عناصر الموضوع

مفهوم الأنصار

الأنصار في الاستعمال القرآني

الألفاظ ذات الصلة

صفات الأنصار وأعمالهم

فضائل الأنصار

الأنصار

مفهوم الأنصار

أولًا: المعنى اللغوي:

الأنصار: جمع ناصر، كصاحب وأصحاب، كما تجمع ناصر على ناصرين ونصار، اسم فاعل من نصر.

أو جمع نصير، كشريف وأشراف، (ناصر أو نصير) وكلاهما صواب، والنصير: فعيل، بمعنى فاعل أو مفعول؛ لأن كل واحد من المتناصرين ناصر ومنصور.

ونصير: صيغة مبالغة من ناصر، ومعناه: المساعد، والمعين، والمناصر، والمؤيد.

يقال: نصره على عدوه ينصره نصرًا، واستنصره على عدوه: سأله أن ينصره عليهم، وتناصر القوم: إذا نصر بعضهم بعضًا، وانتصر منه: انتقم1.

ولفظ الأنصار يأتي بمعنى: الأعوان المناصرين والمؤازرين والأتباع والحلفاء، وأهل الاتباع والتصديق.

وهذا اللفظ (الأنصار) بهذا المعنى اللغوي يمكن إطلاقه لغةً على كل من اتصف بهذا الوصف.

ثانيًا: المعنى الاصطلاحي:

وفي المعنى الاصطلاحي الأمر ليس ببعيد عن المعنى اللغوي، فأنصار الرجل هم حلفاؤه وأتباعه ومؤيدوه في النزاعات، ومعاونوه على أمره.

ومن هنا جاء تعريف الأنصار في الاصطلاح الشرعي بأنهم الأوس، والخزرج من الأزد: سماهم الله عز و جل بذلك لما نصروا رسوله، وآووه، وكانوا له نعم الحلفاء والأتباع2.

فالأنصار اصطلاحًا: يطلق على من أسلم من أهل المدينة بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم من الأوس، والخزرج، ومزينة، وسليم، وجهينة، وغفار، وأسلم، فكل هؤلاء يسمون الأنصار، وهو اسم سماه الله تعالى لكل من ناصر نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم وآواه في المدينة3، وأولادهم يدخلونه بالنسب؛ فيقال: الأنصاري للواحد منهم ومن أبنائهم.

الأنصار في الاستعمال القرآني

وردت مادة (نصر) في القرآن (١٥٥) مرة، يخص موضوع البحث منها (١١) مرة4.

والصيغ التي وردت هي:

الصيغة

عدد المرات

المثال

الجمع

١١

( ) [البقرة:٢٧٠]

وجاءت كلمة (الأنصار) في الاستعمال القرآني بمعناها اللغوي، وهو: الأعوان5.

الألفاظ ذات الصلة

الصحابة:

الصحابة لغة:

الصحابة بالفتح: جمع صاحب، ولم يجمع فاعل على فعالة إلا هذا6.

الصحابة اصطلاحًا:

هو من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمنًا به، ومات على الإسلام، ولو تخللت ردةٌ في الأصح7.

الصلة بين الأنصار والصحابة:

عند الحديث عن الفرق بين لفظة الأنصار ولفظة الصحابة وكذلك الألفاظ الثلاثة التالية يكون المقصود منه الاصطلاح الشرعي، فيكون لفظ الأنصار أخص من لفظ الصحابة، إذ الصحابة منهم المهاجرون والأنصار والطلقاء، ومن دخل في دين النبي صلى الله عليه وسلم من القبائل بعد الفتح.

المهاجرون:

المهاجرون لغة:

جمع مهاجر، والمهاجر هو كل من فارق رباعه من بدوي أو حضري وسكن بلدًا آخر8.

ا لمهاجرون اصطلاحًا:

هم الذين صلوا إلى القبلتين، أو شهدوا بدرًا، أو أسلموا قبل الهجرة9.

الصلة بين الأنصار والمهاجرين:

الأنصار هم أهل المدينة الذين آووا النبي صلى الله عليه وسلم ومن هاجر إليهم من أهل الإسلام من مكة، والمهاجرون هم الذين قدموا المدينة مع النبي صلى الله عليه وسلم، أو هاجروا إليه منها بعد ذلك، وقبل انتهاء أجل الهجرة.

الطلقاء:

الطلقاء لغة:

أطلقت الأسير، وهو طليق، وهو من الطلقاء. وأطلقت الناقة من عقالها فطلقت10.

الطلقاء اصطلاحًا:

هم أهل مكة الذين أسلموا بعد فتحها.

الصلة بين الأنصار والطلقاء:

الأنصار من أهل المدينة وإسلامهم متقدم على إسلام الطلقاء، أما الطلقاء فهم أهل مكة وإسلامهم كان بعد فتح مكة.

التابعون:

التابعون لغة:

جمع تابع، وهو التالي، ومنه التتبع والمتابعة، والإتباع، والتتبع، تقول: تتبعت علمه، أي: اتبعت آثاره11.

التابعون اصطلاحًا:

من لقي الصحابي، وإن لم تطل صحبته12.

الصلة بين الأنصار والتابعين:

الأنصار صحبوا النبي صلى الله عليه وسلم ورأوه وهم من قرن النبي صلى الله عليه وسلم، بينما التابعون هم من صحبوا الصحابة بعد موت النبي، أو قبل ذلك ولم يحصل لهم شرف الصحبة.

صفات الأنصار وأعمالهم

تحدث القرآن الكريم عن صفات الأنصار وأعمالهم، وسوف نتناول ذلك بالبيان فيما يأتي:

أولًا: أبرز صفات الأنصار:

اصطفى الله سبحانه لهذا الدين رجالًا، كان لهم الحظ الأوفر، والشرف العظيم في نصرة الدين والنبي صلى الله عليه وسلم وإيوائه بعد أن خذله الناس، ألا وهم الأنصار، فهم من آوى الرسول ونصر، وكبت المشركين وقهر؛ ولهذا فحبهم ثابت في قلب كل مسلم، وبغضهم متقد في قلب كل منافق.

وقد شهد الكتاب العزيز بفضلهم، وبرضوان الله عليهم؛ لما قدموا من خدمة لهذا الدين، فخلد الله مديحهم ورضوانه عليهم في كتابه.

ولو تأملنا في صفات الأنصار في القرآن الكريم، وأمعنا النظر لوجدنا فضائلهم جمة، ومناقبهم عظيمة، بلغوا فيها غاية الكمال، ونالوا بها رضا ربهم الكريم المنان، فهو تارة يصفهم بالسابقين الأولين، وتارة بالإيواء والنصرة والإيمان، وتارة يصفهم بالفلاح، وتارة يثني على جهادهم وصبرهم وإيثارهم، وتارة يخبر بالرضا والتوبة عنهم.

وقد أشار إلى بعض أفعالهم وصفاتهم، ومنها: تبوءهم المدينة، وحبهم للمهاجرين، وإيثارهم إياهم، وسلامة صدورهم، كما في قوله تعالى: ( ﯽﯾ ﯿ ) [الحشر: ٩].

وأشار إليهم في قوله: ( ﯞﯟ ) [الأنعام: ٨٩].

فقوله: ( ) قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: «وقوله: ( ) يعني: أهل مكة، قاله ابن عباس وسعيد بن المسيب والضحاك وقتادة والسدي وغير واحد، وقوله: ( ) أي: إن يكفر بهذه النعم من كفر بها من قريش وغيرهم من سائر أهل الأرض، من عرب وعجم، ومليين وكتابيين، فقد وكلنا بها قومًا آخرين، أي: المهاجرين والأنصار، وأتباعهم إلى يوم القيامة»13.

وكذا قال البغوي: «أن المراد بقوله: ( ) يعني: الأنصار وأهل المدينة»14. وقال القرطبي: « ( ) جواب الشرط، أي: وكلنا بالإيمان بها ( ) يريد الأنصار من أهل المدينة، والمهاجرين من أهل مكة»15.

وقال الطبري بعد أن ذكر عدة أقوال في المراد بقوله: ( ): «وأولى هذه الأقوال في تأويل ذلك بالصواب قول من قال: عنى بقوله: ( ) كفار قريش ( ) يعني به: الأنبياء الثمانية عشر الذين سماهم الله تعالى ذكره في الآيات قبل هذه الآية، وذلك أن الخبر في الآيات قبلها عنهم مضى، وفي التي بعدها عنهم ذكر، فما بينها بأن يكون خبرًا عنهم، أولى وأحق من أن يكون خبرًا عن غيرهم»16. وعلى كل حال لا يوجد ما يمنع من دخول الأنصار في المراد من الآية، والله أعلم.

وأشير إليهم أيضًا في قوله تعالى: ( ﭗﭘ ) [الأنفال: ٦٢].

أي: قواك بنصره، يريد: يوم بدر، وبالمؤمنين، قال النعمان بن بشير: نزلت في الأنصار ( ﭡﭢ ) [الأنفال: ٦٣].

أي: جمع بين قلوب الأوس والخزرج، وكانت تألف القلوب مع العصبية الشديدة في العرب من آيات النبي صلى الله عليه وسلم، ومعجزاته؛ لأن أحدهم كان يلطم اللطمة فيقاتل عليها حتى يستقيدها، وكانوا أشد خلق الله حمية، فألف الله بالإيمان بينهم، حتى قاتل الرجل أباه وأخاه بسبب الدين، وقيل: أراد التأليف بين المهاجرين والأنصار، والمعنى متقارب17.

ونزل فيهم قوله -جل وعلا-: ( ﭘﭙ ) [آل عمران: ١٢٢].

فعن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه قال: نزلت هذه الآية فينا: ( ) قال: نحن الطائفتان بنو حارثة وبنو سلمة، وما أحب أنها لم تنزل، والله يقول: ( ﭘﭙ) وقال سفيان مرةً: وما يسرني أنها لم تنزل؛ لقول الله: ( ) 18.

«وقال الحسـن البصري: هما طائفتان من الأنصار همتا بذلك، فعصمهما الله، وقيل: لما رجع عبـد الله ابن أبي في أصحابـه يوم أحد همت الطائفتان باتباعه، فعصمهما الله»19.

والمقصود أن الله تبارك وتعالى بين في هذه الآيات فضائل الأنصار التي بَيَنَها القرآن الكريم، فقد نص على مجموعة من صفاتهم الحميدة، ومنها:

١. سبق الأنصار إلى الإيمان والنصرة.

وصف الله الأنصار في القرآن الكريم بالسبق، فقال: ( ﭦﭧ ) [التوبة: ١٠٠].

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «ذهب جمهور العلماء إلى أن السابقين في قوله تعالى: ( ) [التوبة: ١٠٠].

هم هؤلاء الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا، وأهل بيعة الرضوان كلهم منهم، وكانوا أكثر من ألف وأربعمائة»20.

وبين ابن العربي رحمه الله الأمور التي يكون فيها السبق، فقال: «السبق يكون بثلاثة أشياء: الصفة، وهو الإيمان، والزمان، والمكان، وأفضل هذه الوجوه سبق الصفات، والدليل عليه قوله صلى الله عليه وسلم في الصحيح: (نحن الآخرون الأولون، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، وأوتيناه من بعدهم، فهذا يومهم الذي اختلفوا فيه، فهدانا الله له، فاليهود غدًا، والنصارى بعد غد)21»22.

وقال الرازي: «اختلفوا في السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار من هم؟ وذكروا وجوهًا. . . »، ثم قال: «والصحيح عندي أنهم السابقون في الهجرة وفي النصرة، والذي يدل عليه أنه ذكر كونهم سابقين، ولم يبين أنهم سابقون في ماذا؟ فبقي اللفظ مجملًا، إلا أنه وصفهم بكونهم مهاجرين وأنصارًا، فوجب صرف ذلك اللفظ إلى ما به صاروا مهاجرين وأنصارًا، وهو الهجرة والنصرة، فوجب أن يكون المراد منه السابقون الأولون في الهجرة والنصرة؛ إزالة للإجمال عن اللفظ... ثم قال: و أيضًا فالسبق إلى الهجرة طاعة عظيمة من حيث إن الهجرة فعل شاق على النفس، ومخالف للطبع، فمن أقدم عليه أولًا صار قدوة لغيره من هذه الطاعة، وكان ذلك مقويًا لقلب الرسول عليه الصلاة والسلام، وسببًا لزوال الوحشة عن خاطره، وكذلك السبق في النصرة، فإن الرسول عليه الصلاة والسلام لما قدم المدينة، فلا شك أن الذين سبقوا إلى النصرة والخدمة، فازوا بمنصب عظيم»23.

وما ذكر قبل من الأقوال هو من باب التمثيل، فيكون هذا من باب اختلاف التنوع، لا اختلاف التضاد؛ ولهذا قال الشوكاني رحمه الله: «ولا مانع من حمل الآية على هذه الأصناف كلها»24.

٢. رضوان الله عن الأنصار ورضاؤهم عنه.

أخبر سبحانه أنه رضي عن (المهاجرين) والأنصار وعن أفعالهم، ورضوا عنه سبحانه؛ لما أجزل لهم من الثواب على طاعاتهم وإيمانهم به ويقينهم، فقال تعالى: ( ) [التوبة: ١٠٠].

فقوله تعالى: ( ) يعم الكل، قال الزجاج: رضي الله أفعالهم، ورضوا ما جازاهم به25 فحين ذكر سبحانه وتعالى الجزاء الذي أعده لهؤلاء، وحين كانت نفوسهم زاكية راقية؛ قابلوا الجزاء بالشكر، والتزود من الطاعة، فذكر سبحانه أنهم: ( ) وهذا أرقى المراتب التي يسعى إليها المؤمنون، ويتنافس فيها المتنافسون، أن يرضى الله تعالى عنهم، ويرضيهم، يقول الطبري: «رضي الله عن جميعهم لما أطاعوه، وأجابوا نبيه إلى ما دعاهم إليه من أمره ونهيه، ورضي عنه السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان لما أجزل لهم من الثواب على طاعتهم إياه، وإيمانهم به وبنبيه عليه السلام»26.

ففي هذه الآية إخبار بأن الله رضي عنهم ورضوا عنه، وفي هذا دليل على عدالتهم، ووجه الدلالة: أن الله تعالى أخبر فيها برضاه عنهم، ولا يثبت الله رضاه إلا لمن كان أهلًا للرضا، ولا توجد الأهلية لذلك إلا لمن كان من أهل الاستقامة في أموره كلها، عدلًا في دينه.

يقول ابن كثير رحمه الله: «يخبر تعالى عن رضاه عن السابقين من المهاجرين والأنصار، والتابعين لهم بإحسان، ورضاهم عنه بما أعد لهم من جنات النعيم، والنعيم المقيم»27.

ويقول أيضًا: «فقد أخبر الله العظيم أنه قد رضي عن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، فيا ويل من أبغضهم أو سبهم، أو أبغض أو سب بعضهم»28.

وقال تعالى في جزاء هؤلاء السابقين: ( ) [التوبة: ١٠٠].

أي: وأعد لهم في الآخرة جنات تجري من تحت أشجارها وقصورها الأنهار، ( ) أي: مقيمين فيها من غير انتهاء، ( ) أي: ذلك هو الفوز الذي لا فوز وراءه.

قال في البحر: لما بين تعالى فضائل الأعراب المؤمنين بين حال هؤلاء السابقين، ولكن شتان ما بين الثناءين، فهناك قال: ( ) [التوبة: ٩٩].

وهنا قال: ( ) وهناك ختم ( ) [التوبة: ٩٩].

وهنا ختم: ( ) [التوبة: ١٠٠]29.

وهذا الرضوان للأنصار، وما أعد لهم من الجنات والنعيم، هو جزاء ما قدموه لهذا الدين، وما تركوا من دورهم وأهليهم، وجزاء ما أعطوه للمهاجرين من أموالهم؛ لأن الهجرة أمر شاق على النفس، لمفارقة الأهل والعشيرة، والنصرة منقبة شريفة؛ لأنها إعلاء كلمة الله، ونصر رسوله وأصحابه، والإحسان من أحوال المقربين أو مقاماتهم.

وفي هذه الآية ( ) [التوبة: ١٠٠] فوائد:

الأولى: في الآية دليل على أن للصحابة مراتب، وأن الفضل للسابق إلى الإسلام والهجرة، وأن السابقين من الصحابة أفضل ممن تلاهم.

الثانية: قيل: المراد بالسابقين الأولين جميع المهاجرين والأنصار، فـ(من) بيانية؛ لتقدمهم على من عداهم، وقيل: بعضهم، وهم قدماء الصحابة و(من) تبعيضية، وقد اختار كثيرون الثاني، واختلفوا في تعيينهم.

الثالثة: تقديم المهاجرين؛ لفضلهم على الأنصار، كما ذكر في قصة السقيفة، ومنه علم فضل أبي بكر رضي الله عنه على من عداه؛ لأنه أول من هاجر معه صلى الله عليه وسلم30.

الرابعة: وفيها دليل على تنزيل الناس منازلهم.

الخامسة: وفيها دليل على أن أفضلية العمل على قدر رجوع منفعته إلى الإسلام والمسلمين.

السادسة: رضا الله عن السابقين من المهاجرين والأنصار، والمعنى: أنه رضي عنهم بما عملوه من الطاعات الخالصة له، ورضوا عنه بما جازاهم به مما لا يخطر لهم على بال، ولا تتصوره عقولهم، والرضا منه سبحانه هو أرفع درجات النعيم، وأعلى منازل الكرامة.

٣. حب الأنصار للمهاجرين.

قد شهد الله تعالى لهم بذلك في قوله: ( ) [الحشر: ٩].

فمن جملة أوصاف الأنصار الجميلة أنهم: ( ) [الحشر: ٩].

وهذا لمحبتهم لله ولرسوله أحبوا أحبابه، وأحبوا من نصر دينه، وهذه المحبة هي آصرة أقوى من آصرة النسب، وأقوى من رابطة الدم؛ لأنها تجمع على الإيمان بالله واليوم الآخر؛ ولأنها تستل كل الأحقاد والضغائن من الصدور؛ ولأنها تجعل من محبة الفرد لأخيه المسلم طاعة يتقرب بها، وينال بها الأجر والثواب من الله عز وجل، ويحصل بها على المنازل الرفيعة في الآخرة.

وأن هذه الرابطة أقوى من رابطة الدم واللغة والمصالح الاقتصادية، والعلاقات المتبادلة، يقول سيد قطب في الكلام على هذه الآية: «وهذه كذلك صورة وضيئة صادقة تبرز أهم الملامح المميزة للأنصار، هذه المجموعة التي تفردت بصفات، وبلغت إلى آفاق، لولا أنها وقعت بالفعل، لحسبها الناس أحلامًا طائرة، ورؤًى مجنحة، ومثلًا عليا قد صاغها خيال محلق. . .، ولم يعرف تاريخ البشرية كله حادثًا جماعيًا كحادث استقبال الأنصار للمهاجرين بهذا الحب الكريم، وبهذا البذل السخي، وبهذه المشاركة الرضية، وبهذا التسابق إلى الإيواء واحتمال الأعباء، حتى ليروى أنه لم ينزل مهاجر في دار أنصاري إلا بقرعة؛ لأن عدد الراغبين في الإيواء المتزاحمين عليه أكثر من عدد المهاجرين»31.

وفي قوله تعالى: () الواو استئنافية و () مبتدأ، وخبره () والجملة مستأنفة.

وقوله: () [الحشر: ٩].

خبر عن اسم الموصول () والمعنى: يحبونهم من حيث مهاجرتهم إليهم لمحبتهم الإيمان؛ قال ابن كثير: «أي: من كرمهم وشرف أنفسهم يحبون المهاجرين، ويواسونهم بأموالهم»32.

وقوله: ( ) أي: إلى المدينة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه حال الأنصار، فقلوبهم مملوءة بالحب للمهاجرين، ولا يحملون في صدورهم شيئًا على إخوانهم المهاجرين؛ لكونهم فضلوا عليهم ببعض الفضائل.

قال القاسمي: وقوله: () أي: لوجود الجنسية -أي المجانسة- في الصفاء، والموافقة في الدين والإخاء، قال الشهاب: المراد بمحبتهم المهاجرين هنا مواساتهم، وعدم الاستثقال والتبرم منهم، إذا احتاجوا إليهم، فالمحبة كناية عما ذكر33.

ويقول العيني: «في قوله: ( ) [الحشر: ٩أي: من المسلمين، حتى بلغ من محبتهم أن نزلوا لهم عن نسائهم، وشاطروهم أموالهم ومساكنهم»34.

وفي مقابل هذا الحب منهم أحبهم المهاجرون، وأحبهم الرسول صلى الله عليه وسلم، حتى قال للأنصار: (والذي نفسي بيده إنكم أحب الناس إلي)35 مرتين.

بل جعل الرسول حبهم من دلائل الإيمان، كما في حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار)36.

ففي هذا الحديث دلالة أن حب المؤمن لقبيلة الأنصار شعبة من شعب الإيمان، وعلامة عليه، فلا يحبهم إلا مؤمن، وأن بغضهم وكرههم شعبة من شعب النفاق والكفر، فلا يبغضهم إلا منافق.

وعن البراء قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الأنصار لا يحبهم إلا مؤمن، ولا يبغضهم إلا منافق، فمن أحبهم أحبه الله، ومن أبغضهم أبغضه الله)37.

وليس المراد بالبغض في هذا الحديث البغض الناتج من العداء الشخصي لأفرادهم، وإنما المراد بغضهم بسبب الصفة التي مدحوا بها، وهي نصرتهم للنبي صلى الله عليه وسلم، فمن أبغضهم من جهة هذه الصفة، وهي: كونهم نصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم أثر ذلك في تصديقه، فيصح أنه منافق38.

وكذلك الحب يقال فيه مثل ما يقال في البغض.

وهذا الحب من الأنصار لإخوانهم المهاجرين دافعه وجه الله تعالى، ومعرفتهم فضل الأخوة في الله، ومكانتها في الدين، فالأخوة في الله مبدأ عظيم من مبادئ الإسلام، يقوم عليه الولاء والبراء، والحب والبغض.

وتجلت هذه الأخوة في أبهى صورها، وأجمل حللها، في تلك المواقف السمحة التي عامل بها الأنصار إخوانهم المهاجرين، وهذا التآخي لم يكن مجرد شعار للمزايدة، ودغدغة العواطف، والالتفاف حول المعاني السامية بالأكاذيب والتدليس والتلبيس، لكنه معنى خالط قلوبهم ومشاعرهم، ولحمهم ودمهم، برز ذلك في سلمهم وحربهم، وفقرهم وغناهم، مستضعفين وممكن لهم، أفرادًا وجماعات.

وهذا الأنموذج من الأخوة الصادقة حرص النبي صلى الله عليه وسلم عليه وأكده، وكان من أوائل الأمور التي قام بها بعد وصوله المدينة أن آخى بين المهاجرين والأنصار؛ ليذهب عن المسلمين المهاجرين وحشة الغربة، ويؤنسهم عن مفارقة الأهل والعشيرة، ويشد بعضهم أزر بعض.

٤. الإيثار عند الأنصار.

الإيثار من أعظم الصفات التي اتصف بها المجتمع الإسلامي؛ ولهذا يقول بعض المفكرين: بأن كلمة الإيثار يصعب ترجمتها إلى لغات أخرى، أي: ليس لها مرادف في اللغات الأخرى مرادف يؤدي معناها، ويحقق كل معانيها، وكأن هذه الخصلة هي من الخصال التي أتى بها هذا الدين الحنيف، وزكى غرسها، وحث عليها، ودعا إليها.

وأعظم الناس إيثارًا في التاريخ الإسلامي هم الأنصار، فقد جاءهم المهاجرون إلى المدينة وهم لا يملكون من أمر الدنيا شيئًا، قد تركوا أموالهم وما يملكون خلف ظهورهم، وأقبلوا على ما عند الله عز وجل، يرجون رحمته، ويخافون عذابه، فاستقبلهم الأنصار الذين تبوءوا الدار، وأكرموهم أيما إكرام، ولم يبخلوا عليهم بشيء من حطام الدنيا، بل قاسموهم الأموال والمتاع، وشاطروهم بيوتهم وأرضهم وأموالهم، بطيب نفس، وسلامة صدر، في صورة يعجز عن وصفها اللسان، ويضعف عن تعبيرها البيان، وقابل المهاجرون هذا الإيثار الرائع بحسن الخلق والتعفف.

وقد امتدح الله جل وعلا خلق الإيثار عند الأنصار، فقال: ( ﯽﯾ ﯿ ) [الحشر: ٩].

ففي قوله: ( ﯽﯾ) [الحشر: ٩].

أي: إن من أوصاف الأنصار التي فاقوا بها غيرهم، وتميزوا بها على من سواهم الإيثار، وهو أكمل أنواع الجود، وهو الإيثار بمحاب النفس من الأموال وغيرها، وبذلها للغير مع الحاجة إليها، بل مع الضرورة والخصاصة، وهذا لا يكون إلا من خلق زكي، ومحبة لله تعالى مقدمة على محبة شهوات النفس ولذاتها.

والمراد بقوله: () [الحشر: ٩].

أي: الأنصار، والإيثار لغة: مصدر من قولهم: آثره عليه يؤثره إيثارًا، بمعنى: فضله وقدمه، والمآثر: ما يروى من مكارم الإنسان، وفي التنزيل: ( ) [يوسف: ٩١]. وآثر أن يفعل كذا: فضل وقدم، وضده الأثرة من قولهم: استأثر بالشيء انفرد به، أو اختص به نفسه.

واصطلاحًا: قال القرطبي: «الإيثار: هو تقديم الغير على النفس في حظوظها الدنيوية؛ رغبة في الحظوظ الدينية، وذلك ينشأ عن قوة اليقين، وتوكيد المحبة، والصبر على المشقة»39.

وفي قوله: () [الحشر: ٩]. مفعول الإيثار محذوف، والتقدير: ويؤثرونهم بأموالهم ومنازلهم على أنفسهم.

جاء في البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أتى رجلٌ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، أصابني الجهد، فأرسل إلى نسائه فلم يجد عندهن شيئًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا رجل يضيف هذه الليلة يرحمه الله)، فقام رجل من الأنصار، فقال: أنا يا رسول الله، فذهب إلى أهله، فقال لامرأته: ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا تدخريه شيئًا، فقالت: والله ما عندي إلا قوت الصبية، قال: فإذا أراد الصبية العشاء فنوميهم، وتعالي فأطفئي السراج، ونطوي بطوننا الليلة، ففعلت، ثم غدا الرجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (لقد عجب الله عز وجل، أو ضحك من فلان وفلانة)، فأنزل الله عز وجل: ( ) [الحشر: ٩]40.

وفي رواية في البخاري أيضًا: (ضحك الله الليلة، أو عجب من فعالكما)، فأنزل الله: ( ﯽﯾ) [الحشر: ٩]41.

وجاء في سبب نزولها: أن رجلًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدي له رأس شاةٍ، فقال: إن أخي فلانًا وعياله أحوج إلى هذا، فبعث به إليه، فلم يزل يبعث به واحد إلى واحد، حتى تناولها سبعة أهل أبيات، حتى رجعت إلى أولئك، فنزلت هذه الآية.

وروي نحو هذه القصة عن أنس بن مالك قال: أهدي لبعض الصحابة رأس شاةٍ مشوي، وكان مجهودًا، فوجه به إلى جارٍ له فتناوله تسعة أنفس، ثم عاد إلى الأول، فنزلت هذه الآية42.

وذكر ابن جزي في سبب نزولها قصة الفيء، فقال: «وروي أن سبب هذه الآية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قسم هذه القرى على المهاجرين دون الأنصار، قال للأنصار: (إن شئتم قسمتم للمهاجرين من أموالكم ودياركم، وشاركتموهم في هذه الغنيمة، وإن شئتم أمسكتم أموالكم وتركتم لهم هذه)43، فقالوا: بل نقسم لهم من أموالنا، ونترك لهم هذه الغنيمة، وروي أيضًا أن سببها أن رجلًا من الأنصار أضاف رجلًا»44. وذكر القصة التي في البخاري.

وهذا ما رجحه الرازي، حيث قال: «وذكر المفسرون أنواعًا من إيثار الأنصار للضيف بالطعام، وتعللهم عنه حتى يشبع الضيف، ثم ذكروا أن الآية نزلت في ذلك الإيثار، والصحيح أنها نزلت بسبب إيثارهم المهاجرين بالفيء، ثم لا يمتنع أن يدخل فيها سائر الإيثارات»45.

قوله: ( ﯽﯾ) [الحشر: ٩]. الخصاصة: هي الفقر46.

والمعنى: ولو كان بهم حاجة وفاقة إلى ما آثروا به من أموالهم على أنفسهم، فبين أن هذا الإيثار ليس عن غنى، وعن المال، ولكنه عن حاجة وخصاصة، وهي: الفقر47.

وهذا هو واقع الأنصار، فهم مع ما هم عليه من الخصاصة -وهي الفاقة والفقر-، ومع شدة احتياجهم وافتقارهم إلى ما في أيديهم، حيث أن المهاجرين كانوا أهل تجارة، وكانوا أهل ثراء في أوطانهم في مكة، بينما الأنصار كانوا في الحقيقة أهل زراعة، وما كانوا بالثراء الذي كان عليه أهل مكة؛ ولذلك عبر عنهم القرآن بهذا التعبير: ( ﯽﯾ) [الحشر: ٩].

فلئن يقدم الإنسان حاجة غيره عليه وهو مستغنٍ عن تلك الحاجة فهذا لا يستغرب، ومع ذلك فإن الله تعالى قد أمر به في كتابه الكريم، حينما قال: ( ) [البقرة: ٢١٩].

أي: الزيادة، ما فضل عن نفقاتكم الضرورية اللازمة عليكم، لكن هذه المرتبة أعلى، وهي أن يجود الإنسان بما عنده لأخيه مع كونه محتاجًا إليه، شديد الاحتياج، شديد الرغبة فيه، فهذا المعنى هو الذي تتحدث عنه الآية.

وقوله: (ﯿ ) [الحشر: ٩].

قال الرازي: «واعلم أن الفرق بين الشح والبخل هو أن البخل نفس المنع، والشح هو الحالة النفسانية التي تقتضي ذلك المنع، فلما كان الشح من صفات النفس لا جرم قال تعالى: (ﯿ ) [الحشر: ٩48.

ووقاية شح النفس يشمل وقايتها الشح في جميع ما أمر به، فإنه إذا وقي العبد شح نفسه سمحت نفسه بأوامر الله ورسوله، ففعلها طائعًا منقادًا منشرحًا بها صدره، وسمحت نفسه بترك ما نهى الله عنه وإن كان محبوبًا للنفس، تدعو إليه، وتطلع إليه، وسمحت نفسه ببذل الأموال في سبيل الله، وابتغاء مرضاته، وبذلك يحصل الفلاح والفوز، بخلاف من لم يوق شح نفسه، بل ابتلي بالشح بالخير الذي هو أصل الشر ومادته.

فهذان الصنفان الفاضلان الزكيان هم الصحابة الكرام والأئمة الأعلام، الذين حازوا من السوابق والفضائل والمناقب ما سبقوا به من بعدهم، وأدركوا به من قبلهم، فصاروا أعيان المؤمنين، وسادات المسلمين، وقادات المتقين.

ووصف الله من يتصف بهذه الصفة بقوله: ( ) أي: الظافرون بما أرادوا، والمقصود بهم: الأنصار، ومن أتصف بهذه الصفات من غيرهم، والمفلحون: هم الفائزون بكل مطلوب، الناجون من كل مهروب، قال ابن كثير: أي: من سلم من الشح فقد أفلح وأنجح49.

«والفلاح: اسم لسعادة الدارين، والجملة اعتراض وارد لمدح الأنصار والثناء عليهم، فإن الأوصاف المذكورة في حقهم، فلهم جلائل الصفات، ودقائق الأحوال. . .، قال السهروردي في العوارف: السخاء صفة غريزية في مقابلة الشح، والشح من لوازم صفة النفس، حكم الله بالفلاح لمن يوقى الشح، أي: لمن أنفق وبذل، والنبي عليه الصلاة والسلام نبه بقوله: (ثلاث مهلكات، وثلاث منجيات) فجعل إحدى المهلكات (شحًا مطاعًا)50 ولم يقل: مجرد الشح يكون مهلكًا، بل إنما يكون مهلكًا إذا كان مطاعًا، فأما كونه موجودًا في النفس غير مطاع لا ينكر ذلك؛ لأنه من لوازم النفس، مستمد من أصل جبلتها الترابي، وفي التراب قبض وإمساك، وليس ذلك بالعجب من الآدمي، وهو جبلي فيه، وإنما العجب وجود السخاء في الغريزة»51.

وهكذا يصور القرآن الكريم هذا الوضع غير المسبوق في أبلغ عبارة وأجزلها، وتظهر الآيات الكريمة صدق الأخوة بين المهاجرين والأنصار، لا تلوثه أطماع، ولا حب دنيا، ولا أثرة، ولا شح أو حرص، ولا حاجة إنما هو أخوة تدور بين سلامة الصدر والإيثار، ولا شك أن المرء يقف مبهورًا أمام هذه الصورة الرائعة من الأخوة المتينة، والإيثار المتبادل، الذي لا نشهد له مثيلًا في تواريخ الأمم السابقة.

ولقد كان دافع الأنصار لهذا الإيثار هو رغبتهم فيما عند الله، وحبهم لإخوانهم المهاجرين؛ ولهذا صدر الله هذه الصفات للأنصار في هذه الآية بأنهم يحبون من هاجر إليهم، فالمحبة هي باعث هذا الإيثار؛ ولذلك لا يمكن أن تتصور الإيثار دون أن تتصور المحبة بين الناس، المحبة التي تنشأ في القلوب، ثم يتبع هذه المحبة رغبة صادقة في أن ينال الخير أخاك؛ ولذلك فلا يجد الواحد منهم غضاضة في نفسه أن يقدم إخوانه في الخير الذي لديه.

وكيف لا يؤثر الأنصار وقد بايعوا الرسول صلى الله عليه وسلم على الإيثار؟!

فقد جاء عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: (بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر، والمنشط والمكره، وعلى أثرة علينا، وعلى أن لا ننازع الأمر أهله)52.

فالسمع والطاعة في العسر واليسر، والمنشط والمكره: لهم معه، ومع الأئمة بعده، والأثرة: عدم منازعة الأمر مع الأئمة بعده خاصة.

ولو ذهبنا نلتمس الأسباب وراء هذا الإخاء والحب والإيثار فلن نجد إلا مسبب الأسباب، وأن ذلك كان بفضل الله ورحمته، لا بصنع بشر وحكمته وسياسته، وصدق الله حيث قال: ( ﭡﭢ ) [الأنفال: ٦٣].

فلم يلتق النبي صلى الله عليه وسلم بالأنصار إلا في سويعات تحت جنح الليل، واكتفى فيها بعرض الإسلام، وأخذ العهود والمواثيق، ولم يطل لقاؤه معهم قبل الهجرة حتى يكون هذا الذي فعلوه بسبب تربية النبي إياهم، وطول تعهده لهم كما فعل تجاه المهاجرين حتى كون منهم رجالًا، فلم يكن بين دخول الأنصار الإسلام وقيامهم بهذه المآثر إلا أقل من عام.

فالأنصار قوم اختارهم الله لصحبة نبيه، لقد فتحوا للمهاجرين قلوبهم قبل أن يفتحوا لهم بيوتهم، ووسعوهم بصدورهم قبل أن يسعوهم بأموالهم، وتسابقوا إلى لقائهم وإكرامهم، وضربوا في باب الإيثار، وسخاء النفس، وكرم الطبع مثلًا عليا، لا تزال تذكرها لهم الأجيال المتعاقبة، بالإكبار والإعظام.

٥. سلامة صدورهم.

أثنى الله على الأنصار بسبب سلامة صدورهم رضي الله عنهم، فقال: ( ) [الحشر: ٩].

فقوله: ( ) [الحشر: ٩]. الضمير في (يجدون) للأنصار، قال ابن العربي: «قال الخلق بأجمعهم: يريد بذلك الأنصار الذين آووا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين طرد، ونصروه حين خذل، فلا مثل لهم، ولا لأجرهم»53.

وقوله: () أي: حزازة وغيظًا وحسدًا، قال الشوكاني في فتح القدير: ( ) [الحشر: ٩]. «أي: لا يجد الأنصار في صدورهم حسدًا وغيظًا وحزازةً»54.

وفي الكلام مضاف محذوف: أي لا يجدون في صدورهم مس حاجة، أو أثر حاجة، وكل ما يجده الإنسان في صدره مما يحتاج إليه فهو حاجة55.

وقوله: ( ) أي: مما أعطوا، والضمير للمهاجرين، والمراد (فيما أوتوه) هو مال الفيء، حيث قسم النبي صلى الله عليه وسلم أموال بني النضير بين المهاجرين، ولم يعط من الأنصار غير ثلاثة نفر، كانت بهم حاجة، فطابت أنفس الأنصار بتلك القسمة، أو يكون المراد (فيما أوتوه) هو: الفضل والتقدم56.

قال شيخ الإسلام في الفتاوى: «وبهذا أثنى الله تعالى على الأنصار، فقال: ( ) [الحشر: ٩].

أي: مما أوتي إخوانهم المهاجرون، قال المفسرون: لا يجدون في صدورهم حاجة أي: حسدًا وغيظًا، مما أوتي المهاجرون، ثم قال بعضهم: من مال الفيء، وقيل: من الفضل والتقدم»57.

يعني: لا يحسدون المهاجرين على ما خصوا به من مال الفيء وغيره، ويحتمل أن يريد به: ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا إذا كان قليلًا، بل يقنعون به، ويرضون عنه، وقد كانوا على هذه الحال حين حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم كانوا عليه بعد موته صلى الله عليه وسلم.

وقد أنذرهم النبي صلى الله عليه وسلم قائلًا: (سترون بعدي أثرة، فاصبروا حتى تلقوني على الحوض)58 59.

فالأنصار لا يجدون في صدورهم حاجة مما خصص به المهاجرون من الفيء، ولا يحسدونهم على ذلك، ولا يعترضون بقلوبهم على حكم الله بتخصيص المهاجرين حتى لو كانت بهم حاجة، أو اختلال أحوال60.

وعلى هذا ففي الآية بيان حال الأنصار، وأنهم لا يحسدون المهاجرين على ما آتاهم الله من فضله، وخصهم به من الفضائل والمناقب التي هم أهلها، وهذا يدل على سلامة صدورهم، وانتفاء الغل والحقد والحسد عنهم.

ويدل ذلك أيضًا على أن المهاجرين أفضل من الأنصار؛ لأن الله قدمهم بالذكر، وأخبر أن الأنصار لا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا، فدل على أن الله تعالى آتاهم ما لم يؤت الأنصار ولا غيرهم؛ لأنهم جمعوا بين النصرة والهجرة.

ثانيًا: أبرز أعمال الأنصار:

الأنصار: ما أجملها من كلمة! إنها كلمة تحمل معاني شريفة جليلة، اتصف بها قوم ضرب بهم المثل في الكمال الإنساني، إنها علمٌ على قوم عملوا أعمالًا استحقوا بها أن يكونوا من أنصار الرسول الكريم.

ومن أبرز هذه الأعمال:

١. الإيواء والنصرة.

لما هاجر المسلمون من مكة هجروا المحبوبات والمألوفات من الديار والأوطان والأحباب والخلان والأموال، وتجردوا من كل شيء إلا من الإيمان؛ رغبةً في الله، ونصرةً لدين الله، ومحبةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فوصلوا إلى أرضٍ جديدة، وواقعٍ مختلف، وكان من أثر هذه الرحلة نشوء عدد من المشكلات الجديدة، ليس أقلها: الشعور بالغربة، ومفارقة الأهل والديار، وترك معظم الأموال والممتلكات في مكة، وطبيعة الوضع المعيشي والاقتصادي الجديد، أضف إلى ذلك الآثار الصحية والبدنية التي أحدثها الانتقال المفاجئ إلى بيئةٍ أخرى؛ مما أدى إلى ظهور الأمراض في صفوفهم كالحمى وغيرها، كل هذا ترك في أنفسهم وحشة وغربة، حتى أصبح وضعهم يحتاج إلى حل عاجل وسريع.

فترجم الأنصار ما تعاقدوا عليه من أقوال في البيعتين إلى جملة أفعال، حيث فتح الأنصار أبواب بيوتهم وقلوبهم، واستعدوا لاحتضان من جاءهم مهاجرًا تحت ظاهرة عظيمة من التكافل الاجتماعي، فحوى المسكن الواحد تحت سقفه الأنصاري والمهاجر، وهم يتقاسمون كل شيء المسكن والمال والطعام.

فلم يعرف تاريخ البشرية حادثًا جماعيًا كحادث استقبال الأنصار للمهاجرين بهذا الحب الكريم، وبهذا البذل السخي، وبهذه المشاركة الرضية، وبهذا التسابق إلي الإيواء، واحتمال الأعباء، حتى ليروى أنه لم ينزل مهاجر في دار أنصاري إلا بقرعة؛ لأن عدد الراغبين في الإيواء المتزاحمين عليه أكثر من عدد المهاجرين، وهم لا يجدون في أنفسهم شيئًا من حسد، أو ضيق من هذا، والإيثار على النفس مع الحاجة قيمة عليا، وقد بلغ بها الأنصار مبلغًا لم تشهد له البشرية نظيرًا.

وهنا ظهر دور الأنصار الذين أبدوا من التضحية وضروب الإيثار ما استحق التخليد في كتاب الله.

قال الله تعالى عنهم: ( ﭿ ) [الأنفال: ٧٢].

وقال تعالى: ( ﯨﯩ ) [الأنفال: ٧٤].

فجمع الله تعالى في هاتين الآيتين الذين كانوا دعامة الإسلام، وعليهم هدى الرسول قام بنيانه، وشيدت أركانه، وهم المهاجرون والأنصار، فالمهاجرون ابتدأ بهم تكوين الجماعات الأولى التي صبرت وصابرت، وتلقت الصدمة الأولى من المشركين.

والأنصار وهم الذين آووا ونصروا، وأعزوا كلمة التوحيد، وأغلوها وأعلوها، فإذا كان المهاجرون هم الذين أظلوا شجرة الإسلام ابتداءً، فالأنصار هم الذين حموا ثمرتها، وقامت دولة الإسلام في أرضهم وحراستهم، وإذا كان المهاجرون قد لاقوا العنت في مكة فقد لقوا الإيواء في المدينة.

وإذا كانوا هم دعامة الإسلام فالأنصار دولته، وفي رحابهم قامت المدينة الفاضلة التي أقامها محمد صلى الله عليه وسلم في ديارهم، وإذا كان المهاجرون قد جاهدوا ابتداءً بالصبر والمصابرة، فقد كان جهادهم في المدينة مع إخوانهم الأنصار بذلك وبالقتال في المدينة، والفريقان اختارهم الله للتأليف حتى تكونت منهم أطهر جماعة رأتها الإنسانية وأقواها.

فبعد أن ذكر الله تعالى هنا في الآيتين الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، عقب بذكر الأنصار، وهم الذين آووا ونصروا.

فقال: ( ) [الأنفال: ٧٤]. المراد: بهم الأنصار، أي: وطنوا المهاجرين، وأنزلوهم منازلهم، وبذلوا إليهم أموالهم، وآثروهم على أنفسهم، ونصروهم على أعدائهم61.

فإذا كانوا قد نقصوا عن إخوانهم -المهاجرين- فضل الهجرة، فقد عوضوا عن ذلك بفضل الإيواء والنصرة62.

حيث استقبل الأنصار المهاجرين، فشاطروهم المال والديار؛ بكرم وسخاء، وضربوا مثلًا رائعًا في التكافل، وبناء الجماعة المسلمة، وآووا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنعوه من الأحمر والأسود، وتبوءوا دار الهجرة والإيمان، حتى صارت موئلًا ومرجعًا يرجع إليه المؤمنون، ويلجأ إليه المهاجرون، ويسكن بحماه المسلمون؛ إذ كانت البلدان كلها بلدان حرب وشرك وشر.

فلم يزل أنصار الدين يأوون إلى الأنصار، حتى انتشر الإسلام وقوي، وجعل يزيد شيئًا فشيئًا، وينمو قليلًا قليلًا، حتى فتحوا القلوب بالعلم والإيمان والقرآن، والبلدان بالسيف والسنان.

وقوله في الآية: () أي: نصروا الرسول وأصحابه على أعدائهم الكفار، وما سموا بالأنصار إلا لذلك؛ ولقد قال حسان رضي الله عنه في مدح الأنصار أنهم ما سموا أنصارًا إلا لنصرتهم الدين63:

سماهم الله أنصارًا بنصرهم

دين الهدى وعوان الحرب تستعر

وسارعوا في سبيل الله واعترفوا

للنائبات وما خافوا وما ضجروا

وقد ذكر الله تعالى هذه الصفة وهي (النصرة) في آيتين، فقال: ( ﯨﯩ ) [الأنفال: ٧٤]. وقال تعالى: ( )[الأنفال: ٧٢].

والنصرة في المدلول القرآني واللغوي والتاريخي بمعنى: العون، والظفر، والمنع، والانتقام، والانتصار، وشد الأزر، ولقد شرف الله سبحانه وتعالى المسلمين الأول بشرف لا يدانيه شرف، حيث أجزل لهم الثواب، وأحسن لهم المدح والثناء في أعظم كتاب، وخص كلًا من الفريقين المتآخيين (المهاجرين والأنصار) بعمل عظيم جليل، ناداهم به فسموا مهاجرين وأنصارًا، وما ذلك إلا للهجرة والنصرة، فالهجرة كانت إعلانًا للدولة، وانتقالًا لدار الإسلام، والنصرة هي التي هيأت للهجرة ولوجود دار الإسلام، فكيف يغفل أحد من المسلمين عن فضل الهجرة أو النصرة، وهو يتلو كتاب الله الذي يذكر المهاجرين والأنصار وفضلهما؟!

وكانت هذه النصرة وفاء منهم لمبايعة النبي صلى الله عليه وسلم لهم في بيعة العقبة الثانية، حيث ثبت أنه قال لهم: (أبايعكم على أن تمنعوني -إذا قدمت عليكم- مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم، ولكم الجنة)64. فبايعوه على النصرة والمنعة، فقام منهم اثني عشر نقيبًا كفلاء على قومهم، ثم استمر الحال حتى أذن الله للمسلمين بالهجرة، وقامت أول دولة للمسلمين65.

ونلحظ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يطلب النصرة لأمرين مهمين في غاية الأهمية:

أولهما: حماية الدعوة، حتى تسير بين الناس محمية الجانب، بعيدة عن الإساءة إلى أتباعها.

ثانيهما: إيجاد مكان آمن لدولته صلى الله عليه وسلم القادمة؛ ليتسلم خلالها مقاليد الحكم والسلطان على وفق مقتضيات النبوة على أساس الدعوة.

وختم الله تعالى الآية الأخرى بقوله: ( )[الأنفال: ٧٢]]. أي: إن هاتين الفرقتين (المهاجرين والأنصار) بعضهم أنصار بعض، وأعوان على من سواهم من المشركين، وأيديهم واحدة على من كفر بالله، وبعضهم إخوان لبعض دون أقربائهم الكفار.

وقد قيل: إنما عنى بذلك أن بعضهم أولى بميراث بعض، وأن الله ورث بعضهم من بعض بالهجرة والنصرة دون القرابة والأرحام، وأن الله نسخ ذلك بعد، بقوله: ( ﯿ ) [الأنفال: ٧٥] وهذا القول لأبن عباس رضي الله عنه 66.

قال الشوكاني: «أي: بعضهم أولياء بعض في النصرة والمعونة، وقيل المعنى: إن بعضهم أولياء بعض في الميراث، وقد كانوا يتوارثون بالهجرة والنصرة، ثم نسخ ذلك بقوله سبحانه: ( ﯿ ) [الأنفال: ٧٥67.

فالولاية محبة ومودة ومناصرة، وقد اجتمعت كل هذه الأحوال في ولاية المؤمنين المهاجرين والأنصار، فقد اجتمعت فيهم المودة فتوادوا وتحابوا، وتناصروا وجاهدوا جميعًا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، ولقد جمعت المؤاخاة معنى المودة والمحبة والإيثار، وجمع الجهاد معنى النصر والتبعات بالجهاد في سبيل الله68.

وقد ذكر الله بعد ذلك شأن الذين يهاجرون ويؤمنون من بعد، فقال: ( ﯷﯸ ﯿ ﰀﰁ )[الأنفال: ٧٥].

فهذا يدل على أن باب الإيمان مفتوح، وباب الهجرة مفتوح، وميدان الجهاد متسع للجميع، فلم يغلق على المجاهدين الأولين من المهاجرين والأنصار فقط، بل هو مفتوح، وهذه الآية الكريمة تلحق الذين يؤمنون من بعد ويهاجرون بالأولين الذين هم المؤمنون حقًا.

وإذا كان هذا الوصف (النصرة) في الأنصار، فالمهاجرون من باب أولى، فهم أنصار في المعنى، فمعنى النصرة حاصل للكل، ومن الكل، فهم قد هجروا ديارهم وأموالهم، كما قال تعالى: ( ) [الحشر: ٨].

وأثنى عليهم بأنهم يطلبون فضلًا من الله ورضوانًا، فقال: ( ) وأثبت لهم صفة النصرة، فقال: ( ) وأثنى عليهم بالصدق، فقال: ( ) فرضي الله عن المهاجرين والأنصار ومن تبعهم بإحسان.

فضائل الأنصار

عرض القرآن الكريم فضائل الأنصار وهذا ما سنبينه فيما يأتي:

أولًا: وصفهم بالإيمان الحق:

وصف الله تعالى الأنصار بالإيمان الحق، فقال سبحانه: ( ﯨﯩ ) [الأنفال: ٧٤].

فقوله: ( ﯨﯩ) الإشارة إلى السابقين الأولين (من المهاجرين والأنصار) والإشارة إلى الموصوف إشارة إلى أوصافه، وجعلها مناط الحكم، أي: أولئك الذين هاجروا بعد الإيمان، وجاهدوا في سبيل الله، والذين آووا ونصروا هم المؤمنون حقًا، أي: إيمانًا ثابتًا صادقًا حقًا، تلاقت أقوالهم وقلوبهم وأعمالهم69.

فسبق منهم هجرة وجهاد، وإيواء ونصرة، وهذا هو الإيمان الحق، وفي الكلام قصر، أي: من كانوا على هذه الصفات هم وحدهم المؤمنون حقًا، أي: لا مؤمنون حقًا غيرهم، ومن هم على صفاتهم.

وفي هذه الآية وصفٌ لعموم المهاجرين والأنصار بالإيمان الحق، فجمع الله فيها الفضل لفريقي الصحابة، وهم المهاجرون والأنصار، من هاجر، ومن آوى، فاستوى الأنصار مع المهاجرين في عامل النصرة، وفي صدق الإيمان، فشهد لهم بحقيقة الإيمان، ووعدهم بالمغفرة والرزق الواسع، ومن شهد الله له بهذه الشهادة، فقد بلغ أعلى مرتبة العدالة.

ثم قال: ( ) [الأنفال: ٧٤]. ذكر الله تعالى هنا ما كتب لهم من خيري الدنيا والآخرة، وهذا يتضمن جزاءين:

أولهما: المغفرة السابقة، ووراءها الرحمة والنعيم المقيم.

ثانيهما: رزق كريم واسع في الدنيا بعد المشقة التي تحملوها، وهذا شأن المهاجرين الذين آمنوا، وشأن الأنصار الذين آووا ونصروا70.

فيكون الله قد أثنى عليهم ها هنا من ثلاثة أوجه:

أولها: قوله: ( ﯨﯩ) فقوله: ( ﯨﯩ) يفيد الحصر، وقوله: (ﯨﯩ) يفيد المبالغة في وصفهم بكونهم محقين محققين في طريق الدين، وقد كانوا كذلك؛ لأن من لم يكن محقًا في دينه لم يتحمل ترك الأديان السالفة، ولم يفارق الأهل والوطن، ولم يبذل النفس والمال، ولم يكن في هذه الأحوال من المسارعين المسابقين.

وثانيها: قوله: ( ) والتنكير يدل على الكمال، أي: مغفرة تامة كاملة.

وثالثها: قوله: ( ) والمراد منه: الثواب الرفيع الشريف71.

وعن السائب بن يزيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا معشر الأنصار، ألم يمن الله عليكم بالإيمان، وخصكم بالكرامة، وسماكم بأحسن الأسماء: أنصار الله، وأنصار رسوله؟!)72.

فالأنصار إذن حازوا شرفين: شرف سبقهم إلى الإيمان، وشرف استضافتهم للإيمان وأهله في أرضهم.

ومدحهم بأنهم أناس سكنوا الإيمان، وسكن الإيمان في قلوبهم، فقال: ( ) [الحشر: ٩].

فقوله: () الأظهر أن (الذين) هنا عطف على (المهاجرين) -في الآية السابقة-، أي: والذين تبوءوا الدار هم الأنصار73.

وقوله: ( ) من مادة (بواء) على وزن (دواء) وهي في الأصل بمعنى تساوي أجزاء المكان، وبعبارة أخرى يقال: (بواء) لترتيب وتسوية مكان (ما) وفي هذا التعبير كناية لطيفة لهذا المعنى، وهو أن طائفة الأنصار -أهل المدينة- قد هيئوا الأرضية المناسبة للهجرة.

وقوله: () الدار تطلق على البلاد، وأصلها: موضع القبيلة من الأرض، وأطلقت على القرية.

قال تعالى في ذكر ثمود: ( ) [الأعراف: ٧٨].

أي: في مدينتهم، وهي حجر ثمود، والتعريف هنا للعهد؛ لأن المراد بالدار: المدينة النبوية، والمعنى: الذين هم أصحاب الدار74، أي: دار الهجرة مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد تبوأها الأنصار قبل المهاجرين، كما تبوءوا فيها الإيمان، وكأنه منزل لهم ودار، وهو تعبير ذو ظلال، وهو أقرب ما يصور موقف الأنصار من الإيمان، لقد كان دارهم ونزلهم ووطنهم الذي تعيش فيه قلوبهم، وتسكن إليه أرواحهم، ويثوبون إليه، ويطمئنون له، كما يثوب المرء ويطمئن إلى الدار.

وفي قوله: () هذا تشريف للمدينة، حيث سماها الله الدار، فكأنها هي دار الإيمان؛ لأن الإيمان أوى إليها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها)75.

فالتعريف في () للتنويه كأنها الدار التي تستحق أن تسمى دارًا، وهي التي أعدها الله تعالى لهم؛ ليكون تبوؤهم إياها مدحًا لهم.

وذكر بعضهم أن الدار علمٌ بالغلبة على المدينة، كالمدينة، وأنه أحد أسمائها، ومنها: طيبة، وطابة، ويثرب، وجابرة76.

وفي ذكر الدار -وهي المدينة- مع ذكر الإيمان إيماء إلى فضيلة المدينة، بحيث جعل تبوؤهم المدينة قرين الثناء عليهم بالإيمان، ولعل هذا هو الذي عناه مالك -رحمة الله- فيما رواه عنه ابن وهب قال: سمعت مالكًا يذكر فضل المدينة على غيرها من الآفاق، فقال: إن المدينة تبوأت بالإيمان والهجرة، وإن غيرها من القرى افتتحت بالسيف. ثم قرأ: ( ) [الحشر: ٩]الآية77.

وجاء عنه صلى الله عليه وسلم: (أمرت بقرية تأكل القرى)78 .

والمقصود: المدينة، أي: يغلب أهلها، وهم الأنصار بالإسلام على غيرها من القرى، وينصر الله دينه بأهلها، ويفتح القرى عليهم، ويغنمهم إياها فيأكلونها79.

وقوله: () [الحشر: ٩]أي: سكنوا الإيمان، والإيمان لا يسكن، وإنما شبه الإيمان كأنه دار سكنوها؛ لأن الدار يستقر فيها الإنسان، فهؤلاء الأنصار سكنوا الإيمان، بمعنى: استقر الإيمان في قلوبهم، والإنسان يلازم داره، بمعنى: يستقر ويطمئن ويستريح فيه، وهؤلاء لازموا الإيمان كملازمة الإنسان لمسكنه، وهذه شهادة لهم بالإيمان -رضي الله تعالى عنهم-، فهم مؤمنون صادقون، استقر الإيمان في قلوبهم.

قال ابن جزي: «فإن قيل: كيف قال: تبوءوا الدار والإيمان، وإنما تتبوأ الدار، أي: تسكن ولا يتبوأ الإيمان؟

فالجواب من وجهين:

الأول: أن معناه تبوءوا الدار، وأخلصوا الإيمان، فهو كقولك:

علفتها تبنًا وماء باردًا80.

تقديره: علفتها تبنًا، وسقيتها ماء باردًا.

والثاني: أن المعنى: أنهم جعلوا الإيمان كأنه موطن لهم؛ لتمكنهم فيه، كما جعلوا المدينة كذلك»81.

فيكون في عطف الإيمان على الدار ستة أوجه:

أحدها: أنه ضمن () معنى: لزموا، فيصح عطف الإيمان عليه؛ إذ الإيمان لا يتبوأ.

الثاني: أنه منصوب بمقدر، أي: واعتقدوا، أو وألفوا، أو وأحبوا، أو وأخلصوا؛ كقوله:

علفتها تبنًا وماءً باردًا

وقوله:

متقلدًا سيفًا ورمحا 82

أي: وحاملًا رمحًا.

الثالث: أنه يتجوز في الإيمان، إن الإيمان مجاز عن المدينة، سمي محل ظهور الشيء باسمه مبالغة، فيجعل اختلاطه بهم وثباتهم عليه كالمكان المحيط بهم، فكأنهم نزلوه، وعلى هذا فيكون جمع بين الحقيقة والمجاز في كلمة واحدة، وفيه خلاف مشهور.

الرابع: أن يكون الأصل: دار الهجرة ودار الإيمان، فأقام (لام) التعريف في (الدار) مقام المضاف إليه، وحذف المضاف من دار الإيمان، ووضع المضاف إليه مقامه.

الخامس: أن يكون سمى (المدينة)؛ لأنها دار الهجرة ومكان ظهور الإيمان.

السادس: أنه منصوب على المفعول معه (الواو للمعية) أي: مع الإيمان معًا، والمراد تبوءوا الدار مع إيمانهم، أي: تبوءوها مؤمنين83.

والضمير في قوله: ( ) [الحشر: ٩].

للمهاجرين، والجار متعلق بتبوء، أي: من قبل أن يهاجر المهاجرون إليهم، وقد أسلم كثير من الأنصار قبل المهاجرين، لكن المقصود -والله وأعلم- بقوله: ( ) [الحشر: ٩] أي: من قبل أن يهاجر المهاجرون، وأن الأنصار أسلم كثير من كبارهم وسادتهم على يد مصعب بن عمير رضي الله عنه قبل أن يهاجر كثير من المهاجرين -رضي الله تعالى عنهم-، وقبل أن تصبح المدينة دار الهجرة التي أوى إليها النبي عليه الصلاة والسلام، فكثير من الأنصار كان قد أسلم، ودخل الإيمان في قلوبهم، واستقر على يد مصعب بن عمير رضي الله عنه، فهو من فتح الله به المدينة المنورة بدعوته إلى الله، وسلوكه الطيب، حتى ما بقي بيت من بيوت المدينة إلا ودخله الإيمان.

وقد أورد ابن جزي إشكالًا، وأجاب عليه، حيث قال: «فإن قيل: قوله: ( ) [الحشر: ٩].

يقتضي أن الأنصار سبقوا المهاجرين بنزول المدينة وبالإيمان، فأما سبقهم لهم بنزول المدينة فلا شك فيه؛ لأنها كانت بلدهم، وأما سبقهم لهم بالإيمان فمشكل؛ لأن أكثر المهاجرين أسلم قبل الأنصار.

قال: والجواب من وجهين:

أحدهما: أنه أراد بقوله: ( ) [الحشر: ٩] من قبل هجرتهم.

والآخر: أنه أراد تبوءوا الدار مع الإيمان معًا، أي: جمعوا بين الحالتين قبل المهاجرين؛ لأن المهاجرين إنما سبقوهم بالإيمان لا بتبوء الدار، فيكون الإيمان على هذا مفعولًا معه، وهذا الوجه أحسن؛ لأنه جواب عن هذا السؤال، وعن السؤال الأول فإنه إذا كان الإيمان مفعولًا معه لم يلزم السؤال الأول؛ إذ لا يلزم إلا إذا كان الإيمان معطوفًا على الدار»84.

وجعل الألوسي ذلك من قبل تقدير مضاف، حيث قال: «والكلام بتقدير مضاف، أي: من قبل هجرتهم، فنهاية ما يلزم سبق الإيمان الأنصار على هجرة المهاجرين، ولا يلزم منه سبق إيمانهم على إيمانهم؛ ليقال: إن الأمر بالعكس، وجوز أن لا يقدر مضاف، ويقال: ليس المراد سبق الأنصار لهم في أصل الإيمان، بل سبقهم إياهم في التمكن فيه؛ لأنهم لم ينازعوا فيه لما أظهروه.

وقيل: الكلام على التقديم والتأخير، والتقدير: تبوءوا الدار من قبلهم والإيمان، فيفيد سبقهم إياهم في تبوء الدار فقط، وهو خلاف الظاهر، على أن مثله لا يقبل ما لم يتضمن نكتة سرية، وهي غير ظاهرة ها هنا؛ وقيل: لا حاجة إلى شيء مما ذكر، وقصار ما تدل الآية عليه تقدم مجموع تبوء الأنصار وإيمانهم على تبوء المهاجرين وإيمانهم، ويكفي في تقديم المجموع تقدم بعض أجزائه، وهو ها هنا تبوء الدار، وتعقب بمنع الكفاية، ولو سلمت لصح أن يقال: بتقدم تبوء المهاجرين وإيمانهم على تبوء الأنصار وإيمانهم؛ لتقدم إيمان المهاجرين»85.

ووصف الله الأنصار أيضًا بالإيمان والاستجابة لله، كما جاء في تفسير قوله تعالى: ( ) [الشورى: ٣٨].

أنها نزلت في الأنصار، حين دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإيمان، فاستجابوا له؛ أي: لرسول الله من صميم القلب، كما هو المفهوم من إطلاق الاستجابة، وفيه إشارة إلى أن الاستجابة للرسول استجابة للمرسل، فهو من عطف الخاص على العام لمزيد التشريف، وذلك لأن الاستجابة داخلة في الإيمان86.

قال الألوسي: ( ) [الشورى: ٣٨].

قيل: نزلت في الأنصار، دعاهم الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم للإيمان به وطاعته سبحانه، فاستجابوا له، فأثنى عليهم -جل وعلا- بما أثنى، وعليه فهو من ذكر الخاص بعد العام؛ لبيان شرفه؛ لأيمانهم دون تردد وتلعثم، والآية إن كانت مدنية فالأمر ظاهر، وإذا كانت مكية فالمراد بالأنصار من آمن بالمدينة قبل الهجرة، أو المراد بهم أصحاب العقبة87.

وقال الشوكاني: «قال ابن زيد: هم الأنصار بالمدينة استجابوا إلى الإيمان بالرسول حين أنفذ إليهم اثني عشر نقيبًا منهم قبل الهجرة، وأقاموا الصلاة لمواقيتها بشروطها وهيئاتها»88.

ووصف الله الأنصار بالإيمان والعمل الصالح، كما جاء عن ابن عباس في قوله: ( ) [محمد: ٣٤]. قال: هم أهل مكة، ( ) [محمد: ٢]. قال: هم أهل المدينة الأنصار ( ) [محمد: ٢]. قال: أمرهم89.

ووصفوا بأنهم رجال؛ وسماهم الله رجال، فقال: ( ﭯﭰ ﭻﭼ ﭿ ﮁﮂ ) [التوبة: ١٠٨].

فقد جاء ما يدل أنها نزلت في الأنصار، فعن أبي أيوب وجابر وأنس رضوان الله عليهم أن هذه الآية حين نزلت: ( ﭿ ﮁﮂ ) [التوبة: ١٠٨].

قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا معشر الأنصار إن الله قد أثنى عليكم في الطهور، فما طهوركم؟) قالوا: نتوضأ للصلاة، ونغتسل من الجنابة، ونستنجي بالماء، قال: (فهو ذاك، فعليكموه)90.

وعن موسى بن أبي كثير قال: بدء حديث هذه الآية في رجال من الأنصار، من أهل قباء91.

وقوله: ( ﭿ ﮁﮂ) [التوبة: ١٠٨].

أي: من الأحداث والجنابات والنجاسات...، وقالوا: المراد منه: الطهارة بالماء بعد الحجر، وقيل: المراد منه: الطهارة من الذنوب والمعاصي، وقيل: محمول على الأمرين92.

فتكون جملة: ( ﭿ ﮁﮂ) ثناء على مؤمني الأنصار الذين يصلون بمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبمسجد قباء، وجاء الضمير مفردًا مراعاة للفظ (مسجد) الذي هو جنس93.

ثانيًا: توبة الله على الأنصار، وتجاوزه عن تقصيرهم:

قال تعالى: ( ﯯﯰ ) [التوبة: ١١٧].

نزلت هذه الآية في غزوة تبوك التي كانت قبل الشام، وكان فيها جيش العسرة من المهاجرين والأنصار، ومن غيرهم من القبائل التي حول المدينة ومكة، ولكنهم خصوا بالثناء والتوبة؛ لأنهم لم يترددوا، ولم يتثاقلوا، ولا شحوا بأموالهم، فكانوا أسوة لمن ائتسى بهم من غيرهم من القبائل94.

ففي قوله: ( ) خبر مؤكد بلام القسم على حرف التحقيق (قد) بين فيه تعالى فضل عطفه على نبيه وأصحابه المؤمنين الصادقين من المهاجرين والأنصار، وتجاوزه عن هفواتهم في هذه الغزوة، وفي غيرها لاستغراقها في حسناتهم الكثيرة على كونهم لا يصرون على شيء منها، وإنما كانت هفواتهم هذه مقتضى الطباع البشرية، واجتهاد الرأي فيما لم يبينه الله تعالى بيانًا قطعيًا يعد مخالفه عاصيًا.

يقول ابن عاشور: «وافتتاح الله هذه الآية بحرف التحقيق (لقد)؛ تأكيدًا لمضمونها المتقرر فيما مضى من الزمان، حسبما دل عليه الإتيان بالمسندات كلها أفعالًا ماضية.

ومن المحسنات افتتاح هذا الكلام بما يؤذن بالبشارة لرضا الله على المؤمنين الذين غزوا تبوك، وتقديم النبي صلى الله عليه وسلم في تعلق فعل التوبة بالغزاة؛ للتنويه بشأن هذه التوبة، وإتيانها على جميع الذنوب؛ إذ قد علم المسلمون كلهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد غفر الله ما تقدم من ذنبه وما تأخر»95.

وهذه التوبة التي تابها الله على النبي والمهاجرين والأنصار -كما قال ابن عباس-: كانت التوبة على النبي لأجل إذنه للمنافقين في القعود، ودليله قوله: ( ) [التوبة: ٤٣].

وعلى المؤمنين من ميل قلوب بعضهم إلى التخلف عنه، وقيل: توبة الله عليهم استنقاذهم من شدة العسرة.

وقيل: خلاصهم من نكاية العدو، وعبر عن ذلك بالتوبة وإن خرج عن عرفها لوجود معنى التوبة فيه، وهو الرجوع إلى الحالة الأولى96.

يقول شيخ المفسرين الطبري: «يقول تعالى ذكره: لقد رزق الله الإنابة إلى أمره وطاعته نبيه محمدًا، والمهاجرين ديارهم وعشيرتهم إلى دار الإسلام، وأنصار رسوله في الله الذين اتبعوا رسول الله في ساعة العسرة منهم من النفقة والظهر والزاد والماء»97.

فيكون معنى توبته على النبي أي: بإذنه للمنافقين بالتخلف عنه98.

وقال أهل المعاني: هو مفتاح كلام، وذلك أنه لما كان سبب توبة التائبين ذكر معهم، كقوله: ( ) [الأنفال: ٤١]99.

وهذه التوبة على المهاجرين والأنصار في ساعة العسرة سببها كما قال الرازي: «ربما وقع في قلوبهم نوع نفرة عن تلك السفرة، وربما وقع في خاطر بعضهم أنا لسنا نقدر على الفرار، ولم يعزموا عليه، بل وساوس كانت تقع في قلوبهم، فالله تعالى بين في آخر هذه السورة أنه بفضله عفا عنها، فقال: ( ) [التوبة: ١١٧].

والوجه الثاني في الجواب: أن الإنسان طول عمره لا ينفك عن زلات وهفوات، إما من باب الصغائر، وإما من باب ترك الأفضل، ثم إن النبي وسائر المؤمنون لما تحملوا مشاق هذا السفر ومتاعبه، وصبروا على تلك الشدائد والمحن، أخبر الله تعالى أن تحمل تلك الشدائد صار مكفرًا لجميع الزلات التي صدرت عنهم في طول العمر، وصار قائمًا مقام التوبة المقرونة بالإخلاص عن كلها.

والوجه الثالث في الجواب: أن الزمان لما اشتد عليهم في ذلك السفر، وكانت الوساوس تقع في قلوبهم، فكلما وقعت وسوسة في قلب واحد منهم تاب إلى الله منها، وتضرع إلى الله في إزالتها عن قلبه، فلكثرة إقدامهم على التوبة بسبب خطرات تلك الوساوس ببالهم، قال تعالى: ( ) [التوبة: ١١٧]...الآية.

والوجه الرابع: لا يبعد أن يكون قد صدر عن أولئك الأقوام أنواع من المعاصي، إلا أنه تعالى تاب عليهم، وعفا عنهم لأجل أنهم تحملوا مشاق ذلك السفر، ثم إنه تعالى ضم ذكر الرسول عليه الصلاة والسلام إلى ذكرهم؛ تنبيهًا على عظم مراتبهم في الدين، وأنهم قد بلغوا إلى الدرجة التي لأجلها ضم الرسول عليه الصلاة والسلام إليهم في قبول التوبة»100.

وقوله تعالى: ( ) [التوبة: ١١٧].

() من أفعال المقاربة، تعمل في اسمين (عمل كان) واسمها هنا ضمير شأن مقدر، وخبرها هو جملة الخبر عن ضمير الشأن، وإنما جعل اسمها هنا ضمير شأن؛ لتهويل شأنهم حين أشرفوا على الزيغ.

واختلف في معنى (تزيغ) فقيل: تتلف بالجهد والمشقة والشدة، وقيل: تعدل -أي تميل- عن الحق في الممانعة والنصرة، وقيل: من بعد ما هم فريق منهم بالتخلف والعصيان ثم لحقوا به، وقيل: هموا بالقفول فتاب الله عليهم، وأمرهم به101.

وقوله تعالى: ( ) هذا تأكيد ظاهر، واعتناء بشأن التوبة، هذا إن كان الضمير راجعًا إلى من تقدم ذكر التوبة عنهم، وإن كان الضمير إلى الفريق فلا تكرار102. والمعنى: قيل: توبته عليهم أن تدارك قلوبهم حتى لم تزغ، وكذلك سنة الحق مع أوليائه إذا أشرفوا على العطب، ووطنوا أنفسهم على الهلاك أمطر عليهم سحائب الجود، فأحيا قلوبهم103.

فإن قيل: ذكر التوبة في أول الآية وفي آخرها، فما فائدة التكرار؟

فالجواب من وجوه:

أحدها: أنه تعالى ابتدأ بذكر التوبة قبل ذكر الذنب؛ تطييبًا لقلوبهم، ثم لما ذكر الذنب أردفه مرة أخرى بذكر التوبة؛ تعظيمًا لشأنهم.

وثانيها: إذا قيل: عفا السلطان عن فلان ثم عفا عنه، دل على أن ذلك العفو متأكد، بلغ الغاية القصوى في الكمال والقوة. . .، وهذا معنى قول ابن عباس في قوله: ( ) يريد ازداد عنهم رضًا، قال ابن عباس: من تاب الله عليه لم يعذبه أبدًا.

وثالثها: أنه قال: ( ) [التوبة: ١١٧].

وهذا الترتيب يدل على أن المراد أنه تعالى تاب عليهم من الوساوس التي كانت تقع في قلوبهم في ساعة العسرة،

ثم إنه تعالى زاد عليه فقال: ( ) [التوبة: ١١٧].

فهذه الزيادة أفادت حصول وساوس قوية، فلا جرم أتبعها تعالى بذكر التوبة مرة أخرى؛ لئلا يبقى في خاطر أحدٍ شك في كونهم مؤاخذين بتلك الوساوس104.

وفي قصة توبة الله على النبي والمهاجرين والأنصار وعلى الثلاثة، فوائد ومسائل، منها:

في هذه الآيات دليل على أن توبة الله على العبد أجل الغايات، وأعلى النهايات، فإن الله جعلها نهاية خواص عباده، وامتن عليهم بها، حين عملوا الأعمال التي يحبها ويرضاها، وفيها لطف الله بهم، وتثبيتهم في إيمانهم عند الشدائد والنوازل المزعجة.

وفي الآيات أيضًا دليل على أن العبادة الشاقة على النفس لها فضل ومزية ليست لغيرها، وكلما عظمت المشقة عظم الأجر، وأن توبة الله على عبده بحسب ندمه وأسفه الشديد، وأن من لا يبالي بالذنب، ولا يحرج إذا فعله، فإن توبته مدخولة، وإن زعم أنها مقبولة.

وأن علامة الخير وزوال الشدة إذا تعلق القلب بالله تعالى تعلقًا تامًا، وانقطع عن المخلوقين.

وأن من لطف الله بالثلاثة أن وسمهم بوسم ليس بعار عليهم، فقال: () إشارة إلى أن المؤمنين خلفوهم، أو خلفوا عن من بت في قبول عذرهم، أو في رده، وأنهم لم يكن تخلفهم رغبة عن الخير؛ ولهذا لم يقل: (تخلفوا).

ومن فوائد الآيات: أن الله تعالى من عليهم بالصدق؛ ولهذا أمر بالاقتداء بهم، فقال: ( ) [التوبة: ١١٩]105.

يقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: واعلم أن لله تعالى على عبده توبتين؛ التوبة الأولى: قبل توبة العبد؛ وهي التوفيق للتوبة؛ والتوبة الثانية: بعد توبة العبد؛ وهي قبول التوبة؛ وكلاهما في القرآن؛ قال الله تبارك وتعالى: ( ﭪﭫ ) [التوبة: ١١٨].

فقوله تعالى: ( ﭪﭫ) أي: وفقهم للتوبة، وقوله تعالى: (ﭪﭫ) أي: يقوموا بالتوبة إلى الله؛ وأما توبة القبول ففي قوله تعالى: ( ) [الشورى: ٢٥].

ومن فوائد الآيات:


1 انظر: مختار الصحاح،١/٦٨٨، معجم اللغة العربية المعاصرة، أحمد مختار عمر، ٣/٢٢٢٠.

2 انظر: مغاني الأخيار في شرح أسامي رجال معاني الآثار، العيني ٣/٣٨٢.

3 انظر: المصدر السابق.

4 انظر: المعجم المفهرس الشامل لألفاظ القرآن الكريم، عبد الله جلغوم، ص١٣٢٥-١٣٢٨.

5 انظر: بصائر ذوي التمييز، الفيروزآبادي ٥/٦٩.

6 انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، ابن الأثير، ٣/١٢.

7 انظر: نزهة النظر، ابن حجر العسقلاني، ص١٤٠.

8 انظر: تهذيب اللغة، الأزهري،٦/٢٩، معجم اللغة العربية المعاصرة، أحمد مختار عمر،٣/٢٣٢٥.

9 انظر: الكليات، الكفوي، ص٨٨٣.

10 انظر: أساس البلاغة، الزمخشري، ١/٦١١، تاج العروس، الزبيدي،٢٦/١٠٢.

11 انظر: العين، الفراهيدي، ٢/٧٨.

12 انظر: الضوء اللامع المبين عن مناهج المحدثين، أحمد ناجي، ص، ١٦٨.

13 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٣/٢٦٨.

14 معالم التنزيل، البغوي ٣/١٦٦.

15 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٧/٣٤.

16 جامع البيان، الطبري ١١/٥١٨.

17 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٨/٤٢.

18 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المغازي، باب قوله: (إذ همت طائفتان منكم)، ٥/ ٩٦، رقم ٤٠٥١ ومسلم في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل الأنصار،رضي الله عنهم، رقم ٢٥٠٥.

19 انظر: زاد المسير، ابن الجوزي ١/٤٤٩.

20 منهاج السنة النبوية ١/١٥٤.

21 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجمعة، باب فرض الجمعة، ٢/ ٢، رقم ٨٧٦، ومسلم في صحيحه، كتاب الجمعة، باب هداية هذه الأمة ليوم الجمعة ٢/ ٥٨٥، رقم ٨٥٥.

22 أحكام القرآن، ابن العربي ٤/٤٠٦.

23 مفاتيح الغيب، الرازي ٨/١٢٧.

24 فتح القدير ٢/٥٧٧.

25 زاد المسير، ابن الجوزي ٣/٤٩١.

26 جامع البيان، ١٤/٤٣٩.

27 تفسير القرآن العظيم، ٤/٢٠٣.

28 المصدر السابق.

29 صفوة التفاسير، الصابوني ١/٣٧٤.

30 محاسن التأويل، القاسمي ٢/٥٠.

31 في ظلال القرآن ٧/١٦٥.

32 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٨/٦٩.

33 محاسن التأويل، القاسمي ٢/٥٠.

34 عمدة القاري ٢٤/٤١١.

35 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب مناقب الأنصار، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار:(أنتم أحب الناس إلي)، ٥/ ٣٢، رقم ٣٧٨٦، ومسلم في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل الأنصار، ٤/ ١٩٤٨، رقم ٢٥٠٨.

36 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الإيمان، باب علامة الإيمان حب الأنصار، ١/ ١٢، رقم ١٧، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب الدليل على أن حب الأنصار وعلي رضي الله عنهم من الإيمان وعلاماته، وبغضهم من علامات النفاق ١/٨٥، رقم ٧٤.

37 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب مناقب الأنصار، باب حب الأنصار، ٥/٣٢، رقم ٣٧٨٣، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب الدليل على أن حب الأنصار وعلي رضي الله عنهم من الإيمان وعلاماته، وبغضهم من علامات النفاق ١/٨٥، رقم ٧٥.

38 انظر: فتح الباري، ابن حجر ١/ ١٦٣.

39 الجامع لأحكام القرآن، ١٨/ ٢٦.

40 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، باب قوله: (ويؤثرون على أنفسهم)، ٦/ ١٤٨، رقم ٤٨٨٩.

41 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، باب قوله: (ويؤثرون على أنفسهم)، ٥/ ٣٤، رقم ٣٧٩٨.

42 انظر: زاد المسير، ابن الجوزي ٤/٢٥٨.

43 انظر: الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ١٨/٢٥.

44 التسهيل لعلوم التنزيل، ابن جزي ٢/٣٦٠.

45 مفاتيح الغيب، الرازي ٢٩/٥٠٨.

46 المصدر السابق.

47 انظر: المصدر السابق.

48 مفاتيح الغيب، الرازي ٢٩/٥٠٨.

49 تفسير القرآن العظيم، ٨/٧١.

50 أخرجه البزار في مسنده، رقم ٧٢٩٣ والطبراني في المعجم الأوسط ٥٧٥٤.

وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب ٢/ ٣٥٦، رقم ٢٦٠٧.

51 روح البيان، إسماعيل حقي ٩/٣٥٣.

52 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإمارة، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية، وتحريمها في المعصية ٣/١٤٧٠، رقم ١٧٠٩.

53 أحكام القرآن، ابن العربي ٧/٣٠٨.

54 فتح القدير ٥/٢٠١

55 المصدر السابق ٥/٢٨٢.

56 انظر: زاد المسير، ابن الجوزي ٨ /٢١٢.

57 مجموع فتاوى ابن تيمية ١٠/١١٩.

58 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجزية، باب ما أقطع النبي صلى الله عليه وسلم من البحرين، وما وعد من مال البحرين والجزية، ولمن يقسم الفيء والجزية ٤/ ٩٨، رقم ٣١٦٣، ومسلم في صحيحه، كتاب الإمارة، باب الأمر بالصبر عند ظلم الولاة واستئثارهم ٣/ ١٤٧٤، رقم ١٨٤٥.

59 أحكام القرآن، ابن العربي ٧/٣١٠.

60 انظر: لطائف الإشارات، القشيري ٣/٥٦١.

61 محاسن التأويل، القاسمي ٢٣/ ٢.

62 زهرة التفاسير، أبو زهرة ١/٣٢٠١.

63 انظر: ديوان حسان بن ثابت ص٩٩.

64 أخرجه أحمد في مسنده، ٢٥/٩٢، رقم ١٥٧٨٩.

65 انظر: السيرة النبوية، ابن هشام ٢/١٩٧- ٢٠٩.

66 انظر: جامع البيان، الطبري ١٠/٥١، تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٤/٩٥.

67 فتح القدير ٢/٤٧٨.

68 انظر: زهرة التفاسير، أبو زهرة ٦/٣٢٠٢.

69 المصدر السابق ٦/٣٢٠٦.

70 انظر: المصدر السابق ٦/٣٢٠٩.

71 انظر: مفاتيح الغيب، الرازي ١٥/٥١٩.

72 أخرجه الطبراني في الكبير ٧/ ١٥١، رقم ٦٦٦٥.

73 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٢٨/٩٠.

74 المصدر السابق.

75 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل المدينة، باب الإيمان يأرز إلى المدينة ٣/ ٢١، رقم ١٨٧٦، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب بيان أن الإسلام بدأ غريبًا وسيعود غريبًا، وأنه يأرز بين المسجدين ١/١٣١، رقم ١٤٧.

76 روح المعاني، الألوسي ٢٠/٤٢٥.

77 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٢٨/٩١.

78 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل المدينة، باب فضل المدينة وأنها تنفي الناس ٣/ ٢٠، رقم ١٨٧١، ومسلم في صحيحه، كتاب الحج، باب المدينة تنفي شرارها، ٢/١٠٠٦، رقم ١٣٨٢.

79 انظر: النهاية في غريب الأثر، ابن الأثير ١/١٤٤.

80 البيت في خزانة الأدب ٣/ ١٣٩، وفي العباب الزاخر ١/٤٨١، وتمامه: «حتى شتت همالةً عيناها».

81 التسهيل لعلوم التنزيل، ٣/١٥٧.

82 البيت في الكامل في اللغة ١/ ٢٩١ وشرح ديوان الحماسة ص ٨٠٥ غير منسوب لقائل، وصدره: «يا ليت بعلك قد غذا».

83 انظر: اللباب في علوم الكتاب، ابن عادل ١٥/٢٠١.

84 التسهيل لعلوم التنزيل، ٣/١٥٧.

85 روح المعاني، ٢٠/٤٢٥.

86 روح البيان، إسماعيل حقي ٨/٢٥٣.

87 روح المعاني ٢٥/٤٦.

88 فتح القدير ٤/٧٦٩.

89 انظر: فتح القدير، الشوكاني ٥/٤٧.

90 أخرجه ابن ماجه في كتاب الطهارة وسننها، باب الاستنجاء بالماء ١/ ١٢٧، رقم ٣٥٥.

وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه، ١/٦٣.

91 جامع البيان، الطبري ١٤/ ٤٨٨.

92 اللباب في علوم الكتاب، ابن عادل ١٠/ ٢١٠.

93 التحرير والتنوير، ابن عاشور ١١/ ٣٢.

94 انظر: المصدر السابق .

95 السابق ١١/٤٩.

96 اللباب في علوم الكتاب، ابن عادل ٨/٣٨٧.

97 جامع البيان، ١٤/٥٣٩.

98 معالم التنزيل، البغوي ٤/١٠٤.

99 اللباب في علوم الكتاب، ابن عادل ٨/٣٨٧.

100 انظر: مفاتيح الغيب، الرازي ٨/١٧٠.

101 انظر: الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٨/٢٨١.

102 انظر: فتح القدير، الشوكاني ٢/٥٩٩.

103 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٨/٢٨١.

104 اللباب في علوم الكتاب، ابن عادل ٨/٣٨٩.

105 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص٣٥٤.

106 انظر: تفسير القرآن الكريم، ابن عثيمين ٣/٩١.

107 انظر: اللباب في علوم الكتاب، ابن عادل ٨/٣٨٧.

108 انظر: المصدر السابق.

109 انظر: اللباب في علوم الكتاب، ابن عادل ٨/٣٨٧.

110 انظر: السيرة النبوية، ابن كثير ٤/ ١٦.

111 أخرجه الترمذي في سننه، أبواب المناقب، ٥/ ٦٢٦، رقم ٣٧٠١.

وحسنه الألباني في تعليقه على المشكاة، رقم ٦٠٦٤.

112 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الفتن، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: (سترون بعدي أمورًا تنكرونها)، ٩/ ٤٧، رقم ٧٠٥٦، ومسلم في صحيحه، كتاب الإمارة، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية، وتحريمها في المعصية، ٣/١٤٧٠، رقم ١٧٠٩.

113 تفسير القرآن الكريم، ٨/ ١١٣.

الأنصار

عناصر الموضوع

مفهوم الأنصار

الأنصار في الاستعمال القرآني

الألفاظ ذات الصلة

صفات الأنصار وأعمالهم

فضائل الأنصار

الأنصار

مفهوم الأنصار

أولًا: المعنى اللغوي:

الأنصار: جمع ناصر، كصاحب وأصحاب، كما تجمع ناصر على ناصرين ونصار، اسم فاعل من نصر.

أو جمع نصير، كشريف وأشراف، (ناصر أو نصير) وكلاهما صواب، والنصير: فعيل، بمعنى فاعل أو مفعول؛ لأن كل واحد من المتناصرين ناصر ومنصور.

ونصير: صيغة مبالغة من ناصر، ومعناه: المساعد، والمعين، والمناصر، والمؤيد.

يقال: نصره على عدوه ينصره نصرًا، واستنصره على عدوه: سأله أن ينصره عليهم، وتناصر القوم: إذا نصر بعضهم بعضًا، وانتصر منه: انتقم1.

ولفظ الأنصار يأتي بمعنى: الأعوان المناصرين والمؤازرين والأتباع والحلفاء، وأهل الاتباع والتصديق.

وهذا اللفظ (الأنصار) بهذا المعنى اللغوي يمكن إطلاقه لغةً على كل من اتصف بهذا الوصف.

ثانيًا: المعنى الاصطلاحي:

وفي المعنى الاصطلاحي الأمر ليس ببعيد عن المعنى اللغوي، فأنصار الرجل هم حلفاؤه وأتباعه ومؤيدوه في النزاعات، ومعاونوه على أمره.

ومن هنا جاء تعريف الأنصار في الاصطلاح الشرعي بأنهم الأوس، والخزرج من الأزد: سماهم الله عز و جل بذلك لما نصروا رسوله، وآووه، وكانوا له نعم الحلفاء والأتباع2.

فالأنصار اصطلاحًا: يطلق على من أسلم من أهل المدينة بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم من الأوس، والخزرج، ومزينة، وسليم، وجهينة، وغفار، وأسلم، فكل هؤلاء يسمون الأنصار، وهو اسم سماه الله تعالى لكل من ناصر نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم وآواه في المدينة3، وأولادهم يدخلونه بالنسب؛ فيقال: الأنصاري للواحد منهم ومن أبنائهم.

الأنصار في الاستعمال القرآني

وردت مادة (نصر) في القرآن (١٥٥) مرة، يخص موضوع البحث منها (١١) مرة4.

والصيغ التي وردت هي:

الصيغة

عدد المرات

المثال

الجمع

١١

( ) [البقرة:٢٧٠]

وجاءت كلمة (الأنصار) في الاستعمال القرآني بمعناها اللغوي، وهو: الأعوان5.

الألفاظ ذات الصلة

الصحابة:

الصحابة لغة:

الصحابة بالفتح: جمع صاحب، ولم يجمع فاعل على فعالة إلا هذا6.

الصحابة اصطلاحًا:

هو من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمنًا به، ومات على الإسلام، ولو تخللت ردةٌ في الأصح7.

الصلة بين الأنصار والصحابة:

عند الحديث عن الفرق بين لفظة الأنصار ولفظة الصحابة وكذلك الألفاظ الثلاثة التالية يكون المقصود منه الاصطلاح الشرعي، فيكون لفظ الأنصار أخص من لفظ الصحابة، إذ الصحابة منهم المهاجرون والأنصار والطلقاء، ومن دخل في دين النبي صلى الله عليه وسلم من القبائل بعد الفتح.

المهاجرون:

المهاجرون لغة:

جمع مهاجر، والمهاجر هو كل من فارق رباعه من بدوي أو حضري وسكن بلدًا آخر8.

ا لمهاجرون اصطلاحًا:

هم الذين صلوا إلى القبلتين، أو شهدوا بدرًا، أو أسلموا قبل الهجرة9.

الصلة بين الأنصار والمهاجرين:

الأنصار هم أهل المدينة الذين آووا النبي صلى الله عليه وسلم ومن هاجر إليهم من أهل الإسلام من مكة، والمهاجرون هم الذين قدموا المدينة مع النبي صلى الله عليه وسلم، أو هاجروا إليه منها بعد ذلك، وقبل انتهاء أجل الهجرة.

الطلقاء:

الطلقاء لغة:

أطلقت الأسير، وهو طليق، وهو من الطلقاء. وأطلقت الناقة من عقالها فطلقت10.

الطلقاء اصطلاحًا:

هم أهل مكة الذين أسلموا بعد فتحها.

الصلة بين الأنصار والطلقاء:

الأنصار من أهل المدينة وإسلامهم متقدم على إسلام الطلقاء، أما الطلقاء فهم أهل مكة وإسلامهم كان بعد فتح مكة.

التابعون:

التابعون لغة:

جمع تابع، وهو التالي، ومنه التتبع والمتابعة، والإتباع، والتتبع، تقول: تتبعت علمه، أي: اتبعت آثاره11.

التابعون اصطلاحًا:

من لقي الصحابي، وإن لم تطل صحبته12.

الصلة بين الأنصار والتابعين:

الأنصار صحبوا النبي صلى الله عليه وسلم ورأوه وهم من قرن النبي صلى الله عليه وسلم، بينما التابعون هم من صحبوا الصحابة بعد موت النبي، أو قبل ذلك ولم يحصل لهم شرف الصحبة.

صفات الأنصار وأعمالهم

تحدث القرآن الكريم عن صفات الأنصار وأعمالهم، وسوف نتناول ذلك بالبيان فيما يأتي:

أولًا: أبرز صفات الأنصار:

اصطفى الله سبحانه لهذا الدين رجالًا، كان لهم الحظ الأوفر، والشرف العظيم في نصرة الدين والنبي صلى الله عليه وسلم وإيوائه بعد أن خذله الناس، ألا وهم الأنصار، فهم من آوى الرسول ونصر، وكبت المشركين وقهر؛ ولهذا فحبهم ثابت في قلب كل مسلم، وبغضهم متقد في قلب كل منافق.

وقد شهد الكتاب العزيز بفضلهم، وبرضوان الله عليهم؛ لما قدموا من خدمة لهذا الدين، فخلد الله مديحهم ورضوانه عليهم في كتابه.

ولو تأملنا في صفات الأنصار في القرآن الكريم، وأمعنا النظر لوجدنا فضائلهم جمة، ومناقبهم عظيمة، بلغوا فيها غاية الكمال، ونالوا بها رضا ربهم الكريم المنان، فهو تارة يصفهم بالسابقين الأولين، وتارة بالإيواء والنصرة والإيمان، وتارة يصفهم بالفلاح، وتارة يثني على جهادهم وصبرهم وإيثارهم، وتارة يخبر بالرضا والتوبة عنهم.

وقد أشار إلى بعض أفعالهم وصفاتهم، ومنها: تبوءهم المدينة، وحبهم للمهاجرين، وإيثارهم إياهم، وسلامة صدورهم، كما في قوله تعالى: ( ﯽﯾ ﯿ ) [الحشر: ٩].

وأشار إليهم في قوله: ( ﯞﯟ ) [الأنعام: ٨٩].

فقوله: ( ) قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: «وقوله: ( ) يعني: أهل مكة، قاله ابن عباس وسعيد بن المسيب والضحاك وقتادة والسدي وغير واحد، وقوله: ( ) أي: إن يكفر بهذه النعم من كفر بها من قريش وغيرهم من سائر أهل الأرض، من عرب وعجم، ومليين وكتابيين، فقد وكلنا بها قومًا آخرين، أي: المهاجرين والأنصار، وأتباعهم إلى يوم القيامة»13.

وكذا قال البغوي: «أن المراد بقوله: ( ) يعني: الأنصار وأهل المدينة»14. وقال القرطبي: « ( ) جواب الشرط، أي: وكلنا بالإيمان بها ( ) يريد الأنصار من أهل المدينة، والمهاجرين من أهل مكة»15.

وقال الطبري بعد أن ذكر عدة أقوال في المراد بقوله: ( ): «وأولى هذه الأقوال في تأويل ذلك بالصواب قول من قال: عنى بقوله: ( ) كفار قريش ( ) يعني به: الأنبياء الثمانية عشر الذين سماهم الله تعالى ذكره في الآيات قبل هذه الآية، وذلك أن الخبر في الآيات قبلها عنهم مضى، وفي التي بعدها عنهم ذكر، فما بينها بأن يكون خبرًا عنهم، أولى وأحق من أن يكون خبرًا عن غيرهم»16. وعلى كل حال لا يوجد ما يمنع من دخول الأنصار في المراد من الآية، والله أعلم.

وأشير إليهم أيضًا في قوله تعالى: ( ﭗﭘ ) [الأنفال: ٦٢].

أي: قواك بنصره، يريد: يوم بدر، وبالمؤمنين، قال النعمان بن بشير: نزلت في الأنصار ( ﭡﭢ ) [الأنفال: ٦٣].

أي: جمع بين قلوب الأوس والخزرج، وكانت تألف القلوب مع العصبية الشديدة في العرب من آيات النبي صلى الله عليه وسلم، ومعجزاته؛ لأن أحدهم كان يلطم اللطمة فيقاتل عليها حتى يستقيدها، وكانوا أشد خلق الله حمية، فألف الله بالإيمان بينهم، حتى قاتل الرجل أباه وأخاه بسبب الدين، وقيل: أراد التأليف بين المهاجرين والأنصار، والمعنى متقارب17.

ونزل فيهم قوله -جل وعلا-: ( ﭘﭙ ) [آل عمران: ١٢٢].

فعن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه قال: نزلت هذه الآية فينا: ( ) قال: نحن الطائفتان بنو حارثة وبنو سلمة، وما أحب أنها لم تنزل، والله يقول: ( ﭘﭙ) وقال سفيان مرةً: وما يسرني أنها لم تنزل؛ لقول الله: ( ) 18.

«وقال الحسـن البصري: هما طائفتان من الأنصار همتا بذلك، فعصمهما الله، وقيل: لما رجع عبـد الله ابن أبي في أصحابـه يوم أحد همت الطائفتان باتباعه، فعصمهما الله»19.

والمقصود أن الله تبارك وتعالى بين في هذه الآيات فضائل الأنصار التي بَيَنَها القرآن الكريم، فقد نص على مجموعة من صفاتهم الحميدة، ومنها:

١. سبق الأنصار إلى الإيمان والنصرة.

وصف الله الأنصار في القرآن الكريم بالسبق، فقال: ( ﭦﭧ ) [التوبة: ١٠٠].

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «ذهب جمهور العلماء إلى أن السابقين في قوله تعالى: ( ) [التوبة: ١٠٠].

هم هؤلاء الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا، وأهل بيعة الرضوان كلهم منهم، وكانوا أكثر من ألف وأربعمائة»20.

وبين ابن العربي رحمه الله الأمور التي يكون فيها السبق، فقال: «السبق يكون بثلاثة أشياء: الصفة، وهو الإيمان، والزمان، والمكان، وأفضل هذه الوجوه سبق الصفات، والدليل عليه قوله صلى الله عليه وسلم في الصحيح: (نحن الآخرون الأولون، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، وأوتيناه من بعدهم، فهذا يومهم الذي اختلفوا فيه، فهدانا الله له، فاليهود غدًا، والنصارى بعد غد)21»22.

وقال الرازي: «اختلفوا في السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار من هم؟ وذكروا وجوهًا. . . »، ثم قال: «والصحيح عندي أنهم السابقون في الهجرة وفي النصرة، والذي يدل عليه أنه ذكر كونهم سابقين، ولم يبين أنهم سابقون في ماذا؟ فبقي اللفظ مجملًا، إلا أنه وصفهم بكونهم مهاجرين وأنصارًا، فوجب صرف ذلك اللفظ إلى ما به صاروا مهاجرين وأنصارًا، وهو الهجرة والنصرة، فوجب أن يكون المراد منه السابقون الأولون في الهجرة والنصرة؛ إزالة للإجمال عن اللفظ... ثم قال: و أيضًا فالسبق إلى الهجرة طاعة عظيمة من حيث إن الهجرة فعل شاق على النفس، ومخالف للطبع، فمن أقدم عليه أولًا صار قدوة لغيره من هذه الطاعة، وكان ذلك مقويًا لقلب الرسول عليه الصلاة والسلام، وسببًا لزوال الوحشة عن خاطره، وكذلك السبق في النصرة، فإن الرسول عليه الصلاة والسلام لما قدم المدينة، فلا شك أن الذين سبقوا إلى النصرة والخدمة، فازوا بمنصب عظيم»23.

وما ذكر قبل من الأقوال هو من باب التمثيل، فيكون هذا من باب اختلاف التنوع، لا اختلاف التضاد؛ ولهذا قال الشوكاني رحمه الله: «ولا مانع من حمل الآية على هذه الأصناف كلها»24.

٢. رضوان الله عن الأنصار ورضاؤهم عنه.

أخبر سبحانه أنه رضي عن (المهاجرين) والأنصار وعن أفعالهم، ورضوا عنه سبحانه؛ لما أجزل لهم من الثواب على طاعاتهم وإيمانهم به ويقينهم، فقال تعالى: ( ) [التوبة: ١٠٠].

فقوله تعالى: ( ) يعم الكل، قال الزجاج: رضي الله أفعالهم، ورضوا ما جازاهم به25 فحين ذكر سبحانه وتعالى الجزاء الذي أعده لهؤلاء، وحين كانت نفوسهم زاكية راقية؛ قابلوا الجزاء بالشكر، والتزود من الطاعة، فذكر سبحانه أنهم: ( ) وهذا أرقى المراتب التي يسعى إليها المؤمنون، ويتنافس فيها المتنافسون، أن يرضى الله تعالى عنهم، ويرضيهم، يقول الطبري: «رضي الله عن جميعهم لما أطاعوه، وأجابوا نبيه إلى ما دعاهم إليه من أمره ونهيه، ورضي عنه السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان لما أجزل لهم من الثواب على طاعتهم إياه، وإيمانهم به وبنبيه عليه السلام»26.

ففي هذه الآية إخبار بأن الله رضي عنهم ورضوا عنه، وفي هذا دليل على عدالتهم، ووجه الدلالة: أن الله تعالى أخبر فيها برضاه عنهم، ولا يثبت الله رضاه إلا لمن كان أهلًا للرضا، ولا توجد الأهلية لذلك إلا لمن كان من أهل الاستقامة في أموره كلها، عدلًا في دينه.

يقول ابن كثير رحمه الله: «يخبر تعالى عن رضاه عن السابقين من المهاجرين والأنصار، والتابعين لهم بإحسان، ورضاهم عنه بما أعد لهم من جنات النعيم، والنعيم المقيم»27.

ويقول أيضًا: «فقد أخبر الله العظيم أنه قد رضي عن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، فيا ويل من أبغضهم أو سبهم، أو أبغض أو سب بعضهم»28.

وقال تعالى في جزاء هؤلاء السابقين: ( ) [التوبة: ١٠٠].

أي: وأعد لهم في الآخرة جنات تجري من تحت أشجارها وقصورها الأنهار، ( ) أي: مقيمين فيها من غير انتهاء، ( ) أي: ذلك هو الفوز الذي لا فوز وراءه.

قال في البحر: لما بين تعالى فضائل الأعراب المؤمنين بين حال هؤلاء السابقين، ولكن شتان ما بين الثناءين، فهناك قال: ( ) [التوبة: ٩٩].

وهنا قال: ( ) وهناك ختم ( ) [التوبة: ٩٩].

وهنا ختم: ( ) [التوبة: ١٠٠]29.

وهذا الرضوان للأنصار، وما أعد لهم من الجنات والنعيم، هو جزاء ما قدموه لهذا الدين، وما تركوا من دورهم وأهليهم، وجزاء ما أعطوه للمهاجرين من أموالهم؛ لأن الهجرة أمر شاق على النفس، لمفارقة الأهل والعشيرة، والنصرة منقبة شريفة؛ لأنها إعلاء كلمة الله، ونصر رسوله وأصحابه، والإحسان من أحوال المقربين أو مقاماتهم.

وفي هذه الآية ( ) [التوبة: ١٠٠] فوائد:

الأولى: في الآية دليل على أن للصحابة مراتب، وأن الفضل للسابق إلى الإسلام والهجرة، وأن السابقين من الصحابة أفضل ممن تلاهم.

الثانية: قيل: المراد بالسابقين الأولين جميع المهاجرين والأنصار، فـ(من) بيانية؛ لتقدمهم على من عداهم، وقيل: بعضهم، وهم قدماء الصحابة و(من) تبعيضية، وقد اختار كثيرون الثاني، واختلفوا في تعيينهم.

الثالثة: تقديم المهاجرين؛ لفضلهم على الأنصار، كما ذكر في قصة السقيفة، ومنه علم فضل أبي بكر رضي الله عنه على من عداه؛ لأنه أول من هاجر معه صلى الله عليه وسلم30.

الرابعة: وفيها دليل على تنزيل الناس منازلهم.

الخامسة: وفيها دليل على أن أفضلية العمل على قدر رجوع منفعته إلى الإسلام والمسلمين.

السادسة: رضا الله عن السابقين من المهاجرين والأنصار، والمعنى: أنه رضي عنهم بما عملوه من الطاعات الخالصة له، ورضوا عنه بما جازاهم به مما لا يخطر لهم على بال، ولا تتصوره عقولهم، والرضا منه سبحانه هو أرفع درجات النعيم، وأعلى منازل الكرامة.

٣. حب الأنصار للمهاجرين.

قد شهد الله تعالى لهم بذلك في قوله: ( ) [الحشر: ٩].

فمن جملة أوصاف الأنصار الجميلة أنهم: ( ) [الحشر: ٩].

وهذا لمحبتهم لله ولرسوله أحبوا أحبابه، وأحبوا من نصر دينه، وهذه المحبة هي آصرة أقوى من آصرة النسب، وأقوى من رابطة الدم؛ لأنها تجمع على الإيمان بالله واليوم الآخر؛ ولأنها تستل كل الأحقاد والضغائن من الصدور؛ ولأنها تجعل من محبة الفرد لأخيه المسلم طاعة يتقرب بها، وينال بها الأجر والثواب من الله عز وجل، ويحصل بها على المنازل الرفيعة في الآخرة.

وأن هذه الرابطة أقوى من رابطة الدم واللغة والمصالح الاقتصادية، والعلاقات المتبادلة، يقول سيد قطب في الكلام على هذه الآية: «وهذه كذلك صورة وضيئة صادقة تبرز أهم الملامح المميزة للأنصار، هذه المجموعة التي تفردت بصفات، وبلغت إلى آفاق، لولا أنها وقعت بالفعل، لحسبها الناس أحلامًا طائرة، ورؤًى مجنحة، ومثلًا عليا قد صاغها خيال محلق. . .، ولم يعرف تاريخ البشرية كله حادثًا جماعيًا كحادث استقبال الأنصار للمهاجرين بهذا الحب الكريم، وبهذا البذل السخي، وبهذه المشاركة الرضية، وبهذا التسابق إلى الإيواء واحتمال الأعباء، حتى ليروى أنه لم ينزل مهاجر في دار أنصاري إلا بقرعة؛ لأن عدد الراغبين في الإيواء المتزاحمين عليه أكثر من عدد المهاجرين»31.

وفي قوله تعالى: () الواو استئنافية و () مبتدأ، وخبره () والجملة مستأنفة.

وقوله: () [الحشر: ٩].

خبر عن اسم الموصول () والمعنى: يحبونهم من حيث مهاجرتهم إليهم لمحبتهم الإيمان؛ قال ابن كثير: «أي: من كرمهم وشرف أنفسهم يحبون المهاجرين، ويواسونهم بأموالهم»32.

وقوله: ( ) أي: إلى المدينة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه حال الأنصار، فقلوبهم مملوءة بالحب للمهاجرين، ولا يحملون في صدورهم شيئًا على إخوانهم المهاجرين؛ لكونهم فضلوا عليهم ببعض الفضائل.

قال القاسمي: وقوله: () أي: لوجود الجنسية -أي المجانسة- في الصفاء، والموافقة في الدين والإخاء، قال الشهاب: المراد بمحبتهم المهاجرين هنا مواساتهم، وعدم الاستثقال والتبرم منهم، إذا احتاجوا إليهم، فالمحبة كناية عما ذكر33.

ويقول العيني: «في قوله: ( ) [الحشر: ٩أي: من المسلمين، حتى بلغ من محبتهم أن نزلوا لهم عن نسائهم، وشاطروهم أموالهم ومساكنهم»34.

وفي مقابل هذا الحب منهم أحبهم المهاجرون، وأحبهم الرسول صلى الله عليه وسلم، حتى قال للأنصار: (والذي نفسي بيده إنكم أحب الناس إلي)35 مرتين.

بل جعل الرسول حبهم من دلائل الإيمان، كما في حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار)36.

ففي هذا الحديث دلالة أن حب المؤمن لقبيلة الأنصار شعبة من شعب الإيمان، وعلامة عليه، فلا يحبهم إلا مؤمن، وأن بغضهم وكرههم شعبة من شعب النفاق والكفر، فلا يبغضهم إلا منافق.

وعن البراء قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الأنصار لا يحبهم إلا مؤمن، ولا يبغضهم إلا منافق، فمن أحبهم أحبه الله، ومن أبغضهم أبغضه الله)37.

وليس المراد بالبغض في هذا الحديث البغض الناتج من العداء الشخصي لأفرادهم، وإنما المراد بغضهم بسبب الصفة التي مدحوا بها، وهي نصرتهم للنبي صلى الله عليه وسلم، فمن أبغضهم من جهة هذه الصفة، وهي: كونهم نصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم أثر ذلك في تصديقه، فيصح أنه منافق38.

وكذلك الحب يقال فيه مثل ما يقال في البغض.

وهذا الحب من الأنصار لإخوانهم المهاجرين دافعه وجه الله تعالى، ومعرفتهم فضل الأخوة في الله، ومكانتها في الدين، فالأخوة في الله مبدأ عظيم من مبادئ الإسلام، يقوم عليه الولاء والبراء، والحب والبغض.

وتجلت هذه الأخوة في أبهى صورها، وأجمل حللها، في تلك المواقف السمحة التي عامل بها الأنصار إخوانهم المهاجرين، وهذا التآخي لم يكن مجرد شعار للمزايدة، ودغدغة العواطف، والالتفاف حول المعاني السامية بالأكاذيب والتدليس والتلبيس، لكنه معنى خالط قلوبهم ومشاعرهم، ولحمهم ودمهم، برز ذلك في سلمهم وحربهم، وفقرهم وغناهم، مستضعفين وممكن لهم، أفرادًا وجماعات.

وهذا الأنموذج من الأخوة الصادقة حرص النبي صلى الله عليه وسلم عليه وأكده، وكان من أوائل الأمور التي قام بها بعد وصوله المدينة أن آخى بين المهاجرين والأنصار؛ ليذهب عن المسلمين المهاجرين وحشة الغربة، ويؤنسهم عن مفارقة الأهل والعشيرة، ويشد بعضهم أزر بعض.

٤. الإيثار عند الأنصار.

الإيثار من أعظم الصفات التي اتصف بها المجتمع الإسلامي؛ ولهذا يقول بعض المفكرين: بأن كلمة الإيثار يصعب ترجمتها إلى لغات أخرى، أي: ليس لها مرادف في اللغات الأخرى مرادف يؤدي معناها، ويحقق كل معانيها، وكأن هذه الخصلة هي من الخصال التي أتى بها هذا الدين الحنيف، وزكى غرسها، وحث عليها، ودعا إليها.

وأعظم الناس إيثارًا في التاريخ الإسلامي هم الأنصار، فقد جاءهم المهاجرون إلى المدينة وهم لا يملكون من أمر الدنيا شيئًا، قد تركوا أموالهم وما يملكون خلف ظهورهم، وأقبلوا على ما عند الله عز وجل، يرجون رحمته، ويخافون عذابه، فاستقبلهم الأنصار الذين تبوءوا الدار، وأكرموهم أيما إكرام، ولم يبخلوا عليهم بشيء من حطام الدنيا، بل قاسموهم الأموال والمتاع، وشاطروهم بيوتهم وأرضهم وأموالهم، بطيب نفس، وسلامة صدر، في صورة يعجز عن وصفها اللسان، ويضعف عن تعبيرها البيان، وقابل المهاجرون هذا الإيثار الرائع بحسن الخلق والتعفف.

وقد امتدح الله جل وعلا خلق الإيثار عند الأنصار، فقال: ( ﯽﯾ ﯿ ) [الحشر: ٩].

ففي قوله: ( ﯽﯾ) [الحشر: ٩].

أي: إن من أوصاف الأنصار التي فاقوا بها غيرهم، وتميزوا بها على من سواهم الإيثار، وهو أكمل أنواع الجود، وهو الإيثار بمحاب النفس من الأموال وغيرها، وبذلها للغير مع الحاجة إليها، بل مع الضرورة والخصاصة، وهذا لا يكون إلا من خلق زكي، ومحبة لله تعالى مقدمة على محبة شهوات النفس ولذاتها.

والمراد بقوله: () [الحشر: ٩].

أي: الأنصار، والإيثار لغة: مصدر من قولهم: آثره عليه يؤثره إيثارًا، بمعنى: فضله وقدمه، والمآثر: ما يروى من مكارم الإنسان، وفي التنزيل: ( ) [يوسف: ٩١]. وآثر أن يفعل كذا: فضل وقدم، وضده الأثرة من قولهم: استأثر بالشيء انفرد به، أو اختص به نفسه.

واصطلاحًا: قال القرطبي: «الإيثار: هو تقديم الغير على النفس في حظوظها الدنيوية؛ رغبة في الحظوظ الدينية، وذلك ينشأ عن قوة اليقين، وتوكيد المحبة، والصبر على المشقة»39.

وفي قوله: () [الحشر: ٩]. مفعول الإيثار محذوف، والتقدير: ويؤثرونهم بأموالهم ومنازلهم على أنفسهم.

جاء في البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أتى رجلٌ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، أصابني الجهد، فأرسل إلى نسائه فلم يجد عندهن شيئًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا رجل يضيف هذه الليلة يرحمه الله)، فقام رجل من الأنصار، فقال: أنا يا رسول الله، فذهب إلى أهله، فقال لامرأته: ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا تدخريه شيئًا، فقالت: والله ما عندي إلا قوت الصبية، قال: فإذا أراد الصبية العشاء فنوميهم، وتعالي فأطفئي السراج، ونطوي بطوننا الليلة، ففعلت، ثم غدا الرجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (لقد عجب الله عز وجل، أو ضحك من فلان وفلانة)، فأنزل الله عز وجل: ( ) [الحشر: ٩]40.

وفي رواية في البخاري أيضًا: (ضحك الله الليلة، أو عجب من فعالكما)، فأنزل الله: ( ﯽﯾ) [الحشر: ٩]41.

وجاء في سبب نزولها: أن رجلًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدي له رأس شاةٍ، فقال: إن أخي فلانًا وعياله أحوج إلى هذا، فبعث به إليه، فلم يزل يبعث به واحد إلى واحد، حتى تناولها سبعة أهل أبيات، حتى رجعت إلى أولئك، فنزلت هذه الآية.

وروي نحو هذه القصة عن أنس بن مالك قال: أهدي لبعض الصحابة رأس شاةٍ مشوي، وكان مجهودًا، فوجه به إلى جارٍ له فتناوله تسعة أنفس، ثم عاد إلى الأول، فنزلت هذه الآية42.

وذكر ابن جزي في سبب نزولها قصة الفيء، فقال: «وروي أن سبب هذه الآية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قسم هذه القرى على المهاجرين دون الأنصار، قال للأنصار: (إن شئتم قسمتم للمهاجرين من أموالكم ودياركم، وشاركتموهم في هذه الغنيمة، وإن شئتم أمسكتم أموالكم وتركتم لهم هذه)43، فقالوا: بل نقسم لهم من أموالنا، ونترك لهم هذه الغنيمة، وروي أيضًا أن سببها أن رجلًا من الأنصار أضاف رجلًا»44. وذكر القصة التي في البخاري.

وهذا ما رجحه الرازي، حيث قال: «وذكر المفسرون أنواعًا من إيثار الأنصار للضيف بالطعام، وتعللهم عنه حتى يشبع الضيف، ثم ذكروا أن الآية نزلت في ذلك الإيثار، والصحيح أنها نزلت بسبب إيثارهم المهاجرين بالفيء، ثم لا يمتنع أن يدخل فيها سائر الإيثارات»45.

قوله: ( ﯽﯾ) [الحشر: ٩]. الخصاصة: هي الفقر46.

والمعنى: ولو كان بهم حاجة وفاقة إلى ما آثروا به من أموالهم على أنفسهم، فبين أن هذا الإيثار ليس عن غنى، وعن المال، ولكنه عن حاجة وخصاصة، وهي: الفقر47.

وهذا هو واقع الأنصار، فهم مع ما هم عليه من الخصاصة -وهي الفاقة والفقر-، ومع شدة احتياجهم وافتقارهم إلى ما في أيديهم، حيث أن المهاجرين كانوا أهل تجارة، وكانوا أهل ثراء في أوطانهم في مكة، بينما الأنصار كانوا في الحقيقة أهل زراعة، وما كانوا بالثراء الذي كان عليه أهل مكة؛ ولذلك عبر عنهم القرآن بهذا التعبير: ( ﯽﯾ) [الحشر: ٩].

فلئن يقدم الإنسان حاجة غيره عليه وهو مستغنٍ عن تلك الحاجة فهذا لا يستغرب، ومع ذلك فإن الله تعالى قد أمر به في كتابه الكريم، حينما قال: ( ) [البقرة: ٢١٩].

أي: الزيادة، ما فضل عن نفقاتكم الضرورية اللازمة عليكم، لكن هذه المرتبة أعلى، وهي أن يجود الإنسان بما عنده لأخيه مع كونه محتاجًا إليه، شديد الاحتياج، شديد الرغبة فيه، فهذا المعنى هو الذي تتحدث عنه الآية.

وقوله: (ﯿ ) [الحشر: ٩].

قال الرازي: «واعلم أن الفرق بين الشح والبخل هو أن البخل نفس المنع، والشح هو الحالة النفسانية التي تقتضي ذلك المنع، فلما كان الشح من صفات النفس لا جرم قال تعالى: (ﯿ ) [الحشر: ٩48.

ووقاية شح النفس يشمل وقايتها الشح في جميع ما أمر به، فإنه إذا وقي العبد شح نفسه سمحت نفسه بأوامر الله ورسوله، ففعلها طائعًا منقادًا منشرحًا بها صدره، وسمحت نفسه بترك ما نهى الله عنه وإن كان محبوبًا للنفس، تدعو إليه، وتطلع إليه، وسمحت نفسه ببذل الأموال في سبيل الله، وابتغاء مرضاته، وبذلك يحصل الفلاح والفوز، بخلاف من لم يوق شح نفسه، بل ابتلي بالشح بالخير الذي هو أصل الشر ومادته.

فهذان الصنفان الفاضلان الزكيان هم الصحابة الكرام والأئمة الأعلام، الذين حازوا من السوابق والفضائل والمناقب ما سبقوا به من بعدهم، وأدركوا به من قبلهم، فصاروا أعيان المؤمنين، وسادات المسلمين، وقادات المتقين.

ووصف الله من يتصف بهذه الصفة بقوله: ( ) أي: الظافرون بما أرادوا، والمقصود بهم: الأنصار، ومن أتصف بهذه الصفات من غيرهم، والمفلحون: هم الفائزون بكل مطلوب، الناجون من كل مهروب، قال ابن كثير: أي: من سلم من الشح فقد أفلح وأنجح49.

«والفلاح: اسم لسعادة الدارين، والجملة اعتراض وارد لمدح الأنصار والثناء عليهم، فإن الأوصاف المذكورة في حقهم، فلهم جلائل الصفات، ودقائق الأحوال. . .، قال السهروردي في العوارف: السخاء صفة غريزية في مقابلة الشح، والشح من لوازم صفة النفس، حكم الله بالفلاح لمن يوقى الشح، أي: لمن أنفق وبذل، والنبي عليه الصلاة والسلام نبه بقوله: (ثلاث مهلكات، وثلاث منجيات) فجعل إحدى المهلكات (شحًا مطاعًا)50 ولم يقل: مجرد الشح يكون مهلكًا، بل إنما يكون مهلكًا إذا كان مطاعًا، فأما كونه موجودًا في النفس غير مطاع لا ينكر ذلك؛ لأنه من لوازم النفس، مستمد من أصل جبلتها الترابي، وفي التراب قبض وإمساك، وليس ذلك بالعجب من الآدمي، وهو جبلي فيه، وإنما العجب وجود السخاء في الغريزة»51.

وهكذا يصور القرآن الكريم هذا الوضع غير المسبوق في أبلغ عبارة وأجزلها، وتظهر الآيات الكريمة صدق الأخوة بين المهاجرين والأنصار، لا تلوثه أطماع، ولا حب دنيا، ولا أثرة، ولا شح أو حرص، ولا حاجة إنما هو أخوة تدور بين سلامة الصدر والإيثار، ولا شك أن المرء يقف مبهورًا أمام هذه الصورة الرائعة من الأخوة المتينة، والإيثار المتبادل، الذي لا نشهد له مثيلًا في تواريخ الأمم السابقة.

ولقد كان دافع الأنصار لهذا الإيثار هو رغبتهم فيما عند الله، وحبهم لإخوانهم المهاجرين؛ ولهذا صدر الله هذه الصفات للأنصار في هذه الآية بأنهم يحبون من هاجر إليهم، فالمحبة هي باعث هذا الإيثار؛ ولذلك لا يمكن أن تتصور الإيثار دون أن تتصور المحبة بين الناس، المحبة التي تنشأ في القلوب، ثم يتبع هذه المحبة رغبة صادقة في أن ينال الخير أخاك؛ ولذلك فلا يجد الواحد منهم غضاضة في نفسه أن يقدم إخوانه في الخير الذي لديه.

وكيف لا يؤثر الأنصار وقد بايعوا الرسول صلى الله عليه وسلم على الإيثار؟!

فقد جاء عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: (بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر، والمنشط والمكره، وعلى أثرة علينا، وعلى أن لا ننازع الأمر أهله)52.

فالسمع والطاعة في العسر واليسر، والمنشط والمكره: لهم معه، ومع الأئمة بعده، والأثرة: عدم منازعة الأمر مع الأئمة بعده خاصة.

ولو ذهبنا نلتمس الأسباب وراء هذا الإخاء والحب والإيثار فلن نجد إلا مسبب الأسباب، وأن ذلك كان بفضل الله ورحمته، لا بصنع بشر وحكمته وسياسته، وصدق الله حيث قال: ( ﭡﭢ ) [الأنفال: ٦٣].

فلم يلتق النبي صلى الله عليه وسلم بالأنصار إلا في سويعات تحت جنح الليل، واكتفى فيها بعرض الإسلام، وأخذ العهود والمواثيق، ولم يطل لقاؤه معهم قبل الهجرة حتى يكون هذا الذي فعلوه بسبب تربية النبي إياهم، وطول تعهده لهم كما فعل تجاه المهاجرين حتى كون منهم رجالًا، فلم يكن بين دخول الأنصار الإسلام وقيامهم بهذه المآثر إلا أقل من عام.

فالأنصار قوم اختارهم الله لصحبة نبيه، لقد فتحوا للمهاجرين قلوبهم قبل أن يفتحوا لهم بيوتهم، ووسعوهم بصدورهم قبل أن يسعوهم بأموالهم، وتسابقوا إلى لقائهم وإكرامهم، وضربوا في باب الإيثار، وسخاء النفس، وكرم الطبع مثلًا عليا، لا تزال تذكرها لهم الأجيال المتعاقبة، بالإكبار والإعظام.

٥. سلامة صدورهم.

أثنى الله على الأنصار بسبب سلامة صدورهم رضي الله عنهم، فقال: ( ) [الحشر: ٩].

فقوله: ( ) [الحشر: ٩]. الضمير في (يجدون) للأنصار، قال ابن العربي: «قال الخلق بأجمعهم: يريد بذلك الأنصار الذين آووا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين طرد، ونصروه حين خذل، فلا مثل لهم، ولا لأجرهم»53.

وقوله: () أي: حزازة وغيظًا وحسدًا، قال الشوكاني في فتح القدير: ( ) [الحشر: ٩]. «أي: لا يجد الأنصار في صدورهم حسدًا وغيظًا وحزازةً»54.

وفي الكلام مضاف محذوف: أي لا يجدون في صدورهم مس حاجة، أو أثر حاجة، وكل ما يجده الإنسان في صدره مما يحتاج إليه فهو حاجة55.

وقوله: ( ) أي: مما أعطوا، والضمير للمهاجرين، والمراد (فيما أوتوه) هو مال الفيء، حيث قسم النبي صلى الله عليه وسلم أموال بني النضير بين المهاجرين، ولم يعط من الأنصار غير ثلاثة نفر، كانت بهم حاجة، فطابت أنفس الأنصار بتلك القسمة، أو يكون المراد (فيما أوتوه) هو: الفضل والتقدم56.

قال شيخ الإسلام في الفتاوى: «وبهذا أثنى الله تعالى على الأنصار، فقال: ( ) [الحشر: ٩].

أي: مما أوتي إخوانهم المهاجرون، قال المفسرون: لا يجدون في صدورهم حاجة أي: حسدًا وغيظًا، مما أوتي المهاجرون، ثم قال بعضهم: من مال الفيء، وقيل: من الفضل والتقدم»57.

يعني: لا يحسدون المهاجرين على ما خصوا به من مال الفيء وغيره، ويحتمل أن يريد به: ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا إذا كان قليلًا، بل يقنعون به، ويرضون عنه، وقد كانوا على هذه الحال حين حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم كانوا عليه بعد موته صلى الله عليه وسلم.

وقد أنذرهم النبي صلى الله عليه وسلم قائلًا: (سترون بعدي أثرة، فاصبروا حتى تلقوني على الحوض)58 59.

فالأنصار لا يجدون في صدورهم حاجة مما خصص به المهاجرون من الفيء، ولا يحسدونهم على ذلك، ولا يعترضون بقلوبهم على حكم الله بتخصيص المهاجرين حتى لو كانت بهم حاجة، أو اختلال أحوال60.

وعلى هذا ففي الآية بيان حال الأنصار، وأنهم لا يحسدون المهاجرين على ما آتاهم الله من فضله، وخصهم به من الفضائل والمناقب التي هم أهلها، وهذا يدل على سلامة صدورهم، وانتفاء الغل والحقد والحسد عنهم.

ويدل ذلك أيضًا على أن المهاجرين أفضل من الأنصار؛ لأن الله قدمهم بالذكر، وأخبر أن الأنصار لا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا، فدل على أن الله تعالى آتاهم ما لم يؤت الأنصار ولا غيرهم؛ لأنهم جمعوا بين النصرة والهجرة.

ثانيًا: أبرز أعمال الأنصار:

الأنصار: ما أجملها من كلمة! إنها كلمة تحمل معاني شريفة جليلة، اتصف بها قوم ضرب بهم المثل في الكمال الإنساني، إنها علمٌ على قوم عملوا أعمالًا استحقوا بها أن يكونوا من أنصار الرسول الكريم.

ومن أبرز هذه الأعمال:

١. الإيواء والنصرة.

لما هاجر المسلمون من مكة هجروا المحبوبات والمألوفات من الديار والأوطان والأحباب والخلان والأموال، وتجردوا من كل شيء إلا من الإيمان؛ رغبةً في الله، ونصرةً لدين الله، ومحبةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فوصلوا إلى أرضٍ جديدة، وواقعٍ مختلف، وكان من أثر هذه الرحلة نشوء عدد من المشكلات الجديدة، ليس أقلها: الشعور بالغربة، ومفارقة الأهل والديار، وترك معظم الأموال والممتلكات في مكة، وطبيعة الوضع المعيشي والاقتصادي الجديد، أضف إلى ذلك الآثار الصحية والبدنية التي أحدثها الانتقال المفاجئ إلى بيئةٍ أخرى؛ مما أدى إلى ظهور الأمراض في صفوفهم كالحمى وغيرها، كل هذا ترك في أنفسهم وحشة وغربة، حتى أصبح وضعهم يحتاج إلى حل عاجل وسريع.

فترجم الأنصار ما تعاقدوا عليه من أقوال في البيعتين إلى جملة أفعال، حيث فتح الأنصار أبواب بيوتهم وقلوبهم، واستعدوا لاحتضان من جاءهم مهاجرًا تحت ظاهرة عظيمة من التكافل الاجتماعي، فحوى المسكن الواحد تحت سقفه الأنصاري والمهاجر، وهم يتقاسمون كل شيء المسكن والمال والطعام.

فلم يعرف تاريخ البشرية حادثًا جماعيًا كحادث استقبال الأنصار للمهاجرين بهذا الحب الكريم، وبهذا البذل السخي، وبهذه المشاركة الرضية، وبهذا التسابق إلي الإيواء، واحتمال الأعباء، حتى ليروى أنه لم ينزل مهاجر في دار أنصاري إلا بقرعة؛ لأن عدد الراغبين في الإيواء المتزاحمين عليه أكثر من عدد المهاجرين، وهم لا يجدون في أنفسهم شيئًا من حسد، أو ضيق من هذا، والإيثار على النفس مع الحاجة قيمة عليا، وقد بلغ بها الأنصار مبلغًا لم تشهد له البشرية نظيرًا.

وهنا ظهر دور الأنصار الذين أبدوا من التضحية وضروب الإيثار ما استحق التخليد في كتاب الله.

قال الله تعالى عنهم: ( ﭿ ) [الأنفال: ٧٢].

وقال تعالى: ( ﯨﯩ ) [الأنفال: ٧٤].

فجمع الله تعالى في هاتين الآيتين الذين كانوا دعامة الإسلام، وعليهم هدى الرسول قام بنيانه، وشيدت أركانه، وهم المهاجرون والأنصار، فالمهاجرون ابتدأ بهم تكوين الجماعات الأولى التي صبرت وصابرت، وتلقت الصدمة الأولى من المشركين.

والأنصار وهم الذين آووا ونصروا، وأعزوا كلمة التوحيد، وأغلوها وأعلوها، فإذا كان المهاجرون هم الذين أظلوا شجرة الإسلام ابتداءً، فالأنصار هم الذين حموا ثمرتها، وقامت دولة الإسلام في أرضهم وحراستهم، وإذا كان المهاجرون قد لاقوا العنت في مكة فقد لقوا الإيواء في المدينة.

وإذا كانوا هم دعامة الإسلام فالأنصار دولته، وفي رحابهم قامت المدينة الفاضلة التي أقامها محمد صلى الله عليه وسلم في ديارهم، وإذا كان المهاجرون قد جاهدوا ابتداءً بالصبر والمصابرة، فقد كان جهادهم في المدينة مع إخوانهم الأنصار بذلك وبالقتال في المدينة، والفريقان اختارهم الله للتأليف حتى تكونت منهم أطهر جماعة رأتها الإنسانية وأقواها.

فبعد أن ذكر الله تعالى هنا في الآيتين الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، عقب بذكر الأنصار، وهم الذين آووا ونصروا.

فقال: ( ) [الأنفال: ٧٤]. المراد: بهم الأنصار، أي: وطنوا المهاجرين، وأنزلوهم منازلهم، وبذلوا إليهم أموالهم، وآثروهم على أنفسهم، ونصروهم على أعدائهم61.

فإذا كانوا قد نقصوا عن إخوانهم -المهاجرين- فضل الهجرة، فقد عوضوا عن ذلك بفضل الإيواء والنصرة62.

حيث استقبل الأنصار المهاجرين، فشاطروهم المال والديار؛ بكرم وسخاء، وضربوا مثلًا رائعًا في التكافل، وبناء الجماعة المسلمة، وآووا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنعوه من الأحمر والأسود، وتبوءوا دار الهجرة والإيمان، حتى صارت موئلًا ومرجعًا يرجع إليه المؤمنون، ويلجأ إليه المهاجرون، ويسكن بحماه المسلمون؛ إذ كانت البلدان كلها بلدان حرب وشرك وشر.

فلم يزل أنصار الدين يأوون إلى الأنصار، حتى انتشر الإسلام وقوي، وجعل يزيد شيئًا فشيئًا، وينمو قليلًا قليلًا، حتى فتحوا القلوب بالعلم والإيمان والقرآن، والبلدان بالسيف والسنان.

وقوله في الآية: () أي: نصروا الرسول وأصحابه على أعدائهم الكفار، وما سموا بالأنصار إلا لذلك؛ ولقد قال حسان رضي الله عنه في مدح الأنصار أنهم ما سموا أنصارًا إلا لنصرتهم الدين63:

سماهم الله أنصارًا بنصرهم

دين الهدى وعوان الحرب تستعر

وسارعوا في سبيل الله واعترفوا

للنائبات وما خافوا وما ضجروا

وقد ذكر الله تعالى هذه الصفة وهي (النصرة) في آيتين، فقال: ( ﯨﯩ ) [الأنفال: ٧٤]. وقال تعالى: ( )[الأنفال: ٧٢].

والنصرة في المدلول القرآني واللغوي والتاريخي بمعنى: العون، والظفر، والمنع، والانتقام، والانتصار، وشد الأزر، ولقد شرف الله سبحانه وتعالى المسلمين الأول بشرف لا يدانيه شرف، حيث أجزل لهم الثواب، وأحسن لهم المدح والثناء في أعظم كتاب، وخص كلًا من الفريقين المتآخيين (المهاجرين والأنصار) بعمل عظيم جليل، ناداهم به فسموا مهاجرين وأنصارًا، وما ذلك إلا للهجرة والنصرة، فالهجرة كانت إعلانًا للدولة، وانتقالًا لدار الإسلام، والنصرة هي التي هيأت للهجرة ولوجود دار الإسلام، فكيف يغفل أحد من المسلمين عن فضل الهجرة أو النصرة، وهو يتلو كتاب الله الذي يذكر المهاجرين والأنصار وفضلهما؟!

وكانت هذه النصرة وفاء منهم لمبايعة النبي صلى الله عليه وسلم لهم في بيعة العقبة الثانية، حيث ثبت أنه قال لهم: (أبايعكم على أن تمنعوني -إذا قدمت عليكم- مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم، ولكم الجنة)64. فبايعوه على النصرة والمنعة، فقام منهم اثني عشر نقيبًا كفلاء على قومهم، ثم استمر الحال حتى أذن الله للمسلمين بالهجرة، وقامت أول دولة للمسلمين65.

ونلحظ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يطلب النصرة لأمرين مهمين في غاية الأهمية:

أولهما: حماية الدعوة، حتى تسير بين الناس محمية الجانب، بعيدة عن الإساءة إلى أتباعها.

ثانيهما: إيجاد مكان آمن لدولته صلى الله عليه وسلم القادمة؛ ليتسلم خلالها مقاليد الحكم والسلطان على وفق مقتضيات النبوة على أساس الدعوة.

وختم الله تعالى الآية الأخرى بقوله: ( )[الأنفال: ٧٢]]. أي: إن هاتين الفرقتين (المهاجرين والأنصار) بعضهم أنصار بعض، وأعوان على من سواهم من المشركين، وأيديهم واحدة على من كفر بالله، وبعضهم إخوان لبعض دون أقربائهم الكفار.

وقد قيل: إنما عنى بذلك أن بعضهم أولى بميراث بعض، وأن الله ورث بعضهم من بعض بالهجرة والنصرة دون القرابة والأرحام، وأن الله نسخ ذلك بعد، بقوله: ( ﯿ ) [الأنفال: ٧٥] وهذا القول لأبن عباس رضي الله عنه 66.

قال الشوكاني: «أي: بعضهم أولياء بعض في النصرة والمعونة، وقيل المعنى: إن بعضهم أولياء بعض في الميراث، وقد كانوا يتوارثون بالهجرة والنصرة، ثم نسخ ذلك بقوله سبحانه: ( ﯿ ) [الأنفال: ٧٥67.

فالولاية محبة ومودة ومناصرة، وقد اجتمعت كل هذه الأحوال في ولاية المؤمنين المهاجرين والأنصار، فقد اجتمعت فيهم المودة فتوادوا وتحابوا، وتناصروا وجاهدوا جميعًا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، ولقد جمعت المؤاخاة معنى المودة والمحبة والإيثار، وجمع الجهاد معنى النصر والتبعات بالجهاد في سبيل الله68.

وقد ذكر الله بعد ذلك شأن الذين يهاجرون ويؤمنون من بعد، فقال: ( ﯷﯸ ﯿ ﰀﰁ )[الأنفال: ٧٥].

فهذا يدل على أن باب الإيمان مفتوح، وباب الهجرة مفتوح، وميدان الجهاد متسع للجميع، فلم يغلق على المجاهدين الأولين من المهاجرين والأنصار فقط، بل هو مفتوح، وهذه الآية الكريمة تلحق الذين يؤمنون من بعد ويهاجرون بالأولين الذين هم المؤمنون حقًا.

وإذا كان هذا الوصف (النصرة) في الأنصار، فالمهاجرون من باب أولى، فهم أنصار في المعنى، فمعنى النصرة حاصل للكل، ومن الكل، فهم قد هجروا ديارهم وأموالهم، كما قال تعالى: ( ) [الحشر: ٨].

وأثنى عليهم بأنهم يطلبون فضلًا من الله ورضوانًا، فقال: ( ) وأثبت لهم صفة النصرة، فقال: ( ) وأثنى عليهم بالصدق، فقال: ( ) فرضي الله عن المهاجرين والأنصار ومن تبعهم بإحسان.

فضائل الأنصار

عرض القرآن الكريم فضائل الأنصار وهذا ما سنبينه فيما يأتي:

أولًا: وصفهم بالإيمان الحق:

وصف الله تعالى الأنصار بالإيمان الحق، فقال سبحانه: ( ﯨﯩ ) [الأنفال: ٧٤].

فقوله: ( ﯨﯩ) الإشارة إلى السابقين الأولين (من المهاجرين والأنصار) والإشارة إلى الموصوف إشارة إلى أوصافه، وجعلها مناط الحكم، أي: أولئك الذين هاجروا بعد الإيمان، وجاهدوا في سبيل الله، والذين آووا ونصروا هم المؤمنون حقًا، أي: إيمانًا ثابتًا صادقًا حقًا، تلاقت أقوالهم وقلوبهم وأعمالهم69.

فسبق منهم هجرة وجهاد، وإيواء ونصرة، وهذا هو الإيمان الحق، وفي الكلام قصر، أي: من كانوا على هذه الصفات هم وحدهم المؤمنون حقًا، أي: لا مؤمنون حقًا غيرهم، ومن هم على صفاتهم.

وفي هذه الآية وصفٌ لعموم المهاجرين والأنصار بالإيمان الحق، فجمع الله فيها الفضل لفريقي الصحابة، وهم المهاجرون والأنصار، من هاجر، ومن آوى، فاستوى الأنصار مع المهاجرين في عامل النصرة، وفي صدق الإيمان، فشهد لهم بحقيقة الإيمان، ووعدهم بالمغفرة والرزق الواسع، ومن شهد الله له بهذه الشهادة، فقد بلغ أعلى مرتبة العدالة.

ثم قال: ( ) [الأنفال: ٧٤]. ذكر الله تعالى هنا ما كتب لهم من خيري الدنيا والآخرة، وهذا يتضمن جزاءين:

أولهما: المغفرة السابقة، ووراءها الرحمة والنعيم المقيم.

ثانيهما: رزق كريم واسع في الدنيا بعد المشقة التي تحملوها، وهذا شأن المهاجرين الذين آمنوا، وشأن الأنصار الذين آووا ونصروا70.

فيكون الله قد أثنى عليهم ها هنا من ثلاثة أوجه:

أولها: قوله: ( ﯨﯩ) فقوله: ( ﯨﯩ) يفيد الحصر، وقوله: (ﯨﯩ) يفيد المبالغة في وصفهم بكونهم محقين محققين في طريق الدين، وقد كانوا كذلك؛ لأن من لم يكن محقًا في دينه لم يتحمل ترك الأديان السالفة، ولم يفارق الأهل والوطن، ولم يبذل النفس والمال، ولم يكن في هذه الأحوال من المسارعين المسابقين.

وثانيها: قوله: ( ) والتنكير يدل على الكمال، أي: مغفرة تامة كاملة.

وثالثها: قوله: ( ) والمراد منه: الثواب الرفيع الشريف71.

وعن السائب بن يزيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا معشر الأنصار، ألم يمن الله عليكم بالإيمان، وخصكم بالكرامة، وسماكم بأحسن الأسماء: أنصار الله، وأنصار رسوله؟!)72.

فالأنصار إذن حازوا شرفين: شرف سبقهم إلى الإيمان، وشرف استضافتهم للإيمان وأهله في أرضهم.

ومدحهم بأنهم أناس سكنوا الإيمان، وسكن الإيمان في قلوبهم، فقال: ( ) [الحشر: ٩].

فقوله: () الأظهر أن (الذين) هنا عطف على (المهاجرين) -في الآية السابقة-، أي: والذين تبوءوا الدار هم الأنصار73.

وقوله: ( ) من مادة (بواء) على وزن (دواء) وهي في الأصل بمعنى تساوي أجزاء المكان، وبعبارة أخرى يقال: (بواء) لترتيب وتسوية مكان (ما) وفي هذا التعبير كناية لطيفة لهذا المعنى، وهو أن طائفة الأنصار -أهل المدينة- قد هيئوا الأرضية المناسبة للهجرة.

وقوله: () الدار تطلق على البلاد، وأصلها: موضع القبيلة من الأرض، وأطلقت على القرية.

قال تعالى في ذكر ثمود: ( ) [الأعراف: ٧٨].

أي: في مدينتهم، وهي حجر ثمود، والتعريف هنا للعهد؛ لأن المراد بالدار: المدينة النبوية، والمعنى: الذين هم أصحاب الدار74، أي: دار الهجرة مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد تبوأها الأنصار قبل المهاجرين، كما تبوءوا فيها الإيمان، وكأنه منزل لهم ودار، وهو تعبير ذو ظلال، وهو أقرب ما يصور موقف الأنصار من الإيمان، لقد كان دارهم ونزلهم ووطنهم الذي تعيش فيه قلوبهم، وتسكن إليه أرواحهم، ويثوبون إليه، ويطمئنون له، كما يثوب المرء ويطمئن إلى الدار.

وفي قوله: () هذا تشريف للمدينة، حيث سماها الله الدار، فكأنها هي دار الإيمان؛ لأن الإيمان أوى إليها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها)75.

فالتعريف في () للتنويه كأنها الدار التي تستحق أن تسمى دارًا، وهي التي أعدها الله تعالى لهم؛ ليكون تبوؤهم إياها مدحًا لهم.

وذكر بعضهم أن الدار علمٌ بالغلبة على المدينة، كالمدينة، وأنه أحد أسمائها، ومنها: طيبة، وطابة، ويثرب، وجابرة76.

وفي ذكر الدار -وهي المدينة- مع ذكر الإيمان إيماء إلى فضيلة المدينة، بحيث جعل تبوؤهم المدينة قرين الثناء عليهم بالإيمان، ولعل هذا هو الذي عناه مالك -رحمة الله- فيما رواه عنه ابن وهب قال: سمعت مالكًا يذكر فضل المدينة على غيرها من الآفاق، فقال: إن المدينة تبوأت بالإيمان والهجرة، وإن غيرها من القرى افتتحت بالسيف. ثم قرأ: ( ) [الحشر: ٩]الآية77.

وجاء عنه صلى الله عليه وسلم: (أمرت بقرية تأكل القرى)78 .

والمقصود: المدينة، أي: يغلب أهلها، وهم الأنصار بالإسلام على غيرها من القرى، وينصر الله دينه بأهلها، ويفتح القرى عليهم، ويغنمهم إياها فيأكلونها79.

وقوله: () [الحشر: ٩]أي: سكنوا الإيمان، والإيمان لا يسكن، وإنما شبه الإيمان كأنه دار سكنوها؛ لأن الدار يستقر فيها الإنسان، فهؤلاء الأنصار سكنوا الإيمان، بمعنى: استقر الإيمان في قلوبهم، والإنسان يلازم داره، بمعنى: يستقر ويطمئن ويستريح فيه، وهؤلاء لازموا الإيمان كملازمة الإنسان لمسكنه، وهذه شهادة لهم بالإيمان -رضي الله تعالى عنهم-، فهم مؤمنون صادقون، استقر الإيمان في قلوبهم.

قال ابن جزي: «فإن قيل: كيف قال: تبوءوا الدار والإيمان، وإنما تتبوأ الدار، أي: تسكن ولا يتبوأ الإيمان؟

فالجواب من وجهين:

الأول: أن معناه تبوءوا الدار، وأخلصوا الإيمان، فهو كقولك:

علفتها تبنًا وماء باردًا80.

تقديره: علفتها تبنًا، وسقيتها ماء باردًا.

والثاني: أن المعنى: أنهم جعلوا الإيمان كأنه موطن لهم؛ لتمكنهم فيه، كما جعلوا المدينة كذلك»81.

فيكون في عطف الإيمان على الدار ستة أوجه:

أحدها: أنه ضمن () معنى: لزموا، فيصح عطف الإيمان عليه؛ إذ الإيمان لا يتبوأ.

الثاني: أنه منصوب بمقدر، أي: واعتقدوا، أو وألفوا، أو وأحبوا، أو وأخلصوا؛ كقوله:

علفتها تبنًا وماءً باردًا

وقوله:

متقلدًا سيفًا ورمحا 82

أي: وحاملًا رمحًا.

الثالث: أنه يتجوز في الإيمان، إن الإيمان مجاز عن المدينة، سمي محل ظهور الشيء باسمه مبالغة، فيجعل اختلاطه بهم وثباتهم عليه كالمكان المحيط بهم، فكأنهم نزلوه، وعلى هذا فيكون جمع بين الحقيقة والمجاز في كلمة واحدة، وفيه خلاف مشهور.

الرابع: أن يكون الأصل: دار الهجرة ودار الإيمان، فأقام (لام) التعريف في (الدار) مقام المضاف إليه، وحذف المضاف من دار الإيمان، ووضع المضاف إليه مقامه.

الخامس: أن يكون سمى (المدينة)؛ لأنها دار الهجرة ومكان ظهور الإيمان.

السادس: أنه منصوب على المفعول معه (الواو للمعية) أي: مع الإيمان معًا، والمراد تبوءوا الدار مع إيمانهم، أي: تبوءوها مؤمنين83.

والضمير في قوله: ( ) [الحشر: ٩].

للمهاجرين، والجار متعلق بتبوء، أي: من قبل أن يهاجر المهاجرون إليهم، وقد أسلم كثير من الأنصار قبل المهاجرين، لكن المقصود -والله وأعلم- بقوله: ( ) [الحشر: ٩] أي: من قبل أن يهاجر المهاجرون، وأن الأنصار أسلم كثير من كبارهم وسادتهم على يد مصعب بن عمير رضي الله عنه قبل أن يهاجر كثير من المهاجرين -رضي الله تعالى عنهم-، وقبل أن تصبح المدينة دار الهجرة التي أوى إليها النبي عليه الصلاة والسلام، فكثير من الأنصار كان قد أسلم، ودخل الإيمان في قلوبهم، واستقر على يد مصعب بن عمير رضي الله عنه، فهو من فتح الله به المدينة المنورة بدعوته إلى الله، وسلوكه الطيب، حتى ما بقي بيت من بيوت المدينة إلا ودخله الإيمان.

وقد أورد ابن جزي إشكالًا، وأجاب عليه، حيث قال: «فإن قيل: قوله: ( ) [الحشر: ٩].

يقتضي أن الأنصار سبقوا المهاجرين بنزول المدينة وبالإيمان، فأما سبقهم لهم بنزول المدينة فلا شك فيه؛ لأنها كانت بلدهم، وأما سبقهم لهم بالإيمان فمشكل؛ لأن أكثر المهاجرين أسلم قبل الأنصار.

قال: والجواب من وجهين:

أحدهما: أنه أراد بقوله: ( ) [الحشر: ٩] من قبل هجرتهم.

والآخر: أنه أراد تبوءوا الدار مع الإيمان معًا، أي: جمعوا بين الحالتين قبل المهاجرين؛ لأن المهاجرين إنما سبقوهم بالإيمان لا بتبوء الدار، فيكون الإيمان على هذا مفعولًا معه، وهذا الوجه أحسن؛ لأنه جواب عن هذا السؤال، وعن السؤال الأول فإنه إذا كان الإيمان مفعولًا معه لم يلزم السؤال الأول؛ إذ لا يلزم إلا إذا كان الإيمان معطوفًا على الدار»84.

وجعل الألوسي ذلك من قبل تقدير مضاف، حيث قال: «والكلام بتقدير مضاف، أي: من قبل هجرتهم، فنهاية ما يلزم سبق الإيمان الأنصار على هجرة المهاجرين، ولا يلزم منه سبق إيمانهم على إيمانهم؛ ليقال: إن الأمر بالعكس، وجوز أن لا يقدر مضاف، ويقال: ليس المراد سبق الأنصار لهم في أصل الإيمان، بل سبقهم إياهم في التمكن فيه؛ لأنهم لم ينازعوا فيه لما أظهروه.

وقيل: الكلام على التقديم والتأخير، والتقدير: تبوءوا الدار من قبلهم والإيمان، فيفيد سبقهم إياهم في تبوء الدار فقط، وهو خلاف الظاهر، على أن مثله لا يقبل ما لم يتضمن نكتة سرية، وهي غير ظاهرة ها هنا؛ وقيل: لا حاجة إلى شيء مما ذكر، وقصار ما تدل الآية عليه تقدم مجموع تبوء الأنصار وإيمانهم على تبوء المهاجرين وإيمانهم، ويكفي في تقديم المجموع تقدم بعض أجزائه، وهو ها هنا تبوء الدار، وتعقب بمنع الكفاية، ولو سلمت لصح أن يقال: بتقدم تبوء المهاجرين وإيمانهم على تبوء الأنصار وإيمانهم؛ لتقدم إيمان المهاجرين»85.

ووصف الله الأنصار أيضًا بالإيمان والاستجابة لله، كما جاء في تفسير قوله تعالى: ( ) [الشورى: ٣٨].

أنها نزلت في الأنصار، حين دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإيمان، فاستجابوا له؛ أي: لرسول الله من صميم القلب، كما هو المفهوم من إطلاق الاستجابة، وفيه إشارة إلى أن الاستجابة للرسول استجابة للمرسل، فهو من عطف الخاص على العام لمزيد التشريف، وذلك لأن الاستجابة داخلة في الإيمان86.

قال الألوسي: ( ) [الشورى: ٣٨].

قيل: نزلت في الأنصار، دعاهم الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم للإيمان به وطاعته سبحانه، فاستجابوا له، فأثنى عليهم -جل وعلا- بما أثنى، وعليه فهو من ذكر الخاص بعد العام؛ لبيان شرفه؛ لأيمانهم دون تردد وتلعثم، والآية إن كانت مدنية فالأمر ظاهر، وإذا كانت مكية فالمراد بالأنصار من آمن بالمدينة قبل الهجرة، أو المراد بهم أصحاب العقبة87.

وقال الشوكاني: «قال ابن زيد: هم الأنصار بالمدينة استجابوا إلى الإيمان بالرسول حين أنفذ إليهم اثني عشر نقيبًا منهم قبل الهجرة، وأقاموا الصلاة لمواقيتها بشروطها وهيئاتها»88.

ووصف الله الأنصار بالإيمان والعمل الصالح، كما جاء عن ابن عباس في قوله: ( ) [محمد: ٣٤]. قال: هم أهل مكة، ( ) [محمد: ٢]. قال: هم أهل المدينة الأنصار ( ) [محمد: ٢]. قال: أمرهم89.

ووصفوا بأنهم رجال؛ وسماهم الله رجال، فقال: ( ﭯﭰ ﭻﭼ ﭿ ﮁﮂ ) [التوبة: ١٠٨].

فقد جاء ما يدل أنها نزلت في الأنصار، فعن أبي أيوب وجابر وأنس رضوان الله عليهم أن هذه الآية حين نزلت: ( ﭿ ﮁﮂ ) [التوبة: ١٠٨].

قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا معشر الأنصار إن الله قد أثنى عليكم في الطهور، فما طهوركم؟) قالوا: نتوضأ للصلاة، ونغتسل من الجنابة، ونستنجي بالماء، قال: (فهو ذاك، فعليكموه)90.

وعن موسى بن أبي كثير قال: بدء حديث هذه الآية في رجال من الأنصار، من أهل قباء91.

وقوله: ( ﭿ ﮁﮂ) [التوبة: ١٠٨].

أي: من الأحداث والجنابات والنجاسات...، وقالوا: المراد منه: الطهارة بالماء بعد الحجر، وقيل: المراد منه: الطهارة من الذنوب والمعاصي، وقيل: محمول على الأمرين92.

فتكون جملة: ( ﭿ ﮁﮂ) ثناء على مؤمني الأنصار الذين يصلون بمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبمسجد قباء، وجاء الضمير مفردًا مراعاة للفظ (مسجد) الذي هو جنس93.

ثانيًا: توبة الله على الأنصار، وتجاوزه عن تقصيرهم:

قال تعالى: ( ﯯﯰ ) [التوبة: ١١٧].

نزلت هذه الآية في غزوة تبوك التي كانت قبل الشام، وكان فيها جيش العسرة من المهاجرين والأنصار، ومن غيرهم من القبائل التي حول المدينة ومكة، ولكنهم خصوا بالثناء والتوبة؛ لأنهم لم يترددوا، ولم يتثاقلوا، ولا شحوا بأموالهم، فكانوا أسوة لمن ائتسى بهم من غيرهم من القبائل94.

ففي قوله: ( ) خبر مؤكد بلام القسم على حرف التحقيق (قد) بين فيه تعالى فضل عطفه على نبيه وأصحابه المؤمنين الصادقين من المهاجرين والأنصار، وتجاوزه عن هفواتهم في هذه الغزوة، وفي غيرها لاستغراقها في حسناتهم الكثيرة على كونهم لا يصرون على شيء منها، وإنما كانت هفواتهم هذه مقتضى الطباع البشرية، واجتهاد الرأي فيما لم يبينه الله تعالى بيانًا قطعيًا يعد مخالفه عاصيًا.

يقول ابن عاشور: «وافتتاح الله هذه الآية بحرف التحقيق (لقد)؛ تأكيدًا لمضمونها المتقرر فيما مضى من الزمان، حسبما دل عليه الإتيان بالمسندات كلها أفعالًا ماضية.

ومن المحسنات افتتاح هذا الكلام بما يؤذن بالبشارة لرضا الله على المؤمنين الذين غزوا تبوك، وتقديم النبي صلى الله عليه وسلم في تعلق فعل التوبة بالغزاة؛ للتنويه بشأن هذه التوبة، وإتيانها على جميع الذنوب؛ إذ قد علم المسلمون كلهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد غفر الله ما تقدم من ذنبه وما تأخر»95.

وهذه التوبة التي تابها الله على النبي والمهاجرين والأنصار -كما قال ابن عباس-: كانت التوبة على النبي لأجل إذنه للمنافقين في القعود، ودليله قوله: ( ) [التوبة: ٤٣].

وعلى المؤمنين من ميل قلوب بعضهم إلى التخلف عنه، وقيل: توبة الله عليهم استنقاذهم من شدة العسرة.

وقيل: خلاصهم من نكاية العدو، وعبر عن ذلك بالتوبة وإن خرج عن عرفها لوجود معنى التوبة فيه، وهو الرجوع إلى الحالة الأولى96.

يقول شيخ المفسرين الطبري: «يقول تعالى ذكره: لقد رزق الله الإنابة إلى أمره وطاعته نبيه محمدًا، والمهاجرين ديارهم وعشيرتهم إلى دار الإسلام، وأنصار رسوله في الله الذين اتبعوا رسول الله في ساعة العسرة منهم من النفقة والظهر والزاد والماء»97.

فيكون معنى توبته على النبي أي: بإذنه للمنافقين بالتخلف عنه98.

وقال أهل المعاني: هو مفتاح كلام، وذلك أنه لما كان سبب توبة التائبين ذكر معهم، كقوله: ( ) [الأنفال: ٤١]99.

وهذه التوبة على المهاجرين والأنصار في ساعة العسرة سببها كما قال الرازي: «ربما وقع في قلوبهم نوع نفرة عن تلك السفرة، وربما وقع في خاطر بعضهم أنا لسنا نقدر على الفرار، ولم يعزموا عليه، بل وساوس كانت تقع في قلوبهم، فالله تعالى بين في آخر هذه السورة أنه بفضله عفا عنها، فقال: ( ) [التوبة: ١١٧].

والوجه الثاني في الجواب: أن الإنسان طول عمره لا ينفك عن زلات وهفوات، إما من باب الصغائر، وإما من باب ترك الأفضل، ثم إن النبي وسائر المؤمنون لما تحملوا مشاق هذا السفر ومتاعبه، وصبروا على تلك الشدائد والمحن، أخبر الله تعالى أن تحمل تلك الشدائد صار مكفرًا لجميع الزلات التي صدرت عنهم في طول العمر، وصار قائمًا مقام التوبة المقرونة بالإخلاص عن كلها.

والوجه الثالث في الجواب: أن الزمان لما اشتد عليهم في ذلك السفر، وكانت الوساوس تقع في قلوبهم، فكلما وقعت وسوسة في قلب واحد منهم تاب إلى الله منها، وتضرع إلى الله في إزالتها عن قلبه، فلكثرة إقدامهم على التوبة بسبب خطرات تلك الوساوس ببالهم، قال تعالى: ( ) [التوبة: ١١٧]...الآية.

والوجه الرابع: لا يبعد أن يكون قد صدر عن أولئك الأقوام أنواع من المعاصي، إلا أنه تعالى تاب عليهم، وعفا عنهم لأجل أنهم تحملوا مشاق ذلك السفر، ثم إنه تعالى ضم ذكر الرسول عليه الصلاة والسلام إلى ذكرهم؛ تنبيهًا على عظم مراتبهم في الدين، وأنهم قد بلغوا إلى الدرجة التي لأجلها ضم الرسول عليه الصلاة والسلام إليهم في قبول التوبة»100.

وقوله تعالى: ( ) [التوبة: ١١٧].

() من أفعال المقاربة، تعمل في اسمين (عمل كان) واسمها هنا ضمير شأن مقدر، وخبرها هو جملة الخبر عن ضمير الشأن، وإنما جعل اسمها هنا ضمير شأن؛ لتهويل شأنهم حين أشرفوا على الزيغ.

واختلف في معنى (تزيغ) فقيل: تتلف بالجهد والمشقة والشدة، وقيل: تعدل -أي تميل- عن الحق في الممانعة والنصرة، وقيل: من بعد ما هم فريق منهم بالتخلف والعصيان ثم لحقوا به، وقيل: هموا بالقفول فتاب الله عليهم، وأمرهم به101.

وقوله تعالى: ( ) هذا تأكيد ظاهر، واعتناء بشأن التوبة، هذا إن كان الضمير راجعًا إلى من تقدم ذكر التوبة عنهم، وإن كان الضمير إلى الفريق فلا تكرار102. والمعنى: قيل: توبته عليهم أن تدارك قلوبهم حتى لم تزغ، وكذلك سنة الحق مع أوليائه إذا أشرفوا على العطب، ووطنوا أنفسهم على الهلاك أمطر عليهم سحائب الجود، فأحيا قلوبهم103.

فإن قيل: ذكر التوبة في أول الآية وفي آخرها، فما فائدة التكرار؟

فالجواب من وجوه:

أحدها: أنه تعالى ابتدأ بذكر التوبة قبل ذكر الذنب؛ تطييبًا لقلوبهم، ثم لما ذكر الذنب أردفه مرة أخرى بذكر التوبة؛ تعظيمًا لشأنهم.

وثانيها: إذا قيل: عفا السلطان عن فلان ثم عفا عنه، دل على أن ذلك العفو متأكد، بلغ الغاية القصوى في الكمال والقوة. . .، وهذا معنى قول ابن عباس في قوله: ( ) يريد ازداد عنهم رضًا، قال ابن عباس: من تاب الله عليه لم يعذبه أبدًا.

وثالثها: أنه قال: ( ) [التوبة: ١١٧].

وهذا الترتيب يدل على أن المراد أنه تعالى تاب عليهم من الوساوس التي كانت تقع في قلوبهم في ساعة العسرة،

ثم إنه تعالى زاد عليه فقال: ( ) [التوبة: ١١٧].

فهذه الزيادة أفادت حصول وساوس قوية، فلا جرم أتبعها تعالى بذكر التوبة مرة أخرى؛ لئلا يبقى في خاطر أحدٍ شك في كونهم مؤاخذين بتلك الوساوس104.

وفي قصة توبة الله على النبي والمهاجرين والأنصار وعلى الثلاثة، فوائد ومسائل، منها:

في هذه الآيات دليل على أن توبة الله على العبد أجل الغايات، وأعلى النهايات، فإن الله جعلها نهاية خواص عباده، وامتن عليهم بها، حين عملوا الأعمال التي يحبها ويرضاها، وفيها لطف الله بهم، وتثبيتهم في إيمانهم عند الشدائد والنوازل المزعجة.

وفي الآيات أيضًا دليل على أن العبادة الشاقة على النفس لها فضل ومزية ليست لغيرها، وكلما عظمت المشقة عظم الأجر، وأن توبة الله على عبده بحسب ندمه وأسفه الشديد، وأن من لا يبالي بالذنب، ولا يحرج إذا فعله، فإن توبته مدخولة، وإن زعم أنها مقبولة.

وأن علامة الخير وزوال الشدة إذا تعلق القلب بالله تعالى تعلقًا تامًا، وانقطع عن المخلوقين.

وأن من لطف الله بالثلاثة أن وسمهم بوسم ليس بعار عليهم، فقال: () إشارة إلى أن المؤمنين خلفوهم، أو خلفوا عن من بت في قبول عذرهم، أو في رده، وأنهم لم يكن تخلفهم رغبة عن الخير؛ ولهذا لم يقل: (تخلفوا).

ومن فوائد الآيات: أن الله تعالى من عليهم بالصدق؛ ولهذا أمر بالاقتداء بهم، فقال: ( ) [التوبة: ١١٩]105.

يقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: واعلم أن لله تعالى على عبده توبتين؛ التوبة الأولى: قبل توبة العبد؛ وهي التوفيق للتوبة؛ والتوبة الثانية: بعد توبة العبد؛ وهي قبول التوبة؛ وكلاهما في القرآن؛ قال الله تبارك وتعالى: ( ﭪﭫ ) [التوبة: ١١٨].

فقوله تعالى: ( ﭪﭫ) أي: وفقهم للتوبة، وقوله تعالى: (ﭪﭫ) أي: يقوموا بالتوبة إلى الله؛ وأما توبة القبول ففي قوله تعالى: ( ) [الشورى: ٢٥].

ومن فوائد الآيات:


1 انظر: مختار الصحاح،١/٦٨٨، معجم اللغة العربية المعاصرة، أحمد مختار عمر، ٣/٢٢٢٠.

2 انظر: مغاني الأخيار في شرح أسامي رجال معاني الآثار، العيني ٣/٣٨٢.

3 انظر: المصدر السابق.

4 انظر: المعجم المفهرس الشامل لألفاظ القرآن الكريم، عبد الله جلغوم، ص١٣٢٥-١٣٢٨.

5 انظر: بصائر ذوي التمييز، الفيروزآبادي ٥/٦٩.

6 انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، ابن الأثير، ٣/١٢.

7 انظر: نزهة النظر، ابن حجر العسقلاني، ص١٤٠.

8 انظر: تهذيب اللغة، الأزهري،٦/٢٩، معجم اللغة العربية المعاصرة، أحمد مختار عمر،٣/٢٣٢٥.

9 انظر: الكليات، الكفوي، ص٨٨٣.

10 انظر: أساس البلاغة، الزمخشري، ١/٦١١، تاج العروس، الزبيدي،٢٦/١٠٢.

11 انظر: العين، الفراهيدي، ٢/٧٨.

12 انظر: الضوء اللامع المبين عن مناهج المحدثين، أحمد ناجي، ص، ١٦٨.

13 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٣/٢٦٨.

14 معالم التنزيل، البغوي ٣/١٦٦.

15 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٧/٣٤.

16 جامع البيان، الطبري ١١/٥١٨.

17 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٨/٤٢.

18 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المغازي، باب قوله: (إذ همت طائفتان منكم)، ٥/ ٩٦، رقم ٤٠٥١ ومسلم في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل الأنصار،رضي الله عنهم، رقم ٢٥٠٥.

19 انظر: زاد المسير، ابن الجوزي ١/٤٤٩.

20 منهاج السنة النبوية ١/١٥٤.

21 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجمعة، باب فرض الجمعة، ٢/ ٢، رقم ٨٧٦، ومسلم في صحيحه، كتاب الجمعة، باب هداية هذه الأمة ليوم الجمعة ٢/ ٥٨٥، رقم ٨٥٥.

22 أحكام القرآن، ابن العربي ٤/٤٠٦.

23 مفاتيح الغيب، الرازي ٨/١٢٧.

24 فتح القدير ٢/٥٧٧.

25 زاد المسير، ابن الجوزي ٣/٤٩١.

26 جامع البيان، ١٤/٤٣٩.

27 تفسير القرآن العظيم، ٤/٢٠٣.

28 المصدر السابق.

29 صفوة التفاسير، الصابوني ١/٣٧٤.

30 محاسن التأويل، القاسمي ٢/٥٠.

31 في ظلال القرآن ٧/١٦٥.

32 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٨/٦٩.

33 محاسن التأويل، القاسمي ٢/٥٠.

34 عمدة القاري ٢٤/٤١١.

35 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب مناقب الأنصار، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار:(أنتم أحب الناس إلي)، ٥/ ٣٢، رقم ٣٧٨٦، ومسلم في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل الأنصار، ٤/ ١٩٤٨، رقم ٢٥٠٨.

36 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الإيمان، باب علامة الإيمان حب الأنصار، ١/ ١٢، رقم ١٧، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب الدليل على أن حب الأنصار وعلي رضي الله عنهم من الإيمان وعلاماته، وبغضهم من علامات النفاق ١/٨٥، رقم ٧٤.

37 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب مناقب الأنصار، باب حب الأنصار، ٥/٣٢، رقم ٣٧٨٣، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب الدليل على أن حب الأنصار وعلي رضي الله عنهم من الإيمان وعلاماته، وبغضهم من علامات النفاق ١/٨٥، رقم ٧٥.

38 انظر: فتح الباري، ابن حجر ١/ ١٦٣.

39 الجامع لأحكام القرآن، ١٨/ ٢٦.

40 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، باب قوله: (ويؤثرون على أنفسهم)، ٦/ ١٤٨، رقم ٤٨٨٩.

41 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، باب قوله: (ويؤثرون على أنفسهم)، ٥/ ٣٤، رقم ٣٧٩٨.

42 انظر: زاد المسير، ابن الجوزي ٤/٢٥٨.

43 انظر: الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ١٨/٢٥.

44 التسهيل لعلوم التنزيل، ابن جزي ٢/٣٦٠.

45 مفاتيح الغيب، الرازي ٢٩/٥٠٨.

46 المصدر السابق.

47 انظر: المصدر السابق.

48 مفاتيح الغيب، الرازي ٢٩/٥٠٨.

49 تفسير القرآن العظيم، ٨/٧١.

50 أخرجه البزار في مسنده، رقم ٧٢٩٣ والطبراني في المعجم الأوسط ٥٧٥٤.

وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب ٢/ ٣٥٦، رقم ٢٦٠٧.

51 روح البيان، إسماعيل حقي ٩/٣٥٣.

52 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإمارة، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية، وتحريمها في المعصية ٣/١٤٧٠، رقم ١٧٠٩.

53 أحكام القرآن، ابن العربي ٧/٣٠٨.

54 فتح القدير ٥/٢٠١

55 المصدر السابق ٥/٢٨٢.

56 انظر: زاد المسير، ابن الجوزي ٨ /٢١٢.

57 مجموع فتاوى ابن تيمية ١٠/١١٩.

58 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجزية، باب ما أقطع النبي صلى الله عليه وسلم من البحرين، وما وعد من مال البحرين والجزية، ولمن يقسم الفيء والجزية ٤/ ٩٨، رقم ٣١٦٣، ومسلم في صحيحه، كتاب الإمارة، باب الأمر بالصبر عند ظلم الولاة واستئثارهم ٣/ ١٤٧٤، رقم ١٨٤٥.

59 أحكام القرآن، ابن العربي ٧/٣١٠.

60 انظر: لطائف الإشارات، القشيري ٣/٥٦١.

61 محاسن التأويل، القاسمي ٢٣/ ٢.

62 زهرة التفاسير، أبو زهرة ١/٣٢٠١.

63 انظر: ديوان حسان بن ثابت ص٩٩.

64 أخرجه أحمد في مسنده، ٢٥/٩٢، رقم ١٥٧٨٩.

65 انظر: السيرة النبوية، ابن هشام ٢/١٩٧- ٢٠٩.

66 انظر: جامع البيان، الطبري ١٠/٥١، تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٤/٩٥.

67 فتح القدير ٢/٤٧٨.

68 انظر: زهرة التفاسير، أبو زهرة ٦/٣٢٠٢.

69 المصدر السابق ٦/٣٢٠٦.

70 انظر: المصدر السابق ٦/٣٢٠٩.

71 انظر: مفاتيح الغيب، الرازي ١٥/٥١٩.

72 أخرجه الطبراني في الكبير ٧/ ١٥١، رقم ٦٦٦٥.

73 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٢٨/٩٠.

74 المصدر السابق.

75 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل المدينة، باب الإيمان يأرز إلى المدينة ٣/ ٢١، رقم ١٨٧٦، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب بيان أن الإسلام بدأ غريبًا وسيعود غريبًا، وأنه يأرز بين المسجدين ١/١٣١، رقم ١٤٧.

76 روح المعاني، الألوسي ٢٠/٤٢٥.

77 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٢٨/٩١.

78 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل المدينة، باب فضل المدينة وأنها تنفي الناس ٣/ ٢٠، رقم ١٨٧١، ومسلم في صحيحه، كتاب الحج، باب المدينة تنفي شرارها، ٢/١٠٠٦، رقم ١٣٨٢.

79 انظر: النهاية في غريب الأثر، ابن الأثير ١/١٤٤.

80 البيت في خزانة الأدب ٣/ ١٣٩، وفي العباب الزاخر ١/٤٨١، وتمامه: «حتى شتت همالةً عيناها».

81 التسهيل لعلوم التنزيل، ٣/١٥٧.

82 البيت في الكامل في اللغة ١/ ٢٩١ وشرح ديوان الحماسة ص ٨٠٥ غير منسوب لقائل، وصدره: «يا ليت بعلك قد غذا».

83 انظر: اللباب في علوم الكتاب، ابن عادل ١٥/٢٠١.

84 التسهيل لعلوم التنزيل، ٣/١٥٧.

85 روح المعاني، ٢٠/٤٢٥.

86 روح البيان، إسماعيل حقي ٨/٢٥٣.

87 روح المعاني ٢٥/٤٦.

88 فتح القدير ٤/٧٦٩.

89 انظر: فتح القدير، الشوكاني ٥/٤٧.

90 أخرجه ابن ماجه في كتاب الطهارة وسننها، باب الاستنجاء بالماء ١/ ١٢٧، رقم ٣٥٥.

وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه، ١/٦٣.

91 جامع البيان، الطبري ١٤/ ٤٨٨.

92 اللباب في علوم الكتاب، ابن عادل ١٠/ ٢١٠.

93 التحرير والتنوير، ابن عاشور ١١/ ٣٢.

94 انظر: المصدر السابق .

95 السابق ١١/٤٩.

96 اللباب في علوم الكتاب، ابن عادل ٨/٣٨٧.

97 جامع البيان، ١٤/٥٣٩.

98 معالم التنزيل، البغوي ٤/١٠٤.

99 اللباب في علوم الكتاب، ابن عادل ٨/٣٨٧.

100 انظر: مفاتيح الغيب، الرازي ٨/١٧٠.

101 انظر: الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٨/٢٨١.

102 انظر: فتح القدير، الشوكاني ٢/٥٩٩.

103 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٨/٢٨١.

104 اللباب في علوم الكتاب، ابن عادل ٨/٣٨٩.

105 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص٣٥٤.

106 انظر: تفسير القرآن الكريم، ابن عثيمين ٣/٩١.

107 انظر: اللباب في علوم الكتاب، ابن عادل ٨/٣٨٧.

108 انظر: المصدر السابق.

109 انظر: اللباب في علوم الكتاب، ابن عادل ٨/٣٨٧.

110 انظر: السيرة النبوية، ابن كثير ٤/ ١٦.

111 أخرجه الترمذي في سننه، أبواب المناقب، ٥/ ٦٢٦، رقم ٣٧٠١.

وحسنه الألباني في تعليقه على المشكاة، رقم ٦٠٦٤.

112 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الفتن، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: (سترون بعدي أمورًا تنكرونها)، ٩/ ٤٧، رقم ٧٠٥٦، ومسلم في صحيحه، كتاب الإمارة، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية، وتحريمها في المعصية، ٣/١٤٧٠، رقم ١٧٠٩.

113 تفسير القرآن الكريم، ٨/ ١١٣.

الأنصار

عناصر الموضوع

مفهوم الأنصار

الأنصار في الاستعمال القرآني

الألفاظ ذات الصلة

صفات الأنصار وأعمالهم

فضائل الأنصار

الأنصار

مفهوم الأنصار

أولًا: المعنى اللغوي:

الأنصار: جمع ناصر، كصاحب وأصحاب، كما تجمع ناصر على ناصرين ونصار، اسم فاعل من نصر.

أو جمع نصير، كشريف وأشراف، (ناصر أو نصير) وكلاهما صواب، والنصير: فعيل، بمعنى فاعل أو مفعول؛ لأن كل واحد من المتناصرين ناصر ومنصور.

ونصير: صيغة مبالغة من ناصر، ومعناه: المساعد، والمعين، والمناصر، والمؤيد.

يقال: نصره على عدوه ينصره نصرًا، واستنصره على عدوه: سأله أن ينصره عليهم، وتناصر القوم: إذا نصر بعضهم بعضًا، وانتصر منه: انتقم1.

ولفظ الأنصار يأتي بمعنى: الأعوان المناصرين والمؤازرين والأتباع والحلفاء، وأهل الاتباع والتصديق.

وهذا اللفظ (الأنصار) بهذا المعنى اللغوي يمكن إطلاقه لغةً على كل من اتصف بهذا الوصف.

ثانيًا: المعنى الاصطلاحي:

وفي المعنى الاصطلاحي الأمر ليس ببعيد عن المعنى اللغوي، فأنصار الرجل هم حلفاؤه وأتباعه ومؤيدوه في النزاعات، ومعاونوه على أمره.

ومن هنا جاء تعريف الأنصار في الاصطلاح الشرعي بأنهم الأوس، والخزرج من الأزد: سماهم الله عز و جل بذلك لما نصروا رسوله، وآووه، وكانوا له نعم الحلفاء والأتباع2.

فالأنصار اصطلاحًا: يطلق على من أسلم من أهل المدينة بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم من الأوس، والخزرج، ومزينة، وسليم، وجهينة، وغفار، وأسلم، فكل هؤلاء يسمون الأنصار، وهو اسم سماه الله تعالى لكل من ناصر نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم وآواه في المدينة3، وأولادهم يدخلونه بالنسب؛ فيقال: الأنصاري للواحد منهم ومن أبنائهم.

الأنصار في الاستعمال القرآني

وردت مادة (نصر) في القرآن (١٥٥) مرة، يخص موضوع البحث منها (١١) مرة4.

والصيغ التي وردت هي:

الصيغة

عدد المرات

المثال

الجمع

١١

( ) [البقرة:٢٧٠]

وجاءت كلمة (الأنصار) في الاستعمال القرآني بمعناها اللغوي، وهو: الأعوان5.

الألفاظ ذات الصلة

الصحابة:

الصحابة لغة:

الصحابة بالفتح: جمع صاحب، ولم يجمع فاعل على فعالة إلا هذا6.

الصحابة اصطلاحًا:

هو من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمنًا به، ومات على الإسلام، ولو تخللت ردةٌ في الأصح7.

الصلة بين الأنصار والصحابة:

عند الحديث عن الفرق بين لفظة الأنصار ولفظة الصحابة وكذلك الألفاظ الثلاثة التالية يكون المقصود منه الاصطلاح الشرعي، فيكون لفظ الأنصار أخص من لفظ الصحابة، إذ الصحابة منهم المهاجرون والأنصار والطلقاء، ومن دخل في دين النبي صلى الله عليه وسلم من القبائل بعد الفتح.

المهاجرون:

المهاجرون لغة:

جمع مهاجر، والمهاجر هو كل من فارق رباعه من بدوي أو حضري وسكن بلدًا آخر8.

ا لمهاجرون اصطلاحًا:

هم الذين صلوا إلى القبلتين، أو شهدوا بدرًا، أو أسلموا قبل الهجرة9.

الصلة بين الأنصار والمهاجرين:

الأنصار هم أهل المدينة الذين آووا النبي صلى الله عليه وسلم ومن هاجر إليهم من أهل الإسلام من مكة، والمهاجرون هم الذين قدموا المدينة مع النبي صلى الله عليه وسلم، أو هاجروا إليه منها بعد ذلك، وقبل انتهاء أجل الهجرة.

الطلقاء:

الطلقاء لغة:

أطلقت الأسير، وهو طليق، وهو من الطلقاء. وأطلقت الناقة من عقالها فطلقت10.

الطلقاء اصطلاحًا:

هم أهل مكة الذين أسلموا بعد فتحها.

الصلة بين الأنصار والطلقاء:

الأنصار من أهل المدينة وإسلامهم متقدم على إسلام الطلقاء، أما الطلقاء فهم أهل مكة وإسلامهم كان بعد فتح مكة.

التابعون:

التابعون لغة:

جمع تابع، وهو التالي، ومنه التتبع والمتابعة، والإتباع، والتتبع، تقول: تتبعت علمه، أي: اتبعت آثاره11.

التابعون اصطلاحًا:

من لقي الصحابي، وإن لم تطل صحبته12.

الصلة بين الأنصار والتابعين:

الأنصار صحبوا النبي صلى الله عليه وسلم ورأوه وهم من قرن النبي صلى الله عليه وسلم، بينما التابعون هم من صحبوا الصحابة بعد موت النبي، أو قبل ذلك ولم يحصل لهم شرف الصحبة.

صفات الأنصار وأعمالهم

تحدث القرآن الكريم عن صفات الأنصار وأعمالهم، وسوف نتناول ذلك بالبيان فيما يأتي:

أولًا: أبرز صفات الأنصار:

اصطفى الله سبحانه لهذا الدين رجالًا، كان لهم الحظ الأوفر، والشرف العظيم في نصرة الدين والنبي صلى الله عليه وسلم وإيوائه بعد أن خذله الناس، ألا وهم الأنصار، فهم من آوى الرسول ونصر، وكبت المشركين وقهر؛ ولهذا فحبهم ثابت في قلب كل مسلم، وبغضهم متقد في قلب كل منافق.

وقد شهد الكتاب العزيز بفضلهم، وبرضوان الله عليهم؛ لما قدموا من خدمة لهذا الدين، فخلد الله مديحهم ورضوانه عليهم في كتابه.

ولو تأملنا في صفات الأنصار في القرآن الكريم، وأمعنا النظر لوجدنا فضائلهم جمة، ومناقبهم عظيمة، بلغوا فيها غاية الكمال، ونالوا بها رضا ربهم الكريم المنان، فهو تارة يصفهم بالسابقين الأولين، وتارة بالإيواء والنصرة والإيمان، وتارة يصفهم بالفلاح، وتارة يثني على جهادهم وصبرهم وإيثارهم، وتارة يخبر بالرضا والتوبة عنهم.

وقد أشار إلى بعض أفعالهم وصفاتهم، ومنها: تبوءهم المدينة، وحبهم للمهاجرين، وإيثارهم إياهم، وسلامة صدورهم، كما في قوله تعالى: ( ﯽﯾ ﯿ ) [الحشر: ٩].

وأشار إليهم في قوله: ( ﯞﯟ ) [الأنعام: ٨٩].

فقوله: ( ) قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: «وقوله: ( ) يعني: أهل مكة، قاله ابن عباس وسعيد بن المسيب والضحاك وقتادة والسدي وغير واحد، وقوله: ( ) أي: إن يكفر بهذه النعم من كفر بها من قريش وغيرهم من سائر أهل الأرض، من عرب وعجم، ومليين وكتابيين، فقد وكلنا بها قومًا آخرين، أي: المهاجرين والأنصار، وأتباعهم إلى يوم القيامة»13.

وكذا قال البغوي: «أن المراد بقوله: ( ) يعني: الأنصار وأهل المدينة»14. وقال القرطبي: « ( ) جواب الشرط، أي: وكلنا بالإيمان بها ( ) يريد الأنصار من أهل المدينة، والمهاجرين من أهل مكة»15.

وقال الطبري بعد أن ذكر عدة أقوال في المراد بقوله: ( ): «وأولى هذه الأقوال في تأويل ذلك بالصواب قول من قال: عنى بقوله: ( ) كفار قريش ( ) يعني به: الأنبياء الثمانية عشر الذين سماهم الله تعالى ذكره في الآيات قبل هذه الآية، وذلك أن الخبر في الآيات قبلها عنهم مضى، وفي التي بعدها عنهم ذكر، فما بينها بأن يكون خبرًا عنهم، أولى وأحق من أن يكون خبرًا عن غيرهم»16. وعلى كل حال لا يوجد ما يمنع من دخول الأنصار في المراد من الآية، والله أعلم.

وأشير إليهم أيضًا في قوله تعالى: ( ﭗﭘ ) [الأنفال: ٦٢].

أي: قواك بنصره، يريد: يوم بدر، وبالمؤمنين، قال النعمان بن بشير: نزلت في الأنصار ( ﭡﭢ ) [الأنفال: ٦٣].

أي: جمع بين قلوب الأوس والخزرج، وكانت تألف القلوب مع العصبية الشديدة في العرب من آيات النبي صلى الله عليه وسلم، ومعجزاته؛ لأن أحدهم كان يلطم اللطمة فيقاتل عليها حتى يستقيدها، وكانوا أشد خلق الله حمية، فألف الله بالإيمان بينهم، حتى قاتل الرجل أباه وأخاه بسبب الدين، وقيل: أراد التأليف بين المهاجرين والأنصار، والمعنى متقارب17.

ونزل فيهم قوله -جل وعلا-: ( ﭘﭙ ) [آل عمران: ١٢٢].

فعن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه قال: نزلت هذه الآية فينا: ( ) قال: نحن الطائفتان بنو حارثة وبنو سلمة، وما أحب أنها لم تنزل، والله يقول: ( ﭘﭙ) وقال سفيان مرةً: وما يسرني أنها لم تنزل؛ لقول الله: ( ) 18.

«وقال الحسـن البصري: هما طائفتان من الأنصار همتا بذلك، فعصمهما الله، وقيل: لما رجع عبـد الله ابن أبي في أصحابـه يوم أحد همت الطائفتان باتباعه، فعصمهما الله»19.

والمقصود أن الله تبارك وتعالى بين في هذه الآيات فضائل الأنصار التي بَيَنَها القرآن الكريم، فقد نص على مجموعة من صفاتهم الحميدة، ومنها:

١. سبق الأنصار إلى الإيمان والنصرة.

وصف الله الأنصار في القرآن الكريم بالسبق، فقال: ( ﭦﭧ ) [التوبة: ١٠٠].

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «ذهب جمهور العلماء إلى أن السابقين في قوله تعالى: ( ) [التوبة: ١٠٠].

هم هؤلاء الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا، وأهل بيعة الرضوان كلهم منهم، وكانوا أكثر من ألف وأربعمائة»20.

وبين ابن العربي رحمه الله الأمور التي يكون فيها السبق، فقال: «السبق يكون بثلاثة أشياء: الصفة، وهو الإيمان، والزمان، والمكان، وأفضل هذه الوجوه سبق الصفات، والدليل عليه قوله صلى الله عليه وسلم في الصحيح: (نحن الآخرون الأولون، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، وأوتيناه من بعدهم، فهذا يومهم الذي اختلفوا فيه، فهدانا الله له، فاليهود غدًا، والنصارى بعد غد)21»22.

وقال الرازي: «اختلفوا في السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار من هم؟ وذكروا وجوهًا. . . »، ثم قال: «والصحيح عندي أنهم السابقون في الهجرة وفي النصرة، والذي يدل عليه أنه ذكر كونهم سابقين، ولم يبين أنهم سابقون في ماذا؟ فبقي اللفظ مجملًا، إلا أنه وصفهم بكونهم مهاجرين وأنصارًا، فوجب صرف ذلك اللفظ إلى ما به صاروا مهاجرين وأنصارًا، وهو الهجرة والنصرة، فوجب أن يكون المراد منه السابقون الأولون في الهجرة والنصرة؛ إزالة للإجمال عن اللفظ... ثم قال: و أيضًا فالسبق إلى الهجرة طاعة عظيمة من حيث إن الهجرة فعل شاق على النفس، ومخالف للطبع، فمن أقدم عليه أولًا صار قدوة لغيره من هذه الطاعة، وكان ذلك مقويًا لقلب الرسول عليه الصلاة والسلام، وسببًا لزوال الوحشة عن خاطره، وكذلك السبق في النصرة، فإن الرسول عليه الصلاة والسلام لما قدم المدينة، فلا شك أن الذين سبقوا إلى النصرة والخدمة، فازوا بمنصب عظيم»23.

وما ذكر قبل من الأقوال هو من باب التمثيل، فيكون هذا من باب اختلاف التنوع، لا اختلاف التضاد؛ ولهذا قال الشوكاني رحمه الله: «ولا مانع من حمل الآية على هذه الأصناف كلها»24.

٢. رضوان الله عن الأنصار ورضاؤهم عنه.

أخبر سبحانه أنه رضي عن (المهاجرين) والأنصار وعن أفعالهم، ورضوا عنه سبحانه؛ لما أجزل لهم من الثواب على طاعاتهم وإيمانهم به ويقينهم، فقال تعالى: ( ) [التوبة: ١٠٠].

فقوله تعالى: ( ) يعم الكل، قال الزجاج: رضي الله أفعالهم، ورضوا ما جازاهم به25 فحين ذكر سبحانه وتعالى الجزاء الذي أعده لهؤلاء، وحين كانت نفوسهم زاكية راقية؛ قابلوا الجزاء بالشكر، والتزود من الطاعة، فذكر سبحانه أنهم: ( ) وهذا أرقى المراتب التي يسعى إليها المؤمنون، ويتنافس فيها المتنافسون، أن يرضى الله تعالى عنهم، ويرضيهم، يقول الطبري: «رضي الله عن جميعهم لما أطاعوه، وأجابوا نبيه إلى ما دعاهم إليه من أمره ونهيه، ورضي عنه السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان لما أجزل لهم من الثواب على طاعتهم إياه، وإيمانهم به وبنبيه عليه السلام»26.

ففي هذه الآية إخبار بأن الله رضي عنهم ورضوا عنه، وفي هذا دليل على عدالتهم، ووجه الدلالة: أن الله تعالى أخبر فيها برضاه عنهم، ولا يثبت الله رضاه إلا لمن كان أهلًا للرضا، ولا توجد الأهلية لذلك إلا لمن كان من أهل الاستقامة في أموره كلها، عدلًا في دينه.

يقول ابن كثير رحمه الله: «يخبر تعالى عن رضاه عن السابقين من المهاجرين والأنصار، والتابعين لهم بإحسان، ورضاهم عنه بما أعد لهم من جنات النعيم، والنعيم المقيم»27.

ويقول أيضًا: «فقد أخبر الله العظيم أنه قد رضي عن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، فيا ويل من أبغضهم أو سبهم، أو أبغض أو سب بعضهم»28.

وقال تعالى في جزاء هؤلاء السابقين: ( ) [التوبة: ١٠٠].

أي: وأعد لهم في الآخرة جنات تجري من تحت أشجارها وقصورها الأنهار، ( ) أي: مقيمين فيها من غير انتهاء، ( ) أي: ذلك هو الفوز الذي لا فوز وراءه.

قال في البحر: لما بين تعالى فضائل الأعراب المؤمنين بين حال هؤلاء السابقين، ولكن شتان ما بين الثناءين، فهناك قال: ( ) [التوبة: ٩٩].

وهنا قال: ( ) وهناك ختم ( ) [التوبة: ٩٩].

وهنا ختم: ( ) [التوبة: ١٠٠]29.

وهذا الرضوان للأنصار، وما أعد لهم من الجنات والنعيم، هو جزاء ما قدموه لهذا الدين، وما تركوا من دورهم وأهليهم، وجزاء ما أعطوه للمهاجرين من أموالهم؛ لأن الهجرة أمر شاق على النفس، لمفارقة الأهل والعشيرة، والنصرة منقبة شريفة؛ لأنها إعلاء كلمة الله، ونصر رسوله وأصحابه، والإحسان من أحوال المقربين أو مقاماتهم.

وفي هذه الآية ( ) [التوبة: ١٠٠] فوائد:

الأولى: في الآية دليل على أن للصحابة مراتب، وأن الفضل للسابق إلى الإسلام والهجرة، وأن السابقين من الصحابة أفضل ممن تلاهم.

الثانية: قيل: المراد بالسابقين الأولين جميع المهاجرين والأنصار، فـ(من) بيانية؛ لتقدمهم على من عداهم، وقيل: بعضهم، وهم قدماء الصحابة و(من) تبعيضية، وقد اختار كثيرون الثاني، واختلفوا في تعيينهم.

الثالثة: تقديم المهاجرين؛ لفضلهم على الأنصار، كما ذكر في قصة السقيفة، ومنه علم فضل أبي بكر رضي الله عنه على من عداه؛ لأنه أول من هاجر معه صلى الله عليه وسلم30.

الرابعة: وفيها دليل على تنزيل الناس منازلهم.

الخامسة: وفيها دليل على أن أفضلية العمل على قدر رجوع منفعته إلى الإسلام والمسلمين.

السادسة: رضا الله عن السابقين من المهاجرين والأنصار، والمعنى: أنه رضي عنهم بما عملوه من الطاعات الخالصة له، ورضوا عنه بما جازاهم به مما لا يخطر لهم على بال، ولا تتصوره عقولهم، والرضا منه سبحانه هو أرفع درجات النعيم، وأعلى منازل الكرامة.

٣. حب الأنصار للمهاجرين.

قد شهد الله تعالى لهم بذلك في قوله: ( ) [الحشر: ٩].

فمن جملة أوصاف الأنصار الجميلة أنهم: ( ) [الحشر: ٩].

وهذا لمحبتهم لله ولرسوله أحبوا أحبابه، وأحبوا من نصر دينه، وهذه المحبة هي آصرة أقوى من آصرة النسب، وأقوى من رابطة الدم؛ لأنها تجمع على الإيمان بالله واليوم الآخر؛ ولأنها تستل كل الأحقاد والضغائن من الصدور؛ ولأنها تجعل من محبة الفرد لأخيه المسلم طاعة يتقرب بها، وينال بها الأجر والثواب من الله عز وجل، ويحصل بها على المنازل الرفيعة في الآخرة.

وأن هذه الرابطة أقوى من رابطة الدم واللغة والمصالح الاقتصادية، والعلاقات المتبادلة، يقول سيد قطب في الكلام على هذه الآية: «وهذه كذلك صورة وضيئة صادقة تبرز أهم الملامح المميزة للأنصار، هذه المجموعة التي تفردت بصفات، وبلغت إلى آفاق، لولا أنها وقعت بالفعل، لحسبها الناس أحلامًا طائرة، ورؤًى مجنحة، ومثلًا عليا قد صاغها خيال محلق. . .، ولم يعرف تاريخ البشرية كله حادثًا جماعيًا كحادث استقبال الأنصار للمهاجرين بهذا الحب الكريم، وبهذا البذل السخي، وبهذه المشاركة الرضية، وبهذا التسابق إلى الإيواء واحتمال الأعباء، حتى ليروى أنه لم ينزل مهاجر في دار أنصاري إلا بقرعة؛ لأن عدد الراغبين في الإيواء المتزاحمين عليه أكثر من عدد المهاجرين»31.

وفي قوله تعالى: () الواو استئنافية و () مبتدأ، وخبره () والجملة مستأنفة.

وقوله: () [الحشر: ٩].

خبر عن اسم الموصول () والمعنى: يحبونهم من حيث مهاجرتهم إليهم لمحبتهم الإيمان؛ قال ابن كثير: «أي: من كرمهم وشرف أنفسهم يحبون المهاجرين، ويواسونهم بأموالهم»32.

وقوله: ( ) أي: إلى المدينة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه حال الأنصار، فقلوبهم مملوءة بالحب للمهاجرين، ولا يحملون في صدورهم شيئًا على إخوانهم المهاجرين؛ لكونهم فضلوا عليهم ببعض الفضائل.

قال القاسمي: وقوله: () أي: لوجود الجنسية -أي المجانسة- في الصفاء، والموافقة في الدين والإخاء، قال الشهاب: المراد بمحبتهم المهاجرين هنا مواساتهم، وعدم الاستثقال والتبرم منهم، إذا احتاجوا إليهم، فالمحبة كناية عما ذكر33.

ويقول العيني: «في قوله: ( ) [الحشر: ٩أي: من المسلمين، حتى بلغ من محبتهم أن نزلوا لهم عن نسائهم، وشاطروهم أموالهم ومساكنهم»34.

وفي مقابل هذا الحب منهم أحبهم المهاجرون، وأحبهم الرسول صلى الله عليه وسلم، حتى قال للأنصار: (والذي نفسي بيده إنكم أحب الناس إلي)35 مرتين.

بل جعل الرسول حبهم من دلائل الإيمان، كما في حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار)36.

ففي هذا الحديث دلالة أن حب المؤمن لقبيلة الأنصار شعبة من شعب الإيمان، وعلامة عليه، فلا يحبهم إلا مؤمن، وأن بغضهم وكرههم شعبة من شعب النفاق والكفر، فلا يبغضهم إلا منافق.

وعن البراء قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الأنصار لا يحبهم إلا مؤمن، ولا يبغضهم إلا منافق، فمن أحبهم أحبه الله، ومن أبغضهم أبغضه الله)37.

وليس المراد بالبغض في هذا الحديث البغض الناتج من العداء الشخصي لأفرادهم، وإنما المراد بغضهم بسبب الصفة التي مدحوا بها، وهي نصرتهم للنبي صلى الله عليه وسلم، فمن أبغضهم من جهة هذه الصفة، وهي: كونهم نصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم أثر ذلك في تصديقه، فيصح أنه منافق38.

وكذلك الحب يقال فيه مثل ما يقال في البغض.

وهذا الحب من الأنصار لإخوانهم المهاجرين دافعه وجه الله تعالى، ومعرفتهم فضل الأخوة في الله، ومكانتها في الدين، فالأخوة في الله مبدأ عظيم من مبادئ الإسلام، يقوم عليه الولاء والبراء، والحب والبغض.

وتجلت هذه الأخوة في أبهى صورها، وأجمل حللها، في تلك المواقف السمحة التي عامل بها الأنصار إخوانهم المهاجرين، وهذا التآخي لم يكن مجرد شعار للمزايدة، ودغدغة العواطف، والالتفاف حول المعاني السامية بالأكاذيب والتدليس والتلبيس، لكنه معنى خالط قلوبهم ومشاعرهم، ولحمهم ودمهم، برز ذلك في سلمهم وحربهم، وفقرهم وغناهم، مستضعفين وممكن لهم، أفرادًا وجماعات.

وهذا الأنموذج من الأخوة الصادقة حرص النبي صلى الله عليه وسلم عليه وأكده، وكان من أوائل الأمور التي قام بها بعد وصوله المدينة أن آخى بين المهاجرين والأنصار؛ ليذهب عن المسلمين المهاجرين وحشة الغربة، ويؤنسهم عن مفارقة الأهل والعشيرة، ويشد بعضهم أزر بعض.

٤. الإيثار عند الأنصار.

الإيثار من أعظم الصفات التي اتصف بها المجتمع الإسلامي؛ ولهذا يقول بعض المفكرين: بأن كلمة الإيثار يصعب ترجمتها إلى لغات أخرى، أي: ليس لها مرادف في اللغات الأخرى مرادف يؤدي معناها، ويحقق كل معانيها، وكأن هذه الخصلة هي من الخصال التي أتى بها هذا الدين الحنيف، وزكى غرسها، وحث عليها، ودعا إليها.

وأعظم الناس إيثارًا في التاريخ الإسلامي هم الأنصار، فقد جاءهم المهاجرون إلى المدينة وهم لا يملكون من أمر الدنيا شيئًا، قد تركوا أموالهم وما يملكون خلف ظهورهم، وأقبلوا على ما عند الله عز وجل، يرجون رحمته، ويخافون عذابه، فاستقبلهم الأنصار الذين تبوءوا الدار، وأكرموهم أيما إكرام، ولم يبخلوا عليهم بشيء من حطام الدنيا، بل قاسموهم الأموال والمتاع، وشاطروهم بيوتهم وأرضهم وأموالهم، بطيب نفس، وسلامة صدر، في صورة يعجز عن وصفها اللسان، ويضعف عن تعبيرها البيان، وقابل المهاجرون هذا الإيثار الرائع بحسن الخلق والتعفف.

وقد امتدح الله جل وعلا خلق الإيثار عند الأنصار، فقال: ( ﯽﯾ ﯿ ) [الحشر: ٩].

ففي قوله: ( ﯽﯾ) [الحشر: ٩].

أي: إن من أوصاف الأنصار التي فاقوا بها غيرهم، وتميزوا بها على من سواهم الإيثار، وهو أكمل أنواع الجود، وهو الإيثار بمحاب النفس من الأموال وغيرها، وبذلها للغير مع الحاجة إليها، بل مع الضرورة والخصاصة، وهذا لا يكون إلا من خلق زكي، ومحبة لله تعالى مقدمة على محبة شهوات النفس ولذاتها.

والمراد بقوله: () [الحشر: ٩].

أي: الأنصار، والإيثار لغة: مصدر من قولهم: آثره عليه يؤثره إيثارًا، بمعنى: فضله وقدمه، والمآثر: ما يروى من مكارم الإنسان، وفي التنزيل: ( ) [يوسف: ٩١]. وآثر أن يفعل كذا: فضل وقدم، وضده الأثرة من قولهم: استأثر بالشيء انفرد به، أو اختص به نفسه.

واصطلاحًا: قال القرطبي: «الإيثار: هو تقديم الغير على النفس في حظوظها الدنيوية؛ رغبة في الحظوظ الدينية، وذلك ينشأ عن قوة اليقين، وتوكيد المحبة، والصبر على المشقة»39.

وفي قوله: () [الحشر: ٩]. مفعول الإيثار محذوف، والتقدير: ويؤثرونهم بأموالهم ومنازلهم على أنفسهم.

جاء في البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أتى رجلٌ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، أصابني الجهد، فأرسل إلى نسائه فلم يجد عندهن شيئًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا رجل يضيف هذه الليلة يرحمه الله)، فقام رجل من الأنصار، فقال: أنا يا رسول الله، فذهب إلى أهله، فقال لامرأته: ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا تدخريه شيئًا، فقالت: والله ما عندي إلا قوت الصبية، قال: فإذا أراد الصبية العشاء فنوميهم، وتعالي فأطفئي السراج، ونطوي بطوننا الليلة، ففعلت، ثم غدا الرجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (لقد عجب الله عز وجل، أو ضحك من فلان وفلانة)، فأنزل الله عز وجل: ( ) [الحشر: ٩]40.

وفي رواية في البخاري أيضًا: (ضحك الله الليلة، أو عجب من فعالكما)، فأنزل الله: ( ﯽﯾ) [الحشر: ٩]41.

وجاء في سبب نزولها: أن رجلًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدي له رأس شاةٍ، فقال: إن أخي فلانًا وعياله أحوج إلى هذا، فبعث به إليه، فلم يزل يبعث به واحد إلى واحد، حتى تناولها سبعة أهل أبيات، حتى رجعت إلى أولئك، فنزلت هذه الآية.

وروي نحو هذه القصة عن أنس بن مالك قال: أهدي لبعض الصحابة رأس شاةٍ مشوي، وكان مجهودًا، فوجه به إلى جارٍ له فتناوله تسعة أنفس، ثم عاد إلى الأول، فنزلت هذه الآية42.

وذكر ابن جزي في سبب نزولها قصة الفيء، فقال: «وروي أن سبب هذه الآية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قسم هذه القرى على المهاجرين دون الأنصار، قال للأنصار: (إن شئتم قسمتم للمهاجرين من أموالكم ودياركم، وشاركتموهم في هذه الغنيمة، وإن شئتم أمسكتم أموالكم وتركتم لهم هذه)43، فقالوا: بل نقسم لهم من أموالنا، ونترك لهم هذه الغنيمة، وروي أيضًا أن سببها أن رجلًا من الأنصار أضاف رجلًا»44. وذكر القصة التي في البخاري.

وهذا ما رجحه الرازي، حيث قال: «وذكر المفسرون أنواعًا من إيثار الأنصار للضيف بالطعام، وتعللهم عنه حتى يشبع الضيف، ثم ذكروا أن الآية نزلت في ذلك الإيثار، والصحيح أنها نزلت بسبب إيثارهم المهاجرين بالفيء، ثم لا يمتنع أن يدخل فيها سائر الإيثارات»45.

قوله: ( ﯽﯾ) [الحشر: ٩]. الخصاصة: هي الفقر46.

والمعنى: ولو كان بهم حاجة وفاقة إلى ما آثروا به من أموالهم على أنفسهم، فبين أن هذا الإيثار ليس عن غنى، وعن المال، ولكنه عن حاجة وخصاصة، وهي: الفقر47.

وهذا هو واقع الأنصار، فهم مع ما هم عليه من الخصاصة -وهي الفاقة والفقر-، ومع شدة احتياجهم وافتقارهم إلى ما في أيديهم، حيث أن المهاجرين كانوا أهل تجارة، وكانوا أهل ثراء في أوطانهم في مكة، بينما الأنصار كانوا في الحقيقة أهل زراعة، وما كانوا بالثراء الذي كان عليه أهل مكة؛ ولذلك عبر عنهم القرآن بهذا التعبير: ( ﯽﯾ) [الحشر: ٩].

فلئن يقدم الإنسان حاجة غيره عليه وهو مستغنٍ عن تلك الحاجة فهذا لا يستغرب، ومع ذلك فإن الله تعالى قد أمر به في كتابه الكريم، حينما قال: ( ) [البقرة: ٢١٩].

أي: الزيادة، ما فضل عن نفقاتكم الضرورية اللازمة عليكم، لكن هذه المرتبة أعلى، وهي أن يجود الإنسان بما عنده لأخيه مع كونه محتاجًا إليه، شديد الاحتياج، شديد الرغبة فيه، فهذا المعنى هو الذي تتحدث عنه الآية.

وقوله: (ﯿ ) [الحشر: ٩].

قال الرازي: «واعلم أن الفرق بين الشح والبخل هو أن البخل نفس المنع، والشح هو الحالة النفسانية التي تقتضي ذلك المنع، فلما كان الشح من صفات النفس لا جرم قال تعالى: (ﯿ ) [الحشر: ٩48.

ووقاية شح النفس يشمل وقايتها الشح في جميع ما أمر به، فإنه إذا وقي العبد شح نفسه سمحت نفسه بأوامر الله ورسوله، ففعلها طائعًا منقادًا منشرحًا بها صدره، وسمحت نفسه بترك ما نهى الله عنه وإن كان محبوبًا للنفس، تدعو إليه، وتطلع إليه، وسمحت نفسه ببذل الأموال في سبيل الله، وابتغاء مرضاته، وبذلك يحصل الفلاح والفوز، بخلاف من لم يوق شح نفسه، بل ابتلي بالشح بالخير الذي هو أصل الشر ومادته.

فهذان الصنفان الفاضلان الزكيان هم الصحابة الكرام والأئمة الأعلام، الذين حازوا من السوابق والفضائل والمناقب ما سبقوا به من بعدهم، وأدركوا به من قبلهم، فصاروا أعيان المؤمنين، وسادات المسلمين، وقادات المتقين.

ووصف الله من يتصف بهذه الصفة بقوله: ( ) أي: الظافرون بما أرادوا، والمقصود بهم: الأنصار، ومن أتصف بهذه الصفات من غيرهم، والمفلحون: هم الفائزون بكل مطلوب، الناجون من كل مهروب، قال ابن كثير: أي: من سلم من الشح فقد أفلح وأنجح49.

«والفلاح: اسم لسعادة الدارين، والجملة اعتراض وارد لمدح الأنصار والثناء عليهم، فإن الأوصاف المذكورة في حقهم، فلهم جلائل الصفات، ودقائق الأحوال. . .، قال السهروردي في العوارف: السخاء صفة غريزية في مقابلة الشح، والشح من لوازم صفة النفس، حكم الله بالفلاح لمن يوقى الشح، أي: لمن أنفق وبذل، والنبي عليه الصلاة والسلام نبه بقوله: (ثلاث مهلكات، وثلاث منجيات) فجعل إحدى المهلكات (شحًا مطاعًا)50 ولم يقل: مجرد الشح يكون مهلكًا، بل إنما يكون مهلكًا إذا كان مطاعًا، فأما كونه موجودًا في النفس غير مطاع لا ينكر ذلك؛ لأنه من لوازم النفس، مستمد من أصل جبلتها الترابي، وفي التراب قبض وإمساك، وليس ذلك بالعجب من الآدمي، وهو جبلي فيه، وإنما العجب وجود السخاء في الغريزة»51.

وهكذا يصور القرآن الكريم هذا الوضع غير المسبوق في أبلغ عبارة وأجزلها، وتظهر الآيات الكريمة صدق الأخوة بين المهاجرين والأنصار، لا تلوثه أطماع، ولا حب دنيا، ولا أثرة، ولا شح أو حرص، ولا حاجة إنما هو أخوة تدور بين سلامة الصدر والإيثار، ولا شك أن المرء يقف مبهورًا أمام هذه الصورة الرائعة من الأخوة المتينة، والإيثار المتبادل، الذي لا نشهد له مثيلًا في تواريخ الأمم السابقة.

ولقد كان دافع الأنصار لهذا الإيثار هو رغبتهم فيما عند الله، وحبهم لإخوانهم المهاجرين؛ ولهذا صدر الله هذه الصفات للأنصار في هذه الآية بأنهم يحبون من هاجر إليهم، فالمحبة هي باعث هذا الإيثار؛ ولذلك لا يمكن أن تتصور الإيثار دون أن تتصور المحبة بين الناس، المحبة التي تنشأ في القلوب، ثم يتبع هذه المحبة رغبة صادقة في أن ينال الخير أخاك؛ ولذلك فلا يجد الواحد منهم غضاضة في نفسه أن يقدم إخوانه في الخير الذي لديه.

وكيف لا يؤثر الأنصار وقد بايعوا الرسول صلى الله عليه وسلم على الإيثار؟!

فقد جاء عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: (بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر، والمنشط والمكره، وعلى أثرة علينا، وعلى أن لا ننازع الأمر أهله)52.

فالسمع والطاعة في العسر واليسر، والمنشط والمكره: لهم معه، ومع الأئمة بعده، والأثرة: عدم منازعة الأمر مع الأئمة بعده خاصة.

ولو ذهبنا نلتمس الأسباب وراء هذا الإخاء والحب والإيثار فلن نجد إلا مسبب الأسباب، وأن ذلك كان بفضل الله ورحمته، لا بصنع بشر وحكمته وسياسته، وصدق الله حيث قال: ( ﭡﭢ ) [الأنفال: ٦٣].

فلم يلتق النبي صلى الله عليه وسلم بالأنصار إلا في سويعات تحت جنح الليل، واكتفى فيها بعرض الإسلام، وأخذ العهود والمواثيق، ولم يطل لقاؤه معهم قبل الهجرة حتى يكون هذا الذي فعلوه بسبب تربية النبي إياهم، وطول تعهده لهم كما فعل تجاه المهاجرين حتى كون منهم رجالًا، فلم يكن بين دخول الأنصار الإسلام وقيامهم بهذه المآثر إلا أقل من عام.

فالأنصار قوم اختارهم الله لصحبة نبيه، لقد فتحوا للمهاجرين قلوبهم قبل أن يفتحوا لهم بيوتهم، ووسعوهم بصدورهم قبل أن يسعوهم بأموالهم، وتسابقوا إلى لقائهم وإكرامهم، وضربوا في باب الإيثار، وسخاء النفس، وكرم الطبع مثلًا عليا، لا تزال تذكرها لهم الأجيال المتعاقبة، بالإكبار والإعظام.

٥. سلامة صدورهم.

أثنى الله على الأنصار بسبب سلامة صدورهم رضي الله عنهم، فقال: ( ) [الحشر: ٩].

فقوله: ( ) [الحشر: ٩]. الضمير في (يجدون) للأنصار، قال ابن العربي: «قال الخلق بأجمعهم: يريد بذلك الأنصار الذين آووا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين طرد، ونصروه حين خذل، فلا مثل لهم، ولا لأجرهم»53.

وقوله: () أي: حزازة وغيظًا وحسدًا، قال الشوكاني في فتح القدير: ( ) [الحشر: ٩]. «أي: لا يجد الأنصار في صدورهم حسدًا وغيظًا وحزازةً»54.

وفي الكلام مضاف محذوف: أي لا يجدون في صدورهم مس حاجة، أو أثر حاجة، وكل ما يجده الإنسان في صدره مما يحتاج إليه فهو حاجة55.

وقوله: ( ) أي: مما أعطوا، والضمير للمهاجرين، والمراد (فيما أوتوه) هو مال الفيء، حيث قسم النبي صلى الله عليه وسلم أموال بني النضير بين المهاجرين، ولم يعط من الأنصار غير ثلاثة نفر، كانت بهم حاجة، فطابت أنفس الأنصار بتلك القسمة، أو يكون المراد (فيما أوتوه) هو: الفضل والتقدم56.

قال شيخ الإسلام في الفتاوى: «وبهذا أثنى الله تعالى على الأنصار، فقال: ( ) [الحشر: ٩].

أي: مما أوتي إخوانهم المهاجرون، قال المفسرون: لا يجدون في صدورهم حاجة أي: حسدًا وغيظًا، مما أوتي المهاجرون، ثم قال بعضهم: من مال الفيء، وقيل: من الفضل والتقدم»57.

يعني: لا يحسدون المهاجرين على ما خصوا به من مال الفيء وغيره، ويحتمل أن يريد به: ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا إذا كان قليلًا، بل يقنعون به، ويرضون عنه، وقد كانوا على هذه الحال حين حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم كانوا عليه بعد موته صلى الله عليه وسلم.

وقد أنذرهم النبي صلى الله عليه وسلم قائلًا: (سترون بعدي أثرة، فاصبروا حتى تلقوني على الحوض)58 59.

فالأنصار لا يجدون في صدورهم حاجة مما خصص به المهاجرون من الفيء، ولا يحسدونهم على ذلك، ولا يعترضون بقلوبهم على حكم الله بتخصيص المهاجرين حتى لو كانت بهم حاجة، أو اختلال أحوال60.

وعلى هذا ففي الآية بيان حال الأنصار، وأنهم لا يحسدون المهاجرين على ما آتاهم الله من فضله، وخصهم به من الفضائل والمناقب التي هم أهلها، وهذا يدل على سلامة صدورهم، وانتفاء الغل والحقد والحسد عنهم.

ويدل ذلك أيضًا على أن المهاجرين أفضل من الأنصار؛ لأن الله قدمهم بالذكر، وأخبر أن الأنصار لا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا، فدل على أن الله تعالى آتاهم ما لم يؤت الأنصار ولا غيرهم؛ لأنهم جمعوا بين النصرة والهجرة.

ثانيًا: أبرز أعمال الأنصار:

الأنصار: ما أجملها من كلمة! إنها كلمة تحمل معاني شريفة جليلة، اتصف بها قوم ضرب بهم المثل في الكمال الإنساني، إنها علمٌ على قوم عملوا أعمالًا استحقوا بها أن يكونوا من أنصار الرسول الكريم.

ومن أبرز هذه الأعمال:

١. الإيواء والنصرة.

لما هاجر المسلمون من مكة هجروا المحبوبات والمألوفات من الديار والأوطان والأحباب والخلان والأموال، وتجردوا من كل شيء إلا من الإيمان؛ رغبةً في الله، ونصرةً لدين الله، ومحبةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فوصلوا إلى أرضٍ جديدة، وواقعٍ مختلف، وكان من أثر هذه الرحلة نشوء عدد من المشكلات الجديدة، ليس أقلها: الشعور بالغربة، ومفارقة الأهل والديار، وترك معظم الأموال والممتلكات في مكة، وطبيعة الوضع المعيشي والاقتصادي الجديد، أضف إلى ذلك الآثار الصحية والبدنية التي أحدثها الانتقال المفاجئ إلى بيئةٍ أخرى؛ مما أدى إلى ظهور الأمراض في صفوفهم كالحمى وغيرها، كل هذا ترك في أنفسهم وحشة وغربة، حتى أصبح وضعهم يحتاج إلى حل عاجل وسريع.

فترجم الأنصار ما تعاقدوا عليه من أقوال في البيعتين إلى جملة أفعال، حيث فتح الأنصار أبواب بيوتهم وقلوبهم، واستعدوا لاحتضان من جاءهم مهاجرًا تحت ظاهرة عظيمة من التكافل الاجتماعي، فحوى المسكن الواحد تحت سقفه الأنصاري والمهاجر، وهم يتقاسمون كل شيء المسكن والمال والطعام.

فلم يعرف تاريخ البشرية حادثًا جماعيًا كحادث استقبال الأنصار للمهاجرين بهذا الحب الكريم، وبهذا البذل السخي، وبهذه المشاركة الرضية، وبهذا التسابق إلي الإيواء، واحتمال الأعباء، حتى ليروى أنه لم ينزل مهاجر في دار أنصاري إلا بقرعة؛ لأن عدد الراغبين في الإيواء المتزاحمين عليه أكثر من عدد المهاجرين، وهم لا يجدون في أنفسهم شيئًا من حسد، أو ضيق من هذا، والإيثار على النفس مع الحاجة قيمة عليا، وقد بلغ بها الأنصار مبلغًا لم تشهد له البشرية نظيرًا.

وهنا ظهر دور الأنصار الذين أبدوا من التضحية وضروب الإيثار ما استحق التخليد في كتاب الله.

قال الله تعالى عنهم: ( ﭿ ) [الأنفال: ٧٢].

وقال تعالى: ( ﯨﯩ ) [الأنفال: ٧٤].

فجمع الله تعالى في هاتين الآيتين الذين كانوا دعامة الإسلام، وعليهم هدى الرسول قام بنيانه، وشيدت أركانه، وهم المهاجرون والأنصار، فالمهاجرون ابتدأ بهم تكوين الجماعات الأولى التي صبرت وصابرت، وتلقت الصدمة الأولى من المشركين.

والأنصار وهم الذين آووا ونصروا، وأعزوا كلمة التوحيد، وأغلوها وأعلوها، فإذا كان المهاجرون هم الذين أظلوا شجرة الإسلام ابتداءً، فالأنصار هم الذين حموا ثمرتها، وقامت دولة الإسلام في أرضهم وحراستهم، وإذا كان المهاجرون قد لاقوا العنت في مكة فقد لقوا الإيواء في المدينة.

وإذا كانوا هم دعامة الإسلام فالأنصار دولته، وفي رحابهم قامت المدينة الفاضلة التي أقامها محمد صلى الله عليه وسلم في ديارهم، وإذا كان المهاجرون قد جاهدوا ابتداءً بالصبر والمصابرة، فقد كان جهادهم في المدينة مع إخوانهم الأنصار بذلك وبالقتال في المدينة، والفريقان اختارهم الله للتأليف حتى تكونت منهم أطهر جماعة رأتها الإنسانية وأقواها.

فبعد أن ذكر الله تعالى هنا في الآيتين الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، عقب بذكر الأنصار، وهم الذين آووا ونصروا.

فقال: ( ) [الأنفال: ٧٤]. المراد: بهم الأنصار، أي: وطنوا المهاجرين، وأنزلوهم منازلهم، وبذلوا إليهم أموالهم، وآثروهم على أنفسهم، ونصروهم على أعدائهم61.

فإذا كانوا قد نقصوا عن إخوانهم -المهاجرين- فضل الهجرة، فقد عوضوا عن ذلك بفضل الإيواء والنصرة62.

حيث استقبل الأنصار المهاجرين، فشاطروهم المال والديار؛ بكرم وسخاء، وضربوا مثلًا رائعًا في التكافل، وبناء الجماعة المسلمة، وآووا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنعوه من الأحمر والأسود، وتبوءوا دار الهجرة والإيمان، حتى صارت موئلًا ومرجعًا يرجع إليه المؤمنون، ويلجأ إليه المهاجرون، ويسكن بحماه المسلمون؛ إذ كانت البلدان كلها بلدان حرب وشرك وشر.

فلم يزل أنصار الدين يأوون إلى الأنصار، حتى انتشر الإسلام وقوي، وجعل يزيد شيئًا فشيئًا، وينمو قليلًا قليلًا، حتى فتحوا القلوب بالعلم والإيمان والقرآن، والبلدان بالسيف والسنان.

وقوله في الآية: () أي: نصروا الرسول وأصحابه على أعدائهم الكفار، وما سموا بالأنصار إلا لذلك؛ ولقد قال حسان رضي الله عنه في مدح الأنصار أنهم ما سموا أنصارًا إلا لنصرتهم الدين63:

سماهم الله أنصارًا بنصرهم

دين الهدى وعوان الحرب تستعر

وسارعوا في سبيل الله واعترفوا

للنائبات وما خافوا وما ضجروا

وقد ذكر الله تعالى هذه الصفة وهي (النصرة) في آيتين، فقال: ( ﯨﯩ ) [الأنفال: ٧٤]. وقال تعالى: ( )[الأنفال: ٧٢].

والنصرة في المدلول القرآني واللغوي والتاريخي بمعنى: العون، والظفر، والمنع، والانتقام، والانتصار، وشد الأزر، ولقد شرف الله سبحانه وتعالى المسلمين الأول بشرف لا يدانيه شرف، حيث أجزل لهم الثواب، وأحسن لهم المدح والثناء في أعظم كتاب، وخص كلًا من الفريقين المتآخيين (المهاجرين والأنصار) بعمل عظيم جليل، ناداهم به فسموا مهاجرين وأنصارًا، وما ذلك إلا للهجرة والنصرة، فالهجرة كانت إعلانًا للدولة، وانتقالًا لدار الإسلام، والنصرة هي التي هيأت للهجرة ولوجود دار الإسلام، فكيف يغفل أحد من المسلمين عن فضل الهجرة أو النصرة، وهو يتلو كتاب الله الذي يذكر المهاجرين والأنصار وفضلهما؟!

وكانت هذه النصرة وفاء منهم لمبايعة النبي صلى الله عليه وسلم لهم في بيعة العقبة الثانية، حيث ثبت أنه قال لهم: (أبايعكم على أن تمنعوني -إذا قدمت عليكم- مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم، ولكم الجنة)64. فبايعوه على النصرة والمنعة، فقام منهم اثني عشر نقيبًا كفلاء على قومهم، ثم استمر الحال حتى أذن الله للمسلمين بالهجرة، وقامت أول دولة للمسلمين65.

ونلحظ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يطلب النصرة لأمرين مهمين في غاية الأهمية:

أولهما: حماية الدعوة، حتى تسير بين الناس محمية الجانب، بعيدة عن الإساءة إلى أتباعها.

ثانيهما: إيجاد مكان آمن لدولته صلى الله عليه وسلم القادمة؛ ليتسلم خلالها مقاليد الحكم والسلطان على وفق مقتضيات النبوة على أساس الدعوة.

وختم الله تعالى الآية الأخرى بقوله: ( )[الأنفال: ٧٢]]. أي: إن هاتين الفرقتين (المهاجرين والأنصار) بعضهم أنصار بعض، وأعوان على من سواهم من المشركين، وأيديهم واحدة على من كفر بالله، وبعضهم إخوان لبعض دون أقربائهم الكفار.

وقد قيل: إنما عنى بذلك أن بعضهم أولى بميراث بعض، وأن الله ورث بعضهم من بعض بالهجرة والنصرة دون القرابة والأرحام، وأن الله نسخ ذلك بعد، بقوله: ( ﯿ ) [الأنفال: ٧٥] وهذا القول لأبن عباس رضي الله عنه 66.

قال الشوكاني: «أي: بعضهم أولياء بعض في النصرة والمعونة، وقيل المعنى: إن بعضهم أولياء بعض في الميراث، وقد كانوا يتوارثون بالهجرة والنصرة، ثم نسخ ذلك بقوله سبحانه: ( ﯿ ) [الأنفال: ٧٥67.

فالولاية محبة ومودة ومناصرة، وقد اجتمعت كل هذه الأحوال في ولاية المؤمنين المهاجرين والأنصار، فقد اجتمعت فيهم المودة فتوادوا وتحابوا، وتناصروا وجاهدوا جميعًا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، ولقد جمعت المؤاخاة معنى المودة والمحبة والإيثار، وجمع الجهاد معنى النصر والتبعات بالجهاد في سبيل الله68.

وقد ذكر الله بعد ذلك شأن الذين يهاجرون ويؤمنون من بعد، فقال: ( ﯷﯸ ﯿ ﰀﰁ )[الأنفال: ٧٥].

فهذا يدل على أن باب الإيمان مفتوح، وباب الهجرة مفتوح، وميدان الجهاد متسع للجميع، فلم يغلق على المجاهدين الأولين من المهاجرين والأنصار فقط، بل هو مفتوح، وهذه الآية الكريمة تلحق الذين يؤمنون من بعد ويهاجرون بالأولين الذين هم المؤمنون حقًا.

وإذا كان هذا الوصف (النصرة) في الأنصار، فالمهاجرون من باب أولى، فهم أنصار في المعنى، فمعنى النصرة حاصل للكل، ومن الكل، فهم قد هجروا ديارهم وأموالهم، كما قال تعالى: ( ) [الحشر: ٨].

وأثنى عليهم بأنهم يطلبون فضلًا من الله ورضوانًا، فقال: ( ) وأثبت لهم صفة النصرة، فقال: ( ) وأثنى عليهم بالصدق، فقال: ( ) فرضي الله عن المهاجرين والأنصار ومن تبعهم بإحسان.

فضائل الأنصار

عرض القرآن الكريم فضائل الأنصار وهذا ما سنبينه فيما يأتي:

أولًا: وصفهم بالإيمان الحق:

وصف الله تعالى الأنصار بالإيمان الحق، فقال سبحانه: ( ﯨﯩ ) [الأنفال: ٧٤].

فقوله: ( ﯨﯩ) الإشارة إلى السابقين الأولين (من المهاجرين والأنصار) والإشارة إلى الموصوف إشارة إلى أوصافه، وجعلها مناط الحكم، أي: أولئك الذين هاجروا بعد الإيمان، وجاهدوا في سبيل الله، والذين آووا ونصروا هم المؤمنون حقًا، أي: إيمانًا ثابتًا صادقًا حقًا، تلاقت أقوالهم وقلوبهم وأعمالهم69.

فسبق منهم هجرة وجهاد، وإيواء ونصرة، وهذا هو الإيمان الحق، وفي الكلام قصر، أي: من كانوا على هذه الصفات هم وحدهم المؤمنون حقًا، أي: لا مؤمنون حقًا غيرهم، ومن هم على صفاتهم.

وفي هذه الآية وصفٌ لعموم المهاجرين والأنصار بالإيمان الحق، فجمع الله فيها الفضل لفريقي الصحابة، وهم المهاجرون والأنصار، من هاجر، ومن آوى، فاستوى الأنصار مع المهاجرين في عامل النصرة، وفي صدق الإيمان، فشهد لهم بحقيقة الإيمان، ووعدهم بالمغفرة والرزق الواسع، ومن شهد الله له بهذه الشهادة، فقد بلغ أعلى مرتبة العدالة.

ثم قال: ( ) [الأنفال: ٧٤]. ذكر الله تعالى هنا ما كتب لهم من خيري الدنيا والآخرة، وهذا يتضمن جزاءين:

أولهما: المغفرة السابقة، ووراءها الرحمة والنعيم المقيم.

ثانيهما: رزق كريم واسع في الدنيا بعد المشقة التي تحملوها، وهذا شأن المهاجرين الذين آمنوا، وشأن الأنصار الذين آووا ونصروا70.

فيكون الله قد أثنى عليهم ها هنا من ثلاثة أوجه:

أولها: قوله: ( ﯨﯩ) فقوله: ( ﯨﯩ) يفيد الحصر، وقوله: (ﯨﯩ) يفيد المبالغة في وصفهم بكونهم محقين محققين في طريق الدين، وقد كانوا كذلك؛ لأن من لم يكن محقًا في دينه لم يتحمل ترك الأديان السالفة، ولم يفارق الأهل والوطن، ولم يبذل النفس والمال، ولم يكن في هذه الأحوال من المسارعين المسابقين.

وثانيها: قوله: ( ) والتنكير يدل على الكمال، أي: مغفرة تامة كاملة.

وثالثها: قوله: ( ) والمراد منه: الثواب الرفيع الشريف71.

وعن السائب بن يزيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا معشر الأنصار، ألم يمن الله عليكم بالإيمان، وخصكم بالكرامة، وسماكم بأحسن الأسماء: أنصار الله، وأنصار رسوله؟!)72.

فالأنصار إذن حازوا شرفين: شرف سبقهم إلى الإيمان، وشرف استضافتهم للإيمان وأهله في أرضهم.

ومدحهم بأنهم أناس سكنوا الإيمان، وسكن الإيمان في قلوبهم، فقال: ( ) [الحشر: ٩].

فقوله: () الأظهر أن (الذين) هنا عطف على (المهاجرين) -في الآية السابقة-، أي: والذين تبوءوا الدار هم الأنصار73.

وقوله: ( ) من مادة (بواء) على وزن (دواء) وهي في الأصل بمعنى تساوي أجزاء المكان، وبعبارة أخرى يقال: (بواء) لترتيب وتسوية مكان (ما) وفي هذا التعبير كناية لطيفة لهذا المعنى، وهو أن طائفة الأنصار -أهل المدينة- قد هيئوا الأرضية المناسبة للهجرة.

وقوله: () الدار تطلق على البلاد، وأصلها: موضع القبيلة من الأرض، وأطلقت على القرية.

قال تعالى في ذكر ثمود: ( ) [الأعراف: ٧٨].

أي: في مدينتهم، وهي حجر ثمود، والتعريف هنا للعهد؛ لأن المراد بالدار: المدينة النبوية، والمعنى: الذين هم أصحاب الدار74، أي: دار الهجرة مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد تبوأها الأنصار قبل المهاجرين، كما تبوءوا فيها الإيمان، وكأنه منزل لهم ودار، وهو تعبير ذو ظلال، وهو أقرب ما يصور موقف الأنصار من الإيمان، لقد كان دارهم ونزلهم ووطنهم الذي تعيش فيه قلوبهم، وتسكن إليه أرواحهم، ويثوبون إليه، ويطمئنون له، كما يثوب المرء ويطمئن إلى الدار.

وفي قوله: () هذا تشريف للمدينة، حيث سماها الله الدار، فكأنها هي دار الإيمان؛ لأن الإيمان أوى إليها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها)75.

فالتعريف في () للتنويه كأنها الدار التي تستحق أن تسمى دارًا، وهي التي أعدها الله تعالى لهم؛ ليكون تبوؤهم إياها مدحًا لهم.

وذكر بعضهم أن الدار علمٌ بالغلبة على المدينة، كالمدينة، وأنه أحد أسمائها، ومنها: طيبة، وطابة، ويثرب، وجابرة76.

وفي ذكر الدار -وهي المدينة- مع ذكر الإيمان إيماء إلى فضيلة المدينة، بحيث جعل تبوؤهم المدينة قرين الثناء عليهم بالإيمان، ولعل هذا هو الذي عناه مالك -رحمة الله- فيما رواه عنه ابن وهب قال: سمعت مالكًا يذكر فضل المدينة على غيرها من الآفاق، فقال: إن المدينة تبوأت بالإيمان والهجرة، وإن غيرها من القرى افتتحت بالسيف. ثم قرأ: ( ) [الحشر: ٩]الآية77.

وجاء عنه صلى الله عليه وسلم: (أمرت بقرية تأكل القرى)78 .

والمقصود: المدينة، أي: يغلب أهلها، وهم الأنصار بالإسلام على غيرها من القرى، وينصر الله دينه بأهلها، ويفتح القرى عليهم، ويغنمهم إياها فيأكلونها79.

وقوله: () [الحشر: ٩]أي: سكنوا الإيمان، والإيمان لا يسكن، وإنما شبه الإيمان كأنه دار سكنوها؛ لأن الدار يستقر فيها الإنسان، فهؤلاء الأنصار سكنوا الإيمان، بمعنى: استقر الإيمان في قلوبهم، والإنسان يلازم داره، بمعنى: يستقر ويطمئن ويستريح فيه، وهؤلاء لازموا الإيمان كملازمة الإنسان لمسكنه، وهذه شهادة لهم بالإيمان -رضي الله تعالى عنهم-، فهم مؤمنون صادقون، استقر الإيمان في قلوبهم.

قال ابن جزي: «فإن قيل: كيف قال: تبوءوا الدار والإيمان، وإنما تتبوأ الدار، أي: تسكن ولا يتبوأ الإيمان؟

فالجواب من وجهين:

الأول: أن معناه تبوءوا الدار، وأخلصوا الإيمان، فهو كقولك:

علفتها تبنًا وماء باردًا80.

تقديره: علفتها تبنًا، وسقيتها ماء باردًا.

والثاني: أن المعنى: أنهم جعلوا الإيمان كأنه موطن لهم؛ لتمكنهم فيه، كما جعلوا المدينة كذلك»81.

فيكون في عطف الإيمان على الدار ستة أوجه:

أحدها: أنه ضمن () معنى: لزموا، فيصح عطف الإيمان عليه؛ إذ الإيمان لا يتبوأ.

الثاني: أنه منصوب بمقدر، أي: واعتقدوا، أو وألفوا، أو وأحبوا، أو وأخلصوا؛ كقوله:

علفتها تبنًا وماءً باردًا

وقوله:

متقلدًا سيفًا ورمحا 82

أي: وحاملًا رمحًا.

الثالث: أنه يتجوز في الإيمان، إن الإيمان مجاز عن المدينة، سمي محل ظهور الشيء باسمه مبالغة، فيجعل اختلاطه بهم وثباتهم عليه كالمكان المحيط بهم، فكأنهم نزلوه، وعلى هذا فيكون جمع بين الحقيقة والمجاز في كلمة واحدة، وفيه خلاف مشهور.

الرابع: أن يكون الأصل: دار الهجرة ودار الإيمان، فأقام (لام) التعريف في (الدار) مقام المضاف إليه، وحذف المضاف من دار الإيمان، ووضع المضاف إليه مقامه.

الخامس: أن يكون سمى (المدينة)؛ لأنها دار الهجرة ومكان ظهور الإيمان.

السادس: أنه منصوب على المفعول معه (الواو للمعية) أي: مع الإيمان معًا، والمراد تبوءوا الدار مع إيمانهم، أي: تبوءوها مؤمنين83.

والضمير في قوله: ( ) [الحشر: ٩].

للمهاجرين، والجار متعلق بتبوء، أي: من قبل أن يهاجر المهاجرون إليهم، وقد أسلم كثير من الأنصار قبل المهاجرين، لكن المقصود -والله وأعلم- بقوله: ( ) [الحشر: ٩] أي: من قبل أن يهاجر المهاجرون، وأن الأنصار أسلم كثير من كبارهم وسادتهم على يد مصعب بن عمير رضي الله عنه قبل أن يهاجر كثير من المهاجرين -رضي الله تعالى عنهم-، وقبل أن تصبح المدينة دار الهجرة التي أوى إليها النبي عليه الصلاة والسلام، فكثير من الأنصار كان قد أسلم، ودخل الإيمان في قلوبهم، واستقر على يد مصعب بن عمير رضي الله عنه، فهو من فتح الله به المدينة المنورة بدعوته إلى الله، وسلوكه الطيب، حتى ما بقي بيت من بيوت المدينة إلا ودخله الإيمان.

وقد أورد ابن جزي إشكالًا، وأجاب عليه، حيث قال: «فإن قيل: قوله: ( ) [الحشر: ٩].

يقتضي أن الأنصار سبقوا المهاجرين بنزول المدينة وبالإيمان، فأما سبقهم لهم بنزول المدينة فلا شك فيه؛ لأنها كانت بلدهم، وأما سبقهم لهم بالإيمان فمشكل؛ لأن أكثر المهاجرين أسلم قبل الأنصار.

قال: والجواب من وجهين:

أحدهما: أنه أراد بقوله: ( ) [الحشر: ٩] من قبل هجرتهم.

والآخر: أنه أراد تبوءوا الدار مع الإيمان معًا، أي: جمعوا بين الحالتين قبل المهاجرين؛ لأن المهاجرين إنما سبقوهم بالإيمان لا بتبوء الدار، فيكون الإيمان على هذا مفعولًا معه، وهذا الوجه أحسن؛ لأنه جواب عن هذا السؤال، وعن السؤال الأول فإنه إذا كان الإيمان مفعولًا معه لم يلزم السؤال الأول؛ إذ لا يلزم إلا إذا كان الإيمان معطوفًا على الدار»84.

وجعل الألوسي ذلك من قبل تقدير مضاف، حيث قال: «والكلام بتقدير مضاف، أي: من قبل هجرتهم، فنهاية ما يلزم سبق الإيمان الأنصار على هجرة المهاجرين، ولا يلزم منه سبق إيمانهم على إيمانهم؛ ليقال: إن الأمر بالعكس، وجوز أن لا يقدر مضاف، ويقال: ليس المراد سبق الأنصار لهم في أصل الإيمان، بل سبقهم إياهم في التمكن فيه؛ لأنهم لم ينازعوا فيه لما أظهروه.

وقيل: الكلام على التقديم والتأخير، والتقدير: تبوءوا الدار من قبلهم والإيمان، فيفيد سبقهم إياهم في تبوء الدار فقط، وهو خلاف الظاهر، على أن مثله لا يقبل ما لم يتضمن نكتة سرية، وهي غير ظاهرة ها هنا؛ وقيل: لا حاجة إلى شيء مما ذكر، وقصار ما تدل الآية عليه تقدم مجموع تبوء الأنصار وإيمانهم على تبوء المهاجرين وإيمانهم، ويكفي في تقديم المجموع تقدم بعض أجزائه، وهو ها هنا تبوء الدار، وتعقب بمنع الكفاية، ولو سلمت لصح أن يقال: بتقدم تبوء المهاجرين وإيمانهم على تبوء الأنصار وإيمانهم؛ لتقدم إيمان المهاجرين»85.

ووصف الله الأنصار أيضًا بالإيمان والاستجابة لله، كما جاء في تفسير قوله تعالى: ( ) [الشورى: ٣٨].

أنها نزلت في الأنصار، حين دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإيمان، فاستجابوا له؛ أي: لرسول الله من صميم القلب، كما هو المفهوم من إطلاق الاستجابة، وفيه إشارة إلى أن الاستجابة للرسول استجابة للمرسل، فهو من عطف الخاص على العام لمزيد التشريف، وذلك لأن الاستجابة داخلة في الإيمان86.

قال الألوسي: ( ) [الشورى: ٣٨].

قيل: نزلت في الأنصار، دعاهم الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم للإيمان به وطاعته سبحانه، فاستجابوا له، فأثنى عليهم -جل وعلا- بما أثنى، وعليه فهو من ذكر الخاص بعد العام؛ لبيان شرفه؛ لأيمانهم دون تردد وتلعثم، والآية إن كانت مدنية فالأمر ظاهر، وإذا كانت مكية فالمراد بالأنصار من آمن بالمدينة قبل الهجرة، أو المراد بهم أصحاب العقبة87.

وقال الشوكاني: «قال ابن زيد: هم الأنصار بالمدينة استجابوا إلى الإيمان بالرسول حين أنفذ إليهم اثني عشر نقيبًا منهم قبل الهجرة، وأقاموا الصلاة لمواقيتها بشروطها وهيئاتها»88.

ووصف الله الأنصار بالإيمان والعمل الصالح، كما جاء عن ابن عباس في قوله: ( ) [محمد: ٣٤]. قال: هم أهل مكة، ( ) [محمد: ٢]. قال: هم أهل المدينة الأنصار ( ) [محمد: ٢]. قال: أمرهم89.

ووصفوا بأنهم رجال؛ وسماهم الله رجال، فقال: ( ﭯﭰ ﭻﭼ ﭿ ﮁﮂ ) [التوبة: ١٠٨].

فقد جاء ما يدل أنها نزلت في الأنصار، فعن أبي أيوب وجابر وأنس رضوان الله عليهم أن هذه الآية حين نزلت: ( ﭿ ﮁﮂ ) [التوبة: ١٠٨].

قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا معشر الأنصار إن الله قد أثنى عليكم في الطهور، فما طهوركم؟) قالوا: نتوضأ للصلاة، ونغتسل من الجنابة، ونستنجي بالماء، قال: (فهو ذاك، فعليكموه)90.

وعن موسى بن أبي كثير قال: بدء حديث هذه الآية في رجال من الأنصار، من أهل قباء91.

وقوله: ( ﭿ ﮁﮂ) [التوبة: ١٠٨].

أي: من الأحداث والجنابات والنجاسات...، وقالوا: المراد منه: الطهارة بالماء بعد الحجر، وقيل: المراد منه: الطهارة من الذنوب والمعاصي، وقيل: محمول على الأمرين92.

فتكون جملة: ( ﭿ ﮁﮂ) ثناء على مؤمني الأنصار الذين يصلون بمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبمسجد قباء، وجاء الضمير مفردًا مراعاة للفظ (مسجد) الذي هو جنس93.

ثانيًا: توبة الله على الأنصار، وتجاوزه عن تقصيرهم:

قال تعالى: ( ﯯﯰ ) [التوبة: ١١٧].

نزلت هذه الآية في غزوة تبوك التي كانت قبل الشام، وكان فيها جيش العسرة من المهاجرين والأنصار، ومن غيرهم من القبائل التي حول المدينة ومكة، ولكنهم خصوا بالثناء والتوبة؛ لأنهم لم يترددوا، ولم يتثاقلوا، ولا شحوا بأموالهم، فكانوا أسوة لمن ائتسى بهم من غيرهم من القبائل94.

ففي قوله: ( ) خبر مؤكد بلام القسم على حرف التحقيق (قد) بين فيه تعالى فضل عطفه على نبيه وأصحابه المؤمنين الصادقين من المهاجرين والأنصار، وتجاوزه عن هفواتهم في هذه الغزوة، وفي غيرها لاستغراقها في حسناتهم الكثيرة على كونهم لا يصرون على شيء منها، وإنما كانت هفواتهم هذه مقتضى الطباع البشرية، واجتهاد الرأي فيما لم يبينه الله تعالى بيانًا قطعيًا يعد مخالفه عاصيًا.

يقول ابن عاشور: «وافتتاح الله هذه الآية بحرف التحقيق (لقد)؛ تأكيدًا لمضمونها المتقرر فيما مضى من الزمان، حسبما دل عليه الإتيان بالمسندات كلها أفعالًا ماضية.

ومن المحسنات افتتاح هذا الكلام بما يؤذن بالبشارة لرضا الله على المؤمنين الذين غزوا تبوك، وتقديم النبي صلى الله عليه وسلم في تعلق فعل التوبة بالغزاة؛ للتنويه بشأن هذه التوبة، وإتيانها على جميع الذنوب؛ إذ قد علم المسلمون كلهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد غفر الله ما تقدم من ذنبه وما تأخر»95.

وهذه التوبة التي تابها الله على النبي والمهاجرين والأنصار -كما قال ابن عباس-: كانت التوبة على النبي لأجل إذنه للمنافقين في القعود، ودليله قوله: ( ) [التوبة: ٤٣].

وعلى المؤمنين من ميل قلوب بعضهم إلى التخلف عنه، وقيل: توبة الله عليهم استنقاذهم من شدة العسرة.

وقيل: خلاصهم من نكاية العدو، وعبر عن ذلك بالتوبة وإن خرج عن عرفها لوجود معنى التوبة فيه، وهو الرجوع إلى الحالة الأولى96.

يقول شيخ المفسرين الطبري: «يقول تعالى ذكره: لقد رزق الله الإنابة إلى أمره وطاعته نبيه محمدًا، والمهاجرين ديارهم وعشيرتهم إلى دار الإسلام، وأنصار رسوله في الله الذين اتبعوا رسول الله في ساعة العسرة منهم من النفقة والظهر والزاد والماء»97.

فيكون معنى توبته على النبي أي: بإذنه للمنافقين بالتخلف عنه98.

وقال أهل المعاني: هو مفتاح كلام، وذلك أنه لما كان سبب توبة التائبين ذكر معهم، كقوله: ( ) [الأنفال: ٤١]99.

وهذه التوبة على المهاجرين والأنصار في ساعة العسرة سببها كما قال الرازي: «ربما وقع في قلوبهم نوع نفرة عن تلك السفرة، وربما وقع في خاطر بعضهم أنا لسنا نقدر على الفرار، ولم يعزموا عليه، بل وساوس كانت تقع في قلوبهم، فالله تعالى بين في آخر هذه السورة أنه بفضله عفا عنها، فقال: ( ) [التوبة: ١١٧].

والوجه الثاني في الجواب: أن الإنسان طول عمره لا ينفك عن زلات وهفوات، إما من باب الصغائر، وإما من باب ترك الأفضل، ثم إن النبي وسائر المؤمنون لما تحملوا مشاق هذا السفر ومتاعبه، وصبروا على تلك الشدائد والمحن، أخبر الله تعالى أن تحمل تلك الشدائد صار مكفرًا لجميع الزلات التي صدرت عنهم في طول العمر، وصار قائمًا مقام التوبة المقرونة بالإخلاص عن كلها.

والوجه الثالث في الجواب: أن الزمان لما اشتد عليهم في ذلك السفر، وكانت الوساوس تقع في قلوبهم، فكلما وقعت وسوسة في قلب واحد منهم تاب إلى الله منها، وتضرع إلى الله في إزالتها عن قلبه، فلكثرة إقدامهم على التوبة بسبب خطرات تلك الوساوس ببالهم، قال تعالى: ( ) [التوبة: ١١٧]...الآية.

والوجه الرابع: لا يبعد أن يكون قد صدر عن أولئك الأقوام أنواع من المعاصي، إلا أنه تعالى تاب عليهم، وعفا عنهم لأجل أنهم تحملوا مشاق ذلك السفر، ثم إنه تعالى ضم ذكر الرسول عليه الصلاة والسلام إلى ذكرهم؛ تنبيهًا على عظم مراتبهم في الدين، وأنهم قد بلغوا إلى الدرجة التي لأجلها ضم الرسول عليه الصلاة والسلام إليهم في قبول التوبة»100.

وقوله تعالى: ( ) [التوبة: ١١٧].

() من أفعال المقاربة، تعمل في اسمين (عمل كان) واسمها هنا ضمير شأن مقدر، وخبرها هو جملة الخبر عن ضمير الشأن، وإنما جعل اسمها هنا ضمير شأن؛ لتهويل شأنهم حين أشرفوا على الزيغ.

واختلف في معنى (تزيغ) فقيل: تتلف بالجهد والمشقة والشدة، وقيل: تعدل -أي تميل- عن الحق في الممانعة والنصرة، وقيل: من بعد ما هم فريق منهم بالتخلف والعصيان ثم لحقوا به، وقيل: هموا بالقفول فتاب الله عليهم، وأمرهم به101.

وقوله تعالى: ( ) هذا تأكيد ظاهر، واعتناء بشأن التوبة، هذا إن كان الضمير راجعًا إلى من تقدم ذكر التوبة عنهم، وإن كان الضمير إلى الفريق فلا تكرار102. والمعنى: قيل: توبته عليهم أن تدارك قلوبهم حتى لم تزغ، وكذلك سنة الحق مع أوليائه إذا أشرفوا على العطب، ووطنوا أنفسهم على الهلاك أمطر عليهم سحائب الجود، فأحيا قلوبهم103.

فإن قيل: ذكر التوبة في أول الآية وفي آخرها، فما فائدة التكرار؟

فالجواب من وجوه:

أحدها: أنه تعالى ابتدأ بذكر التوبة قبل ذكر الذنب؛ تطييبًا لقلوبهم، ثم لما ذكر الذنب أردفه مرة أخرى بذكر التوبة؛ تعظيمًا لشأنهم.

وثانيها: إذا قيل: عفا السلطان عن فلان ثم عفا عنه، دل على أن ذلك العفو متأكد، بلغ الغاية القصوى في الكمال والقوة. . .، وهذا معنى قول ابن عباس في قوله: ( ) يريد ازداد عنهم رضًا، قال ابن عباس: من تاب الله عليه لم يعذبه أبدًا.

وثالثها: أنه قال: ( ) [التوبة: ١١٧].

وهذا الترتيب يدل على أن المراد أنه تعالى تاب عليهم من الوساوس التي كانت تقع في قلوبهم في ساعة العسرة،

ثم إنه تعالى زاد عليه فقال: ( ) [التوبة: ١١٧].

فهذه الزيادة أفادت حصول وساوس قوية، فلا جرم أتبعها تعالى بذكر التوبة مرة أخرى؛ لئلا يبقى في خاطر أحدٍ شك في كونهم مؤاخذين بتلك الوساوس104.

وفي قصة توبة الله على النبي والمهاجرين والأنصار وعلى الثلاثة، فوائد ومسائل، منها:

في هذه الآيات دليل على أن توبة الله على العبد أجل الغايات، وأعلى النهايات، فإن الله جعلها نهاية خواص عباده، وامتن عليهم بها، حين عملوا الأعمال التي يحبها ويرضاها، وفيها لطف الله بهم، وتثبيتهم في إيمانهم عند الشدائد والنوازل المزعجة.

وفي الآيات أيضًا دليل على أن العبادة الشاقة على النفس لها فضل ومزية ليست لغيرها، وكلما عظمت المشقة عظم الأجر، وأن توبة الله على عبده بحسب ندمه وأسفه الشديد، وأن من لا يبالي بالذنب، ولا يحرج إذا فعله، فإن توبته مدخولة، وإن زعم أنها مقبولة.

وأن علامة الخير وزوال الشدة إذا تعلق القلب بالله تعالى تعلقًا تامًا، وانقطع عن المخلوقين.

وأن من لطف الله بالثلاثة أن وسمهم بوسم ليس بعار عليهم، فقال: () إشارة إلى أن المؤمنين خلفوهم، أو خلفوا عن من بت في قبول عذرهم، أو في رده، وأنهم لم يكن تخلفهم رغبة عن الخير؛ ولهذا لم يقل: (تخلفوا).

ومن فوائد الآيات: أن الله تعالى من عليهم بالصدق؛ ولهذا أمر بالاقتداء بهم، فقال: ( ) [التوبة: ١١٩]105.

يقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: واعلم أن لله تعالى على عبده توبتين؛ التوبة الأولى: قبل توبة العبد؛ وهي التوفيق للتوبة؛ والتوبة الثانية: بعد توبة العبد؛ وهي قبول التوبة؛ وكلاهما في القرآن؛ قال الله تبارك وتعالى: ( ﭪﭫ ) [التوبة: ١١٨].

فقوله تعالى: ( ﭪﭫ) أي: وفقهم للتوبة، وقوله تعالى: (ﭪﭫ) أي: يقوموا بالتوبة إلى الله؛ وأما توبة القبول ففي قوله تعالى: ( ) [الشورى: ٢٥].

ومن فوائد الآيات:


1 انظر: مختار الصحاح،١/٦٨٨، معجم اللغة العربية المعاصرة، أحمد مختار عمر، ٣/٢٢٢٠.

2 انظر: مغاني الأخيار في شرح أسامي رجال معاني الآثار، العيني ٣/٣٨٢.

3 انظر: المصدر السابق.

4 انظر: المعجم المفهرس الشامل لألفاظ القرآن الكريم، عبد الله جلغوم، ص١٣٢٥-١٣٢٨.

5 انظر: بصائر ذوي التمييز، الفيروزآبادي ٥/٦٩.

6 انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، ابن الأثير، ٣/١٢.

7 انظر: نزهة النظر، ابن حجر العسقلاني، ص١٤٠.

8 انظر: تهذيب اللغة، الأزهري،٦/٢٩، معجم اللغة العربية المعاصرة، أحمد مختار عمر،٣/٢٣٢٥.

9 انظر: الكليات، الكفوي، ص٨٨٣.

10 انظر: أساس البلاغة، الزمخشري، ١/٦١١، تاج العروس، الزبيدي،٢٦/١٠٢.

11 انظر: العين، الفراهيدي، ٢/٧٨.

12 انظر: الضوء اللامع المبين عن مناهج المحدثين، أحمد ناجي، ص، ١٦٨.

13 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٣/٢٦٨.

14 معالم التنزيل، البغوي ٣/١٦٦.

15 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٧/٣٤.

16 جامع البيان، الطبري ١١/٥١٨.

17 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٨/٤٢.

18 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المغازي، باب قوله: (إذ همت طائفتان منكم)، ٥/ ٩٦، رقم ٤٠٥١ ومسلم في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل الأنصار،رضي الله عنهم، رقم ٢٥٠٥.

19 انظر: زاد المسير، ابن الجوزي ١/٤٤٩.

20 منهاج السنة النبوية ١/١٥٤.

21 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجمعة، باب فرض الجمعة، ٢/ ٢، رقم ٨٧٦، ومسلم في صحيحه، كتاب الجمعة، باب هداية هذه الأمة ليوم الجمعة ٢/ ٥٨٥، رقم ٨٥٥.

22 أحكام القرآن، ابن العربي ٤/٤٠٦.

23 مفاتيح الغيب، الرازي ٨/١٢٧.

24 فتح القدير ٢/٥٧٧.

25 زاد المسير، ابن الجوزي ٣/٤٩١.

26 جامع البيان، ١٤/٤٣٩.

27 تفسير القرآن العظيم، ٤/٢٠٣.

28 المصدر السابق.

29 صفوة التفاسير، الصابوني ١/٣٧٤.

30 محاسن التأويل، القاسمي ٢/٥٠.

31 في ظلال القرآن ٧/١٦٥.

32 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٨/٦٩.

33 محاسن التأويل، القاسمي ٢/٥٠.

34 عمدة القاري ٢٤/٤١١.

35 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب مناقب الأنصار، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار:(أنتم أحب الناس إلي)، ٥/ ٣٢، رقم ٣٧٨٦، ومسلم في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل الأنصار، ٤/ ١٩٤٨، رقم ٢٥٠٨.

36 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الإيمان، باب علامة الإيمان حب الأنصار، ١/ ١٢، رقم ١٧، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب الدليل على أن حب الأنصار وعلي رضي الله عنهم من الإيمان وعلاماته، وبغضهم من علامات النفاق ١/٨٥، رقم ٧٤.

37 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب مناقب الأنصار، باب حب الأنصار، ٥/٣٢، رقم ٣٧٨٣، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب الدليل على أن حب الأنصار وعلي رضي الله عنهم من الإيمان وعلاماته، وبغضهم من علامات النفاق ١/٨٥، رقم ٧٥.

38 انظر: فتح الباري، ابن حجر ١/ ١٦٣.

39 الجامع لأحكام القرآن، ١٨/ ٢٦.

40 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، باب قوله: (ويؤثرون على أنفسهم)، ٦/ ١٤٨، رقم ٤٨٨٩.

41 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، باب قوله: (ويؤثرون على أنفسهم)، ٥/ ٣٤، رقم ٣٧٩٨.

42 انظر: زاد المسير، ابن الجوزي ٤/٢٥٨.

43 انظر: الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ١٨/٢٥.

44 التسهيل لعلوم التنزيل، ابن جزي ٢/٣٦٠.

45 مفاتيح الغيب، الرازي ٢٩/٥٠٨.

46 المصدر السابق.

47 انظر: المصدر السابق.

48 مفاتيح الغيب، الرازي ٢٩/٥٠٨.

49 تفسير القرآن العظيم، ٨/٧١.

50 أخرجه البزار في مسنده، رقم ٧٢٩٣ والطبراني في المعجم الأوسط ٥٧٥٤.

وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب ٢/ ٣٥٦، رقم ٢٦٠٧.

51 روح البيان، إسماعيل حقي ٩/٣٥٣.

52 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإمارة، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية، وتحريمها في المعصية ٣/١٤٧٠، رقم ١٧٠٩.

53 أحكام القرآن، ابن العربي ٧/٣٠٨.

54 فتح القدير ٥/٢٠١

55 المصدر السابق ٥/٢٨٢.

56 انظر: زاد المسير، ابن الجوزي ٨ /٢١٢.

57 مجموع فتاوى ابن تيمية ١٠/١١٩.

58 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجزية، باب ما أقطع النبي صلى الله عليه وسلم من البحرين، وما وعد من مال البحرين والجزية، ولمن يقسم الفيء والجزية ٤/ ٩٨، رقم ٣١٦٣، ومسلم في صحيحه، كتاب الإمارة، باب الأمر بالصبر عند ظلم الولاة واستئثارهم ٣/ ١٤٧٤، رقم ١٨٤٥.

59 أحكام القرآن، ابن العربي ٧/٣١٠.

60 انظر: لطائف الإشارات، القشيري ٣/٥٦١.

61 محاسن التأويل، القاسمي ٢٣/ ٢.

62 زهرة التفاسير، أبو زهرة ١/٣٢٠١.

63 انظر: ديوان حسان بن ثابت ص٩٩.

64 أخرجه أحمد في مسنده، ٢٥/٩٢، رقم ١٥٧٨٩.

65 انظر: السيرة النبوية، ابن هشام ٢/١٩٧- ٢٠٩.

66 انظر: جامع البيان، الطبري ١٠/٥١، تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٤/٩٥.

67 فتح القدير ٢/٤٧٨.

68 انظر: زهرة التفاسير، أبو زهرة ٦/٣٢٠٢.

69 المصدر السابق ٦/٣٢٠٦.

70 انظر: المصدر السابق ٦/٣٢٠٩.

71 انظر: مفاتيح الغيب، الرازي ١٥/٥١٩.

72 أخرجه الطبراني في الكبير ٧/ ١٥١، رقم ٦٦٦٥.

73 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٢٨/٩٠.

74 المصدر السابق.

75 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل المدينة، باب الإيمان يأرز إلى المدينة ٣/ ٢١، رقم ١٨٧٦، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب بيان أن الإسلام بدأ غريبًا وسيعود غريبًا، وأنه يأرز بين المسجدين ١/١٣١، رقم ١٤٧.

76 روح المعاني، الألوسي ٢٠/٤٢٥.

77 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٢٨/٩١.

78 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل المدينة، باب فضل المدينة وأنها تنفي الناس ٣/ ٢٠، رقم ١٨٧١، ومسلم في صحيحه، كتاب الحج، باب المدينة تنفي شرارها، ٢/١٠٠٦، رقم ١٣٨٢.

79 انظر: النهاية في غريب الأثر، ابن الأثير ١/١٤٤.

80 البيت في خزانة الأدب ٣/ ١٣٩، وفي العباب الزاخر ١/٤٨١، وتمامه: «حتى شتت همالةً عيناها».

81 التسهيل لعلوم التنزيل، ٣/١٥٧.

82 البيت في الكامل في اللغة ١/ ٢٩١ وشرح ديوان الحماسة ص ٨٠٥ غير منسوب لقائل، وصدره: «يا ليت بعلك قد غذا».

83 انظر: اللباب في علوم الكتاب، ابن عادل ١٥/٢٠١.

84 التسهيل لعلوم التنزيل، ٣/١٥٧.

85 روح المعاني، ٢٠/٤٢٥.

86 روح البيان، إسماعيل حقي ٨/٢٥٣.

87 روح المعاني ٢٥/٤٦.

88 فتح القدير ٤/٧٦٩.

89 انظر: فتح القدير، الشوكاني ٥/٤٧.

90 أخرجه ابن ماجه في كتاب الطهارة وسننها، باب الاستنجاء بالماء ١/ ١٢٧، رقم ٣٥٥.

وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه، ١/٦٣.

91 جامع البيان، الطبري ١٤/ ٤٨٨.

92 اللباب في علوم الكتاب، ابن عادل ١٠/ ٢١٠.

93 التحرير والتنوير، ابن عاشور ١١/ ٣٢.

94 انظر: المصدر السابق .

95 السابق ١١/٤٩.

96 اللباب في علوم الكتاب، ابن عادل ٨/٣٨٧.

97 جامع البيان، ١٤/٥٣٩.

98 معالم التنزيل، البغوي ٤/١٠٤.

99 اللباب في علوم الكتاب، ابن عادل ٨/٣٨٧.

100 انظر: مفاتيح الغيب، الرازي ٨/١٧٠.

101 انظر: الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٨/٢٨١.

102 انظر: فتح القدير، الشوكاني ٢/٥٩٩.

103 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٨/٢٨١.

104 اللباب في علوم الكتاب، ابن عادل ٨/٣٨٩.

105 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص٣٥٤.

106 انظر: تفسير القرآن الكريم، ابن عثيمين ٣/٩١.

107 انظر: اللباب في علوم الكتاب، ابن عادل ٨/٣٨٧.

108 انظر: المصدر السابق.

109 انظر: اللباب في علوم الكتاب، ابن عادل ٨/٣٨٧.

110 انظر: السيرة النبوية، ابن كثير ٤/ ١٦.

111 أخرجه الترمذي في سننه، أبواب المناقب، ٥/ ٦٢٦، رقم ٣٧٠١.

وحسنه الألباني في تعليقه على المشكاة، رقم ٦٠٦٤.

112 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الفتن، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: (سترون بعدي أمورًا تنكرونها)، ٩/ ٤٧، رقم ٧٠٥٦، ومسلم في صحيحه، كتاب الإمارة، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية، وتحريمها في المعصية، ٣/١٤٧٠، رقم ١٧٠٩.

113 تفسير القرآن الكريم، ٨/ ١١٣.

الأنصار

عناصر الموضوع

مفهوم الأنصار

الأنصار في الاستعمال القرآني

الألفاظ ذات الصلة

صفات الأنصار وأعمالهم

فضائل الأنصار

الأنصار

مفهوم الأنصار

أولًا: المعنى اللغوي:

الأنصار: جمع ناصر، كصاحب وأصحاب، كما تجمع ناصر على ناصرين ونصار، اسم فاعل من نصر.

أو جمع نصير، كشريف وأشراف، (ناصر أو نصير) وكلاهما صواب، والنصير: فعيل، بمعنى فاعل أو مفعول؛ لأن كل واحد من المتناصرين ناصر ومنصور.

ونصير: صيغة مبالغة من ناصر، ومعناه: المساعد، والمعين، والمناصر، والمؤيد.

يقال: نصره على عدوه ينصره نصرًا، واستنصره على عدوه: سأله أن ينصره عليهم، وتناصر القوم: إذا نصر بعضهم بعضًا، وانتصر منه: انتقم1.

ولفظ الأنصار يأتي بمعنى: الأعوان المناصرين والمؤازرين والأتباع والحلفاء، وأهل الاتباع والتصديق.

وهذا اللفظ (الأنصار) بهذا المعنى اللغوي يمكن إطلاقه لغةً على كل من اتصف بهذا الوصف.

ثانيًا: المعنى الاصطلاحي:

وفي المعنى الاصطلاحي الأمر ليس ببعيد عن المعنى اللغوي، فأنصار الرجل هم حلفاؤه وأتباعه ومؤيدوه في النزاعات، ومعاونوه على أمره.

ومن هنا جاء تعريف الأنصار في الاصطلاح الشرعي بأنهم الأوس، والخزرج من الأزد: سماهم الله عز و جل بذلك لما نصروا رسوله، وآووه، وكانوا له نعم الحلفاء والأتباع2.

فالأنصار اصطلاحًا: يطلق على من أسلم من أهل المدينة بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم من الأوس، والخزرج، ومزينة، وسليم، وجهينة، وغفار، وأسلم، فكل هؤلاء يسمون الأنصار، وهو اسم سماه الله تعالى لكل من ناصر نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم وآواه في المدينة3، وأولادهم يدخلونه بالنسب؛ فيقال: الأنصاري للواحد منهم ومن أبنائهم.

الأنصار في الاستعمال القرآني

وردت مادة (نصر) في القرآن (١٥٥) مرة، يخص موضوع البحث منها (١١) مرة4.

والصيغ التي وردت هي:

الصيغة

عدد المرات

المثال

الجمع

١١

( ) [البقرة:٢٧٠]

وجاءت كلمة (الأنصار) في الاستعمال القرآني بمعناها اللغوي، وهو: الأعوان5.

الألفاظ ذات الصلة

الصحابة:

الصحابة لغة:

الصحابة بالفتح: جمع صاحب، ولم يجمع فاعل على فعالة إلا هذا6.

الصحابة اصطلاحًا:

هو من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمنًا به، ومات على الإسلام، ولو تخللت ردةٌ في الأصح7.

الصلة بين الأنصار والصحابة:

عند الحديث عن الفرق بين لفظة الأنصار ولفظة الصحابة وكذلك الألفاظ الثلاثة التالية يكون المقصود منه الاصطلاح الشرعي، فيكون لفظ الأنصار أخص من لفظ الصحابة، إذ الصحابة منهم المهاجرون والأنصار والطلقاء، ومن دخل في دين النبي صلى الله عليه وسلم من القبائل بعد الفتح.

المهاجرون:

المهاجرون لغة:

جمع مهاجر، والمهاجر هو كل من فارق رباعه من بدوي أو حضري وسكن بلدًا آخر8.

ا لمهاجرون اصطلاحًا:

هم الذين صلوا إلى القبلتين، أو شهدوا بدرًا، أو أسلموا قبل الهجرة9.

الصلة بين الأنصار والمهاجرين:

الأنصار هم أهل المدينة الذين آووا النبي صلى الله عليه وسلم ومن هاجر إليهم من أهل الإسلام من مكة، والمهاجرون هم الذين قدموا المدينة مع النبي صلى الله عليه وسلم، أو هاجروا إليه منها بعد ذلك، وقبل انتهاء أجل الهجرة.

الطلقاء:

الطلقاء لغة:

أطلقت الأسير، وهو طليق، وهو من الطلقاء. وأطلقت الناقة من عقالها فطلقت10.

الطلقاء اصطلاحًا:

هم أهل مكة الذين أسلموا بعد فتحها.

الصلة بين الأنصار والطلقاء:

الأنصار من أهل المدينة وإسلامهم متقدم على إسلام الطلقاء، أما الطلقاء فهم أهل مكة وإسلامهم كان بعد فتح مكة.

التابعون:

التابعون لغة:

جمع تابع، وهو التالي، ومنه التتبع والمتابعة، والإتباع، والتتبع، تقول: تتبعت علمه، أي: اتبعت آثاره11.

التابعون اصطلاحًا:

من لقي الصحابي، وإن لم تطل صحبته12.

الصلة بين الأنصار والتابعين:

الأنصار صحبوا النبي صلى الله عليه وسلم ورأوه وهم من قرن النبي صلى الله عليه وسلم، بينما التابعون هم من صحبوا الصحابة بعد موت النبي، أو قبل ذلك ولم يحصل لهم شرف الصحبة.

صفات الأنصار وأعمالهم

تحدث القرآن الكريم عن صفات الأنصار وأعمالهم، وسوف نتناول ذلك بالبيان فيما يأتي:

أولًا: أبرز صفات الأنصار:

اصطفى الله سبحانه لهذا الدين رجالًا، كان لهم الحظ الأوفر، والشرف العظيم في نصرة الدين والنبي صلى الله عليه وسلم وإيوائه بعد أن خذله الناس، ألا وهم الأنصار، فهم من آوى الرسول ونصر، وكبت المشركين وقهر؛ ولهذا فحبهم ثابت في قلب كل مسلم، وبغضهم متقد في قلب كل منافق.

وقد شهد الكتاب العزيز بفضلهم، وبرضوان الله عليهم؛ لما قدموا من خدمة لهذا الدين، فخلد الله مديحهم ورضوانه عليهم في كتابه.

ولو تأملنا في صفات الأنصار في القرآن الكريم، وأمعنا النظر لوجدنا فضائلهم جمة، ومناقبهم عظيمة، بلغوا فيها غاية الكمال، ونالوا بها رضا ربهم الكريم المنان، فهو تارة يصفهم بالسابقين الأولين، وتارة بالإيواء والنصرة والإيمان، وتارة يصفهم بالفلاح، وتارة يثني على جهادهم وصبرهم وإيثارهم، وتارة يخبر بالرضا والتوبة عنهم.

وقد أشار إلى بعض أفعالهم وصفاتهم، ومنها: تبوءهم المدينة، وحبهم للمهاجرين، وإيثارهم إياهم، وسلامة صدورهم، كما في قوله تعالى: ( ﯽﯾ ﯿ ) [الحشر: ٩].

وأشار إليهم في قوله: ( ﯞﯟ ) [الأنعام: ٨٩].

فقوله: ( ) قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: «وقوله: ( ) يعني: أهل مكة، قاله ابن عباس وسعيد بن المسيب والضحاك وقتادة والسدي وغير واحد، وقوله: ( ) أي: إن يكفر بهذه النعم من كفر بها من قريش وغيرهم من سائر أهل الأرض، من عرب وعجم، ومليين وكتابيين، فقد وكلنا بها قومًا آخرين، أي: المهاجرين والأنصار، وأتباعهم إلى يوم القيامة»13.

وكذا قال البغوي: «أن المراد بقوله: ( ) يعني: الأنصار وأهل المدينة»14. وقال القرطبي: « ( ) جواب الشرط، أي: وكلنا بالإيمان بها ( ) يريد الأنصار من أهل المدينة، والمهاجرين من أهل مكة»15.

وقال الطبري بعد أن ذكر عدة أقوال في المراد بقوله: ( ): «وأولى هذه الأقوال في تأويل ذلك بالصواب قول من قال: عنى بقوله: ( ) كفار قريش ( ) يعني به: الأنبياء الثمانية عشر الذين سماهم الله تعالى ذكره في الآيات قبل هذه الآية، وذلك أن الخبر في الآيات قبلها عنهم مضى، وفي التي بعدها عنهم ذكر، فما بينها بأن يكون خبرًا عنهم، أولى وأحق من أن يكون خبرًا عن غيرهم»16. وعلى كل حال لا يوجد ما يمنع من دخول الأنصار في المراد من الآية، والله أعلم.

وأشير إليهم أيضًا في قوله تعالى: ( ﭗﭘ ) [الأنفال: ٦٢].

أي: قواك بنصره، يريد: يوم بدر، وبالمؤمنين، قال النعمان بن بشير: نزلت في الأنصار ( ﭡﭢ ) [الأنفال: ٦٣].

أي: جمع بين قلوب الأوس والخزرج، وكانت تألف القلوب مع العصبية الشديدة في العرب من آيات النبي صلى الله عليه وسلم، ومعجزاته؛ لأن أحدهم كان يلطم اللطمة فيقاتل عليها حتى يستقيدها، وكانوا أشد خلق الله حمية، فألف الله بالإيمان بينهم، حتى قاتل الرجل أباه وأخاه بسبب الدين، وقيل: أراد التأليف بين المهاجرين والأنصار، والمعنى متقارب17.

ونزل فيهم قوله -جل وعلا-: ( ﭘﭙ ) [آل عمران: ١٢٢].

فعن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه قال: نزلت هذه الآية فينا: ( ) قال: نحن الطائفتان بنو حارثة وبنو سلمة، وما أحب أنها لم تنزل، والله يقول: ( ﭘﭙ) وقال سفيان مرةً: وما يسرني أنها لم تنزل؛ لقول الله: ( ) 18.

«وقال الحسـن البصري: هما طائفتان من الأنصار همتا بذلك، فعصمهما الله، وقيل: لما رجع عبـد الله ابن أبي في أصحابـه يوم أحد همت الطائفتان باتباعه، فعصمهما الله»19.

والمقصود أن الله تبارك وتعالى بين في هذه الآيات فضائل الأنصار التي بَيَنَها القرآن الكريم، فقد نص على مجموعة من صفاتهم الحميدة، ومنها:

١. سبق الأنصار إلى الإيمان والنصرة.

وصف الله الأنصار في القرآن الكريم بالسبق، فقال: ( ﭦﭧ ) [التوبة: ١٠٠].

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «ذهب جمهور العلماء إلى أن السابقين في قوله تعالى: ( ) [التوبة: ١٠٠].

هم هؤلاء الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا، وأهل بيعة الرضوان كلهم منهم، وكانوا أكثر من ألف وأربعمائة»20.

وبين ابن العربي رحمه الله الأمور التي يكون فيها السبق، فقال: «السبق يكون بثلاثة أشياء: الصفة، وهو الإيمان، والزمان، والمكان، وأفضل هذه الوجوه سبق الصفات، والدليل عليه قوله صلى الله عليه وسلم في الصحيح: (نحن الآخرون الأولون، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، وأوتيناه من بعدهم، فهذا يومهم الذي اختلفوا فيه، فهدانا الله له، فاليهود غدًا، والنصارى بعد غد)21»22.

وقال الرازي: «اختلفوا في السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار من هم؟ وذكروا وجوهًا. . . »، ثم قال: «والصحيح عندي أنهم السابقون في الهجرة وفي النصرة، والذي يدل عليه أنه ذكر كونهم سابقين، ولم يبين أنهم سابقون في ماذا؟ فبقي اللفظ مجملًا، إلا أنه وصفهم بكونهم مهاجرين وأنصارًا، فوجب صرف ذلك اللفظ إلى ما به صاروا مهاجرين وأنصارًا، وهو الهجرة والنصرة، فوجب أن يكون المراد منه السابقون الأولون في الهجرة والنصرة؛ إزالة للإجمال عن اللفظ... ثم قال: و أيضًا فالسبق إلى الهجرة طاعة عظيمة من حيث إن الهجرة فعل شاق على النفس، ومخالف للطبع، فمن أقدم عليه أولًا صار قدوة لغيره من هذه الطاعة، وكان ذلك مقويًا لقلب الرسول عليه الصلاة والسلام، وسببًا لزوال الوحشة عن خاطره، وكذلك السبق في النصرة، فإن الرسول عليه الصلاة والسلام لما قدم المدينة، فلا شك أن الذين سبقوا إلى النصرة والخدمة، فازوا بمنصب عظيم»23.

وما ذكر قبل من الأقوال هو من باب التمثيل، فيكون هذا من باب اختلاف التنوع، لا اختلاف التضاد؛ ولهذا قال الشوكاني رحمه الله: «ولا مانع من حمل الآية على هذه الأصناف كلها»24.

٢. رضوان الله عن الأنصار ورضاؤهم عنه.

أخبر سبحانه أنه رضي عن (المهاجرين) والأنصار وعن أفعالهم، ورضوا عنه سبحانه؛ لما أجزل لهم من الثواب على طاعاتهم وإيمانهم به ويقينهم، فقال تعالى: ( ) [التوبة: ١٠٠].

فقوله تعالى: ( ) يعم الكل، قال الزجاج: رضي الله أفعالهم، ورضوا ما جازاهم به25 فحين ذكر سبحانه وتعالى الجزاء الذي أعده لهؤلاء، وحين كانت نفوسهم زاكية راقية؛ قابلوا الجزاء بالشكر، والتزود من الطاعة، فذكر سبحانه أنهم: ( ) وهذا أرقى المراتب التي يسعى إليها المؤمنون، ويتنافس فيها المتنافسون، أن يرضى الله تعالى عنهم، ويرضيهم، يقول الطبري: «رضي الله عن جميعهم لما أطاعوه، وأجابوا نبيه إلى ما دعاهم إليه من أمره ونهيه، ورضي عنه السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان لما أجزل لهم من الثواب على طاعتهم إياه، وإيمانهم به وبنبيه عليه السلام»26.

ففي هذه الآية إخبار بأن الله رضي عنهم ورضوا عنه، وفي هذا دليل على عدالتهم، ووجه الدلالة: أن الله تعالى أخبر فيها برضاه عنهم، ولا يثبت الله رضاه إلا لمن كان أهلًا للرضا، ولا توجد الأهلية لذلك إلا لمن كان من أهل الاستقامة في أموره كلها، عدلًا في دينه.

يقول ابن كثير رحمه الله: «يخبر تعالى عن رضاه عن السابقين من المهاجرين والأنصار، والتابعين لهم بإحسان، ورضاهم عنه بما أعد لهم من جنات النعيم، والنعيم المقيم»27.

ويقول أيضًا: «فقد أخبر الله العظيم أنه قد رضي عن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، فيا ويل من أبغضهم أو سبهم، أو أبغض أو سب بعضهم»28.

وقال تعالى في جزاء هؤلاء السابقين: ( ) [التوبة: ١٠٠].

أي: وأعد لهم في الآخرة جنات تجري من تحت أشجارها وقصورها الأنهار، ( ) أي: مقيمين فيها من غير انتهاء، ( ) أي: ذلك هو الفوز الذي لا فوز وراءه.

قال في البحر: لما بين تعالى فضائل الأعراب المؤمنين بين حال هؤلاء السابقين، ولكن شتان ما بين الثناءين، فهناك قال: ( ) [التوبة: ٩٩].

وهنا قال: ( ) وهناك ختم ( ) [التوبة: ٩٩].

وهنا ختم: ( ) [التوبة: ١٠٠]29.

وهذا الرضوان للأنصار، وما أعد لهم من الجنات والنعيم، هو جزاء ما قدموه لهذا الدين، وما تركوا من دورهم وأهليهم، وجزاء ما أعطوه للمهاجرين من أموالهم؛ لأن الهجرة أمر شاق على النفس، لمفارقة الأهل والعشيرة، والنصرة منقبة شريفة؛ لأنها إعلاء كلمة الله، ونصر رسوله وأصحابه، والإحسان من أحوال المقربين أو مقاماتهم.

وفي هذه الآية ( ) [التوبة: ١٠٠] فوائد:

الأولى: في الآية دليل على أن للصحابة مراتب، وأن الفضل للسابق إلى الإسلام والهجرة، وأن السابقين من الصحابة أفضل ممن تلاهم.

الثانية: قيل: المراد بالسابقين الأولين جميع المهاجرين والأنصار، فـ(من) بيانية؛ لتقدمهم على من عداهم، وقيل: بعضهم، وهم قدماء الصحابة و(من) تبعيضية، وقد اختار كثيرون الثاني، واختلفوا في تعيينهم.

الثالثة: تقديم المهاجرين؛ لفضلهم على الأنصار، كما ذكر في قصة السقيفة، ومنه علم فضل أبي بكر رضي الله عنه على من عداه؛ لأنه أول من هاجر معه صلى الله عليه وسلم30.

الرابعة: وفيها دليل على تنزيل الناس منازلهم.

الخامسة: وفيها دليل على أن أفضلية العمل على قدر رجوع منفعته إلى الإسلام والمسلمين.

السادسة: رضا الله عن السابقين من المهاجرين والأنصار، والمعنى: أنه رضي عنهم بما عملوه من الطاعات الخالصة له، ورضوا عنه بما جازاهم به مما لا يخطر لهم على بال، ولا تتصوره عقولهم، والرضا منه سبحانه هو أرفع درجات النعيم، وأعلى منازل الكرامة.

٣. حب الأنصار للمهاجرين.

قد شهد الله تعالى لهم بذلك في قوله: ( ) [الحشر: ٩].

فمن جملة أوصاف الأنصار الجميلة أنهم: ( ) [الحشر: ٩].

وهذا لمحبتهم لله ولرسوله أحبوا أحبابه، وأحبوا من نصر دينه، وهذه المحبة هي آصرة أقوى من آصرة النسب، وأقوى من رابطة الدم؛ لأنها تجمع على الإيمان بالله واليوم الآخر؛ ولأنها تستل كل الأحقاد والضغائن من الصدور؛ ولأنها تجعل من محبة الفرد لأخيه المسلم طاعة يتقرب بها، وينال بها الأجر والثواب من الله عز وجل، ويحصل بها على المنازل الرفيعة في الآخرة.

وأن هذه الرابطة أقوى من رابطة الدم واللغة والمصالح الاقتصادية، والعلاقات المتبادلة، يقول سيد قطب في الكلام على هذه الآية: «وهذه كذلك صورة وضيئة صادقة تبرز أهم الملامح المميزة للأنصار، هذه المجموعة التي تفردت بصفات، وبلغت إلى آفاق، لولا أنها وقعت بالفعل، لحسبها الناس أحلامًا طائرة، ورؤًى مجنحة، ومثلًا عليا قد صاغها خيال محلق. . .، ولم يعرف تاريخ البشرية كله حادثًا جماعيًا كحادث استقبال الأنصار للمهاجرين بهذا الحب الكريم، وبهذا البذل السخي، وبهذه المشاركة الرضية، وبهذا التسابق إلى الإيواء واحتمال الأعباء، حتى ليروى أنه لم ينزل مهاجر في دار أنصاري إلا بقرعة؛ لأن عدد الراغبين في الإيواء المتزاحمين عليه أكثر من عدد المهاجرين»31.

وفي قوله تعالى: () الواو استئنافية و () مبتدأ، وخبره () والجملة مستأنفة.

وقوله: () [الحشر: ٩].

خبر عن اسم الموصول () والمعنى: يحبونهم من حيث مهاجرتهم إليهم لمحبتهم الإيمان؛ قال ابن كثير: «أي: من كرمهم وشرف أنفسهم يحبون المهاجرين، ويواسونهم بأموالهم»32.

وقوله: ( ) أي: إلى المدينة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه حال الأنصار، فقلوبهم مملوءة بالحب للمهاجرين، ولا يحملون في صدورهم شيئًا على إخوانهم المهاجرين؛ لكونهم فضلوا عليهم ببعض الفضائل.

قال القاسمي: وقوله: () أي: لوجود الجنسية -أي المجانسة- في الصفاء، والموافقة في الدين والإخاء، قال الشهاب: المراد بمحبتهم المهاجرين هنا مواساتهم، وعدم الاستثقال والتبرم منهم، إذا احتاجوا إليهم، فالمحبة كناية عما ذكر33.

ويقول العيني: «في قوله: ( ) [الحشر: ٩أي: من المسلمين، حتى بلغ من محبتهم أن نزلوا لهم عن نسائهم، وشاطروهم أموالهم ومساكنهم»34.

وفي مقابل هذا الحب منهم أحبهم المهاجرون، وأحبهم الرسول صلى الله عليه وسلم، حتى قال للأنصار: (والذي نفسي بيده إنكم أحب الناس إلي)35 مرتين.

بل جعل الرسول حبهم من دلائل الإيمان، كما في حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار)36.

ففي هذا الحديث دلالة أن حب المؤمن لقبيلة الأنصار شعبة من شعب الإيمان، وعلامة عليه، فلا يحبهم إلا مؤمن، وأن بغضهم وكرههم شعبة من شعب النفاق والكفر، فلا يبغضهم إلا منافق.

وعن البراء قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الأنصار لا يحبهم إلا مؤمن، ولا يبغضهم إلا منافق، فمن أحبهم أحبه الله، ومن أبغضهم أبغضه الله)37.

وليس المراد بالبغض في هذا الحديث البغض الناتج من العداء الشخصي لأفرادهم، وإنما المراد بغضهم بسبب الصفة التي مدحوا بها، وهي نصرتهم للنبي صلى الله عليه وسلم، فمن أبغضهم من جهة هذه الصفة، وهي: كونهم نصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم أثر ذلك في تصديقه، فيصح أنه منافق38.

وكذلك الحب يقال فيه مثل ما يقال في البغض.

وهذا الحب من الأنصار لإخوانهم المهاجرين دافعه وجه الله تعالى، ومعرفتهم فضل الأخوة في الله، ومكانتها في الدين، فالأخوة في الله مبدأ عظيم من مبادئ الإسلام، يقوم عليه الولاء والبراء، والحب والبغض.

وتجلت هذه الأخوة في أبهى صورها، وأجمل حللها، في تلك المواقف السمحة التي عامل بها الأنصار إخوانهم المهاجرين، وهذا التآخي لم يكن مجرد شعار للمزايدة، ودغدغة العواطف، والالتفاف حول المعاني السامية بالأكاذيب والتدليس والتلبيس، لكنه معنى خالط قلوبهم ومشاعرهم، ولحمهم ودمهم، برز ذلك في سلمهم وحربهم، وفقرهم وغناهم، مستضعفين وممكن لهم، أفرادًا وجماعات.

وهذا الأنموذج من الأخوة الصادقة حرص النبي صلى الله عليه وسلم عليه وأكده، وكان من أوائل الأمور التي قام بها بعد وصوله المدينة أن آخى بين المهاجرين والأنصار؛ ليذهب عن المسلمين المهاجرين وحشة الغربة، ويؤنسهم عن مفارقة الأهل والعشيرة، ويشد بعضهم أزر بعض.

٤. الإيثار عند الأنصار.

الإيثار من أعظم الصفات التي اتصف بها المجتمع الإسلامي؛ ولهذا يقول بعض المفكرين: بأن كلمة الإيثار يصعب ترجمتها إلى لغات أخرى، أي: ليس لها مرادف في اللغات الأخرى مرادف يؤدي معناها، ويحقق كل معانيها، وكأن هذه الخصلة هي من الخصال التي أتى بها هذا الدين الحنيف، وزكى غرسها، وحث عليها، ودعا إليها.

وأعظم الناس إيثارًا في التاريخ الإسلامي هم الأنصار، فقد جاءهم المهاجرون إلى المدينة وهم لا يملكون من أمر الدنيا شيئًا، قد تركوا أموالهم وما يملكون خلف ظهورهم، وأقبلوا على ما عند الله عز وجل، يرجون رحمته، ويخافون عذابه، فاستقبلهم الأنصار الذين تبوءوا الدار، وأكرموهم أيما إكرام، ولم يبخلوا عليهم بشيء من حطام الدنيا، بل قاسموهم الأموال والمتاع، وشاطروهم بيوتهم وأرضهم وأموالهم، بطيب نفس، وسلامة صدر، في صورة يعجز عن وصفها اللسان، ويضعف عن تعبيرها البيان، وقابل المهاجرون هذا الإيثار الرائع بحسن الخلق والتعفف.

وقد امتدح الله جل وعلا خلق الإيثار عند الأنصار، فقال: ( ﯽﯾ ﯿ ) [الحشر: ٩].

ففي قوله: ( ﯽﯾ) [الحشر: ٩].

أي: إن من أوصاف الأنصار التي فاقوا بها غيرهم، وتميزوا بها على من سواهم الإيثار، وهو أكمل أنواع الجود، وهو الإيثار بمحاب النفس من الأموال وغيرها، وبذلها للغير مع الحاجة إليها، بل مع الضرورة والخصاصة، وهذا لا يكون إلا من خلق زكي، ومحبة لله تعالى مقدمة على محبة شهوات النفس ولذاتها.

والمراد بقوله: () [الحشر: ٩].

أي: الأنصار، والإيثار لغة: مصدر من قولهم: آثره عليه يؤثره إيثارًا، بمعنى: فضله وقدمه، والمآثر: ما يروى من مكارم الإنسان، وفي التنزيل: ( ) [يوسف: ٩١]. وآثر أن يفعل كذا: فضل وقدم، وضده الأثرة من قولهم: استأثر بالشيء انفرد به، أو اختص به نفسه.

واصطلاحًا: قال القرطبي: «الإيثار: هو تقديم الغير على النفس في حظوظها الدنيوية؛ رغبة في الحظوظ الدينية، وذلك ينشأ عن قوة اليقين، وتوكيد المحبة، والصبر على المشقة»39.

وفي قوله: () [الحشر: ٩]. مفعول الإيثار محذوف، والتقدير: ويؤثرونهم بأموالهم ومنازلهم على أنفسهم.

جاء في البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أتى رجلٌ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، أصابني الجهد، فأرسل إلى نسائه فلم يجد عندهن شيئًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا رجل يضيف هذه الليلة يرحمه الله)، فقام رجل من الأنصار، فقال: أنا يا رسول الله، فذهب إلى أهله، فقال لامرأته: ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا تدخريه شيئًا، فقالت: والله ما عندي إلا قوت الصبية، قال: فإذا أراد الصبية العشاء فنوميهم، وتعالي فأطفئي السراج، ونطوي بطوننا الليلة، ففعلت، ثم غدا الرجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (لقد عجب الله عز وجل، أو ضحك من فلان وفلانة)، فأنزل الله عز وجل: ( ) [الحشر: ٩]40.

وفي رواية في البخاري أيضًا: (ضحك الله الليلة، أو عجب من فعالكما)، فأنزل الله: ( ﯽﯾ) [الحشر: ٩]41.

وجاء في سبب نزولها: أن رجلًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدي له رأس شاةٍ، فقال: إن أخي فلانًا وعياله أحوج إلى هذا، فبعث به إليه، فلم يزل يبعث به واحد إلى واحد، حتى تناولها سبعة أهل أبيات، حتى رجعت إلى أولئك، فنزلت هذه الآية.

وروي نحو هذه القصة عن أنس بن مالك قال: أهدي لبعض الصحابة رأس شاةٍ مشوي، وكان مجهودًا، فوجه به إلى جارٍ له فتناوله تسعة أنفس، ثم عاد إلى الأول، فنزلت هذه الآية42.

وذكر ابن جزي في سبب نزولها قصة الفيء، فقال: «وروي أن سبب هذه الآية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قسم هذه القرى على المهاجرين دون الأنصار، قال للأنصار: (إن شئتم قسمتم للمهاجرين من أموالكم ودياركم، وشاركتموهم في هذه الغنيمة، وإن شئتم أمسكتم أموالكم وتركتم لهم هذه)43، فقالوا: بل نقسم لهم من أموالنا، ونترك لهم هذه الغنيمة، وروي أيضًا أن سببها أن رجلًا من الأنصار أضاف رجلًا»44. وذكر القصة التي في البخاري.

وهذا ما رجحه الرازي، حيث قال: «وذكر المفسرون أنواعًا من إيثار الأنصار للضيف بالطعام، وتعللهم عنه حتى يشبع الضيف، ثم ذكروا أن الآية نزلت في ذلك الإيثار، والصحيح أنها نزلت بسبب إيثارهم المهاجرين بالفيء، ثم لا يمتنع أن يدخل فيها سائر الإيثارات»45.

قوله: ( ﯽﯾ) [الحشر: ٩]. الخصاصة: هي الفقر46.

والمعنى: ولو كان بهم حاجة وفاقة إلى ما آثروا به من أموالهم على أنفسهم، فبين أن هذا الإيثار ليس عن غنى، وعن المال، ولكنه عن حاجة وخصاصة، وهي: الفقر47.

وهذا هو واقع الأنصار، فهم مع ما هم عليه من الخصاصة -وهي الفاقة والفقر-، ومع شدة احتياجهم وافتقارهم إلى ما في أيديهم، حيث أن المهاجرين كانوا أهل تجارة، وكانوا أهل ثراء في أوطانهم في مكة، بينما الأنصار كانوا في الحقيقة أهل زراعة، وما كانوا بالثراء الذي كان عليه أهل مكة؛ ولذلك عبر عنهم القرآن بهذا التعبير: ( ﯽﯾ) [الحشر: ٩].

فلئن يقدم الإنسان حاجة غيره عليه وهو مستغنٍ عن تلك الحاجة فهذا لا يستغرب، ومع ذلك فإن الله تعالى قد أمر به في كتابه الكريم، حينما قال: ( ) [البقرة: ٢١٩].

أي: الزيادة، ما فضل عن نفقاتكم الضرورية اللازمة عليكم، لكن هذه المرتبة أعلى، وهي أن يجود الإنسان بما عنده لأخيه مع كونه محتاجًا إليه، شديد الاحتياج، شديد الرغبة فيه، فهذا المعنى هو الذي تتحدث عنه الآية.

وقوله: (ﯿ ) [الحشر: ٩].

قال الرازي: «واعلم أن الفرق بين الشح والبخل هو أن البخل نفس المنع، والشح هو الحالة النفسانية التي تقتضي ذلك المنع، فلما كان الشح من صفات النفس لا جرم قال تعالى: (ﯿ ) [الحشر: ٩48.

ووقاية شح النفس يشمل وقايتها الشح في جميع ما أمر به، فإنه إذا وقي العبد شح نفسه سمحت نفسه بأوامر الله ورسوله، ففعلها طائعًا منقادًا منشرحًا بها صدره، وسمحت نفسه بترك ما نهى الله عنه وإن كان محبوبًا للنفس، تدعو إليه، وتطلع إليه، وسمحت نفسه ببذل الأموال في سبيل الله، وابتغاء مرضاته، وبذلك يحصل الفلاح والفوز، بخلاف من لم يوق شح نفسه، بل ابتلي بالشح بالخير الذي هو أصل الشر ومادته.

فهذان الصنفان الفاضلان الزكيان هم الصحابة الكرام والأئمة الأعلام، الذين حازوا من السوابق والفضائل والمناقب ما سبقوا به من بعدهم، وأدركوا به من قبلهم، فصاروا أعيان المؤمنين، وسادات المسلمين، وقادات المتقين.

ووصف الله من يتصف بهذه الصفة بقوله: ( ) أي: الظافرون بما أرادوا، والمقصود بهم: الأنصار، ومن أتصف بهذه الصفات من غيرهم، والمفلحون: هم الفائزون بكل مطلوب، الناجون من كل مهروب، قال ابن كثير: أي: من سلم من الشح فقد أفلح وأنجح49.

«والفلاح: اسم لسعادة الدارين، والجملة اعتراض وارد لمدح الأنصار والثناء عليهم، فإن الأوصاف المذكورة في حقهم، فلهم جلائل الصفات، ودقائق الأحوال. . .، قال السهروردي في العوارف: السخاء صفة غريزية في مقابلة الشح، والشح من لوازم صفة النفس، حكم الله بالفلاح لمن يوقى الشح، أي: لمن أنفق وبذل، والنبي عليه الصلاة والسلام نبه بقوله: (ثلاث مهلكات، وثلاث منجيات) فجعل إحدى المهلكات (شحًا مطاعًا)50 ولم يقل: مجرد الشح يكون مهلكًا، بل إنما يكون مهلكًا إذا كان مطاعًا، فأما كونه موجودًا في النفس غير مطاع لا ينكر ذلك؛ لأنه من لوازم النفس، مستمد من أصل جبلتها الترابي، وفي التراب قبض وإمساك، وليس ذلك بالعجب من الآدمي، وهو جبلي فيه، وإنما العجب وجود السخاء في الغريزة»51.

وهكذا يصور القرآن الكريم هذا الوضع غير المسبوق في أبلغ عبارة وأجزلها، وتظهر الآيات الكريمة صدق الأخوة بين المهاجرين والأنصار، لا تلوثه أطماع، ولا حب دنيا، ولا أثرة، ولا شح أو حرص، ولا حاجة إنما هو أخوة تدور بين سلامة الصدر والإيثار، ولا شك أن المرء يقف مبهورًا أمام هذه الصورة الرائعة من الأخوة المتينة، والإيثار المتبادل، الذي لا نشهد له مثيلًا في تواريخ الأمم السابقة.

ولقد كان دافع الأنصار لهذا الإيثار هو رغبتهم فيما عند الله، وحبهم لإخوانهم المهاجرين؛ ولهذا صدر الله هذه الصفات للأنصار في هذه الآية بأنهم يحبون من هاجر إليهم، فالمحبة هي باعث هذا الإيثار؛ ولذلك لا يمكن أن تتصور الإيثار دون أن تتصور المحبة بين الناس، المحبة التي تنشأ في القلوب، ثم يتبع هذه المحبة رغبة صادقة في أن ينال الخير أخاك؛ ولذلك فلا يجد الواحد منهم غضاضة في نفسه أن يقدم إخوانه في الخير الذي لديه.

وكيف لا يؤثر الأنصار وقد بايعوا الرسول صلى الله عليه وسلم على الإيثار؟!

فقد جاء عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: (بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر، والمنشط والمكره، وعلى أثرة علينا، وعلى أن لا ننازع الأمر أهله)52.

فالسمع والطاعة في العسر واليسر، والمنشط والمكره: لهم معه، ومع الأئمة بعده، والأثرة: عدم منازعة الأمر مع الأئمة بعده خاصة.

ولو ذهبنا نلتمس الأسباب وراء هذا الإخاء والحب والإيثار فلن نجد إلا مسبب الأسباب، وأن ذلك كان بفضل الله ورحمته، لا بصنع بشر وحكمته وسياسته، وصدق الله حيث قال: ( ﭡﭢ ) [الأنفال: ٦٣].

فلم يلتق النبي صلى الله عليه وسلم بالأنصار إلا في سويعات تحت جنح الليل، واكتفى فيها بعرض الإسلام، وأخذ العهود والمواثيق، ولم يطل لقاؤه معهم قبل الهجرة حتى يكون هذا الذي فعلوه بسبب تربية النبي إياهم، وطول تعهده لهم كما فعل تجاه المهاجرين حتى كون منهم رجالًا، فلم يكن بين دخول الأنصار الإسلام وقيامهم بهذه المآثر إلا أقل من عام.

فالأنصار قوم اختارهم الله لصحبة نبيه، لقد فتحوا للمهاجرين قلوبهم قبل أن يفتحوا لهم بيوتهم، ووسعوهم بصدورهم قبل أن يسعوهم بأموالهم، وتسابقوا إلى لقائهم وإكرامهم، وضربوا في باب الإيثار، وسخاء النفس، وكرم الطبع مثلًا عليا، لا تزال تذكرها لهم الأجيال المتعاقبة، بالإكبار والإعظام.

٥. سلامة صدورهم.

أثنى الله على الأنصار بسبب سلامة صدورهم رضي الله عنهم، فقال: ( ) [الحشر: ٩].

فقوله: ( ) [الحشر: ٩]. الضمير في (يجدون) للأنصار، قال ابن العربي: «قال الخلق بأجمعهم: يريد بذلك الأنصار الذين آووا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين طرد، ونصروه حين خذل، فلا مثل لهم، ولا لأجرهم»53.

وقوله: () أي: حزازة وغيظًا وحسدًا، قال الشوكاني في فتح القدير: ( ) [الحشر: ٩]. «أي: لا يجد الأنصار في صدورهم حسدًا وغيظًا وحزازةً»54.

وفي الكلام مضاف محذوف: أي لا يجدون في صدورهم مس حاجة، أو أثر حاجة، وكل ما يجده الإنسان في صدره مما يحتاج إليه فهو حاجة55.

وقوله: ( ) أي: مما أعطوا، والضمير للمهاجرين، والمراد (فيما أوتوه) هو مال الفيء، حيث قسم النبي صلى الله عليه وسلم أموال بني النضير بين المهاجرين، ولم يعط من الأنصار غير ثلاثة نفر، كانت بهم حاجة، فطابت أنفس الأنصار بتلك القسمة، أو يكون المراد (فيما أوتوه) هو: الفضل والتقدم56.

قال شيخ الإسلام في الفتاوى: «وبهذا أثنى الله تعالى على الأنصار، فقال: ( ) [الحشر: ٩].

أي: مما أوتي إخوانهم المهاجرون، قال المفسرون: لا يجدون في صدورهم حاجة أي: حسدًا وغيظًا، مما أوتي المهاجرون، ثم قال بعضهم: من مال الفيء، وقيل: من الفضل والتقدم»57.

يعني: لا يحسدون المهاجرين على ما خصوا به من مال الفيء وغيره، ويحتمل أن يريد به: ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا إذا كان قليلًا، بل يقنعون به، ويرضون عنه، وقد كانوا على هذه الحال حين حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم كانوا عليه بعد موته صلى الله عليه وسلم.

وقد أنذرهم النبي صلى الله عليه وسلم قائلًا: (سترون بعدي أثرة، فاصبروا حتى تلقوني على الحوض)58 59.

فالأنصار لا يجدون في صدورهم حاجة مما خصص به المهاجرون من الفيء، ولا يحسدونهم على ذلك، ولا يعترضون بقلوبهم على حكم الله بتخصيص المهاجرين حتى لو كانت بهم حاجة، أو اختلال أحوال60.

وعلى هذا ففي الآية بيان حال الأنصار، وأنهم لا يحسدون المهاجرين على ما آتاهم الله من فضله، وخصهم به من الفضائل والمناقب التي هم أهلها، وهذا يدل على سلامة صدورهم، وانتفاء الغل والحقد والحسد عنهم.

ويدل ذلك أيضًا على أن المهاجرين أفضل من الأنصار؛ لأن الله قدمهم بالذكر، وأخبر أن الأنصار لا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا، فدل على أن الله تعالى آتاهم ما لم يؤت الأنصار ولا غيرهم؛ لأنهم جمعوا بين النصرة والهجرة.

ثانيًا: أبرز أعمال الأنصار:

الأنصار: ما أجملها من كلمة! إنها كلمة تحمل معاني شريفة جليلة، اتصف بها قوم ضرب بهم المثل في الكمال الإنساني، إنها علمٌ على قوم عملوا أعمالًا استحقوا بها أن يكونوا من أنصار الرسول الكريم.

ومن أبرز هذه الأعمال:

١. الإيواء والنصرة.

لما هاجر المسلمون من مكة هجروا المحبوبات والمألوفات من الديار والأوطان والأحباب والخلان والأموال، وتجردوا من كل شيء إلا من الإيمان؛ رغبةً في الله، ونصرةً لدين الله، ومحبةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فوصلوا إلى أرضٍ جديدة، وواقعٍ مختلف، وكان من أثر هذه الرحلة نشوء عدد من المشكلات الجديدة، ليس أقلها: الشعور بالغربة، ومفارقة الأهل والديار، وترك معظم الأموال والممتلكات في مكة، وطبيعة الوضع المعيشي والاقتصادي الجديد، أضف إلى ذلك الآثار الصحية والبدنية التي أحدثها الانتقال المفاجئ إلى بيئةٍ أخرى؛ مما أدى إلى ظهور الأمراض في صفوفهم كالحمى وغيرها، كل هذا ترك في أنفسهم وحشة وغربة، حتى أصبح وضعهم يحتاج إلى حل عاجل وسريع.

فترجم الأنصار ما تعاقدوا عليه من أقوال في البيعتين إلى جملة أفعال، حيث فتح الأنصار أبواب بيوتهم وقلوبهم، واستعدوا لاحتضان من جاءهم مهاجرًا تحت ظاهرة عظيمة من التكافل الاجتماعي، فحوى المسكن الواحد تحت سقفه الأنصاري والمهاجر، وهم يتقاسمون كل شيء المسكن والمال والطعام.

فلم يعرف تاريخ البشرية حادثًا جماعيًا كحادث استقبال الأنصار للمهاجرين بهذا الحب الكريم، وبهذا البذل السخي، وبهذه المشاركة الرضية، وبهذا التسابق إلي الإيواء، واحتمال الأعباء، حتى ليروى أنه لم ينزل مهاجر في دار أنصاري إلا بقرعة؛ لأن عدد الراغبين في الإيواء المتزاحمين عليه أكثر من عدد المهاجرين، وهم لا يجدون في أنفسهم شيئًا من حسد، أو ضيق من هذا، والإيثار على النفس مع الحاجة قيمة عليا، وقد بلغ بها الأنصار مبلغًا لم تشهد له البشرية نظيرًا.

وهنا ظهر دور الأنصار الذين أبدوا من التضحية وضروب الإيثار ما استحق التخليد في كتاب الله.

قال الله تعالى عنهم: ( ﭿ ) [الأنفال: ٧٢].

وقال تعالى: ( ﯨﯩ ) [الأنفال: ٧٤].

فجمع الله تعالى في هاتين الآيتين الذين كانوا دعامة الإسلام، وعليهم هدى الرسول قام بنيانه، وشيدت أركانه، وهم المهاجرون والأنصار، فالمهاجرون ابتدأ بهم تكوين الجماعات الأولى التي صبرت وصابرت، وتلقت الصدمة الأولى من المشركين.

والأنصار وهم الذين آووا ونصروا، وأعزوا كلمة التوحيد، وأغلوها وأعلوها، فإذا كان المهاجرون هم الذين أظلوا شجرة الإسلام ابتداءً، فالأنصار هم الذين حموا ثمرتها، وقامت دولة الإسلام في أرضهم وحراستهم، وإذا كان المهاجرون قد لاقوا العنت في مكة فقد لقوا الإيواء في المدينة.

وإذا كانوا هم دعامة الإسلام فالأنصار دولته، وفي رحابهم قامت المدينة الفاضلة التي أقامها محمد صلى الله عليه وسلم في ديارهم، وإذا كان المهاجرون قد جاهدوا ابتداءً بالصبر والمصابرة، فقد كان جهادهم في المدينة مع إخوانهم الأنصار بذلك وبالقتال في المدينة، والفريقان اختارهم الله للتأليف حتى تكونت منهم أطهر جماعة رأتها الإنسانية وأقواها.

فبعد أن ذكر الله تعالى هنا في الآيتين الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، عقب بذكر الأنصار، وهم الذين آووا ونصروا.

فقال: ( ) [الأنفال: ٧٤]. المراد: بهم الأنصار، أي: وطنوا المهاجرين، وأنزلوهم منازلهم، وبذلوا إليهم أموالهم، وآثروهم على أنفسهم، ونصروهم على أعدائهم61.

فإذا كانوا قد نقصوا عن إخوانهم -المهاجرين- فضل الهجرة، فقد عوضوا عن ذلك بفضل الإيواء والنصرة62.

حيث استقبل الأنصار المهاجرين، فشاطروهم المال والديار؛ بكرم وسخاء، وضربوا مثلًا رائعًا في التكافل، وبناء الجماعة المسلمة، وآووا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنعوه من الأحمر والأسود، وتبوءوا دار الهجرة والإيمان، حتى صارت موئلًا ومرجعًا يرجع إليه المؤمنون، ويلجأ إليه المهاجرون، ويسكن بحماه المسلمون؛ إذ كانت البلدان كلها بلدان حرب وشرك وشر.

فلم يزل أنصار الدين يأوون إلى الأنصار، حتى انتشر الإسلام وقوي، وجعل يزيد شيئًا فشيئًا، وينمو قليلًا قليلًا، حتى فتحوا القلوب بالعلم والإيمان والقرآن، والبلدان بالسيف والسنان.

وقوله في الآية: () أي: نصروا الرسول وأصحابه على أعدائهم الكفار، وما سموا بالأنصار إلا لذلك؛ ولقد قال حسان رضي الله عنه في مدح الأنصار أنهم ما سموا أنصارًا إلا لنصرتهم الدين63:

سماهم الله أنصارًا بنصرهم

دين الهدى وعوان الحرب تستعر

وسارعوا في سبيل الله واعترفوا

للنائبات وما خافوا وما ضجروا

وقد ذكر الله تعالى هذه الصفة وهي (النصرة) في آيتين، فقال: ( ﯨﯩ ) [الأنفال: ٧٤]. وقال تعالى: ( )[الأنفال: ٧٢].

والنصرة في المدلول القرآني واللغوي والتاريخي بمعنى: العون، والظفر، والمنع، والانتقام، والانتصار، وشد الأزر، ولقد شرف الله سبحانه وتعالى المسلمين الأول بشرف لا يدانيه شرف، حيث أجزل لهم الثواب، وأحسن لهم المدح والثناء في أعظم كتاب، وخص كلًا من الفريقين المتآخيين (المهاجرين والأنصار) بعمل عظيم جليل، ناداهم به فسموا مهاجرين وأنصارًا، وما ذلك إلا للهجرة والنصرة، فالهجرة كانت إعلانًا للدولة، وانتقالًا لدار الإسلام، والنصرة هي التي هيأت للهجرة ولوجود دار الإسلام، فكيف يغفل أحد من المسلمين عن فضل الهجرة أو النصرة، وهو يتلو كتاب الله الذي يذكر المهاجرين والأنصار وفضلهما؟!

وكانت هذه النصرة وفاء منهم لمبايعة النبي صلى الله عليه وسلم لهم في بيعة العقبة الثانية، حيث ثبت أنه قال لهم: (أبايعكم على أن تمنعوني -إذا قدمت عليكم- مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم، ولكم الجنة)64. فبايعوه على النصرة والمنعة، فقام منهم اثني عشر نقيبًا كفلاء على قومهم، ثم استمر الحال حتى أذن الله للمسلمين بالهجرة، وقامت أول دولة للمسلمين65.

ونلحظ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يطلب النصرة لأمرين مهمين في غاية الأهمية:

أولهما: حماية الدعوة، حتى تسير بين الناس محمية الجانب، بعيدة عن الإساءة إلى أتباعها.

ثانيهما: إيجاد مكان آمن لدولته صلى الله عليه وسلم القادمة؛ ليتسلم خلالها مقاليد الحكم والسلطان على وفق مقتضيات النبوة على أساس الدعوة.

وختم الله تعالى الآية الأخرى بقوله: ( )[الأنفال: ٧٢]]. أي: إن هاتين الفرقتين (المهاجرين والأنصار) بعضهم أنصار بعض، وأعوان على من سواهم من المشركين، وأيديهم واحدة على من كفر بالله، وبعضهم إخوان لبعض دون أقربائهم الكفار.

وقد قيل: إنما عنى بذلك أن بعضهم أولى بميراث بعض، وأن الله ورث بعضهم من بعض بالهجرة والنصرة دون القرابة والأرحام، وأن الله نسخ ذلك بعد، بقوله: ( ﯿ ) [الأنفال: ٧٥] وهذا القول لأبن عباس رضي الله عنه 66.

قال الشوكاني: «أي: بعضهم أولياء بعض في النصرة والمعونة، وقيل المعنى: إن بعضهم أولياء بعض في الميراث، وقد كانوا يتوارثون بالهجرة والنصرة، ثم نسخ ذلك بقوله سبحانه: ( ﯿ ) [الأنفال: ٧٥67.

فالولاية محبة ومودة ومناصرة، وقد اجتمعت كل هذه الأحوال في ولاية المؤمنين المهاجرين والأنصار، فقد اجتمعت فيهم المودة فتوادوا وتحابوا، وتناصروا وجاهدوا جميعًا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، ولقد جمعت المؤاخاة معنى المودة والمحبة والإيثار، وجمع الجهاد معنى النصر والتبعات بالجهاد في سبيل الله68.

وقد ذكر الله بعد ذلك شأن الذين يهاجرون ويؤمنون من بعد، فقال: ( ﯷﯸ ﯿ ﰀﰁ )[الأنفال: ٧٥].

فهذا يدل على أن باب الإيمان مفتوح، وباب الهجرة مفتوح، وميدان الجهاد متسع للجميع، فلم يغلق على المجاهدين الأولين من المهاجرين والأنصار فقط، بل هو مفتوح، وهذه الآية الكريمة تلحق الذين يؤمنون من بعد ويهاجرون بالأولين الذين هم المؤمنون حقًا.

وإذا كان هذا الوصف (النصرة) في الأنصار، فالمهاجرون من باب أولى، فهم أنصار في المعنى، فمعنى النصرة حاصل للكل، ومن الكل، فهم قد هجروا ديارهم وأموالهم، كما قال تعالى: ( ) [الحشر: ٨].

وأثنى عليهم بأنهم يطلبون فضلًا من الله ورضوانًا، فقال: ( ) وأثبت لهم صفة النصرة، فقال: ( ) وأثنى عليهم بالصدق، فقال: ( ) فرضي الله عن المهاجرين والأنصار ومن تبعهم بإحسان.

فضائل الأنصار

عرض القرآن الكريم فضائل الأنصار وهذا ما سنبينه فيما يأتي:

أولًا: وصفهم بالإيمان الحق:

وصف الله تعالى الأنصار بالإيمان الحق، فقال سبحانه: ( ﯨﯩ ) [الأنفال: ٧٤].

فقوله: ( ﯨﯩ) الإشارة إلى السابقين الأولين (من المهاجرين والأنصار) والإشارة إلى الموصوف إشارة إلى أوصافه، وجعلها مناط الحكم، أي: أولئك الذين هاجروا بعد الإيمان، وجاهدوا في سبيل الله، والذين آووا ونصروا هم المؤمنون حقًا، أي: إيمانًا ثابتًا صادقًا حقًا، تلاقت أقوالهم وقلوبهم وأعمالهم69.

فسبق منهم هجرة وجهاد، وإيواء ونصرة، وهذا هو الإيمان الحق، وفي الكلام قصر، أي: من كانوا على هذه الصفات هم وحدهم المؤمنون حقًا، أي: لا مؤمنون حقًا غيرهم، ومن هم على صفاتهم.

وفي هذه الآية وصفٌ لعموم المهاجرين والأنصار بالإيمان الحق، فجمع الله فيها الفضل لفريقي الصحابة، وهم المهاجرون والأنصار، من هاجر، ومن آوى، فاستوى الأنصار مع المهاجرين في عامل النصرة، وفي صدق الإيمان، فشهد لهم بحقيقة الإيمان، ووعدهم بالمغفرة والرزق الواسع، ومن شهد الله له بهذه الشهادة، فقد بلغ أعلى مرتبة العدالة.

ثم قال: ( ) [الأنفال: ٧٤]. ذكر الله تعالى هنا ما كتب لهم من خيري الدنيا والآخرة، وهذا يتضمن جزاءين:

أولهما: المغفرة السابقة، ووراءها الرحمة والنعيم المقيم.

ثانيهما: رزق كريم واسع في الدنيا بعد المشقة التي تحملوها، وهذا شأن المهاجرين الذين آمنوا، وشأن الأنصار الذين آووا ونصروا70.

فيكون الله قد أثنى عليهم ها هنا من ثلاثة أوجه:

أولها: قوله: ( ﯨﯩ) فقوله: ( ﯨﯩ) يفيد الحصر، وقوله: (ﯨﯩ) يفيد المبالغة في وصفهم بكونهم محقين محققين في طريق الدين، وقد كانوا كذلك؛ لأن من لم يكن محقًا في دينه لم يتحمل ترك الأديان السالفة، ولم يفارق الأهل والوطن، ولم يبذل النفس والمال، ولم يكن في هذه الأحوال من المسارعين المسابقين.

وثانيها: قوله: ( ) والتنكير يدل على الكمال، أي: مغفرة تامة كاملة.

وثالثها: قوله: ( ) والمراد منه: الثواب الرفيع الشريف71.

وعن السائب بن يزيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا معشر الأنصار، ألم يمن الله عليكم بالإيمان، وخصكم بالكرامة، وسماكم بأحسن الأسماء: أنصار الله، وأنصار رسوله؟!)72.

فالأنصار إذن حازوا شرفين: شرف سبقهم إلى الإيمان، وشرف استضافتهم للإيمان وأهله في أرضهم.

ومدحهم بأنهم أناس سكنوا الإيمان، وسكن الإيمان في قلوبهم، فقال: ( ) [الحشر: ٩].

فقوله: () الأظهر أن (الذين) هنا عطف على (المهاجرين) -في الآية السابقة-، أي: والذين تبوءوا الدار هم الأنصار73.

وقوله: ( ) من مادة (بواء) على وزن (دواء) وهي في الأصل بمعنى تساوي أجزاء المكان، وبعبارة أخرى يقال: (بواء) لترتيب وتسوية مكان (ما) وفي هذا التعبير كناية لطيفة لهذا المعنى، وهو أن طائفة الأنصار -أهل المدينة- قد هيئوا الأرضية المناسبة للهجرة.

وقوله: () الدار تطلق على البلاد، وأصلها: موضع القبيلة من الأرض، وأطلقت على القرية.

قال تعالى في ذكر ثمود: ( ) [الأعراف: ٧٨].

أي: في مدينتهم، وهي حجر ثمود، والتعريف هنا للعهد؛ لأن المراد بالدار: المدينة النبوية، والمعنى: الذين هم أصحاب الدار74، أي: دار الهجرة مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد تبوأها الأنصار قبل المهاجرين، كما تبوءوا فيها الإيمان، وكأنه منزل لهم ودار، وهو تعبير ذو ظلال، وهو أقرب ما يصور موقف الأنصار من الإيمان، لقد كان دارهم ونزلهم ووطنهم الذي تعيش فيه قلوبهم، وتسكن إليه أرواحهم، ويثوبون إليه، ويطمئنون له، كما يثوب المرء ويطمئن إلى الدار.

وفي قوله: () هذا تشريف للمدينة، حيث سماها الله الدار، فكأنها هي دار الإيمان؛ لأن الإيمان أوى إليها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها)75.

فالتعريف في () للتنويه كأنها الدار التي تستحق أن تسمى دارًا، وهي التي أعدها الله تعالى لهم؛ ليكون تبوؤهم إياها مدحًا لهم.

وذكر بعضهم أن الدار علمٌ بالغلبة على المدينة، كالمدينة، وأنه أحد أسمائها، ومنها: طيبة، وطابة، ويثرب، وجابرة76.

وفي ذكر الدار -وهي المدينة- مع ذكر الإيمان إيماء إلى فضيلة المدينة، بحيث جعل تبوؤهم المدينة قرين الثناء عليهم بالإيمان، ولعل هذا هو الذي عناه مالك -رحمة الله- فيما رواه عنه ابن وهب قال: سمعت مالكًا يذكر فضل المدينة على غيرها من الآفاق، فقال: إن المدينة تبوأت بالإيمان والهجرة، وإن غيرها من القرى افتتحت بالسيف. ثم قرأ: ( ) [الحشر: ٩]الآية77.

وجاء عنه صلى الله عليه وسلم: (أمرت بقرية تأكل القرى)78 .

والمقصود: المدينة، أي: يغلب أهلها، وهم الأنصار بالإسلام على غيرها من القرى، وينصر الله دينه بأهلها، ويفتح القرى عليهم، ويغنمهم إياها فيأكلونها79.

وقوله: () [الحشر: ٩]أي: سكنوا الإيمان، والإيمان لا يسكن، وإنما شبه الإيمان كأنه دار سكنوها؛ لأن الدار يستقر فيها الإنسان، فهؤلاء الأنصار سكنوا الإيمان، بمعنى: استقر الإيمان في قلوبهم، والإنسان يلازم داره، بمعنى: يستقر ويطمئن ويستريح فيه، وهؤلاء لازموا الإيمان كملازمة الإنسان لمسكنه، وهذه شهادة لهم بالإيمان -رضي الله تعالى عنهم-، فهم مؤمنون صادقون، استقر الإيمان في قلوبهم.

قال ابن جزي: «فإن قيل: كيف قال: تبوءوا الدار والإيمان، وإنما تتبوأ الدار، أي: تسكن ولا يتبوأ الإيمان؟

فالجواب من وجهين:

الأول: أن معناه تبوءوا الدار، وأخلصوا الإيمان، فهو كقولك:

علفتها تبنًا وماء باردًا80.

تقديره: علفتها تبنًا، وسقيتها ماء باردًا.

والثاني: أن المعنى: أنهم جعلوا الإيمان كأنه موطن لهم؛ لتمكنهم فيه، كما جعلوا المدينة كذلك»81.

فيكون في عطف الإيمان على الدار ستة أوجه:

أحدها: أنه ضمن () معنى: لزموا، فيصح عطف الإيمان عليه؛ إذ الإيمان لا يتبوأ.

الثاني: أنه منصوب بمقدر، أي: واعتقدوا، أو وألفوا، أو وأحبوا، أو وأخلصوا؛ كقوله:

علفتها تبنًا وماءً باردًا

وقوله:

متقلدًا سيفًا ورمحا 82

أي: وحاملًا رمحًا.

الثالث: أنه يتجوز في الإيمان، إن الإيمان مجاز عن المدينة، سمي محل ظهور الشيء باسمه مبالغة، فيجعل اختلاطه بهم وثباتهم عليه كالمكان المحيط بهم، فكأنهم نزلوه، وعلى هذا فيكون جمع بين الحقيقة والمجاز في كلمة واحدة، وفيه خلاف مشهور.

الرابع: أن يكون الأصل: دار الهجرة ودار الإيمان، فأقام (لام) التعريف في (الدار) مقام المضاف إليه، وحذف المضاف من دار الإيمان، ووضع المضاف إليه مقامه.

الخامس: أن يكون سمى (المدينة)؛ لأنها دار الهجرة ومكان ظهور الإيمان.

السادس: أنه منصوب على المفعول معه (الواو للمعية) أي: مع الإيمان معًا، والمراد تبوءوا الدار مع إيمانهم، أي: تبوءوها مؤمنين83.

والضمير في قوله: ( ) [الحشر: ٩].

للمهاجرين، والجار متعلق بتبوء، أي: من قبل أن يهاجر المهاجرون إليهم، وقد أسلم كثير من الأنصار قبل المهاجرين، لكن المقصود -والله وأعلم- بقوله: ( ) [الحشر: ٩] أي: من قبل أن يهاجر المهاجرون، وأن الأنصار أسلم كثير من كبارهم وسادتهم على يد مصعب بن عمير رضي الله عنه قبل أن يهاجر كثير من المهاجرين -رضي الله تعالى عنهم-، وقبل أن تصبح المدينة دار الهجرة التي أوى إليها النبي عليه الصلاة والسلام، فكثير من الأنصار كان قد أسلم، ودخل الإيمان في قلوبهم، واستقر على يد مصعب بن عمير رضي الله عنه، فهو من فتح الله به المدينة المنورة بدعوته إلى الله، وسلوكه الطيب، حتى ما بقي بيت من بيوت المدينة إلا ودخله الإيمان.

وقد أورد ابن جزي إشكالًا، وأجاب عليه، حيث قال: «فإن قيل: قوله: ( ) [الحشر: ٩].

يقتضي أن الأنصار سبقوا المهاجرين بنزول المدينة وبالإيمان، فأما سبقهم لهم بنزول المدينة فلا شك فيه؛ لأنها كانت بلدهم، وأما سبقهم لهم بالإيمان فمشكل؛ لأن أكثر المهاجرين أسلم قبل الأنصار.

قال: والجواب من وجهين:

أحدهما: أنه أراد بقوله: ( ) [الحشر: ٩] من قبل هجرتهم.

والآخر: أنه أراد تبوءوا الدار مع الإيمان معًا، أي: جمعوا بين الحالتين قبل المهاجرين؛ لأن المهاجرين إنما سبقوهم بالإيمان لا بتبوء الدار، فيكون الإيمان على هذا مفعولًا معه، وهذا الوجه أحسن؛ لأنه جواب عن هذا السؤال، وعن السؤال الأول فإنه إذا كان الإيمان مفعولًا معه لم يلزم السؤال الأول؛ إذ لا يلزم إلا إذا كان الإيمان معطوفًا على الدار»84.

وجعل الألوسي ذلك من قبل تقدير مضاف، حيث قال: «والكلام بتقدير مضاف، أي: من قبل هجرتهم، فنهاية ما يلزم سبق الإيمان الأنصار على هجرة المهاجرين، ولا يلزم منه سبق إيمانهم على إيمانهم؛ ليقال: إن الأمر بالعكس، وجوز أن لا يقدر مضاف، ويقال: ليس المراد سبق الأنصار لهم في أصل الإيمان، بل سبقهم إياهم في التمكن فيه؛ لأنهم لم ينازعوا فيه لما أظهروه.

وقيل: الكلام على التقديم والتأخير، والتقدير: تبوءوا الدار من قبلهم والإيمان، فيفيد سبقهم إياهم في تبوء الدار فقط، وهو خلاف الظاهر، على أن مثله لا يقبل ما لم يتضمن نكتة سرية، وهي غير ظاهرة ها هنا؛ وقيل: لا حاجة إلى شيء مما ذكر، وقصار ما تدل الآية عليه تقدم مجموع تبوء الأنصار وإيمانهم على تبوء المهاجرين وإيمانهم، ويكفي في تقديم المجموع تقدم بعض أجزائه، وهو ها هنا تبوء الدار، وتعقب بمنع الكفاية، ولو سلمت لصح أن يقال: بتقدم تبوء المهاجرين وإيمانهم على تبوء الأنصار وإيمانهم؛ لتقدم إيمان المهاجرين»85.

ووصف الله الأنصار أيضًا بالإيمان والاستجابة لله، كما جاء في تفسير قوله تعالى: ( ) [الشورى: ٣٨].

أنها نزلت في الأنصار، حين دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإيمان، فاستجابوا له؛ أي: لرسول الله من صميم القلب، كما هو المفهوم من إطلاق الاستجابة، وفيه إشارة إلى أن الاستجابة للرسول استجابة للمرسل، فهو من عطف الخاص على العام لمزيد التشريف، وذلك لأن الاستجابة داخلة في الإيمان86.

قال الألوسي: ( ) [الشورى: ٣٨].

قيل: نزلت في الأنصار، دعاهم الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم للإيمان به وطاعته سبحانه، فاستجابوا له، فأثنى عليهم -جل وعلا- بما أثنى، وعليه فهو من ذكر الخاص بعد العام؛ لبيان شرفه؛ لأيمانهم دون تردد وتلعثم، والآية إن كانت مدنية فالأمر ظاهر، وإذا كانت مكية فالمراد بالأنصار من آمن بالمدينة قبل الهجرة، أو المراد بهم أصحاب العقبة87.

وقال الشوكاني: «قال ابن زيد: هم الأنصار بالمدينة استجابوا إلى الإيمان بالرسول حين أنفذ إليهم اثني عشر نقيبًا منهم قبل الهجرة، وأقاموا الصلاة لمواقيتها بشروطها وهيئاتها»88.

ووصف الله الأنصار بالإيمان والعمل الصالح، كما جاء عن ابن عباس في قوله: ( ) [محمد: ٣٤]. قال: هم أهل مكة، ( ) [محمد: ٢]. قال: هم أهل المدينة الأنصار ( ) [محمد: ٢]. قال: أمرهم89.

ووصفوا بأنهم رجال؛ وسماهم الله رجال، فقال: ( ﭯﭰ ﭻﭼ ﭿ ﮁﮂ ) [التوبة: ١٠٨].

فقد جاء ما يدل أنها نزلت في الأنصار، فعن أبي أيوب وجابر وأنس رضوان الله عليهم أن هذه الآية حين نزلت: ( ﭿ ﮁﮂ ) [التوبة: ١٠٨].

قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا معشر الأنصار إن الله قد أثنى عليكم في الطهور، فما طهوركم؟) قالوا: نتوضأ للصلاة، ونغتسل من الجنابة، ونستنجي بالماء، قال: (فهو ذاك، فعليكموه)90.

وعن موسى بن أبي كثير قال: بدء حديث هذه الآية في رجال من الأنصار، من أهل قباء91.

وقوله: ( ﭿ ﮁﮂ) [التوبة: ١٠٨].

أي: من الأحداث والجنابات والنجاسات...، وقالوا: المراد منه: الطهارة بالماء بعد الحجر، وقيل: المراد منه: الطهارة من الذنوب والمعاصي، وقيل: محمول على الأمرين92.

فتكون جملة: ( ﭿ ﮁﮂ) ثناء على مؤمني الأنصار الذين يصلون بمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبمسجد قباء، وجاء الضمير مفردًا مراعاة للفظ (مسجد) الذي هو جنس93.

ثانيًا: توبة الله على الأنصار، وتجاوزه عن تقصيرهم:

قال تعالى: ( ﯯﯰ ) [التوبة: ١١٧].

نزلت هذه الآية في غزوة تبوك التي كانت قبل الشام، وكان فيها جيش العسرة من المهاجرين والأنصار، ومن غيرهم من القبائل التي حول المدينة ومكة، ولكنهم خصوا بالثناء والتوبة؛ لأنهم لم يترددوا، ولم يتثاقلوا، ولا شحوا بأموالهم، فكانوا أسوة لمن ائتسى بهم من غيرهم من القبائل94.

ففي قوله: ( ) خبر مؤكد بلام القسم على حرف التحقيق (قد) بين فيه تعالى فضل عطفه على نبيه وأصحابه المؤمنين الصادقين من المهاجرين والأنصار، وتجاوزه عن هفواتهم في هذه الغزوة، وفي غيرها لاستغراقها في حسناتهم الكثيرة على كونهم لا يصرون على شيء منها، وإنما كانت هفواتهم هذه مقتضى الطباع البشرية، واجتهاد الرأي فيما لم يبينه الله تعالى بيانًا قطعيًا يعد مخالفه عاصيًا.

يقول ابن عاشور: «وافتتاح الله هذه الآية بحرف التحقيق (لقد)؛ تأكيدًا لمضمونها المتقرر فيما مضى من الزمان، حسبما دل عليه الإتيان بالمسندات كلها أفعالًا ماضية.

ومن المحسنات افتتاح هذا الكلام بما يؤذن بالبشارة لرضا الله على المؤمنين الذين غزوا تبوك، وتقديم النبي صلى الله عليه وسلم في تعلق فعل التوبة بالغزاة؛ للتنويه بشأن هذه التوبة، وإتيانها على جميع الذنوب؛ إذ قد علم المسلمون كلهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد غفر الله ما تقدم من ذنبه وما تأخر»95.

وهذه التوبة التي تابها الله على النبي والمهاجرين والأنصار -كما قال ابن عباس-: كانت التوبة على النبي لأجل إذنه للمنافقين في القعود، ودليله قوله: ( ) [التوبة: ٤٣].

وعلى المؤمنين من ميل قلوب بعضهم إلى التخلف عنه، وقيل: توبة الله عليهم استنقاذهم من شدة العسرة.

وقيل: خلاصهم من نكاية العدو، وعبر عن ذلك بالتوبة وإن خرج عن عرفها لوجود معنى التوبة فيه، وهو الرجوع إلى الحالة الأولى96.

يقول شيخ المفسرين الطبري: «يقول تعالى ذكره: لقد رزق الله الإنابة إلى أمره وطاعته نبيه محمدًا، والمهاجرين ديارهم وعشيرتهم إلى دار الإسلام، وأنصار رسوله في الله الذين اتبعوا رسول الله في ساعة العسرة منهم من النفقة والظهر والزاد والماء»97.

فيكون معنى توبته على النبي أي: بإذنه للمنافقين بالتخلف عنه98.

وقال أهل المعاني: هو مفتاح كلام، وذلك أنه لما كان سبب توبة التائبين ذكر معهم، كقوله: ( ) [الأنفال: ٤١]99.

وهذه التوبة على المهاجرين والأنصار في ساعة العسرة سببها كما قال الرازي: «ربما وقع في قلوبهم نوع نفرة عن تلك السفرة، وربما وقع في خاطر بعضهم أنا لسنا نقدر على الفرار، ولم يعزموا عليه، بل وساوس كانت تقع في قلوبهم، فالله تعالى بين في آخر هذه السورة أنه بفضله عفا عنها، فقال: ( ) [التوبة: ١١٧].

والوجه الثاني في الجواب: أن الإنسان طول عمره لا ينفك عن زلات وهفوات، إما من باب الصغائر، وإما من باب ترك الأفضل، ثم إن النبي وسائر المؤمنون لما تحملوا مشاق هذا السفر ومتاعبه، وصبروا على تلك الشدائد والمحن، أخبر الله تعالى أن تحمل تلك الشدائد صار مكفرًا لجميع الزلات التي صدرت عنهم في طول العمر، وصار قائمًا مقام التوبة المقرونة بالإخلاص عن كلها.

والوجه الثالث في الجواب: أن الزمان لما اشتد عليهم في ذلك السفر، وكانت الوساوس تقع في قلوبهم، فكلما وقعت وسوسة في قلب واحد منهم تاب إلى الله منها، وتضرع إلى الله في إزالتها عن قلبه، فلكثرة إقدامهم على التوبة بسبب خطرات تلك الوساوس ببالهم، قال تعالى: ( ) [التوبة: ١١٧]...الآية.

والوجه الرابع: لا يبعد أن يكون قد صدر عن أولئك الأقوام أنواع من المعاصي، إلا أنه تعالى تاب عليهم، وعفا عنهم لأجل أنهم تحملوا مشاق ذلك السفر، ثم إنه تعالى ضم ذكر الرسول عليه الصلاة والسلام إلى ذكرهم؛ تنبيهًا على عظم مراتبهم في الدين، وأنهم قد بلغوا إلى الدرجة التي لأجلها ضم الرسول عليه الصلاة والسلام إليهم في قبول التوبة»100.

وقوله تعالى: ( ) [التوبة: ١١٧].

() من أفعال المقاربة، تعمل في اسمين (عمل كان) واسمها هنا ضمير شأن مقدر، وخبرها هو جملة الخبر عن ضمير الشأن، وإنما جعل اسمها هنا ضمير شأن؛ لتهويل شأنهم حين أشرفوا على الزيغ.

واختلف في معنى (تزيغ) فقيل: تتلف بالجهد والمشقة والشدة، وقيل: تعدل -أي تميل- عن الحق في الممانعة والنصرة، وقيل: من بعد ما هم فريق منهم بالتخلف والعصيان ثم لحقوا به، وقيل: هموا بالقفول فتاب الله عليهم، وأمرهم به101.

وقوله تعالى: ( ) هذا تأكيد ظاهر، واعتناء بشأن التوبة، هذا إن كان الضمير راجعًا إلى من تقدم ذكر التوبة عنهم، وإن كان الضمير إلى الفريق فلا تكرار102. والمعنى: قيل: توبته عليهم أن تدارك قلوبهم حتى لم تزغ، وكذلك سنة الحق مع أوليائه إذا أشرفوا على العطب، ووطنوا أنفسهم على الهلاك أمطر عليهم سحائب الجود، فأحيا قلوبهم103.

فإن قيل: ذكر التوبة في أول الآية وفي آخرها، فما فائدة التكرار؟

فالجواب من وجوه:

أحدها: أنه تعالى ابتدأ بذكر التوبة قبل ذكر الذنب؛ تطييبًا لقلوبهم، ثم لما ذكر الذنب أردفه مرة أخرى بذكر التوبة؛ تعظيمًا لشأنهم.

وثانيها: إذا قيل: عفا السلطان عن فلان ثم عفا عنه، دل على أن ذلك العفو متأكد، بلغ الغاية القصوى في الكمال والقوة. . .، وهذا معنى قول ابن عباس في قوله: ( ) يريد ازداد عنهم رضًا، قال ابن عباس: من تاب الله عليه لم يعذبه أبدًا.

وثالثها: أنه قال: ( ) [التوبة: ١١٧].

وهذا الترتيب يدل على أن المراد أنه تعالى تاب عليهم من الوساوس التي كانت تقع في قلوبهم في ساعة العسرة،

ثم إنه تعالى زاد عليه فقال: ( ) [التوبة: ١١٧].

فهذه الزيادة أفادت حصول وساوس قوية، فلا جرم أتبعها تعالى بذكر التوبة مرة أخرى؛ لئلا يبقى في خاطر أحدٍ شك في كونهم مؤاخذين بتلك الوساوس104.

وفي قصة توبة الله على النبي والمهاجرين والأنصار وعلى الثلاثة، فوائد ومسائل، منها:

في هذه الآيات دليل على أن توبة الله على العبد أجل الغايات، وأعلى النهايات، فإن الله جعلها نهاية خواص عباده، وامتن عليهم بها، حين عملوا الأعمال التي يحبها ويرضاها، وفيها لطف الله بهم، وتثبيتهم في إيمانهم عند الشدائد والنوازل المزعجة.

وفي الآيات أيضًا دليل على أن العبادة الشاقة على النفس لها فضل ومزية ليست لغيرها، وكلما عظمت المشقة عظم الأجر، وأن توبة الله على عبده بحسب ندمه وأسفه الشديد، وأن من لا يبالي بالذنب، ولا يحرج إذا فعله، فإن توبته مدخولة، وإن زعم أنها مقبولة.

وأن علامة الخير وزوال الشدة إذا تعلق القلب بالله تعالى تعلقًا تامًا، وانقطع عن المخلوقين.

وأن من لطف الله بالثلاثة أن وسمهم بوسم ليس بعار عليهم، فقال: () إشارة إلى أن المؤمنين خلفوهم، أو خلفوا عن من بت في قبول عذرهم، أو في رده، وأنهم لم يكن تخلفهم رغبة عن الخير؛ ولهذا لم يقل: (تخلفوا).

ومن فوائد الآيات: أن الله تعالى من عليهم بالصدق؛ ولهذا أمر بالاقتداء بهم، فقال: ( ) [التوبة: ١١٩]105.

يقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: واعلم أن لله تعالى على عبده توبتين؛ التوبة الأولى: قبل توبة العبد؛ وهي التوفيق للتوبة؛ والتوبة الثانية: بعد توبة العبد؛ وهي قبول التوبة؛ وكلاهما في القرآن؛ قال الله تبارك وتعالى: ( ﭪﭫ ) [التوبة: ١١٨].

فقوله تعالى: ( ﭪﭫ) أي: وفقهم للتوبة، وقوله تعالى: (ﭪﭫ) أي: يقوموا بالتوبة إلى الله؛ وأما توبة القبول ففي قوله تعالى: ( ) [الشورى: ٢٥].

ومن فوائد الآيات:


1 انظر: مختار الصحاح،١/٦٨٨، معجم اللغة العربية المعاصرة، أحمد مختار عمر، ٣/٢٢٢٠.

2 انظر: مغاني الأخيار في شرح أسامي رجال معاني الآثار، العيني ٣/٣٨٢.

3 انظر: المصدر السابق.

4 انظر: المعجم المفهرس الشامل لألفاظ القرآن الكريم، عبد الله جلغوم، ص١٣٢٥-١٣٢٨.

5 انظر: بصائر ذوي التمييز، الفيروزآبادي ٥/٦٩.

6 انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، ابن الأثير، ٣/١٢.

7 انظر: نزهة النظر، ابن حجر العسقلاني، ص١٤٠.

8 انظر: تهذيب اللغة، الأزهري،٦/٢٩، معجم اللغة العربية المعاصرة، أحمد مختار عمر،٣/٢٣٢٥.

9 انظر: الكليات، الكفوي، ص٨٨٣.

10 انظر: أساس البلاغة، الزمخشري، ١/٦١١، تاج العروس، الزبيدي،٢٦/١٠٢.

11 انظر: العين، الفراهيدي، ٢/٧٨.

12 انظر: الضوء اللامع المبين عن مناهج المحدثين، أحمد ناجي، ص، ١٦٨.

13 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٣/٢٦٨.

14 معالم التنزيل، البغوي ٣/١٦٦.

15 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٧/٣٤.

16 جامع البيان، الطبري ١١/٥١٨.

17 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٨/٤٢.

18 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المغازي، باب قوله: (إذ همت طائفتان منكم)، ٥/ ٩٦، رقم ٤٠٥١ ومسلم في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل الأنصار،رضي الله عنهم، رقم ٢٥٠٥.

19 انظر: زاد المسير، ابن الجوزي ١/٤٤٩.

20 منهاج السنة النبوية ١/١٥٤.

21 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجمعة، باب فرض الجمعة، ٢/ ٢، رقم ٨٧٦، ومسلم في صحيحه، كتاب الجمعة، باب هداية هذه الأمة ليوم الجمعة ٢/ ٥٨٥، رقم ٨٥٥.

22 أحكام القرآن، ابن العربي ٤/٤٠٦.

23 مفاتيح الغيب، الرازي ٨/١٢٧.

24 فتح القدير ٢/٥٧٧.

25 زاد المسير، ابن الجوزي ٣/٤٩١.

26 جامع البيان، ١٤/٤٣٩.

27 تفسير القرآن العظيم، ٤/٢٠٣.

28 المصدر السابق.

29 صفوة التفاسير، الصابوني ١/٣٧٤.

30 محاسن التأويل، القاسمي ٢/٥٠.

31 في ظلال القرآن ٧/١٦٥.

32 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٨/٦٩.

33 محاسن التأويل، القاسمي ٢/٥٠.

34 عمدة القاري ٢٤/٤١١.

35 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب مناقب الأنصار، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار:(أنتم أحب الناس إلي)، ٥/ ٣٢، رقم ٣٧٨٦، ومسلم في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل الأنصار، ٤/ ١٩٤٨، رقم ٢٥٠٨.

36 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الإيمان، باب علامة الإيمان حب الأنصار، ١/ ١٢، رقم ١٧، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب الدليل على أن حب الأنصار وعلي رضي الله عنهم من الإيمان وعلاماته، وبغضهم من علامات النفاق ١/٨٥، رقم ٧٤.

37 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب مناقب الأنصار، باب حب الأنصار، ٥/٣٢، رقم ٣٧٨٣، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب الدليل على أن حب الأنصار وعلي رضي الله عنهم من الإيمان وعلاماته، وبغضهم من علامات النفاق ١/٨٥، رقم ٧٥.

38 انظر: فتح الباري، ابن حجر ١/ ١٦٣.

39 الجامع لأحكام القرآن، ١٨/ ٢٦.

40 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، باب قوله: (ويؤثرون على أنفسهم)، ٦/ ١٤٨، رقم ٤٨٨٩.

41 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، باب قوله: (ويؤثرون على أنفسهم)، ٥/ ٣٤، رقم ٣٧٩٨.

42 انظر: زاد المسير، ابن الجوزي ٤/٢٥٨.

43 انظر: الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ١٨/٢٥.

44 التسهيل لعلوم التنزيل، ابن جزي ٢/٣٦٠.

45 مفاتيح الغيب، الرازي ٢٩/٥٠٨.

46 المصدر السابق.

47 انظر: المصدر السابق.

48 مفاتيح الغيب، الرازي ٢٩/٥٠٨.

49 تفسير القرآن العظيم، ٨/٧١.

50 أخرجه البزار في مسنده، رقم ٧٢٩٣ والطبراني في المعجم الأوسط ٥٧٥٤.

وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب ٢/ ٣٥٦، رقم ٢٦٠٧.

51 روح البيان، إسماعيل حقي ٩/٣٥٣.

52 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإمارة، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية، وتحريمها في المعصية ٣/١٤٧٠، رقم ١٧٠٩.

53 أحكام القرآن، ابن العربي ٧/٣٠٨.

54 فتح القدير ٥/٢٠١

55 المصدر السابق ٥/٢٨٢.

56 انظر: زاد المسير، ابن الجوزي ٨ /٢١٢.

57 مجموع فتاوى ابن تيمية ١٠/١١٩.

58 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجزية، باب ما أقطع النبي صلى الله عليه وسلم من البحرين، وما وعد من مال البحرين والجزية، ولمن يقسم الفيء والجزية ٤/ ٩٨، رقم ٣١٦٣، ومسلم في صحيحه، كتاب الإمارة، باب الأمر بالصبر عند ظلم الولاة واستئثارهم ٣/ ١٤٧٤، رقم ١٨٤٥.

59 أحكام القرآن، ابن العربي ٧/٣١٠.

60 انظر: لطائف الإشارات، القشيري ٣/٥٦١.

61 محاسن التأويل، القاسمي ٢٣/ ٢.

62 زهرة التفاسير، أبو زهرة ١/٣٢٠١.

63 انظر: ديوان حسان بن ثابت ص٩٩.

64 أخرجه أحمد في مسنده، ٢٥/٩٢، رقم ١٥٧٨٩.

65 انظر: السيرة النبوية، ابن هشام ٢/١٩٧- ٢٠٩.

66 انظر: جامع البيان، الطبري ١٠/٥١، تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٤/٩٥.

67 فتح القدير ٢/٤٧٨.

68 انظر: زهرة التفاسير، أبو زهرة ٦/٣٢٠٢.

69 المصدر السابق ٦/٣٢٠٦.

70 انظر: المصدر السابق ٦/٣٢٠٩.

71 انظر: مفاتيح الغيب، الرازي ١٥/٥١٩.

72 أخرجه الطبراني في الكبير ٧/ ١٥١، رقم ٦٦٦٥.

73 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٢٨/٩٠.

74 المصدر السابق.

75 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل المدينة، باب الإيمان يأرز إلى المدينة ٣/ ٢١، رقم ١٨٧٦، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب بيان أن الإسلام بدأ غريبًا وسيعود غريبًا، وأنه يأرز بين المسجدين ١/١٣١، رقم ١٤٧.

76 روح المعاني، الألوسي ٢٠/٤٢٥.

77 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٢٨/٩١.

78 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل المدينة، باب فضل المدينة وأنها تنفي الناس ٣/ ٢٠، رقم ١٨٧١، ومسلم في صحيحه، كتاب الحج، باب المدينة تنفي شرارها، ٢/١٠٠٦، رقم ١٣٨٢.

79 انظر: النهاية في غريب الأثر، ابن الأثير ١/١٤٤.

80 البيت في خزانة الأدب ٣/ ١٣٩، وفي العباب الزاخر ١/٤٨١، وتمامه: «حتى شتت همالةً عيناها».

81 التسهيل لعلوم التنزيل، ٣/١٥٧.

82 البيت في الكامل في اللغة ١/ ٢٩١ وشرح ديوان الحماسة ص ٨٠٥ غير منسوب لقائل، وصدره: «يا ليت بعلك قد غذا».

83 انظر: اللباب في علوم الكتاب، ابن عادل ١٥/٢٠١.

84 التسهيل لعلوم التنزيل، ٣/١٥٧.

85 روح المعاني، ٢٠/٤٢٥.

86 روح البيان، إسماعيل حقي ٨/٢٥٣.

87 روح المعاني ٢٥/٤٦.

88 فتح القدير ٤/٧٦٩.

89 انظر: فتح القدير، الشوكاني ٥/٤٧.

90 أخرجه ابن ماجه في كتاب الطهارة وسننها، باب الاستنجاء بالماء ١/ ١٢٧، رقم ٣٥٥.

وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه، ١/٦٣.

91 جامع البيان، الطبري ١٤/ ٤٨٨.

92 اللباب في علوم الكتاب، ابن عادل ١٠/ ٢١٠.

93 التحرير والتنوير، ابن عاشور ١١/ ٣٢.

94 انظر: المصدر السابق .

95 السابق ١١/٤٩.

96 اللباب في علوم الكتاب، ابن عادل ٨/٣٨٧.

97 جامع البيان، ١٤/٥٣٩.

98 معالم التنزيل، البغوي ٤/١٠٤.

99 اللباب في علوم الكتاب، ابن عادل ٨/٣٨٧.

100 انظر: مفاتيح الغيب، الرازي ٨/١٧٠.

101 انظر: الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٨/٢٨١.

102 انظر: فتح القدير، الشوكاني ٢/٥٩٩.

103 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٨/٢٨١.

104 اللباب في علوم الكتاب، ابن عادل ٨/٣٨٩.

105 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص٣٥٤.

106 انظر: تفسير القرآن الكريم، ابن عثيمين ٣/٩١.

107 انظر: اللباب في علوم الكتاب، ابن عادل ٨/٣٨٧.

108 انظر: المصدر السابق.

109 انظر: اللباب في علوم الكتاب، ابن عادل ٨/٣٨٧.

110 انظر: السيرة النبوية، ابن كثير ٤/ ١٦.

111 أخرجه الترمذي في سننه، أبواب المناقب، ٥/ ٦٢٦، رقم ٣٧٠١.

وحسنه الألباني في تعليقه على المشكاة، رقم ٦٠٦٤.

112 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الفتن، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: (سترون بعدي أمورًا تنكرونها)، ٩/ ٤٧، رقم ٧٠٥٦، ومسلم في صحيحه، كتاب الإمارة، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية، وتحريمها في المعصية، ٣/١٤٧٠، رقم ١٧٠٩.

113 تفسير القرآن الكريم، ٨/ ١١٣.

الأنصار

عناصر الموضوع

مفهوم الأنصار

الأنصار في الاستعمال القرآني

الألفاظ ذات الصلة

صفات الأنصار وأعمالهم

فضائل الأنصار

الأنصار

مفهوم الأنصار

أولًا: المعنى اللغوي:

الأنصار: جمع ناصر، كصاحب وأصحاب، كما تجمع ناصر على ناصرين ونصار، اسم فاعل من نصر.

أو جمع نصير، كشريف وأشراف، (ناصر أو نصير) وكلاهما صواب، والنصير: فعيل، بمعنى فاعل أو مفعول؛ لأن كل واحد من المتناصرين ناصر ومنصور.

ونصير: صيغة مبالغة من ناصر، ومعناه: المساعد، والمعين، والمناصر، والمؤيد.

يقال: نصره على عدوه ينصره نصرًا، واستنصره على عدوه: سأله أن ينصره عليهم، وتناصر القوم: إذا نصر بعضهم بعضًا، وانتصر منه: انتقم1.

ولفظ الأنصار يأتي بمعنى: الأعوان المناصرين والمؤازرين والأتباع والحلفاء، وأهل الاتباع والتصديق.

وهذا اللفظ (الأنصار) بهذا المعنى اللغوي يمكن إطلاقه لغةً على كل من اتصف بهذا الوصف.

ثانيًا: المعنى الاصطلاحي:

وفي المعنى الاصطلاحي الأمر ليس ببعيد عن المعنى اللغوي، فأنصار الرجل هم حلفاؤه وأتباعه ومؤيدوه في النزاعات، ومعاونوه على أمره.

ومن هنا جاء تعريف الأنصار في الاصطلاح الشرعي بأنهم الأوس، والخزرج من الأزد: سماهم الله عز و جل بذلك لما نصروا رسوله، وآووه، وكانوا له نعم الحلفاء والأتباع2.

فالأنصار اصطلاحًا: يطلق على من أسلم من أهل المدينة بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم من الأوس، والخزرج، ومزينة، وسليم، وجهينة، وغفار، وأسلم، فكل هؤلاء يسمون الأنصار، وهو اسم سماه الله تعالى لكل من ناصر نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم وآواه في المدينة3، وأولادهم يدخلونه بالنسب؛ فيقال: الأنصاري للواحد منهم ومن أبنائهم.

الأنصار في الاستعمال القرآني

وردت مادة (نصر) في القرآن (١٥٥) مرة، يخص موضوع البحث منها (١١) مرة4.

والصيغ التي وردت هي:

الصيغة

عدد المرات

المثال

الجمع

١١

( ) [البقرة:٢٧٠]

وجاءت كلمة (الأنصار) في الاستعمال القرآني بمعناها اللغوي، وهو: الأعوان5.

الألفاظ ذات الصلة

الصحابة:

الصحابة لغة:

الصحابة بالفتح: جمع صاحب، ولم يجمع فاعل على فعالة إلا هذا6.

الصحابة اصطلاحًا:

هو من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمنًا به، ومات على الإسلام، ولو تخللت ردةٌ في الأصح7.

الصلة بين الأنصار والصحابة:

عند الحديث عن الفرق بين لفظة الأنصار ولفظة الصحابة وكذلك الألفاظ الثلاثة التالية يكون المقصود منه الاصطلاح الشرعي، فيكون لفظ الأنصار أخص من لفظ الصحابة، إذ الصحابة منهم المهاجرون والأنصار والطلقاء، ومن دخل في دين النبي صلى الله عليه وسلم من القبائل بعد الفتح.

المهاجرون:

المهاجرون لغة:

جمع مهاجر، والمهاجر هو كل من فارق رباعه من بدوي أو حضري وسكن بلدًا آخر8.

ا لمهاجرون اصطلاحًا:

هم الذين صلوا إلى القبلتين، أو شهدوا بدرًا، أو أسلموا قبل الهجرة9.

الصلة بين الأنصار والمهاجرين:

الأنصار هم أهل المدينة الذين آووا النبي صلى الله عليه وسلم ومن هاجر إليهم من أهل الإسلام من مكة، والمهاجرون هم الذين قدموا المدينة مع النبي صلى الله عليه وسلم، أو هاجروا إليه منها بعد ذلك، وقبل انتهاء أجل الهجرة.

الطلقاء:

الطلقاء لغة:

أطلقت الأسير، وهو طليق، وهو من الطلقاء. وأطلقت الناقة من عقالها فطلقت10.

الطلقاء اصطلاحًا:

هم أهل مكة الذين أسلموا بعد فتحها.

الصلة بين الأنصار والطلقاء:

الأنصار من أهل المدينة وإسلامهم متقدم على إسلام الطلقاء، أما الطلقاء فهم أهل مكة وإسلامهم كان بعد فتح مكة.

التابعون:

التابعون لغة:

جمع تابع، وهو التالي، ومنه التتبع والمتابعة، والإتباع، والتتبع، تقول: تتبعت علمه، أي: اتبعت آثاره11.

التابعون اصطلاحًا:

من لقي الصحابي، وإن لم تطل صحبته12.

الصلة بين الأنصار والتابعين:

الأنصار صحبوا النبي صلى الله عليه وسلم ورأوه وهم من قرن النبي صلى الله عليه وسلم، بينما التابعون هم من صحبوا الصحابة بعد موت النبي، أو قبل ذلك ولم يحصل لهم شرف الصحبة.

صفات الأنصار وأعمالهم

تحدث القرآن الكريم عن صفات الأنصار وأعمالهم، وسوف نتناول ذلك بالبيان فيما يأتي:

أولًا: أبرز صفات الأنصار:

اصطفى الله سبحانه لهذا الدين رجالًا، كان لهم الحظ الأوفر، والشرف العظيم في نصرة الدين والنبي صلى الله عليه وسلم وإيوائه بعد أن خذله الناس، ألا وهم الأنصار، فهم من آوى الرسول ونصر، وكبت المشركين وقهر؛ ولهذا فحبهم ثابت في قلب كل مسلم، وبغضهم متقد في قلب كل منافق.

وقد شهد الكتاب العزيز بفضلهم، وبرضوان الله عليهم؛ لما قدموا من خدمة لهذا الدين، فخلد الله مديحهم ورضوانه عليهم في كتابه.

ولو تأملنا في صفات الأنصار في القرآن الكريم، وأمعنا النظر لوجدنا فضائلهم جمة، ومناقبهم عظيمة، بلغوا فيها غاية الكمال، ونالوا بها رضا ربهم الكريم المنان، فهو تارة يصفهم بالسابقين الأولين، وتارة بالإيواء والنصرة والإيمان، وتارة يصفهم بالفلاح، وتارة يثني على جهادهم وصبرهم وإيثارهم، وتارة يخبر بالرضا والتوبة عنهم.

وقد أشار إلى بعض أفعالهم وصفاتهم، ومنها: تبوءهم المدينة، وحبهم للمهاجرين، وإيثارهم إياهم، وسلامة صدورهم، كما في قوله تعالى: ( ﯽﯾ ﯿ ) [الحشر: ٩].

وأشار إليهم في قوله: ( ﯞﯟ ) [الأنعام: ٨٩].

فقوله: ( ) قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: «وقوله: ( ) يعني: أهل مكة، قاله ابن عباس وسعيد بن المسيب والضحاك وقتادة والسدي وغير واحد، وقوله: ( ) أي: إن يكفر بهذه النعم من كفر بها من قريش وغيرهم من سائر أهل الأرض، من عرب وعجم، ومليين وكتابيين، فقد وكلنا بها قومًا آخرين، أي: المهاجرين والأنصار، وأتباعهم إلى يوم القيامة»13.

وكذا قال البغوي: «أن المراد بقوله: ( ) يعني: الأنصار وأهل المدينة»14. وقال القرطبي: « ( ) جواب الشرط، أي: وكلنا بالإيمان بها ( ) يريد الأنصار من أهل المدينة، والمهاجرين من أهل مكة»15.

وقال الطبري بعد أن ذكر عدة أقوال في المراد بقوله: ( ): «وأولى هذه الأقوال في تأويل ذلك بالصواب قول من قال: عنى بقوله: ( ) كفار قريش ( ) يعني به: الأنبياء الثمانية عشر الذين سماهم الله تعالى ذكره في الآيات قبل هذه الآية، وذلك أن الخبر في الآيات قبلها عنهم مضى، وفي التي بعدها عنهم ذكر، فما بينها بأن يكون خبرًا عنهم، أولى وأحق من أن يكون خبرًا عن غيرهم»16. وعلى كل حال لا يوجد ما يمنع من دخول الأنصار في المراد من الآية، والله أعلم.

وأشير إليهم أيضًا في قوله تعالى: ( ﭗﭘ ) [الأنفال: ٦٢].

أي: قواك بنصره، يريد: يوم بدر، وبالمؤمنين، قال النعمان بن بشير: نزلت في الأنصار ( ﭡﭢ ) [الأنفال: ٦٣].

أي: جمع بين قلوب الأوس والخزرج، وكانت تألف القلوب مع العصبية الشديدة في العرب من آيات النبي صلى الله عليه وسلم، ومعجزاته؛ لأن أحدهم كان يلطم اللطمة فيقاتل عليها حتى يستقيدها، وكانوا أشد خلق الله حمية، فألف الله بالإيمان بينهم، حتى قاتل الرجل أباه وأخاه بسبب الدين، وقيل: أراد التأليف بين المهاجرين والأنصار، والمعنى متقارب17.

ونزل فيهم قوله -جل وعلا-: ( ﭘﭙ ) [آل عمران: ١٢٢].

فعن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه قال: نزلت هذه الآية فينا: ( ) قال: نحن الطائفتان بنو حارثة وبنو سلمة، وما أحب أنها لم تنزل، والله يقول: ( ﭘﭙ) وقال سفيان مرةً: وما يسرني أنها لم تنزل؛ لقول الله: ( ) 18.

«وقال الحسـن البصري: هما طائفتان من الأنصار همتا بذلك، فعصمهما الله، وقيل: لما رجع عبـد الله ابن أبي في أصحابـه يوم أحد همت الطائفتان باتباعه، فعصمهما الله»19.

والمقصود أن الله تبارك وتعالى بين في هذه الآيات فضائل الأنصار التي بَيَنَها القرآن الكريم، فقد نص على مجموعة من صفاتهم الحميدة، ومنها:

١. سبق الأنصار إلى الإيمان والنصرة.

وصف الله الأنصار في القرآن الكريم بالسبق، فقال: ( ﭦﭧ ) [التوبة: ١٠٠].

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «ذهب جمهور العلماء إلى أن السابقين في قوله تعالى: ( ) [التوبة: ١٠٠].

هم هؤلاء الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا، وأهل بيعة الرضوان كلهم منهم، وكانوا أكثر من ألف وأربعمائة»20.

وبين ابن العربي رحمه الله الأمور التي يكون فيها السبق، فقال: «السبق يكون بثلاثة أشياء: الصفة، وهو الإيمان، والزمان، والمكان، وأفضل هذه الوجوه سبق الصفات، والدليل عليه قوله صلى الله عليه وسلم في الصحيح: (نحن الآخرون الأولون، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، وأوتيناه من بعدهم، فهذا يومهم الذي اختلفوا فيه، فهدانا الله له، فاليهود غدًا، والنصارى بعد غد)21»22.

وقال الرازي: «اختلفوا في السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار من هم؟ وذكروا وجوهًا. . . »، ثم قال: «والصحيح عندي أنهم السابقون في الهجرة وفي النصرة، والذي يدل عليه أنه ذكر كونهم سابقين، ولم يبين أنهم سابقون في ماذا؟ فبقي اللفظ مجملًا، إلا أنه وصفهم بكونهم مهاجرين وأنصارًا، فوجب صرف ذلك اللفظ إلى ما به صاروا مهاجرين وأنصارًا، وهو الهجرة والنصرة، فوجب أن يكون المراد منه السابقون الأولون في الهجرة والنصرة؛ إزالة للإجمال عن اللفظ... ثم قال: و أيضًا فالسبق إلى الهجرة طاعة عظيمة من حيث إن الهجرة فعل شاق على النفس، ومخالف للطبع، فمن أقدم عليه أولًا صار قدوة لغيره من هذه الطاعة، وكان ذلك مقويًا لقلب الرسول عليه الصلاة والسلام، وسببًا لزوال الوحشة عن خاطره، وكذلك السبق في النصرة، فإن الرسول عليه الصلاة والسلام لما قدم المدينة، فلا شك أن الذين سبقوا إلى النصرة والخدمة، فازوا بمنصب عظيم»23.

وما ذكر قبل من الأقوال هو من باب التمثيل، فيكون هذا من باب اختلاف التنوع، لا اختلاف التضاد؛ ولهذا قال الشوكاني رحمه الله: «ولا مانع من حمل الآية على هذه الأصناف كلها»24.

٢. رضوان الله عن الأنصار ورضاؤهم عنه.

أخبر سبحانه أنه رضي عن (المهاجرين) والأنصار وعن أفعالهم، ورضوا عنه سبحانه؛ لما أجزل لهم من الثواب على طاعاتهم وإيمانهم به ويقينهم، فقال تعالى: ( ) [التوبة: ١٠٠].

فقوله تعالى: ( ) يعم الكل، قال الزجاج: رضي الله أفعالهم، ورضوا ما جازاهم به25 فحين ذكر سبحانه وتعالى الجزاء الذي أعده لهؤلاء، وحين كانت نفوسهم زاكية راقية؛ قابلوا الجزاء بالشكر، والتزود من الطاعة، فذكر سبحانه أنهم: ( ) وهذا أرقى المراتب التي يسعى إليها المؤمنون، ويتنافس فيها المتنافسون، أن يرضى الله تعالى عنهم، ويرضيهم، يقول الطبري: «رضي الله عن جميعهم لما أطاعوه، وأجابوا نبيه إلى ما دعاهم إليه من أمره ونهيه، ورضي عنه السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان لما أجزل لهم من الثواب على طاعتهم إياه، وإيمانهم به وبنبيه عليه السلام»26.

ففي هذه الآية إخبار بأن الله رضي عنهم ورضوا عنه، وفي هذا دليل على عدالتهم، ووجه الدلالة: أن الله تعالى أخبر فيها برضاه عنهم، ولا يثبت الله رضاه إلا لمن كان أهلًا للرضا، ولا توجد الأهلية لذلك إلا لمن كان من أهل الاستقامة في أموره كلها، عدلًا في دينه.

يقول ابن كثير رحمه الله: «يخبر تعالى عن رضاه عن السابقين من المهاجرين والأنصار، والتابعين لهم بإحسان، ورضاهم عنه بما أعد لهم من جنات النعيم، والنعيم المقيم»27.

ويقول أيضًا: «فقد أخبر الله العظيم أنه قد رضي عن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، فيا ويل من أبغضهم أو سبهم، أو أبغض أو سب بعضهم»28.

وقال تعالى في جزاء هؤلاء السابقين: ( ) [التوبة: ١٠٠].

أي: وأعد لهم في الآخرة جنات تجري من تحت أشجارها وقصورها الأنهار، ( ) أي: مقيمين فيها من غير انتهاء، ( ) أي: ذلك هو الفوز الذي لا فوز وراءه.

قال في البحر: لما بين تعالى فضائل الأعراب المؤمنين بين حال هؤلاء السابقين، ولكن شتان ما بين الثناءين، فهناك قال: ( ) [التوبة: ٩٩].

وهنا قال: ( ) وهناك ختم ( ) [التوبة: ٩٩].

وهنا ختم: ( ) [التوبة: ١٠٠]29.

وهذا الرضوان للأنصار، وما أعد لهم من الجنات والنعيم، هو جزاء ما قدموه لهذا الدين، وما تركوا من دورهم وأهليهم، وجزاء ما أعطوه للمهاجرين من أموالهم؛ لأن الهجرة أمر شاق على النفس، لمفارقة الأهل والعشيرة، والنصرة منقبة شريفة؛ لأنها إعلاء كلمة الله، ونصر رسوله وأصحابه، والإحسان من أحوال المقربين أو مقاماتهم.

وفي هذه الآية ( ) [التوبة: ١٠٠] فوائد:

الأولى: في الآية دليل على أن للصحابة مراتب، وأن الفضل للسابق إلى الإسلام والهجرة، وأن السابقين من الصحابة أفضل ممن تلاهم.

الثانية: قيل: المراد بالسابقين الأولين جميع المهاجرين والأنصار، فـ(من) بيانية؛ لتقدمهم على من عداهم، وقيل: بعضهم، وهم قدماء الصحابة و(من) تبعيضية، وقد اختار كثيرون الثاني، واختلفوا في تعيينهم.

الثالثة: تقديم المهاجرين؛ لفضلهم على الأنصار، كما ذكر في قصة السقيفة، ومنه علم فضل أبي بكر رضي الله عنه على من عداه؛ لأنه أول من هاجر معه صلى الله عليه وسلم30.

الرابعة: وفيها دليل على تنزيل الناس منازلهم.

الخامسة: وفيها دليل على أن أفضلية العمل على قدر رجوع منفعته إلى الإسلام والمسلمين.

السادسة: رضا الله عن السابقين من المهاجرين والأنصار، والمعنى: أنه رضي عنهم بما عملوه من الطاعات الخالصة له، ورضوا عنه بما جازاهم به مما لا يخطر لهم على بال، ولا تتصوره عقولهم، والرضا منه سبحانه هو أرفع درجات النعيم، وأعلى منازل الكرامة.

٣. حب الأنصار للمهاجرين.

قد شهد الله تعالى لهم بذلك في قوله: ( ) [الحشر: ٩].

فمن جملة أوصاف الأنصار الجميلة أنهم: ( ) [الحشر: ٩].

وهذا لمحبتهم لله ولرسوله أحبوا أحبابه، وأحبوا من نصر دينه، وهذه المحبة هي آصرة أقوى من آصرة النسب، وأقوى من رابطة الدم؛ لأنها تجمع على الإيمان بالله واليوم الآخر؛ ولأنها تستل كل الأحقاد والضغائن من الصدور؛ ولأنها تجعل من محبة الفرد لأخيه المسلم طاعة يتقرب بها، وينال بها الأجر والثواب من الله عز وجل، ويحصل بها على المنازل الرفيعة في الآخرة.

وأن هذه الرابطة أقوى من رابطة الدم واللغة والمصالح الاقتصادية، والعلاقات المتبادلة، يقول سيد قطب في الكلام على هذه الآية: «وهذه كذلك صورة وضيئة صادقة تبرز أهم الملامح المميزة للأنصار، هذه المجموعة التي تفردت بصفات، وبلغت إلى آفاق، لولا أنها وقعت بالفعل، لحسبها الناس أحلامًا طائرة، ورؤًى مجنحة، ومثلًا عليا قد صاغها خيال محلق. . .، ولم يعرف تاريخ البشرية كله حادثًا جماعيًا كحادث استقبال الأنصار للمهاجرين بهذا الحب الكريم، وبهذا البذل السخي، وبهذه المشاركة الرضية، وبهذا التسابق إلى الإيواء واحتمال الأعباء، حتى ليروى أنه لم ينزل مهاجر في دار أنصاري إلا بقرعة؛ لأن عدد الراغبين في الإيواء المتزاحمين عليه أكثر من عدد المهاجرين»31.

وفي قوله تعالى: () الواو استئنافية و () مبتدأ، وخبره () والجملة مستأنفة.

وقوله: () [الحشر: ٩].

خبر عن اسم الموصول () والمعنى: يحبونهم من حيث مهاجرتهم إليهم لمحبتهم الإيمان؛ قال ابن كثير: «أي: من كرمهم وشرف أنفسهم يحبون المهاجرين، ويواسونهم بأموالهم»32.

وقوله: ( ) أي: إلى المدينة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه حال الأنصار، فقلوبهم مملوءة بالحب للمهاجرين، ولا يحملون في صدورهم شيئًا على إخوانهم المهاجرين؛ لكونهم فضلوا عليهم ببعض الفضائل.

قال القاسمي: وقوله: () أي: لوجود الجنسية -أي المجانسة- في الصفاء، والموافقة في الدين والإخاء، قال الشهاب: المراد بمحبتهم المهاجرين هنا مواساتهم، وعدم الاستثقال والتبرم منهم، إذا احتاجوا إليهم، فالمحبة كناية عما ذكر33.

ويقول العيني: «في قوله: ( ) [الحشر: ٩أي: من المسلمين، حتى بلغ من محبتهم أن نزلوا لهم عن نسائهم، وشاطروهم أموالهم ومساكنهم»34.

وفي مقابل هذا الحب منهم أحبهم المهاجرون، وأحبهم الرسول صلى الله عليه وسلم، حتى قال للأنصار: (والذي نفسي بيده إنكم أحب الناس إلي)35 مرتين.

بل جعل الرسول حبهم من دلائل الإيمان، كما في حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار)36.

ففي هذا الحديث دلالة أن حب المؤمن لقبيلة الأنصار شعبة من شعب الإيمان، وعلامة عليه، فلا يحبهم إلا مؤمن، وأن بغضهم وكرههم شعبة من شعب النفاق والكفر، فلا يبغضهم إلا منافق.

وعن البراء قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الأنصار لا يحبهم إلا مؤمن، ولا يبغضهم إلا منافق، فمن أحبهم أحبه الله، ومن أبغضهم أبغضه الله)37.

وليس المراد بالبغض في هذا الحديث البغض الناتج من العداء الشخصي لأفرادهم، وإنما المراد بغضهم بسبب الصفة التي مدحوا بها، وهي نصرتهم للنبي صلى الله عليه وسلم، فمن أبغضهم من جهة هذه الصفة، وهي: كونهم نصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم أثر ذلك في تصديقه، فيصح أنه منافق38.

وكذلك الحب يقال فيه مثل ما يقال في البغض.

وهذا الحب من الأنصار لإخوانهم المهاجرين دافعه وجه الله تعالى، ومعرفتهم فضل الأخوة في الله، ومكانتها في الدين، فالأخوة في الله مبدأ عظيم من مبادئ الإسلام، يقوم عليه الولاء والبراء، والحب والبغض.

وتجلت هذه الأخوة في أبهى صورها، وأجمل حللها، في تلك المواقف السمحة التي عامل بها الأنصار إخوانهم المهاجرين، وهذا التآخي لم يكن مجرد شعار للمزايدة، ودغدغة العواطف، والالتفاف حول المعاني السامية بالأكاذيب والتدليس والتلبيس، لكنه معنى خالط قلوبهم ومشاعرهم، ولحمهم ودمهم، برز ذلك في سلمهم وحربهم، وفقرهم وغناهم، مستضعفين وممكن لهم، أفرادًا وجماعات.

وهذا الأنموذج من الأخوة الصادقة حرص النبي صلى الله عليه وسلم عليه وأكده، وكان من أوائل الأمور التي قام بها بعد وصوله المدينة أن آخى بين المهاجرين والأنصار؛ ليذهب عن المسلمين المهاجرين وحشة الغربة، ويؤنسهم عن مفارقة الأهل والعشيرة، ويشد بعضهم أزر بعض.

٤. الإيثار عند الأنصار.

الإيثار من أعظم الصفات التي اتصف بها المجتمع الإسلامي؛ ولهذا يقول بعض المفكرين: بأن كلمة الإيثار يصعب ترجمتها إلى لغات أخرى، أي: ليس لها مرادف في اللغات الأخرى مرادف يؤدي معناها، ويحقق كل معانيها، وكأن هذه الخصلة هي من الخصال التي أتى بها هذا الدين الحنيف، وزكى غرسها، وحث عليها، ودعا إليها.

وأعظم الناس إيثارًا في التاريخ الإسلامي هم الأنصار، فقد جاءهم المهاجرون إلى المدينة وهم لا يملكون من أمر الدنيا شيئًا، قد تركوا أموالهم وما يملكون خلف ظهورهم، وأقبلوا على ما عند الله عز وجل، يرجون رحمته، ويخافون عذابه، فاستقبلهم الأنصار الذين تبوءوا الدار، وأكرموهم أيما إكرام، ولم يبخلوا عليهم بشيء من حطام الدنيا، بل قاسموهم الأموال والمتاع، وشاطروهم بيوتهم وأرضهم وأموالهم، بطيب نفس، وسلامة صدر، في صورة يعجز عن وصفها اللسان، ويضعف عن تعبيرها البيان، وقابل المهاجرون هذا الإيثار الرائع بحسن الخلق والتعفف.

وقد امتدح الله جل وعلا خلق الإيثار عند الأنصار، فقال: ( ﯽﯾ ﯿ ) [الحشر: ٩].

ففي قوله: ( ﯽﯾ) [الحشر: ٩].

أي: إن من أوصاف الأنصار التي فاقوا بها غيرهم، وتميزوا بها على من سواهم الإيثار، وهو أكمل أنواع الجود، وهو الإيثار بمحاب النفس من الأموال وغيرها، وبذلها للغير مع الحاجة إليها، بل مع الضرورة والخصاصة، وهذا لا يكون إلا من خلق زكي، ومحبة لله تعالى مقدمة على محبة شهوات النفس ولذاتها.

والمراد بقوله: () [الحشر: ٩].

أي: الأنصار، والإيثار لغة: مصدر من قولهم: آثره عليه يؤثره إيثارًا، بمعنى: فضله وقدمه، والمآثر: ما يروى من مكارم الإنسان، وفي التنزيل: ( ) [يوسف: ٩١]. وآثر أن يفعل كذا: فضل وقدم، وضده الأثرة من قولهم: استأثر بالشيء انفرد به، أو اختص به نفسه.

واصطلاحًا: قال القرطبي: «الإيثار: هو تقديم الغير على النفس في حظوظها الدنيوية؛ رغبة في الحظوظ الدينية، وذلك ينشأ عن قوة اليقين، وتوكيد المحبة، والصبر على المشقة»39.

وفي قوله: () [الحشر: ٩]. مفعول الإيثار محذوف، والتقدير: ويؤثرونهم بأموالهم ومنازلهم على أنفسهم.

جاء في البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أتى رجلٌ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، أصابني الجهد، فأرسل إلى نسائه فلم يجد عندهن شيئًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا رجل يضيف هذه الليلة يرحمه الله)، فقام رجل من الأنصار، فقال: أنا يا رسول الله، فذهب إلى أهله، فقال لامرأته: ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا تدخريه شيئًا، فقالت: والله ما عندي إلا قوت الصبية، قال: فإذا أراد الصبية العشاء فنوميهم، وتعالي فأطفئي السراج، ونطوي بطوننا الليلة، ففعلت، ثم غدا الرجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (لقد عجب الله عز وجل، أو ضحك من فلان وفلانة)، فأنزل الله عز وجل: ( ) [الحشر: ٩]40.

وفي رواية في البخاري أيضًا: (ضحك الله الليلة، أو عجب من فعالكما)، فأنزل الله: ( ﯽﯾ) [الحشر: ٩]41.

وجاء في سبب نزولها: أن رجلًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدي له رأس شاةٍ، فقال: إن أخي فلانًا وعياله أحوج إلى هذا، فبعث به إليه، فلم يزل يبعث به واحد إلى واحد، حتى تناولها سبعة أهل أبيات، حتى رجعت إلى أولئك، فنزلت هذه الآية.

وروي نحو هذه القصة عن أنس بن مالك قال: أهدي لبعض الصحابة رأس شاةٍ مشوي، وكان مجهودًا، فوجه به إلى جارٍ له فتناوله تسعة أنفس، ثم عاد إلى الأول، فنزلت هذه الآية42.

وذكر ابن جزي في سبب نزولها قصة الفيء، فقال: «وروي أن سبب هذه الآية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قسم هذه القرى على المهاجرين دون الأنصار، قال للأنصار: (إن شئتم قسمتم للمهاجرين من أموالكم ودياركم، وشاركتموهم في هذه الغنيمة، وإن شئتم أمسكتم أموالكم وتركتم لهم هذه)43، فقالوا: بل نقسم لهم من أموالنا، ونترك لهم هذه الغنيمة، وروي أيضًا أن سببها أن رجلًا من الأنصار أضاف رجلًا»44. وذكر القصة التي في البخاري.

وهذا ما رجحه الرازي، حيث قال: «وذكر المفسرون أنواعًا من إيثار الأنصار للضيف بالطعام، وتعللهم عنه حتى يشبع الضيف، ثم ذكروا أن الآية نزلت في ذلك الإيثار، والصحيح أنها نزلت بسبب إيثارهم المهاجرين بالفيء، ثم لا يمتنع أن يدخل فيها سائر الإيثارات»45.

قوله: ( ﯽﯾ) [الحشر: ٩]. الخصاصة: هي الفقر46.

والمعنى: ولو كان بهم حاجة وفاقة إلى ما آثروا به من أموالهم على أنفسهم، فبين أن هذا الإيثار ليس عن غنى، وعن المال، ولكنه عن حاجة وخصاصة، وهي: الفقر47.

وهذا هو واقع الأنصار، فهم مع ما هم عليه من الخصاصة -وهي الفاقة والفقر-، ومع شدة احتياجهم وافتقارهم إلى ما في أيديهم، حيث أن المهاجرين كانوا أهل تجارة، وكانوا أهل ثراء في أوطانهم في مكة، بينما الأنصار كانوا في الحقيقة أهل زراعة، وما كانوا بالثراء الذي كان عليه أهل مكة؛ ولذلك عبر عنهم القرآن بهذا التعبير: ( ﯽﯾ) [الحشر: ٩].

فلئن يقدم الإنسان حاجة غيره عليه وهو مستغنٍ عن تلك الحاجة فهذا لا يستغرب، ومع ذلك فإن الله تعالى قد أمر به في كتابه الكريم، حينما قال: ( ) [البقرة: ٢١٩].

أي: الزيادة، ما فضل عن نفقاتكم الضرورية اللازمة عليكم، لكن هذه المرتبة أعلى، وهي أن يجود الإنسان بما عنده لأخيه مع كونه محتاجًا إليه، شديد الاحتياج، شديد الرغبة فيه، فهذا المعنى هو الذي تتحدث عنه الآية.

وقوله: (ﯿ ) [الحشر: ٩].

قال الرازي: «واعلم أن الفرق بين الشح والبخل هو أن البخل نفس المنع، والشح هو الحالة النفسانية التي تقتضي ذلك المنع، فلما كان الشح من صفات النفس لا جرم قال تعالى: (ﯿ ) [الحشر: ٩48.

ووقاية شح النفس يشمل وقايتها الشح في جميع ما أمر به، فإنه إذا وقي العبد شح نفسه سمحت نفسه بأوامر الله ورسوله، ففعلها طائعًا منقادًا منشرحًا بها صدره، وسمحت نفسه بترك ما نهى الله عنه وإن كان محبوبًا للنفس، تدعو إليه، وتطلع إليه، وسمحت نفسه ببذل الأموال في سبيل الله، وابتغاء مرضاته، وبذلك يحصل الفلاح والفوز، بخلاف من لم يوق شح نفسه، بل ابتلي بالشح بالخير الذي هو أصل الشر ومادته.

فهذان الصنفان الفاضلان الزكيان هم الصحابة الكرام والأئمة الأعلام، الذين حازوا من السوابق والفضائل والمناقب ما سبقوا به من بعدهم، وأدركوا به من قبلهم، فصاروا أعيان المؤمنين، وسادات المسلمين، وقادات المتقين.

ووصف الله من يتصف بهذه الصفة بقوله: ( ) أي: الظافرون بما أرادوا، والمقصود بهم: الأنصار، ومن أتصف بهذه الصفات من غيرهم، والمفلحون: هم الفائزون بكل مطلوب، الناجون من كل مهروب، قال ابن كثير: أي: من سلم من الشح فقد أفلح وأنجح49.

«والفلاح: اسم لسعادة الدارين، والجملة اعتراض وارد لمدح الأنصار والثناء عليهم، فإن الأوصاف المذكورة في حقهم، فلهم جلائل الصفات، ودقائق الأحوال. . .، قال السهروردي في العوارف: السخاء صفة غريزية في مقابلة الشح، والشح من لوازم صفة النفس، حكم الله بالفلاح لمن يوقى الشح، أي: لمن أنفق وبذل، والنبي عليه الصلاة والسلام نبه بقوله: (ثلاث مهلكات، وثلاث منجيات) فجعل إحدى المهلكات (شحًا مطاعًا)50 ولم يقل: مجرد الشح يكون مهلكًا، بل إنما يكون مهلكًا إذا كان مطاعًا، فأما كونه موجودًا في النفس غير مطاع لا ينكر ذلك؛ لأنه من لوازم النفس، مستمد من أصل جبلتها الترابي، وفي التراب قبض وإمساك، وليس ذلك بالعجب من الآدمي، وهو جبلي فيه، وإنما العجب وجود السخاء في الغريزة»51.

وهكذا يصور القرآن الكريم هذا الوضع غير المسبوق في أبلغ عبارة وأجزلها، وتظهر الآيات الكريمة صدق الأخوة بين المهاجرين والأنصار، لا تلوثه أطماع، ولا حب دنيا، ولا أثرة، ولا شح أو حرص، ولا حاجة إنما هو أخوة تدور بين سلامة الصدر والإيثار، ولا شك أن المرء يقف مبهورًا أمام هذه الصورة الرائعة من الأخوة المتينة، والإيثار المتبادل، الذي لا نشهد له مثيلًا في تواريخ الأمم السابقة.

ولقد كان دافع الأنصار لهذا الإيثار هو رغبتهم فيما عند الله، وحبهم لإخوانهم المهاجرين؛ ولهذا صدر الله هذه الصفات للأنصار في هذه الآية بأنهم يحبون من هاجر إليهم، فالمحبة هي باعث هذا الإيثار؛ ولذلك لا يمكن أن تتصور الإيثار دون أن تتصور المحبة بين الناس، المحبة التي تنشأ في القلوب، ثم يتبع هذه المحبة رغبة صادقة في أن ينال الخير أخاك؛ ولذلك فلا يجد الواحد منهم غضاضة في نفسه أن يقدم إخوانه في الخير الذي لديه.

وكيف لا يؤثر الأنصار وقد بايعوا الرسول صلى الله عليه وسلم على الإيثار؟!

فقد جاء عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: (بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر، والمنشط والمكره، وعلى أثرة علينا، وعلى أن لا ننازع الأمر أهله)52.

فالسمع والطاعة في العسر واليسر، والمنشط والمكره: لهم معه، ومع الأئمة بعده، والأثرة: عدم منازعة الأمر مع الأئمة بعده خاصة.

ولو ذهبنا نلتمس الأسباب وراء هذا الإخاء والحب والإيثار فلن نجد إلا مسبب الأسباب، وأن ذلك كان بفضل الله ورحمته، لا بصنع بشر وحكمته وسياسته، وصدق الله حيث قال: ( ﭡﭢ ) [الأنفال: ٦٣].

فلم يلتق النبي صلى الله عليه وسلم بالأنصار إلا في سويعات تحت جنح الليل، واكتفى فيها بعرض الإسلام، وأخذ العهود والمواثيق، ولم يطل لقاؤه معهم قبل الهجرة حتى يكون هذا الذي فعلوه بسبب تربية النبي إياهم، وطول تعهده لهم كما فعل تجاه المهاجرين حتى كون منهم رجالًا، فلم يكن بين دخول الأنصار الإسلام وقيامهم بهذه المآثر إلا أقل من عام.

فالأنصار قوم اختارهم الله لصحبة نبيه، لقد فتحوا للمهاجرين قلوبهم قبل أن يفتحوا لهم بيوتهم، ووسعوهم بصدورهم قبل أن يسعوهم بأموالهم، وتسابقوا إلى لقائهم وإكرامهم، وضربوا في باب الإيثار، وسخاء النفس، وكرم الطبع مثلًا عليا، لا تزال تذكرها لهم الأجيال المتعاقبة، بالإكبار والإعظام.

٥. سلامة صدورهم.

أثنى الله على الأنصار بسبب سلامة صدورهم رضي الله عنهم، فقال: ( ) [الحشر: ٩].

فقوله: ( ) [الحشر: ٩]. الضمير في (يجدون) للأنصار، قال ابن العربي: «قال الخلق بأجمعهم: يريد بذلك الأنصار الذين آووا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين طرد، ونصروه حين خذل، فلا مثل لهم، ولا لأجرهم»53.

وقوله: () أي: حزازة وغيظًا وحسدًا، قال الشوكاني في فتح القدير: ( ) [الحشر: ٩]. «أي: لا يجد الأنصار في صدورهم حسدًا وغيظًا وحزازةً»54.

وفي الكلام مضاف محذوف: أي لا يجدون في صدورهم مس حاجة، أو أثر حاجة، وكل ما يجده الإنسان في صدره مما يحتاج إليه فهو حاجة55.

وقوله: ( ) أي: مما أعطوا، والضمير للمهاجرين، والمراد (فيما أوتوه) هو مال الفيء، حيث قسم النبي صلى الله عليه وسلم أموال بني النضير بين المهاجرين، ولم يعط من الأنصار غير ثلاثة نفر، كانت بهم حاجة، فطابت أنفس الأنصار بتلك القسمة، أو يكون المراد (فيما أوتوه) هو: الفضل والتقدم56.

قال شيخ الإسلام في الفتاوى: «وبهذا أثنى الله تعالى على الأنصار، فقال: ( ) [الحشر: ٩].

أي: مما أوتي إخوانهم المهاجرون، قال المفسرون: لا يجدون في صدورهم حاجة أي: حسدًا وغيظًا، مما أوتي المهاجرون، ثم قال بعضهم: من مال الفيء، وقيل: من الفضل والتقدم»57.

يعني: لا يحسدون المهاجرين على ما خصوا به من مال الفيء وغيره، ويحتمل أن يريد به: ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا إذا كان قليلًا، بل يقنعون به، ويرضون عنه، وقد كانوا على هذه الحال حين حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم كانوا عليه بعد موته صلى الله عليه وسلم.

وقد أنذرهم النبي صلى الله عليه وسلم قائلًا: (سترون بعدي أثرة، فاصبروا حتى تلقوني على الحوض)58 59.

فالأنصار لا يجدون في صدورهم حاجة مما خصص به المهاجرون من الفيء، ولا يحسدونهم على ذلك، ولا يعترضون بقلوبهم على حكم الله بتخصيص المهاجرين حتى لو كانت بهم حاجة، أو اختلال أحوال60.

وعلى هذا ففي الآية بيان حال الأنصار، وأنهم لا يحسدون المهاجرين على ما آتاهم الله من فضله، وخصهم به من الفضائل والمناقب التي هم أهلها، وهذا يدل على سلامة صدورهم، وانتفاء الغل والحقد والحسد عنهم.

ويدل ذلك أيضًا على أن المهاجرين أفضل من الأنصار؛ لأن الله قدمهم بالذكر، وأخبر أن الأنصار لا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا، فدل على أن الله تعالى آتاهم ما لم يؤت الأنصار ولا غيرهم؛ لأنهم جمعوا بين النصرة والهجرة.

ثانيًا: أبرز أعمال الأنصار:

الأنصار: ما أجملها من كلمة! إنها كلمة تحمل معاني شريفة جليلة، اتصف بها قوم ضرب بهم المثل في الكمال الإنساني، إنها علمٌ على قوم عملوا أعمالًا استحقوا بها أن يكونوا من أنصار الرسول الكريم.

ومن أبرز هذه الأعمال:

١. الإيواء والنصرة.

لما هاجر المسلمون من مكة هجروا المحبوبات والمألوفات من الديار والأوطان والأحباب والخلان والأموال، وتجردوا من كل شيء إلا من الإيمان؛ رغبةً في الله، ونصرةً لدين الله، ومحبةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فوصلوا إلى أرضٍ جديدة، وواقعٍ مختلف، وكان من أثر هذه الرحلة نشوء عدد من المشكلات الجديدة، ليس أقلها: الشعور بالغربة، ومفارقة الأهل والديار، وترك معظم الأموال والممتلكات في مكة، وطبيعة الوضع المعيشي والاقتصادي الجديد، أضف إلى ذلك الآثار الصحية والبدنية التي أحدثها الانتقال المفاجئ إلى بيئةٍ أخرى؛ مما أدى إلى ظهور الأمراض في صفوفهم كالحمى وغيرها، كل هذا ترك في أنفسهم وحشة وغربة، حتى أصبح وضعهم يحتاج إلى حل عاجل وسريع.

فترجم الأنصار ما تعاقدوا عليه من أقوال في البيعتين إلى جملة أفعال، حيث فتح الأنصار أبواب بيوتهم وقلوبهم، واستعدوا لاحتضان من جاءهم مهاجرًا تحت ظاهرة عظيمة من التكافل الاجتماعي، فحوى المسكن الواحد تحت سقفه الأنصاري والمهاجر، وهم يتقاسمون كل شيء المسكن والمال والطعام.

فلم يعرف تاريخ البشرية حادثًا جماعيًا كحادث استقبال الأنصار للمهاجرين بهذا الحب الكريم، وبهذا البذل السخي، وبهذه المشاركة الرضية، وبهذا التسابق إلي الإيواء، واحتمال الأعباء، حتى ليروى أنه لم ينزل مهاجر في دار أنصاري إلا بقرعة؛ لأن عدد الراغبين في الإيواء المتزاحمين عليه أكثر من عدد المهاجرين، وهم لا يجدون في أنفسهم شيئًا من حسد، أو ضيق من هذا، والإيثار على النفس مع الحاجة قيمة عليا، وقد بلغ بها الأنصار مبلغًا لم تشهد له البشرية نظيرًا.

وهنا ظهر دور الأنصار الذين أبدوا من التضحية وضروب الإيثار ما استحق التخليد في كتاب الله.

قال الله تعالى عنهم: ( ﭿ ) [الأنفال: ٧٢].

وقال تعالى: ( ﯨﯩ ) [الأنفال: ٧٤].

فجمع الله تعالى في هاتين الآيتين الذين كانوا دعامة الإسلام، وعليهم هدى الرسول قام بنيانه، وشيدت أركانه، وهم المهاجرون والأنصار، فالمهاجرون ابتدأ بهم تكوين الجماعات الأولى التي صبرت وصابرت، وتلقت الصدمة الأولى من المشركين.

والأنصار وهم الذين آووا ونصروا، وأعزوا كلمة التوحيد، وأغلوها وأعلوها، فإذا كان المهاجرون هم الذين أظلوا شجرة الإسلام ابتداءً، فالأنصار هم الذين حموا ثمرتها، وقامت دولة الإسلام في أرضهم وحراستهم، وإذا كان المهاجرون قد لاقوا العنت في مكة فقد لقوا الإيواء في المدينة.

وإذا كانوا هم دعامة الإسلام فالأنصار دولته، وفي رحابهم قامت المدينة الفاضلة التي أقامها محمد صلى الله عليه وسلم في ديارهم، وإذا كان المهاجرون قد جاهدوا ابتداءً بالصبر والمصابرة، فقد كان جهادهم في المدينة مع إخوانهم الأنصار بذلك وبالقتال في المدينة، والفريقان اختارهم الله للتأليف حتى تكونت منهم أطهر جماعة رأتها الإنسانية وأقواها.

فبعد أن ذكر الله تعالى هنا في الآيتين الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، عقب بذكر الأنصار، وهم الذين آووا ونصروا.

فقال: ( ) [الأنفال: ٧٤]. المراد: بهم الأنصار، أي: وطنوا المهاجرين، وأنزلوهم منازلهم، وبذلوا إليهم أموالهم، وآثروهم على أنفسهم، ونصروهم على أعدائهم61.

فإذا كانوا قد نقصوا عن إخوانهم -المهاجرين- فضل الهجرة، فقد عوضوا عن ذلك بفضل الإيواء والنصرة62.

حيث استقبل الأنصار المهاجرين، فشاطروهم المال والديار؛ بكرم وسخاء، وضربوا مثلًا رائعًا في التكافل، وبناء الجماعة المسلمة، وآووا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنعوه من الأحمر والأسود، وتبوءوا دار الهجرة والإيمان، حتى صارت موئلًا ومرجعًا يرجع إليه المؤمنون، ويلجأ إليه المهاجرون، ويسكن بحماه المسلمون؛ إذ كانت البلدان كلها بلدان حرب وشرك وشر.

فلم يزل أنصار الدين يأوون إلى الأنصار، حتى انتشر الإسلام وقوي، وجعل يزيد شيئًا فشيئًا، وينمو قليلًا قليلًا، حتى فتحوا القلوب بالعلم والإيمان والقرآن، والبلدان بالسيف والسنان.

وقوله في الآية: () أي: نصروا الرسول وأصحابه على أعدائهم الكفار، وما سموا بالأنصار إلا لذلك؛ ولقد قال حسان رضي الله عنه في مدح الأنصار أنهم ما سموا أنصارًا إلا لنصرتهم الدين63:

سماهم الله أنصارًا بنصرهم

دين الهدى وعوان الحرب تستعر

وسارعوا في سبيل الله واعترفوا

للنائبات وما خافوا وما ضجروا

وقد ذكر الله تعالى هذه الصفة وهي (النصرة) في آيتين، فقال: ( ﯨﯩ ) [الأنفال: ٧٤]. وقال تعالى: ( )[الأنفال: ٧٢].

والنصرة في المدلول القرآني واللغوي والتاريخي بمعنى: العون، والظفر، والمنع، والانتقام، والانتصار، وشد الأزر، ولقد شرف الله سبحانه وتعالى المسلمين الأول بشرف لا يدانيه شرف، حيث أجزل لهم الثواب، وأحسن لهم المدح والثناء في أعظم كتاب، وخص كلًا من الفريقين المتآخيين (المهاجرين والأنصار) بعمل عظيم جليل، ناداهم به فسموا مهاجرين وأنصارًا، وما ذلك إلا للهجرة والنصرة، فالهجرة كانت إعلانًا للدولة، وانتقالًا لدار الإسلام، والنصرة هي التي هيأت للهجرة ولوجود دار الإسلام، فكيف يغفل أحد من المسلمين عن فضل الهجرة أو النصرة، وهو يتلو كتاب الله الذي يذكر المهاجرين والأنصار وفضلهما؟!

وكانت هذه النصرة وفاء منهم لمبايعة النبي صلى الله عليه وسلم لهم في بيعة العقبة الثانية، حيث ثبت أنه قال لهم: (أبايعكم على أن تمنعوني -إذا قدمت عليكم- مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم، ولكم الجنة)64. فبايعوه على النصرة والمنعة، فقام منهم اثني عشر نقيبًا كفلاء على قومهم، ثم استمر الحال حتى أذن الله للمسلمين بالهجرة، وقامت أول دولة للمسلمين65.

ونلحظ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يطلب النصرة لأمرين مهمين في غاية الأهمية:

أولهما: حماية الدعوة، حتى تسير بين الناس محمية الجانب، بعيدة عن الإساءة إلى أتباعها.

ثانيهما: إيجاد مكان آمن لدولته صلى الله عليه وسلم القادمة؛ ليتسلم خلالها مقاليد الحكم والسلطان على وفق مقتضيات النبوة على أساس الدعوة.

وختم الله تعالى الآية الأخرى بقوله: ( )[الأنفال: ٧٢]]. أي: إن هاتين الفرقتين (المهاجرين والأنصار) بعضهم أنصار بعض، وأعوان على من سواهم من المشركين، وأيديهم واحدة على من كفر بالله، وبعضهم إخوان لبعض دون أقربائهم الكفار.

وقد قيل: إنما عنى بذلك أن بعضهم أولى بميراث بعض، وأن الله ورث بعضهم من بعض بالهجرة والنصرة دون القرابة والأرحام، وأن الله نسخ ذلك بعد، بقوله: ( ﯿ ) [الأنفال: ٧٥] وهذا القول لأبن عباس رضي الله عنه 66.

قال الشوكاني: «أي: بعضهم أولياء بعض في النصرة والمعونة، وقيل المعنى: إن بعضهم أولياء بعض في الميراث، وقد كانوا يتوارثون بالهجرة والنصرة، ثم نسخ ذلك بقوله سبحانه: ( ﯿ ) [الأنفال: ٧٥67.

فالولاية محبة ومودة ومناصرة، وقد اجتمعت كل هذه الأحوال في ولاية المؤمنين المهاجرين والأنصار، فقد اجتمعت فيهم المودة فتوادوا وتحابوا، وتناصروا وجاهدوا جميعًا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، ولقد جمعت المؤاخاة معنى المودة والمحبة والإيثار، وجمع الجهاد معنى النصر والتبعات بالجهاد في سبيل الله68.

وقد ذكر الله بعد ذلك شأن الذين يهاجرون ويؤمنون من بعد، فقال: ( ﯷﯸ ﯿ ﰀﰁ )[الأنفال: ٧٥].

فهذا يدل على أن باب الإيمان مفتوح، وباب الهجرة مفتوح، وميدان الجهاد متسع للجميع، فلم يغلق على المجاهدين الأولين من المهاجرين والأنصار فقط، بل هو مفتوح، وهذه الآية الكريمة تلحق الذين يؤمنون من بعد ويهاجرون بالأولين الذين هم المؤمنون حقًا.

وإذا كان هذا الوصف (النصرة) في الأنصار، فالمهاجرون من باب أولى، فهم أنصار في المعنى، فمعنى النصرة حاصل للكل، ومن الكل، فهم قد هجروا ديارهم وأموالهم، كما قال تعالى: ( ) [الحشر: ٨].

وأثنى عليهم بأنهم يطلبون فضلًا من الله ورضوانًا، فقال: ( ) وأثبت لهم صفة النصرة، فقال: ( ) وأثنى عليهم بالصدق، فقال: ( ) فرضي الله عن المهاجرين والأنصار ومن تبعهم بإحسان.

فضائل الأنصار

عرض القرآن الكريم فضائل الأنصار وهذا ما سنبينه فيما يأتي:

أولًا: وصفهم بالإيمان الحق:

وصف الله تعالى الأنصار بالإيمان الحق، فقال سبحانه: ( ﯨﯩ ) [الأنفال: ٧٤].

فقوله: ( ﯨﯩ) الإشارة إلى السابقين الأولين (من المهاجرين والأنصار) والإشارة إلى الموصوف إشارة إلى أوصافه، وجعلها مناط الحكم، أي: أولئك الذين هاجروا بعد الإيمان، وجاهدوا في سبيل الله، والذين آووا ونصروا هم المؤمنون حقًا، أي: إيمانًا ثابتًا صادقًا حقًا، تلاقت أقوالهم وقلوبهم وأعمالهم69.

فسبق منهم هجرة وجهاد، وإيواء ونصرة، وهذا هو الإيمان الحق، وفي الكلام قصر، أي: من كانوا على هذه الصفات هم وحدهم المؤمنون حقًا، أي: لا مؤمنون حقًا غيرهم، ومن هم على صفاتهم.

وفي هذه الآية وصفٌ لعموم المهاجرين والأنصار بالإيمان الحق، فجمع الله فيها الفضل لفريقي الصحابة، وهم المهاجرون والأنصار، من هاجر، ومن آوى، فاستوى الأنصار مع المهاجرين في عامل النصرة، وفي صدق الإيمان، فشهد لهم بحقيقة الإيمان، ووعدهم بالمغفرة والرزق الواسع، ومن شهد الله له بهذه الشهادة، فقد بلغ أعلى مرتبة العدالة.

ثم قال: ( ) [الأنفال: ٧٤]. ذكر الله تعالى هنا ما كتب لهم من خيري الدنيا والآخرة، وهذا يتضمن جزاءين:

أولهما: المغفرة السابقة، ووراءها الرحمة والنعيم المقيم.

ثانيهما: رزق كريم واسع في الدنيا بعد المشقة التي تحملوها، وهذا شأن المهاجرين الذين آمنوا، وشأن الأنصار الذين آووا ونصروا70.

فيكون الله قد أثنى عليهم ها هنا من ثلاثة أوجه:

أولها: قوله: ( ﯨﯩ) فقوله: ( ﯨﯩ) يفيد الحصر، وقوله: (ﯨﯩ) يفيد المبالغة في وصفهم بكونهم محقين محققين في طريق الدين، وقد كانوا كذلك؛ لأن من لم يكن محقًا في دينه لم يتحمل ترك الأديان السالفة، ولم يفارق الأهل والوطن، ولم يبذل النفس والمال، ولم يكن في هذه الأحوال من المسارعين المسابقين.

وثانيها: قوله: ( ) والتنكير يدل على الكمال، أي: مغفرة تامة كاملة.

وثالثها: قوله: ( ) والمراد منه: الثواب الرفيع الشريف71.

وعن السائب بن يزيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا معشر الأنصار، ألم يمن الله عليكم بالإيمان، وخصكم بالكرامة، وسماكم بأحسن الأسماء: أنصار الله، وأنصار رسوله؟!)72.

فالأنصار إذن حازوا شرفين: شرف سبقهم إلى الإيمان، وشرف استضافتهم للإيمان وأهله في أرضهم.

ومدحهم بأنهم أناس سكنوا الإيمان، وسكن الإيمان في قلوبهم، فقال: ( ) [الحشر: ٩].

فقوله: () الأظهر أن (الذين) هنا عطف على (المهاجرين) -في الآية السابقة-، أي: والذين تبوءوا الدار هم الأنصار73.

وقوله: ( ) من مادة (بواء) على وزن (دواء) وهي في الأصل بمعنى تساوي أجزاء المكان، وبعبارة أخرى يقال: (بواء) لترتيب وتسوية مكان (ما) وفي هذا التعبير كناية لطيفة لهذا المعنى، وهو أن طائفة الأنصار -أهل المدينة- قد هيئوا الأرضية المناسبة للهجرة.

وقوله: () الدار تطلق على البلاد، وأصلها: موضع القبيلة من الأرض، وأطلقت على القرية.

قال تعالى في ذكر ثمود: ( ) [الأعراف: ٧٨].

أي: في مدينتهم، وهي حجر ثمود، والتعريف هنا للعهد؛ لأن المراد بالدار: المدينة النبوية، والمعنى: الذين هم أصحاب الدار74، أي: دار الهجرة مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد تبوأها الأنصار قبل المهاجرين، كما تبوءوا فيها الإيمان، وكأنه منزل لهم ودار، وهو تعبير ذو ظلال، وهو أقرب ما يصور موقف الأنصار من الإيمان، لقد كان دارهم ونزلهم ووطنهم الذي تعيش فيه قلوبهم، وتسكن إليه أرواحهم، ويثوبون إليه، ويطمئنون له، كما يثوب المرء ويطمئن إلى الدار.

وفي قوله: () هذا تشريف للمدينة، حيث سماها الله الدار، فكأنها هي دار الإيمان؛ لأن الإيمان أوى إليها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها)75.

فالتعريف في () للتنويه كأنها الدار التي تستحق أن تسمى دارًا، وهي التي أعدها الله تعالى لهم؛ ليكون تبوؤهم إياها مدحًا لهم.

وذكر بعضهم أن الدار علمٌ بالغلبة على المدينة، كالمدينة، وأنه أحد أسمائها، ومنها: طيبة، وطابة، ويثرب، وجابرة76.

وفي ذكر الدار -وهي المدينة- مع ذكر الإيمان إيماء إلى فضيلة المدينة، بحيث جعل تبوؤهم المدينة قرين الثناء عليهم بالإيمان، ولعل هذا هو الذي عناه مالك -رحمة الله- فيما رواه عنه ابن وهب قال: سمعت مالكًا يذكر فضل المدينة على غيرها من الآفاق، فقال: إن المدينة تبوأت بالإيمان والهجرة، وإن غيرها من القرى افتتحت بالسيف. ثم قرأ: ( ) [الحشر: ٩]الآية77.

وجاء عنه صلى الله عليه وسلم: (أمرت بقرية تأكل القرى)78 .

والمقصود: المدينة، أي: يغلب أهلها، وهم الأنصار بالإسلام على غيرها من القرى، وينصر الله دينه بأهلها، ويفتح القرى عليهم، ويغنمهم إياها فيأكلونها79.

وقوله: () [الحشر: ٩]أي: سكنوا الإيمان، والإيمان لا يسكن، وإنما شبه الإيمان كأنه دار سكنوها؛ لأن الدار يستقر فيها الإنسان، فهؤلاء الأنصار سكنوا الإيمان، بمعنى: استقر الإيمان في قلوبهم، والإنسان يلازم داره، بمعنى: يستقر ويطمئن ويستريح فيه، وهؤلاء لازموا الإيمان كملازمة الإنسان لمسكنه، وهذه شهادة لهم بالإيمان -رضي الله تعالى عنهم-، فهم مؤمنون صادقون، استقر الإيمان في قلوبهم.

قال ابن جزي: «فإن قيل: كيف قال: تبوءوا الدار والإيمان، وإنما تتبوأ الدار، أي: تسكن ولا يتبوأ الإيمان؟

فالجواب من وجهين:

الأول: أن معناه تبوءوا الدار، وأخلصوا الإيمان، فهو كقولك:

علفتها تبنًا وماء باردًا80.

تقديره: علفتها تبنًا، وسقيتها ماء باردًا.

والثاني: أن المعنى: أنهم جعلوا الإيمان كأنه موطن لهم؛ لتمكنهم فيه، كما جعلوا المدينة كذلك»81.

فيكون في عطف الإيمان على الدار ستة أوجه:

أحدها: أنه ضمن () معنى: لزموا، فيصح عطف الإيمان عليه؛ إذ الإيمان لا يتبوأ.

الثاني: أنه منصوب بمقدر، أي: واعتقدوا، أو وألفوا، أو وأحبوا، أو وأخلصوا؛ كقوله:

علفتها تبنًا وماءً باردًا

وقوله:

متقلدًا سيفًا ورمحا 82

أي: وحاملًا رمحًا.

الثالث: أنه يتجوز في الإيمان، إن الإيمان مجاز عن المدينة، سمي محل ظهور الشيء باسمه مبالغة، فيجعل اختلاطه بهم وثباتهم عليه كالمكان المحيط بهم، فكأنهم نزلوه، وعلى هذا فيكون جمع بين الحقيقة والمجاز في كلمة واحدة، وفيه خلاف مشهور.

الرابع: أن يكون الأصل: دار الهجرة ودار الإيمان، فأقام (لام) التعريف في (الدار) مقام المضاف إليه، وحذف المضاف من دار الإيمان، ووضع المضاف إليه مقامه.

الخامس: أن يكون سمى (المدينة)؛ لأنها دار الهجرة ومكان ظهور الإيمان.

السادس: أنه منصوب على المفعول معه (الواو للمعية) أي: مع الإيمان معًا، والمراد تبوءوا الدار مع إيمانهم، أي: تبوءوها مؤمنين83.

والضمير في قوله: ( ) [الحشر: ٩].

للمهاجرين، والجار متعلق بتبوء، أي: من قبل أن يهاجر المهاجرون إليهم، وقد أسلم كثير من الأنصار قبل المهاجرين، لكن المقصود -والله وأعلم- بقوله: ( ) [الحشر: ٩] أي: من قبل أن يهاجر المهاجرون، وأن الأنصار أسلم كثير من كبارهم وسادتهم على يد مصعب بن عمير رضي الله عنه قبل أن يهاجر كثير من المهاجرين -رضي الله تعالى عنهم-، وقبل أن تصبح المدينة دار الهجرة التي أوى إليها النبي عليه الصلاة والسلام، فكثير من الأنصار كان قد أسلم، ودخل الإيمان في قلوبهم، واستقر على يد مصعب بن عمير رضي الله عنه، فهو من فتح الله به المدينة المنورة بدعوته إلى الله، وسلوكه الطيب، حتى ما بقي بيت من بيوت المدينة إلا ودخله الإيمان.

وقد أورد ابن جزي إشكالًا، وأجاب عليه، حيث قال: «فإن قيل: قوله: ( ) [الحشر: ٩].

يقتضي أن الأنصار سبقوا المهاجرين بنزول المدينة وبالإيمان، فأما سبقهم لهم بنزول المدينة فلا شك فيه؛ لأنها كانت بلدهم، وأما سبقهم لهم بالإيمان فمشكل؛ لأن أكثر المهاجرين أسلم قبل الأنصار.

قال: والجواب من وجهين:

أحدهما: أنه أراد بقوله: ( ) [الحشر: ٩] من قبل هجرتهم.

والآخر: أنه أراد تبوءوا الدار مع الإيمان معًا، أي: جمعوا بين الحالتين قبل المهاجرين؛ لأن المهاجرين إنما سبقوهم بالإيمان لا بتبوء الدار، فيكون الإيمان على هذا مفعولًا معه، وهذا الوجه أحسن؛ لأنه جواب عن هذا السؤال، وعن السؤال الأول فإنه إذا كان الإيمان مفعولًا معه لم يلزم السؤال الأول؛ إذ لا يلزم إلا إذا كان الإيمان معطوفًا على الدار»84.

وجعل الألوسي ذلك من قبل تقدير مضاف، حيث قال: «والكلام بتقدير مضاف، أي: من قبل هجرتهم، فنهاية ما يلزم سبق الإيمان الأنصار على هجرة المهاجرين، ولا يلزم منه سبق إيمانهم على إيمانهم؛ ليقال: إن الأمر بالعكس، وجوز أن لا يقدر مضاف، ويقال: ليس المراد سبق الأنصار لهم في أصل الإيمان، بل سبقهم إياهم في التمكن فيه؛ لأنهم لم ينازعوا فيه لما أظهروه.

وقيل: الكلام على التقديم والتأخير، والتقدير: تبوءوا الدار من قبلهم والإيمان، فيفيد سبقهم إياهم في تبوء الدار فقط، وهو خلاف الظاهر، على أن مثله لا يقبل ما لم يتضمن نكتة سرية، وهي غير ظاهرة ها هنا؛ وقيل: لا حاجة إلى شيء مما ذكر، وقصار ما تدل الآية عليه تقدم مجموع تبوء الأنصار وإيمانهم على تبوء المهاجرين وإيمانهم، ويكفي في تقديم المجموع تقدم بعض أجزائه، وهو ها هنا تبوء الدار، وتعقب بمنع الكفاية، ولو سلمت لصح أن يقال: بتقدم تبوء المهاجرين وإيمانهم على تبوء الأنصار وإيمانهم؛ لتقدم إيمان المهاجرين»85.

ووصف الله الأنصار أيضًا بالإيمان والاستجابة لله، كما جاء في تفسير قوله تعالى: ( ) [الشورى: ٣٨].

أنها نزلت في الأنصار، حين دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإيمان، فاستجابوا له؛ أي: لرسول الله من صميم القلب، كما هو المفهوم من إطلاق الاستجابة، وفيه إشارة إلى أن الاستجابة للرسول استجابة للمرسل، فهو من عطف الخاص على العام لمزيد التشريف، وذلك لأن الاستجابة داخلة في الإيمان86.

قال الألوسي: ( ) [الشورى: ٣٨].

قيل: نزلت في الأنصار، دعاهم الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم للإيمان به وطاعته سبحانه، فاستجابوا له، فأثنى عليهم -جل وعلا- بما أثنى، وعليه فهو من ذكر الخاص بعد العام؛ لبيان شرفه؛ لأيمانهم دون تردد وتلعثم، والآية إن كانت مدنية فالأمر ظاهر، وإذا كانت مكية فالمراد بالأنصار من آمن بالمدينة قبل الهجرة، أو المراد بهم أصحاب العقبة87.

وقال الشوكاني: «قال ابن زيد: هم الأنصار بالمدينة استجابوا إلى الإيمان بالرسول حين أنفذ إليهم اثني عشر نقيبًا منهم قبل الهجرة، وأقاموا الصلاة لمواقيتها بشروطها وهيئاتها»88.

ووصف الله الأنصار بالإيمان والعمل الصالح، كما جاء عن ابن عباس في قوله: ( ) [محمد: ٣٤]. قال: هم أهل مكة، ( ) [محمد: ٢]. قال: هم أهل المدينة الأنصار ( ) [محمد: ٢]. قال: أمرهم89.

ووصفوا بأنهم رجال؛ وسماهم الله رجال، فقال: ( ﭯﭰ ﭻﭼ ﭿ ﮁﮂ ) [التوبة: ١٠٨].

فقد جاء ما يدل أنها نزلت في الأنصار، فعن أبي أيوب وجابر وأنس رضوان الله عليهم أن هذه الآية حين نزلت: ( ﭿ ﮁﮂ ) [التوبة: ١٠٨].

قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا معشر الأنصار إن الله قد أثنى عليكم في الطهور، فما طهوركم؟) قالوا: نتوضأ للصلاة، ونغتسل من الجنابة، ونستنجي بالماء، قال: (فهو ذاك، فعليكموه)90.

وعن موسى بن أبي كثير قال: بدء حديث هذه الآية في رجال من الأنصار، من أهل قباء91.

وقوله: ( ﭿ ﮁﮂ) [التوبة: ١٠٨].

أي: من الأحداث والجنابات والنجاسات...، وقالوا: المراد منه: الطهارة بالماء بعد الحجر، وقيل: المراد منه: الطهارة من الذنوب والمعاصي، وقيل: محمول على الأمرين92.

فتكون جملة: ( ﭿ ﮁﮂ) ثناء على مؤمني الأنصار الذين يصلون بمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبمسجد قباء، وجاء الضمير مفردًا مراعاة للفظ (مسجد) الذي هو جنس93.

ثانيًا: توبة الله على الأنصار، وتجاوزه عن تقصيرهم:

قال تعالى: ( ﯯﯰ ) [التوبة: ١١٧].

نزلت هذه الآية في غزوة تبوك التي كانت قبل الشام، وكان فيها جيش العسرة من المهاجرين والأنصار، ومن غيرهم من القبائل التي حول المدينة ومكة، ولكنهم خصوا بالثناء والتوبة؛ لأنهم لم يترددوا، ولم يتثاقلوا، ولا شحوا بأموالهم، فكانوا أسوة لمن ائتسى بهم من غيرهم من القبائل94.

ففي قوله: ( ) خبر مؤكد بلام القسم على حرف التحقيق (قد) بين فيه تعالى فضل عطفه على نبيه وأصحابه المؤمنين الصادقين من المهاجرين والأنصار، وتجاوزه عن هفواتهم في هذه الغزوة، وفي غيرها لاستغراقها في حسناتهم الكثيرة على كونهم لا يصرون على شيء منها، وإنما كانت هفواتهم هذه مقتضى الطباع البشرية، واجتهاد الرأي فيما لم يبينه الله تعالى بيانًا قطعيًا يعد مخالفه عاصيًا.

يقول ابن عاشور: «وافتتاح الله هذه الآية بحرف التحقيق (لقد)؛ تأكيدًا لمضمونها المتقرر فيما مضى من الزمان، حسبما دل عليه الإتيان بالمسندات كلها أفعالًا ماضية.

ومن المحسنات افتتاح هذا الكلام بما يؤذن بالبشارة لرضا الله على المؤمنين الذين غزوا تبوك، وتقديم النبي صلى الله عليه وسلم في تعلق فعل التوبة بالغزاة؛ للتنويه بشأن هذه التوبة، وإتيانها على جميع الذنوب؛ إذ قد علم المسلمون كلهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد غفر الله ما تقدم من ذنبه وما تأخر»95.

وهذه التوبة التي تابها الله على النبي والمهاجرين والأنصار -كما قال ابن عباس-: كانت التوبة على النبي لأجل إذنه للمنافقين في القعود، ودليله قوله: ( ) [التوبة: ٤٣].

وعلى المؤمنين من ميل قلوب بعضهم إلى التخلف عنه، وقيل: توبة الله عليهم استنقاذهم من شدة العسرة.

وقيل: خلاصهم من نكاية العدو، وعبر عن ذلك بالتوبة وإن خرج عن عرفها لوجود معنى التوبة فيه، وهو الرجوع إلى الحالة الأولى96.

يقول شيخ المفسرين الطبري: «يقول تعالى ذكره: لقد رزق الله الإنابة إلى أمره وطاعته نبيه محمدًا، والمهاجرين ديارهم وعشيرتهم إلى دار الإسلام، وأنصار رسوله في الله الذين اتبعوا رسول الله في ساعة العسرة منهم من النفقة والظهر والزاد والماء»97.

فيكون معنى توبته على النبي أي: بإذنه للمنافقين بالتخلف عنه98.

وقال أهل المعاني: هو مفتاح كلام، وذلك أنه لما كان سبب توبة التائبين ذكر معهم، كقوله: ( ) [الأنفال: ٤١]99.

وهذه التوبة على المهاجرين والأنصار في ساعة العسرة سببها كما قال الرازي: «ربما وقع في قلوبهم نوع نفرة عن تلك السفرة، وربما وقع في خاطر بعضهم أنا لسنا نقدر على الفرار، ولم يعزموا عليه، بل وساوس كانت تقع في قلوبهم، فالله تعالى بين في آخر هذه السورة أنه بفضله عفا عنها، فقال: ( ) [التوبة: ١١٧].

والوجه الثاني في الجواب: أن الإنسان طول عمره لا ينفك عن زلات وهفوات، إما من باب الصغائر، وإما من باب ترك الأفضل، ثم إن النبي وسائر المؤمنون لما تحملوا مشاق هذا السفر ومتاعبه، وصبروا على تلك الشدائد والمحن، أخبر الله تعالى أن تحمل تلك الشدائد صار مكفرًا لجميع الزلات التي صدرت عنهم في طول العمر، وصار قائمًا مقام التوبة المقرونة بالإخلاص عن كلها.

والوجه الثالث في الجواب: أن الزمان لما اشتد عليهم في ذلك السفر، وكانت الوساوس تقع في قلوبهم، فكلما وقعت وسوسة في قلب واحد منهم تاب إلى الله منها، وتضرع إلى الله في إزالتها عن قلبه، فلكثرة إقدامهم على التوبة بسبب خطرات تلك الوساوس ببالهم، قال تعالى: ( ) [التوبة: ١١٧]...الآية.

والوجه الرابع: لا يبعد أن يكون قد صدر عن أولئك الأقوام أنواع من المعاصي، إلا أنه تعالى تاب عليهم، وعفا عنهم لأجل أنهم تحملوا مشاق ذلك السفر، ثم إنه تعالى ضم ذكر الرسول عليه الصلاة والسلام إلى ذكرهم؛ تنبيهًا على عظم مراتبهم في الدين، وأنهم قد بلغوا إلى الدرجة التي لأجلها ضم الرسول عليه الصلاة والسلام إليهم في قبول التوبة»100.

وقوله تعالى: ( ) [التوبة: ١١٧].

() من أفعال المقاربة، تعمل في اسمين (عمل كان) واسمها هنا ضمير شأن مقدر، وخبرها هو جملة الخبر عن ضمير الشأن، وإنما جعل اسمها هنا ضمير شأن؛ لتهويل شأنهم حين أشرفوا على الزيغ.

واختلف في معنى (تزيغ) فقيل: تتلف بالجهد والمشقة والشدة، وقيل: تعدل -أي تميل- عن الحق في الممانعة والنصرة، وقيل: من بعد ما هم فريق منهم بالتخلف والعصيان ثم لحقوا به، وقيل: هموا بالقفول فتاب الله عليهم، وأمرهم به101.

وقوله تعالى: ( ) هذا تأكيد ظاهر، واعتناء بشأن التوبة، هذا إن كان الضمير راجعًا إلى من تقدم ذكر التوبة عنهم، وإن كان الضمير إلى الفريق فلا تكرار102. والمعنى: قيل: توبته عليهم أن تدارك قلوبهم حتى لم تزغ، وكذلك سنة الحق مع أوليائه إذا أشرفوا على العطب، ووطنوا أنفسهم على الهلاك أمطر عليهم سحائب الجود، فأحيا قلوبهم103.

فإن قيل: ذكر التوبة في أول الآية وفي آخرها، فما فائدة التكرار؟

فالجواب من وجوه:

أحدها: أنه تعالى ابتدأ بذكر التوبة قبل ذكر الذنب؛ تطييبًا لقلوبهم، ثم لما ذكر الذنب أردفه مرة أخرى بذكر التوبة؛ تعظيمًا لشأنهم.

وثانيها: إذا قيل: عفا السلطان عن فلان ثم عفا عنه، دل على أن ذلك العفو متأكد، بلغ الغاية القصوى في الكمال والقوة. . .، وهذا معنى قول ابن عباس في قوله: ( ) يريد ازداد عنهم رضًا، قال ابن عباس: من تاب الله عليه لم يعذبه أبدًا.

وثالثها: أنه قال: ( ) [التوبة: ١١٧].

وهذا الترتيب يدل على أن المراد أنه تعالى تاب عليهم من الوساوس التي كانت تقع في قلوبهم في ساعة العسرة،

ثم إنه تعالى زاد عليه فقال: ( ) [التوبة: ١١٧].

فهذه الزيادة أفادت حصول وساوس قوية، فلا جرم أتبعها تعالى بذكر التوبة مرة أخرى؛ لئلا يبقى في خاطر أحدٍ شك في كونهم مؤاخذين بتلك الوساوس104.

وفي قصة توبة الله على النبي والمهاجرين والأنصار وعلى الثلاثة، فوائد ومسائل، منها:

في هذه الآيات دليل على أن توبة الله على العبد أجل الغايات، وأعلى النهايات، فإن الله جعلها نهاية خواص عباده، وامتن عليهم بها، حين عملوا الأعمال التي يحبها ويرضاها، وفيها لطف الله بهم، وتثبيتهم في إيمانهم عند الشدائد والنوازل المزعجة.

وفي الآيات أيضًا دليل على أن العبادة الشاقة على النفس لها فضل ومزية ليست لغيرها، وكلما عظمت المشقة عظم الأجر، وأن توبة الله على عبده بحسب ندمه وأسفه الشديد، وأن من لا يبالي بالذنب، ولا يحرج إذا فعله، فإن توبته مدخولة، وإن زعم أنها مقبولة.

وأن علامة الخير وزوال الشدة إذا تعلق القلب بالله تعالى تعلقًا تامًا، وانقطع عن المخلوقين.

وأن من لطف الله بالثلاثة أن وسمهم بوسم ليس بعار عليهم، فقال: () إشارة إلى أن المؤمنين خلفوهم، أو خلفوا عن من بت في قبول عذرهم، أو في رده، وأنهم لم يكن تخلفهم رغبة عن الخير؛ ولهذا لم يقل: (تخلفوا).

ومن فوائد الآيات: أن الله تعالى من عليهم بالصدق؛ ولهذا أمر بالاقتداء بهم، فقال: ( ) [التوبة: ١١٩]105.

يقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: واعلم أن لله تعالى على عبده توبتين؛ التوبة الأولى: قبل توبة العبد؛ وهي التوفيق للتوبة؛ والتوبة الثانية: بعد توبة العبد؛ وهي قبول التوبة؛ وكلاهما في القرآن؛ قال الله تبارك وتعالى: ( ﭪﭫ ) [التوبة: ١١٨].

فقوله تعالى: ( ﭪﭫ) أي: وفقهم للتوبة، وقوله تعالى: (ﭪﭫ) أي: يقوموا بالتوبة إلى الله؛ وأما توبة القبول ففي قوله تعالى: ( ) [الشورى: ٢٥].

ومن فوائد الآيات:


1 انظر: مختار الصحاح،١/٦٨٨، معجم اللغة العربية المعاصرة، أحمد مختار عمر، ٣/٢٢٢٠.

2 انظر: مغاني الأخيار في شرح أسامي رجال معاني الآثار، العيني ٣/٣٨٢.

3 انظر: المصدر السابق.

4 انظر: المعجم المفهرس الشامل لألفاظ القرآن الكريم، عبد الله جلغوم، ص١٣٢٥-١٣٢٨.

5 انظر: بصائر ذوي التمييز، الفيروزآبادي ٥/٦٩.

6 انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، ابن الأثير، ٣/١٢.

7 انظر: نزهة النظر، ابن حجر العسقلاني، ص١٤٠.

8 انظر: تهذيب اللغة، الأزهري،٦/٢٩، معجم اللغة العربية المعاصرة، أحمد مختار عمر،٣/٢٣٢٥.

9 انظر: الكليات، الكفوي، ص٨٨٣.

10 انظر: أساس البلاغة، الزمخشري، ١/٦١١، تاج العروس، الزبيدي،٢٦/١٠٢.

11 انظر: العين، الفراهيدي، ٢/٧٨.

12 انظر: الضوء اللامع المبين عن مناهج المحدثين، أحمد ناجي، ص، ١٦٨.

13 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٣/٢٦٨.

14 معالم التنزيل، البغوي ٣/١٦٦.

15 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٧/٣٤.

16 جامع البيان، الطبري ١١/٥١٨.

17 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٨/٤٢.

18 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المغازي، باب قوله: (إذ همت طائفتان منكم)، ٥/ ٩٦، رقم ٤٠٥١ ومسلم في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل الأنصار،رضي الله عنهم، رقم ٢٥٠٥.

19 انظر: زاد المسير، ابن الجوزي ١/٤٤٩.

20 منهاج السنة النبوية ١/١٥٤.

21 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجمعة، باب فرض الجمعة، ٢/ ٢، رقم ٨٧٦، ومسلم في صحيحه، كتاب الجمعة، باب هداية هذه الأمة ليوم الجمعة ٢/ ٥٨٥، رقم ٨٥٥.

22 أحكام القرآن، ابن العربي ٤/٤٠٦.

23 مفاتيح الغيب، الرازي ٨/١٢٧.

24 فتح القدير ٢/٥٧٧.

25 زاد المسير، ابن الجوزي ٣/٤٩١.

26 جامع البيان، ١٤/٤٣٩.

27 تفسير القرآن العظيم، ٤/٢٠٣.

28 المصدر السابق.

29 صفوة التفاسير، الصابوني ١/٣٧٤.

30 محاسن التأويل، القاسمي ٢/٥٠.

31 في ظلال القرآن ٧/١٦٥.

32 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٨/٦٩.

33 محاسن التأويل، القاسمي ٢/٥٠.

34 عمدة القاري ٢٤/٤١١.

35 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب مناقب الأنصار، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار:(أنتم أحب الناس إلي)، ٥/ ٣٢، رقم ٣٧٨٦، ومسلم في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل الأنصار، ٤/ ١٩٤٨، رقم ٢٥٠٨.

36 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الإيمان، باب علامة الإيمان حب الأنصار، ١/ ١٢، رقم ١٧، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب الدليل على أن حب الأنصار وعلي رضي الله عنهم من الإيمان وعلاماته، وبغضهم من علامات النفاق ١/٨٥، رقم ٧٤.

37 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب مناقب الأنصار، باب حب الأنصار، ٥/٣٢، رقم ٣٧٨٣، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب الدليل على أن حب الأنصار وعلي رضي الله عنهم من الإيمان وعلاماته، وبغضهم من علامات النفاق ١/٨٥، رقم ٧٥.

38 انظر: فتح الباري، ابن حجر ١/ ١٦٣.

39 الجامع لأحكام القرآن، ١٨/ ٢٦.

40 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، باب قوله: (ويؤثرون على أنفسهم)، ٦/ ١٤٨، رقم ٤٨٨٩.

41 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، باب قوله: (ويؤثرون على أنفسهم)، ٥/ ٣٤، رقم ٣٧٩٨.

42 انظر: زاد المسير، ابن الجوزي ٤/٢٥٨.

43 انظر: الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ١٨/٢٥.

44 التسهيل لعلوم التنزيل، ابن جزي ٢/٣٦٠.

45 مفاتيح الغيب، الرازي ٢٩/٥٠٨.

46 المصدر السابق.

47 انظر: المصدر السابق.

48 مفاتيح الغيب، الرازي ٢٩/٥٠٨.

49 تفسير القرآن العظيم، ٨/٧١.

50 أخرجه البزار في مسنده، رقم ٧٢٩٣ والطبراني في المعجم الأوسط ٥٧٥٤.

وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب ٢/ ٣٥٦، رقم ٢٦٠٧.

51 روح البيان، إسماعيل حقي ٩/٣٥٣.

52 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإمارة، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية، وتحريمها في المعصية ٣/١٤٧٠، رقم ١٧٠٩.

53 أحكام القرآن، ابن العربي ٧/٣٠٨.

54 فتح القدير ٥/٢٠١

55 المصدر السابق ٥/٢٨٢.

56 انظر: زاد المسير، ابن الجوزي ٨ /٢١٢.

57 مجموع فتاوى ابن تيمية ١٠/١١٩.

58 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجزية، باب ما أقطع النبي صلى الله عليه وسلم من البحرين، وما وعد من مال البحرين والجزية، ولمن يقسم الفيء والجزية ٤/ ٩٨، رقم ٣١٦٣، ومسلم في صحيحه، كتاب الإمارة، باب الأمر بالصبر عند ظلم الولاة واستئثارهم ٣/ ١٤٧٤، رقم ١٨٤٥.

59 أحكام القرآن، ابن العربي ٧/٣١٠.

60 انظر: لطائف الإشارات، القشيري ٣/٥٦١.

61 محاسن التأويل، القاسمي ٢٣/ ٢.

62 زهرة التفاسير، أبو زهرة ١/٣٢٠١.

63 انظر: ديوان حسان بن ثابت ص٩٩.

64 أخرجه أحمد في مسنده، ٢٥/٩٢، رقم ١٥٧٨٩.

65 انظر: السيرة النبوية، ابن هشام ٢/١٩٧- ٢٠٩.

66 انظر: جامع البيان، الطبري ١٠/٥١، تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٤/٩٥.

67 فتح القدير ٢/٤٧٨.

68 انظر: زهرة التفاسير، أبو زهرة ٦/٣٢٠٢.

69 المصدر السابق ٦/٣٢٠٦.

70 انظر: المصدر السابق ٦/٣٢٠٩.

71 انظر: مفاتيح الغيب، الرازي ١٥/٥١٩.

72 أخرجه الطبراني في الكبير ٧/ ١٥١، رقم ٦٦٦٥.

73 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٢٨/٩٠.

74 المصدر السابق.

75 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل المدينة، باب الإيمان يأرز إلى المدينة ٣/ ٢١، رقم ١٨٧٦، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب بيان أن الإسلام بدأ غريبًا وسيعود غريبًا، وأنه يأرز بين المسجدين ١/١٣١، رقم ١٤٧.

76 روح المعاني، الألوسي ٢٠/٤٢٥.

77 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٢٨/٩١.

78 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل المدينة، باب فضل المدينة وأنها تنفي الناس ٣/ ٢٠، رقم ١٨٧١، ومسلم في صحيحه، كتاب الحج، باب المدينة تنفي شرارها، ٢/١٠٠٦، رقم ١٣٨٢.

79 انظر: النهاية في غريب الأثر، ابن الأثير ١/١٤٤.

80 البيت في خزانة الأدب ٣/ ١٣٩، وفي العباب الزاخر ١/٤٨١، وتمامه: «حتى شتت همالةً عيناها».

81 التسهيل لعلوم التنزيل، ٣/١٥٧.

82 البيت في الكامل في اللغة ١/ ٢٩١ وشرح ديوان الحماسة ص ٨٠٥ غير منسوب لقائل، وصدره: «يا ليت بعلك قد غذا».

83 انظر: اللباب في علوم الكتاب، ابن عادل ١٥/٢٠١.

84 التسهيل لعلوم التنزيل، ٣/١٥٧.

85 روح المعاني، ٢٠/٤٢٥.

86 روح البيان، إسماعيل حقي ٨/٢٥٣.

87 روح المعاني ٢٥/٤٦.

88 فتح القدير ٤/٧٦٩.

89 انظر: فتح القدير، الشوكاني ٥/٤٧.

90 أخرجه ابن ماجه في كتاب الطهارة وسننها، باب الاستنجاء بالماء ١/ ١٢٧، رقم ٣٥٥.

وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه، ١/٦٣.

91 جامع البيان، الطبري ١٤/ ٤٨٨.

92 اللباب في علوم الكتاب، ابن عادل ١٠/ ٢١٠.

93 التحرير والتنوير، ابن عاشور ١١/ ٣٢.

94 انظر: المصدر السابق .

95 السابق ١١/٤٩.

96 اللباب في علوم الكتاب، ابن عادل ٨/٣٨٧.

97 جامع البيان، ١٤/٥٣٩.

98 معالم التنزيل، البغوي ٤/١٠٤.

99 اللباب في علوم الكتاب، ابن عادل ٨/٣٨٧.

100 انظر: مفاتيح الغيب، الرازي ٨/١٧٠.

101 انظر: الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٨/٢٨١.

102 انظر: فتح القدير، الشوكاني ٢/٥٩٩.

103 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٨/٢٨١.

104 اللباب في علوم الكتاب، ابن عادل ٨/٣٨٩.

105 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص٣٥٤.

106 انظر: تفسير القرآن الكريم، ابن عثيمين ٣/٩١.

107 انظر: اللباب في علوم الكتاب، ابن عادل ٨/٣٨٧.

108 انظر: المصدر السابق.

109 انظر: اللباب في علوم الكتاب، ابن عادل ٨/٣٨٧.

110 انظر: السيرة النبوية، ابن كثير ٤/ ١٦.

111 أخرجه الترمذي في سننه، أبواب المناقب، ٥/ ٦٢٦، رقم ٣٧٠١.

وحسنه الألباني في تعليقه على المشكاة، رقم ٦٠٦٤.

112 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الفتن، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: (سترون بعدي أمورًا تنكرونها)، ٩/ ٤٧، رقم ٧٠٥٦، ومسلم في صحيحه، كتاب الإمارة، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية، وتحريمها في المعصية، ٣/١٤٧٠، رقم ١٧٠٩.

113 تفسير القرآن الكريم، ٨/ ١١٣.

الأنصار

عناصر الموضوع

مفهوم الأنصار

الأنصار في الاستعمال القرآني

الألفاظ ذات الصلة

صفات الأنصار وأعمالهم

فضائل الأنصار

الأنصار

مفهوم الأنصار

أولًا: المعنى اللغوي:

الأنصار: جمع ناصر، كصاحب وأصحاب، كما تجمع ناصر على ناصرين ونصار، اسم فاعل من نصر.

أو جمع نصير، كشريف وأشراف، (ناصر أو نصير) وكلاهما صواب، والنصير: فعيل، بمعنى فاعل أو مفعول؛ لأن كل واحد من المتناصرين ناصر ومنصور.

ونصير: صيغة مبالغة من ناصر، ومعناه: المساعد، والمعين، والمناصر، والمؤيد.

يقال: نصره على عدوه ينصره نصرًا، واستنصره على عدوه: سأله أن ينصره عليهم، وتناصر القوم: إذا نصر بعضهم بعضًا، وانتصر منه: انتقم1.

ولفظ الأنصار يأتي بمعنى: الأعوان المناصرين والمؤازرين والأتباع والحلفاء، وأهل الاتباع والتصديق.

وهذا اللفظ (الأنصار) بهذا المعنى اللغوي يمكن إطلاقه لغةً على كل من اتصف بهذا الوصف.

ثانيًا: المعنى الاصطلاحي:

وفي المعنى الاصطلاحي الأمر ليس ببعيد عن المعنى اللغوي، فأنصار الرجل هم حلفاؤه وأتباعه ومؤيدوه في النزاعات، ومعاونوه على أمره.

ومن هنا جاء تعريف الأنصار في الاصطلاح الشرعي بأنهم الأوس، والخزرج من الأزد: سماهم الله عز و جل بذلك لما نصروا رسوله، وآووه، وكانوا له نعم الحلفاء والأتباع2.

فالأنصار اصطلاحًا: يطلق على من أسلم من أهل المدينة بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم من الأوس، والخزرج، ومزينة، وسليم، وجهينة، وغفار، وأسلم، فكل هؤلاء يسمون الأنصار، وهو اسم سماه الله تعالى لكل من ناصر نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم وآواه في المدينة3، وأولادهم يدخلونه بالنسب؛ فيقال: الأنصاري للواحد منهم ومن أبنائهم.

الأنصار في الاستعمال القرآني

وردت مادة (نصر) في القرآن (١٥٥) مرة، يخص موضوع البحث منها (١١) مرة4.

والصيغ التي وردت هي:

الصيغة

عدد المرات

المثال

الجمع

١١

( ) [البقرة:٢٧٠]

وجاءت كلمة (الأنصار) في الاستعمال القرآني بمعناها اللغوي، وهو: الأعوان5.

الألفاظ ذات الصلة

الصحابة:

الصحابة لغة:

الصحابة بالفتح: جمع صاحب، ولم يجمع فاعل على فعالة إلا هذا6.

الصحابة اصطلاحًا:

هو من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمنًا به، ومات على الإسلام، ولو تخللت ردةٌ في الأصح7.

الصلة بين الأنصار والصحابة:

عند الحديث عن الفرق بين لفظة الأنصار ولفظة الصحابة وكذلك الألفاظ الثلاثة التالية يكون المقصود منه الاصطلاح الشرعي، فيكون لفظ الأنصار أخص من لفظ الصحابة، إذ الصحابة منهم المهاجرون والأنصار والطلقاء، ومن دخل في دين النبي صلى الله عليه وسلم من القبائل بعد الفتح.

المهاجرون:

المهاجرون لغة:

جمع مهاجر، والمهاجر هو كل من فارق رباعه من بدوي أو حضري وسكن بلدًا آخر8.

ا لمهاجرون اصطلاحًا:

هم الذين صلوا إلى القبلتين، أو شهدوا بدرًا، أو أسلموا قبل الهجرة9.

الصلة بين الأنصار والمهاجرين:

الأنصار هم أهل المدينة الذين آووا النبي صلى الله عليه وسلم ومن هاجر إليهم من أهل الإسلام من مكة، والمهاجرون هم الذين قدموا المدينة مع النبي صلى الله عليه وسلم، أو هاجروا إليه منها بعد ذلك، وقبل انتهاء أجل الهجرة.

الطلقاء:

الطلقاء لغة:

أطلقت الأسير، وهو طليق، وهو من الطلقاء. وأطلقت الناقة من عقالها فطلقت10.

الطلقاء اصطلاحًا:

هم أهل مكة الذين أسلموا بعد فتحها.

الصلة بين الأنصار والطلقاء:

الأنصار من أهل المدينة وإسلامهم متقدم على إسلام الطلقاء، أما الطلقاء فهم أهل مكة وإسلامهم كان بعد فتح مكة.

التابعون:

التابعون لغة:

جمع تابع، وهو التالي، ومنه التتبع والمتابعة، والإتباع، والتتبع، تقول: تتبعت علمه، أي: اتبعت آثاره11.

التابعون اصطلاحًا:

من لقي الصحابي، وإن لم تطل صحبته12.

الصلة بين الأنصار والتابعين:

الأنصار صحبوا النبي صلى الله عليه وسلم ورأوه وهم من قرن النبي صلى الله عليه وسلم، بينما التابعون هم من صحبوا الصحابة بعد موت النبي، أو قبل ذلك ولم يحصل لهم شرف الصحبة.

صفات الأنصار وأعمالهم

تحدث القرآن الكريم عن صفات الأنصار وأعمالهم، وسوف نتناول ذلك بالبيان فيما يأتي:

أولًا: أبرز صفات الأنصار:

اصطفى الله سبحانه لهذا الدين رجالًا، كان لهم الحظ الأوفر، والشرف العظيم في نصرة الدين والنبي صلى الله عليه وسلم وإيوائه بعد أن خذله الناس، ألا وهم الأنصار، فهم من آوى الرسول ونصر، وكبت المشركين وقهر؛ ولهذا فحبهم ثابت في قلب كل مسلم، وبغضهم متقد في قلب كل منافق.

وقد شهد الكتاب العزيز بفضلهم، وبرضوان الله عليهم؛ لما قدموا من خدمة لهذا الدين، فخلد الله مديحهم ورضوانه عليهم في كتابه.

ولو تأملنا في صفات الأنصار في القرآن الكريم، وأمعنا النظر لوجدنا فضائلهم جمة، ومناقبهم عظيمة، بلغوا فيها غاية الكمال، ونالوا بها رضا ربهم الكريم المنان، فهو تارة يصفهم بالسابقين الأولين، وتارة بالإيواء والنصرة والإيمان، وتارة يصفهم بالفلاح، وتارة يثني على جهادهم وصبرهم وإيثارهم، وتارة يخبر بالرضا والتوبة عنهم.

وقد أشار إلى بعض أفعالهم وصفاتهم، ومنها: تبوءهم المدينة، وحبهم للمهاجرين، وإيثارهم إياهم، وسلامة صدورهم، كما في قوله تعالى: ( ﯽﯾ ﯿ ) [الحشر: ٩].

وأشار إليهم في قوله: ( ﯞﯟ ) [الأنعام: ٨٩].

فقوله: ( ) قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: «وقوله: ( ) يعني: أهل مكة، قاله ابن عباس وسعيد بن المسيب والضحاك وقتادة والسدي وغير واحد، وقوله: ( ) أي: إن يكفر بهذه النعم من كفر بها من قريش وغيرهم من سائر أهل الأرض، من عرب وعجم، ومليين وكتابيين، فقد وكلنا بها قومًا آخرين، أي: المهاجرين والأنصار، وأتباعهم إلى يوم القيامة»13.

وكذا قال البغوي: «أن المراد بقوله: ( ) يعني: الأنصار وأهل المدينة»14. وقال القرطبي: « ( ) جواب الشرط، أي: وكلنا بالإيمان بها ( ) يريد الأنصار من أهل المدينة، والمهاجرين من أهل مكة»15.

وقال الطبري بعد أن ذكر عدة أقوال في المراد بقوله: ( ): «وأولى هذه الأقوال في تأويل ذلك بالصواب قول من قال: عنى بقوله: ( ) كفار قريش ( ) يعني به: الأنبياء الثمانية عشر الذين سماهم الله تعالى ذكره في الآيات قبل هذه الآية، وذلك أن الخبر في الآيات قبلها عنهم مضى، وفي التي بعدها عنهم ذكر، فما بينها بأن يكون خبرًا عنهم، أولى وأحق من أن يكون خبرًا عن غيرهم»16. وعلى كل حال لا يوجد ما يمنع من دخول الأنصار في المراد من الآية، والله أعلم.

وأشير إليهم أيضًا في قوله تعالى: ( ﭗﭘ ) [الأنفال: ٦٢].

أي: قواك بنصره، يريد: يوم بدر، وبالمؤمنين، قال النعمان بن بشير: نزلت في الأنصار ( ﭡﭢ ) [الأنفال: ٦٣].

أي: جمع بين قلوب الأوس والخزرج، وكانت تألف القلوب مع العصبية الشديدة في العرب من آيات النبي صلى الله عليه وسلم، ومعجزاته؛ لأن أحدهم كان يلطم اللطمة فيقاتل عليها حتى يستقيدها، وكانوا أشد خلق الله حمية، فألف الله بالإيمان بينهم، حتى قاتل الرجل أباه وأخاه بسبب الدين، وقيل: أراد التأليف بين المهاجرين والأنصار، والمعنى متقارب17.

ونزل فيهم قوله -جل وعلا-: ( ﭘﭙ ) [آل عمران: ١٢٢].

فعن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه قال: نزلت هذه الآية فينا: ( ) قال: نحن الطائفتان بنو حارثة وبنو سلمة، وما أحب أنها لم تنزل، والله يقول: ( ﭘﭙ) وقال سفيان مرةً: وما يسرني أنها لم تنزل؛ لقول الله: ( ) 18.

«وقال الحسـن البصري: هما طائفتان من الأنصار همتا بذلك، فعصمهما الله، وقيل: لما رجع عبـد الله ابن أبي في أصحابـه يوم أحد همت الطائفتان باتباعه، فعصمهما الله»19.

والمقصود أن الله تبارك وتعالى بين في هذه الآيات فضائل الأنصار التي بَيَنَها القرآن الكريم، فقد نص على مجموعة من صفاتهم الحميدة، ومنها:

١. سبق الأنصار إلى الإيمان والنصرة.

وصف الله الأنصار في القرآن الكريم بالسبق، فقال: ( ﭦﭧ ) [التوبة: ١٠٠].

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «ذهب جمهور العلماء إلى أن السابقين في قوله تعالى: ( ) [التوبة: ١٠٠].

هم هؤلاء الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا، وأهل بيعة الرضوان كلهم منهم، وكانوا أكثر من ألف وأربعمائة»20.

وبين ابن العربي رحمه الله الأمور التي يكون فيها السبق، فقال: «السبق يكون بثلاثة أشياء: الصفة، وهو الإيمان، والزمان، والمكان، وأفضل هذه الوجوه سبق الصفات، والدليل عليه قوله صلى الله عليه وسلم في الصحيح: (نحن الآخرون الأولون، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، وأوتيناه من بعدهم، فهذا يومهم الذي اختلفوا فيه، فهدانا الله له، فاليهود غدًا، والنصارى بعد غد)21»22.

وقال الرازي: «اختلفوا في السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار من هم؟ وذكروا وجوهًا. . . »، ثم قال: «والصحيح عندي أنهم السابقون في الهجرة وفي النصرة، والذي يدل عليه أنه ذكر كونهم سابقين، ولم يبين أنهم سابقون في ماذا؟ فبقي اللفظ مجملًا، إلا أنه وصفهم بكونهم مهاجرين وأنصارًا، فوجب صرف ذلك اللفظ إلى ما به صاروا مهاجرين وأنصارًا، وهو الهجرة والنصرة، فوجب أن يكون المراد منه السابقون الأولون في الهجرة والنصرة؛ إزالة للإجمال عن اللفظ... ثم قال: و أيضًا فالسبق إلى الهجرة طاعة عظيمة من حيث إن الهجرة فعل شاق على النفس، ومخالف للطبع، فمن أقدم عليه أولًا صار قدوة لغيره من هذه الطاعة، وكان ذلك مقويًا لقلب الرسول عليه الصلاة والسلام، وسببًا لزوال الوحشة عن خاطره، وكذلك السبق في النصرة، فإن الرسول عليه الصلاة والسلام لما قدم المدينة، فلا شك أن الذين سبقوا إلى النصرة والخدمة، فازوا بمنصب عظيم»23.

وما ذكر قبل من الأقوال هو من باب التمثيل، فيكون هذا من باب اختلاف التنوع، لا اختلاف التضاد؛ ولهذا قال الشوكاني رحمه الله: «ولا مانع من حمل الآية على هذه الأصناف كلها»24.

٢. رضوان الله عن الأنصار ورضاؤهم عنه.

أخبر سبحانه أنه رضي عن (المهاجرين) والأنصار وعن أفعالهم، ورضوا عنه سبحانه؛ لما أجزل لهم من الثواب على طاعاتهم وإيمانهم به ويقينهم، فقال تعالى: ( ) [التوبة: ١٠٠].

فقوله تعالى: ( ) يعم الكل، قال الزجاج: رضي الله أفعالهم، ورضوا ما جازاهم به25 فحين ذكر سبحانه وتعالى الجزاء الذي أعده لهؤلاء، وحين كانت نفوسهم زاكية راقية؛ قابلوا الجزاء بالشكر، والتزود من الطاعة، فذكر سبحانه أنهم: ( ) وهذا أرقى المراتب التي يسعى إليها المؤمنون، ويتنافس فيها المتنافسون، أن يرضى الله تعالى عنهم، ويرضيهم، يقول الطبري: «رضي الله عن جميعهم لما أطاعوه، وأجابوا نبيه إلى ما دعاهم إليه من أمره ونهيه، ورضي عنه السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان لما أجزل لهم من الثواب على طاعتهم إياه، وإيمانهم به وبنبيه عليه السلام»26.

ففي هذه الآية إخبار بأن الله رضي عنهم ورضوا عنه، وفي هذا دليل على عدالتهم، ووجه الدلالة: أن الله تعالى أخبر فيها برضاه عنهم، ولا يثبت الله رضاه إلا لمن كان أهلًا للرضا، ولا توجد الأهلية لذلك إلا لمن كان من أهل الاستقامة في أموره كلها، عدلًا في دينه.

يقول ابن كثير رحمه الله: «يخبر تعالى عن رضاه عن السابقين من المهاجرين والأنصار، والتابعين لهم بإحسان، ورضاهم عنه بما أعد لهم من جنات النعيم، والنعيم المقيم»27.

ويقول أيضًا: «فقد أخبر الله العظيم أنه قد رضي عن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، فيا ويل من أبغضهم أو سبهم، أو أبغض أو سب بعضهم»28.

وقال تعالى في جزاء هؤلاء السابقين: ( ) [التوبة: ١٠٠].

أي: وأعد لهم في الآخرة جنات تجري من تحت أشجارها وقصورها الأنهار، ( ) أي: مقيمين فيها من غير انتهاء، ( ) أي: ذلك هو الفوز الذي لا فوز وراءه.

قال في البحر: لما بين تعالى فضائل الأعراب المؤمنين بين حال هؤلاء السابقين، ولكن شتان ما بين الثناءين، فهناك قال: ( ) [التوبة: ٩٩].

وهنا قال: ( ) وهناك ختم ( ) [التوبة: ٩٩].

وهنا ختم: ( ) [التوبة: ١٠٠]29.

وهذا الرضوان للأنصار، وما أعد لهم من الجنات والنعيم، هو جزاء ما قدموه لهذا الدين، وما تركوا من دورهم وأهليهم، وجزاء ما أعطوه للمهاجرين من أموالهم؛ لأن الهجرة أمر شاق على النفس، لمفارقة الأهل والعشيرة، والنصرة منقبة شريفة؛ لأنها إعلاء كلمة الله، ونصر رسوله وأصحابه، والإحسان من أحوال المقربين أو مقاماتهم.

وفي هذه الآية ( ) [التوبة: ١٠٠] فوائد:

الأولى: في الآية دليل على أن للصحابة مراتب، وأن الفضل للسابق إلى الإسلام والهجرة، وأن السابقين من الصحابة أفضل ممن تلاهم.

الثانية: قيل: المراد بالسابقين الأولين جميع المهاجرين والأنصار، فـ(من) بيانية؛ لتقدمهم على من عداهم، وقيل: بعضهم، وهم قدماء الصحابة و(من) تبعيضية، وقد اختار كثيرون الثاني، واختلفوا في تعيينهم.

الثالثة: تقديم المهاجرين؛ لفضلهم على الأنصار، كما ذكر في قصة السقيفة، ومنه علم فضل أبي بكر رضي الله عنه على من عداه؛ لأنه أول من هاجر معه صلى الله عليه وسلم30.

الرابعة: وفيها دليل على تنزيل الناس منازلهم.

الخامسة: وفيها دليل على أن أفضلية العمل على قدر رجوع منفعته إلى الإسلام والمسلمين.

السادسة: رضا الله عن السابقين من المهاجرين والأنصار، والمعنى: أنه رضي عنهم بما عملوه من الطاعات الخالصة له، ورضوا عنه بما جازاهم به مما لا يخطر لهم على بال، ولا تتصوره عقولهم، والرضا منه سبحانه هو أرفع درجات النعيم، وأعلى منازل الكرامة.

٣. حب الأنصار للمهاجرين.

قد شهد الله تعالى لهم بذلك في قوله: ( ) [الحشر: ٩].

فمن جملة أوصاف الأنصار الجميلة أنهم: ( ) [الحشر: ٩].

وهذا لمحبتهم لله ولرسوله أحبوا أحبابه، وأحبوا من نصر دينه، وهذه المحبة هي آصرة أقوى من آصرة النسب، وأقوى من رابطة الدم؛ لأنها تجمع على الإيمان بالله واليوم الآخر؛ ولأنها تستل كل الأحقاد والضغائن من الصدور؛ ولأنها تجعل من محبة الفرد لأخيه المسلم طاعة يتقرب بها، وينال بها الأجر والثواب من الله عز وجل، ويحصل بها على المنازل الرفيعة في الآخرة.

وأن هذه الرابطة أقوى من رابطة الدم واللغة والمصالح الاقتصادية، والعلاقات المتبادلة، يقول سيد قطب في الكلام على هذه الآية: «وهذه كذلك صورة وضيئة صادقة تبرز أهم الملامح المميزة للأنصار، هذه المجموعة التي تفردت بصفات، وبلغت إلى آفاق، لولا أنها وقعت بالفعل، لحسبها الناس أحلامًا طائرة، ورؤًى مجنحة، ومثلًا عليا قد صاغها خيال محلق. . .، ولم يعرف تاريخ البشرية كله حادثًا جماعيًا كحادث استقبال الأنصار للمهاجرين بهذا الحب الكريم، وبهذا البذل السخي، وبهذه المشاركة الرضية، وبهذا التسابق إلى الإيواء واحتمال الأعباء، حتى ليروى أنه لم ينزل مهاجر في دار أنصاري إلا بقرعة؛ لأن عدد الراغبين في الإيواء المتزاحمين عليه أكثر من عدد المهاجرين»31.

وفي قوله تعالى: () الواو استئنافية و () مبتدأ، وخبره () والجملة مستأنفة.

وقوله: () [الحشر: ٩].

خبر عن اسم الموصول () والمعنى: يحبونهم من حيث مهاجرتهم إليهم لمحبتهم الإيمان؛ قال ابن كثير: «أي: من كرمهم وشرف أنفسهم يحبون المهاجرين، ويواسونهم بأموالهم»32.

وقوله: ( ) أي: إلى المدينة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه حال الأنصار، فقلوبهم مملوءة بالحب للمهاجرين، ولا يحملون في صدورهم شيئًا على إخوانهم المهاجرين؛ لكونهم فضلوا عليهم ببعض الفضائل.

قال القاسمي: وقوله: () أي: لوجود الجنسية -أي المجانسة- في الصفاء، والموافقة في الدين والإخاء، قال الشهاب: المراد بمحبتهم المهاجرين هنا مواساتهم، وعدم الاستثقال والتبرم منهم، إذا احتاجوا إليهم، فالمحبة كناية عما ذكر33.

ويقول العيني: «في قوله: ( ) [الحشر: ٩أي: من المسلمين، حتى بلغ من محبتهم أن نزلوا لهم عن نسائهم، وشاطروهم أموالهم ومساكنهم»34.

وفي مقابل هذا الحب منهم أحبهم المهاجرون، وأحبهم الرسول صلى الله عليه وسلم، حتى قال للأنصار: (والذي نفسي بيده إنكم أحب الناس إلي)35 مرتين.

بل جعل الرسول حبهم من دلائل الإيمان، كما في حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار)36.

ففي هذا الحديث دلالة أن حب المؤمن لقبيلة الأنصار شعبة من شعب الإيمان، وعلامة عليه، فلا يحبهم إلا مؤمن، وأن بغضهم وكرههم شعبة من شعب النفاق والكفر، فلا يبغضهم إلا منافق.

وعن البراء قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الأنصار لا يحبهم إلا مؤمن، ولا يبغضهم إلا منافق، فمن أحبهم أحبه الله، ومن أبغضهم أبغضه الله)37.

وليس المراد بالبغض في هذا الحديث البغض الناتج من العداء الشخصي لأفرادهم، وإنما المراد بغضهم بسبب الصفة التي مدحوا بها، وهي نصرتهم للنبي صلى الله عليه وسلم، فمن أبغضهم من جهة هذه الصفة، وهي: كونهم نصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم أثر ذلك في تصديقه، فيصح أنه منافق38.

وكذلك الحب يقال فيه مثل ما يقال في البغض.

وهذا الحب من الأنصار لإخوانهم المهاجرين دافعه وجه الله تعالى، ومعرفتهم فضل الأخوة في الله، ومكانتها في الدين، فالأخوة في الله مبدأ عظيم من مبادئ الإسلام، يقوم عليه الولاء والبراء، والحب والبغض.

وتجلت هذه الأخوة في أبهى صورها، وأجمل حللها، في تلك المواقف السمحة التي عامل بها الأنصار إخوانهم المهاجرين، وهذا التآخي لم يكن مجرد شعار للمزايدة، ودغدغة العواطف، والالتفاف حول المعاني السامية بالأكاذيب والتدليس والتلبيس، لكنه معنى خالط قلوبهم ومشاعرهم، ولحمهم ودمهم، برز ذلك في سلمهم وحربهم، وفقرهم وغناهم، مستضعفين وممكن لهم، أفرادًا وجماعات.

وهذا الأنموذج من الأخوة الصادقة حرص النبي صلى الله عليه وسلم عليه وأكده، وكان من أوائل الأمور التي قام بها بعد وصوله المدينة أن آخى بين المهاجرين والأنصار؛ ليذهب عن المسلمين المهاجرين وحشة الغربة، ويؤنسهم عن مفارقة الأهل والعشيرة، ويشد بعضهم أزر بعض.

٤. الإيثار عند الأنصار.

الإيثار من أعظم الصفات التي اتصف بها المجتمع الإسلامي؛ ولهذا يقول بعض المفكرين: بأن كلمة الإيثار يصعب ترجمتها إلى لغات أخرى، أي: ليس لها مرادف في اللغات الأخرى مرادف يؤدي معناها، ويحقق كل معانيها، وكأن هذه الخصلة هي من الخصال التي أتى بها هذا الدين الحنيف، وزكى غرسها، وحث عليها، ودعا إليها.

وأعظم الناس إيثارًا في التاريخ الإسلامي هم الأنصار، فقد جاءهم المهاجرون إلى المدينة وهم لا يملكون من أمر الدنيا شيئًا، قد تركوا أموالهم وما يملكون خلف ظهورهم، وأقبلوا على ما عند الله عز وجل، يرجون رحمته، ويخافون عذابه، فاستقبلهم الأنصار الذين تبوءوا الدار، وأكرموهم أيما إكرام، ولم يبخلوا عليهم بشيء من حطام الدنيا، بل قاسموهم الأموال والمتاع، وشاطروهم بيوتهم وأرضهم وأموالهم، بطيب نفس، وسلامة صدر، في صورة يعجز عن وصفها اللسان، ويضعف عن تعبيرها البيان، وقابل المهاجرون هذا الإيثار الرائع بحسن الخلق والتعفف.

وقد امتدح الله جل وعلا خلق الإيثار عند الأنصار، فقال: ( ﯽﯾ ﯿ ) [الحشر: ٩].

ففي قوله: ( ﯽﯾ) [الحشر: ٩].

أي: إن من أوصاف الأنصار التي فاقوا بها غيرهم، وتميزوا بها على من سواهم الإيثار، وهو أكمل أنواع الجود، وهو الإيثار بمحاب النفس من الأموال وغيرها، وبذلها للغير مع الحاجة إليها، بل مع الضرورة والخصاصة، وهذا لا يكون إلا من خلق زكي، ومحبة لله تعالى مقدمة على محبة شهوات النفس ولذاتها.

والمراد بقوله: () [الحشر: ٩].

أي: الأنصار، والإيثار لغة: مصدر من قولهم: آثره عليه يؤثره إيثارًا، بمعنى: فضله وقدمه، والمآثر: ما يروى من مكارم الإنسان، وفي التنزيل: ( ) [يوسف: ٩١]. وآثر أن يفعل كذا: فضل وقدم، وضده الأثرة من قولهم: استأثر بالشيء انفرد به، أو اختص به نفسه.

واصطلاحًا: قال القرطبي: «الإيثار: هو تقديم الغير على النفس في حظوظها الدنيوية؛ رغبة في الحظوظ الدينية، وذلك ينشأ عن قوة اليقين، وتوكيد المحبة، والصبر على المشقة»39.

وفي قوله: () [الحشر: ٩]. مفعول الإيثار محذوف، والتقدير: ويؤثرونهم بأموالهم ومنازلهم على أنفسهم.

جاء في البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أتى رجلٌ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، أصابني الجهد، فأرسل إلى نسائه فلم يجد عندهن شيئًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا رجل يضيف هذه الليلة يرحمه الله)، فقام رجل من الأنصار، فقال: أنا يا رسول الله، فذهب إلى أهله، فقال لامرأته: ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا تدخريه شيئًا، فقالت: والله ما عندي إلا قوت الصبية، قال: فإذا أراد الصبية العشاء فنوميهم، وتعالي فأطفئي السراج، ونطوي بطوننا الليلة، ففعلت، ثم غدا الرجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (لقد عجب الله عز وجل، أو ضحك من فلان وفلانة)، فأنزل الله عز وجل: ( ) [الحشر: ٩]40.

وفي رواية في البخاري أيضًا: (ضحك الله الليلة، أو عجب من فعالكما)، فأنزل الله: ( ﯽﯾ) [الحشر: ٩]41.

وجاء في سبب نزولها: أن رجلًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدي له رأس شاةٍ، فقال: إن أخي فلانًا وعياله أحوج إلى هذا، فبعث به إليه، فلم يزل يبعث به واحد إلى واحد، حتى تناولها سبعة أهل أبيات، حتى رجعت إلى أولئك، فنزلت هذه الآية.

وروي نحو هذه القصة عن أنس بن مالك قال: أهدي لبعض الصحابة رأس شاةٍ مشوي، وكان مجهودًا، فوجه به إلى جارٍ له فتناوله تسعة أنفس، ثم عاد إلى الأول، فنزلت هذه الآية42.

وذكر ابن جزي في سبب نزولها قصة الفيء، فقال: «وروي أن سبب هذه الآية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قسم هذه القرى على المهاجرين دون الأنصار، قال للأنصار: (إن شئتم قسمتم للمهاجرين من أموالكم ودياركم، وشاركتموهم في هذه الغنيمة، وإن شئتم أمسكتم أموالكم وتركتم لهم هذه)43، فقالوا: بل نقسم لهم من أموالنا، ونترك لهم هذه الغنيمة، وروي أيضًا أن سببها أن رجلًا من الأنصار أضاف رجلًا»44. وذكر القصة التي في البخاري.

وهذا ما رجحه الرازي، حيث قال: «وذكر المفسرون أنواعًا من إيثار الأنصار للضيف بالطعام، وتعللهم عنه حتى يشبع الضيف، ثم ذكروا أن الآية نزلت في ذلك الإيثار، والصحيح أنها نزلت بسبب إيثارهم المهاجرين بالفيء، ثم لا يمتنع أن يدخل فيها سائر الإيثارات»45.

قوله: ( ﯽﯾ) [الحشر: ٩]. الخصاصة: هي الفقر46.

والمعنى: ولو كان بهم حاجة وفاقة إلى ما آثروا به من أموالهم على أنفسهم، فبين أن هذا الإيثار ليس عن غنى، وعن المال، ولكنه عن حاجة وخصاصة، وهي: الفقر47.

وهذا هو واقع الأنصار، فهم مع ما هم عليه من الخصاصة -وهي الفاقة والفقر-، ومع شدة احتياجهم وافتقارهم إلى ما في أيديهم، حيث أن المهاجرين كانوا أهل تجارة، وكانوا أهل ثراء في أوطانهم في مكة، بينما الأنصار كانوا في الحقيقة أهل زراعة، وما كانوا بالثراء الذي كان عليه أهل مكة؛ ولذلك عبر عنهم القرآن بهذا التعبير: ( ﯽﯾ) [الحشر: ٩].

فلئن يقدم الإنسان حاجة غيره عليه وهو مستغنٍ عن تلك الحاجة فهذا لا يستغرب، ومع ذلك فإن الله تعالى قد أمر به في كتابه الكريم، حينما قال: ( ) [البقرة: ٢١٩].

أي: الزيادة، ما فضل عن نفقاتكم الضرورية اللازمة عليكم، لكن هذه المرتبة أعلى، وهي أن يجود الإنسان بما عنده لأخيه مع كونه محتاجًا إليه، شديد الاحتياج، شديد الرغبة فيه، فهذا المعنى هو الذي تتحدث عنه الآية.

وقوله: (ﯿ ) [الحشر: ٩].

قال الرازي: «واعلم أن الفرق بين الشح والبخل هو أن البخل نفس المنع، والشح هو الحالة النفسانية التي تقتضي ذلك المنع، فلما كان الشح من صفات النفس لا جرم قال تعالى: (ﯿ ) [الحشر: ٩48.

ووقاية شح النفس يشمل وقايتها الشح في جميع ما أمر به، فإنه إذا وقي العبد شح نفسه سمحت نفسه بأوامر الله ورسوله، ففعلها طائعًا منقادًا منشرحًا بها صدره، وسمحت نفسه بترك ما نهى الله عنه وإن كان محبوبًا للنفس، تدعو إليه، وتطلع إليه، وسمحت نفسه ببذل الأموال في سبيل الله، وابتغاء مرضاته، وبذلك يحصل الفلاح والفوز، بخلاف من لم يوق شح نفسه، بل ابتلي بالشح بالخير الذي هو أصل الشر ومادته.

فهذان الصنفان الفاضلان الزكيان هم الصحابة الكرام والأئمة الأعلام، الذين حازوا من السوابق والفضائل والمناقب ما سبقوا به من بعدهم، وأدركوا به من قبلهم، فصاروا أعيان المؤمنين، وسادات المسلمين، وقادات المتقين.

ووصف الله من يتصف بهذه الصفة بقوله: ( ) أي: الظافرون بما أرادوا، والمقصود بهم: الأنصار، ومن أتصف بهذه الصفات من غيرهم، والمفلحون: هم الفائزون بكل مطلوب، الناجون من كل مهروب، قال ابن كثير: أي: من سلم من الشح فقد أفلح وأنجح49.

«والفلاح: اسم لسعادة الدارين، والجملة اعتراض وارد لمدح الأنصار والثناء عليهم، فإن الأوصاف المذكورة في حقهم، فلهم جلائل الصفات، ودقائق الأحوال. . .، قال السهروردي في العوارف: السخاء صفة غريزية في مقابلة الشح، والشح من لوازم صفة النفس، حكم الله بالفلاح لمن يوقى الشح، أي: لمن أنفق وبذل، والنبي عليه الصلاة والسلام نبه بقوله: (ثلاث مهلكات، وثلاث منجيات) فجعل إحدى المهلكات (شحًا مطاعًا)50 ولم يقل: مجرد الشح يكون مهلكًا، بل إنما يكون مهلكًا إذا كان مطاعًا، فأما كونه موجودًا في النفس غير مطاع لا ينكر ذلك؛ لأنه من لوازم النفس، مستمد من أصل جبلتها الترابي، وفي التراب قبض وإمساك، وليس ذلك بالعجب من الآدمي، وهو جبلي فيه، وإنما العجب وجود السخاء في الغريزة»51.

وهكذا يصور القرآن الكريم هذا الوضع غير المسبوق في أبلغ عبارة وأجزلها، وتظهر الآيات الكريمة صدق الأخوة بين المهاجرين والأنصار، لا تلوثه أطماع، ولا حب دنيا، ولا أثرة، ولا شح أو حرص، ولا حاجة إنما هو أخوة تدور بين سلامة الصدر والإيثار، ولا شك أن المرء يقف مبهورًا أمام هذه الصورة الرائعة من الأخوة المتينة، والإيثار المتبادل، الذي لا نشهد له مثيلًا في تواريخ الأمم السابقة.

ولقد كان دافع الأنصار لهذا الإيثار هو رغبتهم فيما عند الله، وحبهم لإخوانهم المهاجرين؛ ولهذا صدر الله هذه الصفات للأنصار في هذه الآية بأنهم يحبون من هاجر إليهم، فالمحبة هي باعث هذا الإيثار؛ ولذلك لا يمكن أن تتصور الإيثار دون أن تتصور المحبة بين الناس، المحبة التي تنشأ في القلوب، ثم يتبع هذه المحبة رغبة صادقة في أن ينال الخير أخاك؛ ولذلك فلا يجد الواحد منهم غضاضة في نفسه أن يقدم إخوانه في الخير الذي لديه.

وكيف لا يؤثر الأنصار وقد بايعوا الرسول صلى الله عليه وسلم على الإيثار؟!

فقد جاء عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: (بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر، والمنشط والمكره، وعلى أثرة علينا، وعلى أن لا ننازع الأمر أهله)52.

فالسمع والطاعة في العسر واليسر، والمنشط والمكره: لهم معه، ومع الأئمة بعده، والأثرة: عدم منازعة الأمر مع الأئمة بعده خاصة.

ولو ذهبنا نلتمس الأسباب وراء هذا الإخاء والحب والإيثار فلن نجد إلا مسبب الأسباب، وأن ذلك كان بفضل الله ورحمته، لا بصنع بشر وحكمته وسياسته، وصدق الله حيث قال: ( ﭡﭢ ) [الأنفال: ٦٣].

فلم يلتق النبي صلى الله عليه وسلم بالأنصار إلا في سويعات تحت جنح الليل، واكتفى فيها بعرض الإسلام، وأخذ العهود والمواثيق، ولم يطل لقاؤه معهم قبل الهجرة حتى يكون هذا الذي فعلوه بسبب تربية النبي إياهم، وطول تعهده لهم كما فعل تجاه المهاجرين حتى كون منهم رجالًا، فلم يكن بين دخول الأنصار الإسلام وقيامهم بهذه المآثر إلا أقل من عام.

فالأنصار قوم اختارهم الله لصحبة نبيه، لقد فتحوا للمهاجرين قلوبهم قبل أن يفتحوا لهم بيوتهم، ووسعوهم بصدورهم قبل أن يسعوهم بأموالهم، وتسابقوا إلى لقائهم وإكرامهم، وضربوا في باب الإيثار، وسخاء النفس، وكرم الطبع مثلًا عليا، لا تزال تذكرها لهم الأجيال المتعاقبة، بالإكبار والإعظام.

٥. سلامة صدورهم.

أثنى الله على الأنصار بسبب سلامة صدورهم رضي الله عنهم، فقال: ( ) [الحشر: ٩].

فقوله: ( ) [الحشر: ٩]. الضمير في (يجدون) للأنصار، قال ابن العربي: «قال الخلق بأجمعهم: يريد بذلك الأنصار الذين آووا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين طرد، ونصروه حين خذل، فلا مثل لهم، ولا لأجرهم»53.

وقوله: () أي: حزازة وغيظًا وحسدًا، قال الشوكاني في فتح القدير: ( ) [الحشر: ٩]. «أي: لا يجد الأنصار في صدورهم حسدًا وغيظًا وحزازةً»54.

وفي الكلام مضاف محذوف: أي لا يجدون في صدورهم مس حاجة، أو أثر حاجة، وكل ما يجده الإنسان في صدره مما يحتاج إليه فهو حاجة55.

وقوله: ( ) أي: مما أعطوا، والضمير للمهاجرين، والمراد (فيما أوتوه) هو مال الفيء، حيث قسم النبي صلى الله عليه وسلم أموال بني النضير بين المهاجرين، ولم يعط من الأنصار غير ثلاثة نفر، كانت بهم حاجة، فطابت أنفس الأنصار بتلك القسمة، أو يكون المراد (فيما أوتوه) هو: الفضل والتقدم56.

قال شيخ الإسلام في الفتاوى: «وبهذا أثنى الله تعالى على الأنصار، فقال: ( ) [الحشر: ٩].

أي: مما أوتي إخوانهم المهاجرون، قال المفسرون: لا يجدون في صدورهم حاجة أي: حسدًا وغيظًا، مما أوتي المهاجرون، ثم قال بعضهم: من مال الفيء، وقيل: من الفضل والتقدم»57.

يعني: لا يحسدون المهاجرين على ما خصوا به من مال الفيء وغيره، ويحتمل أن يريد به: ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا إذا كان قليلًا، بل يقنعون به، ويرضون عنه، وقد كانوا على هذه الحال حين حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم كانوا عليه بعد موته صلى الله عليه وسلم.

وقد أنذرهم النبي صلى الله عليه وسلم قائلًا: (سترون بعدي أثرة، فاصبروا حتى تلقوني على الحوض)58 59.

فالأنصار لا يجدون في صدورهم حاجة مما خصص به المهاجرون من الفيء، ولا يحسدونهم على ذلك، ولا يعترضون بقلوبهم على حكم الله بتخصيص المهاجرين حتى لو كانت بهم حاجة، أو اختلال أحوال60.

وعلى هذا ففي الآية بيان حال الأنصار، وأنهم لا يحسدون المهاجرين على ما آتاهم الله من فضله، وخصهم به من الفضائل والمناقب التي هم أهلها، وهذا يدل على سلامة صدورهم، وانتفاء الغل والحقد والحسد عنهم.

ويدل ذلك أيضًا على أن المهاجرين أفضل من الأنصار؛ لأن الله قدمهم بالذكر، وأخبر أن الأنصار لا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا، فدل على أن الله تعالى آتاهم ما لم يؤت الأنصار ولا غيرهم؛ لأنهم جمعوا بين النصرة والهجرة.

ثانيًا: أبرز أعمال الأنصار:

الأنصار: ما أجملها من كلمة! إنها كلمة تحمل معاني شريفة جليلة، اتصف بها قوم ضرب بهم المثل في الكمال الإنساني، إنها علمٌ على قوم عملوا أعمالًا استحقوا بها أن يكونوا من أنصار الرسول الكريم.

ومن أبرز هذه الأعمال:

١. الإيواء والنصرة.

لما هاجر المسلمون من مكة هجروا المحبوبات والمألوفات من الديار والأوطان والأحباب والخلان والأموال، وتجردوا من كل شيء إلا من الإيمان؛ رغبةً في الله، ونصرةً لدين الله، ومحبةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فوصلوا إلى أرضٍ جديدة، وواقعٍ مختلف، وكان من أثر هذه الرحلة نشوء عدد من المشكلات الجديدة، ليس أقلها: الشعور بالغربة، ومفارقة الأهل والديار، وترك معظم الأموال والممتلكات في مكة، وطبيعة الوضع المعيشي والاقتصادي الجديد، أضف إلى ذلك الآثار الصحية والبدنية التي أحدثها الانتقال المفاجئ إلى بيئةٍ أخرى؛ مما أدى إلى ظهور الأمراض في صفوفهم كالحمى وغيرها، كل هذا ترك في أنفسهم وحشة وغربة، حتى أصبح وضعهم يحتاج إلى حل عاجل وسريع.

فترجم الأنصار ما تعاقدوا عليه من أقوال في البيعتين إلى جملة أفعال، حيث فتح الأنصار أبواب بيوتهم وقلوبهم، واستعدوا لاحتضان من جاءهم مهاجرًا تحت ظاهرة عظيمة من التكافل الاجتماعي، فحوى المسكن الواحد تحت سقفه الأنصاري والمهاجر، وهم يتقاسمون كل شيء المسكن والمال والطعام.

فلم يعرف تاريخ البشرية حادثًا جماعيًا كحادث استقبال الأنصار للمهاجرين بهذا الحب الكريم، وبهذا البذل السخي، وبهذه المشاركة الرضية، وبهذا التسابق إلي الإيواء، واحتمال الأعباء، حتى ليروى أنه لم ينزل مهاجر في دار أنصاري إلا بقرعة؛ لأن عدد الراغبين في الإيواء المتزاحمين عليه أكثر من عدد المهاجرين، وهم لا يجدون في أنفسهم شيئًا من حسد، أو ضيق من هذا، والإيثار على النفس مع الحاجة قيمة عليا، وقد بلغ بها الأنصار مبلغًا لم تشهد له البشرية نظيرًا.

وهنا ظهر دور الأنصار الذين أبدوا من التضحية وضروب الإيثار ما استحق التخليد في كتاب الله.

قال الله تعالى عنهم: ( ﭿ ) [الأنفال: ٧٢].

وقال تعالى: ( ﯨﯩ ) [الأنفال: ٧٤].

فجمع الله تعالى في هاتين الآيتين الذين كانوا دعامة الإسلام، وعليهم هدى الرسول قام بنيانه، وشيدت أركانه، وهم المهاجرون والأنصار، فالمهاجرون ابتدأ بهم تكوين الجماعات الأولى التي صبرت وصابرت، وتلقت الصدمة الأولى من المشركين.

والأنصار وهم الذين آووا ونصروا، وأعزوا كلمة التوحيد، وأغلوها وأعلوها، فإذا كان المهاجرون هم الذين أظلوا شجرة الإسلام ابتداءً، فالأنصار هم الذين حموا ثمرتها، وقامت دولة الإسلام في أرضهم وحراستهم، وإذا كان المهاجرون قد لاقوا العنت في مكة فقد لقوا الإيواء في المدينة.

وإذا كانوا هم دعامة الإسلام فالأنصار دولته، وفي رحابهم قامت المدينة الفاضلة التي أقامها محمد صلى الله عليه وسلم في ديارهم، وإذا كان المهاجرون قد جاهدوا ابتداءً بالصبر والمصابرة، فقد كان جهادهم في المدينة مع إخوانهم الأنصار بذلك وبالقتال في المدينة، والفريقان اختارهم الله للتأليف حتى تكونت منهم أطهر جماعة رأتها الإنسانية وأقواها.

فبعد أن ذكر الله تعالى هنا في الآيتين الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، عقب بذكر الأنصار، وهم الذين آووا ونصروا.

فقال: ( ) [الأنفال: ٧٤]. المراد: بهم الأنصار، أي: وطنوا المهاجرين، وأنزلوهم منازلهم، وبذلوا إليهم أموالهم، وآثروهم على أنفسهم، ونصروهم على أعدائهم61.

فإذا كانوا قد نقصوا عن إخوانهم -المهاجرين- فضل الهجرة، فقد عوضوا عن ذلك بفضل الإيواء والنصرة62.

حيث استقبل الأنصار المهاجرين، فشاطروهم المال والديار؛ بكرم وسخاء، وضربوا مثلًا رائعًا في التكافل، وبناء الجماعة المسلمة، وآووا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنعوه من الأحمر والأسود، وتبوءوا دار الهجرة والإيمان، حتى صارت موئلًا ومرجعًا يرجع إليه المؤمنون، ويلجأ إليه المهاجرون، ويسكن بحماه المسلمون؛ إذ كانت البلدان كلها بلدان حرب وشرك وشر.

فلم يزل أنصار الدين يأوون إلى الأنصار، حتى انتشر الإسلام وقوي، وجعل يزيد شيئًا فشيئًا، وينمو قليلًا قليلًا، حتى فتحوا القلوب بالعلم والإيمان والقرآن، والبلدان بالسيف والسنان.

وقوله في الآية: () أي: نصروا الرسول وأصحابه على أعدائهم الكفار، وما سموا بالأنصار إلا لذلك؛ ولقد قال حسان رضي الله عنه في مدح الأنصار أنهم ما سموا أنصارًا إلا لنصرتهم الدين63:

سماهم الله أنصارًا بنصرهم

دين الهدى وعوان الحرب تستعر

وسارعوا في سبيل الله واعترفوا

للنائبات وما خافوا وما ضجروا

وقد ذكر الله تعالى هذه الصفة وهي (النصرة) في آيتين، فقال: ( ﯨﯩ ) [الأنفال: ٧٤]. وقال تعالى: ( )[الأنفال: ٧٢].

والنصرة في المدلول القرآني واللغوي والتاريخي بمعنى: العون، والظفر، والمنع، والانتقام، والانتصار، وشد الأزر، ولقد شرف الله سبحانه وتعالى المسلمين الأول بشرف لا يدانيه شرف، حيث أجزل لهم الثواب، وأحسن لهم المدح والثناء في أعظم كتاب، وخص كلًا من الفريقين المتآخيين (المهاجرين والأنصار) بعمل عظيم جليل، ناداهم به فسموا مهاجرين وأنصارًا، وما ذلك إلا للهجرة والنصرة، فالهجرة كانت إعلانًا للدولة، وانتقالًا لدار الإسلام، والنصرة هي التي هيأت للهجرة ولوجود دار الإسلام، فكيف يغفل أحد من المسلمين عن فضل الهجرة أو النصرة، وهو يتلو كتاب الله الذي يذكر المهاجرين والأنصار وفضلهما؟!

وكانت هذه النصرة وفاء منهم لمبايعة النبي صلى الله عليه وسلم لهم في بيعة العقبة الثانية، حيث ثبت أنه قال لهم: (أبايعكم على أن تمنعوني -إذا قدمت عليكم- مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم، ولكم الجنة)64. فبايعوه على النصرة والمنعة، فقام منهم اثني عشر نقيبًا كفلاء على قومهم، ثم استمر الحال حتى أذن الله للمسلمين بالهجرة، وقامت أول دولة للمسلمين65.

ونلحظ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يطلب النصرة لأمرين مهمين في غاية الأهمية:

أولهما: حماية الدعوة، حتى تسير بين الناس محمية الجانب، بعيدة عن الإساءة إلى أتباعها.

ثانيهما: إيجاد مكان آمن لدولته صلى الله عليه وسلم القادمة؛ ليتسلم خلالها مقاليد الحكم والسلطان على وفق مقتضيات النبوة على أساس الدعوة.

وختم الله تعالى الآية الأخرى بقوله: ( )[الأنفال: ٧٢]]. أي: إن هاتين الفرقتين (المهاجرين والأنصار) بعضهم أنصار بعض، وأعوان على من سواهم من المشركين، وأيديهم واحدة على من كفر بالله، وبعضهم إخوان لبعض دون أقربائهم الكفار.

وقد قيل: إنما عنى بذلك أن بعضهم أولى بميراث بعض، وأن الله ورث بعضهم من بعض بالهجرة والنصرة دون القرابة والأرحام، وأن الله نسخ ذلك بعد، بقوله: ( ﯿ ) [الأنفال: ٧٥] وهذا القول لأبن عباس رضي الله عنه 66.

قال الشوكاني: «أي: بعضهم أولياء بعض في النصرة والمعونة، وقيل المعنى: إن بعضهم أولياء بعض في الميراث، وقد كانوا يتوارثون بالهجرة والنصرة، ثم نسخ ذلك بقوله سبحانه: ( ﯿ ) [الأنفال: ٧٥67.

فالولاية محبة ومودة ومناصرة، وقد اجتمعت كل هذه الأحوال في ولاية المؤمنين المهاجرين والأنصار، فقد اجتمعت فيهم المودة فتوادوا وتحابوا، وتناصروا وجاهدوا جميعًا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، ولقد جمعت المؤاخاة معنى المودة والمحبة والإيثار، وجمع الجهاد معنى النصر والتبعات بالجهاد في سبيل الله68.

وقد ذكر الله بعد ذلك شأن الذين يهاجرون ويؤمنون من بعد، فقال: ( ﯷﯸ ﯿ ﰀﰁ )[الأنفال: ٧٥].

فهذا يدل على أن باب الإيمان مفتوح، وباب الهجرة مفتوح، وميدان الجهاد متسع للجميع، فلم يغلق على المجاهدين الأولين من المهاجرين والأنصار فقط، بل هو مفتوح، وهذه الآية الكريمة تلحق الذين يؤمنون من بعد ويهاجرون بالأولين الذين هم المؤمنون حقًا.

وإذا كان هذا الوصف (النصرة) في الأنصار، فالمهاجرون من باب أولى، فهم أنصار في المعنى، فمعنى النصرة حاصل للكل، ومن الكل، فهم قد هجروا ديارهم وأموالهم، كما قال تعالى: ( ) [الحشر: ٨].

وأثنى عليهم بأنهم يطلبون فضلًا من الله ورضوانًا، فقال: ( ) وأثبت لهم صفة النصرة، فقال: ( ) وأثنى عليهم بالصدق، فقال: ( ) فرضي الله عن المهاجرين والأنصار ومن تبعهم بإحسان.

فضائل الأنصار

عرض القرآن الكريم فضائل الأنصار وهذا ما سنبينه فيما يأتي:

أولًا: وصفهم بالإيمان الحق:

وصف الله تعالى الأنصار بالإيمان الحق، فقال سبحانه: ( ﯨﯩ ) [الأنفال: ٧٤].

فقوله: ( ﯨﯩ) الإشارة إلى السابقين الأولين (من المهاجرين والأنصار) والإشارة إلى الموصوف إشارة إلى أوصافه، وجعلها مناط الحكم، أي: أولئك الذين هاجروا بعد الإيمان، وجاهدوا في سبيل الله، والذين آووا ونصروا هم المؤمنون حقًا، أي: إيمانًا ثابتًا صادقًا حقًا، تلاقت أقوالهم وقلوبهم وأعمالهم69.

فسبق منهم هجرة وجهاد، وإيواء ونصرة، وهذا هو الإيمان الحق، وفي الكلام قصر، أي: من كانوا على هذه الصفات هم وحدهم المؤمنون حقًا، أي: لا مؤمنون حقًا غيرهم، ومن هم على صفاتهم.

وفي هذه الآية وصفٌ لعموم المهاجرين والأنصار بالإيمان الحق، فجمع الله فيها الفضل لفريقي الصحابة، وهم المهاجرون والأنصار، من هاجر، ومن آوى، فاستوى الأنصار مع المهاجرين في عامل النصرة، وفي صدق الإيمان، فشهد لهم بحقيقة الإيمان، ووعدهم بالمغفرة والرزق الواسع، ومن شهد الله له بهذه الشهادة، فقد بلغ أعلى مرتبة العدالة.

ثم قال: ( ) [الأنفال: ٧٤]. ذكر الله تعالى هنا ما كتب لهم من خيري الدنيا والآخرة، وهذا يتضمن جزاءين:

أولهما: المغفرة السابقة، ووراءها الرحمة والنعيم المقيم.

ثانيهما: رزق كريم واسع في الدنيا بعد المشقة التي تحملوها، وهذا شأن المهاجرين الذين آمنوا، وشأن الأنصار الذين آووا ونصروا70.

فيكون الله قد أثنى عليهم ها هنا من ثلاثة أوجه:

أولها: قوله: ( ﯨﯩ) فقوله: ( ﯨﯩ) يفيد الحصر، وقوله: (ﯨﯩ) يفيد المبالغة في وصفهم بكونهم محقين محققين في طريق الدين، وقد كانوا كذلك؛ لأن من لم يكن محقًا في دينه لم يتحمل ترك الأديان السالفة، ولم يفارق الأهل والوطن، ولم يبذل النفس والمال، ولم يكن في هذه الأحوال من المسارعين المسابقين.

وثانيها: قوله: ( ) والتنكير يدل على الكمال، أي: مغفرة تامة كاملة.

وثالثها: قوله: ( ) والمراد منه: الثواب الرفيع الشريف71.

وعن السائب بن يزيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا معشر الأنصار، ألم يمن الله عليكم بالإيمان، وخصكم بالكرامة، وسماكم بأحسن الأسماء: أنصار الله، وأنصار رسوله؟!)72.

فالأنصار إذن حازوا شرفين: شرف سبقهم إلى الإيمان، وشرف استضافتهم للإيمان وأهله في أرضهم.

ومدحهم بأنهم أناس سكنوا الإيمان، وسكن الإيمان في قلوبهم، فقال: ( ) [الحشر: ٩].

فقوله: () الأظهر أن (الذين) هنا عطف على (المهاجرين) -في الآية السابقة-، أي: والذين تبوءوا الدار هم الأنصار73.

وقوله: ( ) من مادة (بواء) على وزن (دواء) وهي في الأصل بمعنى تساوي أجزاء المكان، وبعبارة أخرى يقال: (بواء) لترتيب وتسوية مكان (ما) وفي هذا التعبير كناية لطيفة لهذا المعنى، وهو أن طائفة الأنصار -أهل المدينة- قد هيئوا الأرضية المناسبة للهجرة.

وقوله: () الدار تطلق على البلاد، وأصلها: موضع القبيلة من الأرض، وأطلقت على القرية.

قال تعالى في ذكر ثمود: ( ) [الأعراف: ٧٨].

أي: في مدينتهم، وهي حجر ثمود، والتعريف هنا للعهد؛ لأن المراد بالدار: المدينة النبوية، والمعنى: الذين هم أصحاب الدار74، أي: دار الهجرة مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد تبوأها الأنصار قبل المهاجرين، كما تبوءوا فيها الإيمان، وكأنه منزل لهم ودار، وهو تعبير ذو ظلال، وهو أقرب ما يصور موقف الأنصار من الإيمان، لقد كان دارهم ونزلهم ووطنهم الذي تعيش فيه قلوبهم، وتسكن إليه أرواحهم، ويثوبون إليه، ويطمئنون له، كما يثوب المرء ويطمئن إلى الدار.

وفي قوله: () هذا تشريف للمدينة، حيث سماها الله الدار، فكأنها هي دار الإيمان؛ لأن الإيمان أوى إليها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها)75.

فالتعريف في () للتنويه كأنها الدار التي تستحق أن تسمى دارًا، وهي التي أعدها الله تعالى لهم؛ ليكون تبوؤهم إياها مدحًا لهم.

وذكر بعضهم أن الدار علمٌ بالغلبة على المدينة، كالمدينة، وأنه أحد أسمائها، ومنها: طيبة، وطابة، ويثرب، وجابرة76.

وفي ذكر الدار -وهي المدينة- مع ذكر الإيمان إيماء إلى فضيلة المدينة، بحيث جعل تبوؤهم المدينة قرين الثناء عليهم بالإيمان، ولعل هذا هو الذي عناه مالك -رحمة الله- فيما رواه عنه ابن وهب قال: سمعت مالكًا يذكر فضل المدينة على غيرها من الآفاق، فقال: إن المدينة تبوأت بالإيمان والهجرة، وإن غيرها من القرى افتتحت بالسيف. ثم قرأ: ( ) [الحشر: ٩]الآية77.

وجاء عنه صلى الله عليه وسلم: (أمرت بقرية تأكل القرى)78 .

والمقصود: المدينة، أي: يغلب أهلها، وهم الأنصار بالإسلام على غيرها من القرى، وينصر الله دينه بأهلها، ويفتح القرى عليهم، ويغنمهم إياها فيأكلونها79.

وقوله: () [الحشر: ٩]أي: سكنوا الإيمان، والإيمان لا يسكن، وإنما شبه الإيمان كأنه دار سكنوها؛ لأن الدار يستقر فيها الإنسان، فهؤلاء الأنصار سكنوا الإيمان، بمعنى: استقر الإيمان في قلوبهم، والإنسان يلازم داره، بمعنى: يستقر ويطمئن ويستريح فيه، وهؤلاء لازموا الإيمان كملازمة الإنسان لمسكنه، وهذه شهادة لهم بالإيمان -رضي الله تعالى عنهم-، فهم مؤمنون صادقون، استقر الإيمان في قلوبهم.

قال ابن جزي: «فإن قيل: كيف قال: تبوءوا الدار والإيمان، وإنما تتبوأ الدار، أي: تسكن ولا يتبوأ الإيمان؟

فالجواب من وجهين:

الأول: أن معناه تبوءوا الدار، وأخلصوا الإيمان، فهو كقولك:

علفتها تبنًا وماء باردًا80.

تقديره: علفتها تبنًا، وسقيتها ماء باردًا.

والثاني: أن المعنى: أنهم جعلوا الإيمان كأنه موطن لهم؛ لتمكنهم فيه، كما جعلوا المدينة كذلك»81.

فيكون في عطف الإيمان على الدار ستة أوجه:

أحدها: أنه ضمن () معنى: لزموا، فيصح عطف الإيمان عليه؛ إذ الإيمان لا يتبوأ.

الثاني: أنه منصوب بمقدر، أي: واعتقدوا، أو وألفوا، أو وأحبوا، أو وأخلصوا؛ كقوله:

علفتها تبنًا وماءً باردًا

وقوله:

متقلدًا سيفًا ورمحا 82

أي: وحاملًا رمحًا.

الثالث: أنه يتجوز في الإيمان، إن الإيمان مجاز عن المدينة، سمي محل ظهور الشيء باسمه مبالغة، فيجعل اختلاطه بهم وثباتهم عليه كالمكان المحيط بهم، فكأنهم نزلوه، وعلى هذا فيكون جمع بين الحقيقة والمجاز في كلمة واحدة، وفيه خلاف مشهور.

الرابع: أن يكون الأصل: دار الهجرة ودار الإيمان، فأقام (لام) التعريف في (الدار) مقام المضاف إليه، وحذف المضاف من دار الإيمان، ووضع المضاف إليه مقامه.

الخامس: أن يكون سمى (المدينة)؛ لأنها دار الهجرة ومكان ظهور الإيمان.

السادس: أنه منصوب على المفعول معه (الواو للمعية) أي: مع الإيمان معًا، والمراد تبوءوا الدار مع إيمانهم، أي: تبوءوها مؤمنين83.

والضمير في قوله: ( ) [الحشر: ٩].

للمهاجرين، والجار متعلق بتبوء، أي: من قبل أن يهاجر المهاجرون إليهم، وقد أسلم كثير من الأنصار قبل المهاجرين، لكن المقصود -والله وأعلم- بقوله: ( ) [الحشر: ٩] أي: من قبل أن يهاجر المهاجرون، وأن الأنصار أسلم كثير من كبارهم وسادتهم على يد مصعب بن عمير رضي الله عنه قبل أن يهاجر كثير من المهاجرين -رضي الله تعالى عنهم-، وقبل أن تصبح المدينة دار الهجرة التي أوى إليها النبي عليه الصلاة والسلام، فكثير من الأنصار كان قد أسلم، ودخل الإيمان في قلوبهم، واستقر على يد مصعب بن عمير رضي الله عنه، فهو من فتح الله به المدينة المنورة بدعوته إلى الله، وسلوكه الطيب، حتى ما بقي بيت من بيوت المدينة إلا ودخله الإيمان.

وقد أورد ابن جزي إشكالًا، وأجاب عليه، حيث قال: «فإن قيل: قوله: ( ) [الحشر: ٩].

يقتضي أن الأنصار سبقوا المهاجرين بنزول المدينة وبالإيمان، فأما سبقهم لهم بنزول المدينة فلا شك فيه؛ لأنها كانت بلدهم، وأما سبقهم لهم بالإيمان فمشكل؛ لأن أكثر المهاجرين أسلم قبل الأنصار.

قال: والجواب من وجهين:

أحدهما: أنه أراد بقوله: ( ) [الحشر: ٩] من قبل هجرتهم.

والآخر: أنه أراد تبوءوا الدار مع الإيمان معًا، أي: جمعوا بين الحالتين قبل المهاجرين؛ لأن المهاجرين إنما سبقوهم بالإيمان لا بتبوء الدار، فيكون الإيمان على هذا مفعولًا معه، وهذا الوجه أحسن؛ لأنه جواب عن هذا السؤال، وعن السؤال الأول فإنه إذا كان الإيمان مفعولًا معه لم يلزم السؤال الأول؛ إذ لا يلزم إلا إذا كان الإيمان معطوفًا على الدار»84.

وجعل الألوسي ذلك من قبل تقدير مضاف، حيث قال: «والكلام بتقدير مضاف، أي: من قبل هجرتهم، فنهاية ما يلزم سبق الإيمان الأنصار على هجرة المهاجرين، ولا يلزم منه سبق إيمانهم على إيمانهم؛ ليقال: إن الأمر بالعكس، وجوز أن لا يقدر مضاف، ويقال: ليس المراد سبق الأنصار لهم في أصل الإيمان، بل سبقهم إياهم في التمكن فيه؛ لأنهم لم ينازعوا فيه لما أظهروه.

وقيل: الكلام على التقديم والتأخير، والتقدير: تبوءوا الدار من قبلهم والإيمان، فيفيد سبقهم إياهم في تبوء الدار فقط، وهو خلاف الظاهر، على أن مثله لا يقبل ما لم يتضمن نكتة سرية، وهي غير ظاهرة ها هنا؛ وقيل: لا حاجة إلى شيء مما ذكر، وقصار ما تدل الآية عليه تقدم مجموع تبوء الأنصار وإيمانهم على تبوء المهاجرين وإيمانهم، ويكفي في تقديم المجموع تقدم بعض أجزائه، وهو ها هنا تبوء الدار، وتعقب بمنع الكفاية، ولو سلمت لصح أن يقال: بتقدم تبوء المهاجرين وإيمانهم على تبوء الأنصار وإيمانهم؛ لتقدم إيمان المهاجرين»85.

ووصف الله الأنصار أيضًا بالإيمان والاستجابة لله، كما جاء في تفسير قوله تعالى: ( ) [الشورى: ٣٨].

أنها نزلت في الأنصار، حين دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإيمان، فاستجابوا له؛ أي: لرسول الله من صميم القلب، كما هو المفهوم من إطلاق الاستجابة، وفيه إشارة إلى أن الاستجابة للرسول استجابة للمرسل، فهو من عطف الخاص على العام لمزيد التشريف، وذلك لأن الاستجابة داخلة في الإيمان86.

قال الألوسي: ( ) [الشورى: ٣٨].

قيل: نزلت في الأنصار، دعاهم الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم للإيمان به وطاعته سبحانه، فاستجابوا له، فأثنى عليهم -جل وعلا- بما أثنى، وعليه فهو من ذكر الخاص بعد العام؛ لبيان شرفه؛ لأيمانهم دون تردد وتلعثم، والآية إن كانت مدنية فالأمر ظاهر، وإذا كانت مكية فالمراد بالأنصار من آمن بالمدينة قبل الهجرة، أو المراد بهم أصحاب العقبة87.

وقال الشوكاني: «قال ابن زيد: هم الأنصار بالمدينة استجابوا إلى الإيمان بالرسول حين أنفذ إليهم اثني عشر نقيبًا منهم قبل الهجرة، وأقاموا الصلاة لمواقيتها بشروطها وهيئاتها»88.

ووصف الله الأنصار بالإيمان والعمل الصالح، كما جاء عن ابن عباس في قوله: ( ) [محمد: ٣٤]. قال: هم أهل مكة، ( ) [محمد: ٢]. قال: هم أهل المدينة الأنصار ( ) [محمد: ٢]. قال: أمرهم89.

ووصفوا بأنهم رجال؛ وسماهم الله رجال، فقال: ( ﭯﭰ ﭻﭼ ﭿ ﮁﮂ ) [التوبة: ١٠٨].

فقد جاء ما يدل أنها نزلت في الأنصار، فعن أبي أيوب وجابر وأنس رضوان الله عليهم أن هذه الآية حين نزلت: ( ﭿ ﮁﮂ ) [التوبة: ١٠٨].

قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا معشر الأنصار إن الله قد أثنى عليكم في الطهور، فما طهوركم؟) قالوا: نتوضأ للصلاة، ونغتسل من الجنابة، ونستنجي بالماء، قال: (فهو ذاك، فعليكموه)90.

وعن موسى بن أبي كثير قال: بدء حديث هذه الآية في رجال من الأنصار، من أهل قباء91.

وقوله: ( ﭿ ﮁﮂ) [التوبة: ١٠٨].

أي: من الأحداث والجنابات والنجاسات...، وقالوا: المراد منه: الطهارة بالماء بعد الحجر، وقيل: المراد منه: الطهارة من الذنوب والمعاصي، وقيل: محمول على الأمرين92.

فتكون جملة: ( ﭿ ﮁﮂ) ثناء على مؤمني الأنصار الذين يصلون بمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبمسجد قباء، وجاء الضمير مفردًا مراعاة للفظ (مسجد) الذي هو جنس93.

ثانيًا: توبة الله على الأنصار، وتجاوزه عن تقصيرهم:

قال تعالى: ( ﯯﯰ ) [التوبة: ١١٧].

نزلت هذه الآية في غزوة تبوك التي كانت قبل الشام، وكان فيها جيش العسرة من المهاجرين والأنصار، ومن غيرهم من القبائل التي حول المدينة ومكة، ولكنهم خصوا بالثناء والتوبة؛ لأنهم لم يترددوا، ولم يتثاقلوا، ولا شحوا بأموالهم، فكانوا أسوة لمن ائتسى بهم من غيرهم من القبائل94.

ففي قوله: ( ) خبر مؤكد بلام القسم على حرف التحقيق (قد) بين فيه تعالى فضل عطفه على نبيه وأصحابه المؤمنين الصادقين من المهاجرين والأنصار، وتجاوزه عن هفواتهم في هذه الغزوة، وفي غيرها لاستغراقها في حسناتهم الكثيرة على كونهم لا يصرون على شيء منها، وإنما كانت هفواتهم هذه مقتضى الطباع البشرية، واجتهاد الرأي فيما لم يبينه الله تعالى بيانًا قطعيًا يعد مخالفه عاصيًا.

يقول ابن عاشور: «وافتتاح الله هذه الآية بحرف التحقيق (لقد)؛ تأكيدًا لمضمونها المتقرر فيما مضى من الزمان، حسبما دل عليه الإتيان بالمسندات كلها أفعالًا ماضية.

ومن المحسنات افتتاح هذا الكلام بما يؤذن بالبشارة لرضا الله على المؤمنين الذين غزوا تبوك، وتقديم النبي صلى الله عليه وسلم في تعلق فعل التوبة بالغزاة؛ للتنويه بشأن هذه التوبة، وإتيانها على جميع الذنوب؛ إذ قد علم المسلمون كلهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد غفر الله ما تقدم من ذنبه وما تأخر»95.

وهذه التوبة التي تابها الله على النبي والمهاجرين والأنصار -كما قال ابن عباس-: كانت التوبة على النبي لأجل إذنه للمنافقين في القعود، ودليله قوله: ( ) [التوبة: ٤٣].

وعلى المؤمنين من ميل قلوب بعضهم إلى التخلف عنه، وقيل: توبة الله عليهم استنقاذهم من شدة العسرة.

وقيل: خلاصهم من نكاية العدو، وعبر عن ذلك بالتوبة وإن خرج عن عرفها لوجود معنى التوبة فيه، وهو الرجوع إلى الحالة الأولى96.

يقول شيخ المفسرين الطبري: «يقول تعالى ذكره: لقد رزق الله الإنابة إلى أمره وطاعته نبيه محمدًا، والمهاجرين ديارهم وعشيرتهم إلى دار الإسلام، وأنصار رسوله في الله الذين اتبعوا رسول الله في ساعة العسرة منهم من النفقة والظهر والزاد والماء»97.

فيكون معنى توبته على النبي أي: بإذنه للمنافقين بالتخلف عنه98.

وقال أهل المعاني: هو مفتاح كلام، وذلك أنه لما كان سبب توبة التائبين ذكر معهم، كقوله: ( ) [الأنفال: ٤١]99.

وهذه التوبة على المهاجرين والأنصار في ساعة العسرة سببها كما قال الرازي: «ربما وقع في قلوبهم نوع نفرة عن تلك السفرة، وربما وقع في خاطر بعضهم أنا لسنا نقدر على الفرار، ولم يعزموا عليه، بل وساوس كانت تقع في قلوبهم، فالله تعالى بين في آخر هذه السورة أنه بفضله عفا عنها، فقال: ( ) [التوبة: ١١٧].

والوجه الثاني في الجواب: أن الإنسان طول عمره لا ينفك عن زلات وهفوات، إما من باب الصغائر، وإما من باب ترك الأفضل، ثم إن النبي وسائر المؤمنون لما تحملوا مشاق هذا السفر ومتاعبه، وصبروا على تلك الشدائد والمحن، أخبر الله تعالى أن تحمل تلك الشدائد صار مكفرًا لجميع الزلات التي صدرت عنهم في طول العمر، وصار قائمًا مقام التوبة المقرونة بالإخلاص عن كلها.

والوجه الثالث في الجواب: أن الزمان لما اشتد عليهم في ذلك السفر، وكانت الوساوس تقع في قلوبهم، فكلما وقعت وسوسة في قلب واحد منهم تاب إلى الله منها، وتضرع إلى الله في إزالتها عن قلبه، فلكثرة إقدامهم على التوبة بسبب خطرات تلك الوساوس ببالهم، قال تعالى: ( ) [التوبة: ١١٧]...الآية.

والوجه الرابع: لا يبعد أن يكون قد صدر عن أولئك الأقوام أنواع من المعاصي، إلا أنه تعالى تاب عليهم، وعفا عنهم لأجل أنهم تحملوا مشاق ذلك السفر، ثم إنه تعالى ضم ذكر الرسول عليه الصلاة والسلام إلى ذكرهم؛ تنبيهًا على عظم مراتبهم في الدين، وأنهم قد بلغوا إلى الدرجة التي لأجلها ضم الرسول عليه الصلاة والسلام إليهم في قبول التوبة»100.

وقوله تعالى: ( ) [التوبة: ١١٧].

() من أفعال المقاربة، تعمل في اسمين (عمل كان) واسمها هنا ضمير شأن مقدر، وخبرها هو جملة الخبر عن ضمير الشأن، وإنما جعل اسمها هنا ضمير شأن؛ لتهويل شأنهم حين أشرفوا على الزيغ.

واختلف في معنى (تزيغ) فقيل: تتلف بالجهد والمشقة والشدة، وقيل: تعدل -أي تميل- عن الحق في الممانعة والنصرة، وقيل: من بعد ما هم فريق منهم بالتخلف والعصيان ثم لحقوا به، وقيل: هموا بالقفول فتاب الله عليهم، وأمرهم به101.

وقوله تعالى: ( ) هذا تأكيد ظاهر، واعتناء بشأن التوبة، هذا إن كان الضمير راجعًا إلى من تقدم ذكر التوبة عنهم، وإن كان الضمير إلى الفريق فلا تكرار102. والمعنى: قيل: توبته عليهم أن تدارك قلوبهم حتى لم تزغ، وكذلك سنة الحق مع أوليائه إذا أشرفوا على العطب، ووطنوا أنفسهم على الهلاك أمطر عليهم سحائب الجود، فأحيا قلوبهم103.

فإن قيل: ذكر التوبة في أول الآية وفي آخرها، فما فائدة التكرار؟

فالجواب من وجوه:

أحدها: أنه تعالى ابتدأ بذكر التوبة قبل ذكر الذنب؛ تطييبًا لقلوبهم، ثم لما ذكر الذنب أردفه مرة أخرى بذكر التوبة؛ تعظيمًا لشأنهم.

وثانيها: إذا قيل: عفا السلطان عن فلان ثم عفا عنه، دل على أن ذلك العفو متأكد، بلغ الغاية القصوى في الكمال والقوة. . .، وهذا معنى قول ابن عباس في قوله: ( ) يريد ازداد عنهم رضًا، قال ابن عباس: من تاب الله عليه لم يعذبه أبدًا.

وثالثها: أنه قال: ( ) [التوبة: ١١٧].

وهذا الترتيب يدل على أن المراد أنه تعالى تاب عليهم من الوساوس التي كانت تقع في قلوبهم في ساعة العسرة،

ثم إنه تعالى زاد عليه فقال: ( ) [التوبة: ١١٧].

فهذه الزيادة أفادت حصول وساوس قوية، فلا جرم أتبعها تعالى بذكر التوبة مرة أخرى؛ لئلا يبقى في خاطر أحدٍ شك في كونهم مؤاخذين بتلك الوساوس104.

وفي قصة توبة الله على النبي والمهاجرين والأنصار وعلى الثلاثة، فوائد ومسائل، منها:

في هذه الآيات دليل على أن توبة الله على العبد أجل الغايات، وأعلى النهايات، فإن الله جعلها نهاية خواص عباده، وامتن عليهم بها، حين عملوا الأعمال التي يحبها ويرضاها، وفيها لطف الله بهم، وتثبيتهم في إيمانهم عند الشدائد والنوازل المزعجة.

وفي الآيات أيضًا دليل على أن العبادة الشاقة على النفس لها فضل ومزية ليست لغيرها، وكلما عظمت المشقة عظم الأجر، وأن توبة الله على عبده بحسب ندمه وأسفه الشديد، وأن من لا يبالي بالذنب، ولا يحرج إذا فعله، فإن توبته مدخولة، وإن زعم أنها مقبولة.

وأن علامة الخير وزوال الشدة إذا تعلق القلب بالله تعالى تعلقًا تامًا، وانقطع عن المخلوقين.

وأن من لطف الله بالثلاثة أن وسمهم بوسم ليس بعار عليهم، فقال: () إشارة إلى أن المؤمنين خلفوهم، أو خلفوا عن من بت في قبول عذرهم، أو في رده، وأنهم لم يكن تخلفهم رغبة عن الخير؛ ولهذا لم يقل: (تخلفوا).

ومن فوائد الآيات: أن الله تعالى من عليهم بالصدق؛ ولهذا أمر بالاقتداء بهم، فقال: ( ) [التوبة: ١١٩]105.

يقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: واعلم أن لله تعالى على عبده توبتين؛ التوبة الأولى: قبل توبة العبد؛ وهي التوفيق للتوبة؛ والتوبة الثانية: بعد توبة العبد؛ وهي قبول التوبة؛ وكلاهما في القرآن؛ قال الله تبارك وتعالى: ( ﭪﭫ ) [التوبة: ١١٨].

فقوله تعالى: ( ﭪﭫ) أي: وفقهم للتوبة، وقوله تعالى: (ﭪﭫ) أي: يقوموا بالتوبة إلى الله؛ وأما توبة القبول ففي قوله تعالى: ( ) [الشورى: ٢٥].

ومن فوائد الآيات:


1 انظر: مختار الصحاح،١/٦٨٨، معجم اللغة العربية المعاصرة، أحمد مختار عمر، ٣/٢٢٢٠.

2 انظر: مغاني الأخيار في شرح أسامي رجال معاني الآثار، العيني ٣/٣٨٢.

3 انظر: المصدر السابق.

4 انظر: المعجم المفهرس الشامل لألفاظ القرآن الكريم، عبد الله جلغوم، ص١٣٢٥-١٣٢٨.

5 انظر: بصائر ذوي التمييز، الفيروزآبادي ٥/٦٩.

6 انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، ابن الأثير، ٣/١٢.

7 انظر: نزهة النظر، ابن حجر العسقلاني، ص١٤٠.

8 انظر: تهذيب اللغة، الأزهري،٦/٢٩، معجم اللغة العربية المعاصرة، أحمد مختار عمر،٣/٢٣٢٥.

9 انظر: الكليات، الكفوي، ص٨٨٣.

10 انظر: أساس البلاغة، الزمخشري، ١/٦١١، تاج العروس، الزبيدي،٢٦/١٠٢.

11 انظر: العين، الفراهيدي، ٢/٧٨.

12 انظر: الضوء اللامع المبين عن مناهج المحدثين، أحمد ناجي، ص، ١٦٨.

13 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٣/٢٦٨.

14 معالم التنزيل، البغوي ٣/١٦٦.

15 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٧/٣٤.

16 جامع البيان، الطبري ١١/٥١٨.

17 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٨/٤٢.

18 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المغازي، باب قوله: (إذ همت طائفتان منكم)، ٥/ ٩٦، رقم ٤٠٥١ ومسلم في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل الأنصار،رضي الله عنهم، رقم ٢٥٠٥.

19 انظر: زاد المسير، ابن الجوزي ١/٤٤٩.

20 منهاج السنة النبوية ١/١٥٤.

21 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجمعة، باب فرض الجمعة، ٢/ ٢، رقم ٨٧٦، ومسلم في صحيحه، كتاب الجمعة، باب هداية هذه الأمة ليوم الجمعة ٢/ ٥٨٥، رقم ٨٥٥.

22 أحكام القرآن، ابن العربي ٤/٤٠٦.

23 مفاتيح الغيب، الرازي ٨/١٢٧.

24 فتح القدير ٢/٥٧٧.

25 زاد المسير، ابن الجوزي ٣/٤٩١.

26 جامع البيان، ١٤/٤٣٩.

27 تفسير القرآن العظيم، ٤/٢٠٣.

28 المصدر السابق.

29 صفوة التفاسير، الصابوني ١/٣٧٤.

30 محاسن التأويل، القاسمي ٢/٥٠.

31 في ظلال القرآن ٧/١٦٥.

32 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٨/٦٩.

33 محاسن التأويل، القاسمي ٢/٥٠.

34 عمدة القاري ٢٤/٤١١.

35 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب مناقب الأنصار، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار:(أنتم أحب الناس إلي)، ٥/ ٣٢، رقم ٣٧٨٦، ومسلم في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل الأنصار، ٤/ ١٩٤٨، رقم ٢٥٠٨.

36 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الإيمان، باب علامة الإيمان حب الأنصار، ١/ ١٢، رقم ١٧، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب الدليل على أن حب الأنصار وعلي رضي الله عنهم من الإيمان وعلاماته، وبغضهم من علامات النفاق ١/٨٥، رقم ٧٤.

37 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب مناقب الأنصار، باب حب الأنصار، ٥/٣٢، رقم ٣٧٨٣، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب الدليل على أن حب الأنصار وعلي رضي الله عنهم من الإيمان وعلاماته، وبغضهم من علامات النفاق ١/٨٥، رقم ٧٥.

38 انظر: فتح الباري، ابن حجر ١/ ١٦٣.

39 الجامع لأحكام القرآن، ١٨/ ٢٦.

40 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، باب قوله: (ويؤثرون على أنفسهم)، ٦/ ١٤٨، رقم ٤٨٨٩.

41 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، باب قوله: (ويؤثرون على أنفسهم)، ٥/ ٣٤، رقم ٣٧٩٨.

42 انظر: زاد المسير، ابن الجوزي ٤/٢٥٨.

43 انظر: الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ١٨/٢٥.

44 التسهيل لعلوم التنزيل، ابن جزي ٢/٣٦٠.

45 مفاتيح الغيب، الرازي ٢٩/٥٠٨.

46 المصدر السابق.

47 انظر: المصدر السابق.

48 مفاتيح الغيب، الرازي ٢٩/٥٠٨.

49 تفسير القرآن العظيم، ٨/٧١.

50 أخرجه البزار في مسنده، رقم ٧٢٩٣ والطبراني في المعجم الأوسط ٥٧٥٤.

وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب ٢/ ٣٥٦، رقم ٢٦٠٧.

51 روح البيان، إسماعيل حقي ٩/٣٥٣.

52 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإمارة، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية، وتحريمها في المعصية ٣/١٤٧٠، رقم ١٧٠٩.

53 أحكام القرآن، ابن العربي ٧/٣٠٨.

54 فتح القدير ٥/٢٠١

55 المصدر السابق ٥/٢٨٢.

56 انظر: زاد المسير، ابن الجوزي ٨ /٢١٢.

57 مجموع فتاوى ابن تيمية ١٠/١١٩.

58 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجزية، باب ما أقطع النبي صلى الله عليه وسلم من البحرين، وما وعد من مال البحرين والجزية، ولمن يقسم الفيء والجزية ٤/ ٩٨، رقم ٣١٦٣، ومسلم في صحيحه، كتاب الإمارة، باب الأمر بالصبر عند ظلم الولاة واستئثارهم ٣/ ١٤٧٤، رقم ١٨٤٥.

59 أحكام القرآن، ابن العربي ٧/٣١٠.

60 انظر: لطائف الإشارات، القشيري ٣/٥٦١.

61 محاسن التأويل، القاسمي ٢٣/ ٢.

62 زهرة التفاسير، أبو زهرة ١/٣٢٠١.

63 انظر: ديوان حسان بن ثابت ص٩٩.

64 أخرجه أحمد في مسنده، ٢٥/٩٢، رقم ١٥٧٨٩.

65 انظر: السيرة النبوية، ابن هشام ٢/١٩٧- ٢٠٩.

66 انظر: جامع البيان، الطبري ١٠/٥١، تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٤/٩٥.

67 فتح القدير ٢/٤٧٨.

68 انظر: زهرة التفاسير، أبو زهرة ٦/٣٢٠٢.

69 المصدر السابق ٦/٣٢٠٦.

70 انظر: المصدر السابق ٦/٣٢٠٩.

71 انظر: مفاتيح الغيب، الرازي ١٥/٥١٩.

72 أخرجه الطبراني في الكبير ٧/ ١٥١، رقم ٦٦٦٥.

73 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٢٨/٩٠.

74 المصدر السابق.

75 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل المدينة، باب الإيمان يأرز إلى المدينة ٣/ ٢١، رقم ١٨٧٦، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب بيان أن الإسلام بدأ غريبًا وسيعود غريبًا، وأنه يأرز بين المسجدين ١/١٣١، رقم ١٤٧.

76 روح المعاني، الألوسي ٢٠/٤٢٥.

77 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٢٨/٩١.

78 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل المدينة، باب فضل المدينة وأنها تنفي الناس ٣/ ٢٠، رقم ١٨٧١، ومسلم في صحيحه، كتاب الحج، باب المدينة تنفي شرارها، ٢/١٠٠٦، رقم ١٣٨٢.

79 انظر: النهاية في غريب الأثر، ابن الأثير ١/١٤٤.

80 البيت في خزانة الأدب ٣/ ١٣٩، وفي العباب الزاخر ١/٤٨١، وتمامه: «حتى شتت همالةً عيناها».

81 التسهيل لعلوم التنزيل، ٣/١٥٧.

82 البيت في الكامل في اللغة ١/ ٢٩١ وشرح ديوان الحماسة ص ٨٠٥ غير منسوب لقائل، وصدره: «يا ليت بعلك قد غذا».

83 انظر: اللباب في علوم الكتاب، ابن عادل ١٥/٢٠١.

84 التسهيل لعلوم التنزيل، ٣/١٥٧.

85 روح المعاني، ٢٠/٤٢٥.

86 روح البيان، إسماعيل حقي ٨/٢٥٣.

87 روح المعاني ٢٥/٤٦.

88 فتح القدير ٤/٧٦٩.

89 انظر: فتح القدير، الشوكاني ٥/٤٧.

90 أخرجه ابن ماجه في كتاب الطهارة وسننها، باب الاستنجاء بالماء ١/ ١٢٧، رقم ٣٥٥.

وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه، ١/٦٣.

91 جامع البيان، الطبري ١٤/ ٤٨٨.

92 اللباب في علوم الكتاب، ابن عادل ١٠/ ٢١٠.

93 التحرير والتنوير، ابن عاشور ١١/ ٣٢.

94 انظر: المصدر السابق .

95 السابق ١١/٤٩.

96 اللباب في علوم الكتاب، ابن عادل ٨/٣٨٧.

97 جامع البيان، ١٤/٥٣٩.

98 معالم التنزيل، البغوي ٤/١٠٤.

99 اللباب في علوم الكتاب، ابن عادل ٨/٣٨٧.

100 انظر: مفاتيح الغيب، الرازي ٨/١٧٠.

101 انظر: الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٨/٢٨١.

102 انظر: فتح القدير، الشوكاني ٢/٥٩٩.

103 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٨/٢٨١.

104 اللباب في علوم الكتاب، ابن عادل ٨/٣٨٩.

105 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص٣٥٤.

106 انظر: تفسير القرآن الكريم، ابن عثيمين ٣/٩١.

107 انظر: اللباب في علوم الكتاب، ابن عادل ٨/٣٨٧.

108 انظر: المصدر السابق.

109 انظر: اللباب في علوم الكتاب، ابن عادل ٨/٣٨٧.

110 انظر: السيرة النبوية، ابن كثير ٤/ ١٦.

111 أخرجه الترمذي في سننه، أبواب المناقب، ٥/ ٦٢٦، رقم ٣٧٠١.

وحسنه الألباني في تعليقه على المشكاة، رقم ٦٠٦٤.

112 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الفتن، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: (سترون بعدي أمورًا تنكرونها)، ٩/ ٤٧، رقم ٧٠٥٦، ومسلم في صحيحه، كتاب الإمارة، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية، وتحريمها في المعصية، ٣/١٤٧٠، رقم ١٧٠٩.

113 تفسير القرآن الكريم، ٨/ ١١٣.

الأنصار

عناصر الموضوع

مفهوم الأنصار

الأنصار في الاستعمال القرآني

الألفاظ ذات الصلة

صفات الأنصار وأعمالهم

فضائل الأنصار

الأنصار

مفهوم الأنصار

أولًا: المعنى اللغوي:

الأنصار: جمع ناصر، كصاحب وأصحاب، كما تجمع ناصر على ناصرين ونصار، اسم فاعل من نصر.

أو جمع نصير، كشريف وأشراف، (ناصر أو نصير) وكلاهما صواب، والنصير: فعيل، بمعنى فاعل أو مفعول؛ لأن كل واحد من المتناصرين ناصر ومنصور.

ونصير: صيغة مبالغة من ناصر، ومعناه: المساعد، والمعين، والمناصر، والمؤيد.

يقال: نصره على عدوه ينصره نصرًا، واستنصره على عدوه: سأله أن ينصره عليهم، وتناصر القوم: إذا نصر بعضهم بعضًا، وانتصر منه: انتقم1.

ولفظ الأنصار يأتي بمعنى: الأعوان المناصرين والمؤازرين والأتباع والحلفاء، وأهل الاتباع والتصديق.

وهذا اللفظ (الأنصار) بهذا المعنى اللغوي يمكن إطلاقه لغةً على كل من اتصف بهذا الوصف.

ثانيًا: المعنى الاصطلاحي:

وفي المعنى الاصطلاحي الأمر ليس ببعيد عن المعنى اللغوي، فأنصار الرجل هم حلفاؤه وأتباعه ومؤيدوه في النزاعات، ومعاونوه على أمره.

ومن هنا جاء تعريف الأنصار في الاصطلاح الشرعي بأنهم الأوس، والخزرج من الأزد: سماهم الله عز و جل بذلك لما نصروا رسوله، وآووه، وكانوا له نعم الحلفاء والأتباع2.

فالأنصار اصطلاحًا: يطلق على من أسلم من أهل المدينة بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم من الأوس، والخزرج، ومزينة، وسليم، وجهينة، وغفار، وأسلم، فكل هؤلاء يسمون الأنصار، وهو اسم سماه الله تعالى لكل من ناصر نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم وآواه في المدينة3، وأولادهم يدخلونه بالنسب؛ فيقال: الأنصاري للواحد منهم ومن أبنائهم.

الأنصار في الاستعمال القرآني

وردت مادة (نصر) في القرآن (١٥٥) مرة، يخص موضوع البحث منها (١١) مرة4.

والصيغ التي وردت هي:

الصيغة

عدد المرات

المثال

الجمع

١١

( ) [البقرة:٢٧٠]

وجاءت كلمة (الأنصار) في الاستعمال القرآني بمعناها اللغوي، وهو: الأعوان5.

الألفاظ ذات الصلة

الصحابة:

الصحابة لغة:

الصحابة بالفتح: جمع صاحب، ولم يجمع فاعل على فعالة إلا هذا6.

الصحابة اصطلاحًا:

هو من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمنًا به، ومات على الإسلام، ولو تخللت ردةٌ في الأصح7.

الصلة بين الأنصار والصحابة:

عند الحديث عن الفرق بين لفظة الأنصار ولفظة الصحابة وكذلك الألفاظ الثلاثة التالية يكون المقصود منه الاصطلاح الشرعي، فيكون لفظ الأنصار أخص من لفظ الصحابة، إذ الصحابة منهم المهاجرون والأنصار والطلقاء، ومن دخل في دين النبي صلى الله عليه وسلم من القبائل بعد الفتح.

المهاجرون:

المهاجرون لغة:

جمع مهاجر، والمهاجر هو كل من فارق رباعه من بدوي أو حضري وسكن بلدًا آخر8.

ا لمهاجرون اصطلاحًا:

هم الذين صلوا إلى القبلتين، أو شهدوا بدرًا، أو أسلموا قبل الهجرة9.

الصلة بين الأنصار والمهاجرين:

الأنصار هم أهل المدينة الذين آووا النبي صلى الله عليه وسلم ومن هاجر إليهم من أهل الإسلام من مكة، والمهاجرون هم الذين قدموا المدينة مع النبي صلى الله عليه وسلم، أو هاجروا إليه منها بعد ذلك، وقبل انتهاء أجل الهجرة.

الطلقاء:

الطلقاء لغة:

أطلقت الأسير، وهو طليق، وهو من الطلقاء. وأطلقت الناقة من عقالها فطلقت10.

الطلقاء اصطلاحًا:

هم أهل مكة الذين أسلموا بعد فتحها.

الصلة بين الأنصار والطلقاء:

الأنصار من أهل المدينة وإسلامهم متقدم على إسلام الطلقاء، أما الطلقاء فهم أهل مكة وإسلامهم كان بعد فتح مكة.

التابعون:

التابعون لغة:

جمع تابع، وهو التالي، ومنه التتبع والمتابعة، والإتباع، والتتبع، تقول: تتبعت علمه، أي: اتبعت آثاره11.

التابعون اصطلاحًا:

من لقي الصحابي، وإن لم تطل صحبته12.

الصلة بين الأنصار والتابعين:

الأنصار صحبوا النبي صلى الله عليه وسلم ورأوه وهم من قرن النبي صلى الله عليه وسلم، بينما التابعون هم من صحبوا الصحابة بعد موت النبي، أو قبل ذلك ولم يحصل لهم شرف الصحبة.

صفات الأنصار وأعمالهم

تحدث القرآن الكريم عن صفات الأنصار وأعمالهم، وسوف نتناول ذلك بالبيان فيما يأتي:

أولًا: أبرز صفات الأنصار:

اصطفى الله سبحانه لهذا الدين رجالًا، كان لهم الحظ الأوفر، والشرف العظيم في نصرة الدين والنبي صلى الله عليه وسلم وإيوائه بعد أن خذله الناس، ألا وهم الأنصار، فهم من آوى الرسول ونصر، وكبت المشركين وقهر؛ ولهذا فحبهم ثابت في قلب كل مسلم، وبغضهم متقد في قلب كل منافق.

وقد شهد الكتاب العزيز بفضلهم، وبرضوان الله عليهم؛ لما قدموا من خدمة لهذا الدين، فخلد الله مديحهم ورضوانه عليهم في كتابه.

ولو تأملنا في صفات الأنصار في القرآن الكريم، وأمعنا النظر لوجدنا فضائلهم جمة، ومناقبهم عظيمة، بلغوا فيها غاية الكمال، ونالوا بها رضا ربهم الكريم المنان، فهو تارة يصفهم بالسابقين الأولين، وتارة بالإيواء والنصرة والإيمان، وتارة يصفهم بالفلاح، وتارة يثني على جهادهم وصبرهم وإيثارهم، وتارة يخبر بالرضا والتوبة عنهم.

وقد أشار إلى بعض أفعالهم وصفاتهم، ومنها: تبوءهم المدينة، وحبهم للمهاجرين، وإيثارهم إياهم، وسلامة صدورهم، كما في قوله تعالى: ( ﯽﯾ ﯿ ) [الحشر: ٩].

وأشار إليهم في قوله: ( ﯞﯟ ) [الأنعام: ٨٩].

فقوله: ( ) قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: «وقوله: ( ) يعني: أهل مكة، قاله ابن عباس وسعيد بن المسيب والضحاك وقتادة والسدي وغير واحد، وقوله: ( ) أي: إن يكفر بهذه النعم من كفر بها من قريش وغيرهم من سائر أهل الأرض، من عرب وعجم، ومليين وكتابيين، فقد وكلنا بها قومًا آخرين، أي: المهاجرين والأنصار، وأتباعهم إلى يوم القيامة»13.

وكذا قال البغوي: «أن المراد بقوله: ( ) يعني: الأنصار وأهل المدينة»14. وقال القرطبي: « ( ) جواب الشرط، أي: وكلنا بالإيمان بها ( ) يريد الأنصار من أهل المدينة، والمهاجرين من أهل مكة»15.

وقال الطبري بعد أن ذكر عدة أقوال في المراد بقوله: ( ): «وأولى هذه الأقوال في تأويل ذلك بالصواب قول من قال: عنى بقوله: ( ) كفار قريش ( ) يعني به: الأنبياء الثمانية عشر الذين سماهم الله تعالى ذكره في الآيات قبل هذه الآية، وذلك أن الخبر في الآيات قبلها عنهم مضى، وفي التي بعدها عنهم ذكر، فما بينها بأن يكون خبرًا عنهم، أولى وأحق من أن يكون خبرًا عن غيرهم»16. وعلى كل حال لا يوجد ما يمنع من دخول الأنصار في المراد من الآية، والله أعلم.

وأشير إليهم أيضًا في قوله تعالى: ( ﭗﭘ ) [الأنفال: ٦٢].

أي: قواك بنصره، يريد: يوم بدر، وبالمؤمنين، قال النعمان بن بشير: نزلت في الأنصار ( ﭡﭢ ) [الأنفال: ٦٣].

أي: جمع بين قلوب الأوس والخزرج، وكانت تألف القلوب مع العصبية الشديدة في العرب من آيات النبي صلى الله عليه وسلم، ومعجزاته؛ لأن أحدهم كان يلطم اللطمة فيقاتل عليها حتى يستقيدها، وكانوا أشد خلق الله حمية، فألف الله بالإيمان بينهم، حتى قاتل الرجل أباه وأخاه بسبب الدين، وقيل: أراد التأليف بين المهاجرين والأنصار، والمعنى متقارب17.

ونزل فيهم قوله -جل وعلا-: ( ﭘﭙ ) [آل عمران: ١٢٢].

فعن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه قال: نزلت هذه الآية فينا: ( ) قال: نحن الطائفتان بنو حارثة وبنو سلمة، وما أحب أنها لم تنزل، والله يقول: ( ﭘﭙ) وقال سفيان مرةً: وما يسرني أنها لم تنزل؛ لقول الله: ( ) 18.

«وقال الحسـن البصري: هما طائفتان من الأنصار همتا بذلك، فعصمهما الله، وقيل: لما رجع عبـد الله ابن أبي في أصحابـه يوم أحد همت الطائفتان باتباعه، فعصمهما الله»19.

والمقصود أن الله تبارك وتعالى بين في هذه الآيات فضائل الأنصار التي بَيَنَها القرآن الكريم، فقد نص على مجموعة من صفاتهم الحميدة، ومنها:

١. سبق الأنصار إلى الإيمان والنصرة.

وصف الله الأنصار في القرآن الكريم بالسبق، فقال: ( ﭦﭧ ) [التوبة: ١٠٠].

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «ذهب جمهور العلماء إلى أن السابقين في قوله تعالى: ( ) [التوبة: ١٠٠].

هم هؤلاء الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا، وأهل بيعة الرضوان كلهم منهم، وكانوا أكثر من ألف وأربعمائة»20.

وبين ابن العربي رحمه الله الأمور التي يكون فيها السبق، فقال: «السبق يكون بثلاثة أشياء: الصفة، وهو الإيمان، والزمان، والمكان، وأفضل هذه الوجوه سبق الصفات، والدليل عليه قوله صلى الله عليه وسلم في الصحيح: (نحن الآخرون الأولون، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، وأوتيناه من بعدهم، فهذا يومهم الذي اختلفوا فيه، فهدانا الله له، فاليهود غدًا، والنصارى بعد غد)21»22.

وقال الرازي: «اختلفوا في السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار من هم؟ وذكروا وجوهًا. . . »، ثم قال: «والصحيح عندي أنهم السابقون في الهجرة وفي النصرة، والذي يدل عليه أنه ذكر كونهم سابقين، ولم يبين أنهم سابقون في ماذا؟ فبقي اللفظ مجملًا، إلا أنه وصفهم بكونهم مهاجرين وأنصارًا، فوجب صرف ذلك اللفظ إلى ما به صاروا مهاجرين وأنصارًا، وهو الهجرة والنصرة، فوجب أن يكون المراد منه السابقون الأولون في الهجرة والنصرة؛ إزالة للإجمال عن اللفظ... ثم قال: و أيضًا فالسبق إلى الهجرة طاعة عظيمة من حيث إن الهجرة فعل شاق على النفس، ومخالف للطبع، فمن أقدم عليه أولًا صار قدوة لغيره من هذه الطاعة، وكان ذلك مقويًا لقلب الرسول عليه الصلاة والسلام، وسببًا لزوال الوحشة عن خاطره، وكذلك السبق في النصرة، فإن الرسول عليه الصلاة والسلام لما قدم المدينة، فلا شك أن الذين سبقوا إلى النصرة والخدمة، فازوا بمنصب عظيم»23.

وما ذكر قبل من الأقوال هو من باب التمثيل، فيكون هذا من باب اختلاف التنوع، لا اختلاف التضاد؛ ولهذا قال الشوكاني رحمه الله: «ولا مانع من حمل الآية على هذه الأصناف كلها»24.

٢. رضوان الله عن الأنصار ورضاؤهم عنه.

أخبر سبحانه أنه رضي عن (المهاجرين) والأنصار وعن أفعالهم، ورضوا عنه سبحانه؛ لما أجزل لهم من الثواب على طاعاتهم وإيمانهم به ويقينهم، فقال تعالى: ( ) [التوبة: ١٠٠].

فقوله تعالى: ( ) يعم الكل، قال الزجاج: رضي الله أفعالهم، ورضوا ما جازاهم به25 فحين ذكر سبحانه وتعالى الجزاء الذي أعده لهؤلاء، وحين كانت نفوسهم زاكية راقية؛ قابلوا الجزاء بالشكر، والتزود من الطاعة، فذكر سبحانه أنهم: ( ) وهذا أرقى المراتب التي يسعى إليها المؤمنون، ويتنافس فيها المتنافسون، أن يرضى الله تعالى عنهم، ويرضيهم، يقول الطبري: «رضي الله عن جميعهم لما أطاعوه، وأجابوا نبيه إلى ما دعاهم إليه من أمره ونهيه، ورضي عنه السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان لما أجزل لهم من الثواب على طاعتهم إياه، وإيمانهم به وبنبيه عليه السلام»26.

ففي هذه الآية إخبار بأن الله رضي عنهم ورضوا عنه، وفي هذا دليل على عدالتهم، ووجه الدلالة: أن الله تعالى أخبر فيها برضاه عنهم، ولا يثبت الله رضاه إلا لمن كان أهلًا للرضا، ولا توجد الأهلية لذلك إلا لمن كان من أهل الاستقامة في أموره كلها، عدلًا في دينه.

يقول ابن كثير رحمه الله: «يخبر تعالى عن رضاه عن السابقين من المهاجرين والأنصار، والتابعين لهم بإحسان، ورضاهم عنه بما أعد لهم من جنات النعيم، والنعيم المقيم»27.

ويقول أيضًا: «فقد أخبر الله العظيم أنه قد رضي عن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، فيا ويل من أبغضهم أو سبهم، أو أبغض أو سب بعضهم»28.

وقال تعالى في جزاء هؤلاء السابقين: ( ) [التوبة: ١٠٠].

أي: وأعد لهم في الآخرة جنات تجري من تحت أشجارها وقصورها الأنهار، ( ) أي: مقيمين فيها من غير انتهاء، ( ) أي: ذلك هو الفوز الذي لا فوز وراءه.

قال في البحر: لما بين تعالى فضائل الأعراب المؤمنين بين حال هؤلاء السابقين، ولكن شتان ما بين الثناءين، فهناك قال: ( ) [التوبة: ٩٩].

وهنا قال: ( ) وهناك ختم ( ) [التوبة: ٩٩].

وهنا ختم: ( ) [التوبة: ١٠٠]29.

وهذا الرضوان للأنصار، وما أعد لهم من الجنات والنعيم، هو جزاء ما قدموه لهذا الدين، وما تركوا من دورهم وأهليهم، وجزاء ما أعطوه للمهاجرين من أموالهم؛ لأن الهجرة أمر شاق على النفس، لمفارقة الأهل والعشيرة، والنصرة منقبة شريفة؛ لأنها إعلاء كلمة الله، ونصر رسوله وأصحابه، والإحسان من أحوال المقربين أو مقاماتهم.

وفي هذه الآية ( ) [التوبة: ١٠٠] فوائد:

الأولى: في الآية دليل على أن للصحابة مراتب، وأن الفضل للسابق إلى الإسلام والهجرة، وأن السابقين من الصحابة أفضل ممن تلاهم.

الثانية: قيل: المراد بالسابقين الأولين جميع المهاجرين والأنصار، فـ(من) بيانية؛ لتقدمهم على من عداهم، وقيل: بعضهم، وهم قدماء الصحابة و(من) تبعيضية، وقد اختار كثيرون الثاني، واختلفوا في تعيينهم.

الثالثة: تقديم المهاجرين؛ لفضلهم على الأنصار، كما ذكر في قصة السقيفة، ومنه علم فضل أبي بكر رضي الله عنه على من عداه؛ لأنه أول من هاجر معه صلى الله عليه وسلم30.

الرابعة: وفيها دليل على تنزيل الناس منازلهم.

الخامسة: وفيها دليل على أن أفضلية العمل على قدر رجوع منفعته إلى الإسلام والمسلمين.

السادسة: رضا الله عن السابقين من المهاجرين والأنصار، والمعنى: أنه رضي عنهم بما عملوه من الطاعات الخالصة له، ورضوا عنه بما جازاهم به مما لا يخطر لهم على بال، ولا تتصوره عقولهم، والرضا منه سبحانه هو أرفع درجات النعيم، وأعلى منازل الكرامة.

٣. حب الأنصار للمهاجرين.

قد شهد الله تعالى لهم بذلك في قوله: ( ) [الحشر: ٩].

فمن جملة أوصاف الأنصار الجميلة أنهم: ( ) [الحشر: ٩].

وهذا لمحبتهم لله ولرسوله أحبوا أحبابه، وأحبوا من نصر دينه، وهذه المحبة هي آصرة أقوى من آصرة النسب، وأقوى من رابطة الدم؛ لأنها تجمع على الإيمان بالله واليوم الآخر؛ ولأنها تستل كل الأحقاد والضغائن من الصدور؛ ولأنها تجعل من محبة الفرد لأخيه المسلم طاعة يتقرب بها، وينال بها الأجر والثواب من الله عز وجل، ويحصل بها على المنازل الرفيعة في الآخرة.

وأن هذه الرابطة أقوى من رابطة الدم واللغة والمصالح الاقتصادية، والعلاقات المتبادلة، يقول سيد قطب في الكلام على هذه الآية: «وهذه كذلك صورة وضيئة صادقة تبرز أهم الملامح المميزة للأنصار، هذه المجموعة التي تفردت بصفات، وبلغت إلى آفاق، لولا أنها وقعت بالفعل، لحسبها الناس أحلامًا طائرة، ورؤًى مجنحة، ومثلًا عليا قد صاغها خيال محلق. . .، ولم يعرف تاريخ البشرية كله حادثًا جماعيًا كحادث استقبال الأنصار للمهاجرين بهذا الحب الكريم، وبهذا البذل السخي، وبهذه المشاركة الرضية، وبهذا التسابق إلى الإيواء واحتمال الأعباء، حتى ليروى أنه لم ينزل مهاجر في دار أنصاري إلا بقرعة؛ لأن عدد الراغبين في الإيواء المتزاحمين عليه أكثر من عدد المهاجرين»31.

وفي قوله تعالى: () الواو استئنافية و () مبتدأ، وخبره () والجملة مستأنفة.

وقوله: () [الحشر: ٩].

خبر عن اسم الموصول () والمعنى: يحبونهم من حيث مهاجرتهم إليهم لمحبتهم الإيمان؛ قال ابن كثير: «أي: من كرمهم وشرف أنفسهم يحبون المهاجرين، ويواسونهم بأموالهم»32.

وقوله: ( ) أي: إلى المدينة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه حال الأنصار، فقلوبهم مملوءة بالحب للمهاجرين، ولا يحملون في صدورهم شيئًا على إخوانهم المهاجرين؛ لكونهم فضلوا عليهم ببعض الفضائل.

قال القاسمي: وقوله: () أي: لوجود الجنسية -أي المجانسة- في الصفاء، والموافقة في الدين والإخاء، قال الشهاب: المراد بمحبتهم المهاجرين هنا مواساتهم، وعدم الاستثقال والتبرم منهم، إذا احتاجوا إليهم، فالمحبة كناية عما ذكر33.

ويقول العيني: «في قوله: ( ) [الحشر: ٩أي: من المسلمين، حتى بلغ من محبتهم أن نزلوا لهم عن نسائهم، وشاطروهم أموالهم ومساكنهم»34.

وفي مقابل هذا الحب منهم أحبهم المهاجرون، وأحبهم الرسول صلى الله عليه وسلم، حتى قال للأنصار: (والذي نفسي بيده إنكم أحب الناس إلي)35 مرتين.

بل جعل الرسول حبهم من دلائل الإيمان، كما في حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار)36.

ففي هذا الحديث دلالة أن حب المؤمن لقبيلة الأنصار شعبة من شعب الإيمان، وعلامة عليه، فلا يحبهم إلا مؤمن، وأن بغضهم وكرههم شعبة من شعب النفاق والكفر، فلا يبغضهم إلا منافق.

وعن البراء قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الأنصار لا يحبهم إلا مؤمن، ولا يبغضهم إلا منافق، فمن أحبهم أحبه الله، ومن أبغضهم أبغضه الله)37.

وليس المراد بالبغض في هذا الحديث البغض الناتج من العداء الشخصي لأفرادهم، وإنما المراد بغضهم بسبب الصفة التي مدحوا بها، وهي نصرتهم للنبي صلى الله عليه وسلم، فمن أبغضهم من جهة هذه الصفة، وهي: كونهم نصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم أثر ذلك في تصديقه، فيصح أنه منافق38.

وكذلك الحب يقال فيه مثل ما يقال في البغض.

وهذا الحب من الأنصار لإخوانهم المهاجرين دافعه وجه الله تعالى، ومعرفتهم فضل الأخوة في الله، ومكانتها في الدين، فالأخوة في الله مبدأ عظيم من مبادئ الإسلام، يقوم عليه الولاء والبراء، والحب والبغض.

وتجلت هذه الأخوة في أبهى صورها، وأجمل حللها، في تلك المواقف السمحة التي عامل بها الأنصار إخوانهم المهاجرين، وهذا التآخي لم يكن مجرد شعار للمزايدة، ودغدغة العواطف، والالتفاف حول المعاني السامية بالأكاذيب والتدليس والتلبيس، لكنه معنى خالط قلوبهم ومشاعرهم، ولحمهم ودمهم، برز ذلك في سلمهم وحربهم، وفقرهم وغناهم، مستضعفين وممكن لهم، أفرادًا وجماعات.

وهذا الأنموذج من الأخوة الصادقة حرص النبي صلى الله عليه وسلم عليه وأكده، وكان من أوائل الأمور التي قام بها بعد وصوله المدينة أن آخى بين المهاجرين والأنصار؛ ليذهب عن المسلمين المهاجرين وحشة الغربة، ويؤنسهم عن مفارقة الأهل والعشيرة، ويشد بعضهم أزر بعض.

٤. الإيثار عند الأنصار.

الإيثار من أعظم الصفات التي اتصف بها المجتمع الإسلامي؛ ولهذا يقول بعض المفكرين: بأن كلمة الإيثار يصعب ترجمتها إلى لغات أخرى، أي: ليس لها مرادف في اللغات الأخرى مرادف يؤدي معناها، ويحقق كل معانيها، وكأن هذه الخصلة هي من الخصال التي أتى بها هذا الدين الحنيف، وزكى غرسها، وحث عليها، ودعا إليها.

وأعظم الناس إيثارًا في التاريخ الإسلامي هم الأنصار، فقد جاءهم المهاجرون إلى المدينة وهم لا يملكون من أمر الدنيا شيئًا، قد تركوا أموالهم وما يملكون خلف ظهورهم، وأقبلوا على ما عند الله عز وجل، يرجون رحمته، ويخافون عذابه، فاستقبلهم الأنصار الذين تبوءوا الدار، وأكرموهم أيما إكرام، ولم يبخلوا عليهم بشيء من حطام الدنيا، بل قاسموهم الأموال والمتاع، وشاطروهم بيوتهم وأرضهم وأموالهم، بطيب نفس، وسلامة صدر، في صورة يعجز عن وصفها اللسان، ويضعف عن تعبيرها البيان، وقابل المهاجرون هذا الإيثار الرائع بحسن الخلق والتعفف.

وقد امتدح الله جل وعلا خلق الإيثار عند الأنصار، فقال: ( ﯽﯾ ﯿ ) [الحشر: ٩].

ففي قوله: ( ﯽﯾ) [الحشر: ٩].

أي: إن من أوصاف الأنصار التي فاقوا بها غيرهم، وتميزوا بها على من سواهم الإيثار، وهو أكمل أنواع الجود، وهو الإيثار بمحاب النفس من الأموال وغيرها، وبذلها للغير مع الحاجة إليها، بل مع الضرورة والخصاصة، وهذا لا يكون إلا من خلق زكي، ومحبة لله تعالى مقدمة على محبة شهوات النفس ولذاتها.

والمراد بقوله: () [الحشر: ٩].

أي: الأنصار، والإيثار لغة: مصدر من قولهم: آثره عليه يؤثره إيثارًا، بمعنى: فضله وقدمه، والمآثر: ما يروى من مكارم الإنسان، وفي التنزيل: ( ) [يوسف: ٩١]. وآثر أن يفعل كذا: فضل وقدم، وضده الأثرة من قولهم: استأثر بالشيء انفرد به، أو اختص به نفسه.

واصطلاحًا: قال القرطبي: «الإيثار: هو تقديم الغير على النفس في حظوظها الدنيوية؛ رغبة في الحظوظ الدينية، وذلك ينشأ عن قوة اليقين، وتوكيد المحبة، والصبر على المشقة»39.

وفي قوله: () [الحشر: ٩]. مفعول الإيثار محذوف، والتقدير: ويؤثرونهم بأموالهم ومنازلهم على أنفسهم.

جاء في البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أتى رجلٌ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، أصابني الجهد، فأرسل إلى نسائه فلم يجد عندهن شيئًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا رجل يضيف هذه الليلة يرحمه الله)، فقام رجل من الأنصار، فقال: أنا يا رسول الله، فذهب إلى أهله، فقال لامرأته: ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا تدخريه شيئًا، فقالت: والله ما عندي إلا قوت الصبية، قال: فإذا أراد الصبية العشاء فنوميهم، وتعالي فأطفئي السراج، ونطوي بطوننا الليلة، ففعلت، ثم غدا الرجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (لقد عجب الله عز وجل، أو ضحك من فلان وفلانة)، فأنزل الله عز وجل: ( ) [الحشر: ٩]40.

وفي رواية في البخاري أيضًا: (ضحك الله الليلة، أو عجب من فعالكما)، فأنزل الله: ( ﯽﯾ) [الحشر: ٩]41.

وجاء في سبب نزولها: أن رجلًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدي له رأس شاةٍ، فقال: إن أخي فلانًا وعياله أحوج إلى هذا، فبعث به إليه، فلم يزل يبعث به واحد إلى واحد، حتى تناولها سبعة أهل أبيات، حتى رجعت إلى أولئك، فنزلت هذه الآية.

وروي نحو هذه القصة عن أنس بن مالك قال: أهدي لبعض الصحابة رأس شاةٍ مشوي، وكان مجهودًا، فوجه به إلى جارٍ له فتناوله تسعة أنفس، ثم عاد إلى الأول، فنزلت هذه الآية42.

وذكر ابن جزي في سبب نزولها قصة الفيء، فقال: «وروي أن سبب هذه الآية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قسم هذه القرى على المهاجرين دون الأنصار، قال للأنصار: (إن شئتم قسمتم للمهاجرين من أموالكم ودياركم، وشاركتموهم في هذه الغنيمة، وإن شئتم أمسكتم أموالكم وتركتم لهم هذه)43، فقالوا: بل نقسم لهم من أموالنا، ونترك لهم هذه الغنيمة، وروي أيضًا أن سببها أن رجلًا من الأنصار أضاف رجلًا»44. وذكر القصة التي في البخاري.

وهذا ما رجحه الرازي، حيث قال: «وذكر المفسرون أنواعًا من إيثار الأنصار للضيف بالطعام، وتعللهم عنه حتى يشبع الضيف، ثم ذكروا أن الآية نزلت في ذلك الإيثار، والصحيح أنها نزلت بسبب إيثارهم المهاجرين بالفيء، ثم لا يمتنع أن يدخل فيها سائر الإيثارات»45.

قوله: ( ﯽﯾ) [الحشر: ٩]. الخصاصة: هي الفقر46.

والمعنى: ولو كان بهم حاجة وفاقة إلى ما آثروا به من أموالهم على أنفسهم، فبين أن هذا الإيثار ليس عن غنى، وعن المال، ولكنه عن حاجة وخصاصة، وهي: الفقر47.

وهذا هو واقع الأنصار، فهم مع ما هم عليه من الخصاصة -وهي الفاقة والفقر-، ومع شدة احتياجهم وافتقارهم إلى ما في أيديهم، حيث أن المهاجرين كانوا أهل تجارة، وكانوا أهل ثراء في أوطانهم في مكة، بينما الأنصار كانوا في الحقيقة أهل زراعة، وما كانوا بالثراء الذي كان عليه أهل مكة؛ ولذلك عبر عنهم القرآن بهذا التعبير: ( ﯽﯾ) [الحشر: ٩].

فلئن يقدم الإنسان حاجة غيره عليه وهو مستغنٍ عن تلك الحاجة فهذا لا يستغرب، ومع ذلك فإن الله تعالى قد أمر به في كتابه الكريم، حينما قال: ( ) [البقرة: ٢١٩].

أي: الزيادة، ما فضل عن نفقاتكم الضرورية اللازمة عليكم، لكن هذه المرتبة أعلى، وهي أن يجود الإنسان بما عنده لأخيه مع كونه محتاجًا إليه، شديد الاحتياج، شديد الرغبة فيه، فهذا المعنى هو الذي تتحدث عنه الآية.

وقوله: (ﯿ ) [الحشر: ٩].

قال الرازي: «واعلم أن الفرق بين الشح والبخل هو أن البخل نفس المنع، والشح هو الحالة النفسانية التي تقتضي ذلك المنع، فلما كان الشح من صفات النفس لا جرم قال تعالى: (ﯿ ) [الحشر: ٩48.

ووقاية شح النفس يشمل وقايتها الشح في جميع ما أمر به، فإنه إذا وقي العبد شح نفسه سمحت نفسه بأوامر الله ورسوله، ففعلها طائعًا منقادًا منشرحًا بها صدره، وسمحت نفسه بترك ما نهى الله عنه وإن كان محبوبًا للنفس، تدعو إليه، وتطلع إليه، وسمحت نفسه ببذل الأموال في سبيل الله، وابتغاء مرضاته، وبذلك يحصل الفلاح والفوز، بخلاف من لم يوق شح نفسه، بل ابتلي بالشح بالخير الذي هو أصل الشر ومادته.

فهذان الصنفان الفاضلان الزكيان هم الصحابة الكرام والأئمة الأعلام، الذين حازوا من السوابق والفضائل والمناقب ما سبقوا به من بعدهم، وأدركوا به من قبلهم، فصاروا أعيان المؤمنين، وسادات المسلمين، وقادات المتقين.

ووصف الله من يتصف بهذه الصفة بقوله: ( ) أي: الظافرون بما أرادوا، والمقصود بهم: الأنصار، ومن أتصف بهذه الصفات من غيرهم، والمفلحون: هم الفائزون بكل مطلوب، الناجون من كل مهروب، قال ابن كثير: أي: من سلم من الشح فقد أفلح وأنجح49.

«والفلاح: اسم لسعادة الدارين، والجملة اعتراض وارد لمدح الأنصار والثناء عليهم، فإن الأوصاف المذكورة في حقهم، فلهم جلائل الصفات، ودقائق الأحوال. . .، قال السهروردي في العوارف: السخاء صفة غريزية في مقابلة الشح، والشح من لوازم صفة النفس، حكم الله بالفلاح لمن يوقى الشح، أي: لمن أنفق وبذل، والنبي عليه الصلاة والسلام نبه بقوله: (ثلاث مهلكات، وثلاث منجيات) فجعل إحدى المهلكات (شحًا مطاعًا)50 ولم يقل: مجرد الشح يكون مهلكًا، بل إنما يكون مهلكًا إذا كان مطاعًا، فأما كونه موجودًا في النفس غير مطاع لا ينكر ذلك؛ لأنه من لوازم النفس، مستمد من أصل جبلتها الترابي، وفي التراب قبض وإمساك، وليس ذلك بالعجب من الآدمي، وهو جبلي فيه، وإنما العجب وجود السخاء في الغريزة»51.

وهكذا يصور القرآن الكريم هذا الوضع غير المسبوق في أبلغ عبارة وأجزلها، وتظهر الآيات الكريمة صدق الأخوة بين المهاجرين والأنصار، لا تلوثه أطماع، ولا حب دنيا، ولا أثرة، ولا شح أو حرص، ولا حاجة إنما هو أخوة تدور بين سلامة الصدر والإيثار، ولا شك أن المرء يقف مبهورًا أمام هذه الصورة الرائعة من الأخوة المتينة، والإيثار المتبادل، الذي لا نشهد له مثيلًا في تواريخ الأمم السابقة.

ولقد كان دافع الأنصار لهذا الإيثار هو رغبتهم فيما عند الله، وحبهم لإخوانهم المهاجرين؛ ولهذا صدر الله هذه الصفات للأنصار في هذه الآية بأنهم يحبون من هاجر إليهم، فالمحبة هي باعث هذا الإيثار؛ ولذلك لا يمكن أن تتصور الإيثار دون أن تتصور المحبة بين الناس، المحبة التي تنشأ في القلوب، ثم يتبع هذه المحبة رغبة صادقة في أن ينال الخير أخاك؛ ولذلك فلا يجد الواحد منهم غضاضة في نفسه أن يقدم إخوانه في الخير الذي لديه.

وكيف لا يؤثر الأنصار وقد بايعوا الرسول صلى الله عليه وسلم على الإيثار؟!

فقد جاء عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: (بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر، والمنشط والمكره، وعلى أثرة علينا، وعلى أن لا ننازع الأمر أهله)52.

فالسمع والطاعة في العسر واليسر، والمنشط والمكره: لهم معه، ومع الأئمة بعده، والأثرة: عدم منازعة الأمر مع الأئمة بعده خاصة.

ولو ذهبنا نلتمس الأسباب وراء هذا الإخاء والحب والإيثار فلن نجد إلا مسبب الأسباب، وأن ذلك كان بفضل الله ورحمته، لا بصنع بشر وحكمته وسياسته، وصدق الله حيث قال: ( ﭡﭢ ) [الأنفال: ٦٣].

فلم يلتق النبي صلى الله عليه وسلم بالأنصار إلا في سويعات تحت جنح الليل، واكتفى فيها بعرض الإسلام، وأخذ العهود والمواثيق، ولم يطل لقاؤه معهم قبل الهجرة حتى يكون هذا الذي فعلوه بسبب تربية النبي إياهم، وطول تعهده لهم كما فعل تجاه المهاجرين حتى كون منهم رجالًا، فلم يكن بين دخول الأنصار الإسلام وقيامهم بهذه المآثر إلا أقل من عام.

فالأنصار قوم اختارهم الله لصحبة نبيه، لقد فتحوا للمهاجرين قلوبهم قبل أن يفتحوا لهم بيوتهم، ووسعوهم بصدورهم قبل أن يسعوهم بأموالهم، وتسابقوا إلى لقائهم وإكرامهم، وضربوا في باب الإيثار، وسخاء النفس، وكرم الطبع مثلًا عليا، لا تزال تذكرها لهم الأجيال المتعاقبة، بالإكبار والإعظام.

٥. سلامة صدورهم.

أثنى الله على الأنصار بسبب سلامة صدورهم رضي الله عنهم، فقال: ( ) [الحشر: ٩].

فقوله: ( ) [الحشر: ٩]. الضمير في (يجدون) للأنصار، قال ابن العربي: «قال الخلق بأجمعهم: يريد بذلك الأنصار الذين آووا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين طرد، ونصروه حين خذل، فلا مثل لهم، ولا لأجرهم»53.

وقوله: () أي: حزازة وغيظًا وحسدًا، قال الشوكاني في فتح القدير: ( ) [الحشر: ٩]. «أي: لا يجد الأنصار في صدورهم حسدًا وغيظًا وحزازةً»54.

وفي الكلام مضاف محذوف: أي لا يجدون في صدورهم مس حاجة، أو أثر حاجة، وكل ما يجده الإنسان في صدره مما يحتاج إليه فهو حاجة55.

وقوله: ( ) أي: مما أعطوا، والضمير للمهاجرين، والمراد (فيما أوتوه) هو مال الفيء، حيث قسم النبي صلى الله عليه وسلم أموال بني النضير بين المهاجرين، ولم يعط من الأنصار غير ثلاثة نفر، كانت بهم حاجة، فطابت أنفس الأنصار بتلك القسمة، أو يكون المراد (فيما أوتوه) هو: الفضل والتقدم56.

قال شيخ الإسلام في الفتاوى: «وبهذا أثنى الله تعالى على الأنصار، فقال: ( ) [الحشر: ٩].

أي: مما أوتي إخوانهم المهاجرون، قال المفسرون: لا يجدون في صدورهم حاجة أي: حسدًا وغيظًا، مما أوتي المهاجرون، ثم قال بعضهم: من مال الفيء، وقيل: من الفضل والتقدم»57.

يعني: لا يحسدون المهاجرين على ما خصوا به من مال الفيء وغيره، ويحتمل أن يريد به: ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا إذا كان قليلًا، بل يقنعون به، ويرضون عنه، وقد كانوا على هذه الحال حين حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم كانوا عليه بعد موته صلى الله عليه وسلم.

وقد أنذرهم النبي صلى الله عليه وسلم قائلًا: (سترون بعدي أثرة، فاصبروا حتى تلقوني على الحوض)58 59.

فالأنصار لا يجدون في صدورهم حاجة مما خصص به المهاجرون من الفيء، ولا يحسدونهم على ذلك، ولا يعترضون بقلوبهم على حكم الله بتخصيص المهاجرين حتى لو كانت بهم حاجة، أو اختلال أحوال60.

وعلى هذا ففي الآية بيان حال الأنصار، وأنهم لا يحسدون المهاجرين على ما آتاهم الله من فضله، وخصهم به من الفضائل والمناقب التي هم أهلها، وهذا يدل على سلامة صدورهم، وانتفاء الغل والحقد والحسد عنهم.

ويدل ذلك أيضًا على أن المهاجرين أفضل من الأنصار؛ لأن الله قدمهم بالذكر، وأخبر أن الأنصار لا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا، فدل على أن الله تعالى آتاهم ما لم يؤت الأنصار ولا غيرهم؛ لأنهم جمعوا بين النصرة والهجرة.

ثانيًا: أبرز أعمال الأنصار:

الأنصار: ما أجملها من كلمة! إنها كلمة تحمل معاني شريفة جليلة، اتصف بها قوم ضرب بهم المثل في الكمال الإنساني، إنها علمٌ على قوم عملوا أعمالًا استحقوا بها أن يكونوا من أنصار الرسول الكريم.

ومن أبرز هذه الأعمال:

١. الإيواء والنصرة.

لما هاجر المسلمون من مكة هجروا المحبوبات والمألوفات من الديار والأوطان والأحباب والخلان والأموال، وتجردوا من كل شيء إلا من الإيمان؛ رغبةً في الله، ونصرةً لدين الله، ومحبةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فوصلوا إلى أرضٍ جديدة، وواقعٍ مختلف، وكان من أثر هذه الرحلة نشوء عدد من المشكلات الجديدة، ليس أقلها: الشعور بالغربة، ومفارقة الأهل والديار، وترك معظم الأموال والممتلكات في مكة، وطبيعة الوضع المعيشي والاقتصادي الجديد، أضف إلى ذلك الآثار الصحية والبدنية التي أحدثها الانتقال المفاجئ إلى بيئةٍ أخرى؛ مما أدى إلى ظهور الأمراض في صفوفهم كالحمى وغيرها، كل هذا ترك في أنفسهم وحشة وغربة، حتى أصبح وضعهم يحتاج إلى حل عاجل وسريع.

فترجم الأنصار ما تعاقدوا عليه من أقوال في البيعتين إلى جملة أفعال، حيث فتح الأنصار أبواب بيوتهم وقلوبهم، واستعدوا لاحتضان من جاءهم مهاجرًا تحت ظاهرة عظيمة من التكافل الاجتماعي، فحوى المسكن الواحد تحت سقفه الأنصاري والمهاجر، وهم يتقاسمون كل شيء المسكن والمال والطعام.

فلم يعرف تاريخ البشرية حادثًا جماعيًا كحادث استقبال الأنصار للمهاجرين بهذا الحب الكريم، وبهذا البذل السخي، وبهذه المشاركة الرضية، وبهذا التسابق إلي الإيواء، واحتمال الأعباء، حتى ليروى أنه لم ينزل مهاجر في دار أنصاري إلا بقرعة؛ لأن عدد الراغبين في الإيواء المتزاحمين عليه أكثر من عدد المهاجرين، وهم لا يجدون في أنفسهم شيئًا من حسد، أو ضيق من هذا، والإيثار على النفس مع الحاجة قيمة عليا، وقد بلغ بها الأنصار مبلغًا لم تشهد له البشرية نظيرًا.

وهنا ظهر دور الأنصار الذين أبدوا من التضحية وضروب الإيثار ما استحق التخليد في كتاب الله.

قال الله تعالى عنهم: ( ﭿ ) [الأنفال: ٧٢].

وقال تعالى: ( ﯨﯩ ) [الأنفال: ٧٤].

فجمع الله تعالى في هاتين الآيتين الذين كانوا دعامة الإسلام، وعليهم هدى الرسول قام بنيانه، وشيدت أركانه، وهم المهاجرون والأنصار، فالمهاجرون ابتدأ بهم تكوين الجماعات الأولى التي صبرت وصابرت، وتلقت الصدمة الأولى من المشركين.

والأنصار وهم الذين آووا ونصروا، وأعزوا كلمة التوحيد، وأغلوها وأعلوها، فإذا كان المهاجرون هم الذين أظلوا شجرة الإسلام ابتداءً، فالأنصار هم الذين حموا ثمرتها، وقامت دولة الإسلام في أرضهم وحراستهم، وإذا كان المهاجرون قد لاقوا العنت في مكة فقد لقوا الإيواء في المدينة.

وإذا كانوا هم دعامة الإسلام فالأنصار دولته، وفي رحابهم قامت المدينة الفاضلة التي أقامها محمد صلى الله عليه وسلم في ديارهم، وإذا كان المهاجرون قد جاهدوا ابتداءً بالصبر والمصابرة، فقد كان جهادهم في المدينة مع إخوانهم الأنصار بذلك وبالقتال في المدينة، والفريقان اختارهم الله للتأليف حتى تكونت منهم أطهر جماعة رأتها الإنسانية وأقواها.

فبعد أن ذكر الله تعالى هنا في الآيتين الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، عقب بذكر الأنصار، وهم الذين آووا ونصروا.

فقال: ( ) [الأنفال: ٧٤]. المراد: بهم الأنصار، أي: وطنوا المهاجرين، وأنزلوهم منازلهم، وبذلوا إليهم أموالهم، وآثروهم على أنفسهم، ونصروهم على أعدائهم61.

فإذا كانوا قد نقصوا عن إخوانهم -المهاجرين- فضل الهجرة، فقد عوضوا عن ذلك بفضل الإيواء والنصرة62.

حيث استقبل الأنصار المهاجرين، فشاطروهم المال والديار؛ بكرم وسخاء، وضربوا مثلًا رائعًا في التكافل، وبناء الجماعة المسلمة، وآووا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنعوه من الأحمر والأسود، وتبوءوا دار الهجرة والإيمان، حتى صارت موئلًا ومرجعًا يرجع إليه المؤمنون، ويلجأ إليه المهاجرون، ويسكن بحماه المسلمون؛ إذ كانت البلدان كلها بلدان حرب وشرك وشر.

فلم يزل أنصار الدين يأوون إلى الأنصار، حتى انتشر الإسلام وقوي، وجعل يزيد شيئًا فشيئًا، وينمو قليلًا قليلًا، حتى فتحوا القلوب بالعلم والإيمان والقرآن، والبلدان بالسيف والسنان.

وقوله في الآية: () أي: نصروا الرسول وأصحابه على أعدائهم الكفار، وما سموا بالأنصار إلا لذلك؛ ولقد قال حسان رضي الله عنه في مدح الأنصار أنهم ما سموا أنصارًا إلا لنصرتهم الدين63:

سماهم الله أنصارًا بنصرهم

دين الهدى وعوان الحرب تستعر

وسارعوا في سبيل الله واعترفوا

للنائبات وما خافوا وما ضجروا

وقد ذكر الله تعالى هذه الصفة وهي (النصرة) في آيتين، فقال: ( ﯨﯩ ) [الأنفال: ٧٤]. وقال تعالى: ( )[الأنفال: ٧٢].

والنصرة في المدلول القرآني واللغوي والتاريخي بمعنى: العون، والظفر، والمنع، والانتقام، والانتصار، وشد الأزر، ولقد شرف الله سبحانه وتعالى المسلمين الأول بشرف لا يدانيه شرف، حيث أجزل لهم الثواب، وأحسن لهم المدح والثناء في أعظم كتاب، وخص كلًا من الفريقين المتآخيين (المهاجرين والأنصار) بعمل عظيم جليل، ناداهم به فسموا مهاجرين وأنصارًا، وما ذلك إلا للهجرة والنصرة، فالهجرة كانت إعلانًا للدولة، وانتقالًا لدار الإسلام، والنصرة هي التي هيأت للهجرة ولوجود دار الإسلام، فكيف يغفل أحد من المسلمين عن فضل الهجرة أو النصرة، وهو يتلو كتاب الله الذي يذكر المهاجرين والأنصار وفضلهما؟!

وكانت هذه النصرة وفاء منهم لمبايعة النبي صلى الله عليه وسلم لهم في بيعة العقبة الثانية، حيث ثبت أنه قال لهم: (أبايعكم على أن تمنعوني -إذا قدمت عليكم- مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم، ولكم الجنة)64. فبايعوه على النصرة والمنعة، فقام منهم اثني عشر نقيبًا كفلاء على قومهم، ثم استمر الحال حتى أذن الله للمسلمين بالهجرة، وقامت أول دولة للمسلمين65.

ونلحظ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يطلب النصرة لأمرين مهمين في غاية الأهمية:

أولهما: حماية الدعوة، حتى تسير بين الناس محمية الجانب، بعيدة عن الإساءة إلى أتباعها.

ثانيهما: إيجاد مكان آمن لدولته صلى الله عليه وسلم القادمة؛ ليتسلم خلالها مقاليد الحكم والسلطان على وفق مقتضيات النبوة على أساس الدعوة.

وختم الله تعالى الآية الأخرى بقوله: ( )[الأنفال: ٧٢]]. أي: إن هاتين الفرقتين (المهاجرين والأنصار) بعضهم أنصار بعض، وأعوان على من سواهم من المشركين، وأيديهم واحدة على من كفر بالله، وبعضهم إخوان لبعض دون أقربائهم الكفار.

وقد قيل: إنما عنى بذلك أن بعضهم أولى بميراث بعض، وأن الله ورث بعضهم من بعض بالهجرة والنصرة دون القرابة والأرحام، وأن الله نسخ ذلك بعد، بقوله: ( ﯿ ) [الأنفال: ٧٥] وهذا القول لأبن عباس رضي الله عنه 66.

قال الشوكاني: «أي: بعضهم أولياء بعض في النصرة والمعونة، وقيل المعنى: إن بعضهم أولياء بعض في الميراث، وقد كانوا يتوارثون بالهجرة والنصرة، ثم نسخ ذلك بقوله سبحانه: ( ﯿ ) [الأنفال: ٧٥67.

فالولاية محبة ومودة ومناصرة، وقد اجتمعت كل هذه الأحوال في ولاية المؤمنين المهاجرين والأنصار، فقد اجتمعت فيهم المودة فتوادوا وتحابوا، وتناصروا وجاهدوا جميعًا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، ولقد جمعت المؤاخاة معنى المودة والمحبة والإيثار، وجمع الجهاد معنى النصر والتبعات بالجهاد في سبيل الله68.

وقد ذكر الله بعد ذلك شأن الذين يهاجرون ويؤمنون من بعد، فقال: ( ﯷﯸ ﯿ ﰀﰁ )[الأنفال: ٧٥].

فهذا يدل على أن باب الإيمان مفتوح، وباب الهجرة مفتوح، وميدان الجهاد متسع للجميع، فلم يغلق على المجاهدين الأولين من المهاجرين والأنصار فقط، بل هو مفتوح، وهذه الآية الكريمة تلحق الذين يؤمنون من بعد ويهاجرون بالأولين الذين هم المؤمنون حقًا.

وإذا كان هذا الوصف (النصرة) في الأنصار، فالمهاجرون من باب أولى، فهم أنصار في المعنى، فمعنى النصرة حاصل للكل، ومن الكل، فهم قد هجروا ديارهم وأموالهم، كما قال تعالى: ( ) [الحشر: ٨].

وأثنى عليهم بأنهم يطلبون فضلًا من الله ورضوانًا، فقال: ( ) وأثبت لهم صفة النصرة، فقال: ( ) وأثنى عليهم بالصدق، فقال: ( ) فرضي الله عن المهاجرين والأنصار ومن تبعهم بإحسان.

فضائل الأنصار

عرض القرآن الكريم فضائل الأنصار وهذا ما سنبينه فيما يأتي:

أولًا: وصفهم بالإيمان الحق:

وصف الله تعالى الأنصار بالإيمان الحق، فقال سبحانه: ( ﯨﯩ ) [الأنفال: ٧٤].

فقوله: ( ﯨﯩ) الإشارة إلى السابقين الأولين (من المهاجرين والأنصار) والإشارة إلى الموصوف إشارة إلى أوصافه، وجعلها مناط الحكم، أي: أولئك الذين هاجروا بعد الإيمان، وجاهدوا في سبيل الله، والذين آووا ونصروا هم المؤمنون حقًا، أي: إيمانًا ثابتًا صادقًا حقًا، تلاقت أقوالهم وقلوبهم وأعمالهم69.

فسبق منهم هجرة وجهاد، وإيواء ونصرة، وهذا هو الإيمان الحق، وفي الكلام قصر، أي: من كانوا على هذه الصفات هم وحدهم المؤمنون حقًا، أي: لا مؤمنون حقًا غيرهم، ومن هم على صفاتهم.

وفي هذه الآية وصفٌ لعموم المهاجرين والأنصار بالإيمان الحق، فجمع الله فيها الفضل لفريقي الصحابة، وهم المهاجرون والأنصار، من هاجر، ومن آوى، فاستوى الأنصار مع المهاجرين في عامل النصرة، وفي صدق الإيمان، فشهد لهم بحقيقة الإيمان، ووعدهم بالمغفرة والرزق الواسع، ومن شهد الله له بهذه الشهادة، فقد بلغ أعلى مرتبة العدالة.

ثم قال: ( ) [الأنفال: ٧٤]. ذكر الله تعالى هنا ما كتب لهم من خيري الدنيا والآخرة، وهذا يتضمن جزاءين:

أولهما: المغفرة السابقة، ووراءها الرحمة والنعيم المقيم.

ثانيهما: رزق كريم واسع في الدنيا بعد المشقة التي تحملوها، وهذا شأن المهاجرين الذين آمنوا، وشأن الأنصار الذين آووا ونصروا70.

فيكون الله قد أثنى عليهم ها هنا من ثلاثة أوجه:

أولها: قوله: ( ﯨﯩ) فقوله: ( ﯨﯩ) يفيد الحصر، وقوله: (ﯨﯩ) يفيد المبالغة في وصفهم بكونهم محقين محققين في طريق الدين، وقد كانوا كذلك؛ لأن من لم يكن محقًا في دينه لم يتحمل ترك الأديان السالفة، ولم يفارق الأهل والوطن، ولم يبذل النفس والمال، ولم يكن في هذه الأحوال من المسارعين المسابقين.

وثانيها: قوله: ( ) والتنكير يدل على الكمال، أي: مغفرة تامة كاملة.

وثالثها: قوله: ( ) والمراد منه: الثواب الرفيع الشريف71.

وعن السائب بن يزيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا معشر الأنصار، ألم يمن الله عليكم بالإيمان، وخصكم بالكرامة، وسماكم بأحسن الأسماء: أنصار الله، وأنصار رسوله؟!)72.

فالأنصار إذن حازوا شرفين: شرف سبقهم إلى الإيمان، وشرف استضافتهم للإيمان وأهله في أرضهم.

ومدحهم بأنهم أناس سكنوا الإيمان، وسكن الإيمان في قلوبهم، فقال: ( ) [الحشر: ٩].

فقوله: () الأظهر أن (الذين) هنا عطف على (المهاجرين) -في الآية السابقة-، أي: والذين تبوءوا الدار هم الأنصار73.

وقوله: ( ) من مادة (بواء) على وزن (دواء) وهي في الأصل بمعنى تساوي أجزاء المكان، وبعبارة أخرى يقال: (بواء) لترتيب وتسوية مكان (ما) وفي هذا التعبير كناية لطيفة لهذا المعنى، وهو أن طائفة الأنصار -أهل المدينة- قد هيئوا الأرضية المناسبة للهجرة.

وقوله: () الدار تطلق على البلاد، وأصلها: موضع القبيلة من الأرض، وأطلقت على القرية.

قال تعالى في ذكر ثمود: ( ) [الأعراف: ٧٨].

أي: في مدينتهم، وهي حجر ثمود، والتعريف هنا للعهد؛ لأن المراد بالدار: المدينة النبوية، والمعنى: الذين هم أصحاب الدار74، أي: دار الهجرة مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد تبوأها الأنصار قبل المهاجرين، كما تبوءوا فيها الإيمان، وكأنه منزل لهم ودار، وهو تعبير ذو ظلال، وهو أقرب ما يصور موقف الأنصار من الإيمان، لقد كان دارهم ونزلهم ووطنهم الذي تعيش فيه قلوبهم، وتسكن إليه أرواحهم، ويثوبون إليه، ويطمئنون له، كما يثوب المرء ويطمئن إلى الدار.

وفي قوله: () هذا تشريف للمدينة، حيث سماها الله الدار، فكأنها هي دار الإيمان؛ لأن الإيمان أوى إليها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها)75.

فالتعريف في () للتنويه كأنها الدار التي تستحق أن تسمى دارًا، وهي التي أعدها الله تعالى لهم؛ ليكون تبوؤهم إياها مدحًا لهم.

وذكر بعضهم أن الدار علمٌ بالغلبة على المدينة، كالمدينة، وأنه أحد أسمائها، ومنها: طيبة، وطابة، ويثرب، وجابرة76.

وفي ذكر الدار -وهي المدينة- مع ذكر الإيمان إيماء إلى فضيلة المدينة، بحيث جعل تبوؤهم المدينة قرين الثناء عليهم بالإيمان، ولعل هذا هو الذي عناه مالك -رحمة الله- فيما رواه عنه ابن وهب قال: سمعت مالكًا يذكر فضل المدينة على غيرها من الآفاق، فقال: إن المدينة تبوأت بالإيمان والهجرة، وإن غيرها من القرى افتتحت بالسيف. ثم قرأ: ( ) [الحشر: ٩]الآية77.

وجاء عنه صلى الله عليه وسلم: (أمرت بقرية تأكل القرى)78 .

والمقصود: المدينة، أي: يغلب أهلها، وهم الأنصار بالإسلام على غيرها من القرى، وينصر الله دينه بأهلها، ويفتح القرى عليهم، ويغنمهم إياها فيأكلونها79.

وقوله: () [الحشر: ٩]أي: سكنوا الإيمان، والإيمان لا يسكن، وإنما شبه الإيمان كأنه دار سكنوها؛ لأن الدار يستقر فيها الإنسان، فهؤلاء الأنصار سكنوا الإيمان، بمعنى: استقر الإيمان في قلوبهم، والإنسان يلازم داره، بمعنى: يستقر ويطمئن ويستريح فيه، وهؤلاء لازموا الإيمان كملازمة الإنسان لمسكنه، وهذه شهادة لهم بالإيمان -رضي الله تعالى عنهم-، فهم مؤمنون صادقون، استقر الإيمان في قلوبهم.

قال ابن جزي: «فإن قيل: كيف قال: تبوءوا الدار والإيمان، وإنما تتبوأ الدار، أي: تسكن ولا يتبوأ الإيمان؟

فالجواب من وجهين:

الأول: أن معناه تبوءوا الدار، وأخلصوا الإيمان، فهو كقولك:

علفتها تبنًا وماء باردًا80.

تقديره: علفتها تبنًا، وسقيتها ماء باردًا.

والثاني: أن المعنى: أنهم جعلوا الإيمان كأنه موطن لهم؛ لتمكنهم فيه، كما جعلوا المدينة كذلك»81.

فيكون في عطف الإيمان على الدار ستة أوجه:

أحدها: أنه ضمن () معنى: لزموا، فيصح عطف الإيمان عليه؛ إذ الإيمان لا يتبوأ.

الثاني: أنه منصوب بمقدر، أي: واعتقدوا، أو وألفوا، أو وأحبوا، أو وأخلصوا؛ كقوله:

علفتها تبنًا وماءً باردًا

وقوله:

متقلدًا سيفًا ورمحا 82

أي: وحاملًا رمحًا.

الثالث: أنه يتجوز في الإيمان، إن الإيمان مجاز عن المدينة، سمي محل ظهور الشيء باسمه مبالغة، فيجعل اختلاطه بهم وثباتهم عليه كالمكان المحيط بهم، فكأنهم نزلوه، وعلى هذا فيكون جمع بين الحقيقة والمجاز في كلمة واحدة، وفيه خلاف مشهور.

الرابع: أن يكون الأصل: دار الهجرة ودار الإيمان، فأقام (لام) التعريف في (الدار) مقام المضاف إليه، وحذف المضاف من دار الإيمان، ووضع المضاف إليه مقامه.

الخامس: أن يكون سمى (المدينة)؛ لأنها دار الهجرة ومكان ظهور الإيمان.

السادس: أنه منصوب على المفعول معه (الواو للمعية) أي: مع الإيمان معًا، والمراد تبوءوا الدار مع إيمانهم، أي: تبوءوها مؤمنين83.

والضمير في قوله: ( ) [الحشر: ٩].

للمهاجرين، والجار متعلق بتبوء، أي: من قبل أن يهاجر المهاجرون إليهم، وقد أسلم كثير من الأنصار قبل المهاجرين، لكن المقصود -والله وأعلم- بقوله: ( ) [الحشر: ٩] أي: من قبل أن يهاجر المهاجرون، وأن الأنصار أسلم كثير من كبارهم وسادتهم على يد مصعب بن عمير رضي الله عنه قبل أن يهاجر كثير من المهاجرين -رضي الله تعالى عنهم-، وقبل أن تصبح المدينة دار الهجرة التي أوى إليها النبي عليه الصلاة والسلام، فكثير من الأنصار كان قد أسلم، ودخل الإيمان في قلوبهم، واستقر على يد مصعب بن عمير رضي الله عنه، فهو من فتح الله به المدينة المنورة بدعوته إلى الله، وسلوكه الطيب، حتى ما بقي بيت من بيوت المدينة إلا ودخله الإيمان.

وقد أورد ابن جزي إشكالًا، وأجاب عليه، حيث قال: «فإن قيل: قوله: ( ) [الحشر: ٩].

يقتضي أن الأنصار سبقوا المهاجرين بنزول المدينة وبالإيمان، فأما سبقهم لهم بنزول المدينة فلا شك فيه؛ لأنها كانت بلدهم، وأما سبقهم لهم بالإيمان فمشكل؛ لأن أكثر المهاجرين أسلم قبل الأنصار.

قال: والجواب من وجهين:

أحدهما: أنه أراد بقوله: ( ) [الحشر: ٩] من قبل هجرتهم.

والآخر: أنه أراد تبوءوا الدار مع الإيمان معًا، أي: جمعوا بين الحالتين قبل المهاجرين؛ لأن المهاجرين إنما سبقوهم بالإيمان لا بتبوء الدار، فيكون الإيمان على هذا مفعولًا معه، وهذا الوجه أحسن؛ لأنه جواب عن هذا السؤال، وعن السؤال الأول فإنه إذا كان الإيمان مفعولًا معه لم يلزم السؤال الأول؛ إذ لا يلزم إلا إذا كان الإيمان معطوفًا على الدار»84.

وجعل الألوسي ذلك من قبل تقدير مضاف، حيث قال: «والكلام بتقدير مضاف، أي: من قبل هجرتهم، فنهاية ما يلزم سبق الإيمان الأنصار على هجرة المهاجرين، ولا يلزم منه سبق إيمانهم على إيمانهم؛ ليقال: إن الأمر بالعكس، وجوز أن لا يقدر مضاف، ويقال: ليس المراد سبق الأنصار لهم في أصل الإيمان، بل سبقهم إياهم في التمكن فيه؛ لأنهم لم ينازعوا فيه لما أظهروه.

وقيل: الكلام على التقديم والتأخير، والتقدير: تبوءوا الدار من قبلهم والإيمان، فيفيد سبقهم إياهم في تبوء الدار فقط، وهو خلاف الظاهر، على أن مثله لا يقبل ما لم يتضمن نكتة سرية، وهي غير ظاهرة ها هنا؛ وقيل: لا حاجة إلى شيء مما ذكر، وقصار ما تدل الآية عليه تقدم مجموع تبوء الأنصار وإيمانهم على تبوء المهاجرين وإيمانهم، ويكفي في تقديم المجموع تقدم بعض أجزائه، وهو ها هنا تبوء الدار، وتعقب بمنع الكفاية، ولو سلمت لصح أن يقال: بتقدم تبوء المهاجرين وإيمانهم على تبوء الأنصار وإيمانهم؛ لتقدم إيمان المهاجرين»85.

ووصف الله الأنصار أيضًا بالإيمان والاستجابة لله، كما جاء في تفسير قوله تعالى: ( ) [الشورى: ٣٨].

أنها نزلت في الأنصار، حين دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإيمان، فاستجابوا له؛ أي: لرسول الله من صميم القلب، كما هو المفهوم من إطلاق الاستجابة، وفيه إشارة إلى أن الاستجابة للرسول استجابة للمرسل، فهو من عطف الخاص على العام لمزيد التشريف، وذلك لأن الاستجابة داخلة في الإيمان86.

قال الألوسي: ( ) [الشورى: ٣٨].

قيل: نزلت في الأنصار، دعاهم الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم للإيمان به وطاعته سبحانه، فاستجابوا له، فأثنى عليهم -جل وعلا- بما أثنى، وعليه فهو من ذكر الخاص بعد العام؛ لبيان شرفه؛ لأيمانهم دون تردد وتلعثم، والآية إن كانت مدنية فالأمر ظاهر، وإذا كانت مكية فالمراد بالأنصار من آمن بالمدينة قبل الهجرة، أو المراد بهم أصحاب العقبة87.

وقال الشوكاني: «قال ابن زيد: هم الأنصار بالمدينة استجابوا إلى الإيمان بالرسول حين أنفذ إليهم اثني عشر نقيبًا منهم قبل الهجرة، وأقاموا الصلاة لمواقيتها بشروطها وهيئاتها»88.

ووصف الله الأنصار بالإيمان والعمل الصالح، كما جاء عن ابن عباس في قوله: ( ) [محمد: ٣٤]. قال: هم أهل مكة، ( ) [محمد: ٢]. قال: هم أهل المدينة الأنصار ( ) [محمد: ٢]. قال: أمرهم89.

ووصفوا بأنهم رجال؛ وسماهم الله رجال، فقال: ( ﭯﭰ ﭻﭼ ﭿ ﮁﮂ ) [التوبة: ١٠٨].

فقد جاء ما يدل أنها نزلت في الأنصار، فعن أبي أيوب وجابر وأنس رضوان الله عليهم أن هذه الآية حين نزلت: ( ﭿ ﮁﮂ ) [التوبة: ١٠٨].

قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا معشر الأنصار إن الله قد أثنى عليكم في الطهور، فما طهوركم؟) قالوا: نتوضأ للصلاة، ونغتسل من الجنابة، ونستنجي بالماء، قال: (فهو ذاك، فعليكموه)90.

وعن موسى بن أبي كثير قال: بدء حديث هذه الآية في رجال من الأنصار، من أهل قباء91.

وقوله: ( ﭿ ﮁﮂ) [التوبة: ١٠٨].

أي: من الأحداث والجنابات والنجاسات...، وقالوا: المراد منه: الطهارة بالماء بعد الحجر، وقيل: المراد منه: الطهارة من الذنوب والمعاصي، وقيل: محمول على الأمرين92.

فتكون جملة: ( ﭿ ﮁﮂ) ثناء على مؤمني الأنصار الذين يصلون بمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبمسجد قباء، وجاء الضمير مفردًا مراعاة للفظ (مسجد) الذي هو جنس93.

ثانيًا: توبة الله على الأنصار، وتجاوزه عن تقصيرهم:

قال تعالى: ( ﯯﯰ ) [التوبة: ١١٧].

نزلت هذه الآية في غزوة تبوك التي كانت قبل الشام، وكان فيها جيش العسرة من المهاجرين والأنصار، ومن غيرهم من القبائل التي حول المدينة ومكة، ولكنهم خصوا بالثناء والتوبة؛ لأنهم لم يترددوا، ولم يتثاقلوا، ولا شحوا بأموالهم، فكانوا أسوة لمن ائتسى بهم من غيرهم من القبائل94.

ففي قوله: ( ) خبر مؤكد بلام القسم على حرف التحقيق (قد) بين فيه تعالى فضل عطفه على نبيه وأصحابه المؤمنين الصادقين من المهاجرين والأنصار، وتجاوزه عن هفواتهم في هذه الغزوة، وفي غيرها لاستغراقها في حسناتهم الكثيرة على كونهم لا يصرون على شيء منها، وإنما كانت هفواتهم هذه مقتضى الطباع البشرية، واجتهاد الرأي فيما لم يبينه الله تعالى بيانًا قطعيًا يعد مخالفه عاصيًا.

يقول ابن عاشور: «وافتتاح الله هذه الآية بحرف التحقيق (لقد)؛ تأكيدًا لمضمونها المتقرر فيما مضى من الزمان، حسبما دل عليه الإتيان بالمسندات كلها أفعالًا ماضية.

ومن المحسنات افتتاح هذا الكلام بما يؤذن بالبشارة لرضا الله على المؤمنين الذين غزوا تبوك، وتقديم النبي صلى الله عليه وسلم في تعلق فعل التوبة بالغزاة؛ للتنويه بشأن هذه التوبة، وإتيانها على جميع الذنوب؛ إذ قد علم المسلمون كلهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد غفر الله ما تقدم من ذنبه وما تأخر»95.

وهذه التوبة التي تابها الله على النبي والمهاجرين والأنصار -كما قال ابن عباس-: كانت التوبة على النبي لأجل إذنه للمنافقين في القعود، ودليله قوله: ( ) [التوبة: ٤٣].

وعلى المؤمنين من ميل قلوب بعضهم إلى التخلف عنه، وقيل: توبة الله عليهم استنقاذهم من شدة العسرة.

وقيل: خلاصهم من نكاية العدو، وعبر عن ذلك بالتوبة وإن خرج عن عرفها لوجود معنى التوبة فيه، وهو الرجوع إلى الحالة الأولى96.

يقول شيخ المفسرين الطبري: «يقول تعالى ذكره: لقد رزق الله الإنابة إلى أمره وطاعته نبيه محمدًا، والمهاجرين ديارهم وعشيرتهم إلى دار الإسلام، وأنصار رسوله في الله الذين اتبعوا رسول الله في ساعة العسرة منهم من النفقة والظهر والزاد والماء»97.

فيكون معنى توبته على النبي أي: بإذنه للمنافقين بالتخلف عنه98.

وقال أهل المعاني: هو مفتاح كلام، وذلك أنه لما كان سبب توبة التائبين ذكر معهم، كقوله: ( ) [الأنفال: ٤١]99.

وهذه التوبة على المهاجرين والأنصار في ساعة العسرة سببها كما قال الرازي: «ربما وقع في قلوبهم نوع نفرة عن تلك السفرة، وربما وقع في خاطر بعضهم أنا لسنا نقدر على الفرار، ولم يعزموا عليه، بل وساوس كانت تقع في قلوبهم، فالله تعالى بين في آخر هذه السورة أنه بفضله عفا عنها، فقال: ( ) [التوبة: ١١٧].

والوجه الثاني في الجواب: أن الإنسان طول عمره لا ينفك عن زلات وهفوات، إما من باب الصغائر، وإما من باب ترك الأفضل، ثم إن النبي وسائر المؤمنون لما تحملوا مشاق هذا السفر ومتاعبه، وصبروا على تلك الشدائد والمحن، أخبر الله تعالى أن تحمل تلك الشدائد صار مكفرًا لجميع الزلات التي صدرت عنهم في طول العمر، وصار قائمًا مقام التوبة المقرونة بالإخلاص عن كلها.

والوجه الثالث في الجواب: أن الزمان لما اشتد عليهم في ذلك السفر، وكانت الوساوس تقع في قلوبهم، فكلما وقعت وسوسة في قلب واحد منهم تاب إلى الله منها، وتضرع إلى الله في إزالتها عن قلبه، فلكثرة إقدامهم على التوبة بسبب خطرات تلك الوساوس ببالهم، قال تعالى: ( ) [التوبة: ١١٧]...الآية.

والوجه الرابع: لا يبعد أن يكون قد صدر عن أولئك الأقوام أنواع من المعاصي، إلا أنه تعالى تاب عليهم، وعفا عنهم لأجل أنهم تحملوا مشاق ذلك السفر، ثم إنه تعالى ضم ذكر الرسول عليه الصلاة والسلام إلى ذكرهم؛ تنبيهًا على عظم مراتبهم في الدين، وأنهم قد بلغوا إلى الدرجة التي لأجلها ضم الرسول عليه الصلاة والسلام إليهم في قبول التوبة»100.

وقوله تعالى: ( ) [التوبة: ١١٧].

() من أفعال المقاربة، تعمل في اسمين (عمل كان) واسمها هنا ضمير شأن مقدر، وخبرها هو جملة الخبر عن ضمير الشأن، وإنما جعل اسمها هنا ضمير شأن؛ لتهويل شأنهم حين أشرفوا على الزيغ.

واختلف في معنى (تزيغ) فقيل: تتلف بالجهد والمشقة والشدة، وقيل: تعدل -أي تميل- عن الحق في الممانعة والنصرة، وقيل: من بعد ما هم فريق منهم بالتخلف والعصيان ثم لحقوا به، وقيل: هموا بالقفول فتاب الله عليهم، وأمرهم به101.

وقوله تعالى: ( ) هذا تأكيد ظاهر، واعتناء بشأن التوبة، هذا إن كان الضمير راجعًا إلى من تقدم ذكر التوبة عنهم، وإن كان الضمير إلى الفريق فلا تكرار102. والمعنى: قيل: توبته عليهم أن تدارك قلوبهم حتى لم تزغ، وكذلك سنة الحق مع أوليائه إذا أشرفوا على العطب، ووطنوا أنفسهم على الهلاك أمطر عليهم سحائب الجود، فأحيا قلوبهم103.

فإن قيل: ذكر التوبة في أول الآية وفي آخرها، فما فائدة التكرار؟

فالجواب من وجوه:

أحدها: أنه تعالى ابتدأ بذكر التوبة قبل ذكر الذنب؛ تطييبًا لقلوبهم، ثم لما ذكر الذنب أردفه مرة أخرى بذكر التوبة؛ تعظيمًا لشأنهم.

وثانيها: إذا قيل: عفا السلطان عن فلان ثم عفا عنه، دل على أن ذلك العفو متأكد، بلغ الغاية القصوى في الكمال والقوة. . .، وهذا معنى قول ابن عباس في قوله: ( ) يريد ازداد عنهم رضًا، قال ابن عباس: من تاب الله عليه لم يعذبه أبدًا.

وثالثها: أنه قال: ( ) [التوبة: ١١٧].

وهذا الترتيب يدل على أن المراد أنه تعالى تاب عليهم من الوساوس التي كانت تقع في قلوبهم في ساعة العسرة،

ثم إنه تعالى زاد عليه فقال: ( ) [التوبة: ١١٧].

فهذه الزيادة أفادت حصول وساوس قوية، فلا جرم أتبعها تعالى بذكر التوبة مرة أخرى؛ لئلا يبقى في خاطر أحدٍ شك في كونهم مؤاخذين بتلك الوساوس104.

وفي قصة توبة الله على النبي والمهاجرين والأنصار وعلى الثلاثة، فوائد ومسائل، منها:

في هذه الآيات دليل على أن توبة الله على العبد أجل الغايات، وأعلى النهايات، فإن الله جعلها نهاية خواص عباده، وامتن عليهم بها، حين عملوا الأعمال التي يحبها ويرضاها، وفيها لطف الله بهم، وتثبيتهم في إيمانهم عند الشدائد والنوازل المزعجة.

وفي الآيات أيضًا دليل على أن العبادة الشاقة على النفس لها فضل ومزية ليست لغيرها، وكلما عظمت المشقة عظم الأجر، وأن توبة الله على عبده بحسب ندمه وأسفه الشديد، وأن من لا يبالي بالذنب، ولا يحرج إذا فعله، فإن توبته مدخولة، وإن زعم أنها مقبولة.

وأن علامة الخير وزوال الشدة إذا تعلق القلب بالله تعالى تعلقًا تامًا، وانقطع عن المخلوقين.

وأن من لطف الله بالثلاثة أن وسمهم بوسم ليس بعار عليهم، فقال: () إشارة إلى أن المؤمنين خلفوهم، أو خلفوا عن من بت في قبول عذرهم، أو في رده، وأنهم لم يكن تخلفهم رغبة عن الخير؛ ولهذا لم يقل: (تخلفوا).

ومن فوائد الآيات: أن الله تعالى من عليهم بالصدق؛ ولهذا أمر بالاقتداء بهم، فقال: ( ) [التوبة: ١١٩]105.

يقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: واعلم أن لله تعالى على عبده توبتين؛ التوبة الأولى: قبل توبة العبد؛ وهي التوفيق للتوبة؛ والتوبة الثانية: بعد توبة العبد؛ وهي قبول التوبة؛ وكلاهما في القرآن؛ قال الله تبارك وتعالى: ( ﭪﭫ ) [التوبة: ١١٨].

فقوله تعالى: ( ﭪﭫ) أي: وفقهم للتوبة، وقوله تعالى: (ﭪﭫ) أي: يقوموا بالتوبة إلى الله؛ وأما توبة القبول ففي قوله تعالى: ( ) [الشورى: ٢٥].

ومن فوائد الآيات:


1 انظر: مختار الصحاح،١/٦٨٨، معجم اللغة العربية المعاصرة، أحمد مختار عمر، ٣/٢٢٢٠.

2 انظر: مغاني الأخيار في شرح أسامي رجال معاني الآثار، العيني ٣/٣٨٢.

3 انظر: المصدر السابق.

4 انظر: المعجم المفهرس الشامل لألفاظ القرآن الكريم، عبد الله جلغوم، ص١٣٢٥-١٣٢٨.

5 انظر: بصائر ذوي التمييز، الفيروزآبادي ٥/٦٩.

6 انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، ابن الأثير، ٣/١٢.

7 انظر: نزهة النظر، ابن حجر العسقلاني، ص١٤٠.

8 انظر: تهذيب اللغة، الأزهري،٦/٢٩، معجم اللغة العربية المعاصرة، أحمد مختار عمر،٣/٢٣٢٥.

9 انظر: الكليات، الكفوي، ص٨٨٣.

10 انظر: أساس البلاغة، الزمخشري، ١/٦١١، تاج العروس، الزبيدي،٢٦/١٠٢.

11 انظر: العين، الفراهيدي، ٢/٧٨.

12 انظر: الضوء اللامع المبين عن مناهج المحدثين، أحمد ناجي، ص، ١٦٨.

13 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٣/٢٦٨.

14 معالم التنزيل، البغوي ٣/١٦٦.

15 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٧/٣٤.

16 جامع البيان، الطبري ١١/٥١٨.

17 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٨/٤٢.

18 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المغازي، باب قوله: (إذ همت طائفتان منكم)، ٥/ ٩٦، رقم ٤٠٥١ ومسلم في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل الأنصار،رضي الله عنهم، رقم ٢٥٠٥.

19 انظر: زاد المسير، ابن الجوزي ١/٤٤٩.

20 منهاج السنة النبوية ١/١٥٤.

21 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجمعة، باب فرض الجمعة، ٢/ ٢، رقم ٨٧٦، ومسلم في صحيحه، كتاب الجمعة، باب هداية هذه الأمة ليوم الجمعة ٢/ ٥٨٥، رقم ٨٥٥.

22 أحكام القرآن، ابن العربي ٤/٤٠٦.

23 مفاتيح الغيب، الرازي ٨/١٢٧.

24 فتح القدير ٢/٥٧٧.

25 زاد المسير، ابن الجوزي ٣/٤٩١.

26 جامع البيان، ١٤/٤٣٩.

27 تفسير القرآن العظيم، ٤/٢٠٣.

28 المصدر السابق.

29 صفوة التفاسير، الصابوني ١/٣٧٤.

30 محاسن التأويل، القاسمي ٢/٥٠.

31 في ظلال القرآن ٧/١٦٥.

32 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٨/٦٩.

33 محاسن التأويل، القاسمي ٢/٥٠.

34 عمدة القاري ٢٤/٤١١.

35 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب مناقب الأنصار، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار:(أنتم أحب الناس إلي)، ٥/ ٣٢، رقم ٣٧٨٦، ومسلم في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل الأنصار، ٤/ ١٩٤٨، رقم ٢٥٠٨.

36 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الإيمان، باب علامة الإيمان حب الأنصار، ١/ ١٢، رقم ١٧، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب الدليل على أن حب الأنصار وعلي رضي الله عنهم من الإيمان وعلاماته، وبغضهم من علامات النفاق ١/٨٥، رقم ٧٤.

37 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب مناقب الأنصار، باب حب الأنصار، ٥/٣٢، رقم ٣٧٨٣، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب الدليل على أن حب الأنصار وعلي رضي الله عنهم من الإيمان وعلاماته، وبغضهم من علامات النفاق ١/٨٥، رقم ٧٥.

38 انظر: فتح الباري، ابن حجر ١/ ١٦٣.

39 الجامع لأحكام القرآن، ١٨/ ٢٦.

40 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، باب قوله: (ويؤثرون على أنفسهم)، ٦/ ١٤٨، رقم ٤٨٨٩.

41 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، باب قوله: (ويؤثرون على أنفسهم)، ٥/ ٣٤، رقم ٣٧٩٨.

42 انظر: زاد المسير، ابن الجوزي ٤/٢٥٨.

43 انظر: الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ١٨/٢٥.

44 التسهيل لعلوم التنزيل، ابن جزي ٢/٣٦٠.

45 مفاتيح الغيب، الرازي ٢٩/٥٠٨.

46 المصدر السابق.

47 انظر: المصدر السابق.

48 مفاتيح الغيب، الرازي ٢٩/٥٠٨.

49 تفسير القرآن العظيم، ٨/٧١.

50 أخرجه البزار في مسنده، رقم ٧٢٩٣ والطبراني في المعجم الأوسط ٥٧٥٤.

وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب ٢/ ٣٥٦، رقم ٢٦٠٧.

51 روح البيان، إسماعيل حقي ٩/٣٥٣.

52 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإمارة، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية، وتحريمها في المعصية ٣/١٤٧٠، رقم ١٧٠٩.

53 أحكام القرآن، ابن العربي ٧/٣٠٨.

54 فتح القدير ٥/٢٠١

55 المصدر السابق ٥/٢٨٢.

56 انظر: زاد المسير، ابن الجوزي ٨ /٢١٢.

57 مجموع فتاوى ابن تيمية ١٠/١١٩.

58 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجزية، باب ما أقطع النبي صلى الله عليه وسلم من البحرين، وما وعد من مال البحرين والجزية، ولمن يقسم الفيء والجزية ٤/ ٩٨، رقم ٣١٦٣، ومسلم في صحيحه، كتاب الإمارة، باب الأمر بالصبر عند ظلم الولاة واستئثارهم ٣/ ١٤٧٤، رقم ١٨٤٥.

59 أحكام القرآن، ابن العربي ٧/٣١٠.

60 انظر: لطائف الإشارات، القشيري ٣/٥٦١.

61 محاسن التأويل، القاسمي ٢٣/ ٢.

62 زهرة التفاسير، أبو زهرة ١/٣٢٠١.

63 انظر: ديوان حسان بن ثابت ص٩٩.

64 أخرجه أحمد في مسنده، ٢٥/٩٢، رقم ١٥٧٨٩.

65 انظر: السيرة النبوية، ابن هشام ٢/١٩٧- ٢٠٩.

66 انظر: جامع البيان، الطبري ١٠/٥١، تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٤/٩٥.

67 فتح القدير ٢/٤٧٨.

68 انظر: زهرة التفاسير، أبو زهرة ٦/٣٢٠٢.

69 المصدر السابق ٦/٣٢٠٦.

70 انظر: المصدر السابق ٦/٣٢٠٩.

71 انظر: مفاتيح الغيب، الرازي ١٥/٥١٩.

72 أخرجه الطبراني في الكبير ٧/ ١٥١، رقم ٦٦٦٥.

73 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٢٨/٩٠.

74 المصدر السابق.

75 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل المدينة، باب الإيمان يأرز إلى المدينة ٣/ ٢١، رقم ١٨٧٦، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب بيان أن الإسلام بدأ غريبًا وسيعود غريبًا، وأنه يأرز بين المسجدين ١/١٣١، رقم ١٤٧.

76 روح المعاني، الألوسي ٢٠/٤٢٥.

77 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٢٨/٩١.

78 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل المدينة، باب فضل المدينة وأنها تنفي الناس ٣/ ٢٠، رقم ١٨٧١، ومسلم في صحيحه، كتاب الحج، باب المدينة تنفي شرارها، ٢/١٠٠٦، رقم ١٣٨٢.

79 انظر: النهاية في غريب الأثر، ابن الأثير ١/١٤٤.

80 البيت في خزانة الأدب ٣/ ١٣٩، وفي العباب الزاخر ١/٤٨١، وتمامه: «حتى شتت همالةً عيناها».

81 التسهيل لعلوم التنزيل، ٣/١٥٧.

82 البيت في الكامل في اللغة ١/ ٢٩١ وشرح ديوان الحماسة ص ٨٠٥ غير منسوب لقائل، وصدره: «يا ليت بعلك قد غذا».

83 انظر: اللباب في علوم الكتاب، ابن عادل ١٥/٢٠١.

84 التسهيل لعلوم التنزيل، ٣/١٥٧.

85 روح المعاني، ٢٠/٤٢٥.

86 روح البيان، إسماعيل حقي ٨/٢٥٣.

87 روح المعاني ٢٥/٤٦.

88 فتح القدير ٤/٧٦٩.

89 انظر: فتح القدير، الشوكاني ٥/٤٧.

90 أخرجه ابن ماجه في كتاب الطهارة وسننها، باب الاستنجاء بالماء ١/ ١٢٧، رقم ٣٥٥.

وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه، ١/٦٣.

91 جامع البيان، الطبري ١٤/ ٤٨٨.

92 اللباب في علوم الكتاب، ابن عادل ١٠/ ٢١٠.

93 التحرير والتنوير، ابن عاشور ١١/ ٣٢.

94 انظر: المصدر السابق .

95 السابق ١١/٤٩.

96 اللباب في علوم الكتاب، ابن عادل ٨/٣٨٧.

97 جامع البيان، ١٤/٥٣٩.

98 معالم التنزيل، البغوي ٤/١٠٤.

99 اللباب في علوم الكتاب، ابن عادل ٨/٣٨٧.

100 انظر: مفاتيح الغيب، الرازي ٨/١٧٠.

101 انظر: الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٨/٢٨١.

102 انظر: فتح القدير، الشوكاني ٢/٥٩٩.

103 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٨/٢٨١.

104 اللباب في علوم الكتاب، ابن عادل ٨/٣٨٩.

105 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص٣٥٤.

106 انظر: تفسير القرآن الكريم، ابن عثيمين ٣/٩١.

107 انظر: اللباب في علوم الكتاب، ابن عادل ٨/٣٨٧.

108 انظر: المصدر السابق.

109 انظر: اللباب في علوم الكتاب، ابن عادل ٨/٣٨٧.

110 انظر: السيرة النبوية، ابن كثير ٤/ ١٦.

111 أخرجه الترمذي في سننه، أبواب المناقب، ٥/ ٦٢٦، رقم ٣٧٠١.

وحسنه الألباني في تعليقه على المشكاة، رقم ٦٠٦٤.

112 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الفتن، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: (سترون بعدي أمورًا تنكرونها)، ٩/ ٤٧، رقم ٧٠٥٦، ومسلم في صحيحه، كتاب الإمارة، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية، وتحريمها في المعصية، ٣/١٤٧٠، رقم ١٧٠٩.

113 تفسير القرآن الكريم، ٨/ ١١٣.

الأنصار

عناصر الموضوع

مفهوم الأنصار

الأنصار في الاستعمال القرآني

الألفاظ ذات الصلة

صفات الأنصار وأعمالهم

فضائل الأنصار

الأنصار

مفهوم الأنصار

أولًا: المعنى اللغوي:

الأنصار: جمع ناصر، كصاحب وأصحاب، كما تجمع ناصر على ناصرين ونصار، اسم فاعل من نصر.

أو جمع نصير، كشريف وأشراف، (ناصر أو نصير) وكلاهما صواب، والنصير: فعيل، بمعنى فاعل أو مفعول؛ لأن كل واحد من المتناصرين ناصر ومنصور.

ونصير: صيغة مبالغة من ناصر، ومعناه: المساعد، والمعين، والمناصر، والمؤيد.

يقال: نصره على عدوه ينصره نصرًا، واستنصره على عدوه: سأله أن ينصره عليهم، وتناصر القوم: إذا نصر بعضهم بعضًا، وانتصر منه: انتقم1.

ولفظ الأنصار يأتي بمعنى: الأعوان المناصرين والمؤازرين والأتباع والحلفاء، وأهل الاتباع والتصديق.

وهذا اللفظ (الأنصار) بهذا المعنى اللغوي يمكن إطلاقه لغةً على كل من اتصف بهذا الوصف.

ثانيًا: المعنى الاصطلاحي:

وفي المعنى الاصطلاحي الأمر ليس ببعيد عن المعنى اللغوي، فأنصار الرجل هم حلفاؤه وأتباعه ومؤيدوه في النزاعات، ومعاونوه على أمره.

ومن هنا جاء تعريف الأنصار في الاصطلاح الشرعي بأنهم الأوس، والخزرج من الأزد: سماهم الله عز و جل بذلك لما نصروا رسوله، وآووه، وكانوا له نعم الحلفاء والأتباع2.

فالأنصار اصطلاحًا: يطلق على من أسلم من أهل المدينة بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم من الأوس، والخزرج، ومزينة، وسليم، وجهينة، وغفار، وأسلم، فكل هؤلاء يسمون الأنصار، وهو اسم سماه الله تعالى لكل من ناصر نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم وآواه في المدينة3، وأولادهم يدخلونه بالنسب؛ فيقال: الأنصاري للواحد منهم ومن أبنائهم.

الأنصار في الاستعمال القرآني

وردت مادة (نصر) في القرآن (١٥٥) مرة، يخص موضوع البحث منها (١١) مرة4.

والصيغ التي وردت هي:

الصيغة

عدد المرات

المثال

الجمع

١١

( ) [البقرة:٢٧٠]

وجاءت كلمة (الأنصار) في الاستعمال القرآني بمعناها اللغوي، وهو: الأعوان5.

الألفاظ ذات الصلة

الصحابة:

الصحابة لغة:

الصحابة بالفتح: جمع صاحب، ولم يجمع فاعل على فعالة إلا هذا6.

الصحابة اصطلاحًا:

هو من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمنًا به، ومات على الإسلام، ولو تخللت ردةٌ في الأصح7.

الصلة بين الأنصار والصحابة:

عند الحديث عن الفرق بين لفظة الأنصار ولفظة الصحابة وكذلك الألفاظ الثلاثة التالية يكون المقصود منه الاصطلاح الشرعي، فيكون لفظ الأنصار أخص من لفظ الصحابة، إذ الصحابة منهم المهاجرون والأنصار والطلقاء، ومن دخل في دين النبي صلى الله عليه وسلم من القبائل بعد الفتح.

المهاجرون:

المهاجرون لغة:

جمع مهاجر، والمهاجر هو كل من فارق رباعه من بدوي أو حضري وسكن بلدًا آخر8.

ا لمهاجرون اصطلاحًا:

هم الذين صلوا إلى القبلتين، أو شهدوا بدرًا، أو أسلموا قبل الهجرة9.

الصلة بين الأنصار والمهاجرين:

الأنصار هم أهل المدينة الذين آووا النبي صلى الله عليه وسلم ومن هاجر إليهم من أهل الإسلام من مكة، والمهاجرون هم الذين قدموا المدينة مع النبي صلى الله عليه وسلم، أو هاجروا إليه منها بعد ذلك، وقبل انتهاء أجل الهجرة.

الطلقاء:

الطلقاء لغة:

أطلقت الأسير، وهو طليق، وهو من الطلقاء. وأطلقت الناقة من عقالها فطلقت10.

الطلقاء اصطلاحًا:

هم أهل مكة الذين أسلموا بعد فتحها.

الصلة بين الأنصار والطلقاء:

الأنصار من أهل المدينة وإسلامهم متقدم على إسلام الطلقاء، أما الطلقاء فهم أهل مكة وإسلامهم كان بعد فتح مكة.

التابعون:

التابعون لغة:

جمع تابع، وهو التالي، ومنه التتبع والمتابعة، والإتباع، والتتبع، تقول: تتبعت علمه، أي: اتبعت آثاره11.

التابعون اصطلاحًا:

من لقي الصحابي، وإن لم تطل صحبته12.

الصلة بين الأنصار والتابعين:

الأنصار صحبوا النبي صلى الله عليه وسلم ورأوه وهم من قرن النبي صلى الله عليه وسلم، بينما التابعون هم من صحبوا الصحابة بعد موت النبي، أو قبل ذلك ولم يحصل لهم شرف الصحبة.

صفات الأنصار وأعمالهم

تحدث القرآن الكريم عن صفات الأنصار وأعمالهم، وسوف نتناول ذلك بالبيان فيما يأتي:

أولًا: أبرز صفات الأنصار:

اصطفى الله سبحانه لهذا الدين رجالًا، كان لهم الحظ الأوفر، والشرف العظيم في نصرة الدين والنبي صلى الله عليه وسلم وإيوائه بعد أن خذله الناس، ألا وهم الأنصار، فهم من آوى الرسول ونصر، وكبت المشركين وقهر؛ ولهذا فحبهم ثابت في قلب كل مسلم، وبغضهم متقد في قلب كل منافق.

وقد شهد الكتاب العزيز بفضلهم، وبرضوان الله عليهم؛ لما قدموا من خدمة لهذا الدين، فخلد الله مديحهم ورضوانه عليهم في كتابه.

ولو تأملنا في صفات الأنصار في القرآن الكريم، وأمعنا النظر لوجدنا فضائلهم جمة، ومناقبهم عظيمة، بلغوا فيها غاية الكمال، ونالوا بها رضا ربهم الكريم المنان، فهو تارة يصفهم بالسابقين الأولين، وتارة بالإيواء والنصرة والإيمان، وتارة يصفهم بالفلاح، وتارة يثني على جهادهم وصبرهم وإيثارهم، وتارة يخبر بالرضا والتوبة عنهم.

وقد أشار إلى بعض أفعالهم وصفاتهم، ومنها: تبوءهم المدينة، وحبهم للمهاجرين، وإيثارهم إياهم، وسلامة صدورهم، كما في قوله تعالى: ( ﯽﯾ ﯿ ) [الحشر: ٩].

وأشار إليهم في قوله: ( ﯞﯟ ) [الأنعام: ٨٩].

فقوله: ( ) قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: «وقوله: ( ) يعني: أهل مكة، قاله ابن عباس وسعيد بن المسيب والضحاك وقتادة والسدي وغير واحد، وقوله: ( ) أي: إن يكفر بهذه النعم من كفر بها من قريش وغيرهم من سائر أهل الأرض، من عرب وعجم، ومليين وكتابيين، فقد وكلنا بها قومًا آخرين، أي: المهاجرين والأنصار، وأتباعهم إلى يوم القيامة»13.

وكذا قال البغوي: «أن المراد بقوله: ( ) يعني: الأنصار وأهل المدينة»14. وقال القرطبي: « ( ) جواب الشرط، أي: وكلنا بالإيمان بها ( ) يريد الأنصار من أهل المدينة، والمهاجرين من أهل مكة»15.

وقال الطبري بعد أن ذكر عدة أقوال في المراد بقوله: ( ): «وأولى هذه الأقوال في تأويل ذلك بالصواب قول من قال: عنى بقوله: ( ) كفار قريش ( ) يعني به: الأنبياء الثمانية عشر الذين سماهم الله تعالى ذكره في الآيات قبل هذه الآية، وذلك أن الخبر في الآيات قبلها عنهم مضى، وفي التي بعدها عنهم ذكر، فما بينها بأن يكون خبرًا عنهم، أولى وأحق من أن يكون خبرًا عن غيرهم»16. وعلى كل حال لا يوجد ما يمنع من دخول الأنصار في المراد من الآية، والله أعلم.

وأشير إليهم أيضًا في قوله تعالى: ( ﭗﭘ ) [الأنفال: ٦٢].

أي: قواك بنصره، يريد: يوم بدر، وبالمؤمنين، قال النعمان بن بشير: نزلت في الأنصار ( ﭡﭢ ) [الأنفال: ٦٣].

أي: جمع بين قلوب الأوس والخزرج، وكانت تألف القلوب مع العصبية الشديدة في العرب من آيات النبي صلى الله عليه وسلم، ومعجزاته؛ لأن أحدهم كان يلطم اللطمة فيقاتل عليها حتى يستقيدها، وكانوا أشد خلق الله حمية، فألف الله بالإيمان بينهم، حتى قاتل الرجل أباه وأخاه بسبب الدين، وقيل: أراد التأليف بين المهاجرين والأنصار، والمعنى متقارب17.

ونزل فيهم قوله -جل وعلا-: ( ﭘﭙ ) [آل عمران: ١٢٢].

فعن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه قال: نزلت هذه الآية فينا: ( ) قال: نحن الطائفتان بنو حارثة وبنو سلمة، وما أحب أنها لم تنزل، والله يقول: ( ﭘﭙ) وقال سفيان مرةً: وما يسرني أنها لم تنزل؛ لقول الله: ( ) 18.

«وقال الحسـن البصري: هما طائفتان من الأنصار همتا بذلك، فعصمهما الله، وقيل: لما رجع عبـد الله ابن أبي في أصحابـه يوم أحد همت الطائفتان باتباعه، فعصمهما الله»19.

والمقصود أن الله تبارك وتعالى بين في هذه الآيات فضائل الأنصار التي بَيَنَها القرآن الكريم، فقد نص على مجموعة من صفاتهم الحميدة، ومنها:

١. سبق الأنصار إلى الإيمان والنصرة.

وصف الله الأنصار في القرآن الكريم بالسبق، فقال: ( ﭦﭧ ) [التوبة: ١٠٠].

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «ذهب جمهور العلماء إلى أن السابقين في قوله تعالى: ( ) [التوبة: ١٠٠].

هم هؤلاء الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا، وأهل بيعة الرضوان كلهم منهم، وكانوا أكثر من ألف وأربعمائة»20.

وبين ابن العربي رحمه الله الأمور التي يكون فيها السبق، فقال: «السبق يكون بثلاثة أشياء: الصفة، وهو الإيمان، والزمان، والمكان، وأفضل هذه الوجوه سبق الصفات، والدليل عليه قوله صلى الله عليه وسلم في الصحيح: (نحن الآخرون الأولون، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، وأوتيناه من بعدهم، فهذا يومهم الذي اختلفوا فيه، فهدانا الله له، فاليهود غدًا، والنصارى بعد غد)21»22.

وقال الرازي: «اختلفوا في السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار من هم؟ وذكروا وجوهًا. . . »، ثم قال: «والصحيح عندي أنهم السابقون في الهجرة وفي النصرة، والذي يدل عليه أنه ذكر كونهم سابقين، ولم يبين أنهم سابقون في ماذا؟ فبقي اللفظ مجملًا، إلا أنه وصفهم بكونهم مهاجرين وأنصارًا، فوجب صرف ذلك اللفظ إلى ما به صاروا مهاجرين وأنصارًا، وهو الهجرة والنصرة، فوجب أن يكون المراد منه السابقون الأولون في الهجرة والنصرة؛ إزالة للإجمال عن اللفظ... ثم قال: و أيضًا فالسبق إلى الهجرة طاعة عظيمة من حيث إن الهجرة فعل شاق على النفس، ومخالف للطبع، فمن أقدم عليه أولًا صار قدوة لغيره من هذه الطاعة، وكان ذلك مقويًا لقلب الرسول عليه الصلاة والسلام، وسببًا لزوال الوحشة عن خاطره، وكذلك السبق في النصرة، فإن الرسول عليه الصلاة والسلام لما قدم المدينة، فلا شك أن الذين سبقوا إلى النصرة والخدمة، فازوا بمنصب عظيم»23.

وما ذكر قبل من الأقوال هو من باب التمثيل، فيكون هذا من باب اختلاف التنوع، لا اختلاف التضاد؛ ولهذا قال الشوكاني رحمه الله: «ولا مانع من حمل الآية على هذه الأصناف كلها»24.

٢. رضوان الله عن الأنصار ورضاؤهم عنه.

أخبر سبحانه أنه رضي عن (المهاجرين) والأنصار وعن أفعالهم، ورضوا عنه سبحانه؛ لما أجزل لهم من الثواب على طاعاتهم وإيمانهم به ويقينهم، فقال تعالى: ( ) [التوبة: ١٠٠].

فقوله تعالى: ( ) يعم الكل، قال الزجاج: رضي الله أفعالهم، ورضوا ما جازاهم به25 فحين ذكر سبحانه وتعالى الجزاء الذي أعده لهؤلاء، وحين كانت نفوسهم زاكية راقية؛ قابلوا الجزاء بالشكر، والتزود من الطاعة، فذكر سبحانه أنهم: ( ) وهذا أرقى المراتب التي يسعى إليها المؤمنون، ويتنافس فيها المتنافسون، أن يرضى الله تعالى عنهم، ويرضيهم، يقول الطبري: «رضي الله عن جميعهم لما أطاعوه، وأجابوا نبيه إلى ما دعاهم إليه من أمره ونهيه، ورضي عنه السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان لما أجزل لهم من الثواب على طاعتهم إياه، وإيمانهم به وبنبيه عليه السلام»26.

ففي هذه الآية إخبار بأن الله رضي عنهم ورضوا عنه، وفي هذا دليل على عدالتهم، ووجه الدلالة: أن الله تعالى أخبر فيها برضاه عنهم، ولا يثبت الله رضاه إلا لمن كان أهلًا للرضا، ولا توجد الأهلية لذلك إلا لمن كان من أهل الاستقامة في أموره كلها، عدلًا في دينه.

يقول ابن كثير رحمه الله: «يخبر تعالى عن رضاه عن السابقين من المهاجرين والأنصار، والتابعين لهم بإحسان، ورضاهم عنه بما أعد لهم من جنات النعيم، والنعيم المقيم»27.

ويقول أيضًا: «فقد أخبر الله العظيم أنه قد رضي عن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، فيا ويل من أبغضهم أو سبهم، أو أبغض أو سب بعضهم»28.

وقال تعالى في جزاء هؤلاء السابقين: ( ) [التوبة: ١٠٠].

أي: وأعد لهم في الآخرة جنات تجري من تحت أشجارها وقصورها الأنهار، ( ) أي: مقيمين فيها من غير انتهاء، ( ) أي: ذلك هو الفوز الذي لا فوز وراءه.

قال في البحر: لما بين تعالى فضائل الأعراب المؤمنين بين حال هؤلاء السابقين، ولكن شتان ما بين الثناءين، فهناك قال: ( ) [التوبة: ٩٩].

وهنا قال: ( ) وهناك ختم ( ) [التوبة: ٩٩].

وهنا ختم: ( ) [التوبة: ١٠٠]29.

وهذا الرضوان للأنصار، وما أعد لهم من الجنات والنعيم، هو جزاء ما قدموه لهذا الدين، وما تركوا من دورهم وأهليهم، وجزاء ما أعطوه للمهاجرين من أموالهم؛ لأن الهجرة أمر شاق على النفس، لمفارقة الأهل والعشيرة، والنصرة منقبة شريفة؛ لأنها إعلاء كلمة الله، ونصر رسوله وأصحابه، والإحسان من أحوال المقربين أو مقاماتهم.

وفي هذه الآية ( ) [التوبة: ١٠٠] فوائد:

الأولى: في الآية دليل على أن للصحابة مراتب، وأن الفضل للسابق إلى الإسلام والهجرة، وأن السابقين من الصحابة أفضل ممن تلاهم.

الثانية: قيل: المراد بالسابقين الأولين جميع المهاجرين والأنصار، فـ(من) بيانية؛ لتقدمهم على من عداهم، وقيل: بعضهم، وهم قدماء الصحابة و(من) تبعيضية، وقد اختار كثيرون الثاني، واختلفوا في تعيينهم.

الثالثة: تقديم المهاجرين؛ لفضلهم على الأنصار، كما ذكر في قصة السقيفة، ومنه علم فضل أبي بكر رضي الله عنه على من عداه؛ لأنه أول من هاجر معه صلى الله عليه وسلم30.

الرابعة: وفيها دليل على تنزيل الناس منازلهم.

الخامسة: وفيها دليل على أن أفضلية العمل على قدر رجوع منفعته إلى الإسلام والمسلمين.

السادسة: رضا الله عن السابقين من المهاجرين والأنصار، والمعنى: أنه رضي عنهم بما عملوه من الطاعات الخالصة له، ورضوا عنه بما جازاهم به مما لا يخطر لهم على بال، ولا تتصوره عقولهم، والرضا منه سبحانه هو أرفع درجات النعيم، وأعلى منازل الكرامة.

٣. حب الأنصار للمهاجرين.

قد شهد الله تعالى لهم بذلك في قوله: ( ) [الحشر: ٩].

فمن جملة أوصاف الأنصار الجميلة أنهم: ( ) [الحشر: ٩].

وهذا لمحبتهم لله ولرسوله أحبوا أحبابه، وأحبوا من نصر دينه، وهذه المحبة هي آصرة أقوى من آصرة النسب، وأقوى من رابطة الدم؛ لأنها تجمع على الإيمان بالله واليوم الآخر؛ ولأنها تستل كل الأحقاد والضغائن من الصدور؛ ولأنها تجعل من محبة الفرد لأخيه المسلم طاعة يتقرب بها، وينال بها الأجر والثواب من الله عز وجل، ويحصل بها على المنازل الرفيعة في الآخرة.

وأن هذه الرابطة أقوى من رابطة الدم واللغة والمصالح الاقتصادية، والعلاقات المتبادلة، يقول سيد قطب في الكلام على هذه الآية: «وهذه كذلك صورة وضيئة صادقة تبرز أهم الملامح المميزة للأنصار، هذه المجموعة التي تفردت بصفات، وبلغت إلى آفاق، لولا أنها وقعت بالفعل، لحسبها الناس أحلامًا طائرة، ورؤًى مجنحة، ومثلًا عليا قد صاغها خيال محلق. . .، ولم يعرف تاريخ البشرية كله حادثًا جماعيًا كحادث استقبال الأنصار للمهاجرين بهذا الحب الكريم، وبهذا البذل السخي، وبهذه المشاركة الرضية، وبهذا التسابق إلى الإيواء واحتمال الأعباء، حتى ليروى أنه لم ينزل مهاجر في دار أنصاري إلا بقرعة؛ لأن عدد الراغبين في الإيواء المتزاحمين عليه أكثر من عدد المهاجرين»31.

وفي قوله تعالى: () الواو استئنافية و () مبتدأ، وخبره () والجملة مستأنفة.

وقوله: () [الحشر: ٩].

خبر عن اسم الموصول () والمعنى: يحبونهم من حيث مهاجرتهم إليهم لمحبتهم الإيمان؛ قال ابن كثير: «أي: من كرمهم وشرف أنفسهم يحبون المهاجرين، ويواسونهم بأموالهم»32.

وقوله: ( ) أي: إلى المدينة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه حال الأنصار، فقلوبهم مملوءة بالحب للمهاجرين، ولا يحملون في صدورهم شيئًا على إخوانهم المهاجرين؛ لكونهم فضلوا عليهم ببعض الفضائل.

قال القاسمي: وقوله: () أي: لوجود الجنسية -أي المجانسة- في الصفاء، والموافقة في الدين والإخاء، قال الشهاب: المراد بمحبتهم المهاجرين هنا مواساتهم، وعدم الاستثقال والتبرم منهم، إذا احتاجوا إليهم، فالمحبة كناية عما ذكر33.

ويقول العيني: «في قوله: ( ) [الحشر: ٩أي: من المسلمين، حتى بلغ من محبتهم أن نزلوا لهم عن نسائهم، وشاطروهم أموالهم ومساكنهم»34.

وفي مقابل هذا الحب منهم أحبهم المهاجرون، وأحبهم الرسول صلى الله عليه وسلم، حتى قال للأنصار: (والذي نفسي بيده إنكم أحب الناس إلي)35 مرتين.

بل جعل الرسول حبهم من دلائل الإيمان، كما في حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار)36.

ففي هذا الحديث دلالة أن حب المؤمن لقبيلة الأنصار شعبة من شعب الإيمان، وعلامة عليه، فلا يحبهم إلا مؤمن، وأن بغضهم وكرههم شعبة من شعب النفاق والكفر، فلا يبغضهم إلا منافق.

وعن البراء قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الأنصار لا يحبهم إلا مؤمن، ولا يبغضهم إلا منافق، فمن أحبهم أحبه الله، ومن أبغضهم أبغضه الله)37.

وليس المراد بالبغض في هذا الحديث البغض الناتج من العداء الشخصي لأفرادهم، وإنما المراد بغضهم بسبب الصفة التي مدحوا بها، وهي نصرتهم للنبي صلى الله عليه وسلم، فمن أبغضهم من جهة هذه الصفة، وهي: كونهم نصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم أثر ذلك في تصديقه، فيصح أنه منافق38.

وكذلك الحب يقال فيه مثل ما يقال في البغض.

وهذا الحب من الأنصار لإخوانهم المهاجرين دافعه وجه الله تعالى، ومعرفتهم فضل الأخوة في الله، ومكانتها في الدين، فالأخوة في الله مبدأ عظيم من مبادئ الإسلام، يقوم عليه الولاء والبراء، والحب والبغض.

وتجلت هذه الأخوة في أبهى صورها، وأجمل حللها، في تلك المواقف السمحة التي عامل بها الأنصار إخوانهم المهاجرين، وهذا التآخي لم يكن مجرد شعار للمزايدة، ودغدغة العواطف، والالتفاف حول المعاني السامية بالأكاذيب والتدليس والتلبيس، لكنه معنى خالط قلوبهم ومشاعرهم، ولحمهم ودمهم، برز ذلك في سلمهم وحربهم، وفقرهم وغناهم، مستضعفين وممكن لهم، أفرادًا وجماعات.

وهذا الأنموذج من الأخوة الصادقة حرص النبي صلى الله عليه وسلم عليه وأكده، وكان من أوائل الأمور التي قام بها بعد وصوله المدينة أن آخى بين المهاجرين والأنصار؛ ليذهب عن المسلمين المهاجرين وحشة الغربة، ويؤنسهم عن مفارقة الأهل والعشيرة، ويشد بعضهم أزر بعض.

٤. الإيثار عند الأنصار.

الإيثار من أعظم الصفات التي اتصف بها المجتمع الإسلامي؛ ولهذا يقول بعض المفكرين: بأن كلمة الإيثار يصعب ترجمتها إلى لغات أخرى، أي: ليس لها مرادف في اللغات الأخرى مرادف يؤدي معناها، ويحقق كل معانيها، وكأن هذه الخصلة هي من الخصال التي أتى بها هذا الدين الحنيف، وزكى غرسها، وحث عليها، ودعا إليها.

وأعظم الناس إيثارًا في التاريخ الإسلامي هم الأنصار، فقد جاءهم المهاجرون إلى المدينة وهم لا يملكون من أمر الدنيا شيئًا، قد تركوا أموالهم وما يملكون خلف ظهورهم، وأقبلوا على ما عند الله عز وجل، يرجون رحمته، ويخافون عذابه، فاستقبلهم الأنصار الذين تبوءوا الدار، وأكرموهم أيما إكرام، ولم يبخلوا عليهم بشيء من حطام الدنيا، بل قاسموهم الأموال والمتاع، وشاطروهم بيوتهم وأرضهم وأموالهم، بطيب نفس، وسلامة صدر، في صورة يعجز عن وصفها اللسان، ويضعف عن تعبيرها البيان، وقابل المهاجرون هذا الإيثار الرائع بحسن الخلق والتعفف.

وقد امتدح الله جل وعلا خلق الإيثار عند الأنصار، فقال: ( ﯽﯾ ﯿ ) [الحشر: ٩].

ففي قوله: ( ﯽﯾ) [الحشر: ٩].

أي: إن من أوصاف الأنصار التي فاقوا بها غيرهم، وتميزوا بها على من سواهم الإيثار، وهو أكمل أنواع الجود، وهو الإيثار بمحاب النفس من الأموال وغيرها، وبذلها للغير مع الحاجة إليها، بل مع الضرورة والخصاصة، وهذا لا يكون إلا من خلق زكي، ومحبة لله تعالى مقدمة على محبة شهوات النفس ولذاتها.

والمراد بقوله: () [الحشر: ٩].

أي: الأنصار، والإيثار لغة: مصدر من قولهم: آثره عليه يؤثره إيثارًا، بمعنى: فضله وقدمه، والمآثر: ما يروى من مكارم الإنسان، وفي التنزيل: ( ) [يوسف: ٩١]. وآثر أن يفعل كذا: فضل وقدم، وضده الأثرة من قولهم: استأثر بالشيء انفرد به، أو اختص به نفسه.

واصطلاحًا: قال القرطبي: «الإيثار: هو تقديم الغير على النفس في حظوظها الدنيوية؛ رغبة في الحظوظ الدينية، وذلك ينشأ عن قوة اليقين، وتوكيد المحبة، والصبر على المشقة»39.

وفي قوله: () [الحشر: ٩]. مفعول الإيثار محذوف، والتقدير: ويؤثرونهم بأموالهم ومنازلهم على أنفسهم.

جاء في البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أتى رجلٌ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، أصابني الجهد، فأرسل إلى نسائه فلم يجد عندهن شيئًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا رجل يضيف هذه الليلة يرحمه الله)، فقام رجل من الأنصار، فقال: أنا يا رسول الله، فذهب إلى أهله، فقال لامرأته: ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا تدخريه شيئًا، فقالت: والله ما عندي إلا قوت الصبية، قال: فإذا أراد الصبية العشاء فنوميهم، وتعالي فأطفئي السراج، ونطوي بطوننا الليلة، ففعلت، ثم غدا الرجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (لقد عجب الله عز وجل، أو ضحك من فلان وفلانة)، فأنزل الله عز وجل: ( ) [الحشر: ٩]40.

وفي رواية في البخاري أيضًا: (ضحك الله الليلة، أو عجب من فعالكما)، فأنزل الله: ( ﯽﯾ) [الحشر: ٩]41.

وجاء في سبب نزولها: أن رجلًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدي له رأس شاةٍ، فقال: إن أخي فلانًا وعياله أحوج إلى هذا، فبعث به إليه، فلم يزل يبعث به واحد إلى واحد، حتى تناولها سبعة أهل أبيات، حتى رجعت إلى أولئك، فنزلت هذه الآية.

وروي نحو هذه القصة عن أنس بن مالك قال: أهدي لبعض الصحابة رأس شاةٍ مشوي، وكان مجهودًا، فوجه به إلى جارٍ له فتناوله تسعة أنفس، ثم عاد إلى الأول، فنزلت هذه الآية42.

وذكر ابن جزي في سبب نزولها قصة الفيء، فقال: «وروي أن سبب هذه الآية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قسم هذه القرى على المهاجرين دون الأنصار، قال للأنصار: (إن شئتم قسمتم للمهاجرين من أموالكم ودياركم، وشاركتموهم في هذه الغنيمة، وإن شئتم أمسكتم أموالكم وتركتم لهم هذه)43، فقالوا: بل نقسم لهم من أموالنا، ونترك لهم هذه الغنيمة، وروي أيضًا أن سببها أن رجلًا من الأنصار أضاف رجلًا»44. وذكر القصة التي في البخاري.

وهذا ما رجحه الرازي، حيث قال: «وذكر المفسرون أنواعًا من إيثار الأنصار للضيف بالطعام، وتعللهم عنه حتى يشبع الضيف، ثم ذكروا أن الآية نزلت في ذلك الإيثار، والصحيح أنها نزلت بسبب إيثارهم المهاجرين بالفيء، ثم لا يمتنع أن يدخل فيها سائر الإيثارات»45.

قوله: ( ﯽﯾ) [الحشر: ٩]. الخصاصة: هي الفقر46.

والمعنى: ولو كان بهم حاجة وفاقة إلى ما آثروا به من أموالهم على أنفسهم، فبين أن هذا الإيثار ليس عن غنى، وعن المال، ولكنه عن حاجة وخصاصة، وهي: الفقر47.

وهذا هو واقع الأنصار، فهم مع ما هم عليه من الخصاصة -وهي الفاقة والفقر-، ومع شدة احتياجهم وافتقارهم إلى ما في أيديهم، حيث أن المهاجرين كانوا أهل تجارة، وكانوا أهل ثراء في أوطانهم في مكة، بينما الأنصار كانوا في الحقيقة أهل زراعة، وما كانوا بالثراء الذي كان عليه أهل مكة؛ ولذلك عبر عنهم القرآن بهذا التعبير: ( ﯽﯾ) [الحشر: ٩].

فلئن يقدم الإنسان حاجة غيره عليه وهو مستغنٍ عن تلك الحاجة فهذا لا يستغرب، ومع ذلك فإن الله تعالى قد أمر به في كتابه الكريم، حينما قال: ( ) [البقرة: ٢١٩].

أي: الزيادة، ما فضل عن نفقاتكم الضرورية اللازمة عليكم، لكن هذه المرتبة أعلى، وهي أن يجود الإنسان بما عنده لأخيه مع كونه محتاجًا إليه، شديد الاحتياج، شديد الرغبة فيه، فهذا المعنى هو الذي تتحدث عنه الآية.

وقوله: (ﯿ ) [الحشر: ٩].

قال الرازي: «واعلم أن الفرق بين الشح والبخل هو أن البخل نفس المنع، والشح هو الحالة النفسانية التي تقتضي ذلك المنع، فلما كان الشح من صفات النفس لا جرم قال تعالى: (ﯿ ) [الحشر: ٩48.

ووقاية شح النفس يشمل وقايتها الشح في جميع ما أمر به، فإنه إذا وقي العبد شح نفسه سمحت نفسه بأوامر الله ورسوله، ففعلها طائعًا منقادًا منشرحًا بها صدره، وسمحت نفسه بترك ما نهى الله عنه وإن كان محبوبًا للنفس، تدعو إليه، وتطلع إليه، وسمحت نفسه ببذل الأموال في سبيل الله، وابتغاء مرضاته، وبذلك يحصل الفلاح والفوز، بخلاف من لم يوق شح نفسه، بل ابتلي بالشح بالخير الذي هو أصل الشر ومادته.

فهذان الصنفان الفاضلان الزكيان هم الصحابة الكرام والأئمة الأعلام، الذين حازوا من السوابق والفضائل والمناقب ما سبقوا به من بعدهم، وأدركوا به من قبلهم، فصاروا أعيان المؤمنين، وسادات المسلمين، وقادات المتقين.

ووصف الله من يتصف بهذه الصفة بقوله: ( ) أي: الظافرون بما أرادوا، والمقصود بهم: الأنصار، ومن أتصف بهذه الصفات من غيرهم، والمفلحون: هم الفائزون بكل مطلوب، الناجون من كل مهروب، قال ابن كثير: أي: من سلم من الشح فقد أفلح وأنجح49.

«والفلاح: اسم لسعادة الدارين، والجملة اعتراض وارد لمدح الأنصار والثناء عليهم، فإن الأوصاف المذكورة في حقهم، فلهم جلائل الصفات، ودقائق الأحوال. . .، قال السهروردي في العوارف: السخاء صفة غريزية في مقابلة الشح، والشح من لوازم صفة النفس، حكم الله بالفلاح لمن يوقى الشح، أي: لمن أنفق وبذل، والنبي عليه الصلاة والسلام نبه بقوله: (ثلاث مهلكات، وثلاث منجيات) فجعل إحدى المهلكات (شحًا مطاعًا)50 ولم يقل: مجرد الشح يكون مهلكًا، بل إنما يكون مهلكًا إذا كان مطاعًا، فأما كونه موجودًا في النفس غير مطاع لا ينكر ذلك؛ لأنه من لوازم النفس، مستمد من أصل جبلتها الترابي، وفي التراب قبض وإمساك، وليس ذلك بالعجب من الآدمي، وهو جبلي فيه، وإنما العجب وجود السخاء في الغريزة»51.

وهكذا يصور القرآن الكريم هذا الوضع غير المسبوق في أبلغ عبارة وأجزلها، وتظهر الآيات الكريمة صدق الأخوة بين المهاجرين والأنصار، لا تلوثه أطماع، ولا حب دنيا، ولا أثرة، ولا شح أو حرص، ولا حاجة إنما هو أخوة تدور بين سلامة الصدر والإيثار، ولا شك أن المرء يقف مبهورًا أمام هذه الصورة الرائعة من الأخوة المتينة، والإيثار المتبادل، الذي لا نشهد له مثيلًا في تواريخ الأمم السابقة.

ولقد كان دافع الأنصار لهذا الإيثار هو رغبتهم فيما عند الله، وحبهم لإخوانهم المهاجرين؛ ولهذا صدر الله هذه الصفات للأنصار في هذه الآية بأنهم يحبون من هاجر إليهم، فالمحبة هي باعث هذا الإيثار؛ ولذلك لا يمكن أن تتصور الإيثار دون أن تتصور المحبة بين الناس، المحبة التي تنشأ في القلوب، ثم يتبع هذه المحبة رغبة صادقة في أن ينال الخير أخاك؛ ولذلك فلا يجد الواحد منهم غضاضة في نفسه أن يقدم إخوانه في الخير الذي لديه.

وكيف لا يؤثر الأنصار وقد بايعوا الرسول صلى الله عليه وسلم على الإيثار؟!

فقد جاء عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: (بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر، والمنشط والمكره، وعلى أثرة علينا، وعلى أن لا ننازع الأمر أهله)52.

فالسمع والطاعة في العسر واليسر، والمنشط والمكره: لهم معه، ومع الأئمة بعده، والأثرة: عدم منازعة الأمر مع الأئمة بعده خاصة.

ولو ذهبنا نلتمس الأسباب وراء هذا الإخاء والحب والإيثار فلن نجد إلا مسبب الأسباب، وأن ذلك كان بفضل الله ورحمته، لا بصنع بشر وحكمته وسياسته، وصدق الله حيث قال: ( ﭡﭢ ) [الأنفال: ٦٣].

فلم يلتق النبي صلى الله عليه وسلم بالأنصار إلا في سويعات تحت جنح الليل، واكتفى فيها بعرض الإسلام، وأخذ العهود والمواثيق، ولم يطل لقاؤه معهم قبل الهجرة حتى يكون هذا الذي فعلوه بسبب تربية النبي إياهم، وطول تعهده لهم كما فعل تجاه المهاجرين حتى كون منهم رجالًا، فلم يكن بين دخول الأنصار الإسلام وقيامهم بهذه المآثر إلا أقل من عام.

فالأنصار قوم اختارهم الله لصحبة نبيه، لقد فتحوا للمهاجرين قلوبهم قبل أن يفتحوا لهم بيوتهم، ووسعوهم بصدورهم قبل أن يسعوهم بأموالهم، وتسابقوا إلى لقائهم وإكرامهم، وضربوا في باب الإيثار، وسخاء النفس، وكرم الطبع مثلًا عليا، لا تزال تذكرها لهم الأجيال المتعاقبة، بالإكبار والإعظام.

٥. سلامة صدورهم.

أثنى الله على الأنصار بسبب سلامة صدورهم رضي الله عنهم، فقال: ( ) [الحشر: ٩].

فقوله: ( ) [الحشر: ٩]. الضمير في (يجدون) للأنصار، قال ابن العربي: «قال الخلق بأجمعهم: يريد بذلك الأنصار الذين آووا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين طرد، ونصروه حين خذل، فلا مثل لهم، ولا لأجرهم»53.

وقوله: () أي: حزازة وغيظًا وحسدًا، قال الشوكاني في فتح القدير: ( ) [الحشر: ٩]. «أي: لا يجد الأنصار في صدورهم حسدًا وغيظًا وحزازةً»54.

وفي الكلام مضاف محذوف: أي لا يجدون في صدورهم مس حاجة، أو أثر حاجة، وكل ما يجده الإنسان في صدره مما يحتاج إليه فهو حاجة55.

وقوله: ( ) أي: مما أعطوا، والضمير للمهاجرين، والمراد (فيما أوتوه) هو مال الفيء، حيث قسم النبي صلى الله عليه وسلم أموال بني النضير بين المهاجرين، ولم يعط من الأنصار غير ثلاثة نفر، كانت بهم حاجة، فطابت أنفس الأنصار بتلك القسمة، أو يكون المراد (فيما أوتوه) هو: الفضل والتقدم56.

قال شيخ الإسلام في الفتاوى: «وبهذا أثنى الله تعالى على الأنصار، فقال: ( ) [الحشر: ٩].

أي: مما أوتي إخوانهم المهاجرون، قال المفسرون: لا يجدون في صدورهم حاجة أي: حسدًا وغيظًا، مما أوتي المهاجرون، ثم قال بعضهم: من مال الفيء، وقيل: من الفضل والتقدم»57.

يعني: لا يحسدون المهاجرين على ما خصوا به من مال الفيء وغيره، ويحتمل أن يريد به: ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا إذا كان قليلًا، بل يقنعون به، ويرضون عنه، وقد كانوا على هذه الحال حين حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم كانوا عليه بعد موته صلى الله عليه وسلم.

وقد أنذرهم النبي صلى الله عليه وسلم قائلًا: (سترون بعدي أثرة، فاصبروا حتى تلقوني على الحوض)58 59.

فالأنصار لا يجدون في صدورهم حاجة مما خصص به المهاجرون من الفيء، ولا يحسدونهم على ذلك، ولا يعترضون بقلوبهم على حكم الله بتخصيص المهاجرين حتى لو كانت بهم حاجة، أو اختلال أحوال60.

وعلى هذا ففي الآية بيان حال الأنصار، وأنهم لا يحسدون المهاجرين على ما آتاهم الله من فضله، وخصهم به من الفضائل والمناقب التي هم أهلها، وهذا يدل على سلامة صدورهم، وانتفاء الغل والحقد والحسد عنهم.

ويدل ذلك أيضًا على أن المهاجرين أفضل من الأنصار؛ لأن الله قدمهم بالذكر، وأخبر أن الأنصار لا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا، فدل على أن الله تعالى آتاهم ما لم يؤت الأنصار ولا غيرهم؛ لأنهم جمعوا بين النصرة والهجرة.

ثانيًا: أبرز أعمال الأنصار:

الأنصار: ما أجملها من كلمة! إنها كلمة تحمل معاني شريفة جليلة، اتصف بها قوم ضرب بهم المثل في الكمال الإنساني، إنها علمٌ على قوم عملوا أعمالًا استحقوا بها أن يكونوا من أنصار الرسول الكريم.

ومن أبرز هذه الأعمال:

١. الإيواء والنصرة.

لما هاجر المسلمون من مكة هجروا المحبوبات والمألوفات من الديار والأوطان والأحباب والخلان والأموال، وتجردوا من كل شيء إلا من الإيمان؛ رغبةً في الله، ونصرةً لدين الله، ومحبةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فوصلوا إلى أرضٍ جديدة، وواقعٍ مختلف، وكان من أثر هذه الرحلة نشوء عدد من المشكلات الجديدة، ليس أقلها: الشعور بالغربة، ومفارقة الأهل والديار، وترك معظم الأموال والممتلكات في مكة، وطبيعة الوضع المعيشي والاقتصادي الجديد، أضف إلى ذلك الآثار الصحية والبدنية التي أحدثها الانتقال المفاجئ إلى بيئةٍ أخرى؛ مما أدى إلى ظهور الأمراض في صفوفهم كالحمى وغيرها، كل هذا ترك في أنفسهم وحشة وغربة، حتى أصبح وضعهم يحتاج إلى حل عاجل وسريع.

فترجم الأنصار ما تعاقدوا عليه من أقوال في البيعتين إلى جملة أفعال، حيث فتح الأنصار أبواب بيوتهم وقلوبهم، واستعدوا لاحتضان من جاءهم مهاجرًا تحت ظاهرة عظيمة من التكافل الاجتماعي، فحوى المسكن الواحد تحت سقفه الأنصاري والمهاجر، وهم يتقاسمون كل شيء المسكن والمال والطعام.

فلم يعرف تاريخ البشرية حادثًا جماعيًا كحادث استقبال الأنصار للمهاجرين بهذا الحب الكريم، وبهذا البذل السخي، وبهذه المشاركة الرضية، وبهذا التسابق إلي الإيواء، واحتمال الأعباء، حتى ليروى أنه لم ينزل مهاجر في دار أنصاري إلا بقرعة؛ لأن عدد الراغبين في الإيواء المتزاحمين عليه أكثر من عدد المهاجرين، وهم لا يجدون في أنفسهم شيئًا من حسد، أو ضيق من هذا، والإيثار على النفس مع الحاجة قيمة عليا، وقد بلغ بها الأنصار مبلغًا لم تشهد له البشرية نظيرًا.

وهنا ظهر دور الأنصار الذين أبدوا من التضحية وضروب الإيثار ما استحق التخليد في كتاب الله.

قال الله تعالى عنهم: ( ﭿ ) [الأنفال: ٧٢].

وقال تعالى: ( ﯨﯩ ) [الأنفال: ٧٤].

فجمع الله تعالى في هاتين الآيتين الذين كانوا دعامة الإسلام، وعليهم هدى الرسول قام بنيانه، وشيدت أركانه، وهم المهاجرون والأنصار، فالمهاجرون ابتدأ بهم تكوين الجماعات الأولى التي صبرت وصابرت، وتلقت الصدمة الأولى من المشركين.

والأنصار وهم الذين آووا ونصروا، وأعزوا كلمة التوحيد، وأغلوها وأعلوها، فإذا كان المهاجرون هم الذين أظلوا شجرة الإسلام ابتداءً، فالأنصار هم الذين حموا ثمرتها، وقامت دولة الإسلام في أرضهم وحراستهم، وإذا كان المهاجرون قد لاقوا العنت في مكة فقد لقوا الإيواء في المدينة.

وإذا كانوا هم دعامة الإسلام فالأنصار دولته، وفي رحابهم قامت المدينة الفاضلة التي أقامها محمد صلى الله عليه وسلم في ديارهم، وإذا كان المهاجرون قد جاهدوا ابتداءً بالصبر والمصابرة، فقد كان جهادهم في المدينة مع إخوانهم الأنصار بذلك وبالقتال في المدينة، والفريقان اختارهم الله للتأليف حتى تكونت منهم أطهر جماعة رأتها الإنسانية وأقواها.

فبعد أن ذكر الله تعالى هنا في الآيتين الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، عقب بذكر الأنصار، وهم الذين آووا ونصروا.

فقال: ( ) [الأنفال: ٧٤]. المراد: بهم الأنصار، أي: وطنوا المهاجرين، وأنزلوهم منازلهم، وبذلوا إليهم أموالهم، وآثروهم على أنفسهم، ونصروهم على أعدائهم61.

فإذا كانوا قد نقصوا عن إخوانهم -المهاجرين- فضل الهجرة، فقد عوضوا عن ذلك بفضل الإيواء والنصرة62.

حيث استقبل الأنصار المهاجرين، فشاطروهم المال والديار؛ بكرم وسخاء، وضربوا مثلًا رائعًا في التكافل، وبناء الجماعة المسلمة، وآووا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنعوه من الأحمر والأسود، وتبوءوا دار الهجرة والإيمان، حتى صارت موئلًا ومرجعًا يرجع إليه المؤمنون، ويلجأ إليه المهاجرون، ويسكن بحماه المسلمون؛ إذ كانت البلدان كلها بلدان حرب وشرك وشر.

فلم يزل أنصار الدين يأوون إلى الأنصار، حتى انتشر الإسلام وقوي، وجعل يزيد شيئًا فشيئًا، وينمو قليلًا قليلًا، حتى فتحوا القلوب بالعلم والإيمان والقرآن، والبلدان بالسيف والسنان.

وقوله في الآية: () أي: نصروا الرسول وأصحابه على أعدائهم الكفار، وما سموا بالأنصار إلا لذلك؛ ولقد قال حسان رضي الله عنه في مدح الأنصار أنهم ما سموا أنصارًا إلا لنصرتهم الدين63:

سماهم الله أنصارًا بنصرهم

دين الهدى وعوان الحرب تستعر

وسارعوا في سبيل الله واعترفوا

للنائبات وما خافوا وما ضجروا

وقد ذكر الله تعالى هذه الصفة وهي (النصرة) في آيتين، فقال: ( ﯨﯩ ) [الأنفال: ٧٤]. وقال تعالى: ( )[الأنفال: ٧٢].

والنصرة في المدلول القرآني واللغوي والتاريخي بمعنى: العون، والظفر، والمنع، والانتقام، والانتصار، وشد الأزر، ولقد شرف الله سبحانه وتعالى المسلمين الأول بشرف لا يدانيه شرف، حيث أجزل لهم الثواب، وأحسن لهم المدح والثناء في أعظم كتاب، وخص كلًا من الفريقين المتآخيين (المهاجرين والأنصار) بعمل عظيم جليل، ناداهم به فسموا مهاجرين وأنصارًا، وما ذلك إلا للهجرة والنصرة، فالهجرة كانت إعلانًا للدولة، وانتقالًا لدار الإسلام، والنصرة هي التي هيأت للهجرة ولوجود دار الإسلام، فكيف يغفل أحد من المسلمين عن فضل الهجرة أو النصرة، وهو يتلو كتاب الله الذي يذكر المهاجرين والأنصار وفضلهما؟!

وكانت هذه النصرة وفاء منهم لمبايعة النبي صلى الله عليه وسلم لهم في بيعة العقبة الثانية، حيث ثبت أنه قال لهم: (أبايعكم على أن تمنعوني -إذا قدمت عليكم- مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم، ولكم الجنة)64. فبايعوه على النصرة والمنعة، فقام منهم اثني عشر نقيبًا كفلاء على قومهم، ثم استمر الحال حتى أذن الله للمسلمين بالهجرة، وقامت أول دولة للمسلمين65.

ونلحظ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يطلب النصرة لأمرين مهمين في غاية الأهمية:

أولهما: حماية الدعوة، حتى تسير بين الناس محمية الجانب، بعيدة عن الإساءة إلى أتباعها.

ثانيهما: إيجاد مكان آمن لدولته صلى الله عليه وسلم القادمة؛ ليتسلم خلالها مقاليد الحكم والسلطان على وفق مقتضيات النبوة على أساس الدعوة.

وختم الله تعالى الآية الأخرى بقوله: ( )[الأنفال: ٧٢]]. أي: إن هاتين الفرقتين (المهاجرين والأنصار) بعضهم أنصار بعض، وأعوان على من سواهم من المشركين، وأيديهم واحدة على من كفر بالله، وبعضهم إخوان لبعض دون أقربائهم الكفار.

وقد قيل: إنما عنى بذلك أن بعضهم أولى بميراث بعض، وأن الله ورث بعضهم من بعض بالهجرة والنصرة دون القرابة والأرحام، وأن الله نسخ ذلك بعد، بقوله: ( ﯿ ) [الأنفال: ٧٥] وهذا القول لأبن عباس رضي الله عنه 66.

قال الشوكاني: «أي: بعضهم أولياء بعض في النصرة والمعونة، وقيل المعنى: إن بعضهم أولياء بعض في الميراث، وقد كانوا يتوارثون بالهجرة والنصرة، ثم نسخ ذلك بقوله سبحانه: ( ﯿ ) [الأنفال: ٧٥67.

فالولاية محبة ومودة ومناصرة، وقد اجتمعت كل هذه الأحوال في ولاية المؤمنين المهاجرين والأنصار، فقد اجتمعت فيهم المودة فتوادوا وتحابوا، وتناصروا وجاهدوا جميعًا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، ولقد جمعت المؤاخاة معنى المودة والمحبة والإيثار، وجمع الجهاد معنى النصر والتبعات بالجهاد في سبيل الله68.

وقد ذكر الله بعد ذلك شأن الذين يهاجرون ويؤمنون من بعد، فقال: ( ﯷﯸ ﯿ ﰀﰁ )[الأنفال: ٧٥].

فهذا يدل على أن باب الإيمان مفتوح، وباب الهجرة مفتوح، وميدان الجهاد متسع للجميع، فلم يغلق على المجاهدين الأولين من المهاجرين والأنصار فقط، بل هو مفتوح، وهذه الآية الكريمة تلحق الذين يؤمنون من بعد ويهاجرون بالأولين الذين هم المؤمنون حقًا.

وإذا كان هذا الوصف (النصرة) في الأنصار، فالمهاجرون من باب أولى، فهم أنصار في المعنى، فمعنى النصرة حاصل للكل، ومن الكل، فهم قد هجروا ديارهم وأموالهم، كما قال تعالى: ( ) [الحشر: ٨].

وأثنى عليهم بأنهم يطلبون فضلًا من الله ورضوانًا، فقال: ( ) وأثبت لهم صفة النصرة، فقال: ( ) وأثنى عليهم بالصدق، فقال: ( ) فرضي الله عن المهاجرين والأنصار ومن تبعهم بإحسان.

فضائل الأنصار

عرض القرآن الكريم فضائل الأنصار وهذا ما سنبينه فيما يأتي:

أولًا: وصفهم بالإيمان الحق:

وصف الله تعالى الأنصار بالإيمان الحق، فقال سبحانه: ( ﯨﯩ ) [الأنفال: ٧٤].

فقوله: ( ﯨﯩ) الإشارة إلى السابقين الأولين (من المهاجرين والأنصار) والإشارة إلى الموصوف إشارة إلى أوصافه، وجعلها مناط الحكم، أي: أولئك الذين هاجروا بعد الإيمان، وجاهدوا في سبيل الله، والذين آووا ونصروا هم المؤمنون حقًا، أي: إيمانًا ثابتًا صادقًا حقًا، تلاقت أقوالهم وقلوبهم وأعمالهم69.

فسبق منهم هجرة وجهاد، وإيواء ونصرة، وهذا هو الإيمان الحق، وفي الكلام قصر، أي: من كانوا على هذه الصفات هم وحدهم المؤمنون حقًا، أي: لا مؤمنون حقًا غيرهم، ومن هم على صفاتهم.

وفي هذه الآية وصفٌ لعموم المهاجرين والأنصار بالإيمان الحق، فجمع الله فيها الفضل لفريقي الصحابة، وهم المهاجرون والأنصار، من هاجر، ومن آوى، فاستوى الأنصار مع المهاجرين في عامل النصرة، وفي صدق الإيمان، فشهد لهم بحقيقة الإيمان، ووعدهم بالمغفرة والرزق الواسع، ومن شهد الله له بهذه الشهادة، فقد بلغ أعلى مرتبة العدالة.

ثم قال: ( ) [الأنفال: ٧٤]. ذكر الله تعالى هنا ما كتب لهم من خيري الدنيا والآخرة، وهذا يتضمن جزاءين:

أولهما: المغفرة السابقة، ووراءها الرحمة والنعيم المقيم.

ثانيهما: رزق كريم واسع في الدنيا بعد المشقة التي تحملوها، وهذا شأن المهاجرين الذين آمنوا، وشأن الأنصار الذين آووا ونصروا70.

فيكون الله قد أثنى عليهم ها هنا من ثلاثة أوجه:

أولها: قوله: ( ﯨﯩ) فقوله: ( ﯨﯩ) يفيد الحصر، وقوله: (ﯨﯩ) يفيد المبالغة في وصفهم بكونهم محقين محققين في طريق الدين، وقد كانوا كذلك؛ لأن من لم يكن محقًا في دينه لم يتحمل ترك الأديان السالفة، ولم يفارق الأهل والوطن، ولم يبذل النفس والمال، ولم يكن في هذه الأحوال من المسارعين المسابقين.

وثانيها: قوله: ( ) والتنكير يدل على الكمال، أي: مغفرة تامة كاملة.

وثالثها: قوله: ( ) والمراد منه: الثواب الرفيع الشريف71.

وعن السائب بن يزيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا معشر الأنصار، ألم يمن الله عليكم بالإيمان، وخصكم بالكرامة، وسماكم بأحسن الأسماء: أنصار الله، وأنصار رسوله؟!)72.

فالأنصار إذن حازوا شرفين: شرف سبقهم إلى الإيمان، وشرف استضافتهم للإيمان وأهله في أرضهم.

ومدحهم بأنهم أناس سكنوا الإيمان، وسكن الإيمان في قلوبهم، فقال: ( ) [الحشر: ٩].

فقوله: () الأظهر أن (الذين) هنا عطف على (المهاجرين) -في الآية السابقة-، أي: والذين تبوءوا الدار هم الأنصار73.

وقوله: ( ) من مادة (بواء) على وزن (دواء) وهي في الأصل بمعنى تساوي أجزاء المكان، وبعبارة أخرى يقال: (بواء) لترتيب وتسوية مكان (ما) وفي هذا التعبير كناية لطيفة لهذا المعنى، وهو أن طائفة الأنصار -أهل المدينة- قد هيئوا الأرضية المناسبة للهجرة.

وقوله: () الدار تطلق على البلاد، وأصلها: موضع القبيلة من الأرض، وأطلقت على القرية.

قال تعالى في ذكر ثمود: ( ) [الأعراف: ٧٨].

أي: في مدينتهم، وهي حجر ثمود، والتعريف هنا للعهد؛ لأن المراد بالدار: المدينة النبوية، والمعنى: الذين هم أصحاب الدار74، أي: دار الهجرة مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد تبوأها الأنصار قبل المهاجرين، كما تبوءوا فيها الإيمان، وكأنه منزل لهم ودار، وهو تعبير ذو ظلال، وهو أقرب ما يصور موقف الأنصار من الإيمان، لقد كان دارهم ونزلهم ووطنهم الذي تعيش فيه قلوبهم، وتسكن إليه أرواحهم، ويثوبون إليه، ويطمئنون له، كما يثوب المرء ويطمئن إلى الدار.

وفي قوله: () هذا تشريف للمدينة، حيث سماها الله الدار، فكأنها هي دار الإيمان؛ لأن الإيمان أوى إليها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها)75.

فالتعريف في () للتنويه كأنها الدار التي تستحق أن تسمى دارًا، وهي التي أعدها الله تعالى لهم؛ ليكون تبوؤهم إياها مدحًا لهم.

وذكر بعضهم أن الدار علمٌ بالغلبة على المدينة، كالمدينة، وأنه أحد أسمائها، ومنها: طيبة، وطابة، ويثرب، وجابرة76.

وفي ذكر الدار -وهي المدينة- مع ذكر الإيمان إيماء إلى فضيلة المدينة، بحيث جعل تبوؤهم المدينة قرين الثناء عليهم بالإيمان، ولعل هذا هو الذي عناه مالك -رحمة الله- فيما رواه عنه ابن وهب قال: سمعت مالكًا يذكر فضل المدينة على غيرها من الآفاق، فقال: إن المدينة تبوأت بالإيمان والهجرة، وإن غيرها من القرى افتتحت بالسيف. ثم قرأ: ( ) [الحشر: ٩]الآية77.

وجاء عنه صلى الله عليه وسلم: (أمرت بقرية تأكل القرى)78 .

والمقصود: المدينة، أي: يغلب أهلها، وهم الأنصار بالإسلام على غيرها من القرى، وينصر الله دينه بأهلها، ويفتح القرى عليهم، ويغنمهم إياها فيأكلونها79.

وقوله: () [الحشر: ٩]أي: سكنوا الإيمان، والإيمان لا يسكن، وإنما شبه الإيمان كأنه دار سكنوها؛ لأن الدار يستقر فيها الإنسان، فهؤلاء الأنصار سكنوا الإيمان، بمعنى: استقر الإيمان في قلوبهم، والإنسان يلازم داره، بمعنى: يستقر ويطمئن ويستريح فيه، وهؤلاء لازموا الإيمان كملازمة الإنسان لمسكنه، وهذه شهادة لهم بالإيمان -رضي الله تعالى عنهم-، فهم مؤمنون صادقون، استقر الإيمان في قلوبهم.

قال ابن جزي: «فإن قيل: كيف قال: تبوءوا الدار والإيمان، وإنما تتبوأ الدار، أي: تسكن ولا يتبوأ الإيمان؟

فالجواب من وجهين:

الأول: أن معناه تبوءوا الدار، وأخلصوا الإيمان، فهو كقولك:

علفتها تبنًا وماء باردًا80.

تقديره: علفتها تبنًا، وسقيتها ماء باردًا.

والثاني: أن المعنى: أنهم جعلوا الإيمان كأنه موطن لهم؛ لتمكنهم فيه، كما جعلوا المدينة كذلك»81.

فيكون في عطف الإيمان على الدار ستة أوجه:

أحدها: أنه ضمن () معنى: لزموا، فيصح عطف الإيمان عليه؛ إذ الإيمان لا يتبوأ.

الثاني: أنه منصوب بمقدر، أي: واعتقدوا، أو وألفوا، أو وأحبوا، أو وأخلصوا؛ كقوله:

علفتها تبنًا وماءً باردًا

وقوله:

متقلدًا سيفًا ورمحا 82

أي: وحاملًا رمحًا.

الثالث: أنه يتجوز في الإيمان، إن الإيمان مجاز عن المدينة، سمي محل ظهور الشيء باسمه مبالغة، فيجعل اختلاطه بهم وثباتهم عليه كالمكان المحيط بهم، فكأنهم نزلوه، وعلى هذا فيكون جمع بين الحقيقة والمجاز في كلمة واحدة، وفيه خلاف مشهور.

الرابع: أن يكون الأصل: دار الهجرة ودار الإيمان، فأقام (لام) التعريف في (الدار) مقام المضاف إليه، وحذف المضاف من دار الإيمان، ووضع المضاف إليه مقامه.

الخامس: أن يكون سمى (المدينة)؛ لأنها دار الهجرة ومكان ظهور الإيمان.

السادس: أنه منصوب على المفعول معه (الواو للمعية) أي: مع الإيمان معًا، والمراد تبوءوا الدار مع إيمانهم، أي: تبوءوها مؤمنين83.

والضمير في قوله: ( ) [الحشر: ٩].

للمهاجرين، والجار متعلق بتبوء، أي: من قبل أن يهاجر المهاجرون إليهم، وقد أسلم كثير من الأنصار قبل المهاجرين، لكن المقصود -والله وأعلم- بقوله: ( ) [الحشر: ٩] أي: من قبل أن يهاجر المهاجرون، وأن الأنصار أسلم كثير من كبارهم وسادتهم على يد مصعب بن عمير رضي الله عنه قبل أن يهاجر كثير من المهاجرين -رضي الله تعالى عنهم-، وقبل أن تصبح المدينة دار الهجرة التي أوى إليها النبي عليه الصلاة والسلام، فكثير من الأنصار كان قد أسلم، ودخل الإيمان في قلوبهم، واستقر على يد مصعب بن عمير رضي الله عنه، فهو من فتح الله به المدينة المنورة بدعوته إلى الله، وسلوكه الطيب، حتى ما بقي بيت من بيوت المدينة إلا ودخله الإيمان.

وقد أورد ابن جزي إشكالًا، وأجاب عليه، حيث قال: «فإن قيل: قوله: ( ) [الحشر: ٩].

يقتضي أن الأنصار سبقوا المهاجرين بنزول المدينة وبالإيمان، فأما سبقهم لهم بنزول المدينة فلا شك فيه؛ لأنها كانت بلدهم، وأما سبقهم لهم بالإيمان فمشكل؛ لأن أكثر المهاجرين أسلم قبل الأنصار.

قال: والجواب من وجهين:

أحدهما: أنه أراد بقوله: ( ) [الحشر: ٩] من قبل هجرتهم.

والآخر: أنه أراد تبوءوا الدار مع الإيمان معًا، أي: جمعوا بين الحالتين قبل المهاجرين؛ لأن المهاجرين إنما سبقوهم بالإيمان لا بتبوء الدار، فيكون الإيمان على هذا مفعولًا معه، وهذا الوجه أحسن؛ لأنه جواب عن هذا السؤال، وعن السؤال الأول فإنه إذا كان الإيمان مفعولًا معه لم يلزم السؤال الأول؛ إذ لا يلزم إلا إذا كان الإيمان معطوفًا على الدار»84.

وجعل الألوسي ذلك من قبل تقدير مضاف، حيث قال: «والكلام بتقدير مضاف، أي: من قبل هجرتهم، فنهاية ما يلزم سبق الإيمان الأنصار على هجرة المهاجرين، ولا يلزم منه سبق إيمانهم على إيمانهم؛ ليقال: إن الأمر بالعكس، وجوز أن لا يقدر مضاف، ويقال: ليس المراد سبق الأنصار لهم في أصل الإيمان، بل سبقهم إياهم في التمكن فيه؛ لأنهم لم ينازعوا فيه لما أظهروه.

وقيل: الكلام على التقديم والتأخير، والتقدير: تبوءوا الدار من قبلهم والإيمان، فيفيد سبقهم إياهم في تبوء الدار فقط، وهو خلاف الظاهر، على أن مثله لا يقبل ما لم يتضمن نكتة سرية، وهي غير ظاهرة ها هنا؛ وقيل: لا حاجة إلى شيء مما ذكر، وقصار ما تدل الآية عليه تقدم مجموع تبوء الأنصار وإيمانهم على تبوء المهاجرين وإيمانهم، ويكفي في تقديم المجموع تقدم بعض أجزائه، وهو ها هنا تبوء الدار، وتعقب بمنع الكفاية، ولو سلمت لصح أن يقال: بتقدم تبوء المهاجرين وإيمانهم على تبوء الأنصار وإيمانهم؛ لتقدم إيمان المهاجرين»85.

ووصف الله الأنصار أيضًا بالإيمان والاستجابة لله، كما جاء في تفسير قوله تعالى: ( ) [الشورى: ٣٨].

أنها نزلت في الأنصار، حين دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإيمان، فاستجابوا له؛ أي: لرسول الله من صميم القلب، كما هو المفهوم من إطلاق الاستجابة، وفيه إشارة إلى أن الاستجابة للرسول استجابة للمرسل، فهو من عطف الخاص على العام لمزيد التشريف، وذلك لأن الاستجابة داخلة في الإيمان86.

قال الألوسي: ( ) [الشورى: ٣٨].

قيل: نزلت في الأنصار، دعاهم الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم للإيمان به وطاعته سبحانه، فاستجابوا له، فأثنى عليهم -جل وعلا- بما أثنى، وعليه فهو من ذكر الخاص بعد العام؛ لبيان شرفه؛ لأيمانهم دون تردد وتلعثم، والآية إن كانت مدنية فالأمر ظاهر، وإذا كانت مكية فالمراد بالأنصار من آمن بالمدينة قبل الهجرة، أو المراد بهم أصحاب العقبة87.

وقال الشوكاني: «قال ابن زيد: هم الأنصار بالمدينة استجابوا إلى الإيمان بالرسول حين أنفذ إليهم اثني عشر نقيبًا منهم قبل الهجرة، وأقاموا الصلاة لمواقيتها بشروطها وهيئاتها»88.

ووصف الله الأنصار بالإيمان والعمل الصالح، كما جاء عن ابن عباس في قوله: ( ) [محمد: ٣٤]. قال: هم أهل مكة، ( ) [محمد: ٢]. قال: هم أهل المدينة الأنصار ( ) [محمد: ٢]. قال: أمرهم89.

ووصفوا بأنهم رجال؛ وسماهم الله رجال، فقال: ( ﭯﭰ ﭻﭼ ﭿ ﮁﮂ ) [التوبة: ١٠٨].

فقد جاء ما يدل أنها نزلت في الأنصار، فعن أبي أيوب وجابر وأنس رضوان الله عليهم أن هذه الآية حين نزلت: ( ﭿ ﮁﮂ ) [التوبة: ١٠٨].

قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا معشر الأنصار إن الله قد أثنى عليكم في الطهور، فما طهوركم؟) قالوا: نتوضأ للصلاة، ونغتسل من الجنابة، ونستنجي بالماء، قال: (فهو ذاك، فعليكموه)90.

وعن موسى بن أبي كثير قال: بدء حديث هذه الآية في رجال من الأنصار، من أهل قباء91.

وقوله: ( ﭿ ﮁﮂ) [التوبة: ١٠٨].

أي: من الأحداث والجنابات والنجاسات...، وقالوا: المراد منه: الطهارة بالماء بعد الحجر، وقيل: المراد منه: الطهارة من الذنوب والمعاصي، وقيل: محمول على الأمرين92.

فتكون جملة: ( ﭿ ﮁﮂ) ثناء على مؤمني الأنصار الذين يصلون بمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبمسجد قباء، وجاء الضمير مفردًا مراعاة للفظ (مسجد) الذي هو جنس93.

ثانيًا: توبة الله على الأنصار، وتجاوزه عن تقصيرهم:

قال تعالى: ( ﯯﯰ ) [التوبة: ١١٧].

نزلت هذه الآية في غزوة تبوك التي كانت قبل الشام، وكان فيها جيش العسرة من المهاجرين والأنصار، ومن غيرهم من القبائل التي حول المدينة ومكة، ولكنهم خصوا بالثناء والتوبة؛ لأنهم لم يترددوا، ولم يتثاقلوا، ولا شحوا بأموالهم، فكانوا أسوة لمن ائتسى بهم من غيرهم من القبائل94.

ففي قوله: ( ) خبر مؤكد بلام القسم على حرف التحقيق (قد) بين فيه تعالى فضل عطفه على نبيه وأصحابه المؤمنين الصادقين من المهاجرين والأنصار، وتجاوزه عن هفواتهم في هذه الغزوة، وفي غيرها لاستغراقها في حسناتهم الكثيرة على كونهم لا يصرون على شيء منها، وإنما كانت هفواتهم هذه مقتضى الطباع البشرية، واجتهاد الرأي فيما لم يبينه الله تعالى بيانًا قطعيًا يعد مخالفه عاصيًا.

يقول ابن عاشور: «وافتتاح الله هذه الآية بحرف التحقيق (لقد)؛ تأكيدًا لمضمونها المتقرر فيما مضى من الزمان، حسبما دل عليه الإتيان بالمسندات كلها أفعالًا ماضية.

ومن المحسنات افتتاح هذا الكلام بما يؤذن بالبشارة لرضا الله على المؤمنين الذين غزوا تبوك، وتقديم النبي صلى الله عليه وسلم في تعلق فعل التوبة بالغزاة؛ للتنويه بشأن هذه التوبة، وإتيانها على جميع الذنوب؛ إذ قد علم المسلمون كلهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد غفر الله ما تقدم من ذنبه وما تأخر»95.

وهذه التوبة التي تابها الله على النبي والمهاجرين والأنصار -كما قال ابن عباس-: كانت التوبة على النبي لأجل إذنه للمنافقين في القعود، ودليله قوله: ( ) [التوبة: ٤٣].

وعلى المؤمنين من ميل قلوب بعضهم إلى التخلف عنه، وقيل: توبة الله عليهم استنقاذهم من شدة العسرة.

وقيل: خلاصهم من نكاية العدو، وعبر عن ذلك بالتوبة وإن خرج عن عرفها لوجود معنى التوبة فيه، وهو الرجوع إلى الحالة الأولى96.

يقول شيخ المفسرين الطبري: «يقول تعالى ذكره: لقد رزق الله الإنابة إلى أمره وطاعته نبيه محمدًا، والمهاجرين ديارهم وعشيرتهم إلى دار الإسلام، وأنصار رسوله في الله الذين اتبعوا رسول الله في ساعة العسرة منهم من النفقة والظهر والزاد والماء»97.

فيكون معنى توبته على النبي أي: بإذنه للمنافقين بالتخلف عنه98.

وقال أهل المعاني: هو مفتاح كلام، وذلك أنه لما كان سبب توبة التائبين ذكر معهم، كقوله: ( ) [الأنفال: ٤١]99.

وهذه التوبة على المهاجرين والأنصار في ساعة العسرة سببها كما قال الرازي: «ربما وقع في قلوبهم نوع نفرة عن تلك السفرة، وربما وقع في خاطر بعضهم أنا لسنا نقدر على الفرار، ولم يعزموا عليه، بل وساوس كانت تقع في قلوبهم، فالله تعالى بين في آخر هذه السورة أنه بفضله عفا عنها، فقال: ( ) [التوبة: ١١٧].

والوجه الثاني في الجواب: أن الإنسان طول عمره لا ينفك عن زلات وهفوات، إما من باب الصغائر، وإما من باب ترك الأفضل، ثم إن النبي وسائر المؤمنون لما تحملوا مشاق هذا السفر ومتاعبه، وصبروا على تلك الشدائد والمحن، أخبر الله تعالى أن تحمل تلك الشدائد صار مكفرًا لجميع الزلات التي صدرت عنهم في طول العمر، وصار قائمًا مقام التوبة المقرونة بالإخلاص عن كلها.

والوجه الثالث في الجواب: أن الزمان لما اشتد عليهم في ذلك السفر، وكانت الوساوس تقع في قلوبهم، فكلما وقعت وسوسة في قلب واحد منهم تاب إلى الله منها، وتضرع إلى الله في إزالتها عن قلبه، فلكثرة إقدامهم على التوبة بسبب خطرات تلك الوساوس ببالهم، قال تعالى: ( ) [التوبة: ١١٧]...الآية.

والوجه الرابع: لا يبعد أن يكون قد صدر عن أولئك الأقوام أنواع من المعاصي، إلا أنه تعالى تاب عليهم، وعفا عنهم لأجل أنهم تحملوا مشاق ذلك السفر، ثم إنه تعالى ضم ذكر الرسول عليه الصلاة والسلام إلى ذكرهم؛ تنبيهًا على عظم مراتبهم في الدين، وأنهم قد بلغوا إلى الدرجة التي لأجلها ضم الرسول عليه الصلاة والسلام إليهم في قبول التوبة»100.

وقوله تعالى: ( ) [التوبة: ١١٧].

() من أفعال المقاربة، تعمل في اسمين (عمل كان) واسمها هنا ضمير شأن مقدر، وخبرها هو جملة الخبر عن ضمير الشأن، وإنما جعل اسمها هنا ضمير شأن؛ لتهويل شأنهم حين أشرفوا على الزيغ.

واختلف في معنى (تزيغ) فقيل: تتلف بالجهد والمشقة والشدة، وقيل: تعدل -أي تميل- عن الحق في الممانعة والنصرة، وقيل: من بعد ما هم فريق منهم بالتخلف والعصيان ثم لحقوا به، وقيل: هموا بالقفول فتاب الله عليهم، وأمرهم به101.

وقوله تعالى: ( ) هذا تأكيد ظاهر، واعتناء بشأن التوبة، هذا إن كان الضمير راجعًا إلى من تقدم ذكر التوبة عنهم، وإن كان الضمير إلى الفريق فلا تكرار102. والمعنى: قيل: توبته عليهم أن تدارك قلوبهم حتى لم تزغ، وكذلك سنة الحق مع أوليائه إذا أشرفوا على العطب، ووطنوا أنفسهم على الهلاك أمطر عليهم سحائب الجود، فأحيا قلوبهم103.

فإن قيل: ذكر التوبة في أول الآية وفي آخرها، فما فائدة التكرار؟

فالجواب من وجوه:

أحدها: أنه تعالى ابتدأ بذكر التوبة قبل ذكر الذنب؛ تطييبًا لقلوبهم، ثم لما ذكر الذنب أردفه مرة أخرى بذكر التوبة؛ تعظيمًا لشأنهم.

وثانيها: إذا قيل: عفا السلطان عن فلان ثم عفا عنه، دل على أن ذلك العفو متأكد، بلغ الغاية القصوى في الكمال والقوة. . .، وهذا معنى قول ابن عباس في قوله: ( ) يريد ازداد عنهم رضًا، قال ابن عباس: من تاب الله عليه لم يعذبه أبدًا.

وثالثها: أنه قال: ( ) [التوبة: ١١٧].

وهذا الترتيب يدل على أن المراد أنه تعالى تاب عليهم من الوساوس التي كانت تقع في قلوبهم في ساعة العسرة،

ثم إنه تعالى زاد عليه فقال: ( ) [التوبة: ١١٧].

فهذه الزيادة أفادت حصول وساوس قوية، فلا جرم أتبعها تعالى بذكر التوبة مرة أخرى؛ لئلا يبقى في خاطر أحدٍ شك في كونهم مؤاخذين بتلك الوساوس104.

وفي قصة توبة الله على النبي والمهاجرين والأنصار وعلى الثلاثة، فوائد ومسائل، منها:

في هذه الآيات دليل على أن توبة الله على العبد أجل الغايات، وأعلى النهايات، فإن الله جعلها نهاية خواص عباده، وامتن عليهم بها، حين عملوا الأعمال التي يحبها ويرضاها، وفيها لطف الله بهم، وتثبيتهم في إيمانهم عند الشدائد والنوازل المزعجة.

وفي الآيات أيضًا دليل على أن العبادة الشاقة على النفس لها فضل ومزية ليست لغيرها، وكلما عظمت المشقة عظم الأجر، وأن توبة الله على عبده بحسب ندمه وأسفه الشديد، وأن من لا يبالي بالذنب، ولا يحرج إذا فعله، فإن توبته مدخولة، وإن زعم أنها مقبولة.

وأن علامة الخير وزوال الشدة إذا تعلق القلب بالله تعالى تعلقًا تامًا، وانقطع عن المخلوقين.

وأن من لطف الله بالثلاثة أن وسمهم بوسم ليس بعار عليهم، فقال: () إشارة إلى أن المؤمنين خلفوهم، أو خلفوا عن من بت في قبول عذرهم، أو في رده، وأنهم لم يكن تخلفهم رغبة عن الخير؛ ولهذا لم يقل: (تخلفوا).

ومن فوائد الآيات: أن الله تعالى من عليهم بالصدق؛ ولهذا أمر بالاقتداء بهم، فقال: ( ) [التوبة: ١١٩]105.

يقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: واعلم أن لله تعالى على عبده توبتين؛ التوبة الأولى: قبل توبة العبد؛ وهي التوفيق للتوبة؛ والتوبة الثانية: بعد توبة العبد؛ وهي قبول التوبة؛ وكلاهما في القرآن؛ قال الله تبارك وتعالى: ( ﭪﭫ ) [التوبة: ١١٨].

فقوله تعالى: ( ﭪﭫ) أي: وفقهم للتوبة، وقوله تعالى: (ﭪﭫ) أي: يقوموا بالتوبة إلى الله؛ وأما توبة القبول ففي قوله تعالى: ( ) [الشورى: ٢٥].

ومن فوائد الآيات:


1 انظر: مختار الصحاح،١/٦٨٨، معجم اللغة العربية المعاصرة، أحمد مختار عمر، ٣/٢٢٢٠.

2 انظر: مغاني الأخيار في شرح أسامي رجال معاني الآثار، العيني ٣/٣٨٢.

3 انظر: المصدر السابق.

4 انظر: المعجم المفهرس الشامل لألفاظ القرآن الكريم، عبد الله جلغوم، ص١٣٢٥-١٣٢٨.

5 انظر: بصائر ذوي التمييز، الفيروزآبادي ٥/٦٩.

6 انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، ابن الأثير، ٣/١٢.

7 انظر: نزهة النظر، ابن حجر العسقلاني، ص١٤٠.

8 انظر: تهذيب اللغة، الأزهري،٦/٢٩، معجم اللغة العربية المعاصرة، أحمد مختار عمر،٣/٢٣٢٥.

9 انظر: الكليات، الكفوي، ص٨٨٣.

10 انظر: أساس البلاغة، الزمخشري، ١/٦١١، تاج العروس، الزبيدي،٢٦/١٠٢.

11 انظر: العين، الفراهيدي، ٢/٧٨.

12 انظر: الضوء اللامع المبين عن مناهج المحدثين، أحمد ناجي، ص، ١٦٨.

13 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٣/٢٦٨.

14 معالم التنزيل، البغوي ٣/١٦٦.

15 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٧/٣٤.

16 جامع البيان، الطبري ١١/٥١٨.

17 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٨/٤٢.

18 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المغازي، باب قوله: (إذ همت طائفتان منكم)، ٥/ ٩٦، رقم ٤٠٥١ ومسلم في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل الأنصار،رضي الله عنهم، رقم ٢٥٠٥.

19 انظر: زاد المسير، ابن الجوزي ١/٤٤٩.

20 منهاج السنة النبوية ١/١٥٤.

21 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجمعة، باب فرض الجمعة، ٢/ ٢، رقم ٨٧٦، ومسلم في صحيحه، كتاب الجمعة، باب هداية هذه الأمة ليوم الجمعة ٢/ ٥٨٥، رقم ٨٥٥.

22 أحكام القرآن، ابن العربي ٤/٤٠٦.

23 مفاتيح الغيب، الرازي ٨/١٢٧.

24 فتح القدير ٢/٥٧٧.

25 زاد المسير، ابن الجوزي ٣/٤٩١.

26 جامع البيان، ١٤/٤٣٩.

27 تفسير القرآن العظيم، ٤/٢٠٣.

28 المصدر السابق.

29 صفوة التفاسير، الصابوني ١/٣٧٤.

30 محاسن التأويل، القاسمي ٢/٥٠.

31 في ظلال القرآن ٧/١٦٥.

32 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٨/٦٩.

33 محاسن التأويل، القاسمي ٢/٥٠.

34 عمدة القاري ٢٤/٤١١.

35 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب مناقب الأنصار، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار:(أنتم أحب الناس إلي)، ٥/ ٣٢، رقم ٣٧٨٦، ومسلم في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل الأنصار، ٤/ ١٩٤٨، رقم ٢٥٠٨.

36 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الإيمان، باب علامة الإيمان حب الأنصار، ١/ ١٢، رقم ١٧، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب الدليل على أن حب الأنصار وعلي رضي الله عنهم من الإيمان وعلاماته، وبغضهم من علامات النفاق ١/٨٥، رقم ٧٤.

37 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب مناقب الأنصار، باب حب الأنصار، ٥/٣٢، رقم ٣٧٨٣، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب الدليل على أن حب الأنصار وعلي رضي الله عنهم من الإيمان وعلاماته، وبغضهم من علامات النفاق ١/٨٥، رقم ٧٥.

38 انظر: فتح الباري، ابن حجر ١/ ١٦٣.

39 الجامع لأحكام القرآن، ١٨/ ٢٦.

40 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، باب قوله: (ويؤثرون على أنفسهم)، ٦/ ١٤٨، رقم ٤٨٨٩.

41 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، باب قوله: (ويؤثرون على أنفسهم)، ٥/ ٣٤، رقم ٣٧٩٨.

42 انظر: زاد المسير، ابن الجوزي ٤/٢٥٨.

43 انظر: الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ١٨/٢٥.

44 التسهيل لعلوم التنزيل، ابن جزي ٢/٣٦٠.

45 مفاتيح الغيب، الرازي ٢٩/٥٠٨.

46 المصدر السابق.

47 انظر: المصدر السابق.

48 مفاتيح الغيب، الرازي ٢٩/٥٠٨.

49 تفسير القرآن العظيم، ٨/٧١.

50 أخرجه البزار في مسنده، رقم ٧٢٩٣ والطبراني في المعجم الأوسط ٥٧٥٤.

وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب ٢/ ٣٥٦، رقم ٢٦٠٧.

51 روح البيان، إسماعيل حقي ٩/٣٥٣.

52 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإمارة، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية، وتحريمها في المعصية ٣/١٤٧٠، رقم ١٧٠٩.

53 أحكام القرآن، ابن العربي ٧/٣٠٨.

54 فتح القدير ٥/٢٠١

55 المصدر السابق ٥/٢٨٢.

56 انظر: زاد المسير، ابن الجوزي ٨ /٢١٢.

57 مجموع فتاوى ابن تيمية ١٠/١١٩.

58 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجزية، باب ما أقطع النبي صلى الله عليه وسلم من البحرين، وما وعد من مال البحرين والجزية، ولمن يقسم الفيء والجزية ٤/ ٩٨، رقم ٣١٦٣، ومسلم في صحيحه، كتاب الإمارة، باب الأمر بالصبر عند ظلم الولاة واستئثارهم ٣/ ١٤٧٤، رقم ١٨٤٥.

59 أحكام القرآن، ابن العربي ٧/٣١٠.

60 انظر: لطائف الإشارات، القشيري ٣/٥٦١.

61 محاسن التأويل، القاسمي ٢٣/ ٢.

62 زهرة التفاسير، أبو زهرة ١/٣٢٠١.

63 انظر: ديوان حسان بن ثابت ص٩٩.

64 أخرجه أحمد في مسنده، ٢٥/٩٢، رقم ١٥٧٨٩.

65 انظر: السيرة النبوية، ابن هشام ٢/١٩٧- ٢٠٩.

66 انظر: جامع البيان، الطبري ١٠/٥١، تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٤/٩٥.

67 فتح القدير ٢/٤٧٨.

68 انظر: زهرة التفاسير، أبو زهرة ٦/٣٢٠٢.

69 المصدر السابق ٦/٣٢٠٦.

70 انظر: المصدر السابق ٦/٣٢٠٩.

71 انظر: مفاتيح الغيب، الرازي ١٥/٥١٩.

72 أخرجه الطبراني في الكبير ٧/ ١٥١، رقم ٦٦٦٥.

73 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٢٨/٩٠.

74 المصدر السابق.

75 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل المدينة، باب الإيمان يأرز إلى المدينة ٣/ ٢١، رقم ١٨٧٦، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب بيان أن الإسلام بدأ غريبًا وسيعود غريبًا، وأنه يأرز بين المسجدين ١/١٣١، رقم ١٤٧.

76 روح المعاني، الألوسي ٢٠/٤٢٥.

77 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٢٨/٩١.

78 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل المدينة، باب فضل المدينة وأنها تنفي الناس ٣/ ٢٠، رقم ١٨٧١، ومسلم في صحيحه، كتاب الحج، باب المدينة تنفي شرارها، ٢/١٠٠٦، رقم ١٣٨٢.

79 انظر: النهاية في غريب الأثر، ابن الأثير ١/١٤٤.

80 البيت في خزانة الأدب ٣/ ١٣٩، وفي العباب الزاخر ١/٤٨١، وتمامه: «حتى شتت همالةً عيناها».

81 التسهيل لعلوم التنزيل، ٣/١٥٧.

82 البيت في الكامل في اللغة ١/ ٢٩١ وشرح ديوان الحماسة ص ٨٠٥ غير منسوب لقائل، وصدره: «يا ليت بعلك قد غذا».

83 انظر: اللباب في علوم الكتاب، ابن عادل ١٥/٢٠١.

84 التسهيل لعلوم التنزيل، ٣/١٥٧.

85 روح المعاني، ٢٠/٤٢٥.

86 روح البيان، إسماعيل حقي ٨/٢٥٣.

87 روح المعاني ٢٥/٤٦.

88 فتح القدير ٤/٧٦٩.

89 انظر: فتح القدير، الشوكاني ٥/٤٧.

90 أخرجه ابن ماجه في كتاب الطهارة وسننها، باب الاستنجاء بالماء ١/ ١٢٧، رقم ٣٥٥.

وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه، ١/٦٣.

91 جامع البيان، الطبري ١٤/ ٤٨٨.

92 اللباب في علوم الكتاب، ابن عادل ١٠/ ٢١٠.

93 التحرير والتنوير، ابن عاشور ١١/ ٣٢.

94 انظر: المصدر السابق .

95 السابق ١١/٤٩.

96 اللباب في علوم الكتاب، ابن عادل ٨/٣٨٧.

97 جامع البيان، ١٤/٥٣٩.

98 معالم التنزيل، البغوي ٤/١٠٤.

99 اللباب في علوم الكتاب، ابن عادل ٨/٣٨٧.

100 انظر: مفاتيح الغيب، الرازي ٨/١٧٠.

101 انظر: الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٨/٢٨١.

102 انظر: فتح القدير، الشوكاني ٢/٥٩٩.

103 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٨/٢٨١.

104 اللباب في علوم الكتاب، ابن عادل ٨/٣٨٩.

105 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص٣٥٤.

106 انظر: تفسير القرآن الكريم، ابن عثيمين ٣/٩١.

107 انظر: اللباب في علوم الكتاب، ابن عادل ٨/٣٨٧.

108 انظر: المصدر السابق.

109 انظر: اللباب في علوم الكتاب، ابن عادل ٨/٣٨٧.

110 انظر: السيرة النبوية، ابن كثير ٤/ ١٦.

111 أخرجه الترمذي في سننه، أبواب المناقب، ٥/ ٦٢٦، رقم ٣٧٠١.

وحسنه الألباني في تعليقه على المشكاة، رقم ٦٠٦٤.

112 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الفتن، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: (سترون بعدي أمورًا تنكرونها)، ٩/ ٤٧، رقم ٧٠٥٦، ومسلم في صحيحه، كتاب الإمارة، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية، وتحريمها في المعصية، ٣/١٤٧٠، رقم ١٧٠٩.

113 تفسير القرآن الكريم، ٨/ ١١٣.

الأنصار

عناصر الموضوع

مفهوم الأنصار

الأنصار في الاستعمال القرآني

الألفاظ ذات الصلة

صفات الأنصار وأعمالهم

فضائل الأنصار

الأنصار

مفهوم الأنصار

أولًا: المعنى اللغوي:

الأنصار: جمع ناصر، كصاحب وأصحاب، كما تجمع ناصر على ناصرين ونصار، اسم فاعل من نصر.

أو جمع نصير، كشريف وأشراف، (ناصر أو نصير) وكلاهما صواب، والنصير: فعيل، بمعنى فاعل أو مفعول؛ لأن كل واحد من المتناصرين ناصر ومنصور.

ونصير: صيغة مبالغة من ناصر، ومعناه: المساعد، والمعين، والمناصر، والمؤيد.

يقال: نصره على عدوه ينصره نصرًا، واستنصره على عدوه: سأله أن ينصره عليهم، وتناصر القوم: إذا نصر بعضهم بعضًا، وانتصر منه: انتقم1.

ولفظ الأنصار يأتي بمعنى: الأعوان المناصرين والمؤازرين والأتباع والحلفاء، وأهل الاتباع والتصديق.

وهذا اللفظ (الأنصار) بهذا المعنى اللغوي يمكن إطلاقه لغةً على كل من اتصف بهذا الوصف.

ثانيًا: المعنى الاصطلاحي:

وفي المعنى الاصطلاحي الأمر ليس ببعيد عن المعنى اللغوي، فأنصار الرجل هم حلفاؤه وأتباعه ومؤيدوه في النزاعات، ومعاونوه على أمره.

ومن هنا جاء تعريف الأنصار في الاصطلاح الشرعي بأنهم الأوس، والخزرج من الأزد: سماهم الله عز و جل بذلك لما نصروا رسوله، وآووه، وكانوا له نعم الحلفاء والأتباع2.

فالأنصار اصطلاحًا: يطلق على من أسلم من أهل المدينة بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم من الأوس، والخزرج، ومزينة، وسليم، وجهينة، وغفار، وأسلم، فكل هؤلاء يسمون الأنصار، وهو اسم سماه الله تعالى لكل من ناصر نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم وآواه في المدينة3، وأولادهم يدخلونه بالنسب؛ فيقال: الأنصاري للواحد منهم ومن أبنائهم.

الأنصار في الاستعمال القرآني

وردت مادة (نصر) في القرآن (١٥٥) مرة، يخص موضوع البحث منها (١١) مرة4.

والصيغ التي وردت هي:

الصيغة

عدد المرات

المثال

الجمع

١١

( ) [البقرة:٢٧٠]

وجاءت كلمة (الأنصار) في الاستعمال القرآني بمعناها اللغوي، وهو: الأعوان5.

الألفاظ ذات الصلة

الصحابة:

الصحابة لغة:

الصحابة بالفتح: جمع صاحب، ولم يجمع فاعل على فعالة إلا هذا6.

الصحابة اصطلاحًا:

هو من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمنًا به، ومات على الإسلام، ولو تخللت ردةٌ في الأصح7.

الصلة بين الأنصار والصحابة:

عند الحديث عن الفرق بين لفظة الأنصار ولفظة الصحابة وكذلك الألفاظ الثلاثة التالية يكون المقصود منه الاصطلاح الشرعي، فيكون لفظ الأنصار أخص من لفظ الصحابة، إذ الصحابة منهم المهاجرون والأنصار والطلقاء، ومن دخل في دين النبي صلى الله عليه وسلم من القبائل بعد الفتح.

المهاجرون:

المهاجرون لغة:

جمع مهاجر، والمهاجر هو كل من فارق رباعه من بدوي أو حضري وسكن بلدًا آخر8.

ا لمهاجرون اصطلاحًا:

هم الذين صلوا إلى القبلتين، أو شهدوا بدرًا، أو أسلموا قبل الهجرة9.

الصلة بين الأنصار والمهاجرين:

الأنصار هم أهل المدينة الذين آووا النبي صلى الله عليه وسلم ومن هاجر إليهم من أهل الإسلام من مكة، والمهاجرون هم الذين قدموا المدينة مع النبي صلى الله عليه وسلم، أو هاجروا إليه منها بعد ذلك، وقبل انتهاء أجل الهجرة.

الطلقاء:

الطلقاء لغة:

أطلقت الأسير، وهو طليق، وهو من الطلقاء. وأطلقت الناقة من عقالها فطلقت10.

الطلقاء اصطلاحًا:

هم أهل مكة الذين أسلموا بعد فتحها.

الصلة بين الأنصار والطلقاء:

الأنصار من أهل المدينة وإسلامهم متقدم على إسلام الطلقاء، أما الطلقاء فهم أهل مكة وإسلامهم كان بعد فتح مكة.

التابعون:

التابعون لغة:

جمع تابع، وهو التالي، ومنه التتبع والمتابعة، والإتباع، والتتبع، تقول: تتبعت علمه، أي: اتبعت آثاره11.

التابعون اصطلاحًا:

من لقي الصحابي، وإن لم تطل صحبته12.

الصلة بين الأنصار والتابعين:

الأنصار صحبوا النبي صلى الله عليه وسلم ورأوه وهم من قرن النبي صلى الله عليه وسلم، بينما التابعون هم من صحبوا الصحابة بعد موت النبي، أو قبل ذلك ولم يحصل لهم شرف الصحبة.

صفات الأنصار وأعمالهم

تحدث القرآن الكريم عن صفات الأنصار وأعمالهم، وسوف نتناول ذلك بالبيان فيما يأتي:

أولًا: أبرز صفات الأنصار:

اصطفى الله سبحانه لهذا الدين رجالًا، كان لهم الحظ الأوفر، والشرف العظيم في نصرة الدين والنبي صلى الله عليه وسلم وإيوائه بعد أن خذله الناس، ألا وهم الأنصار، فهم من آوى الرسول ونصر، وكبت المشركين وقهر؛ ولهذا فحبهم ثابت في قلب كل مسلم، وبغضهم متقد في قلب كل منافق.

وقد شهد الكتاب العزيز بفضلهم، وبرضوان الله عليهم؛ لما قدموا من خدمة لهذا الدين، فخلد الله مديحهم ورضوانه عليهم في كتابه.

ولو تأملنا في صفات الأنصار في القرآن الكريم، وأمعنا النظر لوجدنا فضائلهم جمة، ومناقبهم عظيمة، بلغوا فيها غاية الكمال، ونالوا بها رضا ربهم الكريم المنان، فهو تارة يصفهم بالسابقين الأولين، وتارة بالإيواء والنصرة والإيمان، وتارة يصفهم بالفلاح، وتارة يثني على جهادهم وصبرهم وإيثارهم، وتارة يخبر بالرضا والتوبة عنهم.

وقد أشار إلى بعض أفعالهم وصفاتهم، ومنها: تبوءهم المدينة، وحبهم للمهاجرين، وإيثارهم إياهم، وسلامة صدورهم، كما في قوله تعالى: ( ﯽﯾ ﯿ ) [الحشر: ٩].

وأشار إليهم في قوله: ( ﯞﯟ ) [الأنعام: ٨٩].

فقوله: ( ) قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: «وقوله: ( ) يعني: أهل مكة، قاله ابن عباس وسعيد بن المسيب والضحاك وقتادة والسدي وغير واحد، وقوله: ( ) أي: إن يكفر بهذه النعم من كفر بها من قريش وغيرهم من سائر أهل الأرض، من عرب وعجم، ومليين وكتابيين، فقد وكلنا بها قومًا آخرين، أي: المهاجرين والأنصار، وأتباعهم إلى يوم القيامة»13.

وكذا قال البغوي: «أن المراد بقوله: ( ) يعني: الأنصار وأهل المدينة»14. وقال القرطبي: « ( ) جواب الشرط، أي: وكلنا بالإيمان بها ( ) يريد الأنصار من أهل المدينة، والمهاجرين من أهل مكة»15.

وقال الطبري بعد أن ذكر عدة أقوال في المراد بقوله: ( ): «وأولى هذه الأقوال في تأويل ذلك بالصواب قول من قال: عنى بقوله: ( ) كفار قريش ( ) يعني به: الأنبياء الثمانية عشر الذين سماهم الله تعالى ذكره في الآيات قبل هذه الآية، وذلك أن الخبر في الآيات قبلها عنهم مضى، وفي التي بعدها عنهم ذكر، فما بينها بأن يكون خبرًا عنهم، أولى وأحق من أن يكون خبرًا عن غيرهم»16. وعلى كل حال لا يوجد ما يمنع من دخول الأنصار في المراد من الآية، والله أعلم.

وأشير إليهم أيضًا في قوله تعالى: ( ﭗﭘ ) [الأنفال: ٦٢].

أي: قواك بنصره، يريد: يوم بدر، وبالمؤمنين، قال النعمان بن بشير: نزلت في الأنصار ( ﭡﭢ ) [الأنفال: ٦٣].

أي: جمع بين قلوب الأوس والخزرج، وكانت تألف القلوب مع العصبية الشديدة في العرب من آيات النبي صلى الله عليه وسلم، ومعجزاته؛ لأن أحدهم كان يلطم اللطمة فيقاتل عليها حتى يستقيدها، وكانوا أشد خلق الله حمية، فألف الله بالإيمان بينهم، حتى قاتل الرجل أباه وأخاه بسبب الدين، وقيل: أراد التأليف بين المهاجرين والأنصار، والمعنى متقارب17.

ونزل فيهم قوله -جل وعلا-: ( ﭘﭙ ) [آل عمران: ١٢٢].

فعن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه قال: نزلت هذه الآية فينا: ( ) قال: نحن الطائفتان بنو حارثة وبنو سلمة، وما أحب أنها لم تنزل، والله يقول: ( ﭘﭙ) وقال سفيان مرةً: وما يسرني أنها لم تنزل؛ لقول الله: ( ) 18.

«وقال الحسـن البصري: هما طائفتان من الأنصار همتا بذلك، فعصمهما الله، وقيل: لما رجع عبـد الله ابن أبي في أصحابـه يوم أحد همت الطائفتان باتباعه، فعصمهما الله»19.

والمقصود أن الله تبارك وتعالى بين في هذه الآيات فضائل الأنصار التي بَيَنَها القرآن الكريم، فقد نص على مجموعة من صفاتهم الحميدة، ومنها:

١. سبق الأنصار إلى الإيمان والنصرة.

وصف الله الأنصار في القرآن الكريم بالسبق، فقال: ( ﭦﭧ ) [التوبة: ١٠٠].

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «ذهب جمهور العلماء إلى أن السابقين في قوله تعالى: ( ) [التوبة: ١٠٠].

هم هؤلاء الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا، وأهل بيعة الرضوان كلهم منهم، وكانوا أكثر من ألف وأربعمائة»20.

وبين ابن العربي رحمه الله الأمور التي يكون فيها السبق، فقال: «السبق يكون بثلاثة أشياء: الصفة، وهو الإيمان، والزمان، والمكان، وأفضل هذه الوجوه سبق الصفات، والدليل عليه قوله صلى الله عليه وسلم في الصحيح: (نحن الآخرون الأولون، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، وأوتيناه من بعدهم، فهذا يومهم الذي اختلفوا فيه، فهدانا الله له، فاليهود غدًا، والنصارى بعد غد)21»22.

وقال الرازي: «اختلفوا في السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار من هم؟ وذكروا وجوهًا. . . »، ثم قال: «والصحيح عندي أنهم السابقون في الهجرة وفي النصرة، والذي يدل عليه أنه ذكر كونهم سابقين، ولم يبين أنهم سابقون في ماذا؟ فبقي اللفظ مجملًا، إلا أنه وصفهم بكونهم مهاجرين وأنصارًا، فوجب صرف ذلك اللفظ إلى ما به صاروا مهاجرين وأنصارًا، وهو الهجرة والنصرة، فوجب أن يكون المراد منه السابقون الأولون في الهجرة والنصرة؛ إزالة للإجمال عن اللفظ... ثم قال: و أيضًا فالسبق إلى الهجرة طاعة عظيمة من حيث إن الهجرة فعل شاق على النفس، ومخالف للطبع، فمن أقدم عليه أولًا صار قدوة لغيره من هذه الطاعة، وكان ذلك مقويًا لقلب الرسول عليه الصلاة والسلام، وسببًا لزوال الوحشة عن خاطره، وكذلك السبق في النصرة، فإن الرسول عليه الصلاة والسلام لما قدم المدينة، فلا شك أن الذين سبقوا إلى النصرة والخدمة، فازوا بمنصب عظيم»23.

وما ذكر قبل من الأقوال هو من باب التمثيل، فيكون هذا من باب اختلاف التنوع، لا اختلاف التضاد؛ ولهذا قال الشوكاني رحمه الله: «ولا مانع من حمل الآية على هذه الأصناف كلها»24.

٢. رضوان الله عن الأنصار ورضاؤهم عنه.

أخبر سبحانه أنه رضي عن (المهاجرين) والأنصار وعن أفعالهم، ورضوا عنه سبحانه؛ لما أجزل لهم من الثواب على طاعاتهم وإيمانهم به ويقينهم، فقال تعالى: ( ) [التوبة: ١٠٠].

فقوله تعالى: ( ) يعم الكل، قال الزجاج: رضي الله أفعالهم، ورضوا ما جازاهم به25 فحين ذكر سبحانه وتعالى الجزاء الذي أعده لهؤلاء، وحين كانت نفوسهم زاكية راقية؛ قابلوا الجزاء بالشكر، والتزود من الطاعة، فذكر سبحانه أنهم: ( ) وهذا أرقى المراتب التي يسعى إليها المؤمنون، ويتنافس فيها المتنافسون، أن يرضى الله تعالى عنهم، ويرضيهم، يقول الطبري: «رضي الله عن جميعهم لما أطاعوه، وأجابوا نبيه إلى ما دعاهم إليه من أمره ونهيه، ورضي عنه السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان لما أجزل لهم من الثواب على طاعتهم إياه، وإيمانهم به وبنبيه عليه السلام»26.

ففي هذه الآية إخبار بأن الله رضي عنهم ورضوا عنه، وفي هذا دليل على عدالتهم، ووجه الدلالة: أن الله تعالى أخبر فيها برضاه عنهم، ولا يثبت الله رضاه إلا لمن كان أهلًا للرضا، ولا توجد الأهلية لذلك إلا لمن كان من أهل الاستقامة في أموره كلها، عدلًا في دينه.

يقول ابن كثير رحمه الله: «يخبر تعالى عن رضاه عن السابقين من المهاجرين والأنصار، والتابعين لهم بإحسان، ورضاهم عنه بما أعد لهم من جنات النعيم، والنعيم المقيم»27.

ويقول أيضًا: «فقد أخبر الله العظيم أنه قد رضي عن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، فيا ويل من أبغضهم أو سبهم، أو أبغض أو سب بعضهم»28.

وقال تعالى في جزاء هؤلاء السابقين: ( ) [التوبة: ١٠٠].

أي: وأعد لهم في الآخرة جنات تجري من تحت أشجارها وقصورها الأنهار، ( ) أي: مقيمين فيها من غير انتهاء، ( ) أي: ذلك هو الفوز الذي لا فوز وراءه.

قال في البحر: لما بين تعالى فضائل الأعراب المؤمنين بين حال هؤلاء السابقين، ولكن شتان ما بين الثناءين، فهناك قال: ( ) [التوبة: ٩٩].

وهنا قال: ( ) وهناك ختم ( ) [التوبة: ٩٩].

وهنا ختم: ( ) [التوبة: ١٠٠]29.

وهذا الرضوان للأنصار، وما أعد لهم من الجنات والنعيم، هو جزاء ما قدموه لهذا الدين، وما تركوا من دورهم وأهليهم، وجزاء ما أعطوه للمهاجرين من أموالهم؛ لأن الهجرة أمر شاق على النفس، لمفارقة الأهل والعشيرة، والنصرة منقبة شريفة؛ لأنها إعلاء كلمة الله، ونصر رسوله وأصحابه، والإحسان من أحوال المقربين أو مقاماتهم.

وفي هذه الآية ( ) [التوبة: ١٠٠] فوائد:

الأولى: في الآية دليل على أن للصحابة مراتب، وأن الفضل للسابق إلى الإسلام والهجرة، وأن السابقين من الصحابة أفضل ممن تلاهم.

الثانية: قيل: المراد بالسابقين الأولين جميع المهاجرين والأنصار، فـ(من) بيانية؛ لتقدمهم على من عداهم، وقيل: بعضهم، وهم قدماء الصحابة و(من) تبعيضية، وقد اختار كثيرون الثاني، واختلفوا في تعيينهم.

الثالثة: تقديم المهاجرين؛ لفضلهم على الأنصار، كما ذكر في قصة السقيفة، ومنه علم فضل أبي بكر رضي الله عنه على من عداه؛ لأنه أول من هاجر معه صلى الله عليه وسلم30.

الرابعة: وفيها دليل على تنزيل الناس منازلهم.

الخامسة: وفيها دليل على أن أفضلية العمل على قدر رجوع منفعته إلى الإسلام والمسلمين.

السادسة: رضا الله عن السابقين من المهاجرين والأنصار، والمعنى: أنه رضي عنهم بما عملوه من الطاعات الخالصة له، ورضوا عنه بما جازاهم به مما لا يخطر لهم على بال، ولا تتصوره عقولهم، والرضا منه سبحانه هو أرفع درجات النعيم، وأعلى منازل الكرامة.

٣. حب الأنصار للمهاجرين.

قد شهد الله تعالى لهم بذلك في قوله: ( ) [الحشر: ٩].

فمن جملة أوصاف الأنصار الجميلة أنهم: ( ) [الحشر: ٩].

وهذا لمحبتهم لله ولرسوله أحبوا أحبابه، وأحبوا من نصر دينه، وهذه المحبة هي آصرة أقوى من آصرة النسب، وأقوى من رابطة الدم؛ لأنها تجمع على الإيمان بالله واليوم الآخر؛ ولأنها تستل كل الأحقاد والضغائن من الصدور؛ ولأنها تجعل من محبة الفرد لأخيه المسلم طاعة يتقرب بها، وينال بها الأجر والثواب من الله عز وجل، ويحصل بها على المنازل الرفيعة في الآخرة.

وأن هذه الرابطة أقوى من رابطة الدم واللغة والمصالح الاقتصادية، والعلاقات المتبادلة، يقول سيد قطب في الكلام على هذه الآية: «وهذه كذلك صورة وضيئة صادقة تبرز أهم الملامح المميزة للأنصار، هذه المجموعة التي تفردت بصفات، وبلغت إلى آفاق، لولا أنها وقعت بالفعل، لحسبها الناس أحلامًا طائرة، ورؤًى مجنحة، ومثلًا عليا قد صاغها خيال محلق. . .، ولم يعرف تاريخ البشرية كله حادثًا جماعيًا كحادث استقبال الأنصار للمهاجرين بهذا الحب الكريم، وبهذا البذل السخي، وبهذه المشاركة الرضية، وبهذا التسابق إلى الإيواء واحتمال الأعباء، حتى ليروى أنه لم ينزل مهاجر في دار أنصاري إلا بقرعة؛ لأن عدد الراغبين في الإيواء المتزاحمين عليه أكثر من عدد المهاجرين»31.

وفي قوله تعالى: () الواو استئنافية و () مبتدأ، وخبره () والجملة مستأنفة.

وقوله: () [الحشر: ٩].

خبر عن اسم الموصول () والمعنى: يحبونهم من حيث مهاجرتهم إليهم لمحبتهم الإيمان؛ قال ابن كثير: «أي: من كرمهم وشرف أنفسهم يحبون المهاجرين، ويواسونهم بأموالهم»32.

وقوله: ( ) أي: إلى المدينة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه حال الأنصار، فقلوبهم مملوءة بالحب للمهاجرين، ولا يحملون في صدورهم شيئًا على إخوانهم المهاجرين؛ لكونهم فضلوا عليهم ببعض الفضائل.

قال القاسمي: وقوله: () أي: لوجود الجنسية -أي المجانسة- في الصفاء، والموافقة في الدين والإخاء، قال الشهاب: المراد بمحبتهم المهاجرين هنا مواساتهم، وعدم الاستثقال والتبرم منهم، إذا احتاجوا إليهم، فالمحبة كناية عما ذكر33.

ويقول العيني: «في قوله: ( ) [الحشر: ٩أي: من المسلمين، حتى بلغ من محبتهم أن نزلوا لهم عن نسائهم، وشاطروهم أموالهم ومساكنهم»34.

وفي مقابل هذا الحب منهم أحبهم المهاجرون، وأحبهم الرسول صلى الله عليه وسلم، حتى قال للأنصار: (والذي نفسي بيده إنكم أحب الناس إلي)35 مرتين.

بل جعل الرسول حبهم من دلائل الإيمان، كما في حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار)36.

ففي هذا الحديث دلالة أن حب المؤمن لقبيلة الأنصار شعبة من شعب الإيمان، وعلامة عليه، فلا يحبهم إلا مؤمن، وأن بغضهم وكرههم شعبة من شعب النفاق والكفر، فلا يبغضهم إلا منافق.

وعن البراء قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الأنصار لا يحبهم إلا مؤمن، ولا يبغضهم إلا منافق، فمن أحبهم أحبه الله، ومن أبغضهم أبغضه الله)37.

وليس المراد بالبغض في هذا الحديث البغض الناتج من العداء الشخصي لأفرادهم، وإنما المراد بغضهم بسبب الصفة التي مدحوا بها، وهي نصرتهم للنبي صلى الله عليه وسلم، فمن أبغضهم من جهة هذه الصفة، وهي: كونهم نصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم أثر ذلك في تصديقه، فيصح أنه منافق38.

وكذلك الحب يقال فيه مثل ما يقال في البغض.

وهذا الحب من الأنصار لإخوانهم المهاجرين دافعه وجه الله تعالى، ومعرفتهم فضل الأخوة في الله، ومكانتها في الدين، فالأخوة في الله مبدأ عظيم من مبادئ الإسلام، يقوم عليه الولاء والبراء، والحب والبغض.

وتجلت هذه الأخوة في أبهى صورها، وأجمل حللها، في تلك المواقف السمحة التي عامل بها الأنصار إخوانهم المهاجرين، وهذا التآخي لم يكن مجرد شعار للمزايدة، ودغدغة العواطف، والالتفاف حول المعاني السامية بالأكاذيب والتدليس والتلبيس، لكنه معنى خالط قلوبهم ومشاعرهم، ولحمهم ودمهم، برز ذلك في سلمهم وحربهم، وفقرهم وغناهم، مستضعفين وممكن لهم، أفرادًا وجماعات.

وهذا الأنموذج من الأخوة الصادقة حرص النبي صلى الله عليه وسلم عليه وأكده، وكان من أوائل الأمور التي قام بها بعد وصوله المدينة أن آخى بين المهاجرين والأنصار؛ ليذهب عن المسلمين المهاجرين وحشة الغربة، ويؤنسهم عن مفارقة الأهل والعشيرة، ويشد بعضهم أزر بعض.

٤. الإيثار عند الأنصار.

الإيثار من أعظم الصفات التي اتصف بها المجتمع الإسلامي؛ ولهذا يقول بعض المفكرين: بأن كلمة الإيثار يصعب ترجمتها إلى لغات أخرى، أي: ليس لها مرادف في اللغات الأخرى مرادف يؤدي معناها، ويحقق كل معانيها، وكأن هذه الخصلة هي من الخصال التي أتى بها هذا الدين الحنيف، وزكى غرسها، وحث عليها، ودعا إليها.

وأعظم الناس إيثارًا في التاريخ الإسلامي هم الأنصار، فقد جاءهم المهاجرون إلى المدينة وهم لا يملكون من أمر الدنيا شيئًا، قد تركوا أموالهم وما يملكون خلف ظهورهم، وأقبلوا على ما عند الله عز وجل، يرجون رحمته، ويخافون عذابه، فاستقبلهم الأنصار الذين تبوءوا الدار، وأكرموهم أيما إكرام، ولم يبخلوا عليهم بشيء من حطام الدنيا، بل قاسموهم الأموال والمتاع، وشاطروهم بيوتهم وأرضهم وأموالهم، بطيب نفس، وسلامة صدر، في صورة يعجز عن وصفها اللسان، ويضعف عن تعبيرها البيان، وقابل المهاجرون هذا الإيثار الرائع بحسن الخلق والتعفف.

وقد امتدح الله جل وعلا خلق الإيثار عند الأنصار، فقال: ( ﯽﯾ ﯿ ) [الحشر: ٩].

ففي قوله: ( ﯽﯾ) [الحشر: ٩].

أي: إن من أوصاف الأنصار التي فاقوا بها غيرهم، وتميزوا بها على من سواهم الإيثار، وهو أكمل أنواع الجود، وهو الإيثار بمحاب النفس من الأموال وغيرها، وبذلها للغير مع الحاجة إليها، بل مع الضرورة والخصاصة، وهذا لا يكون إلا من خلق زكي، ومحبة لله تعالى مقدمة على محبة شهوات النفس ولذاتها.

والمراد بقوله: () [الحشر: ٩].

أي: الأنصار، والإيثار لغة: مصدر من قولهم: آثره عليه يؤثره إيثارًا، بمعنى: فضله وقدمه، والمآثر: ما يروى من مكارم الإنسان، وفي التنزيل: ( ) [يوسف: ٩١]. وآثر أن يفعل كذا: فضل وقدم، وضده الأثرة من قولهم: استأثر بالشيء انفرد به، أو اختص به نفسه.

واصطلاحًا: قال القرطبي: «الإيثار: هو تقديم الغير على النفس في حظوظها الدنيوية؛ رغبة في الحظوظ الدينية، وذلك ينشأ عن قوة اليقين، وتوكيد المحبة، والصبر على المشقة»39.

وفي قوله: () [الحشر: ٩]. مفعول الإيثار محذوف، والتقدير: ويؤثرونهم بأموالهم ومنازلهم على أنفسهم.

جاء في البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أتى رجلٌ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، أصابني الجهد، فأرسل إلى نسائه فلم يجد عندهن شيئًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا رجل يضيف هذه الليلة يرحمه الله)، فقام رجل من الأنصار، فقال: أنا يا رسول الله، فذهب إلى أهله، فقال لامرأته: ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا تدخريه شيئًا، فقالت: والله ما عندي إلا قوت الصبية، قال: فإذا أراد الصبية العشاء فنوميهم، وتعالي فأطفئي السراج، ونطوي بطوننا الليلة، ففعلت، ثم غدا الرجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (لقد عجب الله عز وجل، أو ضحك من فلان وفلانة)، فأنزل الله عز وجل: ( ) [الحشر: ٩]40.

وفي رواية في البخاري أيضًا: (ضحك الله الليلة، أو عجب من فعالكما)، فأنزل الله: ( ﯽﯾ) [الحشر: ٩]41.

وجاء في سبب نزولها: أن رجلًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدي له رأس شاةٍ، فقال: إن أخي فلانًا وعياله أحوج إلى هذا، فبعث به إليه، فلم يزل يبعث به واحد إلى واحد، حتى تناولها سبعة أهل أبيات، حتى رجعت إلى أولئك، فنزلت هذه الآية.

وروي نحو هذه القصة عن أنس بن مالك قال: أهدي لبعض الصحابة رأس شاةٍ مشوي، وكان مجهودًا، فوجه به إلى جارٍ له فتناوله تسعة أنفس، ثم عاد إلى الأول، فنزلت هذه الآية42.

وذكر ابن جزي في سبب نزولها قصة الفيء، فقال: «وروي أن سبب هذه الآية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قسم هذه القرى على المهاجرين دون الأنصار، قال للأنصار: (إن شئتم قسمتم للمهاجرين من أموالكم ودياركم، وشاركتموهم في هذه الغنيمة، وإن شئتم أمسكتم أموالكم وتركتم لهم هذه)43، فقالوا: بل نقسم لهم من أموالنا، ونترك لهم هذه الغنيمة، وروي أيضًا أن سببها أن رجلًا من الأنصار أضاف رجلًا»44. وذكر القصة التي في البخاري.

وهذا ما رجحه الرازي، حيث قال: «وذكر المفسرون أنواعًا من إيثار الأنصار للضيف بالطعام، وتعللهم عنه حتى يشبع الضيف، ثم ذكروا أن الآية نزلت في ذلك الإيثار، والصحيح أنها نزلت بسبب إيثارهم المهاجرين بالفيء، ثم لا يمتنع أن يدخل فيها سائر الإيثارات»45.

قوله: ( ﯽﯾ) [الحشر: ٩]. الخصاصة: هي الفقر46.

والمعنى: ولو كان بهم حاجة وفاقة إلى ما آثروا به من أموالهم على أنفسهم، فبين أن هذا الإيثار ليس عن غنى، وعن المال، ولكنه عن حاجة وخصاصة، وهي: الفقر47.

وهذا هو واقع الأنصار، فهم مع ما هم عليه من الخصاصة -وهي الفاقة والفقر-، ومع شدة احتياجهم وافتقارهم إلى ما في أيديهم، حيث أن المهاجرين كانوا أهل تجارة، وكانوا أهل ثراء في أوطانهم في مكة، بينما الأنصار كانوا في الحقيقة أهل زراعة، وما كانوا بالثراء الذي كان عليه أهل مكة؛ ولذلك عبر عنهم القرآن بهذا التعبير: ( ﯽﯾ) [الحشر: ٩].

فلئن يقدم الإنسان حاجة غيره عليه وهو مستغنٍ عن تلك الحاجة فهذا لا يستغرب، ومع ذلك فإن الله تعالى قد أمر به في كتابه الكريم، حينما قال: ( ) [البقرة: ٢١٩].

أي: الزيادة، ما فضل عن نفقاتكم الضرورية اللازمة عليكم، لكن هذه المرتبة أعلى، وهي أن يجود الإنسان بما عنده لأخيه مع كونه محتاجًا إليه، شديد الاحتياج، شديد الرغبة فيه، فهذا المعنى هو الذي تتحدث عنه الآية.

وقوله: (ﯿ ) [الحشر: ٩].

قال الرازي: «واعلم أن الفرق بين الشح والبخل هو أن البخل نفس المنع، والشح هو الحالة النفسانية التي تقتضي ذلك المنع، فلما كان الشح من صفات النفس لا جرم قال تعالى: (ﯿ ) [الحشر: ٩48.

ووقاية شح النفس يشمل وقايتها الشح في جميع ما أمر به، فإنه إذا وقي العبد شح نفسه سمحت نفسه بأوامر الله ورسوله، ففعلها طائعًا منقادًا منشرحًا بها صدره، وسمحت نفسه بترك ما نهى الله عنه وإن كان محبوبًا للنفس، تدعو إليه، وتطلع إليه، وسمحت نفسه ببذل الأموال في سبيل الله، وابتغاء مرضاته، وبذلك يحصل الفلاح والفوز، بخلاف من لم يوق شح نفسه، بل ابتلي بالشح بالخير الذي هو أصل الشر ومادته.

فهذان الصنفان الفاضلان الزكيان هم الصحابة الكرام والأئمة الأعلام، الذين حازوا من السوابق والفضائل والمناقب ما سبقوا به من بعدهم، وأدركوا به من قبلهم، فصاروا أعيان المؤمنين، وسادات المسلمين، وقادات المتقين.

ووصف الله من يتصف بهذه الصفة بقوله: ( ) أي: الظافرون بما أرادوا، والمقصود بهم: الأنصار، ومن أتصف بهذه الصفات من غيرهم، والمفلحون: هم الفائزون بكل مطلوب، الناجون من كل مهروب، قال ابن كثير: أي: من سلم من الشح فقد أفلح وأنجح49.

«والفلاح: اسم لسعادة الدارين، والجملة اعتراض وارد لمدح الأنصار والثناء عليهم، فإن الأوصاف المذكورة في حقهم، فلهم جلائل الصفات، ودقائق الأحوال. . .، قال السهروردي في العوارف: السخاء صفة غريزية في مقابلة الشح، والشح من لوازم صفة النفس، حكم الله بالفلاح لمن يوقى الشح، أي: لمن أنفق وبذل، والنبي عليه الصلاة والسلام نبه بقوله: (ثلاث مهلكات، وثلاث منجيات) فجعل إحدى المهلكات (شحًا مطاعًا)50 ولم يقل: مجرد الشح يكون مهلكًا، بل إنما يكون مهلكًا إذا كان مطاعًا، فأما كونه موجودًا في النفس غير مطاع لا ينكر ذلك؛ لأنه من لوازم النفس، مستمد من أصل جبلتها الترابي، وفي التراب قبض وإمساك، وليس ذلك بالعجب من الآدمي، وهو جبلي فيه، وإنما العجب وجود السخاء في الغريزة»51.

وهكذا يصور القرآن الكريم هذا الوضع غير المسبوق في أبلغ عبارة وأجزلها، وتظهر الآيات الكريمة صدق الأخوة بين المهاجرين والأنصار، لا تلوثه أطماع، ولا حب دنيا، ولا أثرة، ولا شح أو حرص، ولا حاجة إنما هو أخوة تدور بين سلامة الصدر والإيثار، ولا شك أن المرء يقف مبهورًا أمام هذه الصورة الرائعة من الأخوة المتينة، والإيثار المتبادل، الذي لا نشهد له مثيلًا في تواريخ الأمم السابقة.

ولقد كان دافع الأنصار لهذا الإيثار هو رغبتهم فيما عند الله، وحبهم لإخوانهم المهاجرين؛ ولهذا صدر الله هذه الصفات للأنصار في هذه الآية بأنهم يحبون من هاجر إليهم، فالمحبة هي باعث هذا الإيثار؛ ولذلك لا يمكن أن تتصور الإيثار دون أن تتصور المحبة بين الناس، المحبة التي تنشأ في القلوب، ثم يتبع هذه المحبة رغبة صادقة في أن ينال الخير أخاك؛ ولذلك فلا يجد الواحد منهم غضاضة في نفسه أن يقدم إخوانه في الخير الذي لديه.

وكيف لا يؤثر الأنصار وقد بايعوا الرسول صلى الله عليه وسلم على الإيثار؟!

فقد جاء عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: (بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر، والمنشط والمكره، وعلى أثرة علينا، وعلى أن لا ننازع الأمر أهله)52.

فالسمع والطاعة في العسر واليسر، والمنشط والمكره: لهم معه، ومع الأئمة بعده، والأثرة: عدم منازعة الأمر مع الأئمة بعده خاصة.

ولو ذهبنا نلتمس الأسباب وراء هذا الإخاء والحب والإيثار فلن نجد إلا مسبب الأسباب، وأن ذلك كان بفضل الله ورحمته، لا بصنع بشر وحكمته وسياسته، وصدق الله حيث قال: ( ﭡﭢ ) [الأنفال: ٦٣].

فلم يلتق النبي صلى الله عليه وسلم بالأنصار إلا في سويعات تحت جنح الليل، واكتفى فيها بعرض الإسلام، وأخذ العهود والمواثيق، ولم يطل لقاؤه معهم قبل الهجرة حتى يكون هذا الذي فعلوه بسبب تربية النبي إياهم، وطول تعهده لهم كما فعل تجاه المهاجرين حتى كون منهم رجالًا، فلم يكن بين دخول الأنصار الإسلام وقيامهم بهذه المآثر إلا أقل من عام.

فالأنصار قوم اختارهم الله لصحبة نبيه، لقد فتحوا للمهاجرين قلوبهم قبل أن يفتحوا لهم بيوتهم، ووسعوهم بصدورهم قبل أن يسعوهم بأموالهم، وتسابقوا إلى لقائهم وإكرامهم، وضربوا في باب الإيثار، وسخاء النفس، وكرم الطبع مثلًا عليا، لا تزال تذكرها لهم الأجيال المتعاقبة، بالإكبار والإعظام.

٥. سلامة صدورهم.

أثنى الله على الأنصار بسبب سلامة صدورهم رضي الله عنهم، فقال: ( ) [الحشر: ٩].

فقوله: ( ) [الحشر: ٩]. الضمير في (يجدون) للأنصار، قال ابن العربي: «قال الخلق بأجمعهم: يريد بذلك الأنصار الذين آووا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين طرد، ونصروه حين خذل، فلا مثل لهم، ولا لأجرهم»53.

وقوله: () أي: حزازة وغيظًا وحسدًا، قال الشوكاني في فتح القدير: ( ) [الحشر: ٩]. «أي: لا يجد الأنصار في صدورهم حسدًا وغيظًا وحزازةً»54.

وفي الكلام مضاف محذوف: أي لا يجدون في صدورهم مس حاجة، أو أثر حاجة، وكل ما يجده الإنسان في صدره مما يحتاج إليه فهو حاجة55.

وقوله: ( ) أي: مما أعطوا، والضمير للمهاجرين، والمراد (فيما أوتوه) هو مال الفيء، حيث قسم النبي صلى الله عليه وسلم أموال بني النضير بين المهاجرين، ولم يعط من الأنصار غير ثلاثة نفر، كانت بهم حاجة، فطابت أنفس الأنصار بتلك القسمة، أو يكون المراد (فيما أوتوه) هو: الفضل والتقدم56.

قال شيخ الإسلام في الفتاوى: «وبهذا أثنى الله تعالى على الأنصار، فقال: ( ) [الحشر: ٩].

أي: مما أوتي إخوانهم المهاجرون، قال المفسرون: لا يجدون في صدورهم حاجة أي: حسدًا وغيظًا، مما أوتي المهاجرون، ثم قال بعضهم: من مال الفيء، وقيل: من الفضل والتقدم»57.

يعني: لا يحسدون المهاجرين على ما خصوا به من مال الفيء وغيره، ويحتمل أن يريد به: ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا إذا كان قليلًا، بل يقنعون به، ويرضون عنه، وقد كانوا على هذه الحال حين حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم كانوا عليه بعد موته صلى الله عليه وسلم.

وقد أنذرهم النبي صلى الله عليه وسلم قائلًا: (سترون بعدي أثرة، فاصبروا حتى تلقوني على الحوض)58 59.

فالأنصار لا يجدون في صدورهم حاجة مما خصص به المهاجرون من الفيء، ولا يحسدونهم على ذلك، ولا يعترضون بقلوبهم على حكم الله بتخصيص المهاجرين حتى لو كانت بهم حاجة، أو اختلال أحوال60.

وعلى هذا ففي الآية بيان حال الأنصار، وأنهم لا يحسدون المهاجرين على ما آتاهم الله من فضله، وخصهم به من الفضائل والمناقب التي هم أهلها، وهذا يدل على سلامة صدورهم، وانتفاء الغل والحقد والحسد عنهم.

ويدل ذلك أيضًا على أن المهاجرين أفضل من الأنصار؛ لأن الله قدمهم بالذكر، وأخبر أن الأنصار لا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا، فدل على أن الله تعالى آتاهم ما لم يؤت الأنصار ولا غيرهم؛ لأنهم جمعوا بين النصرة والهجرة.

ثانيًا: أبرز أعمال الأنصار:

الأنصار: ما أجملها من كلمة! إنها كلمة تحمل معاني شريفة جليلة، اتصف بها قوم ضرب بهم المثل في الكمال الإنساني، إنها علمٌ على قوم عملوا أعمالًا استحقوا بها أن يكونوا من أنصار الرسول الكريم.

ومن أبرز هذه الأعمال:

١. الإيواء والنصرة.

لما هاجر المسلمون من مكة هجروا المحبوبات والمألوفات من الديار والأوطان والأحباب والخلان والأموال، وتجردوا من كل شيء إلا من الإيمان؛ رغبةً في الله، ونصرةً لدين الله، ومحبةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فوصلوا إلى أرضٍ جديدة، وواقعٍ مختلف، وكان من أثر هذه الرحلة نشوء عدد من المشكلات الجديدة، ليس أقلها: الشعور بالغربة، ومفارقة الأهل والديار، وترك معظم الأموال والممتلكات في مكة، وطبيعة الوضع المعيشي والاقتصادي الجديد، أضف إلى ذلك الآثار الصحية والبدنية التي أحدثها الانتقال المفاجئ إلى بيئةٍ أخرى؛ مما أدى إلى ظهور الأمراض في صفوفهم كالحمى وغيرها، كل هذا ترك في أنفسهم وحشة وغربة، حتى أصبح وضعهم يحتاج إلى حل عاجل وسريع.

فترجم الأنصار ما تعاقدوا عليه من أقوال في البيعتين إلى جملة أفعال، حيث فتح الأنصار أبواب بيوتهم وقلوبهم، واستعدوا لاحتضان من جاءهم مهاجرًا تحت ظاهرة عظيمة من التكافل الاجتماعي، فحوى المسكن الواحد تحت سقفه الأنصاري والمهاجر، وهم يتقاسمون كل شيء المسكن والمال والطعام.

فلم يعرف تاريخ البشرية حادثًا جماعيًا كحادث استقبال الأنصار للمهاجرين بهذا الحب الكريم، وبهذا البذل السخي، وبهذه المشاركة الرضية، وبهذا التسابق إلي الإيواء، واحتمال الأعباء، حتى ليروى أنه لم ينزل مهاجر في دار أنصاري إلا بقرعة؛ لأن عدد الراغبين في الإيواء المتزاحمين عليه أكثر من عدد المهاجرين، وهم لا يجدون في أنفسهم شيئًا من حسد، أو ضيق من هذا، والإيثار على النفس مع الحاجة قيمة عليا، وقد بلغ بها الأنصار مبلغًا لم تشهد له البشرية نظيرًا.

وهنا ظهر دور الأنصار الذين أبدوا من التضحية وضروب الإيثار ما استحق التخليد في كتاب الله.

قال الله تعالى عنهم: ( ﭿ ) [الأنفال: ٧٢].

وقال تعالى: ( ﯨﯩ ) [الأنفال: ٧٤].

فجمع الله تعالى في هاتين الآيتين الذين كانوا دعامة الإسلام، وعليهم هدى الرسول قام بنيانه، وشيدت أركانه، وهم المهاجرون والأنصار، فالمهاجرون ابتدأ بهم تكوين الجماعات الأولى التي صبرت وصابرت، وتلقت الصدمة الأولى من المشركين.

والأنصار وهم الذين آووا ونصروا، وأعزوا كلمة التوحيد، وأغلوها وأعلوها، فإذا كان المهاجرون هم الذين أظلوا شجرة الإسلام ابتداءً، فالأنصار هم الذين حموا ثمرتها، وقامت دولة الإسلام في أرضهم وحراستهم، وإذا كان المهاجرون قد لاقوا العنت في مكة فقد لقوا الإيواء في المدينة.

وإذا كانوا هم دعامة الإسلام فالأنصار دولته، وفي رحابهم قامت المدينة الفاضلة التي أقامها محمد صلى الله عليه وسلم في ديارهم، وإذا كان المهاجرون قد جاهدوا ابتداءً بالصبر والمصابرة، فقد كان جهادهم في المدينة مع إخوانهم الأنصار بذلك وبالقتال في المدينة، والفريقان اختارهم الله للتأليف حتى تكونت منهم أطهر جماعة رأتها الإنسانية وأقواها.

فبعد أن ذكر الله تعالى هنا في الآيتين الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، عقب بذكر الأنصار، وهم الذين آووا ونصروا.

فقال: ( ) [الأنفال: ٧٤]. المراد: بهم الأنصار، أي: وطنوا المهاجرين، وأنزلوهم منازلهم، وبذلوا إليهم أموالهم، وآثروهم على أنفسهم، ونصروهم على أعدائهم61.

فإذا كانوا قد نقصوا عن إخوانهم -المهاجرين- فضل الهجرة، فقد عوضوا عن ذلك بفضل الإيواء والنصرة62.

حيث استقبل الأنصار المهاجرين، فشاطروهم المال والديار؛ بكرم وسخاء، وضربوا مثلًا رائعًا في التكافل، وبناء الجماعة المسلمة، وآووا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنعوه من الأحمر والأسود، وتبوءوا دار الهجرة والإيمان، حتى صارت موئلًا ومرجعًا يرجع إليه المؤمنون، ويلجأ إليه المهاجرون، ويسكن بحماه المسلمون؛ إذ كانت البلدان كلها بلدان حرب وشرك وشر.

فلم يزل أنصار الدين يأوون إلى الأنصار، حتى انتشر الإسلام وقوي، وجعل يزيد شيئًا فشيئًا، وينمو قليلًا قليلًا، حتى فتحوا القلوب بالعلم والإيمان والقرآن، والبلدان بالسيف والسنان.

وقوله في الآية: () أي: نصروا الرسول وأصحابه على أعدائهم الكفار، وما سموا بالأنصار إلا لذلك؛ ولقد قال حسان رضي الله عنه في مدح الأنصار أنهم ما سموا أنصارًا إلا لنصرتهم الدين63:

سماهم الله أنصارًا بنصرهم

دين الهدى وعوان الحرب تستعر

وسارعوا في سبيل الله واعترفوا

للنائبات وما خافوا وما ضجروا

وقد ذكر الله تعالى هذه الصفة وهي (النصرة) في آيتين، فقال: ( ﯨﯩ ) [الأنفال: ٧٤]. وقال تعالى: ( )[الأنفال: ٧٢].

والنصرة في المدلول القرآني واللغوي والتاريخي بمعنى: العون، والظفر، والمنع، والانتقام، والانتصار، وشد الأزر، ولقد شرف الله سبحانه وتعالى المسلمين الأول بشرف لا يدانيه شرف، حيث أجزل لهم الثواب، وأحسن لهم المدح والثناء في أعظم كتاب، وخص كلًا من الفريقين المتآخيين (المهاجرين والأنصار) بعمل عظيم جليل، ناداهم به فسموا مهاجرين وأنصارًا، وما ذلك إلا للهجرة والنصرة، فالهجرة كانت إعلانًا للدولة، وانتقالًا لدار الإسلام، والنصرة هي التي هيأت للهجرة ولوجود دار الإسلام، فكيف يغفل أحد من المسلمين عن فضل الهجرة أو النصرة، وهو يتلو كتاب الله الذي يذكر المهاجرين والأنصار وفضلهما؟!

وكانت هذه النصرة وفاء منهم لمبايعة النبي صلى الله عليه وسلم لهم في بيعة العقبة الثانية، حيث ثبت أنه قال لهم: (أبايعكم على أن تمنعوني -إذا قدمت عليكم- مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم، ولكم الجنة)64. فبايعوه على النصرة والمنعة، فقام منهم اثني عشر نقيبًا كفلاء على قومهم، ثم استمر الحال حتى أذن الله للمسلمين بالهجرة، وقامت أول دولة للمسلمين65.

ونلحظ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يطلب النصرة لأمرين مهمين في غاية الأهمية:

أولهما: حماية الدعوة، حتى تسير بين الناس محمية الجانب، بعيدة عن الإساءة إلى أتباعها.

ثانيهما: إيجاد مكان آمن لدولته صلى الله عليه وسلم القادمة؛ ليتسلم خلالها مقاليد الحكم والسلطان على وفق مقتضيات النبوة على أساس الدعوة.

وختم الله تعالى الآية الأخرى بقوله: ( )[الأنفال: ٧٢]]. أي: إن هاتين الفرقتين (المهاجرين والأنصار) بعضهم أنصار بعض، وأعوان على من سواهم من المشركين، وأيديهم واحدة على من كفر بالله، وبعضهم إخوان لبعض دون أقربائهم الكفار.

وقد قيل: إنما عنى بذلك أن بعضهم أولى بميراث بعض، وأن الله ورث بعضهم من بعض بالهجرة والنصرة دون القرابة والأرحام، وأن الله نسخ ذلك بعد، بقوله: ( ﯿ ) [الأنفال: ٧٥] وهذا القول لأبن عباس رضي الله عنه 66.

قال الشوكاني: «أي: بعضهم أولياء بعض في النصرة والمعونة، وقيل المعنى: إن بعضهم أولياء بعض في الميراث، وقد كانوا يتوارثون بالهجرة والنصرة، ثم نسخ ذلك بقوله سبحانه: ( ﯿ ) [الأنفال: ٧٥67.

فالولاية محبة ومودة ومناصرة، وقد اجتمعت كل هذه الأحوال في ولاية المؤمنين المهاجرين والأنصار، فقد اجتمعت فيهم المودة فتوادوا وتحابوا، وتناصروا وجاهدوا جميعًا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، ولقد جمعت المؤاخاة معنى المودة والمحبة والإيثار، وجمع الجهاد معنى النصر والتبعات بالجهاد في سبيل الله68.

وقد ذكر الله بعد ذلك شأن الذين يهاجرون ويؤمنون من بعد، فقال: ( ﯷﯸ ﯿ ﰀﰁ )[الأنفال: ٧٥].

فهذا يدل على أن باب الإيمان مفتوح، وباب الهجرة مفتوح، وميدان الجهاد متسع للجميع، فلم يغلق على المجاهدين الأولين من المهاجرين والأنصار فقط، بل هو مفتوح، وهذه الآية الكريمة تلحق الذين يؤمنون من بعد ويهاجرون بالأولين الذين هم المؤمنون حقًا.

وإذا كان هذا الوصف (النصرة) في الأنصار، فالمهاجرون من باب أولى، فهم أنصار في المعنى، فمعنى النصرة حاصل للكل، ومن الكل، فهم قد هجروا ديارهم وأموالهم، كما قال تعالى: ( ) [الحشر: ٨].

وأثنى عليهم بأنهم يطلبون فضلًا من الله ورضوانًا، فقال: ( ) وأثبت لهم صفة النصرة، فقال: ( ) وأثنى عليهم بالصدق، فقال: ( ) فرضي الله عن المهاجرين والأنصار ومن تبعهم بإحسان.

فضائل الأنصار

عرض القرآن الكريم فضائل الأنصار وهذا ما سنبينه فيما يأتي:

أولًا: وصفهم بالإيمان الحق:

وصف الله تعالى الأنصار بالإيمان الحق، فقال سبحانه: ( ﯨﯩ ) [الأنفال: ٧٤].

فقوله: ( ﯨﯩ) الإشارة إلى السابقين الأولين (من المهاجرين والأنصار) والإشارة إلى الموصوف إشارة إلى أوصافه، وجعلها مناط الحكم، أي: أولئك الذين هاجروا بعد الإيمان، وجاهدوا في سبيل الله، والذين آووا ونصروا هم المؤمنون حقًا، أي: إيمانًا ثابتًا صادقًا حقًا، تلاقت أقوالهم وقلوبهم وأعمالهم69.

فسبق منهم هجرة وجهاد، وإيواء ونصرة، وهذا هو الإيمان الحق، وفي الكلام قصر، أي: من كانوا على هذه الصفات هم وحدهم المؤمنون حقًا، أي: لا مؤمنون حقًا غيرهم، ومن هم على صفاتهم.

وفي هذه الآية وصفٌ لعموم المهاجرين والأنصار بالإيمان الحق، فجمع الله فيها الفضل لفريقي الصحابة، وهم المهاجرون والأنصار، من هاجر، ومن آوى، فاستوى الأنصار مع المهاجرين في عامل النصرة، وفي صدق الإيمان، فشهد لهم بحقيقة الإيمان، ووعدهم بالمغفرة والرزق الواسع، ومن شهد الله له بهذه الشهادة، فقد بلغ أعلى مرتبة العدالة.

ثم قال: ( ) [الأنفال: ٧٤]. ذكر الله تعالى هنا ما كتب لهم من خيري الدنيا والآخرة، وهذا يتضمن جزاءين:

أولهما: المغفرة السابقة، ووراءها الرحمة والنعيم المقيم.

ثانيهما: رزق كريم واسع في الدنيا بعد المشقة التي تحملوها، وهذا شأن المهاجرين الذين آمنوا، وشأن الأنصار الذين آووا ونصروا70.

فيكون الله قد أثنى عليهم ها هنا من ثلاثة أوجه:

أولها: قوله: ( ﯨﯩ) فقوله: ( ﯨﯩ) يفيد الحصر، وقوله: (ﯨﯩ) يفيد المبالغة في وصفهم بكونهم محقين محققين في طريق الدين، وقد كانوا كذلك؛ لأن من لم يكن محقًا في دينه لم يتحمل ترك الأديان السالفة، ولم يفارق الأهل والوطن، ولم يبذل النفس والمال، ولم يكن في هذه الأحوال من المسارعين المسابقين.

وثانيها: قوله: ( ) والتنكير يدل على الكمال، أي: مغفرة تامة كاملة.

وثالثها: قوله: ( ) والمراد منه: الثواب الرفيع الشريف71.

وعن السائب بن يزيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا معشر الأنصار، ألم يمن الله عليكم بالإيمان، وخصكم بالكرامة، وسماكم بأحسن الأسماء: أنصار الله، وأنصار رسوله؟!)72.

فالأنصار إذن حازوا شرفين: شرف سبقهم إلى الإيمان، وشرف استضافتهم للإيمان وأهله في أرضهم.

ومدحهم بأنهم أناس سكنوا الإيمان، وسكن الإيمان في قلوبهم، فقال: ( ) [الحشر: ٩].

فقوله: () الأظهر أن (الذين) هنا عطف على (المهاجرين) -في الآية السابقة-، أي: والذين تبوءوا الدار هم الأنصار73.

وقوله: ( ) من مادة (بواء) على وزن (دواء) وهي في الأصل بمعنى تساوي أجزاء المكان، وبعبارة أخرى يقال: (بواء) لترتيب وتسوية مكان (ما) وفي هذا التعبير كناية لطيفة لهذا المعنى، وهو أن طائفة الأنصار -أهل المدينة- قد هيئوا الأرضية المناسبة للهجرة.

وقوله: () الدار تطلق على البلاد، وأصلها: موضع القبيلة من الأرض، وأطلقت على القرية.

قال تعالى في ذكر ثمود: ( ) [الأعراف: ٧٨].

أي: في مدينتهم، وهي حجر ثمود، والتعريف هنا للعهد؛ لأن المراد بالدار: المدينة النبوية، والمعنى: الذين هم أصحاب الدار74، أي: دار الهجرة مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد تبوأها الأنصار قبل المهاجرين، كما تبوءوا فيها الإيمان، وكأنه منزل لهم ودار، وهو تعبير ذو ظلال، وهو أقرب ما يصور موقف الأنصار من الإيمان، لقد كان دارهم ونزلهم ووطنهم الذي تعيش فيه قلوبهم، وتسكن إليه أرواحهم، ويثوبون إليه، ويطمئنون له، كما يثوب المرء ويطمئن إلى الدار.

وفي قوله: () هذا تشريف للمدينة، حيث سماها الله الدار، فكأنها هي دار الإيمان؛ لأن الإيمان أوى إليها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها)75.

فالتعريف في () للتنويه كأنها الدار التي تستحق أن تسمى دارًا، وهي التي أعدها الله تعالى لهم؛ ليكون تبوؤهم إياها مدحًا لهم.

وذكر بعضهم أن الدار علمٌ بالغلبة على المدينة، كالمدينة، وأنه أحد أسمائها، ومنها: طيبة، وطابة، ويثرب، وجابرة76.

وفي ذكر الدار -وهي المدينة- مع ذكر الإيمان إيماء إلى فضيلة المدينة، بحيث جعل تبوؤهم المدينة قرين الثناء عليهم بالإيمان، ولعل هذا هو الذي عناه مالك -رحمة الله- فيما رواه عنه ابن وهب قال: سمعت مالكًا يذكر فضل المدينة على غيرها من الآفاق، فقال: إن المدينة تبوأت بالإيمان والهجرة، وإن غيرها من القرى افتتحت بالسيف. ثم قرأ: ( ) [الحشر: ٩]الآية77.

وجاء عنه صلى الله عليه وسلم: (أمرت بقرية تأكل القرى)78 .

والمقصود: المدينة، أي: يغلب أهلها، وهم الأنصار بالإسلام على غيرها من القرى، وينصر الله دينه بأهلها، ويفتح القرى عليهم، ويغنمهم إياها فيأكلونها79.

وقوله: () [الحشر: ٩]أي: سكنوا الإيمان، والإيمان لا يسكن، وإنما شبه الإيمان كأنه دار سكنوها؛ لأن الدار يستقر فيها الإنسان، فهؤلاء الأنصار سكنوا الإيمان، بمعنى: استقر الإيمان في قلوبهم، والإنسان يلازم داره، بمعنى: يستقر ويطمئن ويستريح فيه، وهؤلاء لازموا الإيمان كملازمة الإنسان لمسكنه، وهذه شهادة لهم بالإيمان -رضي الله تعالى عنهم-، فهم مؤمنون صادقون، استقر الإيمان في قلوبهم.

قال ابن جزي: «فإن قيل: كيف قال: تبوءوا الدار والإيمان، وإنما تتبوأ الدار، أي: تسكن ولا يتبوأ الإيمان؟

فالجواب من وجهين:

الأول: أن معناه تبوءوا الدار، وأخلصوا الإيمان، فهو كقولك:

علفتها تبنًا وماء باردًا80.

تقديره: علفتها تبنًا، وسقيتها ماء باردًا.

والثاني: أن المعنى: أنهم جعلوا الإيمان كأنه موطن لهم؛ لتمكنهم فيه، كما جعلوا المدينة كذلك»81.

فيكون في عطف الإيمان على الدار ستة أوجه:

أحدها: أنه ضمن () معنى: لزموا، فيصح عطف الإيمان عليه؛ إذ الإيمان لا يتبوأ.

الثاني: أنه منصوب بمقدر، أي: واعتقدوا، أو وألفوا، أو وأحبوا، أو وأخلصوا؛ كقوله:

علفتها تبنًا وماءً باردًا

وقوله:

متقلدًا سيفًا ورمحا 82

أي: وحاملًا رمحًا.

الثالث: أنه يتجوز في الإيمان، إن الإيمان مجاز عن المدينة، سمي محل ظهور الشيء باسمه مبالغة، فيجعل اختلاطه بهم وثباتهم عليه كالمكان المحيط بهم، فكأنهم نزلوه، وعلى هذا فيكون جمع بين الحقيقة والمجاز في كلمة واحدة، وفيه خلاف مشهور.

الرابع: أن يكون الأصل: دار الهجرة ودار الإيمان، فأقام (لام) التعريف في (الدار) مقام المضاف إليه، وحذف المضاف من دار الإيمان، ووضع المضاف إليه مقامه.

الخامس: أن يكون سمى (المدينة)؛ لأنها دار الهجرة ومكان ظهور الإيمان.

السادس: أنه منصوب على المفعول معه (الواو للمعية) أي: مع الإيمان معًا، والمراد تبوءوا الدار مع إيمانهم، أي: تبوءوها مؤمنين83.

والضمير في قوله: ( ) [الحشر: ٩].

للمهاجرين، والجار متعلق بتبوء، أي: من قبل أن يهاجر المهاجرون إليهم، وقد أسلم كثير من الأنصار قبل المهاجرين، لكن المقصود -والله وأعلم- بقوله: ( ) [الحشر: ٩] أي: من قبل أن يهاجر المهاجرون، وأن الأنصار أسلم كثير من كبارهم وسادتهم على يد مصعب بن عمير رضي الله عنه قبل أن يهاجر كثير من المهاجرين -رضي الله تعالى عنهم-، وقبل أن تصبح المدينة دار الهجرة التي أوى إليها النبي عليه الصلاة والسلام، فكثير من الأنصار كان قد أسلم، ودخل الإيمان في قلوبهم، واستقر على يد مصعب بن عمير رضي الله عنه، فهو من فتح الله به المدينة المنورة بدعوته إلى الله، وسلوكه الطيب، حتى ما بقي بيت من بيوت المدينة إلا ودخله الإيمان.

وقد أورد ابن جزي إشكالًا، وأجاب عليه، حيث قال: «فإن قيل: قوله: ( ) [الحشر: ٩].

يقتضي أن الأنصار سبقوا المهاجرين بنزول المدينة وبالإيمان، فأما سبقهم لهم بنزول المدينة فلا شك فيه؛ لأنها كانت بلدهم، وأما سبقهم لهم بالإيمان فمشكل؛ لأن أكثر المهاجرين أسلم قبل الأنصار.

قال: والجواب من وجهين:

أحدهما: أنه أراد بقوله: ( ) [الحشر: ٩] من قبل هجرتهم.

والآخر: أنه أراد تبوءوا الدار مع الإيمان معًا، أي: جمعوا بين الحالتين قبل المهاجرين؛ لأن المهاجرين إنما سبقوهم بالإيمان لا بتبوء الدار، فيكون الإيمان على هذا مفعولًا معه، وهذا الوجه أحسن؛ لأنه جواب عن هذا السؤال، وعن السؤال الأول فإنه إذا كان الإيمان مفعولًا معه لم يلزم السؤال الأول؛ إذ لا يلزم إلا إذا كان الإيمان معطوفًا على الدار»84.

وجعل الألوسي ذلك من قبل تقدير مضاف، حيث قال: «والكلام بتقدير مضاف، أي: من قبل هجرتهم، فنهاية ما يلزم سبق الإيمان الأنصار على هجرة المهاجرين، ولا يلزم منه سبق إيمانهم على إيمانهم؛ ليقال: إن الأمر بالعكس، وجوز أن لا يقدر مضاف، ويقال: ليس المراد سبق الأنصار لهم في أصل الإيمان، بل سبقهم إياهم في التمكن فيه؛ لأنهم لم ينازعوا فيه لما أظهروه.

وقيل: الكلام على التقديم والتأخير، والتقدير: تبوءوا الدار من قبلهم والإيمان، فيفيد سبقهم إياهم في تبوء الدار فقط، وهو خلاف الظاهر، على أن مثله لا يقبل ما لم يتضمن نكتة سرية، وهي غير ظاهرة ها هنا؛ وقيل: لا حاجة إلى شيء مما ذكر، وقصار ما تدل الآية عليه تقدم مجموع تبوء الأنصار وإيمانهم على تبوء المهاجرين وإيمانهم، ويكفي في تقديم المجموع تقدم بعض أجزائه، وهو ها هنا تبوء الدار، وتعقب بمنع الكفاية، ولو سلمت لصح أن يقال: بتقدم تبوء المهاجرين وإيمانهم على تبوء الأنصار وإيمانهم؛ لتقدم إيمان المهاجرين»85.

ووصف الله الأنصار أيضًا بالإيمان والاستجابة لله، كما جاء في تفسير قوله تعالى: ( ) [الشورى: ٣٨].

أنها نزلت في الأنصار، حين دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإيمان، فاستجابوا له؛ أي: لرسول الله من صميم القلب، كما هو المفهوم من إطلاق الاستجابة، وفيه إشارة إلى أن الاستجابة للرسول استجابة للمرسل، فهو من عطف الخاص على العام لمزيد التشريف، وذلك لأن الاستجابة داخلة في الإيمان86.

قال الألوسي: ( ) [الشورى: ٣٨].

قيل: نزلت في الأنصار، دعاهم الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم للإيمان به وطاعته سبحانه، فاستجابوا له، فأثنى عليهم -جل وعلا- بما أثنى، وعليه فهو من ذكر الخاص بعد العام؛ لبيان شرفه؛ لأيمانهم دون تردد وتلعثم، والآية إن كانت مدنية فالأمر ظاهر، وإذا كانت مكية فالمراد بالأنصار من آمن بالمدينة قبل الهجرة، أو المراد بهم أصحاب العقبة87.

وقال الشوكاني: «قال ابن زيد: هم الأنصار بالمدينة استجابوا إلى الإيمان بالرسول حين أنفذ إليهم اثني عشر نقيبًا منهم قبل الهجرة، وأقاموا الصلاة لمواقيتها بشروطها وهيئاتها»88.

ووصف الله الأنصار بالإيمان والعمل الصالح، كما جاء عن ابن عباس في قوله: ( ) [محمد: ٣٤]. قال: هم أهل مكة، ( ) [محمد: ٢]. قال: هم أهل المدينة الأنصار ( ) [محمد: ٢]. قال: أمرهم89.

ووصفوا بأنهم رجال؛ وسماهم الله رجال، فقال: ( ﭯﭰ ﭻﭼ ﭿ ﮁﮂ ) [التوبة: ١٠٨].

فقد جاء ما يدل أنها نزلت في الأنصار، فعن أبي أيوب وجابر وأنس رضوان الله عليهم أن هذه الآية حين نزلت: ( ﭿ ﮁﮂ ) [التوبة: ١٠٨].

قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا معشر الأنصار إن الله قد أثنى عليكم في الطهور، فما طهوركم؟) قالوا: نتوضأ للصلاة، ونغتسل من الجنابة، ونستنجي بالماء، قال: (فهو ذاك، فعليكموه)90.

وعن موسى بن أبي كثير قال: بدء حديث هذه الآية في رجال من الأنصار، من أهل قباء91.

وقوله: ( ﭿ ﮁﮂ) [التوبة: ١٠٨].

أي: من الأحداث والجنابات والنجاسات...، وقالوا: المراد منه: الطهارة بالماء بعد الحجر، وقيل: المراد منه: الطهارة من الذنوب والمعاصي، وقيل: محمول على الأمرين92.

فتكون جملة: ( ﭿ ﮁﮂ) ثناء على مؤمني الأنصار الذين يصلون بمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبمسجد قباء، وجاء الضمير مفردًا مراعاة للفظ (مسجد) الذي هو جنس93.

ثانيًا: توبة الله على الأنصار، وتجاوزه عن تقصيرهم:

قال تعالى: ( ﯯﯰ ) [التوبة: ١١٧].

نزلت هذه الآية في غزوة تبوك التي كانت قبل الشام، وكان فيها جيش العسرة من المهاجرين والأنصار، ومن غيرهم من القبائل التي حول المدينة ومكة، ولكنهم خصوا بالثناء والتوبة؛ لأنهم لم يترددوا، ولم يتثاقلوا، ولا شحوا بأموالهم، فكانوا أسوة لمن ائتسى بهم من غيرهم من القبائل94.

ففي قوله: ( ) خبر مؤكد بلام القسم على حرف التحقيق (قد) بين فيه تعالى فضل عطفه على نبيه وأصحابه المؤمنين الصادقين من المهاجرين والأنصار، وتجاوزه عن هفواتهم في هذه الغزوة، وفي غيرها لاستغراقها في حسناتهم الكثيرة على كونهم لا يصرون على شيء منها، وإنما كانت هفواتهم هذه مقتضى الطباع البشرية، واجتهاد الرأي فيما لم يبينه الله تعالى بيانًا قطعيًا يعد مخالفه عاصيًا.

يقول ابن عاشور: «وافتتاح الله هذه الآية بحرف التحقيق (لقد)؛ تأكيدًا لمضمونها المتقرر فيما مضى من الزمان، حسبما دل عليه الإتيان بالمسندات كلها أفعالًا ماضية.

ومن المحسنات افتتاح هذا الكلام بما يؤذن بالبشارة لرضا الله على المؤمنين الذين غزوا تبوك، وتقديم النبي صلى الله عليه وسلم في تعلق فعل التوبة بالغزاة؛ للتنويه بشأن هذه التوبة، وإتيانها على جميع الذنوب؛ إذ قد علم المسلمون كلهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد غفر الله ما تقدم من ذنبه وما تأخر»95.

وهذه التوبة التي تابها الله على النبي والمهاجرين والأنصار -كما قال ابن عباس-: كانت التوبة على النبي لأجل إذنه للمنافقين في القعود، ودليله قوله: ( ) [التوبة: ٤٣].

وعلى المؤمنين من ميل قلوب بعضهم إلى التخلف عنه، وقيل: توبة الله عليهم استنقاذهم من شدة العسرة.

وقيل: خلاصهم من نكاية العدو، وعبر عن ذلك بالتوبة وإن خرج عن عرفها لوجود معنى التوبة فيه، وهو الرجوع إلى الحالة الأولى96.

يقول شيخ المفسرين الطبري: «يقول تعالى ذكره: لقد رزق الله الإنابة إلى أمره وطاعته نبيه محمدًا، والمهاجرين ديارهم وعشيرتهم إلى دار الإسلام، وأنصار رسوله في الله الذين اتبعوا رسول الله في ساعة العسرة منهم من النفقة والظهر والزاد والماء»97.

فيكون معنى توبته على النبي أي: بإذنه للمنافقين بالتخلف عنه98.

وقال أهل المعاني: هو مفتاح كلام، وذلك أنه لما كان سبب توبة التائبين ذكر معهم، كقوله: ( ) [الأنفال: ٤١]99.

وهذه التوبة على المهاجرين والأنصار في ساعة العسرة سببها كما قال الرازي: «ربما وقع في قلوبهم نوع نفرة عن تلك السفرة، وربما وقع في خاطر بعضهم أنا لسنا نقدر على الفرار، ولم يعزموا عليه، بل وساوس كانت تقع في قلوبهم، فالله تعالى بين في آخر هذه السورة أنه بفضله عفا عنها، فقال: ( ) [التوبة: ١١٧].

والوجه الثاني في الجواب: أن الإنسان طول عمره لا ينفك عن زلات وهفوات، إما من باب الصغائر، وإما من باب ترك الأفضل، ثم إن النبي وسائر المؤمنون لما تحملوا مشاق هذا السفر ومتاعبه، وصبروا على تلك الشدائد والمحن، أخبر الله تعالى أن تحمل تلك الشدائد صار مكفرًا لجميع الزلات التي صدرت عنهم في طول العمر، وصار قائمًا مقام التوبة المقرونة بالإخلاص عن كلها.

والوجه الثالث في الجواب: أن الزمان لما اشتد عليهم في ذلك السفر، وكانت الوساوس تقع في قلوبهم، فكلما وقعت وسوسة في قلب واحد منهم تاب إلى الله منها، وتضرع إلى الله في إزالتها عن قلبه، فلكثرة إقدامهم على التوبة بسبب خطرات تلك الوساوس ببالهم، قال تعالى: ( ) [التوبة: ١١٧]...الآية.

والوجه الرابع: لا يبعد أن يكون قد صدر عن أولئك الأقوام أنواع من المعاصي، إلا أنه تعالى تاب عليهم، وعفا عنهم لأجل أنهم تحملوا مشاق ذلك السفر، ثم إنه تعالى ضم ذكر الرسول عليه الصلاة والسلام إلى ذكرهم؛ تنبيهًا على عظم مراتبهم في الدين، وأنهم قد بلغوا إلى الدرجة التي لأجلها ضم الرسول عليه الصلاة والسلام إليهم في قبول التوبة»100.

وقوله تعالى: ( ) [التوبة: ١١٧].

() من أفعال المقاربة، تعمل في اسمين (عمل كان) واسمها هنا ضمير شأن مقدر، وخبرها هو جملة الخبر عن ضمير الشأن، وإنما جعل اسمها هنا ضمير شأن؛ لتهويل شأنهم حين أشرفوا على الزيغ.

واختلف في معنى (تزيغ) فقيل: تتلف بالجهد والمشقة والشدة، وقيل: تعدل -أي تميل- عن الحق في الممانعة والنصرة، وقيل: من بعد ما هم فريق منهم بالتخلف والعصيان ثم لحقوا به، وقيل: هموا بالقفول فتاب الله عليهم، وأمرهم به101.

وقوله تعالى: ( ) هذا تأكيد ظاهر، واعتناء بشأن التوبة، هذا إن كان الضمير راجعًا إلى من تقدم ذكر التوبة عنهم، وإن كان الضمير إلى الفريق فلا تكرار102. والمعنى: قيل: توبته عليهم أن تدارك قلوبهم حتى لم تزغ، وكذلك سنة الحق مع أوليائه إذا أشرفوا على العطب، ووطنوا أنفسهم على الهلاك أمطر عليهم سحائب الجود، فأحيا قلوبهم103.

فإن قيل: ذكر التوبة في أول الآية وفي آخرها، فما فائدة التكرار؟

فالجواب من وجوه:

أحدها: أنه تعالى ابتدأ بذكر التوبة قبل ذكر الذنب؛ تطييبًا لقلوبهم، ثم لما ذكر الذنب أردفه مرة أخرى بذكر التوبة؛ تعظيمًا لشأنهم.

وثانيها: إذا قيل: عفا السلطان عن فلان ثم عفا عنه، دل على أن ذلك العفو متأكد، بلغ الغاية القصوى في الكمال والقوة. . .، وهذا معنى قول ابن عباس في قوله: ( ) يريد ازداد عنهم رضًا، قال ابن عباس: من تاب الله عليه لم يعذبه أبدًا.

وثالثها: أنه قال: ( ) [التوبة: ١١٧].

وهذا الترتيب يدل على أن المراد أنه تعالى تاب عليهم من الوساوس التي كانت تقع في قلوبهم في ساعة العسرة،

ثم إنه تعالى زاد عليه فقال: ( ) [التوبة: ١١٧].

فهذه الزيادة أفادت حصول وساوس قوية، فلا جرم أتبعها تعالى بذكر التوبة مرة أخرى؛ لئلا يبقى في خاطر أحدٍ شك في كونهم مؤاخذين بتلك الوساوس104.

وفي قصة توبة الله على النبي والمهاجرين والأنصار وعلى الثلاثة، فوائد ومسائل، منها:

في هذه الآيات دليل على أن توبة الله على العبد أجل الغايات، وأعلى النهايات، فإن الله جعلها نهاية خواص عباده، وامتن عليهم بها، حين عملوا الأعمال التي يحبها ويرضاها، وفيها لطف الله بهم، وتثبيتهم في إيمانهم عند الشدائد والنوازل المزعجة.

وفي الآيات أيضًا دليل على أن العبادة الشاقة على النفس لها فضل ومزية ليست لغيرها، وكلما عظمت المشقة عظم الأجر، وأن توبة الله على عبده بحسب ندمه وأسفه الشديد، وأن من لا يبالي بالذنب، ولا يحرج إذا فعله، فإن توبته مدخولة، وإن زعم أنها مقبولة.

وأن علامة الخير وزوال الشدة إذا تعلق القلب بالله تعالى تعلقًا تامًا، وانقطع عن المخلوقين.

وأن من لطف الله بالثلاثة أن وسمهم بوسم ليس بعار عليهم، فقال: () إشارة إلى أن المؤمنين خلفوهم، أو خلفوا عن من بت في قبول عذرهم، أو في رده، وأنهم لم يكن تخلفهم رغبة عن الخير؛ ولهذا لم يقل: (تخلفوا).

ومن فوائد الآيات: أن الله تعالى من عليهم بالصدق؛ ولهذا أمر بالاقتداء بهم، فقال: ( ) [التوبة: ١١٩]105.

يقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: واعلم أن لله تعالى على عبده توبتين؛ التوبة الأولى: قبل توبة العبد؛ وهي التوفيق للتوبة؛ والتوبة الثانية: بعد توبة العبد؛ وهي قبول التوبة؛ وكلاهما في القرآن؛ قال الله تبارك وتعالى: ( ﭪﭫ ) [التوبة: ١١٨].

فقوله تعالى: ( ﭪﭫ) أي: وفقهم للتوبة، وقوله تعالى: (ﭪﭫ) أي: يقوموا بالتوبة إلى الله؛ وأما توبة القبول ففي قوله تعالى: ( ) [الشورى: ٢٥].

ومن فوائد الآيات:


1 انظر: مختار الصحاح،١/٦٨٨، معجم اللغة العربية المعاصرة، أحمد مختار عمر، ٣/٢٢٢٠.

2 انظر: مغاني الأخيار في شرح أسامي رجال معاني الآثار، العيني ٣/٣٨٢.

3 انظر: المصدر السابق.

4 انظر: المعجم المفهرس الشامل لألفاظ القرآن الكريم، عبد الله جلغوم، ص١٣٢٥-١٣٢٨.

5 انظر: بصائر ذوي التمييز، الفيروزآبادي ٥/٦٩.

6 انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، ابن الأثير، ٣/١٢.

7 انظر: نزهة النظر، ابن حجر العسقلاني، ص١٤٠.

8 انظر: تهذيب اللغة، الأزهري،٦/٢٩، معجم اللغة العربية المعاصرة، أحمد مختار عمر،٣/٢٣٢٥.

9 انظر: الكليات، الكفوي، ص٨٨٣.

10 انظر: أساس البلاغة، الزمخشري، ١/٦١١، تاج العروس، الزبيدي،٢٦/١٠٢.

11 انظر: العين، الفراهيدي، ٢/٧٨.

12 انظر: الضوء اللامع المبين عن مناهج المحدثين، أحمد ناجي، ص، ١٦٨.

13 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٣/٢٦٨.

14 معالم التنزيل، البغوي ٣/١٦٦.

15 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٧/٣٤.

16 جامع البيان، الطبري ١١/٥١٨.

17 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٨/٤٢.

18 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المغازي، باب قوله: (إذ همت طائفتان منكم)، ٥/ ٩٦، رقم ٤٠٥١ ومسلم في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل الأنصار،رضي الله عنهم، رقم ٢٥٠٥.

19 انظر: زاد المسير، ابن الجوزي ١/٤٤٩.

20 منهاج السنة النبوية ١/١٥٤.

21 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجمعة، باب فرض الجمعة، ٢/ ٢، رقم ٨٧٦، ومسلم في صحيحه، كتاب الجمعة، باب هداية هذه الأمة ليوم الجمعة ٢/ ٥٨٥، رقم ٨٥٥.

22 أحكام القرآن، ابن العربي ٤/٤٠٦.

23 مفاتيح الغيب، الرازي ٨/١٢٧.

24 فتح القدير ٢/٥٧٧.

25 زاد المسير، ابن الجوزي ٣/٤٩١.

26 جامع البيان، ١٤/٤٣٩.

27 تفسير القرآن العظيم، ٤/٢٠٣.

28 المصدر السابق.

29 صفوة التفاسير، الصابوني ١/٣٧٤.

30 محاسن التأويل، القاسمي ٢/٥٠.

31 في ظلال القرآن ٧/١٦٥.

32 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٨/٦٩.

33 محاسن التأويل، القاسمي ٢/٥٠.

34 عمدة القاري ٢٤/٤١١.

35 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب مناقب الأنصار، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار:(أنتم أحب الناس إلي)، ٥/ ٣٢، رقم ٣٧٨٦، ومسلم في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل الأنصار، ٤/ ١٩٤٨، رقم ٢٥٠٨.

36 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الإيمان، باب علامة الإيمان حب الأنصار، ١/ ١٢، رقم ١٧، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب الدليل على أن حب الأنصار وعلي رضي الله عنهم من الإيمان وعلاماته، وبغضهم من علامات النفاق ١/٨٥، رقم ٧٤.

37 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب مناقب الأنصار، باب حب الأنصار، ٥/٣٢، رقم ٣٧٨٣، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب الدليل على أن حب الأنصار وعلي رضي الله عنهم من الإيمان وعلاماته، وبغضهم من علامات النفاق ١/٨٥، رقم ٧٥.

38 انظر: فتح الباري، ابن حجر ١/ ١٦٣.

39 الجامع لأحكام القرآن، ١٨/ ٢٦.

40 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، باب قوله: (ويؤثرون على أنفسهم)، ٦/ ١٤٨، رقم ٤٨٨٩.

41 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، باب قوله: (ويؤثرون على أنفسهم)، ٥/ ٣٤، رقم ٣٧٩٨.

42 انظر: زاد المسير، ابن الجوزي ٤/٢٥٨.

43 انظر: الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ١٨/٢٥.

44 التسهيل لعلوم التنزيل، ابن جزي ٢/٣٦٠.

45 مفاتيح الغيب، الرازي ٢٩/٥٠٨.

46 المصدر السابق.

47 انظر: المصدر السابق.

48 مفاتيح الغيب، الرازي ٢٩/٥٠٨.

49 تفسير القرآن العظيم، ٨/٧١.

50 أخرجه البزار في مسنده، رقم ٧٢٩٣ والطبراني في المعجم الأوسط ٥٧٥٤.

وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب ٢/ ٣٥٦، رقم ٢٦٠٧.

51 روح البيان، إسماعيل حقي ٩/٣٥٣.

52 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإمارة، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية، وتحريمها في المعصية ٣/١٤٧٠، رقم ١٧٠٩.

53 أحكام القرآن، ابن العربي ٧/٣٠٨.

54 فتح القدير ٥/٢٠١

55 المصدر السابق ٥/٢٨٢.

56 انظر: زاد المسير، ابن الجوزي ٨ /٢١٢.

57 مجموع فتاوى ابن تيمية ١٠/١١٩.

58 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجزية، باب ما أقطع النبي صلى الله عليه وسلم من البحرين، وما وعد من مال البحرين والجزية، ولمن يقسم الفيء والجزية ٤/ ٩٨، رقم ٣١٦٣، ومسلم في صحيحه، كتاب الإمارة، باب الأمر بالصبر عند ظلم الولاة واستئثارهم ٣/ ١٤٧٤، رقم ١٨٤٥.

59 أحكام القرآن، ابن العربي ٧/٣١٠.

60 انظر: لطائف الإشارات، القشيري ٣/٥٦١.

61 محاسن التأويل، القاسمي ٢٣/ ٢.

62 زهرة التفاسير، أبو زهرة ١/٣٢٠١.

63 انظر: ديوان حسان بن ثابت ص٩٩.

64 أخرجه أحمد في مسنده، ٢٥/٩٢، رقم ١٥٧٨٩.

65 انظر: السيرة النبوية، ابن هشام ٢/١٩٧- ٢٠٩.

66 انظر: جامع البيان، الطبري ١٠/٥١، تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٤/٩٥.

67 فتح القدير ٢/٤٧٨.

68 انظر: زهرة التفاسير، أبو زهرة ٦/٣٢٠٢.

69 المصدر السابق ٦/٣٢٠٦.

70 انظر: المصدر السابق ٦/٣٢٠٩.

71 انظر: مفاتيح الغيب، الرازي ١٥/٥١٩.

72 أخرجه الطبراني في الكبير ٧/ ١٥١، رقم ٦٦٦٥.

73 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٢٨/٩٠.

74 المصدر السابق.

75 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل المدينة، باب الإيمان يأرز إلى المدينة ٣/ ٢١، رقم ١٨٧٦، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب بيان أن الإسلام بدأ غريبًا وسيعود غريبًا، وأنه يأرز بين المسجدين ١/١٣١، رقم ١٤٧.

76 روح المعاني، الألوسي ٢٠/٤٢٥.

77 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٢٨/٩١.

78 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل المدينة، باب فضل المدينة وأنها تنفي الناس ٣/ ٢٠، رقم ١٨٧١، ومسلم في صحيحه، كتاب الحج، باب المدينة تنفي شرارها، ٢/١٠٠٦، رقم ١٣٨٢.

79 انظر: النهاية في غريب الأثر، ابن الأثير ١/١٤٤.

80 البيت في خزانة الأدب ٣/ ١٣٩، وفي العباب الزاخر ١/٤٨١، وتمامه: «حتى شتت همالةً عيناها».

81 التسهيل لعلوم التنزيل، ٣/١٥٧.

82 البيت في الكامل في اللغة ١/ ٢٩١ وشرح ديوان الحماسة ص ٨٠٥ غير منسوب لقائل، وصدره: «يا ليت بعلك قد غذا».

83 انظر: اللباب في علوم الكتاب، ابن عادل ١٥/٢٠١.

84 التسهيل لعلوم التنزيل، ٣/١٥٧.

85 روح المعاني، ٢٠/٤٢٥.

86 روح البيان، إسماعيل حقي ٨/٢٥٣.

87 روح المعاني ٢٥/٤٦.

88 فتح القدير ٤/٧٦٩.

89 انظر: فتح القدير، الشوكاني ٥/٤٧.

90 أخرجه ابن ماجه في كتاب الطهارة وسننها، باب الاستنجاء بالماء ١/ ١٢٧، رقم ٣٥٥.

وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه، ١/٦٣.

91 جامع البيان، الطبري ١٤/ ٤٨٨.

92 اللباب في علوم الكتاب، ابن عادل ١٠/ ٢١٠.

93 التحرير والتنوير، ابن عاشور ١١/ ٣٢.

94 انظر: المصدر السابق .

95 السابق ١١/٤٩.

96 اللباب في علوم الكتاب، ابن عادل ٨/٣٨٧.

97 جامع البيان، ١٤/٥٣٩.

98 معالم التنزيل، البغوي ٤/١٠٤.

99 اللباب في علوم الكتاب، ابن عادل ٨/٣٨٧.

100 انظر: مفاتيح الغيب، الرازي ٨/١٧٠.

101 انظر: الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٨/٢٨١.

102 انظر: فتح القدير، الشوكاني ٢/٥٩٩.

103 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٨/٢٨١.

104 اللباب في علوم الكتاب، ابن عادل ٨/٣٨٩.

105 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص٣٥٤.

106 انظر: تفسير القرآن الكريم، ابن عثيمين ٣/٩١.

107 انظر: اللباب في علوم الكتاب، ابن عادل ٨/٣٨٧.

108 انظر: المصدر السابق.

109 انظر: اللباب في علوم الكتاب، ابن عادل ٨/٣٨٧.

110 انظر: السيرة النبوية، ابن كثير ٤/ ١٦.

111 أخرجه الترمذي في سننه، أبواب المناقب، ٥/ ٦٢٦، رقم ٣٧٠١.

وحسنه الألباني في تعليقه على المشكاة، رقم ٦٠٦٤.

112 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الفتن، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: (سترون بعدي أمورًا تنكرونها)، ٩/ ٤٧، رقم ٧٠٥٦، ومسلم في صحيحه، كتاب الإمارة، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية، وتحريمها في المعصية، ٣/١٤٧٠، رقم ١٧٠٩.

113 تفسير القرآن الكريم، ٨/ ١١٣.

الأنصار

عناصر الموضوع

مفهوم الأنصار

الأنصار في الاستعمال القرآني

الألفاظ ذات الصلة

صفات الأنصار وأعمالهم

فضائل الأنصار

الأنصار

مفهوم الأنصار

أولًا: المعنى اللغوي:

الأنصار: جمع ناصر، كصاحب وأصحاب، كما تجمع ناصر على ناصرين ونصار، اسم فاعل من نصر.

أو جمع نصير، كشريف وأشراف، (ناصر أو نصير) وكلاهما صواب، والنصير: فعيل، بمعنى فاعل أو مفعول؛ لأن كل واحد من المتناصرين ناصر ومنصور.

ونصير: صيغة مبالغة من ناصر، ومعناه: المساعد، والمعين، والمناصر، والمؤيد.

يقال: نصره على عدوه ينصره نصرًا، واستنصره على عدوه: سأله أن ينصره عليهم، وتناصر القوم: إذا نصر بعضهم بعضًا، وانتصر منه: انتقم1.

ولفظ الأنصار يأتي بمعنى: الأعوان المناصرين والمؤازرين والأتباع والحلفاء، وأهل الاتباع والتصديق.

وهذا اللفظ (الأنصار) بهذا المعنى اللغوي يمكن إطلاقه لغةً على كل من اتصف بهذا الوصف.

ثانيًا: المعنى الاصطلاحي:

وفي المعنى الاصطلاحي الأمر ليس ببعيد عن المعنى اللغوي، فأنصار الرجل هم حلفاؤه وأتباعه ومؤيدوه في النزاعات، ومعاونوه على أمره.

ومن هنا جاء تعريف الأنصار في الاصطلاح الشرعي بأنهم الأوس، والخزرج من الأزد: سماهم الله عز و جل بذلك لما نصروا رسوله، وآووه، وكانوا له نعم الحلفاء والأتباع2.

فالأنصار اصطلاحًا: يطلق على من أسلم من أهل المدينة بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم من الأوس، والخزرج، ومزينة، وسليم، وجهينة، وغفار، وأسلم، فكل هؤلاء يسمون الأنصار، وهو اسم سماه الله تعالى لكل من ناصر نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم وآواه في المدينة3، وأولادهم يدخلونه بالنسب؛ فيقال: الأنصاري للواحد منهم ومن أبنائهم.

الأنصار في الاستعمال القرآني

وردت مادة (نصر) في القرآن (١٥٥) مرة، يخص موضوع البحث منها (١١) مرة4.

والصيغ التي وردت هي:

الصيغة

عدد المرات

المثال

الجمع

١١

( ) [البقرة:٢٧٠]

وجاءت كلمة (الأنصار) في الاستعمال القرآني بمعناها اللغوي، وهو: الأعوان5.

الألفاظ ذات الصلة

الصحابة:

الصحابة لغة:

الصحابة بالفتح: جمع صاحب، ولم يجمع فاعل على فعالة إلا هذا6.

الصحابة اصطلاحًا:

هو من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمنًا به، ومات على الإسلام، ولو تخللت ردةٌ في الأصح7.

الصلة بين الأنصار والصحابة:

عند الحديث عن الفرق بين لفظة الأنصار ولفظة الصحابة وكذلك الألفاظ الثلاثة التالية يكون المقصود منه الاصطلاح الشرعي، فيكون لفظ الأنصار أخص من لفظ الصحابة، إذ الصحابة منهم المهاجرون والأنصار والطلقاء، ومن دخل في دين النبي صلى الله عليه وسلم من القبائل بعد الفتح.

المهاجرون:

المهاجرون لغة:

جمع مهاجر، والمهاجر هو كل من فارق رباعه من بدوي أو حضري وسكن بلدًا آخر8.

ا لمهاجرون اصطلاحًا:

هم الذين صلوا إلى القبلتين، أو شهدوا بدرًا، أو أسلموا قبل الهجرة9.

الصلة بين الأنصار والمهاجرين:

الأنصار هم أهل المدينة الذين آووا النبي صلى الله عليه وسلم ومن هاجر إليهم من أهل الإسلام من مكة، والمهاجرون هم الذين قدموا المدينة مع النبي صلى الله عليه وسلم، أو هاجروا إليه منها بعد ذلك، وقبل انتهاء أجل الهجرة.

الطلقاء:

الطلقاء لغة:

أطلقت الأسير، وهو طليق، وهو من الطلقاء. وأطلقت الناقة من عقالها فطلقت10.

الطلقاء اصطلاحًا:

هم أهل مكة الذين أسلموا بعد فتحها.

الصلة بين الأنصار والطلقاء:

الأنصار من أهل المدينة وإسلامهم متقدم على إسلام الطلقاء، أما الطلقاء فهم أهل مكة وإسلامهم كان بعد فتح مكة.

التابعون:

التابعون لغة:

جمع تابع، وهو التالي، ومنه التتبع والمتابعة، والإتباع، والتتبع، تقول: تتبعت علمه، أي: اتبعت آثاره11.

التابعون اصطلاحًا:

من لقي الصحابي، وإن لم تطل صحبته12.

الصلة بين الأنصار والتابعين:

الأنصار صحبوا النبي صلى الله عليه وسلم ورأوه وهم من قرن النبي صلى الله عليه وسلم، بينما التابعون هم من صحبوا الصحابة بعد موت النبي، أو قبل ذلك ولم يحصل لهم شرف الصحبة.

صفات الأنصار وأعمالهم

تحدث القرآن الكريم عن صفات الأنصار وأعمالهم، وسوف نتناول ذلك بالبيان فيما يأتي:

أولًا: أبرز صفات الأنصار:

اصطفى الله سبحانه لهذا الدين رجالًا، كان لهم الحظ الأوفر، والشرف العظيم في نصرة الدين والنبي صلى الله عليه وسلم وإيوائه بعد أن خذله الناس، ألا وهم الأنصار، فهم من آوى الرسول ونصر، وكبت المشركين وقهر؛ ولهذا فحبهم ثابت في قلب كل مسلم، وبغضهم متقد في قلب كل منافق.

وقد شهد الكتاب العزيز بفضلهم، وبرضوان الله عليهم؛ لما قدموا من خدمة لهذا الدين، فخلد الله مديحهم ورضوانه عليهم في كتابه.

ولو تأملنا في صفات الأنصار في القرآن الكريم، وأمعنا النظر لوجدنا فضائلهم جمة، ومناقبهم عظيمة، بلغوا فيها غاية الكمال، ونالوا بها رضا ربهم الكريم المنان، فهو تارة يصفهم بالسابقين الأولين، وتارة بالإيواء والنصرة والإيمان، وتارة يصفهم بالفلاح، وتارة يثني على جهادهم وصبرهم وإيثارهم، وتارة يخبر بالرضا والتوبة عنهم.

وقد أشار إلى بعض أفعالهم وصفاتهم، ومنها: تبوءهم المدينة، وحبهم للمهاجرين، وإيثارهم إياهم، وسلامة صدورهم، كما في قوله تعالى: ( ﯽﯾ ﯿ ) [الحشر: ٩].

وأشار إليهم في قوله: ( ﯞﯟ ) [الأنعام: ٨٩].

فقوله: ( ) قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: «وقوله: ( ) يعني: أهل مكة، قاله ابن عباس وسعيد بن المسيب والضحاك وقتادة والسدي وغير واحد، وقوله: ( ) أي: إن يكفر بهذه النعم من كفر بها من قريش وغيرهم من سائر أهل الأرض، من عرب وعجم، ومليين وكتابيين، فقد وكلنا بها قومًا آخرين، أي: المهاجرين والأنصار، وأتباعهم إلى يوم القيامة»13.

وكذا قال البغوي: «أن المراد بقوله: ( ) يعني: الأنصار وأهل المدينة»14. وقال القرطبي: « ( ) جواب الشرط، أي: وكلنا بالإيمان بها ( ) يريد الأنصار من أهل المدينة، والمهاجرين من أهل مكة»15.

وقال الطبري بعد أن ذكر عدة أقوال في المراد بقوله: ( ): «وأولى هذه الأقوال في تأويل ذلك بالصواب قول من قال: عنى بقوله: ( ) كفار قريش ( ) يعني به: الأنبياء الثمانية عشر الذين سماهم الله تعالى ذكره في الآيات قبل هذه الآية، وذلك أن الخبر في الآيات قبلها عنهم مضى، وفي التي بعدها عنهم ذكر، فما بينها بأن يكون خبرًا عنهم، أولى وأحق من أن يكون خبرًا عن غيرهم»16. وعلى كل حال لا يوجد ما يمنع من دخول الأنصار في المراد من الآية، والله أعلم.

وأشير إليهم أيضًا في قوله تعالى: ( ﭗﭘ ) [الأنفال: ٦٢].

أي: قواك بنصره، يريد: يوم بدر، وبالمؤمنين، قال النعمان بن بشير: نزلت في الأنصار ( ﭡﭢ ) [الأنفال: ٦٣].

أي: جمع بين قلوب الأوس والخزرج، وكانت تألف القلوب مع العصبية الشديدة في العرب من آيات النبي صلى الله عليه وسلم، ومعجزاته؛ لأن أحدهم كان يلطم اللطمة فيقاتل عليها حتى يستقيدها، وكانوا أشد خلق الله حمية، فألف الله بالإيمان بينهم، حتى قاتل الرجل أباه وأخاه بسبب الدين، وقيل: أراد التأليف بين المهاجرين والأنصار، والمعنى متقارب17.

ونزل فيهم قوله -جل وعلا-: ( ﭘﭙ ) [آل عمران: ١٢٢].

فعن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه قال: نزلت هذه الآية فينا: ( ) قال: نحن الطائفتان بنو حارثة وبنو سلمة، وما أحب أنها لم تنزل، والله يقول: ( ﭘﭙ) وقال سفيان مرةً: وما يسرني أنها لم تنزل؛ لقول الله: ( ) 18.

«وقال الحسـن البصري: هما طائفتان من الأنصار همتا بذلك، فعصمهما الله، وقيل: لما رجع عبـد الله ابن أبي في أصحابـه يوم أحد همت الطائفتان باتباعه، فعصمهما الله»19.

والمقصود أن الله تبارك وتعالى بين في هذه الآيات فضائل الأنصار التي بَيَنَها القرآن الكريم، فقد نص على مجموعة من صفاتهم الحميدة، ومنها:

١. سبق الأنصار إلى الإيمان والنصرة.

وصف الله الأنصار في القرآن الكريم بالسبق، فقال: ( ﭦﭧ ) [التوبة: ١٠٠].

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «ذهب جمهور العلماء إلى أن السابقين في قوله تعالى: ( ) [التوبة: ١٠٠].

هم هؤلاء الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا، وأهل بيعة الرضوان كلهم منهم، وكانوا أكثر من ألف وأربعمائة»20.

وبين ابن العربي رحمه الله الأمور التي يكون فيها السبق، فقال: «السبق يكون بثلاثة أشياء: الصفة، وهو الإيمان، والزمان، والمكان، وأفضل هذه الوجوه سبق الصفات، والدليل عليه قوله صلى الله عليه وسلم في الصحيح: (نحن الآخرون الأولون، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، وأوتيناه من بعدهم، فهذا يومهم الذي اختلفوا فيه، فهدانا الله له، فاليهود غدًا، والنصارى بعد غد)21»22.

وقال الرازي: «اختلفوا في السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار من هم؟ وذكروا وجوهًا. . . »، ثم قال: «والصحيح عندي أنهم السابقون في الهجرة وفي النصرة، والذي يدل عليه أنه ذكر كونهم سابقين، ولم يبين أنهم سابقون في ماذا؟ فبقي اللفظ مجملًا، إلا أنه وصفهم بكونهم مهاجرين وأنصارًا، فوجب صرف ذلك اللفظ إلى ما به صاروا مهاجرين وأنصارًا، وهو الهجرة والنصرة، فوجب أن يكون المراد منه السابقون الأولون في الهجرة والنصرة؛ إزالة للإجمال عن اللفظ... ثم قال: و أيضًا فالسبق إلى الهجرة طاعة عظيمة من حيث إن الهجرة فعل شاق على النفس، ومخالف للطبع، فمن أقدم عليه أولًا صار قدوة لغيره من هذه الطاعة، وكان ذلك مقويًا لقلب الرسول عليه الصلاة والسلام، وسببًا لزوال الوحشة عن خاطره، وكذلك السبق في النصرة، فإن الرسول عليه الصلاة والسلام لما قدم المدينة، فلا شك أن الذين سبقوا إلى النصرة والخدمة، فازوا بمنصب عظيم»23.

وما ذكر قبل من الأقوال هو من باب التمثيل، فيكون هذا من باب اختلاف التنوع، لا اختلاف التضاد؛ ولهذا قال الشوكاني رحمه الله: «ولا مانع من حمل الآية على هذه الأصناف كلها»24.

٢. رضوان الله عن الأنصار ورضاؤهم عنه.

أخبر سبحانه أنه رضي عن (المهاجرين) والأنصار وعن أفعالهم، ورضوا عنه سبحانه؛ لما أجزل لهم من الثواب على طاعاتهم وإيمانهم به ويقينهم، فقال تعالى: ( ) [التوبة: ١٠٠].

فقوله تعالى: ( ) يعم الكل، قال الزجاج: رضي الله أفعالهم، ورضوا ما جازاهم به25 فحين ذكر سبحانه وتعالى الجزاء الذي أعده لهؤلاء، وحين كانت نفوسهم زاكية راقية؛ قابلوا الجزاء بالشكر، والتزود من الطاعة، فذكر سبحانه أنهم: ( ) وهذا أرقى المراتب التي يسعى إليها المؤمنون، ويتنافس فيها المتنافسون، أن يرضى الله تعالى عنهم، ويرضيهم، يقول الطبري: «رضي الله عن جميعهم لما أطاعوه، وأجابوا نبيه إلى ما دعاهم إليه من أمره ونهيه، ورضي عنه السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان لما أجزل لهم من الثواب على طاعتهم إياه، وإيمانهم به وبنبيه عليه السلام»26.

ففي هذه الآية إخبار بأن الله رضي عنهم ورضوا عنه، وفي هذا دليل على عدالتهم، ووجه الدلالة: أن الله تعالى أخبر فيها برضاه عنهم، ولا يثبت الله رضاه إلا لمن كان أهلًا للرضا، ولا توجد الأهلية لذلك إلا لمن كان من أهل الاستقامة في أموره كلها، عدلًا في دينه.

يقول ابن كثير رحمه الله: «يخبر تعالى عن رضاه عن السابقين من المهاجرين والأنصار، والتابعين لهم بإحسان، ورضاهم عنه بما أعد لهم من جنات النعيم، والنعيم المقيم»27.

ويقول أيضًا: «فقد أخبر الله العظيم أنه قد رضي عن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، فيا ويل من أبغضهم أو سبهم، أو أبغض أو سب بعضهم»28.

وقال تعالى في جزاء هؤلاء السابقين: ( ) [التوبة: ١٠٠].

أي: وأعد لهم في الآخرة جنات تجري من تحت أشجارها وقصورها الأنهار، ( ) أي: مقيمين فيها من غير انتهاء، ( ) أي: ذلك هو الفوز الذي لا فوز وراءه.

قال في البحر: لما بين تعالى فضائل الأعراب المؤمنين بين حال هؤلاء السابقين، ولكن شتان ما بين الثناءين، فهناك قال: ( ) [التوبة: ٩٩].

وهنا قال: ( ) وهناك ختم ( ) [التوبة: ٩٩].

وهنا ختم: ( ) [التوبة: ١٠٠]29.

وهذا الرضوان للأنصار، وما أعد لهم من الجنات والنعيم، هو جزاء ما قدموه لهذا الدين، وما تركوا من دورهم وأهليهم، وجزاء ما أعطوه للمهاجرين من أموالهم؛ لأن الهجرة أمر شاق على النفس، لمفارقة الأهل والعشيرة، والنصرة منقبة شريفة؛ لأنها إعلاء كلمة الله، ونصر رسوله وأصحابه، والإحسان من أحوال المقربين أو مقاماتهم.

وفي هذه الآية ( ) [التوبة: ١٠٠] فوائد:

الأولى: في الآية دليل على أن للصحابة مراتب، وأن الفضل للسابق إلى الإسلام والهجرة، وأن السابقين من الصحابة أفضل ممن تلاهم.

الثانية: قيل: المراد بالسابقين الأولين جميع المهاجرين والأنصار، فـ(من) بيانية؛ لتقدمهم على من عداهم، وقيل: بعضهم، وهم قدماء الصحابة و(من) تبعيضية، وقد اختار كثيرون الثاني، واختلفوا في تعيينهم.

الثالثة: تقديم المهاجرين؛ لفضلهم على الأنصار، كما ذكر في قصة السقيفة، ومنه علم فضل أبي بكر رضي الله عنه على من عداه؛ لأنه أول من هاجر معه صلى الله عليه وسلم30.

الرابعة: وفيها دليل على تنزيل الناس منازلهم.

الخامسة: وفيها دليل على أن أفضلية العمل على قدر رجوع منفعته إلى الإسلام والمسلمين.

السادسة: رضا الله عن السابقين من المهاجرين والأنصار، والمعنى: أنه رضي عنهم بما عملوه من الطاعات الخالصة له، ورضوا عنه بما جازاهم به مما لا يخطر لهم على بال، ولا تتصوره عقولهم، والرضا منه سبحانه هو أرفع درجات النعيم، وأعلى منازل الكرامة.

٣. حب الأنصار للمهاجرين.

قد شهد الله تعالى لهم بذلك في قوله: ( ) [الحشر: ٩].

فمن جملة أوصاف الأنصار الجميلة أنهم: ( ) [الحشر: ٩].

وهذا لمحبتهم لله ولرسوله أحبوا أحبابه، وأحبوا من نصر دينه، وهذه المحبة هي آصرة أقوى من آصرة النسب، وأقوى من رابطة الدم؛ لأنها تجمع على الإيمان بالله واليوم الآخر؛ ولأنها تستل كل الأحقاد والضغائن من الصدور؛ ولأنها تجعل من محبة الفرد لأخيه المسلم طاعة يتقرب بها، وينال بها الأجر والثواب من الله عز وجل، ويحصل بها على المنازل الرفيعة في الآخرة.

وأن هذه الرابطة أقوى من رابطة الدم واللغة والمصالح الاقتصادية، والعلاقات المتبادلة، يقول سيد قطب في الكلام على هذه الآية: «وهذه كذلك صورة وضيئة صادقة تبرز أهم الملامح المميزة للأنصار، هذه المجموعة التي تفردت بصفات، وبلغت إلى آفاق، لولا أنها وقعت بالفعل، لحسبها الناس أحلامًا طائرة، ورؤًى مجنحة، ومثلًا عليا قد صاغها خيال محلق. . .، ولم يعرف تاريخ البشرية كله حادثًا جماعيًا كحادث استقبال الأنصار للمهاجرين بهذا الحب الكريم، وبهذا البذل السخي، وبهذه المشاركة الرضية، وبهذا التسابق إلى الإيواء واحتمال الأعباء، حتى ليروى أنه لم ينزل مهاجر في دار أنصاري إلا بقرعة؛ لأن عدد الراغبين في الإيواء المتزاحمين عليه أكثر من عدد المهاجرين»31.

وفي قوله تعالى: () الواو استئنافية و () مبتدأ، وخبره () والجملة مستأنفة.

وقوله: () [الحشر: ٩].

خبر عن اسم الموصول () والمعنى: يحبونهم من حيث مهاجرتهم إليهم لمحبتهم الإيمان؛ قال ابن كثير: «أي: من كرمهم وشرف أنفسهم يحبون المهاجرين، ويواسونهم بأموالهم»32.

وقوله: ( ) أي: إلى المدينة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه حال الأنصار، فقلوبهم مملوءة بالحب للمهاجرين، ولا يحملون في صدورهم شيئًا على إخوانهم المهاجرين؛ لكونهم فضلوا عليهم ببعض الفضائل.

قال القاسمي: وقوله: () أي: لوجود الجنسية -أي المجانسة- في الصفاء، والموافقة في الدين والإخاء، قال الشهاب: المراد بمحبتهم المهاجرين هنا مواساتهم، وعدم الاستثقال والتبرم منهم، إذا احتاجوا إليهم، فالمحبة كناية عما ذكر33.

ويقول العيني: «في قوله: ( ) [الحشر: ٩أي: من المسلمين، حتى بلغ من محبتهم أن نزلوا لهم عن نسائهم، وشاطروهم أموالهم ومساكنهم»34.

وفي مقابل هذا الحب منهم أحبهم المهاجرون، وأحبهم الرسول صلى الله عليه وسلم، حتى قال للأنصار: (والذي نفسي بيده إنكم أحب الناس إلي)35 مرتين.

بل جعل الرسول حبهم من دلائل الإيمان، كما في حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار)36.

ففي هذا الحديث دلالة أن حب المؤمن لقبيلة الأنصار شعبة من شعب الإيمان، وعلامة عليه، فلا يحبهم إلا مؤمن، وأن بغضهم وكرههم شعبة من شعب النفاق والكفر، فلا يبغضهم إلا منافق.

وعن البراء قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الأنصار لا يحبهم إلا مؤمن، ولا يبغضهم إلا منافق، فمن أحبهم أحبه الله، ومن أبغضهم أبغضه الله)37.

وليس المراد بالبغض في هذا الحديث البغض الناتج من العداء الشخصي لأفرادهم، وإنما المراد بغضهم بسبب الصفة التي مدحوا بها، وهي نصرتهم للنبي صلى الله عليه وسلم، فمن أبغضهم من جهة هذه الصفة، وهي: كونهم نصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم أثر ذلك في تصديقه، فيصح أنه منافق38.

وكذلك الحب يقال فيه مثل ما يقال في البغض.

وهذا الحب من الأنصار لإخوانهم المهاجرين دافعه وجه الله تعالى، ومعرفتهم فضل الأخوة في الله، ومكانتها في الدين، فالأخوة في الله مبدأ عظيم من مبادئ الإسلام، يقوم عليه الولاء والبراء، والحب والبغض.

وتجلت هذه الأخوة في أبهى صورها، وأجمل حللها، في تلك المواقف السمحة التي عامل بها الأنصار إخوانهم المهاجرين، وهذا التآخي لم يكن مجرد شعار للمزايدة، ودغدغة العواطف، والالتفاف حول المعاني السامية بالأكاذيب والتدليس والتلبيس، لكنه معنى خالط قلوبهم ومشاعرهم، ولحمهم ودمهم، برز ذلك في سلمهم وحربهم، وفقرهم وغناهم، مستضعفين وممكن لهم، أفرادًا وجماعات.

وهذا الأنموذج من الأخوة الصادقة حرص النبي صلى الله عليه وسلم عليه وأكده، وكان من أوائل الأمور التي قام بها بعد وصوله المدينة أن آخى بين المهاجرين والأنصار؛ ليذهب عن المسلمين المهاجرين وحشة الغربة، ويؤنسهم عن مفارقة الأهل والعشيرة، ويشد بعضهم أزر بعض.

٤. الإيثار عند الأنصار.

الإيثار من أعظم الصفات التي اتصف بها المجتمع الإسلامي؛ ولهذا يقول بعض المفكرين: بأن كلمة الإيثار يصعب ترجمتها إلى لغات أخرى، أي: ليس لها مرادف في اللغات الأخرى مرادف يؤدي معناها، ويحقق كل معانيها، وكأن هذه الخصلة هي من الخصال التي أتى بها هذا الدين الحنيف، وزكى غرسها، وحث عليها، ودعا إليها.

وأعظم الناس إيثارًا في التاريخ الإسلامي هم الأنصار، فقد جاءهم المهاجرون إلى المدينة وهم لا يملكون من أمر الدنيا شيئًا، قد تركوا أموالهم وما يملكون خلف ظهورهم، وأقبلوا على ما عند الله عز وجل، يرجون رحمته، ويخافون عذابه، فاستقبلهم الأنصار الذين تبوءوا الدار، وأكرموهم أيما إكرام، ولم يبخلوا عليهم بشيء من حطام الدنيا، بل قاسموهم الأموال والمتاع، وشاطروهم بيوتهم وأرضهم وأموالهم، بطيب نفس، وسلامة صدر، في صورة يعجز عن وصفها اللسان، ويضعف عن تعبيرها البيان، وقابل المهاجرون هذا الإيثار الرائع بحسن الخلق والتعفف.

وقد امتدح الله جل وعلا خلق الإيثار عند الأنصار، فقال: ( ﯽﯾ ﯿ ) [الحشر: ٩].

ففي قوله: ( ﯽﯾ) [الحشر: ٩].

أي: إن من أوصاف الأنصار التي فاقوا بها غيرهم، وتميزوا بها على من سواهم الإيثار، وهو أكمل أنواع الجود، وهو الإيثار بمحاب النفس من الأموال وغيرها، وبذلها للغير مع الحاجة إليها، بل مع الضرورة والخصاصة، وهذا لا يكون إلا من خلق زكي، ومحبة لله تعالى مقدمة على محبة شهوات النفس ولذاتها.

والمراد بقوله: () [الحشر: ٩].

أي: الأنصار، والإيثار لغة: مصدر من قولهم: آثره عليه يؤثره إيثارًا، بمعنى: فضله وقدمه، والمآثر: ما يروى من مكارم الإنسان، وفي التنزيل: ( ) [يوسف: ٩١]. وآثر أن يفعل كذا: فضل وقدم، وضده الأثرة من قولهم: استأثر بالشيء انفرد به، أو اختص به نفسه.

واصطلاحًا: قال القرطبي: «الإيثار: هو تقديم الغير على النفس في حظوظها الدنيوية؛ رغبة في الحظوظ الدينية، وذلك ينشأ عن قوة اليقين، وتوكيد المحبة، والصبر على المشقة»39.

وفي قوله: () [الحشر: ٩]. مفعول الإيثار محذوف، والتقدير: ويؤثرونهم بأموالهم ومنازلهم على أنفسهم.

جاء في البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أتى رجلٌ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، أصابني الجهد، فأرسل إلى نسائه فلم يجد عندهن شيئًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا رجل يضيف هذه الليلة يرحمه الله)، فقام رجل من الأنصار، فقال: أنا يا رسول الله، فذهب إلى أهله، فقال لامرأته: ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا تدخريه شيئًا، فقالت: والله ما عندي إلا قوت الصبية، قال: فإذا أراد الصبية العشاء فنوميهم، وتعالي فأطفئي السراج، ونطوي بطوننا الليلة، ففعلت، ثم غدا الرجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (لقد عجب الله عز وجل، أو ضحك من فلان وفلانة)، فأنزل الله عز وجل: ( ) [الحشر: ٩]40.

وفي رواية في البخاري أيضًا: (ضحك الله الليلة، أو عجب من فعالكما)، فأنزل الله: ( ﯽﯾ) [الحشر: ٩]41.

وجاء في سبب نزولها: أن رجلًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدي له رأس شاةٍ، فقال: إن أخي فلانًا وعياله أحوج إلى هذا، فبعث به إليه، فلم يزل يبعث به واحد إلى واحد، حتى تناولها سبعة أهل أبيات، حتى رجعت إلى أولئك، فنزلت هذه الآية.

وروي نحو هذه القصة عن أنس بن مالك قال: أهدي لبعض الصحابة رأس شاةٍ مشوي، وكان مجهودًا، فوجه به إلى جارٍ له فتناوله تسعة أنفس، ثم عاد إلى الأول، فنزلت هذه الآية42.

وذكر ابن جزي في سبب نزولها قصة الفيء، فقال: «وروي أن سبب هذه الآية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قسم هذه القرى على المهاجرين دون الأنصار، قال للأنصار: (إن شئتم قسمتم للمهاجرين من أموالكم ودياركم، وشاركتموهم في هذه الغنيمة، وإن شئتم أمسكتم أموالكم وتركتم لهم هذه)43، فقالوا: بل نقسم لهم من أموالنا، ونترك لهم هذه الغنيمة، وروي أيضًا أن سببها أن رجلًا من الأنصار أضاف رجلًا»44. وذكر القصة التي في البخاري.

وهذا ما رجحه الرازي، حيث قال: «وذكر المفسرون أنواعًا من إيثار الأنصار للضيف بالطعام، وتعللهم عنه حتى يشبع الضيف، ثم ذكروا أن الآية نزلت في ذلك الإيثار، والصحيح أنها نزلت بسبب إيثارهم المهاجرين بالفيء، ثم لا يمتنع أن يدخل فيها سائر الإيثارات»45.

قوله: ( ﯽﯾ) [الحشر: ٩]. الخصاصة: هي الفقر46.

والمعنى: ولو كان بهم حاجة وفاقة إلى ما آثروا به من أموالهم على أنفسهم، فبين أن هذا الإيثار ليس عن غنى، وعن المال، ولكنه عن حاجة وخصاصة، وهي: الفقر47.

وهذا هو واقع الأنصار، فهم مع ما هم عليه من الخصاصة -وهي الفاقة والفقر-، ومع شدة احتياجهم وافتقارهم إلى ما في أيديهم، حيث أن المهاجرين كانوا أهل تجارة، وكانوا أهل ثراء في أوطانهم في مكة، بينما الأنصار كانوا في الحقيقة أهل زراعة، وما كانوا بالثراء الذي كان عليه أهل مكة؛ ولذلك عبر عنهم القرآن بهذا التعبير: ( ﯽﯾ) [الحشر: ٩].

فلئن يقدم الإنسان حاجة غيره عليه وهو مستغنٍ عن تلك الحاجة فهذا لا يستغرب، ومع ذلك فإن الله تعالى قد أمر به في كتابه الكريم، حينما قال: ( ) [البقرة: ٢١٩].

أي: الزيادة، ما فضل عن نفقاتكم الضرورية اللازمة عليكم، لكن هذه المرتبة أعلى، وهي أن يجود الإنسان بما عنده لأخيه مع كونه محتاجًا إليه، شديد الاحتياج، شديد الرغبة فيه، فهذا المعنى هو الذي تتحدث عنه الآية.

وقوله: (ﯿ ) [الحشر: ٩].

قال الرازي: «واعلم أن الفرق بين الشح والبخل هو أن البخل نفس المنع، والشح هو الحالة النفسانية التي تقتضي ذلك المنع، فلما كان الشح من صفات النفس لا جرم قال تعالى: (ﯿ ) [الحشر: ٩48.

ووقاية شح النفس يشمل وقايتها الشح في جميع ما أمر به، فإنه إذا وقي العبد شح نفسه سمحت نفسه بأوامر الله ورسوله، ففعلها طائعًا منقادًا منشرحًا بها صدره، وسمحت نفسه بترك ما نهى الله عنه وإن كان محبوبًا للنفس، تدعو إليه، وتطلع إليه، وسمحت نفسه ببذل الأموال في سبيل الله، وابتغاء مرضاته، وبذلك يحصل الفلاح والفوز، بخلاف من لم يوق شح نفسه، بل ابتلي بالشح بالخير الذي هو أصل الشر ومادته.

فهذان الصنفان الفاضلان الزكيان هم الصحابة الكرام والأئمة الأعلام، الذين حازوا من السوابق والفضائل والمناقب ما سبقوا به من بعدهم، وأدركوا به من قبلهم، فصاروا أعيان المؤمنين، وسادات المسلمين، وقادات المتقين.

ووصف الله من يتصف بهذه الصفة بقوله: ( ) أي: الظافرون بما أرادوا، والمقصود بهم: الأنصار، ومن أتصف بهذه الصفات من غيرهم، والمفلحون: هم الفائزون بكل مطلوب، الناجون من كل مهروب، قال ابن كثير: أي: من سلم من الشح فقد أفلح وأنجح49.

«والفلاح: اسم لسعادة الدارين، والجملة اعتراض وارد لمدح الأنصار والثناء عليهم، فإن الأوصاف المذكورة في حقهم، فلهم جلائل الصفات، ودقائق الأحوال. . .، قال السهروردي في العوارف: السخاء صفة غريزية في مقابلة الشح، والشح من لوازم صفة النفس، حكم الله بالفلاح لمن يوقى الشح، أي: لمن أنفق وبذل، والنبي عليه الصلاة والسلام نبه بقوله: (ثلاث مهلكات، وثلاث منجيات) فجعل إحدى المهلكات (شحًا مطاعًا)50 ولم يقل: مجرد الشح يكون مهلكًا، بل إنما يكون مهلكًا إذا كان مطاعًا، فأما كونه موجودًا في النفس غير مطاع لا ينكر ذلك؛ لأنه من لوازم النفس، مستمد من أصل جبلتها الترابي، وفي التراب قبض وإمساك، وليس ذلك بالعجب من الآدمي، وهو جبلي فيه، وإنما العجب وجود السخاء في الغريزة»51.

وهكذا يصور القرآن الكريم هذا الوضع غير المسبوق في أبلغ عبارة وأجزلها، وتظهر الآيات الكريمة صدق الأخوة بين المهاجرين والأنصار، لا تلوثه أطماع، ولا حب دنيا، ولا أثرة، ولا شح أو حرص، ولا حاجة إنما هو أخوة تدور بين سلامة الصدر والإيثار، ولا شك أن المرء يقف مبهورًا أمام هذه الصورة الرائعة من الأخوة المتينة، والإيثار المتبادل، الذي لا نشهد له مثيلًا في تواريخ الأمم السابقة.

ولقد كان دافع الأنصار لهذا الإيثار هو رغبتهم فيما عند الله، وحبهم لإخوانهم المهاجرين؛ ولهذا صدر الله هذه الصفات للأنصار في هذه الآية بأنهم يحبون من هاجر إليهم، فالمحبة هي باعث هذا الإيثار؛ ولذلك لا يمكن أن تتصور الإيثار دون أن تتصور المحبة بين الناس، المحبة التي تنشأ في القلوب، ثم يتبع هذه المحبة رغبة صادقة في أن ينال الخير أخاك؛ ولذلك فلا يجد الواحد منهم غضاضة في نفسه أن يقدم إخوانه في الخير الذي لديه.

وكيف لا يؤثر الأنصار وقد بايعوا الرسول صلى الله عليه وسلم على الإيثار؟!

فقد جاء عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: (بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر، والمنشط والمكره، وعلى أثرة علينا، وعلى أن لا ننازع الأمر أهله)52.

فالسمع والطاعة في العسر واليسر، والمنشط والمكره: لهم معه، ومع الأئمة بعده، والأثرة: عدم منازعة الأمر مع الأئمة بعده خاصة.

ولو ذهبنا نلتمس الأسباب وراء هذا الإخاء والحب والإيثار فلن نجد إلا مسبب الأسباب، وأن ذلك كان بفضل الله ورحمته، لا بصنع بشر وحكمته وسياسته، وصدق الله حيث قال: ( ﭡﭢ ) [الأنفال: ٦٣].

فلم يلتق النبي صلى الله عليه وسلم بالأنصار إلا في سويعات تحت جنح الليل، واكتفى فيها بعرض الإسلام، وأخذ العهود والمواثيق، ولم يطل لقاؤه معهم قبل الهجرة حتى يكون هذا الذي فعلوه بسبب تربية النبي إياهم، وطول تعهده لهم كما فعل تجاه المهاجرين حتى كون منهم رجالًا، فلم يكن بين دخول الأنصار الإسلام وقيامهم بهذه المآثر إلا أقل من عام.

فالأنصار قوم اختارهم الله لصحبة نبيه، لقد فتحوا للمهاجرين قلوبهم قبل أن يفتحوا لهم بيوتهم، ووسعوهم بصدورهم قبل أن يسعوهم بأموالهم، وتسابقوا إلى لقائهم وإكرامهم، وضربوا في باب الإيثار، وسخاء النفس، وكرم الطبع مثلًا عليا، لا تزال تذكرها لهم الأجيال المتعاقبة، بالإكبار والإعظام.

٥. سلامة صدورهم.

أثنى الله على الأنصار بسبب سلامة صدورهم رضي الله عنهم، فقال: ( ) [الحشر: ٩].

فقوله: ( ) [الحشر: ٩]. الضمير في (يجدون) للأنصار، قال ابن العربي: «قال الخلق بأجمعهم: يريد بذلك الأنصار الذين آووا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين طرد، ونصروه حين خذل، فلا مثل لهم، ولا لأجرهم»53.

وقوله: () أي: حزازة وغيظًا وحسدًا، قال الشوكاني في فتح القدير: ( ) [الحشر: ٩]. «أي: لا يجد الأنصار في صدورهم حسدًا وغيظًا وحزازةً»54.

وفي الكلام مضاف محذوف: أي لا يجدون في صدورهم مس حاجة، أو أثر حاجة، وكل ما يجده الإنسان في صدره مما يحتاج إليه فهو حاجة55.

وقوله: ( ) أي: مما أعطوا، والضمير للمهاجرين، والمراد (فيما أوتوه) هو مال الفيء، حيث قسم النبي صلى الله عليه وسلم أموال بني النضير بين المهاجرين، ولم يعط من الأنصار غير ثلاثة نفر، كانت بهم حاجة، فطابت أنفس الأنصار بتلك القسمة، أو يكون المراد (فيما أوتوه) هو: الفضل والتقدم56.

قال شيخ الإسلام في الفتاوى: «وبهذا أثنى الله تعالى على الأنصار، فقال: ( ) [الحشر: ٩].

أي: مما أوتي إخوانهم المهاجرون، قال المفسرون: لا يجدون في صدورهم حاجة أي: حسدًا وغيظًا، مما أوتي المهاجرون، ثم قال بعضهم: من مال الفيء، وقيل: من الفضل والتقدم»57.

يعني: لا يحسدون المهاجرين على ما خصوا به من مال الفيء وغيره، ويحتمل أن يريد به: ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا إذا كان قليلًا، بل يقنعون به، ويرضون عنه، وقد كانوا على هذه الحال حين حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم كانوا عليه بعد موته صلى الله عليه وسلم.

وقد أنذرهم النبي صلى الله عليه وسلم قائلًا: (سترون بعدي أثرة، فاصبروا حتى تلقوني على الحوض)58 59.

فالأنصار لا يجدون في صدورهم حاجة مما خصص به المهاجرون من الفيء، ولا يحسدونهم على ذلك، ولا يعترضون بقلوبهم على حكم الله بتخصيص المهاجرين حتى لو كانت بهم حاجة، أو اختلال أحوال60.

وعلى هذا ففي الآية بيان حال الأنصار، وأنهم لا يحسدون المهاجرين على ما آتاهم الله من فضله، وخصهم به من الفضائل والمناقب التي هم أهلها، وهذا يدل على سلامة صدورهم، وانتفاء الغل والحقد والحسد عنهم.

ويدل ذلك أيضًا على أن المهاجرين أفضل من الأنصار؛ لأن الله قدمهم بالذكر، وأخبر أن الأنصار لا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا، فدل على أن الله تعالى آتاهم ما لم يؤت الأنصار ولا غيرهم؛ لأنهم جمعوا بين النصرة والهجرة.

ثانيًا: أبرز أعمال الأنصار:

الأنصار: ما أجملها من كلمة! إنها كلمة تحمل معاني شريفة جليلة، اتصف بها قوم ضرب بهم المثل في الكمال الإنساني، إنها علمٌ على قوم عملوا أعمالًا استحقوا بها أن يكونوا من أنصار الرسول الكريم.

ومن أبرز هذه الأعمال:

١. الإيواء والنصرة.

لما هاجر المسلمون من مكة هجروا المحبوبات والمألوفات من الديار والأوطان والأحباب والخلان والأموال، وتجردوا من كل شيء إلا من الإيمان؛ رغبةً في الله، ونصرةً لدين الله، ومحبةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فوصلوا إلى أرضٍ جديدة، وواقعٍ مختلف، وكان من أثر هذه الرحلة نشوء عدد من المشكلات الجديدة، ليس أقلها: الشعور بالغربة، ومفارقة الأهل والديار، وترك معظم الأموال والممتلكات في مكة، وطبيعة الوضع المعيشي والاقتصادي الجديد، أضف إلى ذلك الآثار الصحية والبدنية التي أحدثها الانتقال المفاجئ إلى بيئةٍ أخرى؛ مما أدى إلى ظهور الأمراض في صفوفهم كالحمى وغيرها، كل هذا ترك في أنفسهم وحشة وغربة، حتى أصبح وضعهم يحتاج إلى حل عاجل وسريع.

فترجم الأنصار ما تعاقدوا عليه من أقوال في البيعتين إلى جملة أفعال، حيث فتح الأنصار أبواب بيوتهم وقلوبهم، واستعدوا لاحتضان من جاءهم مهاجرًا تحت ظاهرة عظيمة من التكافل الاجتماعي، فحوى المسكن الواحد تحت سقفه الأنصاري والمهاجر، وهم يتقاسمون كل شيء المسكن والمال والطعام.

فلم يعرف تاريخ البشرية حادثًا جماعيًا كحادث استقبال الأنصار للمهاجرين بهذا الحب الكريم، وبهذا البذل السخي، وبهذه المشاركة الرضية، وبهذا التسابق إلي الإيواء، واحتمال الأعباء، حتى ليروى أنه لم ينزل مهاجر في دار أنصاري إلا بقرعة؛ لأن عدد الراغبين في الإيواء المتزاحمين عليه أكثر من عدد المهاجرين، وهم لا يجدون في أنفسهم شيئًا من حسد، أو ضيق من هذا، والإيثار على النفس مع الحاجة قيمة عليا، وقد بلغ بها الأنصار مبلغًا لم تشهد له البشرية نظيرًا.

وهنا ظهر دور الأنصار الذين أبدوا من التضحية وضروب الإيثار ما استحق التخليد في كتاب الله.

قال الله تعالى عنهم: ( ﭿ ) [الأنفال: ٧٢].

وقال تعالى: ( ﯨﯩ ) [الأنفال: ٧٤].

فجمع الله تعالى في هاتين الآيتين الذين كانوا دعامة الإسلام، وعليهم هدى الرسول قام بنيانه، وشيدت أركانه، وهم المهاجرون والأنصار، فالمهاجرون ابتدأ بهم تكوين الجماعات الأولى التي صبرت وصابرت، وتلقت الصدمة الأولى من المشركين.

والأنصار وهم الذين آووا ونصروا، وأعزوا كلمة التوحيد، وأغلوها وأعلوها، فإذا كان المهاجرون هم الذين أظلوا شجرة الإسلام ابتداءً، فالأنصار هم الذين حموا ثمرتها، وقامت دولة الإسلام في أرضهم وحراستهم، وإذا كان المهاجرون قد لاقوا العنت في مكة فقد لقوا الإيواء في المدينة.

وإذا كانوا هم دعامة الإسلام فالأنصار دولته، وفي رحابهم قامت المدينة الفاضلة التي أقامها محمد صلى الله عليه وسلم في ديارهم، وإذا كان المهاجرون قد جاهدوا ابتداءً بالصبر والمصابرة، فقد كان جهادهم في المدينة مع إخوانهم الأنصار بذلك وبالقتال في المدينة، والفريقان اختارهم الله للتأليف حتى تكونت منهم أطهر جماعة رأتها الإنسانية وأقواها.

فبعد أن ذكر الله تعالى هنا في الآيتين الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، عقب بذكر الأنصار، وهم الذين آووا ونصروا.

فقال: ( ) [الأنفال: ٧٤]. المراد: بهم الأنصار، أي: وطنوا المهاجرين، وأنزلوهم منازلهم، وبذلوا إليهم أموالهم، وآثروهم على أنفسهم، ونصروهم على أعدائهم61.

فإذا كانوا قد نقصوا عن إخوانهم -المهاجرين- فضل الهجرة، فقد عوضوا عن ذلك بفضل الإيواء والنصرة62.

حيث استقبل الأنصار المهاجرين، فشاطروهم المال والديار؛ بكرم وسخاء، وضربوا مثلًا رائعًا في التكافل، وبناء الجماعة المسلمة، وآووا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنعوه من الأحمر والأسود، وتبوءوا دار الهجرة والإيمان، حتى صارت موئلًا ومرجعًا يرجع إليه المؤمنون، ويلجأ إليه المهاجرون، ويسكن بحماه المسلمون؛ إذ كانت البلدان كلها بلدان حرب وشرك وشر.

فلم يزل أنصار الدين يأوون إلى الأنصار، حتى انتشر الإسلام وقوي، وجعل يزيد شيئًا فشيئًا، وينمو قليلًا قليلًا، حتى فتحوا القلوب بالعلم والإيمان والقرآن، والبلدان بالسيف والسنان.

وقوله في الآية: () أي: نصروا الرسول وأصحابه على أعدائهم الكفار، وما سموا بالأنصار إلا لذلك؛ ولقد قال حسان رضي الله عنه في مدح الأنصار أنهم ما سموا أنصارًا إلا لنصرتهم الدين63:

سماهم الله أنصارًا بنصرهم

دين الهدى وعوان الحرب تستعر

وسارعوا في سبيل الله واعترفوا

للنائبات وما خافوا وما ضجروا

وقد ذكر الله تعالى هذه الصفة وهي (النصرة) في آيتين، فقال: ( ﯨﯩ ) [الأنفال: ٧٤]. وقال تعالى: ( )[الأنفال: ٧٢].

والنصرة في المدلول القرآني واللغوي والتاريخي بمعنى: العون، والظفر، والمنع، والانتقام، والانتصار، وشد الأزر، ولقد شرف الله سبحانه وتعالى المسلمين الأول بشرف لا يدانيه شرف، حيث أجزل لهم الثواب، وأحسن لهم المدح والثناء في أعظم كتاب، وخص كلًا من الفريقين المتآخيين (المهاجرين والأنصار) بعمل عظيم جليل، ناداهم به فسموا مهاجرين وأنصارًا، وما ذلك إلا للهجرة والنصرة، فالهجرة كانت إعلانًا للدولة، وانتقالًا لدار الإسلام، والنصرة هي التي هيأت للهجرة ولوجود دار الإسلام، فكيف يغفل أحد من المسلمين عن فضل الهجرة أو النصرة، وهو يتلو كتاب الله الذي يذكر المهاجرين والأنصار وفضلهما؟!

وكانت هذه النصرة وفاء منهم لمبايعة النبي صلى الله عليه وسلم لهم في بيعة العقبة الثانية، حيث ثبت أنه قال لهم: (أبايعكم على أن تمنعوني -إذا قدمت عليكم- مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم، ولكم الجنة)64. فبايعوه على النصرة والمنعة، فقام منهم اثني عشر نقيبًا كفلاء على قومهم، ثم استمر الحال حتى أذن الله للمسلمين بالهجرة، وقامت أول دولة للمسلمين65.

ونلحظ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يطلب النصرة لأمرين مهمين في غاية الأهمية:

أولهما: حماية الدعوة، حتى تسير بين الناس محمية الجانب، بعيدة عن الإساءة إلى أتباعها.

ثانيهما: إيجاد مكان آمن لدولته صلى الله عليه وسلم القادمة؛ ليتسلم خلالها مقاليد الحكم والسلطان على وفق مقتضيات النبوة على أساس الدعوة.

وختم الله تعالى الآية الأخرى بقوله: ( )[الأنفال: ٧٢]]. أي: إن هاتين الفرقتين (المهاجرين والأنصار) بعضهم أنصار بعض، وأعوان على من سواهم من المشركين، وأيديهم واحدة على من كفر بالله، وبعضهم إخوان لبعض دون أقربائهم الكفار.

وقد قيل: إنما عنى بذلك أن بعضهم أولى بميراث بعض، وأن الله ورث بعضهم من بعض بالهجرة والنصرة دون القرابة والأرحام، وأن الله نسخ ذلك بعد، بقوله: ( ﯿ ) [الأنفال: ٧٥] وهذا القول لأبن عباس رضي الله عنه 66.

قال الشوكاني: «أي: بعضهم أولياء بعض في النصرة والمعونة، وقيل المعنى: إن بعضهم أولياء بعض في الميراث، وقد كانوا يتوارثون بالهجرة والنصرة، ثم نسخ ذلك بقوله سبحانه: ( ﯿ ) [الأنفال: ٧٥67.

فالولاية محبة ومودة ومناصرة، وقد اجتمعت كل هذه الأحوال في ولاية المؤمنين المهاجرين والأنصار، فقد اجتمعت فيهم المودة فتوادوا وتحابوا، وتناصروا وجاهدوا جميعًا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، ولقد جمعت المؤاخاة معنى المودة والمحبة والإيثار، وجمع الجهاد معنى النصر والتبعات بالجهاد في سبيل الله68.

وقد ذكر الله بعد ذلك شأن الذين يهاجرون ويؤمنون من بعد، فقال: ( ﯷﯸ ﯿ ﰀﰁ )[الأنفال: ٧٥].

فهذا يدل على أن باب الإيمان مفتوح، وباب الهجرة مفتوح، وميدان الجهاد متسع للجميع، فلم يغلق على المجاهدين الأولين من المهاجرين والأنصار فقط، بل هو مفتوح، وهذه الآية الكريمة تلحق الذين يؤمنون من بعد ويهاجرون بالأولين الذين هم المؤمنون حقًا.

وإذا كان هذا الوصف (النصرة) في الأنصار، فالمهاجرون من باب أولى، فهم أنصار في المعنى، فمعنى النصرة حاصل للكل، ومن الكل، فهم قد هجروا ديارهم وأموالهم، كما قال تعالى: ( ) [الحشر: ٨].

وأثنى عليهم بأنهم يطلبون فضلًا من الله ورضوانًا، فقال: ( ) وأثبت لهم صفة النصرة، فقال: ( ) وأثنى عليهم بالصدق، فقال: ( ) فرضي الله عن المهاجرين والأنصار ومن تبعهم بإحسان.

فضائل الأنصار

عرض القرآن الكريم فضائل الأنصار وهذا ما سنبينه فيما يأتي:

أولًا: وصفهم بالإيمان الحق:

وصف الله تعالى الأنصار بالإيمان الحق، فقال سبحانه: ( ﯨﯩ ) [الأنفال: ٧٤].

فقوله: ( ﯨﯩ) الإشارة إلى السابقين الأولين (من المهاجرين والأنصار) والإشارة إلى الموصوف إشارة إلى أوصافه، وجعلها مناط الحكم، أي: أولئك الذين هاجروا بعد الإيمان، وجاهدوا في سبيل الله، والذين آووا ونصروا هم المؤمنون حقًا، أي: إيمانًا ثابتًا صادقًا حقًا، تلاقت أقوالهم وقلوبهم وأعمالهم69.

فسبق منهم هجرة وجهاد، وإيواء ونصرة، وهذا هو الإيمان الحق، وفي الكلام قصر، أي: من كانوا على هذه الصفات هم وحدهم المؤمنون حقًا، أي: لا مؤمنون حقًا غيرهم، ومن هم على صفاتهم.

وفي هذه الآية وصفٌ لعموم المهاجرين والأنصار بالإيمان الحق، فجمع الله فيها الفضل لفريقي الصحابة، وهم المهاجرون والأنصار، من هاجر، ومن آوى، فاستوى الأنصار مع المهاجرين في عامل النصرة، وفي صدق الإيمان، فشهد لهم بحقيقة الإيمان، ووعدهم بالمغفرة والرزق الواسع، ومن شهد الله له بهذه الشهادة، فقد بلغ أعلى مرتبة العدالة.

ثم قال: ( ) [الأنفال: ٧٤]. ذكر الله تعالى هنا ما كتب لهم من خيري الدنيا والآخرة، وهذا يتضمن جزاءين:

أولهما: المغفرة السابقة، ووراءها الرحمة والنعيم المقيم.

ثانيهما: رزق كريم واسع في الدنيا بعد المشقة التي تحملوها، وهذا شأن المهاجرين الذين آمنوا، وشأن الأنصار الذين آووا ونصروا70.

فيكون الله قد أثنى عليهم ها هنا من ثلاثة أوجه:

أولها: قوله: ( ﯨﯩ) فقوله: ( ﯨﯩ) يفيد الحصر، وقوله: (ﯨﯩ) يفيد المبالغة في وصفهم بكونهم محقين محققين في طريق الدين، وقد كانوا كذلك؛ لأن من لم يكن محقًا في دينه لم يتحمل ترك الأديان السالفة، ولم يفارق الأهل والوطن، ولم يبذل النفس والمال، ولم يكن في هذه الأحوال من المسارعين المسابقين.

وثانيها: قوله: ( ) والتنكير يدل على الكمال، أي: مغفرة تامة كاملة.

وثالثها: قوله: ( ) والمراد منه: الثواب الرفيع الشريف71.

وعن السائب بن يزيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا معشر الأنصار، ألم يمن الله عليكم بالإيمان، وخصكم بالكرامة، وسماكم بأحسن الأسماء: أنصار الله، وأنصار رسوله؟!)72.

فالأنصار إذن حازوا شرفين: شرف سبقهم إلى الإيمان، وشرف استضافتهم للإيمان وأهله في أرضهم.

ومدحهم بأنهم أناس سكنوا الإيمان، وسكن الإيمان في قلوبهم، فقال: ( ) [الحشر: ٩].

فقوله: () الأظهر أن (الذين) هنا عطف على (المهاجرين) -في الآية السابقة-، أي: والذين تبوءوا الدار هم الأنصار73.

وقوله: ( ) من مادة (بواء) على وزن (دواء) وهي في الأصل بمعنى تساوي أجزاء المكان، وبعبارة أخرى يقال: (بواء) لترتيب وتسوية مكان (ما) وفي هذا التعبير كناية لطيفة لهذا المعنى، وهو أن طائفة الأنصار -أهل المدينة- قد هيئوا الأرضية المناسبة للهجرة.

وقوله: () الدار تطلق على البلاد، وأصلها: موضع القبيلة من الأرض، وأطلقت على القرية.

قال تعالى في ذكر ثمود: ( ) [الأعراف: ٧٨].

أي: في مدينتهم، وهي حجر ثمود، والتعريف هنا للعهد؛ لأن المراد بالدار: المدينة النبوية، والمعنى: الذين هم أصحاب الدار74، أي: دار الهجرة مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد تبوأها الأنصار قبل المهاجرين، كما تبوءوا فيها الإيمان، وكأنه منزل لهم ودار، وهو تعبير ذو ظلال، وهو أقرب ما يصور موقف الأنصار من الإيمان، لقد كان دارهم ونزلهم ووطنهم الذي تعيش فيه قلوبهم، وتسكن إليه أرواحهم، ويثوبون إليه، ويطمئنون له، كما يثوب المرء ويطمئن إلى الدار.

وفي قوله: () هذا تشريف للمدينة، حيث سماها الله الدار، فكأنها هي دار الإيمان؛ لأن الإيمان أوى إليها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها)75.

فالتعريف في () للتنويه كأنها الدار التي تستحق أن تسمى دارًا، وهي التي أعدها الله تعالى لهم؛ ليكون تبوؤهم إياها مدحًا لهم.

وذكر بعضهم أن الدار علمٌ بالغلبة على المدينة، كالمدينة، وأنه أحد أسمائها، ومنها: طيبة، وطابة، ويثرب، وجابرة76.

وفي ذكر الدار -وهي المدينة- مع ذكر الإيمان إيماء إلى فضيلة المدينة، بحيث جعل تبوؤهم المدينة قرين الثناء عليهم بالإيمان، ولعل هذا هو الذي عناه مالك -رحمة الله- فيما رواه عنه ابن وهب قال: سمعت مالكًا يذكر فضل المدينة على غيرها من الآفاق، فقال: إن المدينة تبوأت بالإيمان والهجرة، وإن غيرها من القرى افتتحت بالسيف. ثم قرأ: ( ) [الحشر: ٩]الآية77.

وجاء عنه صلى الله عليه وسلم: (أمرت بقرية تأكل القرى)78 .

والمقصود: المدينة، أي: يغلب أهلها، وهم الأنصار بالإسلام على غيرها من القرى، وينصر الله دينه بأهلها، ويفتح القرى عليهم، ويغنمهم إياها فيأكلونها79.

وقوله: () [الحشر: ٩]أي: سكنوا الإيمان، والإيمان لا يسكن، وإنما شبه الإيمان كأنه دار سكنوها؛ لأن الدار يستقر فيها الإنسان، فهؤلاء الأنصار سكنوا الإيمان، بمعنى: استقر الإيمان في قلوبهم، والإنسان يلازم داره، بمعنى: يستقر ويطمئن ويستريح فيه، وهؤلاء لازموا الإيمان كملازمة الإنسان لمسكنه، وهذه شهادة لهم بالإيمان -رضي الله تعالى عنهم-، فهم مؤمنون صادقون، استقر الإيمان في قلوبهم.

قال ابن جزي: «فإن قيل: كيف قال: تبوءوا الدار والإيمان، وإنما تتبوأ الدار، أي: تسكن ولا يتبوأ الإيمان؟

فالجواب من وجهين:

الأول: أن معناه تبوءوا الدار، وأخلصوا الإيمان، فهو كقولك:

علفتها تبنًا وماء باردًا80.

تقديره: علفتها تبنًا، وسقيتها ماء باردًا.

والثاني: أن المعنى: أنهم جعلوا الإيمان كأنه موطن لهم؛ لتمكنهم فيه، كما جعلوا المدينة كذلك»81.

فيكون في عطف الإيمان على الدار ستة أوجه:

أحدها: أنه ضمن () معنى: لزموا، فيصح عطف الإيمان عليه؛ إذ الإيمان لا يتبوأ.

الثاني: أنه منصوب بمقدر، أي: واعتقدوا، أو وألفوا، أو وأحبوا، أو وأخلصوا؛ كقوله:

علفتها تبنًا وماءً باردًا

وقوله:

متقلدًا سيفًا ورمحا 82

أي: وحاملًا رمحًا.

الثالث: أنه يتجوز في الإيمان، إن الإيمان مجاز عن المدينة، سمي محل ظهور الشيء باسمه مبالغة، فيجعل اختلاطه بهم وثباتهم عليه كالمكان المحيط بهم، فكأنهم نزلوه، وعلى هذا فيكون جمع بين الحقيقة والمجاز في كلمة واحدة، وفيه خلاف مشهور.

الرابع: أن يكون الأصل: دار الهجرة ودار الإيمان، فأقام (لام) التعريف في (الدار) مقام المضاف إليه، وحذف المضاف من دار الإيمان، ووضع المضاف إليه مقامه.

الخامس: أن يكون سمى (المدينة)؛ لأنها دار الهجرة ومكان ظهور الإيمان.

السادس: أنه منصوب على المفعول معه (الواو للمعية) أي: مع الإيمان معًا، والمراد تبوءوا الدار مع إيمانهم، أي: تبوءوها مؤمنين83.

والضمير في قوله: ( ) [الحشر: ٩].

للمهاجرين، والجار متعلق بتبوء، أي: من قبل أن يهاجر المهاجرون إليهم، وقد أسلم كثير من الأنصار قبل المهاجرين، لكن المقصود -والله وأعلم- بقوله: ( ) [الحشر: ٩] أي: من قبل أن يهاجر المهاجرون، وأن الأنصار أسلم كثير من كبارهم وسادتهم على يد مصعب بن عمير رضي الله عنه قبل أن يهاجر كثير من المهاجرين -رضي الله تعالى عنهم-، وقبل أن تصبح المدينة دار الهجرة التي أوى إليها النبي عليه الصلاة والسلام، فكثير من الأنصار كان قد أسلم، ودخل الإيمان في قلوبهم، واستقر على يد مصعب بن عمير رضي الله عنه، فهو من فتح الله به المدينة المنورة بدعوته إلى الله، وسلوكه الطيب، حتى ما بقي بيت من بيوت المدينة إلا ودخله الإيمان.

وقد أورد ابن جزي إشكالًا، وأجاب عليه، حيث قال: «فإن قيل: قوله: ( ) [الحشر: ٩].

يقتضي أن الأنصار سبقوا المهاجرين بنزول المدينة وبالإيمان، فأما سبقهم لهم بنزول المدينة فلا شك فيه؛ لأنها كانت بلدهم، وأما سبقهم لهم بالإيمان فمشكل؛ لأن أكثر المهاجرين أسلم قبل الأنصار.

قال: والجواب من وجهين:

أحدهما: أنه أراد بقوله: ( ) [الحشر: ٩] من قبل هجرتهم.

والآخر: أنه أراد تبوءوا الدار مع الإيمان معًا، أي: جمعوا بين الحالتين قبل المهاجرين؛ لأن المهاجرين إنما سبقوهم بالإيمان لا بتبوء الدار، فيكون الإيمان على هذا مفعولًا معه، وهذا الوجه أحسن؛ لأنه جواب عن هذا السؤال، وعن السؤال الأول فإنه إذا كان الإيمان مفعولًا معه لم يلزم السؤال الأول؛ إذ لا يلزم إلا إذا كان الإيمان معطوفًا على الدار»84.

وجعل الألوسي ذلك من قبل تقدير مضاف، حيث قال: «والكلام بتقدير مضاف، أي: من قبل هجرتهم، فنهاية ما يلزم سبق الإيمان الأنصار على هجرة المهاجرين، ولا يلزم منه سبق إيمانهم على إيمانهم؛ ليقال: إن الأمر بالعكس، وجوز أن لا يقدر مضاف، ويقال: ليس المراد سبق الأنصار لهم في أصل الإيمان، بل سبقهم إياهم في التمكن فيه؛ لأنهم لم ينازعوا فيه لما أظهروه.

وقيل: الكلام على التقديم والتأخير، والتقدير: تبوءوا الدار من قبلهم والإيمان، فيفيد سبقهم إياهم في تبوء الدار فقط، وهو خلاف الظاهر، على أن مثله لا يقبل ما لم يتضمن نكتة سرية، وهي غير ظاهرة ها هنا؛ وقيل: لا حاجة إلى شيء مما ذكر، وقصار ما تدل الآية عليه تقدم مجموع تبوء الأنصار وإيمانهم على تبوء المهاجرين وإيمانهم، ويكفي في تقديم المجموع تقدم بعض أجزائه، وهو ها هنا تبوء الدار، وتعقب بمنع الكفاية، ولو سلمت لصح أن يقال: بتقدم تبوء المهاجرين وإيمانهم على تبوء الأنصار وإيمانهم؛ لتقدم إيمان المهاجرين»85.

ووصف الله الأنصار أيضًا بالإيمان والاستجابة لله، كما جاء في تفسير قوله تعالى: ( ) [الشورى: ٣٨].

أنها نزلت في الأنصار، حين دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإيمان، فاستجابوا له؛ أي: لرسول الله من صميم القلب، كما هو المفهوم من إطلاق الاستجابة، وفيه إشارة إلى أن الاستجابة للرسول استجابة للمرسل، فهو من عطف الخاص على العام لمزيد التشريف، وذلك لأن الاستجابة داخلة في الإيمان86.

قال الألوسي: ( ) [الشورى: ٣٨].

قيل: نزلت في الأنصار، دعاهم الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم للإيمان به وطاعته سبحانه، فاستجابوا له، فأثنى عليهم -جل وعلا- بما أثنى، وعليه فهو من ذكر الخاص بعد العام؛ لبيان شرفه؛ لأيمانهم دون تردد وتلعثم، والآية إن كانت مدنية فالأمر ظاهر، وإذا كانت مكية فالمراد بالأنصار من آمن بالمدينة قبل الهجرة، أو المراد بهم أصحاب العقبة87.

وقال الشوكاني: «قال ابن زيد: هم الأنصار بالمدينة استجابوا إلى الإيمان بالرسول حين أنفذ إليهم اثني عشر نقيبًا منهم قبل الهجرة، وأقاموا الصلاة لمواقيتها بشروطها وهيئاتها»88.

ووصف الله الأنصار بالإيمان والعمل الصالح، كما جاء عن ابن عباس في قوله: ( ) [محمد: ٣٤]. قال: هم أهل مكة، ( ) [محمد: ٢]. قال: هم أهل المدينة الأنصار ( ) [محمد: ٢]. قال: أمرهم89.

ووصفوا بأنهم رجال؛ وسماهم الله رجال، فقال: ( ﭯﭰ ﭻﭼ ﭿ ﮁﮂ ) [التوبة: ١٠٨].

فقد جاء ما يدل أنها نزلت في الأنصار، فعن أبي أيوب وجابر وأنس رضوان الله عليهم أن هذه الآية حين نزلت: ( ﭿ ﮁﮂ ) [التوبة: ١٠٨].

قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا معشر الأنصار إن الله قد أثنى عليكم في الطهور، فما طهوركم؟) قالوا: نتوضأ للصلاة، ونغتسل من الجنابة، ونستنجي بالماء، قال: (فهو ذاك، فعليكموه)90.

وعن موسى بن أبي كثير قال: بدء حديث هذه الآية في رجال من الأنصار، من أهل قباء91.

وقوله: ( ﭿ ﮁﮂ) [التوبة: ١٠٨].

أي: من الأحداث والجنابات والنجاسات...، وقالوا: المراد منه: الطهارة بالماء بعد الحجر، وقيل: المراد منه: الطهارة من الذنوب والمعاصي، وقيل: محمول على الأمرين92.

فتكون جملة: ( ﭿ ﮁﮂ) ثناء على مؤمني الأنصار الذين يصلون بمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبمسجد قباء، وجاء الضمير مفردًا مراعاة للفظ (مسجد) الذي هو جنس93.

ثانيًا: توبة الله على الأنصار، وتجاوزه عن تقصيرهم:

قال تعالى: ( ﯯﯰ ) [التوبة: ١١٧].

نزلت هذه الآية في غزوة تبوك التي كانت قبل الشام، وكان فيها جيش العسرة من المهاجرين والأنصار، ومن غيرهم من القبائل التي حول المدينة ومكة، ولكنهم خصوا بالثناء والتوبة؛ لأنهم لم يترددوا، ولم يتثاقلوا، ولا شحوا بأموالهم، فكانوا أسوة لمن ائتسى بهم من غيرهم من القبائل94.

ففي قوله: ( ) خبر مؤكد بلام القسم على حرف التحقيق (قد) بين فيه تعالى فضل عطفه على نبيه وأصحابه المؤمنين الصادقين من المهاجرين والأنصار، وتجاوزه عن هفواتهم في هذه الغزوة، وفي غيرها لاستغراقها في حسناتهم الكثيرة على كونهم لا يصرون على شيء منها، وإنما كانت هفواتهم هذه مقتضى الطباع البشرية، واجتهاد الرأي فيما لم يبينه الله تعالى بيانًا قطعيًا يعد مخالفه عاصيًا.

يقول ابن عاشور: «وافتتاح الله هذه الآية بحرف التحقيق (لقد)؛ تأكيدًا لمضمونها المتقرر فيما مضى من الزمان، حسبما دل عليه الإتيان بالمسندات كلها أفعالًا ماضية.

ومن المحسنات افتتاح هذا الكلام بما يؤذن بالبشارة لرضا الله على المؤمنين الذين غزوا تبوك، وتقديم النبي صلى الله عليه وسلم في تعلق فعل التوبة بالغزاة؛ للتنويه بشأن هذه التوبة، وإتيانها على جميع الذنوب؛ إذ قد علم المسلمون كلهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد غفر الله ما تقدم من ذنبه وما تأخر»95.

وهذه التوبة التي تابها الله على النبي والمهاجرين والأنصار -كما قال ابن عباس-: كانت التوبة على النبي لأجل إذنه للمنافقين في القعود، ودليله قوله: ( ) [التوبة: ٤٣].

وعلى المؤمنين من ميل قلوب بعضهم إلى التخلف عنه، وقيل: توبة الله عليهم استنقاذهم من شدة العسرة.

وقيل: خلاصهم من نكاية العدو، وعبر عن ذلك بالتوبة وإن خرج عن عرفها لوجود معنى التوبة فيه، وهو الرجوع إلى الحالة الأولى96.

يقول شيخ المفسرين الطبري: «يقول تعالى ذكره: لقد رزق الله الإنابة إلى أمره وطاعته نبيه محمدًا، والمهاجرين ديارهم وعشيرتهم إلى دار الإسلام، وأنصار رسوله في الله الذين اتبعوا رسول الله في ساعة العسرة منهم من النفقة والظهر والزاد والماء»97.

فيكون معنى توبته على النبي أي: بإذنه للمنافقين بالتخلف عنه98.

وقال أهل المعاني: هو مفتاح كلام، وذلك أنه لما كان سبب توبة التائبين ذكر معهم، كقوله: ( ) [الأنفال: ٤١]99.

وهذه التوبة على المهاجرين والأنصار في ساعة العسرة سببها كما قال الرازي: «ربما وقع في قلوبهم نوع نفرة عن تلك السفرة، وربما وقع في خاطر بعضهم أنا لسنا نقدر على الفرار، ولم يعزموا عليه، بل وساوس كانت تقع في قلوبهم، فالله تعالى بين في آخر هذه السورة أنه بفضله عفا عنها، فقال: ( ) [التوبة: ١١٧].

والوجه الثاني في الجواب: أن الإنسان طول عمره لا ينفك عن زلات وهفوات، إما من باب الصغائر، وإما من باب ترك الأفضل، ثم إن النبي وسائر المؤمنون لما تحملوا مشاق هذا السفر ومتاعبه، وصبروا على تلك الشدائد والمحن، أخبر الله تعالى أن تحمل تلك الشدائد صار مكفرًا لجميع الزلات التي صدرت عنهم في طول العمر، وصار قائمًا مقام التوبة المقرونة بالإخلاص عن كلها.

والوجه الثالث في الجواب: أن الزمان لما اشتد عليهم في ذلك السفر، وكانت الوساوس تقع في قلوبهم، فكلما وقعت وسوسة في قلب واحد منهم تاب إلى الله منها، وتضرع إلى الله في إزالتها عن قلبه، فلكثرة إقدامهم على التوبة بسبب خطرات تلك الوساوس ببالهم، قال تعالى: ( ) [التوبة: ١١٧]...الآية.

والوجه الرابع: لا يبعد أن يكون قد صدر عن أولئك الأقوام أنواع من المعاصي، إلا أنه تعالى تاب عليهم، وعفا عنهم لأجل أنهم تحملوا مشاق ذلك السفر، ثم إنه تعالى ضم ذكر الرسول عليه الصلاة والسلام إلى ذكرهم؛ تنبيهًا على عظم مراتبهم في الدين، وأنهم قد بلغوا إلى الدرجة التي لأجلها ضم الرسول عليه الصلاة والسلام إليهم في قبول التوبة»100.

وقوله تعالى: ( ) [التوبة: ١١٧].

() من أفعال المقاربة، تعمل في اسمين (عمل كان) واسمها هنا ضمير شأن مقدر، وخبرها هو جملة الخبر عن ضمير الشأن، وإنما جعل اسمها هنا ضمير شأن؛ لتهويل شأنهم حين أشرفوا على الزيغ.

واختلف في معنى (تزيغ) فقيل: تتلف بالجهد والمشقة والشدة، وقيل: تعدل -أي تميل- عن الحق في الممانعة والنصرة، وقيل: من بعد ما هم فريق منهم بالتخلف والعصيان ثم لحقوا به، وقيل: هموا بالقفول فتاب الله عليهم، وأمرهم به101.

وقوله تعالى: ( ) هذا تأكيد ظاهر، واعتناء بشأن التوبة، هذا إن كان الضمير راجعًا إلى من تقدم ذكر التوبة عنهم، وإن كان الضمير إلى الفريق فلا تكرار102. والمعنى: قيل: توبته عليهم أن تدارك قلوبهم حتى لم تزغ، وكذلك سنة الحق مع أوليائه إذا أشرفوا على العطب، ووطنوا أنفسهم على الهلاك أمطر عليهم سحائب الجود، فأحيا قلوبهم103.

فإن قيل: ذكر التوبة في أول الآية وفي آخرها، فما فائدة التكرار؟

فالجواب من وجوه:

أحدها: أنه تعالى ابتدأ بذكر التوبة قبل ذكر الذنب؛ تطييبًا لقلوبهم، ثم لما ذكر الذنب أردفه مرة أخرى بذكر التوبة؛ تعظيمًا لشأنهم.

وثانيها: إذا قيل: عفا السلطان عن فلان ثم عفا عنه، دل على أن ذلك العفو متأكد، بلغ الغاية القصوى في الكمال والقوة. . .، وهذا معنى قول ابن عباس في قوله: ( ) يريد ازداد عنهم رضًا، قال ابن عباس: من تاب الله عليه لم يعذبه أبدًا.

وثالثها: أنه قال: ( ) [التوبة: ١١٧].

وهذا الترتيب يدل على أن المراد أنه تعالى تاب عليهم من الوساوس التي كانت تقع في قلوبهم في ساعة العسرة،

ثم إنه تعالى زاد عليه فقال: ( ) [التوبة: ١١٧].

فهذه الزيادة أفادت حصول وساوس قوية، فلا جرم أتبعها تعالى بذكر التوبة مرة أخرى؛ لئلا يبقى في خاطر أحدٍ شك في كونهم مؤاخذين بتلك الوساوس104.

وفي قصة توبة الله على النبي والمهاجرين والأنصار وعلى الثلاثة، فوائد ومسائل، منها:

في هذه الآيات دليل على أن توبة الله على العبد أجل الغايات، وأعلى النهايات، فإن الله جعلها نهاية خواص عباده، وامتن عليهم بها، حين عملوا الأعمال التي يحبها ويرضاها، وفيها لطف الله بهم، وتثبيتهم في إيمانهم عند الشدائد والنوازل المزعجة.

وفي الآيات أيضًا دليل على أن العبادة الشاقة على النفس لها فضل ومزية ليست لغيرها، وكلما عظمت المشقة عظم الأجر، وأن توبة الله على عبده بحسب ندمه وأسفه الشديد، وأن من لا يبالي بالذنب، ولا يحرج إذا فعله، فإن توبته مدخولة، وإن زعم أنها مقبولة.

وأن علامة الخير وزوال الشدة إذا تعلق القلب بالله تعالى تعلقًا تامًا، وانقطع عن المخلوقين.

وأن من لطف الله بالثلاثة أن وسمهم بوسم ليس بعار عليهم، فقال: () إشارة إلى أن المؤمنين خلفوهم، أو خلفوا عن من بت في قبول عذرهم، أو في رده، وأنهم لم يكن تخلفهم رغبة عن الخير؛ ولهذا لم يقل: (تخلفوا).

ومن فوائد الآيات: أن الله تعالى من عليهم بالصدق؛ ولهذا أمر بالاقتداء بهم، فقال: ( ) [التوبة: ١١٩]105.

يقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: واعلم أن لله تعالى على عبده توبتين؛ التوبة الأولى: قبل توبة العبد؛ وهي التوفيق للتوبة؛ والتوبة الثانية: بعد توبة العبد؛ وهي قبول التوبة؛ وكلاهما في القرآن؛ قال الله تبارك وتعالى: ( ﭪﭫ ) [التوبة: ١١٨].

فقوله تعالى: ( ﭪﭫ) أي: وفقهم للتوبة، وقوله تعالى: (ﭪﭫ) أي: يقوموا بالتوبة إلى الله؛ وأما توبة القبول ففي قوله تعالى: ( ) [الشورى: ٢٥].

ومن فوائد الآيات:


1 انظر: مختار الصحاح،١/٦٨٨، معجم اللغة العربية المعاصرة، أحمد مختار عمر، ٣/٢٢٢٠.

2 انظر: مغاني الأخيار في شرح أسامي رجال معاني الآثار، العيني ٣/٣٨٢.

3 انظر: المصدر السابق.

4 انظر: المعجم المفهرس الشامل لألفاظ القرآن الكريم، عبد الله جلغوم، ص١٣٢٥-١٣٢٨.

5 انظر: بصائر ذوي التمييز، الفيروزآبادي ٥/٦٩.

6 انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، ابن الأثير، ٣/١٢.

7 انظر: نزهة النظر، ابن حجر العسقلاني، ص١٤٠.

8 انظر: تهذيب اللغة، الأزهري،٦/٢٩، معجم اللغة العربية المعاصرة، أحمد مختار عمر،٣/٢٣٢٥.

9 انظر: الكليات، الكفوي، ص٨٨٣.

10 انظر: أساس البلاغة، الزمخشري، ١/٦١١، تاج العروس، الزبيدي،٢٦/١٠٢.

11 انظر: العين، الفراهيدي، ٢/٧٨.

12 انظر: الضوء اللامع المبين عن مناهج المحدثين، أحمد ناجي، ص، ١٦٨.

13 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٣/٢٦٨.

14 معالم التنزيل، البغوي ٣/١٦٦.

15 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٧/٣٤.

16 جامع البيان، الطبري ١١/٥١٨.

17 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٨/٤٢.

18 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المغازي، باب قوله: (إذ همت طائفتان منكم)، ٥/ ٩٦، رقم ٤٠٥١ ومسلم في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل الأنصار،رضي الله عنهم، رقم ٢٥٠٥.

19 انظر: زاد المسير، ابن الجوزي ١/٤٤٩.

20 منهاج السنة النبوية ١/١٥٤.

21 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجمعة، باب فرض الجمعة، ٢/ ٢، رقم ٨٧٦، ومسلم في صحيحه، كتاب الجمعة، باب هداية هذه الأمة ليوم الجمعة ٢/ ٥٨٥، رقم ٨٥٥.

22 أحكام القرآن، ابن العربي ٤/٤٠٦.

23 مفاتيح الغيب، الرازي ٨/١٢٧.

24 فتح القدير ٢/٥٧٧.

25 زاد المسير، ابن الجوزي ٣/٤٩١.

26 جامع البيان، ١٤/٤٣٩.

27 تفسير القرآن العظيم، ٤/٢٠٣.

28 المصدر السابق.

29 صفوة التفاسير، الصابوني ١/٣٧٤.

30 محاسن التأويل، القاسمي ٢/٥٠.

31 في ظلال القرآن ٧/١٦٥.

32 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٨/٦٩.

33 محاسن التأويل، القاسمي ٢/٥٠.

34 عمدة القاري ٢٤/٤١١.

35 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب مناقب الأنصار، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار:(أنتم أحب الناس إلي)، ٥/ ٣٢، رقم ٣٧٨٦، ومسلم في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل الأنصار، ٤/ ١٩٤٨، رقم ٢٥٠٨.

36 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الإيمان، باب علامة الإيمان حب الأنصار، ١/ ١٢، رقم ١٧، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب الدليل على أن حب الأنصار وعلي رضي الله عنهم من الإيمان وعلاماته، وبغضهم من علامات النفاق ١/٨٥، رقم ٧٤.

37 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب مناقب الأنصار، باب حب الأنصار، ٥/٣٢، رقم ٣٧٨٣، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب الدليل على أن حب الأنصار وعلي رضي الله عنهم من الإيمان وعلاماته، وبغضهم من علامات النفاق ١/٨٥، رقم ٧٥.

38 انظر: فتح الباري، ابن حجر ١/ ١٦٣.

39 الجامع لأحكام القرآن، ١٨/ ٢٦.

40 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، باب قوله: (ويؤثرون على أنفسهم)، ٦/ ١٤٨، رقم ٤٨٨٩.

41 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، باب قوله: (ويؤثرون على أنفسهم)، ٥/ ٣٤، رقم ٣٧٩٨.

42 انظر: زاد المسير، ابن الجوزي ٤/٢٥٨.

43 انظر: الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ١٨/٢٥.

44 التسهيل لعلوم التنزيل، ابن جزي ٢/٣٦٠.

45 مفاتيح الغيب، الرازي ٢٩/٥٠٨.

46 المصدر السابق.

47 انظر: المصدر السابق.

48 مفاتيح الغيب، الرازي ٢٩/٥٠٨.

49 تفسير القرآن العظيم، ٨/٧١.

50 أخرجه البزار في مسنده، رقم ٧٢٩٣ والطبراني في المعجم الأوسط ٥٧٥٤.

وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب ٢/ ٣٥٦، رقم ٢٦٠٧.

51 روح البيان، إسماعيل حقي ٩/٣٥٣.

52 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإمارة، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية، وتحريمها في المعصية ٣/١٤٧٠، رقم ١٧٠٩.

53 أحكام القرآن، ابن العربي ٧/٣٠٨.

54 فتح القدير ٥/٢٠١

55 المصدر السابق ٥/٢٨٢.

56 انظر: زاد المسير، ابن الجوزي ٨ /٢١٢.

57 مجموع فتاوى ابن تيمية ١٠/١١٩.

58 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجزية، باب ما أقطع النبي صلى الله عليه وسلم من البحرين، وما وعد من مال البحرين والجزية، ولمن يقسم الفيء والجزية ٤/ ٩٨، رقم ٣١٦٣، ومسلم في صحيحه، كتاب الإمارة، باب الأمر بالصبر عند ظلم الولاة واستئثارهم ٣/ ١٤٧٤، رقم ١٨٤٥.

59 أحكام القرآن، ابن العربي ٧/٣١٠.

60 انظر: لطائف الإشارات، القشيري ٣/٥٦١.

61 محاسن التأويل، القاسمي ٢٣/ ٢.

62 زهرة التفاسير، أبو زهرة ١/٣٢٠١.

63 انظر: ديوان حسان بن ثابت ص٩٩.

64 أخرجه أحمد في مسنده، ٢٥/٩٢، رقم ١٥٧٨٩.

65 انظر: السيرة النبوية، ابن هشام ٢/١٩٧- ٢٠٩.

66 انظر: جامع البيان، الطبري ١٠/٥١، تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٤/٩٥.

67 فتح القدير ٢/٤٧٨.

68 انظر: زهرة التفاسير، أبو زهرة ٦/٣٢٠٢.

69 المصدر السابق ٦/٣٢٠٦.

70 انظر: المصدر السابق ٦/٣٢٠٩.

71 انظر: مفاتيح الغيب، الرازي ١٥/٥١٩.

72 أخرجه الطبراني في الكبير ٧/ ١٥١، رقم ٦٦٦٥.

73 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٢٨/٩٠.

74 المصدر السابق.

75 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل المدينة، باب الإيمان يأرز إلى المدينة ٣/ ٢١، رقم ١٨٧٦، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب بيان أن الإسلام بدأ غريبًا وسيعود غريبًا، وأنه يأرز بين المسجدين ١/١٣١، رقم ١٤٧.

76 روح المعاني، الألوسي ٢٠/٤٢٥.

77 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٢٨/٩١.

78 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل المدينة، باب فضل المدينة وأنها تنفي الناس ٣/ ٢٠، رقم ١٨٧١، ومسلم في صحيحه، كتاب الحج، باب المدينة تنفي شرارها، ٢/١٠٠٦، رقم ١٣٨٢.

79 انظر: النهاية في غريب الأثر، ابن الأثير ١/١٤٤.

80 البيت في خزانة الأدب ٣/ ١٣٩، وفي العباب الزاخر ١/٤٨١، وتمامه: «حتى شتت همالةً عيناها».

81 التسهيل لعلوم التنزيل، ٣/١٥٧.

82 البيت في الكامل في اللغة ١/ ٢٩١ وشرح ديوان الحماسة ص ٨٠٥ غير منسوب لقائل، وصدره: «يا ليت بعلك قد غذا».

83 انظر: اللباب في علوم الكتاب، ابن عادل ١٥/٢٠١.

84 التسهيل لعلوم التنزيل، ٣/١٥٧.

85 روح المعاني، ٢٠/٤٢٥.

86 روح البيان، إسماعيل حقي ٨/٢٥٣.

87 روح المعاني ٢٥/٤٦.

88 فتح القدير ٤/٧٦٩.

89 انظر: فتح القدير، الشوكاني ٥/٤٧.

90 أخرجه ابن ماجه في كتاب الطهارة وسننها، باب الاستنجاء بالماء ١/ ١٢٧، رقم ٣٥٥.

وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه، ١/٦٣.

91 جامع البيان، الطبري ١٤/ ٤٨٨.

92 اللباب في علوم الكتاب، ابن عادل ١٠/ ٢١٠.

93 التحرير والتنوير، ابن عاشور ١١/ ٣٢.

94 انظر: المصدر السابق .

95 السابق ١١/٤٩.

96 اللباب في علوم الكتاب، ابن عادل ٨/٣٨٧.

97 جامع البيان، ١٤/٥٣٩.

98 معالم التنزيل، البغوي ٤/١٠٤.

99 اللباب في علوم الكتاب، ابن عادل ٨/٣٨٧.

100 انظر: مفاتيح الغيب، الرازي ٨/١٧٠.

101 انظر: الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٨/٢٨١.

102 انظر: فتح القدير، الشوكاني ٢/٥٩٩.

103 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٨/٢٨١.

104 اللباب في علوم الكتاب، ابن عادل ٨/٣٨٩.

105 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص٣٥٤.

106 انظر: تفسير القرآن الكريم، ابن عثيمين ٣/٩١.

107 انظر: اللباب في علوم الكتاب، ابن عادل ٨/٣٨٧.

108 انظر: المصدر السابق.

109 انظر: اللباب في علوم الكتاب، ابن عادل ٨/٣٨٧.

110 انظر: السيرة النبوية، ابن كثير ٤/ ١٦.

111 أخرجه الترمذي في سننه، أبواب المناقب، ٥/ ٦٢٦، رقم ٣٧٠١.

وحسنه الألباني في تعليقه على المشكاة، رقم ٦٠٦٤.

112 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الفتن، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: (سترون بعدي أمورًا تنكرونها)، ٩/ ٤٧، رقم ٧٠٥٦، ومسلم في صحيحه، كتاب الإمارة، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية، وتحريمها في المعصية، ٣/١٤٧٠، رقم ١٧٠٩.

113 تفسير القرآن الكريم، ٨/ ١١٣.

الأنصار

عناصر الموضوع

مفهوم الأنصار

الأنصار في الاستعمال القرآني

الألفاظ ذات الصلة

صفات الأنصار وأعمالهم

فضائل الأنصار

الأنصار

مفهوم الأنصار

أولًا: المعنى اللغوي:

الأنصار: جمع ناصر، كصاحب وأصحاب، كما تجمع ناصر على ناصرين ونصار، اسم فاعل من نصر.

أو جمع نصير، كشريف وأشراف، (ناصر أو نصير) وكلاهما صواب، والنصير: فعيل، بمعنى فاعل أو مفعول؛ لأن كل واحد من المتناصرين ناصر ومنصور.

ونصير: صيغة مبالغة من ناصر، ومعناه: المساعد، والمعين، والمناصر، والمؤيد.

يقال: نصره على عدوه ينصره نصرًا، واستنصره على عدوه: سأله أن ينصره عليهم، وتناصر القوم: إذا نصر بعضهم بعضًا، وانتصر منه: انتقم1.

ولفظ الأنصار يأتي بمعنى: الأعوان المناصرين والمؤازرين والأتباع والحلفاء، وأهل الاتباع والتصديق.

وهذا اللفظ (الأنصار) بهذا المعنى اللغوي يمكن إطلاقه لغةً على كل من اتصف بهذا الوصف.

ثانيًا: المعنى الاصطلاحي:

وفي المعنى الاصطلاحي الأمر ليس ببعيد عن المعنى اللغوي، فأنصار الرجل هم حلفاؤه وأتباعه ومؤيدوه في النزاعات، ومعاونوه على أمره.

ومن هنا جاء تعريف الأنصار في الاصطلاح الشرعي بأنهم الأوس، والخزرج من الأزد: سماهم الله عز و جل بذلك لما نصروا رسوله، وآووه، وكانوا له نعم الحلفاء والأتباع2.

فالأنصار اصطلاحًا: يطلق على من أسلم من أهل المدينة بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم من الأوس، والخزرج، ومزينة، وسليم، وجهينة، وغفار، وأسلم، فكل هؤلاء يسمون الأنصار، وهو اسم سماه الله تعالى لكل من ناصر نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم وآواه في المدينة3، وأولادهم يدخلونه بالنسب؛ فيقال: الأنصاري للواحد منهم ومن أبنائهم.

الأنصار في الاستعمال القرآني

وردت مادة (نصر) في القرآن (١٥٥) مرة، يخص موضوع البحث منها (١١) مرة4.

والصيغ التي وردت هي:

الصيغة

عدد المرات

المثال

الجمع

١١

( ) [البقرة:٢٧٠]

وجاءت كلمة (الأنصار) في الاستعمال القرآني بمعناها اللغوي، وهو: الأعوان5.

الألفاظ ذات الصلة

الصحابة:

الصحابة لغة:

الصحابة بالفتح: جمع صاحب، ولم يجمع فاعل على فعالة إلا هذا6.

الصحابة اصطلاحًا:

هو من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمنًا به، ومات على الإسلام، ولو تخللت ردةٌ في الأصح7.

الصلة بين الأنصار والصحابة:

عند الحديث عن الفرق بين لفظة الأنصار ولفظة الصحابة وكذلك الألفاظ الثلاثة التالية يكون المقصود منه الاصطلاح الشرعي، فيكون لفظ الأنصار أخص من لفظ الصحابة، إذ الصحابة منهم المهاجرون والأنصار والطلقاء، ومن دخل في دين النبي صلى الله عليه وسلم من القبائل بعد الفتح.

المهاجرون:

المهاجرون لغة:

جمع مهاجر، والمهاجر هو كل من فارق رباعه من بدوي أو حضري وسكن بلدًا آخر8.

ا لمهاجرون اصطلاحًا:

هم الذين صلوا إلى القبلتين، أو شهدوا بدرًا، أو أسلموا قبل الهجرة9.

الصلة بين الأنصار والمهاجرين:

الأنصار هم أهل المدينة الذين آووا النبي صلى الله عليه وسلم ومن هاجر إليهم من أهل الإسلام من مكة، والمهاجرون هم الذين قدموا المدينة مع النبي صلى الله عليه وسلم، أو هاجروا إليه منها بعد ذلك، وقبل انتهاء أجل الهجرة.

الطلقاء:

الطلقاء لغة:

أطلقت الأسير، وهو طليق، وهو من الطلقاء. وأطلقت الناقة من عقالها فطلقت10.

الطلقاء اصطلاحًا:

هم أهل مكة الذين أسلموا بعد فتحها.

الصلة بين الأنصار والطلقاء:

الأنصار من أهل المدينة وإسلامهم متقدم على إسلام الطلقاء، أما الطلقاء فهم أهل مكة وإسلامهم كان بعد فتح مكة.

التابعون:

التابعون لغة:

جمع تابع، وهو التالي، ومنه التتبع والمتابعة، والإتباع، والتتبع، تقول: تتبعت علمه، أي: اتبعت آثاره11.

التابعون اصطلاحًا:

من لقي الصحابي، وإن لم تطل صحبته12.

الصلة بين الأنصار والتابعين:

الأنصار صحبوا النبي صلى الله عليه وسلم ورأوه وهم من قرن النبي صلى الله عليه وسلم، بينما التابعون هم من صحبوا الصحابة بعد موت النبي، أو قبل ذلك ولم يحصل لهم شرف الصحبة.

صفات الأنصار وأعمالهم

تحدث القرآن الكريم عن صفات الأنصار وأعمالهم، وسوف نتناول ذلك بالبيان فيما يأتي:

أولًا: أبرز صفات الأنصار:

اصطفى الله سبحانه لهذا الدين رجالًا، كان لهم الحظ الأوفر، والشرف العظيم في نصرة الدين والنبي صلى الله عليه وسلم وإيوائه بعد أن خذله الناس، ألا وهم الأنصار، فهم من آوى الرسول ونصر، وكبت المشركين وقهر؛ ولهذا فحبهم ثابت في قلب كل مسلم، وبغضهم متقد في قلب كل منافق.

وقد شهد الكتاب العزيز بفضلهم، وبرضوان الله عليهم؛ لما قدموا من خدمة لهذا الدين، فخلد الله مديحهم ورضوانه عليهم في كتابه.

ولو تأملنا في صفات الأنصار في القرآن الكريم، وأمعنا النظر لوجدنا فضائلهم جمة، ومناقبهم عظيمة، بلغوا فيها غاية الكمال، ونالوا بها رضا ربهم الكريم المنان، فهو تارة يصفهم بالسابقين الأولين، وتارة بالإيواء والنصرة والإيمان، وتارة يصفهم بالفلاح، وتارة يثني على جهادهم وصبرهم وإيثارهم، وتارة يخبر بالرضا والتوبة عنهم.

وقد أشار إلى بعض أفعالهم وصفاتهم، ومنها: تبوءهم المدينة، وحبهم للمهاجرين، وإيثارهم إياهم، وسلامة صدورهم، كما في قوله تعالى: ( ﯽﯾ ﯿ ) [الحشر: ٩].

وأشار إليهم في قوله: ( ﯞﯟ ) [الأنعام: ٨٩].

فقوله: ( ) قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: «وقوله: ( ) يعني: أهل مكة، قاله ابن عباس وسعيد بن المسيب والضحاك وقتادة والسدي وغير واحد، وقوله: ( ) أي: إن يكفر بهذه النعم من كفر بها من قريش وغيرهم من سائر أهل الأرض، من عرب وعجم، ومليين وكتابيين، فقد وكلنا بها قومًا آخرين، أي: المهاجرين والأنصار، وأتباعهم إلى يوم القيامة»13.

وكذا قال البغوي: «أن المراد بقوله: ( ) يعني: الأنصار وأهل المدينة»14. وقال القرطبي: « ( ) جواب الشرط، أي: وكلنا بالإيمان بها ( ) يريد الأنصار من أهل المدينة، والمهاجرين من أهل مكة»15.

وقال الطبري بعد أن ذكر عدة أقوال في المراد بقوله: ( ): «وأولى هذه الأقوال في تأويل ذلك بالصواب قول من قال: عنى بقوله: ( ) كفار قريش ( ) يعني به: الأنبياء الثمانية عشر الذين سماهم الله تعالى ذكره في الآيات قبل هذه الآية، وذلك أن الخبر في الآيات قبلها عنهم مضى، وفي التي بعدها عنهم ذكر، فما بينها بأن يكون خبرًا عنهم، أولى وأحق من أن يكون خبرًا عن غيرهم»16. وعلى كل حال لا يوجد ما يمنع من دخول الأنصار في المراد من الآية، والله أعلم.

وأشير إليهم أيضًا في قوله تعالى: ( ﭗﭘ ) [الأنفال: ٦٢].

أي: قواك بنصره، يريد: يوم بدر، وبالمؤمنين، قال النعمان بن بشير: نزلت في الأنصار ( ﭡﭢ ) [الأنفال: ٦٣].

أي: جمع بين قلوب الأوس والخزرج، وكانت تألف القلوب مع العصبية الشديدة في العرب من آيات النبي صلى الله عليه وسلم، ومعجزاته؛ لأن أحدهم كان يلطم اللطمة فيقاتل عليها حتى يستقيدها، وكانوا أشد خلق الله حمية، فألف الله بالإيمان بينهم، حتى قاتل الرجل أباه وأخاه بسبب الدين، وقيل: أراد التأليف بين المهاجرين والأنصار، والمعنى متقارب17.

ونزل فيهم قوله -جل وعلا-: ( ﭘﭙ ) [آل عمران: ١٢٢].

فعن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه قال: نزلت هذه الآية فينا: ( ) قال: نحن الطائفتان بنو حارثة وبنو سلمة، وما أحب أنها لم تنزل، والله يقول: ( ﭘﭙ) وقال سفيان مرةً: وما يسرني أنها لم تنزل؛ لقول الله: ( ) 18.

«وقال الحسـن البصري: هما طائفتان من الأنصار همتا بذلك، فعصمهما الله، وقيل: لما رجع عبـد الله ابن أبي في أصحابـه يوم أحد همت الطائفتان باتباعه، فعصمهما الله»19.

والمقصود أن الله تبارك وتعالى بين في هذه الآيات فضائل الأنصار التي بَيَنَها القرآن الكريم، فقد نص على مجموعة من صفاتهم الحميدة، ومنها:

١. سبق الأنصار إلى الإيمان والنصرة.

وصف الله الأنصار في القرآن الكريم بالسبق، فقال: ( ﭦﭧ ) [التوبة: ١٠٠].

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «ذهب جمهور العلماء إلى أن السابقين في قوله تعالى: ( ) [التوبة: ١٠٠].

هم هؤلاء الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا، وأهل بيعة الرضوان كلهم منهم، وكانوا أكثر من ألف وأربعمائة»20.

وبين ابن العربي رحمه الله الأمور التي يكون فيها السبق، فقال: «السبق يكون بثلاثة أشياء: الصفة، وهو الإيمان، والزمان، والمكان، وأفضل هذه الوجوه سبق الصفات، والدليل عليه قوله صلى الله عليه وسلم في الصحيح: (نحن الآخرون الأولون، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، وأوتيناه من بعدهم، فهذا يومهم الذي اختلفوا فيه، فهدانا الله له، فاليهود غدًا، والنصارى بعد غد)21»22.

وقال الرازي: «اختلفوا في السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار من هم؟ وذكروا وجوهًا. . . »، ثم قال: «والصحيح عندي أنهم السابقون في الهجرة وفي النصرة، والذي يدل عليه أنه ذكر كونهم سابقين، ولم يبين أنهم سابقون في ماذا؟ فبقي اللفظ مجملًا، إلا أنه وصفهم بكونهم مهاجرين وأنصارًا، فوجب صرف ذلك اللفظ إلى ما به صاروا مهاجرين وأنصارًا، وهو الهجرة والنصرة، فوجب أن يكون المراد منه السابقون الأولون في الهجرة والنصرة؛ إزالة للإجمال عن اللفظ... ثم قال: و أيضًا فالسبق إلى الهجرة طاعة عظيمة من حيث إن الهجرة فعل شاق على النفس، ومخالف للطبع، فمن أقدم عليه أولًا صار قدوة لغيره من هذه الطاعة، وكان ذلك مقويًا لقلب الرسول عليه الصلاة والسلام، وسببًا لزوال الوحشة عن خاطره، وكذلك السبق في النصرة، فإن الرسول عليه الصلاة والسلام لما قدم المدينة، فلا شك أن الذين سبقوا إلى النصرة والخدمة، فازوا بمنصب عظيم»23.

وما ذكر قبل من الأقوال هو من باب التمثيل، فيكون هذا من باب اختلاف التنوع، لا اختلاف التضاد؛ ولهذا قال الشوكاني رحمه الله: «ولا مانع من حمل الآية على هذه الأصناف كلها»24.

٢. رضوان الله عن الأنصار ورضاؤهم عنه.

أخبر سبحانه أنه رضي عن (المهاجرين) والأنصار وعن أفعالهم، ورضوا عنه سبحانه؛ لما أجزل لهم من الثواب على طاعاتهم وإيمانهم به ويقينهم، فقال تعالى: ( ) [التوبة: ١٠٠].

فقوله تعالى: ( ) يعم الكل، قال الزجاج: رضي الله أفعالهم، ورضوا ما جازاهم به25 فحين ذكر سبحانه وتعالى الجزاء الذي أعده لهؤلاء، وحين كانت نفوسهم زاكية راقية؛ قابلوا الجزاء بالشكر، والتزود من الطاعة، فذكر سبحانه أنهم: ( ) وهذا أرقى المراتب التي يسعى إليها المؤمنون، ويتنافس فيها المتنافسون، أن يرضى الله تعالى عنهم، ويرضيهم، يقول الطبري: «رضي الله عن جميعهم لما أطاعوه، وأجابوا نبيه إلى ما دعاهم إليه من أمره ونهيه، ورضي عنه السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان لما أجزل لهم من الثواب على طاعتهم إياه، وإيمانهم به وبنبيه عليه السلام»26.

ففي هذه الآية إخبار بأن الله رضي عنهم ورضوا عنه، وفي هذا دليل على عدالتهم، ووجه الدلالة: أن الله تعالى أخبر فيها برضاه عنهم، ولا يثبت الله رضاه إلا لمن كان أهلًا للرضا، ولا توجد الأهلية لذلك إلا لمن كان من أهل الاستقامة في أموره كلها، عدلًا في دينه.

يقول ابن كثير رحمه الله: «يخبر تعالى عن رضاه عن السابقين من المهاجرين والأنصار، والتابعين لهم بإحسان، ورضاهم عنه بما أعد لهم من جنات النعيم، والنعيم المقيم»27.

ويقول أيضًا: «فقد أخبر الله العظيم أنه قد رضي عن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، فيا ويل من أبغضهم أو سبهم، أو أبغض أو سب بعضهم»28.

وقال تعالى في جزاء هؤلاء السابقين: ( ) [التوبة: ١٠٠].

أي: وأعد لهم في الآخرة جنات تجري من تحت أشجارها وقصورها الأنهار، ( ) أي: مقيمين فيها من غير انتهاء، ( ) أي: ذلك هو الفوز الذي لا فوز وراءه.

قال في البحر: لما بين تعالى فضائل الأعراب المؤمنين بين حال هؤلاء السابقين، ولكن شتان ما بين الثناءين، فهناك قال: ( ) [التوبة: ٩٩].

وهنا قال: ( ) وهناك ختم ( ) [التوبة: ٩٩].

وهنا ختم: ( ) [التوبة: ١٠٠]29.

وهذا الرضوان للأنصار، وما أعد لهم من الجنات والنعيم، هو جزاء ما قدموه لهذا الدين، وما تركوا من دورهم وأهليهم، وجزاء ما أعطوه للمهاجرين من أموالهم؛ لأن الهجرة أمر شاق على النفس، لمفارقة الأهل والعشيرة، والنصرة منقبة شريفة؛ لأنها إعلاء كلمة الله، ونصر رسوله وأصحابه، والإحسان من أحوال المقربين أو مقاماتهم.

وفي هذه الآية ( ) [التوبة: ١٠٠] فوائد:

الأولى: في الآية دليل على أن للصحابة مراتب، وأن الفضل للسابق إلى الإسلام والهجرة، وأن السابقين من الصحابة أفضل ممن تلاهم.

الثانية: قيل: المراد بالسابقين الأولين جميع المهاجرين والأنصار، فـ(من) بيانية؛ لتقدمهم على من عداهم، وقيل: بعضهم، وهم قدماء الصحابة و(من) تبعيضية، وقد اختار كثيرون الثاني، واختلفوا في تعيينهم.

الثالثة: تقديم المهاجرين؛ لفضلهم على الأنصار، كما ذكر في قصة السقيفة، ومنه علم فضل أبي بكر رضي الله عنه على من عداه؛ لأنه أول من هاجر معه صلى الله عليه وسلم30.

الرابعة: وفيها دليل على تنزيل الناس منازلهم.

الخامسة: وفيها دليل على أن أفضلية العمل على قدر رجوع منفعته إلى الإسلام والمسلمين.

السادسة: رضا الله عن السابقين من المهاجرين والأنصار، والمعنى: أنه رضي عنهم بما عملوه من الطاعات الخالصة له، ورضوا عنه بما جازاهم به مما لا يخطر لهم على بال، ولا تتصوره عقولهم، والرضا منه سبحانه هو أرفع درجات النعيم، وأعلى منازل الكرامة.

٣. حب الأنصار للمهاجرين.

قد شهد الله تعالى لهم بذلك في قوله: ( ) [الحشر: ٩].

فمن جملة أوصاف الأنصار الجميلة أنهم: ( ) [الحشر: ٩].

وهذا لمحبتهم لله ولرسوله أحبوا أحبابه، وأحبوا من نصر دينه، وهذه المحبة هي آصرة أقوى من آصرة النسب، وأقوى من رابطة الدم؛ لأنها تجمع على الإيمان بالله واليوم الآخر؛ ولأنها تستل كل الأحقاد والضغائن من الصدور؛ ولأنها تجعل من محبة الفرد لأخيه المسلم طاعة يتقرب بها، وينال بها الأجر والثواب من الله عز وجل، ويحصل بها على المنازل الرفيعة في الآخرة.

وأن هذه الرابطة أقوى من رابطة الدم واللغة والمصالح الاقتصادية، والعلاقات المتبادلة، يقول سيد قطب في الكلام على هذه الآية: «وهذه كذلك صورة وضيئة صادقة تبرز أهم الملامح المميزة للأنصار، هذه المجموعة التي تفردت بصفات، وبلغت إلى آفاق، لولا أنها وقعت بالفعل، لحسبها الناس أحلامًا طائرة، ورؤًى مجنحة، ومثلًا عليا قد صاغها خيال محلق. . .، ولم يعرف تاريخ البشرية كله حادثًا جماعيًا كحادث استقبال الأنصار للمهاجرين بهذا الحب الكريم، وبهذا البذل السخي، وبهذه المشاركة الرضية، وبهذا التسابق إلى الإيواء واحتمال الأعباء، حتى ليروى أنه لم ينزل مهاجر في دار أنصاري إلا بقرعة؛ لأن عدد الراغبين في الإيواء المتزاحمين عليه أكثر من عدد المهاجرين»31.

وفي قوله تعالى: () الواو استئنافية و () مبتدأ، وخبره () والجملة مستأنفة.

وقوله: () [الحشر: ٩].

خبر عن اسم الموصول () والمعنى: يحبونهم من حيث مهاجرتهم إليهم لمحبتهم الإيمان؛ قال ابن كثير: «أي: من كرمهم وشرف أنفسهم يحبون المهاجرين، ويواسونهم بأموالهم»32.

وقوله: ( ) أي: إلى المدينة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه حال الأنصار، فقلوبهم مملوءة بالحب للمهاجرين، ولا يحملون في صدورهم شيئًا على إخوانهم المهاجرين؛ لكونهم فضلوا عليهم ببعض الفضائل.

قال القاسمي: وقوله: () أي: لوجود الجنسية -أي المجانسة- في الصفاء، والموافقة في الدين والإخاء، قال الشهاب: المراد بمحبتهم المهاجرين هنا مواساتهم، وعدم الاستثقال والتبرم منهم، إذا احتاجوا إليهم، فالمحبة كناية عما ذكر33.

ويقول العيني: «في قوله: ( ) [الحشر: ٩أي: من المسلمين، حتى بلغ من محبتهم أن نزلوا لهم عن نسائهم، وشاطروهم أموالهم ومساكنهم»34.

وفي مقابل هذا الحب منهم أحبهم المهاجرون، وأحبهم الرسول صلى الله عليه وسلم، حتى قال للأنصار: (والذي نفسي بيده إنكم أحب الناس إلي)35 مرتين.

بل جعل الرسول حبهم من دلائل الإيمان، كما في حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار)36.

ففي هذا الحديث دلالة أن حب المؤمن لقبيلة الأنصار شعبة من شعب الإيمان، وعلامة عليه، فلا يحبهم إلا مؤمن، وأن بغضهم وكرههم شعبة من شعب النفاق والكفر، فلا يبغضهم إلا منافق.

وعن البراء قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الأنصار لا يحبهم إلا مؤمن، ولا يبغضهم إلا منافق، فمن أحبهم أحبه الله، ومن أبغضهم أبغضه الله)37.

وليس المراد بالبغض في هذا الحديث البغض الناتج من العداء الشخصي لأفرادهم، وإنما المراد بغضهم بسبب الصفة التي مدحوا بها، وهي نصرتهم للنبي صلى الله عليه وسلم، فمن أبغضهم من جهة هذه الصفة، وهي: كونهم نصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم أثر ذلك في تصديقه، فيصح أنه منافق38.

وكذلك الحب يقال فيه مثل ما يقال في البغض.

وهذا الحب من الأنصار لإخوانهم المهاجرين دافعه وجه الله تعالى، ومعرفتهم فضل الأخوة في الله، ومكانتها في الدين، فالأخوة في الله مبدأ عظيم من مبادئ الإسلام، يقوم عليه الولاء والبراء، والحب والبغض.

وتجلت هذه الأخوة في أبهى صورها، وأجمل حللها، في تلك المواقف السمحة التي عامل بها الأنصار إخوانهم المهاجرين، وهذا التآخي لم يكن مجرد شعار للمزايدة، ودغدغة العواطف، والالتفاف حول المعاني السامية بالأكاذيب والتدليس والتلبيس، لكنه معنى خالط قلوبهم ومشاعرهم، ولحمهم ودمهم، برز ذلك في سلمهم وحربهم، وفقرهم وغناهم، مستضعفين وممكن لهم، أفرادًا وجماعات.

وهذا الأنموذج من الأخوة الصادقة حرص النبي صلى الله عليه وسلم عليه وأكده، وكان من أوائل الأمور التي قام بها بعد وصوله المدينة أن آخى بين المهاجرين والأنصار؛ ليذهب عن المسلمين المهاجرين وحشة الغربة، ويؤنسهم عن مفارقة الأهل والعشيرة، ويشد بعضهم أزر بعض.

٤. الإيثار عند الأنصار.

الإيثار من أعظم الصفات التي اتصف بها المجتمع الإسلامي؛ ولهذا يقول بعض المفكرين: بأن كلمة الإيثار يصعب ترجمتها إلى لغات أخرى، أي: ليس لها مرادف في اللغات الأخرى مرادف يؤدي معناها، ويحقق كل معانيها، وكأن هذه الخصلة هي من الخصال التي أتى بها هذا الدين الحنيف، وزكى غرسها، وحث عليها، ودعا إليها.

وأعظم الناس إيثارًا في التاريخ الإسلامي هم الأنصار، فقد جاءهم المهاجرون إلى المدينة وهم لا يملكون من أمر الدنيا شيئًا، قد تركوا أموالهم وما يملكون خلف ظهورهم، وأقبلوا على ما عند الله عز وجل، يرجون رحمته، ويخافون عذابه، فاستقبلهم الأنصار الذين تبوءوا الدار، وأكرموهم أيما إكرام، ولم يبخلوا عليهم بشيء من حطام الدنيا، بل قاسموهم الأموال والمتاع، وشاطروهم بيوتهم وأرضهم وأموالهم، بطيب نفس، وسلامة صدر، في صورة يعجز عن وصفها اللسان، ويضعف عن تعبيرها البيان، وقابل المهاجرون هذا الإيثار الرائع بحسن الخلق والتعفف.

وقد امتدح الله جل وعلا خلق الإيثار عند الأنصار، فقال: ( ﯽﯾ ﯿ ) [الحشر: ٩].

ففي قوله: ( ﯽﯾ) [الحشر: ٩].

أي: إن من أوصاف الأنصار التي فاقوا بها غيرهم، وتميزوا بها على من سواهم الإيثار، وهو أكمل أنواع الجود، وهو الإيثار بمحاب النفس من الأموال وغيرها، وبذلها للغير مع الحاجة إليها، بل مع الضرورة والخصاصة، وهذا لا يكون إلا من خلق زكي، ومحبة لله تعالى مقدمة على محبة شهوات النفس ولذاتها.

والمراد بقوله: () [الحشر: ٩].

أي: الأنصار، والإيثار لغة: مصدر من قولهم: آثره عليه يؤثره إيثارًا، بمعنى: فضله وقدمه، والمآثر: ما يروى من مكارم الإنسان، وفي التنزيل: ( ) [يوسف: ٩١]. وآثر أن يفعل كذا: فضل وقدم، وضده الأثرة من قولهم: استأثر بالشيء انفرد به، أو اختص به نفسه.

واصطلاحًا: قال القرطبي: «الإيثار: هو تقديم الغير على النفس في حظوظها الدنيوية؛ رغبة في الحظوظ الدينية، وذلك ينشأ عن قوة اليقين، وتوكيد المحبة، والصبر على المشقة»39.

وفي قوله: () [الحشر: ٩]. مفعول الإيثار محذوف، والتقدير: ويؤثرونهم بأموالهم ومنازلهم على أنفسهم.

جاء في البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أتى رجلٌ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، أصابني الجهد، فأرسل إلى نسائه فلم يجد عندهن شيئًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا رجل يضيف هذه الليلة يرحمه الله)، فقام رجل من الأنصار، فقال: أنا يا رسول الله، فذهب إلى أهله، فقال لامرأته: ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا تدخريه شيئًا، فقالت: والله ما عندي إلا قوت الصبية، قال: فإذا أراد الصبية العشاء فنوميهم، وتعالي فأطفئي السراج، ونطوي بطوننا الليلة، ففعلت، ثم غدا الرجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (لقد عجب الله عز وجل، أو ضحك من فلان وفلانة)، فأنزل الله عز وجل: ( ) [الحشر: ٩]40.

وفي رواية في البخاري أيضًا: (ضحك الله الليلة، أو عجب من فعالكما)، فأنزل الله: ( ﯽﯾ) [الحشر: ٩]41.

وجاء في سبب نزولها: أن رجلًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدي له رأس شاةٍ، فقال: إن أخي فلانًا وعياله أحوج إلى هذا، فبعث به إليه، فلم يزل يبعث به واحد إلى واحد، حتى تناولها سبعة أهل أبيات، حتى رجعت إلى أولئك، فنزلت هذه الآية.

وروي نحو هذه القصة عن أنس بن مالك قال: أهدي لبعض الصحابة رأس شاةٍ مشوي، وكان مجهودًا، فوجه به إلى جارٍ له فتناوله تسعة أنفس، ثم عاد إلى الأول، فنزلت هذه الآية42.

وذكر ابن جزي في سبب نزولها قصة الفيء، فقال: «وروي أن سبب هذه الآية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قسم هذه القرى على المهاجرين دون الأنصار، قال للأنصار: (إن شئتم قسمتم للمهاجرين من أموالكم ودياركم، وشاركتموهم في هذه الغنيمة، وإن شئتم أمسكتم أموالكم وتركتم لهم هذه)43، فقالوا: بل نقسم لهم من أموالنا، ونترك لهم هذه الغنيمة، وروي أيضًا أن سببها أن رجلًا من الأنصار أضاف رجلًا»44. وذكر القصة التي في البخاري.

وهذا ما رجحه الرازي، حيث قال: «وذكر المفسرون أنواعًا من إيثار الأنصار للضيف بالطعام، وتعللهم عنه حتى يشبع الضيف، ثم ذكروا أن الآية نزلت في ذلك الإيثار، والصحيح أنها نزلت بسبب إيثارهم المهاجرين بالفيء، ثم لا يمتنع أن يدخل فيها سائر الإيثارات»45.

قوله: ( ﯽﯾ) [الحشر: ٩]. الخصاصة: هي الفقر46.

والمعنى: ولو كان بهم حاجة وفاقة إلى ما آثروا به من أموالهم على أنفسهم، فبين أن هذا الإيثار ليس عن غنى، وعن المال، ولكنه عن حاجة وخصاصة، وهي: الفقر47.

وهذا هو واقع الأنصار، فهم مع ما هم عليه من الخصاصة -وهي الفاقة والفقر-، ومع شدة احتياجهم وافتقارهم إلى ما في أيديهم، حيث أن المهاجرين كانوا أهل تجارة، وكانوا أهل ثراء في أوطانهم في مكة، بينما الأنصار كانوا في الحقيقة أهل زراعة، وما كانوا بالثراء الذي كان عليه أهل مكة؛ ولذلك عبر عنهم القرآن بهذا التعبير: ( ﯽﯾ) [الحشر: ٩].

فلئن يقدم الإنسان حاجة غيره عليه وهو مستغنٍ عن تلك الحاجة فهذا لا يستغرب، ومع ذلك فإن الله تعالى قد أمر به في كتابه الكريم، حينما قال: ( ) [البقرة: ٢١٩].

أي: الزيادة، ما فضل عن نفقاتكم الضرورية اللازمة عليكم، لكن هذه المرتبة أعلى، وهي أن يجود الإنسان بما عنده لأخيه مع كونه محتاجًا إليه، شديد الاحتياج، شديد الرغبة فيه، فهذا المعنى هو الذي تتحدث عنه الآية.

وقوله: (ﯿ ) [الحشر: ٩].

قال الرازي: «واعلم أن الفرق بين الشح والبخل هو أن البخل نفس المنع، والشح هو الحالة النفسانية التي تقتضي ذلك المنع، فلما كان الشح من صفات النفس لا جرم قال تعالى: (ﯿ ) [الحشر: ٩48.

ووقاية شح النفس يشمل وقايتها الشح في جميع ما أمر به، فإنه إذا وقي العبد شح نفسه سمحت نفسه بأوامر الله ورسوله، ففعلها طائعًا منقادًا منشرحًا بها صدره، وسمحت نفسه بترك ما نهى الله عنه وإن كان محبوبًا للنفس، تدعو إليه، وتطلع إليه، وسمحت نفسه ببذل الأموال في سبيل الله، وابتغاء مرضاته، وبذلك يحصل الفلاح والفوز، بخلاف من لم يوق شح نفسه، بل ابتلي بالشح بالخير الذي هو أصل الشر ومادته.

فهذان الصنفان الفاضلان الزكيان هم الصحابة الكرام والأئمة الأعلام، الذين حازوا من السوابق والفضائل والمناقب ما سبقوا به من بعدهم، وأدركوا به من قبلهم، فصاروا أعيان المؤمنين، وسادات المسلمين، وقادات المتقين.

ووصف الله من يتصف بهذه الصفة بقوله: ( ) أي: الظافرون بما أرادوا، والمقصود بهم: الأنصار، ومن أتصف بهذه الصفات من غيرهم، والمفلحون: هم الفائزون بكل مطلوب، الناجون من كل مهروب، قال ابن كثير: أي: من سلم من الشح فقد أفلح وأنجح49.

«والفلاح: اسم لسعادة الدارين، والجملة اعتراض وارد لمدح الأنصار والثناء عليهم، فإن الأوصاف المذكورة في حقهم، فلهم جلائل الصفات، ودقائق الأحوال. . .، قال السهروردي في العوارف: السخاء صفة غريزية في مقابلة الشح، والشح من لوازم صفة النفس، حكم الله بالفلاح لمن يوقى الشح، أي: لمن أنفق وبذل، والنبي عليه الصلاة والسلام نبه بقوله: (ثلاث مهلكات، وثلاث منجيات) فجعل إحدى المهلكات (شحًا مطاعًا)50 ولم يقل: مجرد الشح يكون مهلكًا، بل إنما يكون مهلكًا إذا كان مطاعًا، فأما كونه موجودًا في النفس غير مطاع لا ينكر ذلك؛ لأنه من لوازم النفس، مستمد من أصل جبلتها الترابي، وفي التراب قبض وإمساك، وليس ذلك بالعجب من الآدمي، وهو جبلي فيه، وإنما العجب وجود السخاء في الغريزة»51.

وهكذا يصور القرآن الكريم هذا الوضع غير المسبوق في أبلغ عبارة وأجزلها، وتظهر الآيات الكريمة صدق الأخوة بين المهاجرين والأنصار، لا تلوثه أطماع، ولا حب دنيا، ولا أثرة، ولا شح أو حرص، ولا حاجة إنما هو أخوة تدور بين سلامة الصدر والإيثار، ولا شك أن المرء يقف مبهورًا أمام هذه الصورة الرائعة من الأخوة المتينة، والإيثار المتبادل، الذي لا نشهد له مثيلًا في تواريخ الأمم السابقة.

ولقد كان دافع الأنصار لهذا الإيثار هو رغبتهم فيما عند الله، وحبهم لإخوانهم المهاجرين؛ ولهذا صدر الله هذه الصفات للأنصار في هذه الآية بأنهم يحبون من هاجر إليهم، فالمحبة هي باعث هذا الإيثار؛ ولذلك لا يمكن أن تتصور الإيثار دون أن تتصور المحبة بين الناس، المحبة التي تنشأ في القلوب، ثم يتبع هذه المحبة رغبة صادقة في أن ينال الخير أخاك؛ ولذلك فلا يجد الواحد منهم غضاضة في نفسه أن يقدم إخوانه في الخير الذي لديه.

وكيف لا يؤثر الأنصار وقد بايعوا الرسول صلى الله عليه وسلم على الإيثار؟!

فقد جاء عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: (بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر، والمنشط والمكره، وعلى أثرة علينا، وعلى أن لا ننازع الأمر أهله)52.

فالسمع والطاعة في العسر واليسر، والمنشط والمكره: لهم معه، ومع الأئمة بعده، والأثرة: عدم منازعة الأمر مع الأئمة بعده خاصة.

ولو ذهبنا نلتمس الأسباب وراء هذا الإخاء والحب والإيثار فلن نجد إلا مسبب الأسباب، وأن ذلك كان بفضل الله ورحمته، لا بصنع بشر وحكمته وسياسته، وصدق الله حيث قال: ( ﭡﭢ ) [الأنفال: ٦٣].

فلم يلتق النبي صلى الله عليه وسلم بالأنصار إلا في سويعات تحت جنح الليل، واكتفى فيها بعرض الإسلام، وأخذ العهود والمواثيق، ولم يطل لقاؤه معهم قبل الهجرة حتى يكون هذا الذي فعلوه بسبب تربية النبي إياهم، وطول تعهده لهم كما فعل تجاه المهاجرين حتى كون منهم رجالًا، فلم يكن بين دخول الأنصار الإسلام وقيامهم بهذه المآثر إلا أقل من عام.

فالأنصار قوم اختارهم الله لصحبة نبيه، لقد فتحوا للمهاجرين قلوبهم قبل أن يفتحوا لهم بيوتهم، ووسعوهم بصدورهم قبل أن يسعوهم بأموالهم، وتسابقوا إلى لقائهم وإكرامهم، وضربوا في باب الإيثار، وسخاء النفس، وكرم الطبع مثلًا عليا، لا تزال تذكرها لهم الأجيال المتعاقبة، بالإكبار والإعظام.

٥. سلامة صدورهم.

أثنى الله على الأنصار بسبب سلامة صدورهم رضي الله عنهم، فقال: ( ) [الحشر: ٩].

فقوله: ( ) [الحشر: ٩]. الضمير في (يجدون) للأنصار، قال ابن العربي: «قال الخلق بأجمعهم: يريد بذلك الأنصار الذين آووا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين طرد، ونصروه حين خذل، فلا مثل لهم، ولا لأجرهم»53.

وقوله: () أي: حزازة وغيظًا وحسدًا، قال الشوكاني في فتح القدير: ( ) [الحشر: ٩]. «أي: لا يجد الأنصار في صدورهم حسدًا وغيظًا وحزازةً»54.

وفي الكلام مضاف محذوف: أي لا يجدون في صدورهم مس حاجة، أو أثر حاجة، وكل ما يجده الإنسان في صدره مما يحتاج إليه فهو حاجة55.

وقوله: ( ) أي: مما أعطوا، والضمير للمهاجرين، والمراد (فيما أوتوه) هو مال الفيء، حيث قسم النبي صلى الله عليه وسلم أموال بني النضير بين المهاجرين، ولم يعط من الأنصار غير ثلاثة نفر، كانت بهم حاجة، فطابت أنفس الأنصار بتلك القسمة، أو يكون المراد (فيما أوتوه) هو: الفضل والتقدم56.

قال شيخ الإسلام في الفتاوى: «وبهذا أثنى الله تعالى على الأنصار، فقال: ( ) [الحشر: ٩].

أي: مما أوتي إخوانهم المهاجرون، قال المفسرون: لا يجدون في صدورهم حاجة أي: حسدًا وغيظًا، مما أوتي المهاجرون، ثم قال بعضهم: من مال الفيء، وقيل: من الفضل والتقدم»57.

يعني: لا يحسدون المهاجرين على ما خصوا به من مال الفيء وغيره، ويحتمل أن يريد به: ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا إذا كان قليلًا، بل يقنعون به، ويرضون عنه، وقد كانوا على هذه الحال حين حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم كانوا عليه بعد موته صلى الله عليه وسلم.

وقد أنذرهم النبي صلى الله عليه وسلم قائلًا: (سترون بعدي أثرة، فاصبروا حتى تلقوني على الحوض)58 59.

فالأنصار لا يجدون في صدورهم حاجة مما خصص به المهاجرون من الفيء، ولا يحسدونهم على ذلك، ولا يعترضون بقلوبهم على حكم الله بتخصيص المهاجرين حتى لو كانت بهم حاجة، أو اختلال أحوال60.

وعلى هذا ففي الآية بيان حال الأنصار، وأنهم لا يحسدون المهاجرين على ما آتاهم الله من فضله، وخصهم به من الفضائل والمناقب التي هم أهلها، وهذا يدل على سلامة صدورهم، وانتفاء الغل والحقد والحسد عنهم.

ويدل ذلك أيضًا على أن المهاجرين أفضل من الأنصار؛ لأن الله قدمهم بالذكر، وأخبر أن الأنصار لا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا، فدل على أن الله تعالى آتاهم ما لم يؤت الأنصار ولا غيرهم؛ لأنهم جمعوا بين النصرة والهجرة.

ثانيًا: أبرز أعمال الأنصار:

الأنصار: ما أجملها من كلمة! إنها كلمة تحمل معاني شريفة جليلة، اتصف بها قوم ضرب بهم المثل في الكمال الإنساني، إنها علمٌ على قوم عملوا أعمالًا استحقوا بها أن يكونوا من أنصار الرسول الكريم.

ومن أبرز هذه الأعمال:

١. الإيواء والنصرة.

لما هاجر المسلمون من مكة هجروا المحبوبات والمألوفات من الديار والأوطان والأحباب والخلان والأموال، وتجردوا من كل شيء إلا من الإيمان؛ رغبةً في الله، ونصرةً لدين الله، ومحبةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فوصلوا إلى أرضٍ جديدة، وواقعٍ مختلف، وكان من أثر هذه الرحلة نشوء عدد من المشكلات الجديدة، ليس أقلها: الشعور بالغربة، ومفارقة الأهل والديار، وترك معظم الأموال والممتلكات في مكة، وطبيعة الوضع المعيشي والاقتصادي الجديد، أضف إلى ذلك الآثار الصحية والبدنية التي أحدثها الانتقال المفاجئ إلى بيئةٍ أخرى؛ مما أدى إلى ظهور الأمراض في صفوفهم كالحمى وغيرها، كل هذا ترك في أنفسهم وحشة وغربة، حتى أصبح وضعهم يحتاج إلى حل عاجل وسريع.

فترجم الأنصار ما تعاقدوا عليه من أقوال في البيعتين إلى جملة أفعال، حيث فتح الأنصار أبواب بيوتهم وقلوبهم، واستعدوا لاحتضان من جاءهم مهاجرًا تحت ظاهرة عظيمة من التكافل الاجتماعي، فحوى المسكن الواحد تحت سقفه الأنصاري والمهاجر، وهم يتقاسمون كل شيء المسكن والمال والطعام.

فلم يعرف تاريخ البشرية حادثًا جماعيًا كحادث استقبال الأنصار للمهاجرين بهذا الحب الكريم، وبهذا البذل السخي، وبهذه المشاركة الرضية، وبهذا التسابق إلي الإيواء، واحتمال الأعباء، حتى ليروى أنه لم ينزل مهاجر في دار أنصاري إلا بقرعة؛ لأن عدد الراغبين في الإيواء المتزاحمين عليه أكثر من عدد المهاجرين، وهم لا يجدون في أنفسهم شيئًا من حسد، أو ضيق من هذا، والإيثار على النفس مع الحاجة قيمة عليا، وقد بلغ بها الأنصار مبلغًا لم تشهد له البشرية نظيرًا.

وهنا ظهر دور الأنصار الذين أبدوا من التضحية وضروب الإيثار ما استحق التخليد في كتاب الله.

قال الله تعالى عنهم: ( ﭿ ) [الأنفال: ٧٢].

وقال تعالى: ( ﯨﯩ ) [الأنفال: ٧٤].

فجمع الله تعالى في هاتين الآيتين الذين كانوا دعامة الإسلام، وعليهم هدى الرسول قام بنيانه، وشيدت أركانه، وهم المهاجرون والأنصار، فالمهاجرون ابتدأ بهم تكوين الجماعات الأولى التي صبرت وصابرت، وتلقت الصدمة الأولى من المشركين.

والأنصار وهم الذين آووا ونصروا، وأعزوا كلمة التوحيد، وأغلوها وأعلوها، فإذا كان المهاجرون هم الذين أظلوا شجرة الإسلام ابتداءً، فالأنصار هم الذين حموا ثمرتها، وقامت دولة الإسلام في أرضهم وحراستهم، وإذا كان المهاجرون قد لاقوا العنت في مكة فقد لقوا الإيواء في المدينة.

وإذا كانوا هم دعامة الإسلام فالأنصار دولته، وفي رحابهم قامت المدينة الفاضلة التي أقامها محمد صلى الله عليه وسلم في ديارهم، وإذا كان المهاجرون قد جاهدوا ابتداءً بالصبر والمصابرة، فقد كان جهادهم في المدينة مع إخوانهم الأنصار بذلك وبالقتال في المدينة، والفريقان اختارهم الله للتأليف حتى تكونت منهم أطهر جماعة رأتها الإنسانية وأقواها.

فبعد أن ذكر الله تعالى هنا في الآيتين الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، عقب بذكر الأنصار، وهم الذين آووا ونصروا.

فقال: ( ) [الأنفال: ٧٤]. المراد: بهم الأنصار، أي: وطنوا المهاجرين، وأنزلوهم منازلهم، وبذلوا إليهم أموالهم، وآثروهم على أنفسهم، ونصروهم على أعدائهم61.

فإذا كانوا قد نقصوا عن إخوانهم -المهاجرين- فضل الهجرة، فقد عوضوا عن ذلك بفضل الإيواء والنصرة62.

حيث استقبل الأنصار المهاجرين، فشاطروهم المال والديار؛ بكرم وسخاء، وضربوا مثلًا رائعًا في التكافل، وبناء الجماعة المسلمة، وآووا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنعوه من الأحمر والأسود، وتبوءوا دار الهجرة والإيمان، حتى صارت موئلًا ومرجعًا يرجع إليه المؤمنون، ويلجأ إليه المهاجرون، ويسكن بحماه المسلمون؛ إذ كانت البلدان كلها بلدان حرب وشرك وشر.

فلم يزل أنصار الدين يأوون إلى الأنصار، حتى انتشر الإسلام وقوي، وجعل يزيد شيئًا فشيئًا، وينمو قليلًا قليلًا، حتى فتحوا القلوب بالعلم والإيمان والقرآن، والبلدان بالسيف والسنان.

وقوله في الآية: () أي: نصروا الرسول وأصحابه على أعدائهم الكفار، وما سموا بالأنصار إلا لذلك؛ ولقد قال حسان رضي الله عنه في مدح الأنصار أنهم ما سموا أنصارًا إلا لنصرتهم الدين63:

سماهم الله أنصارًا بنصرهم

دين الهدى وعوان الحرب تستعر

وسارعوا في سبيل الله واعترفوا

للنائبات وما خافوا وما ضجروا

وقد ذكر الله تعالى هذه الصفة وهي (النصرة) في آيتين، فقال: ( ﯨﯩ ) [الأنفال: ٧٤]. وقال تعالى: ( )[الأنفال: ٧٢].

والنصرة في المدلول القرآني واللغوي والتاريخي بمعنى: العون، والظفر، والمنع، والانتقام، والانتصار، وشد الأزر، ولقد شرف الله سبحانه وتعالى المسلمين الأول بشرف لا يدانيه شرف، حيث أجزل لهم الثواب، وأحسن لهم المدح والثناء في أعظم كتاب، وخص كلًا من الفريقين المتآخيين (المهاجرين والأنصار) بعمل عظيم جليل، ناداهم به فسموا مهاجرين وأنصارًا، وما ذلك إلا للهجرة والنصرة، فالهجرة كانت إعلانًا للدولة، وانتقالًا لدار الإسلام، والنصرة هي التي هيأت للهجرة ولوجود دار الإسلام، فكيف يغفل أحد من المسلمين عن فضل الهجرة أو النصرة، وهو يتلو كتاب الله الذي يذكر المهاجرين والأنصار وفضلهما؟!

وكانت هذه النصرة وفاء منهم لمبايعة النبي صلى الله عليه وسلم لهم في بيعة العقبة الثانية، حيث ثبت أنه قال لهم: (أبايعكم على أن تمنعوني -إذا قدمت عليكم- مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم، ولكم الجنة)64. فبايعوه على النصرة والمنعة، فقام منهم اثني عشر نقيبًا كفلاء على قومهم، ثم استمر الحال حتى أذن الله للمسلمين بالهجرة، وقامت أول دولة للمسلمين65.

ونلحظ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يطلب النصرة لأمرين مهمين في غاية الأهمية:

أولهما: حماية الدعوة، حتى تسير بين الناس محمية الجانب، بعيدة عن الإساءة إلى أتباعها.

ثانيهما: إيجاد مكان آمن لدولته صلى الله عليه وسلم القادمة؛ ليتسلم خلالها مقاليد الحكم والسلطان على وفق مقتضيات النبوة على أساس الدعوة.

وختم الله تعالى الآية الأخرى بقوله: ( )[الأنفال: ٧٢]]. أي: إن هاتين الفرقتين (المهاجرين والأنصار) بعضهم أنصار بعض، وأعوان على من سواهم من المشركين، وأيديهم واحدة على من كفر بالله، وبعضهم إخوان لبعض دون أقربائهم الكفار.

وقد قيل: إنما عنى بذلك أن بعضهم أولى بميراث بعض، وأن الله ورث بعضهم من بعض بالهجرة والنصرة دون القرابة والأرحام، وأن الله نسخ ذلك بعد، بقوله: ( ﯿ ) [الأنفال: ٧٥] وهذا القول لأبن عباس رضي الله عنه 66.

قال الشوكاني: «أي: بعضهم أولياء بعض في النصرة والمعونة، وقيل المعنى: إن بعضهم أولياء بعض في الميراث، وقد كانوا يتوارثون بالهجرة والنصرة، ثم نسخ ذلك بقوله سبحانه: ( ﯿ ) [الأنفال: ٧٥67.

فالولاية محبة ومودة ومناصرة، وقد اجتمعت كل هذه الأحوال في ولاية المؤمنين المهاجرين والأنصار، فقد اجتمعت فيهم المودة فتوادوا وتحابوا، وتناصروا وجاهدوا جميعًا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، ولقد جمعت المؤاخاة معنى المودة والمحبة والإيثار، وجمع الجهاد معنى النصر والتبعات بالجهاد في سبيل الله68.

وقد ذكر الله بعد ذلك شأن الذين يهاجرون ويؤمنون من بعد، فقال: ( ﯷﯸ ﯿ ﰀﰁ )[الأنفال: ٧٥].

فهذا يدل على أن باب الإيمان مفتوح، وباب الهجرة مفتوح، وميدان الجهاد متسع للجميع، فلم يغلق على المجاهدين الأولين من المهاجرين والأنصار فقط، بل هو مفتوح، وهذه الآية الكريمة تلحق الذين يؤمنون من بعد ويهاجرون بالأولين الذين هم المؤمنون حقًا.

وإذا كان هذا الوصف (النصرة) في الأنصار، فالمهاجرون من باب أولى، فهم أنصار في المعنى، فمعنى النصرة حاصل للكل، ومن الكل، فهم قد هجروا ديارهم وأموالهم، كما قال تعالى: ( ) [الحشر: ٨].

وأثنى عليهم بأنهم يطلبون فضلًا من الله ورضوانًا، فقال: ( ) وأثبت لهم صفة النصرة، فقال: ( ) وأثنى عليهم بالصدق، فقال: ( ) فرضي الله عن المهاجرين والأنصار ومن تبعهم بإحسان.

فضائل الأنصار

عرض القرآن الكريم فضائل الأنصار وهذا ما سنبينه فيما يأتي:

أولًا: وصفهم بالإيمان الحق:

وصف الله تعالى الأنصار بالإيمان الحق، فقال سبحانه: ( ﯨﯩ ) [الأنفال: ٧٤].

فقوله: ( ﯨﯩ) الإشارة إلى السابقين الأولين (من المهاجرين والأنصار) والإشارة إلى الموصوف إشارة إلى أوصافه، وجعلها مناط الحكم، أي: أولئك الذين هاجروا بعد الإيمان، وجاهدوا في سبيل الله، والذين آووا ونصروا هم المؤمنون حقًا، أي: إيمانًا ثابتًا صادقًا حقًا، تلاقت أقوالهم وقلوبهم وأعمالهم69.

فسبق منهم هجرة وجهاد، وإيواء ونصرة، وهذا هو الإيمان الحق، وفي الكلام قصر، أي: من كانوا على هذه الصفات هم وحدهم المؤمنون حقًا، أي: لا مؤمنون حقًا غيرهم، ومن هم على صفاتهم.

وفي هذه الآية وصفٌ لعموم المهاجرين والأنصار بالإيمان الحق، فجمع الله فيها الفضل لفريقي الصحابة، وهم المهاجرون والأنصار، من هاجر، ومن آوى، فاستوى الأنصار مع المهاجرين في عامل النصرة، وفي صدق الإيمان، فشهد لهم بحقيقة الإيمان، ووعدهم بالمغفرة والرزق الواسع، ومن شهد الله له بهذه الشهادة، فقد بلغ أعلى مرتبة العدالة.

ثم قال: ( ) [الأنفال: ٧٤]. ذكر الله تعالى هنا ما كتب لهم من خيري الدنيا والآخرة، وهذا يتضمن جزاءين:

أولهما: المغفرة السابقة، ووراءها الرحمة والنعيم المقيم.

ثانيهما: رزق كريم واسع في الدنيا بعد المشقة التي تحملوها، وهذا شأن المهاجرين الذين آمنوا، وشأن الأنصار الذين آووا ونصروا70.

فيكون الله قد أثنى عليهم ها هنا من ثلاثة أوجه:

أولها: قوله: ( ﯨﯩ) فقوله: ( ﯨﯩ) يفيد الحصر، وقوله: (ﯨﯩ) يفيد المبالغة في وصفهم بكونهم محقين محققين في طريق الدين، وقد كانوا كذلك؛ لأن من لم يكن محقًا في دينه لم يتحمل ترك الأديان السالفة، ولم يفارق الأهل والوطن، ولم يبذل النفس والمال، ولم يكن في هذه الأحوال من المسارعين المسابقين.

وثانيها: قوله: ( ) والتنكير يدل على الكمال، أي: مغفرة تامة كاملة.

وثالثها: قوله: ( ) والمراد منه: الثواب الرفيع الشريف71.

وعن السائب بن يزيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا معشر الأنصار، ألم يمن الله عليكم بالإيمان، وخصكم بالكرامة، وسماكم بأحسن الأسماء: أنصار الله، وأنصار رسوله؟!)72.

فالأنصار إذن حازوا شرفين: شرف سبقهم إلى الإيمان، وشرف استضافتهم للإيمان وأهله في أرضهم.

ومدحهم بأنهم أناس سكنوا الإيمان، وسكن الإيمان في قلوبهم، فقال: ( ) [الحشر: ٩].

فقوله: () الأظهر أن (الذين) هنا عطف على (المهاجرين) -في الآية السابقة-، أي: والذين تبوءوا الدار هم الأنصار73.

وقوله: ( ) من مادة (بواء) على وزن (دواء) وهي في الأصل بمعنى تساوي أجزاء المكان، وبعبارة أخرى يقال: (بواء) لترتيب وتسوية مكان (ما) وفي هذا التعبير كناية لطيفة لهذا المعنى، وهو أن طائفة الأنصار -أهل المدينة- قد هيئوا الأرضية المناسبة للهجرة.

وقوله: () الدار تطلق على البلاد، وأصلها: موضع القبيلة من الأرض، وأطلقت على القرية.

قال تعالى في ذكر ثمود: ( ) [الأعراف: ٧٨].

أي: في مدينتهم، وهي حجر ثمود، والتعريف هنا للعهد؛ لأن المراد بالدار: المدينة النبوية، والمعنى: الذين هم أصحاب الدار74، أي: دار الهجرة مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد تبوأها الأنصار قبل المهاجرين، كما تبوءوا فيها الإيمان، وكأنه منزل لهم ودار، وهو تعبير ذو ظلال، وهو أقرب ما يصور موقف الأنصار من الإيمان، لقد كان دارهم ونزلهم ووطنهم الذي تعيش فيه قلوبهم، وتسكن إليه أرواحهم، ويثوبون إليه، ويطمئنون له، كما يثوب المرء ويطمئن إلى الدار.

وفي قوله: () هذا تشريف للمدينة، حيث سماها الله الدار، فكأنها هي دار الإيمان؛ لأن الإيمان أوى إليها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها)75.

فالتعريف في () للتنويه كأنها الدار التي تستحق أن تسمى دارًا، وهي التي أعدها الله تعالى لهم؛ ليكون تبوؤهم إياها مدحًا لهم.

وذكر بعضهم أن الدار علمٌ بالغلبة على المدينة، كالمدينة، وأنه أحد أسمائها، ومنها: طيبة، وطابة، ويثرب، وجابرة76.

وفي ذكر الدار -وهي المدينة- مع ذكر الإيمان إيماء إلى فضيلة المدينة، بحيث جعل تبوؤهم المدينة قرين الثناء عليهم بالإيمان، ولعل هذا هو الذي عناه مالك -رحمة الله- فيما رواه عنه ابن وهب قال: سمعت مالكًا يذكر فضل المدينة على غيرها من الآفاق، فقال: إن المدينة تبوأت بالإيمان والهجرة، وإن غيرها من القرى افتتحت بالسيف. ثم قرأ: ( ) [الحشر: ٩]الآية77.

وجاء عنه صلى الله عليه وسلم: (أمرت بقرية تأكل القرى)78 .

والمقصود: المدينة، أي: يغلب أهلها، وهم الأنصار بالإسلام على غيرها من القرى، وينصر الله دينه بأهلها، ويفتح القرى عليهم، ويغنمهم إياها فيأكلونها79.

وقوله: () [الحشر: ٩]أي: سكنوا الإيمان، والإيمان لا يسكن، وإنما شبه الإيمان كأنه دار سكنوها؛ لأن الدار يستقر فيها الإنسان، فهؤلاء الأنصار سكنوا الإيمان، بمعنى: استقر الإيمان في قلوبهم، والإنسان يلازم داره، بمعنى: يستقر ويطمئن ويستريح فيه، وهؤلاء لازموا الإيمان كملازمة الإنسان لمسكنه، وهذه شهادة لهم بالإيمان -رضي الله تعالى عنهم-، فهم مؤمنون صادقون، استقر الإيمان في قلوبهم.

قال ابن جزي: «فإن قيل: كيف قال: تبوءوا الدار والإيمان، وإنما تتبوأ الدار، أي: تسكن ولا يتبوأ الإيمان؟

فالجواب من وجهين:

الأول: أن معناه تبوءوا الدار، وأخلصوا الإيمان، فهو كقولك:

علفتها تبنًا وماء باردًا80.

تقديره: علفتها تبنًا، وسقيتها ماء باردًا.

والثاني: أن المعنى: أنهم جعلوا الإيمان كأنه موطن لهم؛ لتمكنهم فيه، كما جعلوا المدينة كذلك»81.

فيكون في عطف الإيمان على الدار ستة أوجه:

أحدها: أنه ضمن () معنى: لزموا، فيصح عطف الإيمان عليه؛ إذ الإيمان لا يتبوأ.

الثاني: أنه منصوب بمقدر، أي: واعتقدوا، أو وألفوا، أو وأحبوا، أو وأخلصوا؛ كقوله:

علفتها تبنًا وماءً باردًا

وقوله:

متقلدًا سيفًا ورمحا 82

أي: وحاملًا رمحًا.

الثالث: أنه يتجوز في الإيمان، إن الإيمان مجاز عن المدينة، سمي محل ظهور الشيء باسمه مبالغة، فيجعل اختلاطه بهم وثباتهم عليه كالمكان المحيط بهم، فكأنهم نزلوه، وعلى هذا فيكون جمع بين الحقيقة والمجاز في كلمة واحدة، وفيه خلاف مشهور.

الرابع: أن يكون الأصل: دار الهجرة ودار الإيمان، فأقام (لام) التعريف في (الدار) مقام المضاف إليه، وحذف المضاف من دار الإيمان، ووضع المضاف إليه مقامه.

الخامس: أن يكون سمى (المدينة)؛ لأنها دار الهجرة ومكان ظهور الإيمان.

السادس: أنه منصوب على المفعول معه (الواو للمعية) أي: مع الإيمان معًا، والمراد تبوءوا الدار مع إيمانهم، أي: تبوءوها مؤمنين83.

والضمير في قوله: ( ) [الحشر: ٩].

للمهاجرين، والجار متعلق بتبوء، أي: من قبل أن يهاجر المهاجرون إليهم، وقد أسلم كثير من الأنصار قبل المهاجرين، لكن المقصود -والله وأعلم- بقوله: ( ) [الحشر: ٩] أي: من قبل أن يهاجر المهاجرون، وأن الأنصار أسلم كثير من كبارهم وسادتهم على يد مصعب بن عمير رضي الله عنه قبل أن يهاجر كثير من المهاجرين -رضي الله تعالى عنهم-، وقبل أن تصبح المدينة دار الهجرة التي أوى إليها النبي عليه الصلاة والسلام، فكثير من الأنصار كان قد أسلم، ودخل الإيمان في قلوبهم، واستقر على يد مصعب بن عمير رضي الله عنه، فهو من فتح الله به المدينة المنورة بدعوته إلى الله، وسلوكه الطيب، حتى ما بقي بيت من بيوت المدينة إلا ودخله الإيمان.

وقد أورد ابن جزي إشكالًا، وأجاب عليه، حيث قال: «فإن قيل: قوله: ( ) [الحشر: ٩].

يقتضي أن الأنصار سبقوا المهاجرين بنزول المدينة وبالإيمان، فأما سبقهم لهم بنزول المدينة فلا شك فيه؛ لأنها كانت بلدهم، وأما سبقهم لهم بالإيمان فمشكل؛ لأن أكثر المهاجرين أسلم قبل الأنصار.

قال: والجواب من وجهين:

أحدهما: أنه أراد بقوله: ( ) [الحشر: ٩] من قبل هجرتهم.

والآخر: أنه أراد تبوءوا الدار مع الإيمان معًا، أي: جمعوا بين الحالتين قبل المهاجرين؛ لأن المهاجرين إنما سبقوهم بالإيمان لا بتبوء الدار، فيكون الإيمان على هذا مفعولًا معه، وهذا الوجه أحسن؛ لأنه جواب عن هذا السؤال، وعن السؤال الأول فإنه إذا كان الإيمان مفعولًا معه لم يلزم السؤال الأول؛ إذ لا يلزم إلا إذا كان الإيمان معطوفًا على الدار»84.

وجعل الألوسي ذلك من قبل تقدير مضاف، حيث قال: «والكلام بتقدير مضاف، أي: من قبل هجرتهم، فنهاية ما يلزم سبق الإيمان الأنصار على هجرة المهاجرين، ولا يلزم منه سبق إيمانهم على إيمانهم؛ ليقال: إن الأمر بالعكس، وجوز أن لا يقدر مضاف، ويقال: ليس المراد سبق الأنصار لهم في أصل الإيمان، بل سبقهم إياهم في التمكن فيه؛ لأنهم لم ينازعوا فيه لما أظهروه.

وقيل: الكلام على التقديم والتأخير، والتقدير: تبوءوا الدار من قبلهم والإيمان، فيفيد سبقهم إياهم في تبوء الدار فقط، وهو خلاف الظاهر، على أن مثله لا يقبل ما لم يتضمن نكتة سرية، وهي غير ظاهرة ها هنا؛ وقيل: لا حاجة إلى شيء مما ذكر، وقصار ما تدل الآية عليه تقدم مجموع تبوء الأنصار وإيمانهم على تبوء المهاجرين وإيمانهم، ويكفي في تقديم المجموع تقدم بعض أجزائه، وهو ها هنا تبوء الدار، وتعقب بمنع الكفاية، ولو سلمت لصح أن يقال: بتقدم تبوء المهاجرين وإيمانهم على تبوء الأنصار وإيمانهم؛ لتقدم إيمان المهاجرين»85.

ووصف الله الأنصار أيضًا بالإيمان والاستجابة لله، كما جاء في تفسير قوله تعالى: ( ) [الشورى: ٣٨].

أنها نزلت في الأنصار، حين دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإيمان، فاستجابوا له؛ أي: لرسول الله من صميم القلب، كما هو المفهوم من إطلاق الاستجابة، وفيه إشارة إلى أن الاستجابة للرسول استجابة للمرسل، فهو من عطف الخاص على العام لمزيد التشريف، وذلك لأن الاستجابة داخلة في الإيمان86.

قال الألوسي: ( ) [الشورى: ٣٨].

قيل: نزلت في الأنصار، دعاهم الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم للإيمان به وطاعته سبحانه، فاستجابوا له، فأثنى عليهم -جل وعلا- بما أثنى، وعليه فهو من ذكر الخاص بعد العام؛ لبيان شرفه؛ لأيمانهم دون تردد وتلعثم، والآية إن كانت مدنية فالأمر ظاهر، وإذا كانت مكية فالمراد بالأنصار من آمن بالمدينة قبل الهجرة، أو المراد بهم أصحاب العقبة87.

وقال الشوكاني: «قال ابن زيد: هم الأنصار بالمدينة استجابوا إلى الإيمان بالرسول حين أنفذ إليهم اثني عشر نقيبًا منهم قبل الهجرة، وأقاموا الصلاة لمواقيتها بشروطها وهيئاتها»88.

ووصف الله الأنصار بالإيمان والعمل الصالح، كما جاء عن ابن عباس في قوله: ( ) [محمد: ٣٤]. قال: هم أهل مكة، ( ) [محمد: ٢]. قال: هم أهل المدينة الأنصار ( ) [محمد: ٢]. قال: أمرهم89.

ووصفوا بأنهم رجال؛ وسماهم الله رجال، فقال: ( ﭯﭰ ﭻﭼ ﭿ ﮁﮂ ) [التوبة: ١٠٨].

فقد جاء ما يدل أنها نزلت في الأنصار، فعن أبي أيوب وجابر وأنس رضوان الله عليهم أن هذه الآية حين نزلت: ( ﭿ ﮁﮂ ) [التوبة: ١٠٨].

قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا معشر الأنصار إن الله قد أثنى عليكم في الطهور، فما طهوركم؟) قالوا: نتوضأ للصلاة، ونغتسل من الجنابة، ونستنجي بالماء، قال: (فهو ذاك، فعليكموه)90.

وعن موسى بن أبي كثير قال: بدء حديث هذه الآية في رجال من الأنصار، من أهل قباء91.

وقوله: ( ﭿ ﮁﮂ) [التوبة: ١٠٨].

أي: من الأحداث والجنابات والنجاسات...، وقالوا: المراد منه: الطهارة بالماء بعد الحجر، وقيل: المراد منه: الطهارة من الذنوب والمعاصي، وقيل: محمول على الأمرين92.

فتكون جملة: ( ﭿ ﮁﮂ) ثناء على مؤمني الأنصار الذين يصلون بمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبمسجد قباء، وجاء الضمير مفردًا مراعاة للفظ (مسجد) الذي هو جنس93.

ثانيًا: توبة الله على الأنصار، وتجاوزه عن تقصيرهم:

قال تعالى: ( ﯯﯰ ) [التوبة: ١١٧].

نزلت هذه الآية في غزوة تبوك التي كانت قبل الشام، وكان فيها جيش العسرة من المهاجرين والأنصار، ومن غيرهم من القبائل التي حول المدينة ومكة، ولكنهم خصوا بالثناء والتوبة؛ لأنهم لم يترددوا، ولم يتثاقلوا، ولا شحوا بأموالهم، فكانوا أسوة لمن ائتسى بهم من غيرهم من القبائل94.

ففي قوله: ( ) خبر مؤكد بلام القسم على حرف التحقيق (قد) بين فيه تعالى فضل عطفه على نبيه وأصحابه المؤمنين الصادقين من المهاجرين والأنصار، وتجاوزه عن هفواتهم في هذه الغزوة، وفي غيرها لاستغراقها في حسناتهم الكثيرة على كونهم لا يصرون على شيء منها، وإنما كانت هفواتهم هذه مقتضى الطباع البشرية، واجتهاد الرأي فيما لم يبينه الله تعالى بيانًا قطعيًا يعد مخالفه عاصيًا.

يقول ابن عاشور: «وافتتاح الله هذه الآية بحرف التحقيق (لقد)؛ تأكيدًا لمضمونها المتقرر فيما مضى من الزمان، حسبما دل عليه الإتيان بالمسندات كلها أفعالًا ماضية.

ومن المحسنات افتتاح هذا الكلام بما يؤذن بالبشارة لرضا الله على المؤمنين الذين غزوا تبوك، وتقديم النبي صلى الله عليه وسلم في تعلق فعل التوبة بالغزاة؛ للتنويه بشأن هذه التوبة، وإتيانها على جميع الذنوب؛ إذ قد علم المسلمون كلهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد غفر الله ما تقدم من ذنبه وما تأخر»95.

وهذه التوبة التي تابها الله على النبي والمهاجرين والأنصار -كما قال ابن عباس-: كانت التوبة على النبي لأجل إذنه للمنافقين في القعود، ودليله قوله: ( ) [التوبة: ٤٣].

وعلى المؤمنين من ميل قلوب بعضهم إلى التخلف عنه، وقيل: توبة الله عليهم استنقاذهم من شدة العسرة.

وقيل: خلاصهم من نكاية العدو، وعبر عن ذلك بالتوبة وإن خرج عن عرفها لوجود معنى التوبة فيه، وهو الرجوع إلى الحالة الأولى96.

يقول شيخ المفسرين الطبري: «يقول تعالى ذكره: لقد رزق الله الإنابة إلى أمره وطاعته نبيه محمدًا، والمهاجرين ديارهم وعشيرتهم إلى دار الإسلام، وأنصار رسوله في الله الذين اتبعوا رسول الله في ساعة العسرة منهم من النفقة والظهر والزاد والماء»97.

فيكون معنى توبته على النبي أي: بإذنه للمنافقين بالتخلف عنه98.

وقال أهل المعاني: هو مفتاح كلام، وذلك أنه لما كان سبب توبة التائبين ذكر معهم، كقوله: ( ) [الأنفال: ٤١]99.

وهذه التوبة على المهاجرين والأنصار في ساعة العسرة سببها كما قال الرازي: «ربما وقع في قلوبهم نوع نفرة عن تلك السفرة، وربما وقع في خاطر بعضهم أنا لسنا نقدر على الفرار، ولم يعزموا عليه، بل وساوس كانت تقع في قلوبهم، فالله تعالى بين في آخر هذه السورة أنه بفضله عفا عنها، فقال: ( ) [التوبة: ١١٧].

والوجه الثاني في الجواب: أن الإنسان طول عمره لا ينفك عن زلات وهفوات، إما من باب الصغائر، وإما من باب ترك الأفضل، ثم إن النبي وسائر المؤمنون لما تحملوا مشاق هذا السفر ومتاعبه، وصبروا على تلك الشدائد والمحن، أخبر الله تعالى أن تحمل تلك الشدائد صار مكفرًا لجميع الزلات التي صدرت عنهم في طول العمر، وصار قائمًا مقام التوبة المقرونة بالإخلاص عن كلها.

والوجه الثالث في الجواب: أن الزمان لما اشتد عليهم في ذلك السفر، وكانت الوساوس تقع في قلوبهم، فكلما وقعت وسوسة في قلب واحد منهم تاب إلى الله منها، وتضرع إلى الله في إزالتها عن قلبه، فلكثرة إقدامهم على التوبة بسبب خطرات تلك الوساوس ببالهم، قال تعالى: ( ) [التوبة: ١١٧]...الآية.

والوجه الرابع: لا يبعد أن يكون قد صدر عن أولئك الأقوام أنواع من المعاصي، إلا أنه تعالى تاب عليهم، وعفا عنهم لأجل أنهم تحملوا مشاق ذلك السفر، ثم إنه تعالى ضم ذكر الرسول عليه الصلاة والسلام إلى ذكرهم؛ تنبيهًا على عظم مراتبهم في الدين، وأنهم قد بلغوا إلى الدرجة التي لأجلها ضم الرسول عليه الصلاة والسلام إليهم في قبول التوبة»100.

وقوله تعالى: ( ) [التوبة: ١١٧].

() من أفعال المقاربة، تعمل في اسمين (عمل كان) واسمها هنا ضمير شأن مقدر، وخبرها هو جملة الخبر عن ضمير الشأن، وإنما جعل اسمها هنا ضمير شأن؛ لتهويل شأنهم حين أشرفوا على الزيغ.

واختلف في معنى (تزيغ) فقيل: تتلف بالجهد والمشقة والشدة، وقيل: تعدل -أي تميل- عن الحق في الممانعة والنصرة، وقيل: من بعد ما هم فريق منهم بالتخلف والعصيان ثم لحقوا به، وقيل: هموا بالقفول فتاب الله عليهم، وأمرهم به101.

وقوله تعالى: ( ) هذا تأكيد ظاهر، واعتناء بشأن التوبة، هذا إن كان الضمير راجعًا إلى من تقدم ذكر التوبة عنهم، وإن كان الضمير إلى الفريق فلا تكرار102. والمعنى: قيل: توبته عليهم أن تدارك قلوبهم حتى لم تزغ، وكذلك سنة الحق مع أوليائه إذا أشرفوا على العطب، ووطنوا أنفسهم على الهلاك أمطر عليهم سحائب الجود، فأحيا قلوبهم103.

فإن قيل: ذكر التوبة في أول الآية وفي آخرها، فما فائدة التكرار؟

فالجواب من وجوه:

أحدها: أنه تعالى ابتدأ بذكر التوبة قبل ذكر الذنب؛ تطييبًا لقلوبهم، ثم لما ذكر الذنب أردفه مرة أخرى بذكر التوبة؛ تعظيمًا لشأنهم.

وثانيها: إذا قيل: عفا السلطان عن فلان ثم عفا عنه، دل على أن ذلك العفو متأكد، بلغ الغاية القصوى في الكمال والقوة. . .، وهذا معنى قول ابن عباس في قوله: ( ) يريد ازداد عنهم رضًا، قال ابن عباس: من تاب الله عليه لم يعذبه أبدًا.

وثالثها: أنه قال: ( ) [التوبة: ١١٧].

وهذا الترتيب يدل على أن المراد أنه تعالى تاب عليهم من الوساوس التي كانت تقع في قلوبهم في ساعة العسرة،

ثم إنه تعالى زاد عليه فقال: ( ) [التوبة: ١١٧].

فهذه الزيادة أفادت حصول وساوس قوية، فلا جرم أتبعها تعالى بذكر التوبة مرة أخرى؛ لئلا يبقى في خاطر أحدٍ شك في كونهم مؤاخذين بتلك الوساوس104.

وفي قصة توبة الله على النبي والمهاجرين والأنصار وعلى الثلاثة، فوائد ومسائل، منها:

في هذه الآيات دليل على أن توبة الله على العبد أجل الغايات، وأعلى النهايات، فإن الله جعلها نهاية خواص عباده، وامتن عليهم بها، حين عملوا الأعمال التي يحبها ويرضاها، وفيها لطف الله بهم، وتثبيتهم في إيمانهم عند الشدائد والنوازل المزعجة.

وفي الآيات أيضًا دليل على أن العبادة الشاقة على النفس لها فضل ومزية ليست لغيرها، وكلما عظمت المشقة عظم الأجر، وأن توبة الله على عبده بحسب ندمه وأسفه الشديد، وأن من لا يبالي بالذنب، ولا يحرج إذا فعله، فإن توبته مدخولة، وإن زعم أنها مقبولة.

وأن علامة الخير وزوال الشدة إذا تعلق القلب بالله تعالى تعلقًا تامًا، وانقطع عن المخلوقين.

وأن من لطف الله بالثلاثة أن وسمهم بوسم ليس بعار عليهم، فقال: () إشارة إلى أن المؤمنين خلفوهم، أو خلفوا عن من بت في قبول عذرهم، أو في رده، وأنهم لم يكن تخلفهم رغبة عن الخير؛ ولهذا لم يقل: (تخلفوا).

ومن فوائد الآيات: أن الله تعالى من عليهم بالصدق؛ ولهذا أمر بالاقتداء بهم، فقال: ( ) [التوبة: ١١٩]105.

يقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: واعلم أن لله تعالى على عبده توبتين؛ التوبة الأولى: قبل توبة العبد؛ وهي التوفيق للتوبة؛ والتوبة الثانية: بعد توبة العبد؛ وهي قبول التوبة؛ وكلاهما في القرآن؛ قال الله تبارك وتعالى: ( ﭪﭫ ) [التوبة: ١١٨].

فقوله تعالى: ( ﭪﭫ) أي: وفقهم للتوبة، وقوله تعالى: (ﭪﭫ) أي: يقوموا بالتوبة إلى الله؛ وأما توبة القبول ففي قوله تعالى: ( ) [الشورى: ٢٥].

ومن فوائد الآيات:


1 انظر: مختار الصحاح،١/٦٨٨، معجم اللغة العربية المعاصرة، أحمد مختار عمر، ٣/٢٢٢٠.

2 انظر: مغاني الأخيار في شرح أسامي رجال معاني الآثار، العيني ٣/٣٨٢.

3 انظر: المصدر السابق.

4 انظر: المعجم المفهرس الشامل لألفاظ القرآن الكريم، عبد الله جلغوم، ص١٣٢٥-١٣٢٨.

5 انظر: بصائر ذوي التمييز، الفيروزآبادي ٥/٦٩.

6 انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، ابن الأثير، ٣/١٢.

7 انظر: نزهة النظر، ابن حجر العسقلاني، ص١٤٠.

8 انظر: تهذيب اللغة، الأزهري،٦/٢٩، معجم اللغة العربية المعاصرة، أحمد مختار عمر،٣/٢٣٢٥.

9 انظر: الكليات، الكفوي، ص٨٨٣.

10 انظر: أساس البلاغة، الزمخشري، ١/٦١١، تاج العروس، الزبيدي،٢٦/١٠٢.

11 انظر: العين، الفراهيدي، ٢/٧٨.

12 انظر: الضوء اللامع المبين عن مناهج المحدثين، أحمد ناجي، ص، ١٦٨.

13 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٣/٢٦٨.

14 معالم التنزيل، البغوي ٣/١٦٦.

15 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٧/٣٤.

16 جامع البيان، الطبري ١١/٥١٨.

17 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٨/٤٢.

18 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المغازي، باب قوله: (إذ همت طائفتان منكم)، ٥/ ٩٦، رقم ٤٠٥١ ومسلم في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل الأنصار،رضي الله عنهم، رقم ٢٥٠٥.

19 انظر: زاد المسير، ابن الجوزي ١/٤٤٩.

20 منهاج السنة النبوية ١/١٥٤.

21 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجمعة، باب فرض الجمعة، ٢/ ٢، رقم ٨٧٦، ومسلم في صحيحه، كتاب الجمعة، باب هداية هذه الأمة ليوم الجمعة ٢/ ٥٨٥، رقم ٨٥٥.

22 أحكام القرآن، ابن العربي ٤/٤٠٦.

23 مفاتيح الغيب، الرازي ٨/١٢٧.

24 فتح القدير ٢/٥٧٧.

25 زاد المسير، ابن الجوزي ٣/٤٩١.

26 جامع البيان، ١٤/٤٣٩.

27 تفسير القرآن العظيم، ٤/٢٠٣.

28 المصدر السابق.

29 صفوة التفاسير، الصابوني ١/٣٧٤.

30 محاسن التأويل، القاسمي ٢/٥٠.

31 في ظلال القرآن ٧/١٦٥.

32 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٨/٦٩.

33 محاسن التأويل، القاسمي ٢/٥٠.

34 عمدة القاري ٢٤/٤١١.

35 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب مناقب الأنصار، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار:(أنتم أحب الناس إلي)، ٥/ ٣٢، رقم ٣٧٨٦، ومسلم في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل الأنصار، ٤/ ١٩٤٨، رقم ٢٥٠٨.

36 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الإيمان، باب علامة الإيمان حب الأنصار، ١/ ١٢، رقم ١٧، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب الدليل على أن حب الأنصار وعلي رضي الله عنهم من الإيمان وعلاماته، وبغضهم من علامات النفاق ١/٨٥، رقم ٧٤.

37 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب مناقب الأنصار، باب حب الأنصار، ٥/٣٢، رقم ٣٧٨٣، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب الدليل على أن حب الأنصار وعلي رضي الله عنهم من الإيمان وعلاماته، وبغضهم من علامات النفاق ١/٨٥، رقم ٧٥.

38 انظر: فتح الباري، ابن حجر ١/ ١٦٣.

39 الجامع لأحكام القرآن، ١٨/ ٢٦.

40 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، باب قوله: (ويؤثرون على أنفسهم)، ٦/ ١٤٨، رقم ٤٨٨٩.

41 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، باب قوله: (ويؤثرون على أنفسهم)، ٥/ ٣٤، رقم ٣٧٩٨.

42 انظر: زاد المسير، ابن الجوزي ٤/٢٥٨.

43 انظر: الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ١٨/٢٥.

44 التسهيل لعلوم التنزيل، ابن جزي ٢/٣٦٠.

45 مفاتيح الغيب، الرازي ٢٩/٥٠٨.

46 المصدر السابق.

47 انظر: المصدر السابق.

48 مفاتيح الغيب، الرازي ٢٩/٥٠٨.

49 تفسير القرآن العظيم، ٨/٧١.

50 أخرجه البزار في مسنده، رقم ٧٢٩٣ والطبراني في المعجم الأوسط ٥٧٥٤.

وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب ٢/ ٣٥٦، رقم ٢٦٠٧.

51 روح البيان، إسماعيل حقي ٩/٣٥٣.

52 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإمارة، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية، وتحريمها في المعصية ٣/١٤٧٠، رقم ١٧٠٩.

53 أحكام القرآن، ابن العربي ٧/٣٠٨.

54 فتح القدير ٥/٢٠١

55 المصدر السابق ٥/٢٨٢.

56 انظر: زاد المسير، ابن الجوزي ٨ /٢١٢.

57 مجموع فتاوى ابن تيمية ١٠/١١٩.

58 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجزية، باب ما أقطع النبي صلى الله عليه وسلم من البحرين، وما وعد من مال البحرين والجزية، ولمن يقسم الفيء والجزية ٤/ ٩٨، رقم ٣١٦٣، ومسلم في صحيحه، كتاب الإمارة، باب الأمر بالصبر عند ظلم الولاة واستئثارهم ٣/ ١٤٧٤، رقم ١٨٤٥.

59 أحكام القرآن، ابن العربي ٧/٣١٠.

60 انظر: لطائف الإشارات، القشيري ٣/٥٦١.

61 محاسن التأويل، القاسمي ٢٣/ ٢.

62 زهرة التفاسير، أبو زهرة ١/٣٢٠١.

63 انظر: ديوان حسان بن ثابت ص٩٩.

64 أخرجه أحمد في مسنده، ٢٥/٩٢، رقم ١٥٧٨٩.

65 انظر: السيرة النبوية، ابن هشام ٢/١٩٧- ٢٠٩.

66 انظر: جامع البيان، الطبري ١٠/٥١، تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٤/٩٥.

67 فتح القدير ٢/٤٧٨.

68 انظر: زهرة التفاسير، أبو زهرة ٦/٣٢٠٢.

69 المصدر السابق ٦/٣٢٠٦.

70 انظر: المصدر السابق ٦/٣٢٠٩.

71 انظر: مفاتيح الغيب، الرازي ١٥/٥١٩.

72 أخرجه الطبراني في الكبير ٧/ ١٥١، رقم ٦٦٦٥.

73 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٢٨/٩٠.

74 المصدر السابق.

75 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل المدينة، باب الإيمان يأرز إلى المدينة ٣/ ٢١، رقم ١٨٧٦، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب بيان أن الإسلام بدأ غريبًا وسيعود غريبًا، وأنه يأرز بين المسجدين ١/١٣١، رقم ١٤٧.

76 روح المعاني، الألوسي ٢٠/٤٢٥.

77 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٢٨/٩١.

78 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل المدينة، باب فضل المدينة وأنها تنفي الناس ٣/ ٢٠، رقم ١٨٧١، ومسلم في صحيحه، كتاب الحج، باب المدينة تنفي شرارها، ٢/١٠٠٦، رقم ١٣٨٢.

79 انظر: النهاية في غريب الأثر، ابن الأثير ١/١٤٤.

80 البيت في خزانة الأدب ٣/ ١٣٩، وفي العباب الزاخر ١/٤٨١، وتمامه: «حتى شتت همالةً عيناها».

81 التسهيل لعلوم التنزيل، ٣/١٥٧.

82 البيت في الكامل في اللغة ١/ ٢٩١ وشرح ديوان الحماسة ص ٨٠٥ غير منسوب لقائل، وصدره: «يا ليت بعلك قد غذا».

83 انظر: اللباب في علوم الكتاب، ابن عادل ١٥/٢٠١.

84 التسهيل لعلوم التنزيل، ٣/١٥٧.

85 روح المعاني، ٢٠/٤٢٥.

86 روح البيان، إسماعيل حقي ٨/٢٥٣.

87 روح المعاني ٢٥/٤٦.

88 فتح القدير ٤/٧٦٩.

89 انظر: فتح القدير، الشوكاني ٥/٤٧.

90 أخرجه ابن ماجه في كتاب الطهارة وسننها، باب الاستنجاء بالماء ١/ ١٢٧، رقم ٣٥٥.

وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه، ١/٦٣.

91 جامع البيان، الطبري ١٤/ ٤٨٨.

92 اللباب في علوم الكتاب، ابن عادل ١٠/ ٢١٠.

93 التحرير والتنوير، ابن عاشور ١١/ ٣٢.

94 انظر: المصدر السابق .

95 السابق ١١/٤٩.

96 اللباب في علوم الكتاب، ابن عادل ٨/٣٨٧.

97 جامع البيان، ١٤/٥٣٩.

98 معالم التنزيل، البغوي ٤/١٠٤.

99 اللباب في علوم الكتاب، ابن عادل ٨/٣٨٧.

100 انظر: مفاتيح الغيب، الرازي ٨/١٧٠.

101 انظر: الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٨/٢٨١.

102 انظر: فتح القدير، الشوكاني ٢/٥٩٩.

103 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٨/٢٨١.

104 اللباب في علوم الكتاب، ابن عادل ٨/٣٨٩.

105 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص٣٥٤.

106 انظر: تفسير القرآن الكريم، ابن عثيمين ٣/٩١.

107 انظر: اللباب في علوم الكتاب، ابن عادل ٨/٣٨٧.

108 انظر: المصدر السابق.

109 انظر: اللباب في علوم الكتاب، ابن عادل ٨/٣٨٧.

110 انظر: السيرة النبوية، ابن كثير ٤/ ١٦.

111 أخرجه الترمذي في سننه، أبواب المناقب، ٥/ ٦٢٦، رقم ٣٧٠١.

وحسنه الألباني في تعليقه على المشكاة، رقم ٦٠٦٤.

112 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الفتن، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: (سترون بعدي أمورًا تنكرونها)، ٩/ ٤٧، رقم ٧٠٥٦، ومسلم في صحيحه، كتاب الإمارة، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية، وتحريمها في المعصية، ٣/١٤٧٠، رقم ١٧٠٩.

113 تفسير القرآن الكريم، ٨/ ١١٣.