة، والمثل أعون شيء على البيان ...، وفي ضرب الأمثال من تقرير المقصود ما لا يخفى؛ إذ الغرض من المثل تشبيه الخفي بالجلي، والشاهد بالغائب ...، وقد أكثر تعالى في القرآن وفي سائر كتبه من الأمثال». ثم قال: «فالأمثال مقادير الأفعال، والمتمثل كالصانع الذي يقدر صناعة، وكل شيء له قالب ومقدار، وقالب الكلام ومقداره الأمثال»86.

    والمقصود أن للأمثال القرآنية القدرة في تحقيق أغراضها وغاياتها عبر صور بيانية ومشاهد فنية، تلقي بظلالها وآثارها الفاعلة في النفس البشرية، والتي ما سيقت هذه الأمثال إلا لها ومن أجلها؛ بغية خيرها وصلاحها في حالها ومآلها.

    ولكي نقف على بعض الآثار الجمالية والفنية للأمثال لابد من استعراض بعض الأمثال القرآنية:

    ضرب الله مثلًا للمشرك كمثل العطشان الذي يمد يديه إلى الماء من بعيد يريد أن يتناوله ولا يقدر عليه: فقال تعالى: ( ﭓﭔ ﭦﭧ ) [الرعد: ١٤].

    فلو نظرت إلى مثل هذا الشخص على هذه الحالة، وفي تلك الصورة بكل أجزائها، وهو باسط يده، مفرجة الأصابع إلى ماء بعيد عنه، وهو فاغر فاه ليشرب، لقلت: وأي جدوى تعود عليه؟! ومتى يذوق الماء وهو على تلك الحالة؟! إنه يموت عطشًا ولا يذوق منه قطرة.

    والمقصود من التشبيه في هذه الآية الكريمة نفي استجابة الأصنام لما يطلبه المشركون منها نفيًا قاطعًا، حيث شبه سبحانه حال هذه الآلهة الباطلة عندما يطلب المشركون منها ما هم في حاجة إليه بحال إنسان عطشان، ولكنه غبي أحمق؛ لأنه يمد يده إلى الماء طالبًا منه أن يصل إلى فمه دون أن يتحرك هو إليه؛ فلا يصل إليه شيء من الماء؛ لأن الماء لا يسمع نداء من يناديه، ففي هذه الجملة الكريمة تصوير بليغ لخيبة وجهالة من يتوجه بالعبادة والدعاء لغير الله تعالى .

    وأجرى سبحانه على الأصنام ضمير العقلاء في قوله: ( ) [الرعد: ١٤]؛ مجاراة للاستعمال الشائع عند المشركين؛ لأنهم يعاملون الأصنام معاملة العقلاء، ونكر (شيئًا) في قوله: ( ) [الرعد: ١٤]؛ للتحقير، والمراد: أنهم لا يستجيبون لهم أية استجابة، حتى ولو كانت شيئًا تافهًا، والاستثناء في قوله: ( ) [الرعد: ١٤من أعم الأحوال، أي: لا يستجيب الأصنام لمن طلب منها شيئًا إلا استجابة كاستجابة الماء لملهوف بسط كفيه إليه، يطلب منه أن يدخل فمه، والماء لا يشعر ببسط كفيه ولا بعطشه، ولا يقدر أن يجيب طلبه، ولو مكث على ذلك طوال حياته، والضمير (هو) في قوله: ( ) [الرعد: ١٤].

    للماء، والهاء في () للفم: أي: وما الماء ببالغ فم هذا الباسط كفيه، وقيل الضمير (هو): للباسط، والهاء: للماء، أي: وما الباسط لكفيه ببالغ الماء فمه87.

    وضرب الله في سورة البقرة للمنافقين مثلين، مثلًا مائيًا، ومثلًا ناريًا، وكذلك ضرب لهم المثلين في سورة الرعد، أما في سورة البقرة، ففي ختام الربع الأول، قال تعالى: ( ) [البقرة: ١٧].

    فهذا المثل الناري، والمثل المائي في قوله تعالى: ( ﭹﭺ ﭿ ﮂﮃ ﮌﮍ ﮓﮔ ) [البقرة: ١٩ ٢٠].

    شبه سبحانه أعداءه المنافقين بقوم أوقدوا نارًا؛ لتضيء لهم وينتفعوا بها، فلما أضاءت لهم النار فأبصروا في ضوئها ما ينفعهم ويضرهم، وأبصروا الطريق بعد أن كانوا حيارى تائهين تركوه، فهم كقوم سفر ضلوا عن الطريق، فأوقدوا النار تضيء لهم الطريق، فلما أضاءت لهم فأبصروا وعرفوا طفئت تلك الأنوار، وبقوا في الظلمات لا يبصرون، قد سدت عليهم أبواب الهدى الثلاث، فإن الهدى يدخل إلى العبد من ثلاثة أبواب؛ مما يسمعه بأذنه، ويراه بعينه، ويعقله بقلبه، وهؤلاء قد سدت عليهم أبواب الهدى، فلا تسمع قلوبهم منه شيئًا، ولا تبصره، ولا تعقل ما ينفعها، وقيل: لما لم ينتفعوا بأسماعهم وأبصارهم وقلوبهم نزلوا بمنزلة من لا سمع له ولا بصر ولا عقل، والقولان متلازمان.

    وقال في صفتهم: ( ) [البقرة: ١٨]؛ لأنهم قد رأوا في ضوء النهار، وأبصروا الهدى، فلما طفئت عنهم لم يرجعوا إلى ما رأوا وأبصروا، وقال سبحانه وتعالى: ( ) [البقرة: ١٧].

    ولم يقل: ذهب نورهم، وفيه سر بديع؛ وهو انقطاع سر تلك المعية الخاصة التي هي للمؤمنين من الله تعالى، فإن الله تعالى مع المؤمنين، وإن الله مع الصابرين، وإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون، فذهاب الله بذلك انقطاع لمعيته التي خص بها أولياءه، فقطعها فيما بينه وبين المنافقين، فلم يبق عندهم بعد ذهاب نورهم ولا معهم.

    وتأمل قوله تعالى: (ﭗﭘ ) [البقرة: ١٧].

    كيف جعل ضوءها خارجًا عنه منفصلًا، ولو اتصل ضوؤها به ولابسه لم يذهب، ولكنه كان ضوءه مجاورةً لا ملابسة ومخالطة، وكان الضوء عارضًا، والظلمة أصلية، فرجع الضوء إلى معدنه، وبقيت الظلمة في معدنها، فرجع كل منهما إلى أصله اللائق به، حجة من الله قائمة، وحكمة بالغة، تعرف بها إلى أولي الألباب من عباده.

    وتأمل قوله تعالى: ( ) [البقرة: ١٧].

    ولم يقل: بنارهم؛ ليطابق أول الآية، فإن النار فيها إشراق وإحراق، فذهب بما فيها من الإشراق وهو ، وأبقى عليهم ما فيها من الإحراق وهو النارية.

    وتأمل كيف قال: () [البقرة: ١٧] ولم يقل: (بضوئهم) مع قوله: ( ) [البقرة: ١٧].

    لأن الضوء هو زيادة في ، فلو قيل: ذهب الله بضوئهم لأوهم الذهاب بالزيادة فقط دون الأصل، فلما كان أصل الضوء كان الذهاب به ذهابًا بالشيء وزيادته، و أيضًا فإنه أبلغ في النفي عنهم، وأنهم من أهل الظلمات الذين لا نور لهم، و أيضًا فإن الله تعالى سمى كتابه نورًا، ورسوله نورًا، ودينه نورًا، وهداه نورًا، ومن أسمائه ، والصلاة نور، فذهابه سبحانه بنورهم ذهاب بهذا كله.

    وتأمل مطابقة هذا المثل لما تقدمه من قوله: ( ) [البقرة: ١٦].

    كيف طابق هذه التجارة الخاسرة التي تضمنت حصول الضلالة والرضا بها، وبدل الهدى في مقابلتها، وحصول الظلمات التي هي الضلالة والرضا بها بدلًا عن الذي هو الهدى و، فبدلوا الهدى و، وتعوضوا عنه بالظلمة والضلالة، فيا لها من تجارة، ما أخسرها! وصفقة ما أشد غبنها!

    وتأمل كيف قال الله تعالى: ( ) فوحد ، ثم قال: ( ) فجمع الظلمة، فإن الحق واحد، وهو صراط الله المستقيم الذي لا صراط يوصل إليه سواه، وهو عبادته وحده لا شريك له، بما شرعه على لسان رسوله، لا بالأهواء والبدع وطرق الخارجين عما بعث الله به رسوله من الهدى ودين الحق، بخلاف طرق الباطل فإنها متعددة متشعبة.

    ولهذا يفرد سبحانه الحق، ويجمع الباطل، كقوله تعالى: ( ﭙﭚ ﭣﭤ ﭧﭨ ) [البقرة: ٢٥٧].

    وقال تعالى: ( ﭾﭿ ) [الأنعام: ١٥٣].

    فجمع سبل الباطل، ووحد سبيل الحق، ولا يناقض هذا قوله تعالى: ( ) [المائدة: ١٦].

    فإن تلك هي طرق مرضاته التي يجمعها سبيله الواحد، وصراطه المستقيم، فإن طرق مرضاته كلها ترجع إلى صراط واحد، وسبيل واحد، وهو سبيله التي لا سبيل إليه إلا منها...، وقد قيل: إن هذا مثل للمنافقين وما يوقدونه من نار الفتنة التي يوقعونها بين أهل الإسلام، ويكون بمنزلة قول الله تعالى: ( ) [المائدة: ٦٤].

    ويكون قوله تعالى: ( ) [البقرة: ١٧].

    مطابقًا لقوله تعالى: ( ) [المائدة: ٦٤].

    ويكون تخييبهم، وإبطال ما راموه هو تركهم في ظلمات الحيرة لا يهتدون إلى التخلص مما وقعوا فيه، ولا يبصرون سبيلًا، بل هم صم بكمٌ عمي، وهذا التقدير وإن كان حقًا ففي كونه مرادًا بالآية نظر، فإن السياق إنما قصد غيره، ويأباه قوله تعالى: ( ) [البقرة: ١٧].

    وموقد نار الحرب لا يضيء ما حوله أبدًا، ويأباه قوله تعالى: ( ) [البقرة: ١٧].

    وموقد نار الحرب لا نور له، ويأباه قوله تعالى: ( ) [البقرة: ١٧].

    وهذا يقتضي أنهم انتقلوا من نور المعرفة والبصيرة إلى ظلمة الشك والكفر، قال الحسن رحمه الله: هو المنافق أبصر ثم عمي، وعرف ثم أنكر؛ ولهذا قال: ( ) [البقرة: ١٨].

    أي: لا يرجعون إلى الذي فارقوه، وقال تعالى -في حق الكفار-: ( ) [البقرة: ١٧١].

    فسلب العقل عن الكفار؛ إذ لم يكونوا من أهل البصيرة والإيمان، وسلب الرجوع عن المنافقين؛ لأنهم آمنوا ثم كفروا فلم يرجعوا إلى الإيمان88.

    وأيضًا في إسناد ذهب في قوله: ( ) [البقرة: ١٧].

    إشعار بأن الذي سلب عنهم لن يستطيع أحد أن يرده عليهم؛ لأن الذي سلبه عنهم إنما هو الله الغالب على أمره. أو لأنه حصل بلا سبب من ريح أو مطر أو إطفاء مطفئ، والعرب يسندون الأمر الذي لم يتضح سببه لاسم الله تعالى.

    المثل المائي:

    قال تعالى: ( ) [البقرة: ١٩].

    وقال تعالى: (ﭿ ﮂﮃ ) [البقرة: ٢٠].

    هذا مثل آخر مائي ضربه الله سبحانه للمنافقين، فقال تعالى: ( ) [البقرة: ١٩].

    فشبه نصيبهم مما بعث الله تعالى به رسوله من والحياة بنصيب المستوقد النار التي طفئت عنه أحوج ما كان إليها، وذهب نوره، وبقي في الظلمات حائرًا تائهًا، لا يهتدي سبيلًا، ولا يعرف طريقًا، وبنصيب أصحاب الصيب وهو المطر الذي يصوب، أي: ينزل من علو إلى أسفل، فشبه الهدى الذي هدى به عباده بالصيب؛ لأن القلوب تحيا به حياة الأرض بالمطر، ونصيب المنافقين من هذا الهدي بنصيب من لم يحصل له نصيب من الصيب إلا ظلمات ورعد وبرق، ولا نصيب له فيما وراء ذلك، مما هو المقصود بالصيب من حياة البلاد والعباد والشجر والدواب، وإن تلك الظلمات التي فيه، وذلك الرعد والبرق مقصود لغيره، وهو وسيلة إلى كمال الانتفاع بذلك الصيب، فالجاهل لفرط جهله يقتصر على الإحساس بما في الصيب من ظلمة ورعد وبرق ولوازم ذلك من برد شديد، وتعطيل مسافر عن سفره، وصانع عن صنعته، ولا بصيرة له تنفذ إلى ما يؤول إليه أمر ذلك الصيب من الحياة والنفع العام.

    وهكذا شأن كل قاصر النظر ضعيف العقل لا يجاوز نظره الأمر المكروه الظاهر إلى ما وراءه من كل محبوب، وهذه حال أكثر الخلق إلا من صحت بصيرته، فإذا رأى ضعيف البصيرة ما في الجهاد من التعب والمشاق والتعرض لإتلاف المهجة والجراحات الشديدة، وملامة اللوام، ومعاداة من يخاف معاداته لم يقدم عليه؛ لأنه لم يشهد ما يؤول إليه من العواقب الحميدة، والغايات التي إليها تسابق المتسابقون، وفيها تنافس المتنافسون، وكذلك من عزم على سفر الحج إلى البيت الحرام فلم يعلم من سفره ذلك إلا مشقة السفر، ومفارقة الأهل والوطن، ومقاساة الشدائد، وفراق المألوفات، ولا يجاوز نظره وبصيرته آخر ذلك السفر ومآله وعاقبته، فإنه لا يخرج إليه، ولا يعزم عليه، وحال هؤلاء حال ضعيف البصيرة والإيمان الذي يرى ما في القرآن من الوعد والوعيد، والزواجر والنواهي، والأوامر الشاقة على النفوس، التي تفطمها عن رضاعها من ثدي المألوفات والشهوات، والفطام على الصبي أصعب شيء وأشقه، والناس كلهم صبيان العقول إلا من بلغ مبالغ الرجال العقلاء الألباء، وأدرك الحق علمًا وعملًا ومعرفة، فهو الذي ينظر إلى ما وراء الصيب، وما فيه من الرعد والبرق والصواعق، ويعلم أنه حياة الوجود89.

    قال الزمخشري: «لقائل أن يقول: شبه دين الإسلام بالصيب؛ لأن القلوب تحيا به حياة الأرض بالمطر، وما يتعلق به من تشبه الكفار بالظلمات، وما فيه من الوعد والوعيد بالرعد والبرق، وما يصيب الكفرة من الأفزاع من البلايا والفتن من جهة أهل الإسلام بالصواعق، والمعنى: أو كمثل ذوي صيب، والمراد: كمثل قوم أخذتهم السماء على هذه الصفة، فلقوا منها ما لقوا...، قال: فإن قلت: أي المثلين أبلغ؟ قلت: الثاني؛ لأنه أدل على فرط الحيرة وشدة الأمر وفظاعته؛ ولذلك أخر، وهم يتدرجون في مثل هذا من الأهون إلى الأغلظ»90.

    بيت العنكبوت:

    ومما يبين جمال الأمثال القرآنية وبلاغتها قوله تعالى: (ﭿ ﮉﮊ ﮏﮐ ) [العنكبوت: ٤١].

    يقول الحق جل جلاله: (ﭿ ) أصنامًا يعبدونها، أي: مثل من أشرك بالله الأوثان في الضعف وسوء الاختيار ( ) أي: كمثل العنكبوت فيما تتخذه لنفسها من بيت، فإنه لا يدفع الحر والبرد، ولا يقي ما تقي البيوت، فكذلك الأوثان لا تنفعهم في الدنيا والآخرة، بل هي أوهى وأضعف، فإن لبيت العنكبوت حقيقةً وانتفاعًا عامًا، وأما الأوثان فتضر ولا تنفع ( ) أي: أضعفها ( ) لا بيت أوهن من بيته؛ إذ أضعف شيء يسقطها91.

    وهذه الهيئة المشبه بها مع الهيئة المشبهة قابلة لتفريق التشبيه على أجزائها، فالمشركون أشبهوا العنكبوت في الغرور بما أعدوه، وأولياؤهم أشبهوا بيت العنكبوت في عدم الغناء عمن اتخذوها وقت الحاجة إليها، وتزول بأقل تحريك وأقصى ما ينتفعون به منها نفع ضعيف، وهو السكنى فيها، وتوهم أن تدفع عنهم كما ينتفع المشركون بأوهامهم في أصنامهم، وهو تمثيل بديع من مبتكرات القرآن.

    وجملة: ( ) [العنكبوت: ٤١].

    معترضة مبينة وجه الشبه، وهذه الجملة تجري مجرى المثل، فيضرب لقلة جدوى شيء، فاقتضى ذلك أن الأديان التي يعبد أهلها غير الله هي أحقر الديانات وأبعدها عن الخير والرشد، وإن كانت متفاوتة فيما يعرض لتلك العبادات من الضلالات، كما تتفاوت بيوت العنكبوت في غلظها بحسب تفاوت الدويبات التي تنسجها في القوة والضعف92.

    ولماذا لم يقل: أوهن الخيوط خيط العنكبوت؟ فلو كان القرآن من عند محمد صلى الله عليه وسلم لقال ذلك؛ ولكن هذا يخالف الحقيقة العلمية الثابتة بأن خيط العنكبوت أقوى من مثيله من الفولاذ، فكان التعبير الدقيق ( ) [العنكبوت: ٤١]93.

    موضوعات ذات صلة:

    التدبر، التفكر، العقل


1 انظر: لسان العرب، ابن منظور، ١١/٦١٠.

2 المفردات، ص ٧٥٩.

3 انظر: المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، محمد فؤاد عبد الباقي، ص ٦٥٩-٦٦١.

4 انظر: الوجوه والنظائر، الدامغاني ص٤١٥-٤١٦.

5 القاموس المحيط، الفيروزآبادى، ٤ / ٤٩.

6 الحاوي للفتاوى، ٣/ ٤١٠.

7 المفردات، ص٤٦٢.

8 لسان العرب، ١٣/ ٥٠٣.

9 الأعياد وأثرها على المسلمين، ص ٩٩.

10 انظر: الفروق اللغوية، العسكري، ص ١٥٣.

11 انظر: مختار الصحاح، ص ٣١٣.

12 الفروق اللغوية، العسكري، ص٤٨٠.

13 انظر: المصدر السابق، ص ١٥٥.

14 أنوار التنزيل، البيضاوي ١/٢٥٤.

15 إرشاد العقل السليم، أبو السعود ١/٧٢.

16 التفسير الوسيط، طنطاوي ١/ ٦٠٨.

17 البنية الأسلوبية للأمثال القرآنية، عبدالسلام الراغب ص٧.

18 انظر: الكشاف، الزمخشري ٧ / ٥٩.

19 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٢٨/٢١٤.

20 انظر: التحرير والتنوير، ابن عاشور ٨/٤٥.

21 التسهيل لعلوم التنزيل، ابن جزي ٢/٤٦٨.

22 انظر: البحر المديد، ابن عجيبة ٥/٣١٦.

23 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٢٣/٤٠١.

24 المصدر السابق ٢٣/٤٠٢.

25 التفسير القيم، ابن القيم ٢/١١٠.

26 انظر: تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص٤٤٤.

27 انظر: التفسير القيم، ابن القيم ٢/١٥.

28 التحرير والتنوير، ابن عاشور ١٤/٢٢٤.

29 انظر: التحرير والتنوير ١٤/٢٢٥.

30 انظر: البحر المديد ٣ / ٢٨٦.

31 اللباب في علوم الكتاب، ابن عادل ١٠/ ١٦٨.

32 انظر: التفسير القيم، ابن القيم ص ١٦.

33 التحرير والتنوير ١٤/٢٢٧.

34 انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية التفسير ٢/ ٤٩٥.

35 تفسير القرآن الكريم، ابن عثيمين ٦/٦٠.

36 انظر: تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٤/ ٤٩١.

37 انظر: التفسير القيم، ابن القيم ص٥٠٠.

38 انظر: تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٤/٤٩٣.

39 انظر: زهرة التفاسير، أبو زهرة ٨/٤٠٢٠.

40 التحرير والتنوير، ابن عاشور ١٨/٢٣٥.

41 التسهيل لعلوم التنزيل، ابن جزي ٢/٢٦٣.

42 المصدر السابق ٢/٢٦٤.

43 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص٦٣١.

44 انظر: نور التوحيد وظلمات الشرك، سعيد القحطاني ص١٨.

45 انظر: التحرير والتنوير، ابن عاشور ٢٨/٣٧٤.

46 انظر: المصدر السابق.

47 التفسير القيم، ابن القيم: ١٥٢.

48 الغلة والمغل: الدخل، من كراء دار، وأجر غلام، وفائدة أرض، وأغلت الضيعة: أعطت الغلة.

انظر: المحكم، ابن سيده ٢/٣٨٩.

49 الأمثال في القرآن الكريم، ابن القيم ص٥١.

50 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص٧٩٥.

51 في ظلال القرآن، سيد قطب ٦/٤٨٦.

52 انظر: تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٣/٥٠٩.

53 الوسيط، سيد طنطاوي ١/١٧٣٩.

54 التحرير والتنوير، ابن عاشور ١/١٦٧٣.

55 البيتان في ديوان محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني ص ١٣١ من قصيدته الدالية التي مطلعها:

سلامي على نجد ومن حل في نجد

وإن كان تسليمي على البعد لا يجدي

56 انظر: التحرير والتنوير، ابن عاشور ٩/١٧٦.

57 المصدر السابق ٩/١٧٧.

58 انظر: المصدر السابق.

59 التفسير القيم، ابن القيم ص٤٤٥.

60 انظر: دراسات في علوم القرآن، محمد بكر إسماعيل ص ٣٥٤،٣٦١.

61 البرهان في علوم القرآن، الزركشي ١/٤٨٧.

62 الإتقان في علوم القرآن، السيوطي ٢/١٠٤١.

63 أعلام الموقعين ١/٢٩١.

64 المصدر السابق ١/٢٤٠.

65 الكشاف، الزمخشري ١/١٩٥.

66 إرشاد العقل السليم، أبو السعود ١/٧٢.

67 التفسير القيم، ابن القيم ص٤٧٠.

68 اللباب في علوم الكتاب، ابن عادل ٨/٤٥١.

69 مفاتيح الغيب، الرازي ١/٣٤٥.

70 انظر: التحرير والتنوير، ابن عاشور ٨/٤٥.

71 انظر: الوسيط، سيد طنطاوي ١/٥١٠.

72 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٣/٣٥٥.

73 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص٤٧٨.

74 التربية بضرب الأمثال، النحلاوي ص٢٠.

75 التربية الإسلامية وتحديات العصر، عبود، عبد الغني العال، حسن إبراهيم ص٤٩٥.

76 ضرب الأمثال في القرآن، عبد المجيد البيانوني ص٥٩.

77 البرهان في علوم القرآن ١/٤٨٨.

78 الإتقان في علوم القرآن، السيوطي ٢/١٠٤١.

79 انظر: التحرير والتنوير، ابن عاشور ٢٣/٣٩٧.

80 البحر المديد، ابن عجيبة ٤/٤٧٧.

81 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٢٠/٢٥٦.

82 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص٦٣١.

83 أدب الدنيا والدين، ص ٢٧٥.

84 مجمع الأمثال، أبو الفضل الميداني ١/٦.

85 المصدر السابق.

86 البرهان في علوم القرآن ١/٤٨٨

87 انظر: الوسيط، سيد طنطاوي ٥/٢٣٧١.

88 التفسير القيم، ابن القيم ص١٨٠.

89 المصدر السابق ص١٨٣.

90 الكشاف ١/٤٧.

91 البحر المديد، ابن عجيبة ٢٠/٢٥٣.

92 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٢٠/٢٥٣.

93 انظر: المفصل في الرد على شبهات أعداء الإسلام، علي الشحود ٦/٢٥١.