عناصر الموضوع
علاقة الدولة الإسلامية بالدول الأخرى
العهود بين الدولة الإسلامية وغيرها
العلاقات الدولية
أولًا: المعنى اللغوي:
العلاقات في اللغة: العلاقات والعلائق جمع لكلمة «علاقة»، مشتقة من العين واللام والقاف، وهو أصلٌ كبير صحيح يرجع إلى معنىً واحدٍ، وهو أن يناط الشيء بالشيء العالي أو ينشب فيه ويتشبث به، ثم يتسع الكلام فيه، والمرجع كله إلى الأصل الذي ذكرناه، تقول: علقت الشيء أعلقه تعليقًا، وقد علق به، إذا لزمه، وعلق فلانٌ بفلانٍ: خاصمه، و«علق» القاضي الحكم: لم يقطع به، وعلق على كلام غيره: تعقبه بنقدٍ أو غيره، والعلاقة -بفتح العين-: تستعمل في المعقولات والأمور الذهنية، كالحب والخصومة، وأما بكسر العين فإنها تستعمل في المحسات والأمور الخارجية المادية1.
الدولية في اللغة: الدولية: مصدر صناعي لكلمة الدولة، وهي من «دول»، وهو أصل واحد يدل على تحول شيء من مكانٍ إلى مكان، ويقال: الدولة والدولة، وهما بمعنى واحد، وقيل: الدولة هي العقبة في المال، والدولة في الحرب، والجمع دولٌ ودولات ودولات، وينسب إليها فيقال: الدولية والدولية، وتطلق الدولة على الاستيلاء والغلبة وانقلاب الزمان، وعلى الشيء المتداول، والإدالة: الغلبة، يقال: أديل لنا على أعدائنا، أي نصرنا عليهم2.
ثانيًا: المعنى الاصطلاحي:
قال أبو البقاء الكفوي: «والعلاقة -بالفتح- هي اتصال ما بين المعنى الحقيقي والمجازي، وذلك معتبر بحسب قوة الاتصال، ويتصور ذلك الاتصال من وجوه خمسة: الاشتراك في شكل، والاشتراك في صفة، وكون المستعمل فيه -أعني المعنى المجازي- على الصفة التي يكون اللفظ حقيقة فيها، وكون المستعمل فيه آيلًا غالبا إلى الصفة التي هي المعنى الحقيقي والمجاورة، فالأولان يسميان مستعارًا، وما عداهما مجازًا مرسلًا»3.
والعلاقات الثقافية أو التجارية بين بلدين: وجود تبادل ثقافي أو تجاري بينهما، والعلاقات الدبلوماسية أو السياسية بين بلدين: وجود سفارة أو قنصلية لكلٍ منهما في الأخرى، وتربط بينهما علاقة قربى: تجمعهم علاقة عائلية، وتوتر العلاقات: سوء العلاقات واضطرابها بين دولتين أو أكثر وهي حالة قد تؤدي إلى قطع العلاقات، وقطعت دولة علاقاتها الدبلوماسية بدولة أخرى: أغلقت سفارتها أو قنصليتها في تلك الدولة4.
والدولة في الاصطلاح: جماعة من الناس، يقيمون على إقليم معين، تحكمهم سلطة واحدة.
وهذا تعريف للدولة بإطلاق، سواء كانت دولة مسلمة أو غير مسلمة. فإذا نظرنا إليها بهذا الاعتبار أو من هذه الحيثية «الإسلام»، فإن الدولة تتحدد صفتها بنوع السلطة التي تحكمها؛ فإن كانت سلطة إسلامية تقوم على التزام عقيدة التوحيد وأحكام الشرع الإسلامي، فهي الدولة الإسلامية. وإن كانت سلطة تقوم على أحكام وضعية بمعزل عن دين الله تعالى وشرعه، فهي عندئذ دولة غير إسلامية.
وأما العلاقات الدولية:
العلاقات الدولية تأخذ بالاعتبار طبيعة المجتمع الدولي ومنطق المعاملات والصلات التي تتم في إطار القانون الدولي الذي يعنى بتنظيم العلاقات بين الدول أو الهيئات الدولية، وقد اختلف علماء القانون في تحديد مضمونها وطبيعتها ومنهجها، كما اختلفوا في تعريف القانون الدولي؛ بسبب عوامل عديدة تضافرت فساعدت على الخلاف والغموض، فهي حديثة العهد نسبيًا مقارنة بغيرها من العلوم المهتمة بدراسة الظواهر الدولية، كما أن اتصالها الوثيق واختلاطها بعلوم أخرى أقدم منها عهدًا وأرسخ قدمًا يجعلها أقل وضوحًا وتميزًا 5.
ويقصد بالعلاقات الدولية: سائر أنواع الروابط والمبادلات التي تتم خارج حدود دولة واحدة، وبعضهم يقصد بالعلاقات الدولية ما يكون بين الدول من روابط تقوم على أساسٍ من قواعد عامة، وضوابط تحكم تعاملها فيما بينها باعتبارها مستقلة ذات سيادة6.
القرية:
القرية لغة:
البلد المسكون؛ مأخوذة من القري. وهو التجمع؛ وسميت بذلك؛ لاجتماع الناس بها7.
القرية اصطلاحًا:
لا يختلف عن المعنى اللغوي8.
الصلة بين الدولة والقرية:
جاء في القرآن الكريم كلمة تعبر عن الدولة وهي القرية، كما في قوله تعالى: (ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ) [الأنعام: ١٢٣].
وهذا يصف الصورة التي كانت غالبة على الدولة في القديم؛ إذ كانت المدينة تكون دولة، وكان يطلق عليها: الدولة والمدينة، والقرآن الكريم في تسميته للدولة بالقرية يقدم لنا الدولة في أصغر صورها حتى يمكن البناء أو القياس عليها9.
السلم:
السلم لغة:
السِلم: ضد الحرب10.
السلم اصطلاحًا:
السلم ضد الحرب، وهو الصلح11.
وقيل: هو حالة نفسية تسود أفراد المجتمع نتيجة وحدة الأهداف والغايات والتصورات، تجعلهم يشعرون بالأمان والسكينة في كل نواحي الحياة.
الصلة بين العلاقات الدولية والسلم:
يعتبر السلم من العلاقات الحميمة بين الدول، فالسلم جزء من العلاقات الدولية.
إن التعريف السابق للدولة يشير إلى ثلاثة مقومات لا بد من توفرها لقيام الدولة، فهي أركانها، مهما اختلفت التعاريف. بل إن بعض الشراح القانونيين الذين يكتبون في الدولة وتعريفها يكتفون بتعداد هذه الأركان بدلًا من تعريف الدولة؛ لصعوبته أو للاختلاف فيه.
وهذه المقومات الثلاثة هي:
الأول: الركن الاجتماعي، وهو الشعب أو الرعية أو الأمة.
الثاني: الركن المادي، وهو الإقليم الذي يقطنه الشعب.
الثالث: الركن القانوني، وهو السلطة التي تقوم على شؤون الدولة12.
وقد استخرج بعض علماء القانون الدولي هذه المقومات أو الأركان للدولة من مفهوم قوله تعالى: (ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ) [النساء: ٧٥].
يقول الدكتور محمد طلعت الغنيمي: فالقرية هنا - وهي الدولة- ذات شعب هم أهلها الظالمون، ولا بد أن يكون لها إقليم، إذ لا يتم الإخراج إلا من مكان محدد ومعين، أما السلطة فقد عبرت عنها الآية بالنصير، حتى يمكن أن يحمي المظلومين من السلطة الظالمة في تلك القرية13.
وكانت دولة المدينة أول تصور إسلامي للدولة، وقد تبدت إرهاصاتها في بيعة العقبة؛ فالذين بايعوا الرسول صلى الله عليه وسلم هناك لم يبايعوه على الولاء الديني فحسب، بل على أن يمنعوا الرسول صلى الله عليه وسلم مما يمنعون منه أنفسهم. ثم تأكد ذلك في عهد المدينة «الصحيفة» حيث جعل المؤمنين من المهاجرين والأنصار أمة واحدة، فكانوا بذلك عنصر شعب الدولة الناشئة إلى جانب اليهود كأقلية محمية، وكانت «المدينة» إقليم الدولة. وتذكر بعض الروايات أن النبي صلى الله عليه وسلم اهتم ببيان حدود المدينة؛ فقد روى كعب بن مالك رضي الله عنه قال: (بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم على أشراف مخيضٍ وعلى الحفياء وعلى ذي العشيرة وعلى تيم)14وهي جبال المدينة15.
وفيما يلي بيان لهذه المقومات الثلاثة بما يناسب المقام والموضوع.
أولًا: الأمة:
جاء في القرآن الكريم -كما تقدم آنفًا- وفي الحديث الشريف كلماتٌ أو مفردات تدل على هذا المقوم أو الركن من أركان الدولة، مثل الأمة والقبيلة والجماعة والناس والمؤمنين، ففيها إشارة إلى ذلك، وإن كانت تختلف معانيها ودلالاتها باختلاف السياق. وحسبنا الإشارة إلى كلمتين تدلان على ما وراءهما، وهما (الأمة) و (القبيلة)، وقد تنطوي كلٌ منهما على معاني بعض الكلمات الأخرى التي أشرت إليها.
و(الأمة) راجعة في معناها اللغوي إلى القصد. وهي: الجماعة التي تقصد الأمر بتضافرٍ وتعاون. وقولنا: أمة محمدٍ صلى الله عليه وسلم، معناه: الجماعة القاصدة لتصديقه، المتفقة في أصول دينه، وإن اختلفت في الفروع. ويجوز أن يكون أصل الكلمة الجمع. فقيل للرجل: أمة؛ لأنه يسد مسد الجماعة. وقيل للإمام: إمام؛ لاجتماع القوم عليه. والأم؛ لجمعها أمر الولد. والذي ينتهي إليه البحث في معنى «الأمة» أنها جماعة من الناس لها رؤية شاملة للإنسان والحياة والكون ينبثق عنها منهج متكامل يصبغها بصبغته ويميزها بطابعه16.
وجاءت كلمة «الأمة» في القرآن الكريم على عشرة أوجه17. أربعةٌ منها تتصل بهذا المعنى الذي نريده في هذا الموضع:
١. الجماعة.
قال تعالى: (ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ) [البقرة: ١٢٨].
قال الإمام الطبري رحمه الله: «وأما الأمة في هذا الموضع، فإنه يعني بها الجماعة من الناس، من قول الله: (ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ) [الأعراف: ١٥٩]» 18.
ومثله: قوله تعالى: (ﯴ ﯵ ﯶ ﯷﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ) [البقرة: ١٣٤ ].
وقوله تعالى: (ﮬ ﮭﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ) [آل عمران: ١١٣ ].
وقوله تعالى: (ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭﭮ ﭯ ﭰ ﭱﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ) [المائدة: ٦٦].
وقال الطاهر ابن عاشور رحمه الله: «والأمة اسم مشترك يطلق على معان كثيرة، والمراد منها هنا: الجماعة العظيمة التي يجمعها جامع له بال من نسب أو دين أو زمان، ويقال: أمة محمدٍ -مثلًا- للمسلمين؛ لأنهم اجتمعوا على الإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وهي بزنة فعلة، وهذه الزنة تدل على المفعول مثل: لقطة وضحكة وقدوة، فالأمة بمعنى مأمومة، اشتقت من الأم -بفتح الهمزة- وهو القصد؛ لأن الأمة تقصدها الفرق العديدة التي تجمعها جامعة الأمة كلها، مثل الأمة العربية؛ لأنها ترجع إليها قبائل العرب، والأمة الإسلامية؛ لأنها ترجع إليها المذاهب الإسلامية. وأما قوله تعالى: (ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ) [الأنعام: ٣٨].
فهو في معنى التشبيه البليغ، أي: كأمم إذا تدبرتم في حكمة إتقان خلقهم ونظام أحوالهم وجدتموهم كأمم أمثالكم؛ لأن هذا الاعتبار كان الناس في غفلة عنه»19.
٢. الملة.
قال الله تعالى: (ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ) [البقرة: ٢١٣].
يعني: أهل أمة واحدة، أي: ملة، فحذف؛ لبيان المعنى. وسميت الملة أمة؛ لاجتماع أهلها عليها، ويجوز أن يقال: إنها سميت أمة؛ لأنها تقصد وتتبع. والمراد: أن الناس كانوا على الكفر فيما بين آدم ونوح، أو ما بين نوح وإبراهيم، فبعث الله النبيين عليهم السلام بالأوامر والنواهي والبشارات والزواجر، (ﮇ ﮈ ﮉ) الذي فيه الحق؛ لكون فصلا بين المختلفين بما فيه من التمييز بين الصواب والخطأ، وهو مثل قولك: ذهب به، وخرج به، وما أشبهه.
٣. أهل الإسلام.
قال الله تعالى: (ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ) [يونس: ١٩].
يعني: حالهم على عهد آدم، وما كانوا عليه في سفينة نوح. ومثله: (ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ) [المائدة: ٤٨ ].
أي: لو شاء الله لجعلكم متفقين على الإسلام قهرًا.
٤. الملة الواحدة.
كما في قوله: (ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ) [الأنبياء: ٩٢ ].
أي: ملتكم، فهي هاهنا الملة بعينها، وفي الأول: الجماعة المتفقة على الملة الواحدة كما بينا.
وأما القبيلة: فقد قال الله تعالى: (ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ) [الحجرات: ١٣].
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: يقول تعالى مخبرًا للناس أنه خلقهم من نفس واحدة، وجعل منها زوجها، وهما آدم وحواء، وجعلهم شعوبًا، وهي أعم من القبائل، وبعد القبائل مراتب أخر كالفصائل والعشائر والعمائر والأفخاذ وغير ذلك.
وقيل: المراد بالشعوب بطون العجم، وبالقبائل بطون العرب، كما أن الأسباط بطون بني إسرائيل فجميع الناس في الشرف بالنسبة الطينية إلى آدم وحواء سواء، وإنما يتفاضلون بالأمور الدينية، وهي طاعة الله ومتابعة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ولهذا قال الله تعالى بعد النهي عن الغيبة واحتقار بعض الناس بعضًا، منبها على تساويهم في البشرية: (ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿﮀ) أي: ليحصل التعارف بينهم، كلٌ يرجع إلى قبيلته. قال مجاهد في قوله (ﭿﮀ): كما يقال: فلان بن فلان من كذا وكذا، أي: من قبيلة كذا وكذا. وقال سفيان الثوري: كانت حمير ينتسبون إلى مخاليفها، وكانت عرب الحجاز ينتسبون إلى قبائلها.
ويعبر المعاصرون عن معنى «الأمة» ومفهومها بكلمة أخرى هي «الشعب». وهو مجموع الذكور و الإناث الذين يقطنون بصفة دائمة في الإقليم، دون اشتراط لعدد معين، وإن كانت الكثرة تعطي الدولة قوة أكبر ومكانة أعظم بين الدول.
والشعب في الدولة الإسلامية قد يكون كله من المسلمين، وقد يتكون من المسلمين ومن غير المسلمين الذين يقيمون إقامة دائمة وهم الذميون، وهؤلاء جميعًا مواطنون أو رعايا في الدولة الإسلامية. و قد يقيم غير المسلمين إقامة مؤقتة وهم المستأمنون، وهؤلاء أجانب عن الدولة وليسوا من رعاياها. ونخصص لكل صنف من مكونات الشعب كلمةً موجزة:
والمسلمون المؤمنون الذين يكونون الأمة المسلمة بمعناها الديني: هم المعترفون بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، والمصدقون بكل ما أخبر به. وقد وصفهم الله تعالى في كتابه الكريم، وحدد سماتهم فقال: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖﭗ ﭘﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷﭸ ﭹ ﭺ ﭻ). [البقرة: ١-٥].
وهذا الإيمان يترتب عليه عصمة الدم والمال والعرض، ويجعل المؤمنين سواسية في الحقوق والواجبات، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه البخاري: (من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا فهو المسلم، له ما لنا وعليه ماعلينا)20.
وينبغي أن يلاحظ هنا أن الإسلام يعتبر في آنٍ واحد عقيدةً وجنسية، فالمسلمون أينما كانوا إخوةٌ في العقيدة والجنسية.
وبما أن الإسلام لا يتعرف إلى فكرة الجنسيات وفقًا لمعناها الاصطلاحي السائد لدى التشريعات الوضعية، أو غيرها من أسباب التمييز بين الناس21.
فإن جميع المسلمين يعتبرون متساوين في نظر الشريعة، إذ تجري عليهم أحكامها، مهما كان جنسهم أو لونهم أو عنصرهم، وأينما كانت إقامتهم. فالعصبية الدينية هي التابعية الأصلية التي تعطي صفة المواطن الكاملة في دار الإسلام.
فإذا أقام المسلم في دار الإسلام وجب عليه اتباع أحكام الشريعة الإسلامية في جميع الأمور، فيلتزم بما توجبه من التزامات، ويتمتع بما تعطيه من حقوق، حسب شروطها الشرعية من دون تقييد ولا تخصيص.
وفي هذه الحالة يرادف قانون المسلم الشخصي القانون الإقليمي أو المحلي لدار الإسلام. وبناءً على هذا: إذا عقد المسلم في دار الإسلام عقدًا مع مسلم آخر أو ذمي أو مستأمن، فتطبق عليه الأحكام الشرعية وحدها.
فالمسلمون في دار الإسلام أمة واحدة، تربط بينهم العقيدة والإيمان مهما اختلفت أقطارهم وتناءت بلادهم وتنوعت لغاتهم وأجناسهم، فهم إخوة في الإيمان لا تفرقهم الأوطان ولا العصبيات ولا المذاهب: (ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ) [الحجرات: ١٠].
والقاعدة التي ينطلق منها الإسلام في بناء المجتمع وإقامة الدولة الإسلامية، وفي تمتع المسلم بالجنسية أو التابعية الإسلامية هي علاقة العقيدة مع علاقة القيادة الإسلامية، أي: الإيمان وسكنى دار الإسلام أو الانتقال إليها: (ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ) [الأنفال: ٧٢].
وليست علاقة الأرض، ولا علاقة الدم، ولا علاقة الجنس، ولا علاقة التاريخ أو اللغة أو الاقتصاد، وليست هي مجرد القرابة أو الوطنية أو القومية، وليست هي المصالح الاقتصادية. ولذلك يقول الإمام السرخسي: «إن المسلم من أهل دار الإسلام حيثما يكون»22.
ولهذا فإن المسلم في أي بلدٍ إسلامي ليس أجنبيًا عن أي بلدٍ آخر من بلاد المسلمين؛ لأن مدلول الأجنبي في الدولة الإسلامية أمسى مرادفًا لغير المسلم، أما المسلم فهو مواطن له جميع حقوق المواطنين، وتصان هذه الحقوق كلها بغاية الصيانة في نفسه وأهله وماله وعرضه، وعليه كذلك جميع الواجبات المفروضة على المواطن أينما وجد، من التعاون والتعاضد والتكافل والنصرة، لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (المسلمون تتكافأ دماؤهم، وهم يدٌ على من سواهم، يسعى بذمتهم أدناهم)23.
المراد بالذميين أو أهل الذمة: جميع أولئك الذين يقطنون داخل حدود الدولة الإسلامية من غير المسلمين، ويقرون بالولاء والطاعة لها، بصرف النظر عما إذا كانوا قد ولدوا في دار الإسلام، أو جاؤوا إليها من الخارج والتمسوا من الحكومة أن تجعلهم في عداد أهل الذمة 24.
والأصل في مشروعية عقد الذمة: الكتاب والسنة وعمل الخلفاء الراشدين، وعلى ذلك انعقد الإجماع. وحسبنا هنا ما يدل على ذلك من قوله سبحانه وتعالى: (ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ) [التوبة: ٢٩].
وهذه الآية الكريمة من سورة التوبة التي تضمنت تحديد العلاقات النهائية بين المجتمع المسلم وأهل الكتاب، مع بيان الأسباب العقدية والتاريخية والواقعية التي تحتم هذا التحديد، وتكشف كذلك عن طبيعة الإسلام وحقيقته المستقلة، وعن انحراف أهل الكتاب عن دين الله الصحيح عقيدة وسلوكًا، بما يجعلهم في اعتبار الإسلام ليسوا على دين الله الذي نزله إليهم، والذي به صاروا أهل كتاب25.
وإذا تلمسنا الحكمة من مشروعية عقد الذمة؛ فإننا نقف من خلال ذلك على عظمة التشريع الإسلامي؛ ففي الوقت الذي لا تهتم النظم غير الإسلامية بالمخالفين لها في العقيدة، ولا تحاول تأليفهم بحسن المعاملة، بل الغالب أن تحاول السيطرة عليهم بالإرهاب والحصار والتصفية البدنية عند الحاجة، فإن الإسلام يوجب تأليف قلوب غير المسلمين المقيمين في دار الإسلام وحسن معاملتهم، والنصوص الشرعية في ذلك كثيرة متضافرة على هذا المعنى.
وإقامة غير المسلمين في دار الإسلام إقامةً دائمة بسبب عقد الذمة سبيلٌ للدعوة إلى الإسلام بأحسن الطرق، من خلال مخالطة المسلمين لغير المسلمين ومعاملتهم لهم، وبذلك يتعرفون على أحكام الإسلام ومحاسنه ودلائله، وعلى طريقة المسلمين وسيرتهم، فقد يحملهم ذلك على الدخول فيه عن طواعية واختيار وعن قناعة ورضًى، وبذلك يصبح أعداء الأمس إخوان اليوم، كما قال الله سبحانه وتعالى: (ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰﭱ ﭲ ﭳﭴ ﭵ ﭶ ﭷ) [الممتحنة: ٧].
وإن لم يكن ذلك، فإنه على الأقل سيكون سبيلًا لدفع شرهم في الحال، بسبب زوال قوة الكفار وشوكتهم، حيث يخضعون للنظام الإسلامي بموجب عقد الذمة وشروطه -على أن يكون لهم في أحوالهم الشخصية القضاء بما في دينهم وشريعتهم-، وعندئذ تظهر شوكة المسلمين وقوتهم، وقد بعث الله تعالى النبي صلى الله عليه وسلم؛ ليظهره على الدين كله، لذلك يجب على المسلمين أن ينظروا في أسباب ذلك26.
والقاعدة العامة في المركز القانوني للذميين في دار الإسلام: أنهم رعية من رعايا الدولة، يسري عليهم القانون الإسلامي فيما يتعلق بشئونهم الدنيوية، ويلتزمون بأحكام الإسلام فيما يعود إلى العقوبات والمعاملات، فيما يحكم به عليهم من أداء الحقوق أو ترك المحرمات؛ لأنهم من أهل دار الإسلام، وفيما عدا ما يختصون به من أحكام دينهم في الاعتقادات والعبادات وفي الزواج والطلاق «الأحوال الشخصية» ونحو ذلك مما يرونه مباحًا عندهم، فهم فيه أحرار، لا يتعرض لهم المسلمون بشيء. والحكم العام الذي يطبق على أهل الذمة في الدولة الإسلامية «دار الإسلام» هو ما عبر عنه عليٌ رضي الله عنه بقوله: «من كانت له ذمتنا فدمه كدمنا وديته كديتنا»27.
ولذلك أرسى الفقهاء قاعدة عامة في معاملة أهل الذمة وبيان مركزهم وحقوقهم، فقالوا: «لهم مالنا وعليهم ما علينا». وهذه القاعدة لا ينبغي أن تفهم على إطلاقها، فهي تعني أن لهم حقوقًا وعليهم واجبات يلتزمون بها، فلهم ما لنا من الإنصاف في المعاملة بالعدل والقسط والأخذ بهما، ويشهد لهذا أنه ليس لهم رئاسة الدولة الإسلامية ولا ولاية القضاء فيها28.
ثانيًا: الأرض:
الأرض أو دار الإسلام هو ما يعبر عنه بالإقليم. وهو الرقعة من الأرض التي يقيم عليها شعب الدولة. ولا يقتصر الإقليم على الرقعة من الأرض، بل يشمل أيضًا: الجو الذي يعلو هذه الأرض، والمياه المحيطة، إن كان يقع على البحر أو المحيط، وقد يكون هذا الإقليم متصلًا على بقعة واحدة، وقد يكون -أحيانًا- غير متصل، فتفصل بعض البلاد بين أجزائه، كما أنه لا يشترط مساحة معينة، وإنما المهم أن يقيم عليه شعب مستقر على أرضه. وليس من غرضنا هنا دراسة ذلك بالتفصيل؛ لأنه أقرب إلى دراسة القانون الدولي العام.
وفي الفقه الإسلامي يطلق الفقهاء على الإقليم الذي يشكل عنصرًا من عناصر الدولة في القانون؛ اسم «الدار»، والدولة المسلمة يطلقون عليها اسم «دار الإسلام»29.
تقسيم العالم:
الإسلام دعوة عامة للناس كافة، وأحكامه تخاطب الناس جميعًا، لا يختص بها قوم دون قوم، ولا إقليم دون إقليم، وبذلك تهدف الشريعة الإسلامية إلى تكوين مجتمع إنساني واحد، يخضع لنظام واحد، لكن لما لم تمتد الشريعة إلى كافة أرجاء العالم، ولم تكن لها السيادة الفعلية على العالم كله، فقد قضت ظروف الواقع أن لا تطبق إلا على البلاد التي يدخلها سلطان المسلمين دون غيرها من البلاد، فكانت من حيث الواقع إقليمية تطبق على البلاد التي تخضع لسلطة المسلمين.
وقد نظر الفقهاء إلى هذا الاعتبار، فأوجدوا تقسيمًا للعالم كله إلى قسمين:
الأول: يشمل كل بلاد الإسلام، ويسمى «دار الإسلام».
والثاني: يشمل كل البلاد الأخرى، ويسمى «دار الحرب» أو«دار الكفر»30.
عرفها فقهاء الحنفية بأنها: «ما يجري فيه حكم إمام المسلمين من البلاد»31.
فدار الإسلام: هي الدار التي تكون تحت سلطة المسلمين، وتظهر فيها أحكام الإسلام، ويأمن فيها المسلمون.
فهي تشمل جميع البلاد التي تظهر فيها أحكام الإسلام، أو يستطيع المسلمون أن يظهروا فيها أحكام الإسلام. أي: أن تكون أحكام الإسلام لها السيادة والظهور والغلبة، فهي القانون الأساسي للبلاد، فيدخل في دار الإسلام كل بلد سكانه كلهم أو أغلبهم مسلمون، وكل بلدٍ يتسلط عليه المسلمون ويحكمونه -ولو كانت غالبية السكان من غير المسلمين-، وكل بلد يحكمه ويتسلط عليه غير المسلمين ما دام فيه سكان مسلمون يظهرون أحكام الإسلام، أو لا يوجد لديهم ما يمنعهم من إظهار أحكام الإسلام32.
وتصير البلاد دار إسلام بأحد أمرين:
الأول: إسلام أهل الحرب وإقامتهم في دارهم، كأهل المدينة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لما أسلموا وأقاموا فيها.
الثاني: فتح بلاد أهل الحرب، وإعلان السيادة عليها بإظهار أحكام الإسلام فيها، ولو كان أهلها كلهم غير مسلمين؛ لأن السيادة لأحكام الإسلام. وفي هذه الأحوال يأمن المسلمون في الدار بأمان الإسلام؛ لأن دار الإسلام اسمٌ للموضع الذي يكون تحت يد المسلمين، وعلامة ذلك أن يأمن فيه المسلمون33.
وهي البلاد التي ظهرت فيها أحكام الشرك عند غلبـة أهل الحرب عليها. أو هي: ما يجري فيه أمر رئيس الكفار من البلاد. وتشمل دار الكفر كل البلاد غير الإسلامية التي لا تدخل تحت سلطان المسلمين، أولا تظهر فيها أحكام الإسلام، أي: لا تكون لها السيادة والغلبة، سواء أكانت هذه البلاد تحكمها دولة واحدة أم تحكمها دول متعددة، ولذلك قرر الفقهاء أن بلاد الكفار كلها تعد دارًا واحدة مهما تعددت أقاليمها، ويستوي أن يكون بين سكانها المقيمين بها إقامةً دائمة مسلمون أو لا يكون، ما دام المسلمون عاجزين عن إظهار أحكام الإسلام34.
ودار الكفر تقسم إلى قسمين:
الأول: دار كفر لا يوجد بيننا وبينها عهد وميثاق، أي: معاهدة صلح وسلم.
والثاني: دار كفر بيننا وبينهم ميثاق وعهد. وهذه يجعلها بعض العلماء دارًا مستقلة يسمونها دار العهد.
وبعض العلماء يسمي دار الكفر دار الحرب، ولم يكن سبب التسمية بدار الحرب هو حالة وقوع الحرب فعلًا بينها وبين المسلمين، بل تسمى بذلك الاسم «دار الحرب» -ولو لم تكن هناك حرب فعلية- باعتبار ما بينهما من تباعد - كما يقول الحنابلة-، ولأنها دار غير إسلامية ويتوقع الاعتداء منها، وهي لم تخضع لحكم الإسلام، ومن الناحية التاريخية الواقعية كانت دار الكفر تناصب المسلمين الخصام والعداء والحرب، ولذلك يسمونها دار كفر أو دار شرك أو دار حرب، ويعنون بها حقيقة واحدة35.
والمناط أو العلة التي بني عليها تقسيم العالم إلى دار إسلام ودار كفر، هو غلبة الأحكام وظهورها بحيث تكون لها السيادة، فإذا كانت الغلبة والسيادة لأحكام الإسلام: فالبلاد دار إسلام، وإذا كانت الغلبة والسيادة لأحكام الكفر: فهي دار حرب أو كفر، ولا فرق بينهما. وفي ذلك يقول السرخسي: «إن الدار إنما تنسب إلينا أو إليهم باعتبار القوة والغلبة»36.
وقد عمد بعض الكتاب المعاصرين إلى مهاجمة تقسيم العالم إلى دار إسلام ودار حرب، وكان أول من اتجه هذا الاتجاه هم غير المسلمين، حيث اعتبره بعضهم ناشئًا عن تصور يتطابق مع نزعة تميل إلى السيطرة العالمية لا ينسجم مع مبدأ المساواة القانونية بين الأمم. ثم قال: وفي وقتٍ كانت هذه الفكرة مرفوضة من نفس أولئك الذين دخل الإسلام معهم في صراع: نجد التقسيم الأساسي للعالم إلى «دار الإسلام» و «دار الحرب»، مع ما يتفرع عنه من تقسيم قابلا للتطبيق في القانون الداخلي وفي الخارج على السواء، ألا وهو تقسيم الناس إلى مؤمنين وكفار على أنه لا بد من القول بأن هذا التصور لم يكن متسقًا مع الإسلام، وإن كان منسجمًا تمامًا مع أفكار العصر الذي أنتجه. وقد انتهت هذه الثنائية الواضحة بالانفجار على المستوى الدولي كرد فعلٍ ضد مفهوم الإمبراطورية النصرانية آنذاك، وارثة فكرة السلم الروماني37.
ثم عمق هذا الاتجاه بعض الكتاب المسلمين المعاصرين وحاولوا دعمه ببعض التعليلات وبأقوال الفقهاء، ويمكن أن نوجز خلاصة رأيهم في تقسيم العالم إلى دارين بما يلي في نقاط متتابعة:
ثم ينتهي إلى النتيجة التي يريد تقريرها فيقول: «وبذلك يلتقي القانون الدولي والشريعة الإسلامية في اعتبار أن الدنيا دار واحدة، وأن الحرب أمر عارض يقيم حالة عداءٍ مؤقت بين بلدين، فإذا ما انتهت الحرب زالت معها هذه الحالة، وحينئذ يتضح لكل إنسان أن كلمة «الحربي» بحسب اصطلاح الفقهاء المسلمين، لا يلزم أن ترادف كلمة «عدو» دائمًا» 39.
وتلكم هي خلاصة القول في رأيهم في تقسيم العالم إلى دار الإسلام ودار الحرب، لم يكن لنا فيها أي إضافة أو نقص، وإنما جعلناها مرتبة متسلسلة؛ لنعود إليها بإبداء بعض الملاحظات حيالها؛ لنرى مدى دلالتها على ما يريدون الوصول إليه أو عدم الدلالة على ذلك.
إن هذا التقسيم الذي وضعه الفقهاء للعالم تقسيم أصيل وإن لم يجر به الاصطلاح في عهده صلى الله عليه وسلم، فهو لم يكن ابتداعًا ابتدعه الفقهاء، بل إن أصوله في القرآن الكريم وفي السنة النبوية، شأنه في ذلك شأن كثير من التقسيمات في الفقه الإسلامي.
ففي القرآن الكريم نجد تقسيم الناس إلى مؤمنين وكفار، ولكل من هذين القسمين بلاد أو دار تجمعهم، كقوله تعالى: (ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ) [الحشر: ٩].
وقوله: (ﭲ ﭳ ﭴ) [الأعراف: ١٤٥ ].
وقوله: (ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁﮂ) [هود: ٦٥].
وغيرها من الآيات كثير.
وفي السنة النبوية وفي الآثار عن الصحابة جاء هذا المعنى واضحًا باسم دار الشرك، ودار السنة، ودار الإسلام، ودار الهجرة، وهذه الثلاثة الأخيرة تعني حقيقة واحدة، وتنوعت فيها التسمية بتنوع الوصف. وهذه طائفة من الأحاديث والآثار في ذلك:
عن جابر بن زيد قال: قال ابن عباس: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبا بكر، وعمر كانوا من المهاجرين؛ لأنهم هجروا المشركين. وكان من الأنصار مهاجرون؛ لأن المدينة كانت دار شرك، فجاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة»40.
وعن بريدة قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميرًا على جيش أو سريةٍ أوصاه ثم قال: (وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال، فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم؛ ادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين) 41.
فالدار الأولى هي دار المشركين، والثانية هي دار المهاجرين وهي دار الإسلام، التي جاءت في رواية الإمام محمد بن الحسن للحديث بلفظ فقال: (وادعوهم إلى التحول إلى دار الإسلام).
وعن سليمان بن بريدة أن عمر رضي الله عنه بعث سلمة بن قيس على جيشٍ فقال: «فإذا لقيتم عدوكم من المشركين فادعوهم إلى ثلاث خصال: ادعوهم إلى الإسلام، فإن أسلموا فاختاروا دارهم فعليهم في أموالهم الزكاة » 42.
وفي كتاب خالد بن الوليد لأهل الحيرة: «وجعلت لهم أيما شيخ ضعف عن العمل، أو أصابته آفة، أو كان غنيًا فافتقر وصار أهل دينه يتصدقون عليه: طرحت جزيته، وعيل من بيت مال المسلمين وعياله ما أقام بدار الهجرة ودار الإسلام، فإن خرجوا إلى غير دار الهجرة ودار الإسلام، فليس على المسلمين النفقة على عيالهم»43.
ففي هذه الأحاديث والآثار وفي غيرها أيضًا جاء اسم «دار الهجرة» و«دار الإسلام» و «دار السنة» و «دار الشرك» كما رأينا، فقد كانت هذه المسميات موجودة منذ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وعهد الصحابة، وحتى لو لم تستعمل مصطلحًا شائعًا مشتهرًا، «فإن الأحكام التي طبقها الفقه بعد ذلك على الوحدة التي سماها «دار الإسلام»، والأخرى التي سماها «دار الحرب» كانت موجودة في عهده صلى الله عليه وسلم، واستمد الفقه منها تقنينه لما أطلق عليه كل من الاسمين، فلا دلالة إذن للقول بأن هذه التسمية طارئة مستحدثة، ولا سند للقول بعدم شرعية تقسيم العالم إلى دار إسلام ودار حرب» 44.
ومن استقراء أقوال الفقهاء في تقسيم العالم إلى دار إسلام ودار حرب يظهر أنه لا علاقة لحال الحرب بأصل التقسيم؛ إذ هو -كما سبق- عند جمهور الفقهاء مبنيٌ على سيادة الأحكام. ولذلك فإن بناء التقسيم على أصل العلاقات سلمًا أو حربًا فيه عكسٌ للقضية، فإن العلاقات إنما تتحدد بناء على وصف الدار وموقف أهلها من الإسلام ودعوته. ولذلك فإن «تقسيم الدور الأصلية ثابت عند الفقهاء ومحل إجماع، وليس له علاقة بقضية الحرب والسلم حتى يمكن أن تتغير الأوصاف، فإن الأوصاف الأصلية -وهي دار الإسلام ودار الكفر- لا تزال، ما دام هناك مسلمون وهناك كفار، فلا يجوز أن تخلط هذه المفاهيم بعضها ببعض »45.
وأما أن الدنيا دار واحدة عند الشافعي -كما نقله الدبوسي عنه واحتج به بعض المعاصرين- فهذا من حيث الأحكام التي وقع الخلاف فيها بينه وبين الحنفية، فهي دار واحدة من حيث التزام المسلم بالأحكام أينما كان، ويوضح هذا ويؤكده أن الشافعية يقسمون الديار إلى دار إسلام ودار كفر، ويقولون بوجوب الهجرة -أحيانًا- من دار الكفر إلى دار الإسلام، و-أحيانًا- باستحبابها حسب حاله، ويتحدثون عن مسائل اختلاف الدارين، وأنه لا يؤثر في الأحكام. وعلى هذا فالتقسيم عندهم متفق عليه، وكتبهم كلها شاهدة على ذلك وناطقة به.
أما اختلاف بعض الأحكام بين دار الإسلام ودار الحرب -عند القائلين بذلك كالحنفية- فلا علاقة له بقيام الحرب كما هو ظاهر واضح. فإن الحنفية لما قالوا بامتناع تطبيق العقوبة على المسلم الذي ارتكب موجبها وهو في دار الحرب، عللوا ذلك بأنه لا ولاية للحاكم المسلم على دار الحرب، وتطبيق العقوبة يقتضي الولاية، فلما وقعت الجريمة غير موجبة للعقوبة وقتها لم تجب العقوبة بعد عودته؛ لأنها وقعت أصلًا غير موجبة. وسيأتي ذلك كله مدعومًا بنصوصهم وأدلتهم.
ويزكي هذا الذي تقدم ويؤيده أن رأي الحنفية في درء الحد عن المسلم الذي ارتكب ما يوجب العقوبة في دار الحرب لا يختلف باختلاف حال الحرب وحال السلم والأمن أو الموادعة، فهو قد يكون آمنًا عندهم بعقد الأمان ولا يؤثر ذلك على درء الحد، بل غالبًا ما لا يكون دخوله إلا بأمان. وعندئذ يظهر أن اختلاف الأحكام لم يكن بسبب قيام حالة الحرب، وإنما بسبب عدم الولاية والسلطة.
أما توفر الأمن والسلام فإنه لا يؤثر في التقسيم أيضًا؛ إذ قد يكون المسلم آمنًا في دارهم بعقد أمان، ومع ذلك فإن دارهم دار كفر وحرب ولا فرق في التسمية، وإن كان بعضهم قد جعلها دار كفر لا دار حرب اسمًا.
واشتراط الإمام أبي حنيفة الأمان للمسلمين لتكون الدار دار إسلام، لا ينصب على أصل وصف الدار وتقسيم العالم إلى دارين، وإنما هو في شروط تغير صفة الدار من دار إسلام إلى دار كفر، حيث قال: لا تصبح دار كفر إلا بالشروط الثلاثة مجتمعة، فإذا بقي المسلمون آمنين بالأمان الأول لم تصر الدار دار حرب. فهما قضيتان مختلفتان لا يجوز الخلط بينهما، ولا يدل رأيه على ما أراده المعاصرون أو فهموه من رأيه في ذلك.
أما أن كلمة (الحربي) لا يلزم أن ترادف كلمة (عدو)، فهذا كلام عجيب غريب يصادم آيات القرآن الكريم ومدلولات اللغة العربية، فإن الحربي عدو للمسلمين، وعدو المسلمين محارب لهم حقيقة أو حكمًا. ولذلك فإن محاولة تأويل النصوص وتمييع الأحكام من أجل أن نظهر أمام أعدائنا من الكفار بأننا أصدقاء لهم، هذا كله يتناقض مع أحكام الدين، وهو في الوقت نفسه لا يقنع أولئك القوم، ويعرفون أنه مجاملة أو انهزامية فحسب، فهم قد «درسوا قضية ديار الحرب وديار الإسلام، وكيف يقسم الفقهاء المسلمون الدار إلى دارين ؟ وهل لدى المسلمين استعداد لأن يتنازلوا عن هذه القسمة ويعترفوا بالنظام العالمي الجديد؟!»46.
ثالثًا: النظام:
المقصود بالنظام أو السلطة: وجود هيئة حاكمة منظمة، مهمتها الإشراف على الإقليم ومن يقيمون عليه، بحيث يكون لها أن تصدر الأوامر الملزمة لكل رعاياها أو لكل أفراد الجماعة، فمن طبيعة الأمور أن تحتاج كل جماعة إلى من يتولى تنظيم أمورها وإصدار ما تحتاجه من التشريعات أو التنظيمات، ولاستغلال مواردها ولإقامة العدل بين الأفراد، والدفاع عنهم ضد أي اعتداء خارجي، وتنظيم علاقاتهم بالدول الأخرى.
ووجود هذه الهيئة الحاكمة ركن أساسي في تكوين الدولة، حتى إن بعض علماء القانون يعتبرونها مع الشعب الذي هو أساس تكوين الدولة، فيعتبرون القبائل الرحالة غير المستقرة على إقليم معينٍ دولةً، إذا كان لها تنظيم داخلي وسلطات حاكمة47.
وأساس هذه السلطة يقوم على مبدأ أن النصوص القرآنية الكريمة تقرر لجماعة من المسلمين الحق في إصدار الأوامر إلى بقية أفراد الأمة، كما في قوله تعالى: (ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠﮡ ﮢ ﮣ ﮤ) [آل عمران: ١٠٤].
وقوله تعالى فيما أوجبه من طاعة تلك الأوامر: (ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ) [النساء: ٥٩].
وذلك أن الشريعة الإسلامية تنظر إلى الأمة مجموعة واحدة لها كيانها المستقل، و الخطاب في القرآن الكريم يتوجه إلى المؤمنين كقوله تعالى: (ﮊ ﮋﮌ ﮍ) [المائدة: ١].
وقوله تعالى: (ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠﮡ ﮢ ﮣ ﮤ) [آل عمران: ١٠٤].
وإذا كانت الأمة لا تستطيع كلها بمجموع أفرادها أن تباشر السلطة العامة، لذلك يتعين أن يتولى عنها ذلك أفراد منها، و هم نواب هذه الأمة، أي: أهل الحل والعقد فيها، وهم أولو الأمر الذين يجب طاعتهم، لما جاء في قوله تعالى: (ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾﯿ) [النساء: ٥٩].
وتكون العلاقة بين الأمة وأهل الحل والعقد هي علاقة النيابة والوكالة؛ ولأن هذه النيابة مصدرها النصوص الشرعية؛ فهي إذن نيابة شرعية. ويتأيد هذا المفهوم أيضًا بأصل شرعي آخر هو القيام بالفروض الكفائية أو الكفاية، فهي في حقيقتها فروض تكافلية يقوم فيها بعض الأفراد بالواجب نيابة عن الآخرين فيسقط الإثم عن الجميع عند قيام بعضهم به48.
ويرى بعض العلماء أن إدارة المصالح العامة والقيام بها موكولة في الأصل إلى الشعب، ولذا فإن الأصل في النظام الإسلامي هو أن تقوم السلطة بما لا يتيسر للأفراد، وذلك لإجبار الناس على العدالة وحفظ الأمن، وجباية الموارد وتوزيعها على المستحقين.
ولكن لما ضعف الدافع الفردي عن رعاية الصالح العام بسبب غفلة الناس وضعف الإيمان في القلوب، اضطرت السلطة العامة إلى التدخل في شؤون الحياة وممارستها، وبذلك ظهرت - مع مرور الأيام- أنوع جديدة من الولايات والإمارات لم تكن معروفة من قبل.
وتتميز السلطة في الإسلام بخصائص تميزها عن النظم الأخرى، من أهمها:
أولًا: إن الولاية مقيدة بالمصلحة العامة، وليست مطلقة. ويترتب على ذلك أن يشترط لولاية الأعمال شروط شديدة من القوة والأمانة، وأن تقوم الأعمال على المشروعية، فإن حصل تجاوز، فإنه يؤدي إلى بطلان التصرفات.
ثانيًا: إن الأمة أو الشعب يقوم فعلًا بقسط وافر من الولاية، وبذلك تتكون السلطة من الإمام وأهل الشورى الذين يقومون بهذه الولاية أو بجزء منها.
ثالثًا: إن السلطة تفويضية نيابة عن الشعب، في القيام بمصالح الجماعة49.
وأما سيادة الدولة، فقد أثيرت مسألة السيادة في الحديث عن مقومات الدولة وأركانها، وتعددت وجهات النظر في هذه السيادة وتعريفها ومصدرها. وهي في أصلها نظرية غربية نشأت عندهم لاعتبارات سياسية وقانونية، و الذي ينبغي أن نشير إليه -باختصار- هو التفريق بين مصدر السيادة وبين من له حق ممارسة السيادة أو السلطة، ولعل ذلك يرفع الخلاف بين الفقهاء المعاصرين من المسلمين في هذه المسألة.
أما مصدر السيادة في الدولة الإسلامية، فإنه الشرع الإسلامي؛ لأن الله تعالى هو الحاكم المشرع باتفاق علماء الإسلام. وسيأتي تفصيل لهذا إن شاء الله تعالى.
وأما حق ممارسة مظاهر السيادة في الدولة الإسلامية: فهم جميع المحكومين، وليس هذا حقًا لفرد معين. وحيث إن المحكومين لا يستطيعون القيام جميعًا بهذا الدور، فإن الشارع أوجب قيام سلطة عامة لتحقيق ما أوجبه الشرع. و مؤدى هذا أن يكون الإمام أو الخليفة نائبًا عن الأمة في ممارسة السلطة العامة ووكيلًا عنها كما تقدم آنفًا50.
إن الدولة ليست غاية في ذاتها، وإنما هي وسيلة لغاية. فهي تقوم بوظيفتين أساسيتين:
الأولى: إقامة الدين الإسلامي وتنفيذ أحكامه.
والثانية: القيام بسياسة أمور الدنيا التي رسمها الإسلام.
على أننا نستطيع أن نكتفي بالقول بأن وظيفة الدولة هي إقامة الإسلام؛ لأن الإسلام دين ودولة، فإقامة الإسلام هي إقامة للدين، وقيام بشئون الدولة في الحدود التي رسمها الإسلام. وقد تنوعت هذه الغاية أنواعًا، وظهرت بصور مختلفة باختلاف العصور والأمكنة والحاجة، واختلفت تبعًا لذلك ضيقًا وسعة.
وقد جاءت الآيات القرآنية الكريمة تبين أن وظيفة الدولة الإسلامية هي: إقامة المآثر والمكارم التي يجب أن تتحلى بها الحياة البشرية، وتبث الخير، وتبذل جهد المستطاع في رقيها وتعميم ميراثها، وأن تستأصل وتنفي عن الأرض كل ما يبغضه الله من الفواحش والمنكرات، وتطهرها من شوائبها وأدناسها، وأن تقيم الصلاة وتأخذ الزكاة، وأن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وأن تسوس أمور الناس في حدود ما أنزل الله تعالى؛ ليقوم الناس بالحق والعدل والقسط51. كما في قوله تعالى: (ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑﮒ ﮓ ﮔ ﮕ) [الحج: ٤١].
وفي النقاط الآتية إيجازٌ لأهم الوظائف التي تقوم بها الدولة، ويمكن أن ينطوي فيها وظائف أخرى، فالقضية اصطلاحية:
أولًا: تحقيق العبودية لله تعالى:
يقوم الإسلام على عقيدة التوحيد النقية الصافية، وفيها تتحدد علاقة الإنسان بربه تبارك وتعالى، وهذه العلاقة هي علاقة العبودية أو العبادة. وتتمثل بالعبودية المطلقة لله وحده، بكل مقتضيات هذه العبودية وأولها الائتمار بأمره سبحانه وحده في كل أمور الحياة. فالعبودية لله تعالى تتمثل في اتخاذه وحده إلهًا، عقيدة وعبادة وشريعة، فلا حاكمية لأحد إلا لله تعالى وحده.
وقد شرح شيخ الإسلام ابن تيمة رحمه الله نظرية العبودية شرحًا وافيًا في رسالته «العبودية»، وبين فيها أن المخلوقين كلهم عباد لله، الأبرار منهم والفجار المؤمنون منهم والكفار؛ إذ هو ربهم ومليكهم، لا يخرجون عن مشيئته وقدرته فهو سبحانه رب العالمين وخالقهم ورازقهم ومحييهم ومميتهم ومدبر أمورهم، لا رب غيره، ولا مالك لهم سواه، سواء اعترفوا بذلك أو أنكروه.
فهناك نوعان من العبودية؛ عبودية قسرية وعبودية اختيارية، وكل من استكبر عن عبادة الله لابد أن يعبد غيره، فإن الإنسان يتحرك بالإرادة، ولابد لكل عبد من مراد محبوب هو منتهى حبه وإرادته، فالإنسان على مفترق الطريقين، فإما أن يختار العبودية لله، وإما أن يرفض هذه العبودية فيقع لا محالة في عبودية لغير الله، وفي العبودية لله تمام للحرية، وفي الحرية منها تمام العبودية. ومن مقتضيات هذه العبودية ألا يعبد إلا الله سبحانه وتعالى، وألا يعبد الله إلا بما شرع52.
ومظاهر العبودية لله تعالى تتجلى في جانب الشعائر التعبدية التي تعبر عن كمال الحب لله تعالى مع كمال الانقياد والطاعة له، كما تتجلى في الجانب الاجتماعي والتشريعي في كل مجالات الحياة ونواحيها الفردية والأسرية وفي علاقة الأمة بغيرها، وتتجلى أيضًا في الجانب الأخلاقي الذي يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالعقيدة والإيمان الذي جعله الإسلام أساسًا للبناء الديني كله وسببًا لقبول الأعمال ودخول الجنة، وبذلك تتكامل هذه المظاهر؛ لتكون هذا الدين عقيدةً وعبادةً وأخلاقًا ومنهجًا للحياة تقوم الدولة الإسلامية عليه، كما تقوم برعايته والالتزام به؛ ليكون له أثره في حياة الفرد والأسرة والجماعة المسلمة، بل ويمتد؛ ليشمل الجماعة البشرية كلها؛ لأنها تنعم بخيراته وأحكامه المتسقة مع الفطرة البشرية ومع سنن الله الكونية.
وهذه العبودية لله تعالى وتحقيقها في الحياة هي غاية وجود الإنسان؛ إذ عندما ينظر المرء حوله يجد كل شيء في هذا الكون قد خلقه الله تعالى لحكمة كبرى وغاية يسعى إليها، وإلا كان وجوده عبثًا، وقد تنزه الله سبحانه وتعالى عن العبث والباطل، فقال في كتابه الكريم: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ) [ص: ٢٧].
والمؤمن يناجي ربه تعالى قائلًا عندما يتفكر في خلق السموات والأرض: (ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ) [ آل عمران: ١٩١].
والإنسان ليس بدعًا بين هذه المخلوقات، فلابد أن يحدد الغاية التي أوجد من أجلها، وهو يسعى لها؛ كي تستقيم حياته من خلالها ويعرف سر وجوده: (ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ) [المؤمنون: ١١٥].
وغدت العبادة غاية الوجود الإنساني كله، بل إن الجن كذلك خلقوا من أجل عبادة الله تعالى: (ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ) [الذاريات: ٥٦ -٥٨].
وبهذا النفي في أول الآية الكريمة والاستثناء في آخرها يحصر الله تعالى مهمة الإنس والجن ويقصرها على وظيفة واحدة ومسئولية واحدة هي عبادة الله تعالى وحده، فليس لهم وراء ذلك وظيفة أو غاية، وما ينبغي أن يكون! فكيف يستطيع الإنسان أن يكون دائمًا في عبادة لله تعالى، فلا تنقضي لحظة من لحظات حياته -بعد التكليف- إلا وهو في عبادة؟ وكيف يستطيع أن يقوم بهذا التكليف الرباني؟
هنا نجد أنفسنا أمام فهم صحيح للعبادة كما أرادها الله تعالى، لا تقتصر على ركعات خاشعة يؤديها المسلم خمس مرات في اليوم والليلة، ولا على أيام من العام يصومها المسلم طاعة لله سبحانه، ولا على جزء من المال يدفعه زكاة يطهر بها نفسه وماله، ولا على حج البيت الحرام عند الاستطاعة. فـإن هـذه الـعبـادات كلها لا تستغرق من حياة الإنسان إلا جزءًا يسيرًا، فهل يترك سائر أيام حياته وساعاتها دون عبادة، فيخالف -عندئذ- أمر الله تعالى، وهو سبحانه لم يخلقه إلا للعبادة؟ إن المسلم يستطيع أن يجعل حياته كلها في الساعات الأربع والعشرين في اليوم والليلة عبادةً لله تعالى وحده؛ إذ إن الإسلام قد أسبغ على جميع أعمال الإنسان صفة العبادة إذا قصد بهذه الأعمال وجه الله ومرضاته، وقام بها على الوجه المشروع الموافق للسنة، وكانت في سبيل تحقيق أهدافها المقصودة المشروعة.
فالزارع والصانع والتاجر، والطبيب والمهندس والعامل، والموظف، والمعلم والتلميذ وغيرهم من أصحاب الأعمال تعتبر أعمالهم عبادة إذا قصد بها كلٌ منهم نفع عباد الله، والاستغناء عن الحاجة إلى الناس، وإعالة العيال؛ تحقيقًا لأمر الله سبحانه وتعالى وخضوعًا له، والتزامًا وتحقيقًا لمقاصد الشريعة التي أنزلها الله تعالى لمصالح الناس، وليقوموا جميعًا بالحق والقسط.
والقرآن الكريم -كتاب الله الخالد- لم يقصر وصف الصلاح -عندما أمرنا بالعمل الصالح- على العبادات المخصوصة، وهي أركان الإسلام وشعائره ومبانيه الأساسية، «أو العبادة بمعناها الخاص»، بل جعله شاملًا لأعمال أخرى، كقوله تعالى: (ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ) [التوبة: ١٢٠ - ١٢١].
والآيات في ذلك كثيرة تعز على الحصر.
وبعد، فما أصدق وما أجمل ما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وهو يتحدث عن العبادة وفروعها حيث يقول: «العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله و يرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة، فالصلاة والزكاة والصيام والحج، وصدق الحديث وأداء الأمانة وبر الوالدين وصلة الأرحام والوفاء بالعهود، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجهاد الكفار والمنافقين، والإحسان للجار واليتيم والمسكين وابن السبيل والمملوك من الآدميين والبهائم، والدعاء والذكر والقراءة، وأمثال ذلك كله من العبادة». وكذلك حب الله ورسوله، وخشية الله والإنابة إليه وإخلاص الدين له والصبر لحكمه والشكر لنعمه، والرضا بقضائه والتوكل عليه والرجاء لرحمته والخوف من عذابه هي من العبادة لله. وذلك أن العبادة لله هي الغاية المحبوبة له والمرضية له، التي خلق لها الخلق فقال: (ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ) [الذاريات: ٥٦]53.
وعن هذا المعنى الواسع والمفهوم الشامل للعبادة في الإسلام، بما يشمل الشعائر والمعاملات وغيرها، يتحدث الأستاذ سيد قطب رحمه الله فيقول54:
«إن تقسيم النشاط الإنساني إلى «عبادات» و«معاملات» مسألة جاءت متأخرة عند التأليف في مادة «الفقه»، ومع أنه كان المقصود به -في أول الأمر- مجرد التقسيم الفني، الذي هو طابع التأليف العلمي، إلا أنه -مع الأسف- أنشأ فيما بعد آثارًا سيئة في التصور، تبعته -بعد فترة- آثار سيئة في الحياة الإسلامية كلها؛ إذ جعل يترسب في تصورات الناس أن صفة العبادة إنما هي خاصة بالنوع الأول من النشاط الذي يتناوله فقه العبادات، بينما أخذت هذه الصفة تبهت بالقياس إلى النوع الثاني من النشاط، الذي يتناوله فقه المعاملات!
وهو انحراف بالتصور الإسلامي لا شك فيه، فلا جرم يتبعه انحراف في الحياة كلها في المجتمع الإسلامي، ليس في التصـور الإسـلامـي نشـاط إنسـاني لا ينـطبـق علـيـه مـعنى العبادة أو لا يطلب فيه تحقيق هذا الوصف، والمنهج الإسلامي كله غايته تحقيق معنى العبادة أولًا وأخيرًا.
وأنواع النشـاط التي أطلق عليها الفقهاء اسم العـبادات وخصـوصا بهذه الصفة -على غير مفـهوم التصور الإسـلامي- حين تراجع مواضـعها في القـرآن تتبين حـقيقة بارزة لا يمـكن إغفالها، وهـي أنها لم تجئ مـفردة ولا معزولة عن أنواع النشـاط الأخرى التي أطلق عـليها الفقهاء اسم المعاملات إنما جاءت هذه وتلك مرتبطة في السـياق القرآني ومرتبطة في المنهـج التوجيهي باعـتبار هـذه كـتلك شـطرًا من منهـج العـبادة التي هـي غـاية الوجـود الإنساني، وتحقيقًا لمعنى العبودية، ومعنى إفراد الله سبحانه بالألوهية.
وهذه هي الحقيقة الكبيرة، التي يجب أن يلقي باله إليها كل مسلم يريد أن يحقق إسلامه؛ ويريد في الوقت ذاته، أن يحقق غاية وجوده الإنساني، آثار هذا المفهوم الشامل للعبادة: إن هذه الحقيقة ليست أهميتها فقط في تصحيح التصور الإيماني -وإن كان هذا التصحيح في ذاته غاية ضخمة يقوم عليها بناء الحياة كله-، بل إن أهميتها تتجلى كذلك في حسن تذوق الحياة، وبلوغ هذا التذوق أعلى درجات الكمال والتناسق، فقيمة الحياة الإنسانية ذاتها ترتفع حين تصبح كلها عبادة لله، وحين يصبح كل نشاط فيها -صغر أم كبر- جزءا من هذه العبادة أو كل العبادة متى نظرنا إلى المعنى الكبير الكامن فيه، وهو إفراد الله سبحانه بالألوهية، والإقرار له وحده بالعبودية هذا المقام الذي لا يرتفع الإنسان إلى ما هو أعلى منه، ولا يبلغ كماله الإنساني إلا في تحقيقه، وهو المقام الذي بلغه رسول الله صلى الله عليه وسلم في أعلى حـالاتـه التـي ارتقـى إليها؛ حالة تلقي الوحي من الله، وحالة الإسراء والمعراج أيضًا: (ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ) [ الفرقان: ١].
(ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ) [الإسراء: ١].
ولذلك فإن أول الوظائف التي تقوم بها الدولة وتسعى لتحقيقها هي تحقيق هذه العبودية الشاملة، بل إن إقامة الدولة نفسها وظيفةٌ دينية، يقوم بها مجموع الأمة الإسلامية، والمقصد الأول من إنزال الشريعة هو حفظ الدين، يقول الشاطبي رحمه الله: «تكاليف الشريعة ترجع إلى حفظ مقاصدها في الخلق، وهذه المقاصد لا تعدو ثلاثة أقسام:
أحدها: أن تكون ضرورية.
والثاني: أن تكون حاجية.
والثالث: أن تكون تحسينية.
والضرورية معناها: أنه لا بد منها في قيام مصالح الدين والدنيا، بحيث إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة، بل على فساد وتهارج وفوت حياة، وفي الأخرى فوت النجاة والنعيم والرجوع بالخسران المبين ومجموع الضروريات خمسة، وهي حفظ الدين، والنفس، والنسل، والمال، والعقل، وقد قال العلماء: إنها مراعاة في كل ملة من الملل»55.
ويقول حجة الإسلام الغزالي: «ومقصود الشرع من الخلق خمسة: وهو أن يحفظ عليهم دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم»56.
فالاتفاق حاصلٌ بين العلماء على أن الدين له المرتبة الأولى بين هذه الضروريات، ولما كان واجب الدولة أن تحقق المصلحة بحفظ هذه الضروريات كان من أول وظائفها تحقيق العبودية وحماية الدين ونشره، وذلك بنشر عقيدة التوحيد التي تحرر البشرية من الوثنية والعبودية لغير الله تعالى، بكل صورها. كما سيأتي قريبا -إن شاء الله تعالى-.
وليس معنى هذا أن سائر الوظائف لا علاقة لها بالدين؛ لأن الإسلام يمزج بين الدين والحياة، وبين الوظيفة الدينية وغيرها من الوظائف مزجًا رائعًا متكاملًا، حتى إن كل الوظائف التي تقوم بها الدولة أصبحت وظائف دينية.
يقول ابن القيم رحمه الله 57: «جميع هذه الولايات، في الأصل ولايات دينية ومناصب شرعية، فمن عدل في ولاية من هذه الولايات وساسها بعلمٍ وعدل، وأطاع الله ورسوله بحسب الإمكان، فهو من الأمراء الأبرار العادلين، ومن حكم فيها بجهلٍ وظلم فهو من الظالمين المعتدين: (ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ) [الانفطار: ١٣-١٤]».
ثانيًا: الدعوة إلى الله ونشر الإسلام:
إن الدعوة الإسلامية التي أنزلها الله تعالى على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم دعوة عامةٌ عالميةورسـالة خاتمة للرسالات السابقة، أراد الله تعالى لها أن تكون دعوة إنسانيةموجهة للبشر جميعًا، لا تخاطب أقوامًا بأعيانهم ولا جنسًا بذاته، رضيها الله تعالى للناس دينًا، فكانت هي الدين الكامل الذي أتم الله تعالى به علينا النعمة فقال: (ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅﮆ) [المائدة: ٣].
وقد تواردت النصوص الشرعية بدلالتها القاطعة على عموم رسالة الإسلام وعالميتها، منذ بداية الدعوة وهي لا تزال محصورة في شعاب مكة المكرمة، وأصحابها لا يزالون يتخفون في دار الأرقم بن أبي الأرقم وسط المجتمع الجاهلي الواسع؛ فمحمد صلى الله عليه وسلم رسول الله إلى الناس كافة.
قال تعالى: (ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ) [سبأ: ٢٨].
والخطاب موجهٌ للناس جميعًا: (ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ) [الأعراف: ١٥٨].
والقرآن الكريم أنزله الله تعالى ليكون ذكرًا للعالمين جميعًا، وليس لأمة بعينها: (ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ) [ص: ٨٧].
بل هو بلاغ لكل من يبلغه خبره وينتهي إليه أمره في عصره وفي سائر العصور إلى يوم القيامة: (ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥﭦ) [الأنعام: ١٩].
وأشار الرسول صلى الله عليه وسلم إلى عموم بعثته وعالمية دعوته فقال: (أعطيت خمسًا لم يعطهن أحدٌ قبلي: كان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى كل أحمر وأسود -وفي لفظ: إلى الناس عامة-، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا؛ فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة صلى حيث كان، ونصرت بالرعب بين يدي مسيرة شهر، وأعطيت الشفاعة)58.
ومما يشير إلى عالمية دعوته عليه الصلاة والسلام وعموم رسالته: أن المعجزة الكبرى التي أيده الله تعالى بها -مع ما أيده به من معجزات- كانت معجزة خالدة دائمة، تختلف عن معجزات الأنبياء السابقين عليهم الصلاة والسلام حيث كانت تنقضي معجزاتهم المادية بوقوعها، ولا يبقى أثرها قائمًا، ولهذا كانت الشرائع قبل شريعة محمد صلى الله عليه وسلم إنما خص بها قوم دون قوم، وكانت شريعته عامة لجميع الناس، ولما كان هذا كله إنما فضل فيه صلى الله عليه وسلم؛ لأنه فضلهم في الوحي الذي استحق به اسم النبوة59.
ولذلك قال عليه الصلاة والسلام منبهًا على هذا المعنى الذي خصه الله تعالى به: (ما من نبيٍ من الأنبياء إلا قد أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيًا أوحى الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة)60.
فهذه الدعوة الأخيرة الخاتمة الناسخة للدعوات السابقة، رسالة مفتوحة إلى الأمم كلها، وللأجيال كلها، وليست رسالة مغلقة على أهل زمان أو أهل مكان، فناسب أن تكون معجزتها مفتوحة كذلك للقريب والبعيد، لكل أمة ولكل جيل، والخوارق القاهرة لا تلوي إلا أعناق من يشاهدونها، ثم تبقى بعد ذلك قصة تروى لا واقعًا يشهد61.
وقد قام الرسول عليه الصلاة والسلام بإبلاغ هذه الدعوة، فصدع بالأمر ودعا الناس جميعًا إلى دين الله تعالى؛ امتثالًا لأمره سبحانه وتعالى: (ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ) [الحجر: ٩٤].
(ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ) [يوسف: ١٠٨].
وهذه الدلائل كلها تقوم شاهدًا عدلًا وحجة قاطعة على أن الإسلام دعوة للناس جميعًا منذ اللحظة الأولى التي بعث الله تعالى فيها نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم وأمره بالقراءة باسم ربه (ﭾ ﭿ) [العلق: ١ ]؛ إذ موضوعها هو (الإنسان) وهي موجهة كذلك للإنسان بما أنه إنسان، والكل في هذا سواء، واستمر النبي صلى الله عليه وسلم في القيام بهذه الدعوة؛ إنفاذًا لأمر ربه تبارك وتعالى حتى دخل الناس في دين الله أفواجًا، وحمل الرسالة خلفاؤه من بعده، وأعلى الله كلمته وأظهر دينه على الأديان كلها62.
ولذلك أمر الله تعالى بالدعوة وإبلاغها، وهو مما تقوم به الدولة الإسلامية وتجعله غاية لها، فقال الله تعالى: (ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ) [النحل: ١٢٥].
وفي هذا بيان لأهم وظيفة تقوم بها الدولة الإسلامية وأجهزتها المتنوعة، وهي الدعوة إلى الإسلام والحرص على هداية الناس؛ تأسيًا برسول الله صلى الله عليه وسلم الذي بعث مصعب بن عمير بن هاشم القرشي -أحد السابقين إلى الإسلام وصاحب الهجرتين- إلى أهل المدينة، بعد بيعة العقبة؛ ليعلمهم الإسلام ويقرئهم القرآن، ويفقههم في الدين، فنزل على سعد بن معاذ -وقيل: على أسعد بن زرارة-، فكان يأتي الأنصار في دورهم وقبائلهم، فيدعوهم إلى الإسلام، ويقرأ عليهم القرآن، فيسلم الرجل والرجلان، حتى ظهر الإسلام وانتشر في دور الأنصار كلها.
فلا عجب أن يلقب بـ«مصعب الخير»؛ لما كتب الله على يديه من الخير والدخول في الإسلام63.
ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الرسل إلى الملوك والأمراء يدعوهم إلى الإسلام، وكتب إليهم كتبًا، فقد أخرج الإمام مسلم عن أنسٍ (أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى كسرى، وإلى قيصر، وإلى النجاشي، وإلى كل جبارٍ يدعوهم إلى الله تعالى، وليس بالنجاشي الذي صلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم)64.
فكان أول رسول بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي ملك الحبشة، فأسلم النجاشي وكتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم بإجابته وتصديقه وإسلامه.
وبعث دحية بن خليفة الكلبي إلى قيصر يدعوه إلى الإسلام، وبعث معه كتابًا، وأمره أن يدفعه إلى عظيم بصرى؛ ليدفعه إلى قيصر، فقرأه وسأل قومه أن يتبعوا محمدًا صلى الله عليه وسلم فأبوا، وخافهم على ملكه ونفسه فلم يؤمن، وأظهر أنه فعل ذلك اختبارًالدينهم.
وبعث عبدالله بن حذافة السهمي إلى كسرى وكتب معه كتابًا، وهو الذي مزق الكتاب فلما بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم مزق ملكه). وبعث حاطب بن أبي بلتعة إلى المقوقس صاحب الإسكندرية عظيم القبط بمصر يدعوه إلى الإسلام، وكتب معه كتابًا، فقرأه وقال له خيرًا وأكرم رسول النبي صلى الله عليه وسلم وبعث معه بهدية.
وبعث شجاع بن وهب الأسدي إلى الحارث الغساني وكتب معه كتابًا، فلما قرأه رمى به وقال: من ينتزع ملكي، وعزم على المسير إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنهاه قيصر عن ذلك، ولما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم خبره قال: (باد ملكه!).
كما بعث أيضًا سليط بن عمروٍ العامري إلى صاحب اليمامة هوذة بن علي الحنفي، وبعث جرير بن عبدالله البجلي إلى ذي الكلاع اليمني، وغيرهم من عظماء ذلك الوقت من العرب والعجم65.
وقد كان لهذه السفارات والكتب أثرها في نشر الدعوة الإسلامية حيث استجاب عدد منهم ودخلوا في الإسلام، وكشفت عن مواقف الآخرين من الدعوة. وهذا يحدد طبيعة علاقة الدولة الإسلامية بهم بعد ذلك.
وكانت رسائله صلى الله عليه وسلم مع رسله وسفرائه إلى عظماء العالم موجزة جامعة تحمل معنى واحدًا وهو الدعوة إلى الإسلام، وبيان وحدة الرسالات في أصولها؛ ليكون هذا منطلقًا للدعوة وإقامة للحجة على من يخاطبهم برسالته، ثم يضعهم أمام مسئوليتهم عن الرعية؛ لأن الرعية تبعٌ لهم، وتنطوي كل كتبه ورسائله عليه الصلاة والسلام على القيم والمبادئ العالية في إطار من الصياغة بالحكمة والموعظة الحسنة.
ونجتزئ هنا برسالته صلى الله عليه وسلم إلى هرقل عظيم الروم؛ فقد أخرج الشيخان عن ابن عباس رضي الله عنهما في حديث طويل يحكي قصة أبي سفيان مع هرقل لما جاءه كتاب النبي صلى الله عليه وسلم وسأله عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال لأبي سفيان: إن يكن ما تقول فيه حقًا فإنه نبي، وقد كنت أعلم أنه خارج، ولم أكن أظنه منكم، ولو أني أعلم أني أخلص إليه لأحببت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه، وليبلغن ملكه ما تحت قدمي. ثم دعا بكتاب النبي صلى الله عليه وسلم فقرأه، فإذا فيه:
(بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم. سلامٌ على من اتبع الهدى! أما بعد، فإني أدعوك بدعاية الإسلام؛ أسلم تسلم، أسلم يؤتك الله أجرك مرتين، وإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين و(ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ)[آل عمران: ٦٤])66.
ثالثًا: رفع الظلم وحماية المستضعفين:
من أعظم وظائف الدولة الإسلامية أن تقوم برفع الظلم والدفاع؛ لرد أي اعتداء وقع على المسلمين، أو يتوقع أن يقع عليهم في ديارهم أو نفوسهم أو أعراضهم أو أموالهم. وذلك أن الإسلام وإن كان يدعو إلى السلم ويميل إليه إذا رغب فيه غير المسلمين بموادعة أو غيرها من الصلح، فإنه في الوقت نفسه لا يقف موقفًا سلبيًا أمام التحديات التي تجابه المسلمين، أو أمام الاعتداءات التي تقع على الضروريات الخمس للإنسان، وهي الدين والنفس والعرض والعقل والمال.
ولا يدعو الإسلام إلى السلم الرخيص فيقف مكتوف اليدين أمام عدوان الآخرين، بل إنه ليدعو أتباعه هنا إلى الجهاد ورد العدوان بكل وسيلة مشروعة، ويجعل من قتل دون دينه أو نفسه أو ماله أو عرضه شهيدًا له أجر الشهداء؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من قتل دون ماله فهو شهيد)67.
هذا، ولا تقتصر مشروعية الجهاد هنا دفعًا عن المسلمين وردًا للعدوان الواقع عليهم فقط، بل إن الجهاد أيضًا يكون لرد العدوان الذي يقع من الحربيين على أهل ذمة المسلمين والمستأمنين في دار الإسلام واستنقاذهم من الظلم أو الأسر، فالأصل أنه يجب على إمام المسلمين أن ينصر المستأمنين ما داموا في دارنا، وأن ينصفهم ممن يظلمهم، كما يجب عليه ذلك في حق أهل الذمة؛ لأنهم تحت ولايته ما داموا في دار الإسلام، فكان حكمهم كحكم أهل الذمة68.
وهذا الدفاع عن أهل الذمة يبيح للمسلمين أن ينقضوا العهد مع الحربيين الذين ظهروا على أهل ذمتنا للدفاع عنهم كالدفاع عن المسلمين69.
وقد تواردت الآيات القرآنية الكريمة في بيان هذا السبب من أسباب القتال كقوله سبحانه وتعالى: (ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ) [الممتحنة: ٨ - ٩].
وقوله تعالى: (ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ) [البقرة: ١٩٠].
وقوله تعالى: (ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ) [البقرة: ١٩٣ -١٩٤ ]
وتشير الآيات الكريمة إلى شرطين في الدفاع الشرعي:
أحدهما: شرط اللزوم، أي: لزوم فعل الدفاع لرد العدوان. فقوله تعالى: (ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ) يعني: أن قتالنا لهم كان بسبب قتالهم لنا، والآية الثانية: (ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ) تعني: ألا نقوم بقتال أو نستمر في قتال ما دام العدو قد كف أيديه عنا. وهذا يتطابق مع شرط اللزوم الذي يتحدث عنه شراح القانون المحدثون.
والشرط الثاني: هو شرط التناسب. بمعنى أن يكون رد العدوان متناسبًا مع الفعل الذي مورس به العدوان، ولا يجوز التزيد في هذا الصدد70. وهو ما تشير إليه الآية الكريمة بوضوح: (ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ) [ البقرة: ١٩٤].
كما تقوم الدولة الإسلامية بمهمتها في حماية دار الإسلام وبلاد المسلمين، وإنقاذ المستضعفين من المسلمين في أي دولة كانوا، وذلك لأن الإسلام يعتبر بلاد المسلمين كلها دارًا واحدة وبلدًا واحدًا يجب حمايته والجهاد دونه إن كان دار عدل بيد المسلمين، ويجب الجهاد؛ لاسترداده إن كان مسلوبًا.
ومما يدل على أن حماية دار الإسلام سبب لإعلان الجهاد ما رواه الإمام محمد بن الحسن عن عبدالله بن أنيس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه سريةً وحده إلى خالد بن سفيان بن نبيحٍ الهذلي لما بلغه أنه يجمع الجيش لقتال النبي صلى الله عليه وسلم وغزو المسلمين. قال رضي الله عنه: دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (إنه قد بلغني أن خالد بن سفيان بن نبيح يجمع لي الناس؛ ليغزوني وهو بعرنة71، فأته فاقتله). فقلت: يا رسول الله إني لا أعرفه! فقال: (إنك إذا رأيته هبته)، وكنت لا أهاب الرجال، فخرجت متوشحًا بسيفي حتى وقعت عليه وهو بعرنة مع ظعن يرتاد لهن منزلًا، فلما رأيته وجدت ما وصف لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبلت نحوه، فلما انتهيت إليه قال: من الرجل؟ قلت: رجل من العرب سمع بك وبجمعك لهذا الرجل فجاءك لهذا. قال: أجل، أنا في ذلك).
قال: فمشيت معه شيئًا حتى إذا أمكنني حملت عليه السيف حتى قتلته، ثم خرجت فكنت أسير الليل وأتوارى النهار حتى جئت المدينة، وقدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فرآني فقال: (أفلح الوجه) - وهذا لفظ يتكلم به العرب خطابًا لمن نال المراد وفاز بالنصرة - فقلت: وجهك الكريم يا رسول الله. فأخبرته خبري، فدفع إلي عصًا وقال: (تخصر بهذه يا ابن أنيس فإن المتخصرين في الجنة قليل)72.
وكذلك يعتبر الإسلام المسلمين جميعًا أمة واحدة يجب حمايتهم والدفاع عنهم؛ لاستنقاذ المستضعفين منهم في أي بلدٍ كانوا، فقد يقع عليهم ظلم ويحيق بهم حيف في دولة جائرة، وعندئذ يجب على المسلمين أن يهبوا لنجدتهم والدفاع عنهم، ولايجوز أن يتركوهم ليقاسوا أنواعًا من الضيم أو الذل والهوان والضياع ينزله بهم أعداءالإسلام.
ويدل على هذا قوله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ) [النساء: ٧٥].
ويدل عليه أيضًا: مناصرة النبي صلى الله عليه وسلم لحلفائه من خزاعة، لما استنصروا بالرسول صلى الله عليه وسلم على قريش وبني بكر. ولا يمنع من القيام بهذه النصرة والحماية والدفاع إلا وجود ميثاق بين المسلمين وبين الدولة التي ينتمي إليها هؤلاء المسلمون المستضعفون، فقد قال الله تعالى: (ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ) [الأنفال: ٧٢]73. ولذلك تقدم فيما سبق أنه يجب على المسلمين نبذ الميثاق أو المعاهدة من أجل استنقاذ المسلمين.
رابعًا: عمارة الأرض وفق المنهج الرباني:
خلق الله البشر وجعلهم خلفاء في الأرض؛ ليقوموا بعبادته وتوحيده، وليقيموا فيها الحضارة والعمران، وليستثمروا خيراتها التي سخرها لهم؛ ولذلك هيأ الله تعالى للإنسان كل ما يساعده على الانتفاع بهذا الكون -بما وهبه من العقل والحواس والملكات التي يستخدمها للتعرف على هذا الكون بكل موجوداته-، وليستطيع تسخيره بكل ما يحقق الغاية من وجوده.
وفي هذا يقول الله تعالى: (ﭑﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ) [البقرة: ٣٠ ].
وفي الحديث عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الدنيا حلوة خضرةٌ، وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون)74.
والاستخلاف في الأرض نوعان: عام، وخاص. فالاستخلاف العام: هو استخلاف جميع البشر في الأرض باعتبارهم مسلطين عليها، يقومون بعمارتها منذ عهد آدم عليه السلام؛ ولذلك لا يختص هذا الاستخلاف بصنف من البشر دون الآخر، فإن الناس عباد الله، ينتفعون بما سخره الله لهم وفق سنة الله تعالى في الرزق والعطاء، وفي الأسباب والمسببات في المجالين الروحي والمادي.
قال الله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ) [الإسراء: ١٨- ٢٠].
وأما الاستخلاف الخاص: فهو استخلاف الدول والأفراد في الحكم؛ لتكون الأمة مستقلة بحكم نفسها، ولها من السلطات ما يحمي مصالحها ويعلي كلمتها، ويجعلها في اتساع وقوة، وفق سنة الله تعالى في التمكين و الاستخلاف والنصر.
قال الله تعالى: (ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑﮒ ﮓ ﮔ ﮕ) [الحج: ٤١].
وقال تعالى: (ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ) [النور: ٥٥].
وفي القرآن الكريم آيات كثيرة في هذا المعنى تبين أن الجماعة المسلمة أو الدولة الإسلامية ينبغي أن تقوم بعمارة الأرض وإنشاء الحضارة المهتدية فيها، فتكون القدوة والمثال للبشرية، وتوازن بين متطلبات الإنسان الروحية والخلقية والمادية.
ففي قوله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ) [البقرة: ٣٠ ].
قال الإمام الطبري رحمه الله: «أي: مستخلف في الأرض خليفةً، ومصير فيها خلفًا والخليفة على وزن الفعيلة، من قولك: خلف فلان فلانًا في هذا الأمر، إذا قام مقامه فيه بعده. كما قال جل ثناؤه: (ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ) [يونس: ١٤].
يعني بذلك: أنه أبدلكم في الأرض منهم، فجعلكم خلفاء بعدهم. ومن ذلك قيل للسلطان الأعظم: خليفة؛ لأنه خلف الذي كان قبله، فقام بالأمر مقامه، فكان منه خلفًا. يقال منه: خلف الخليفة، يخلف خلافة وخليفى»75.
وفي ظلال هذه الآية الكريمة يقول سيد قطب رحمه الله: «وإذن فهي المشيئة العليا تريد أن تسلم لهذا الكائن الجديد في الوجود، زمام هذه الأرض، وتطلق فيها يده، وتكل إليه إبراز مشيئة الخالق في الإبداع والتكوين، والتحليل والتركيب، والتحوير والتبديل وكشف ما في هذه الأرض من قوًى وطاقات، وكنوز وخامات، وتسخير هذا كله -بإذن الله- في المهمة الضخمة التي وكلها الله إليه. وإذن فقد وهب هذا الكائن الجديد من الطاقات الكامنة، والاستعدادات المذخورة كفاء ما في هذه الأرض من قوى وطاقات، وكنوز وخامات ووهب من القوى الخفية ما يحقق المشيئة الإلهية.
وإذن فهنالك وحدة أو تناسق بين النواميس التي تحكم الأرض -وتحكم الكون كله- والنواميس التي تحكم هذا المخلوق وقواه وطاقاته، كي لا يقع التصادم بين هذه النواميس وتلك، وكي لا تتحطم طاقة الإنسان على صخرة الكون الضخمة! وإذن فهي منزلة عظيمة، منزلة هذا الإنسان في نظام الوجود على هذه الأرض الفسيحة. وهو التكريم الذي شاءه له خالقه الكريم.
هذا كله بعض إيحاء التعبير العلوي الجليل: (ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ) حين نتملاه اليوم بالحس اليقظ والبصيرة المفتوحة، ورؤية ما تم في الأرض على يد هذا الكائن المستخلف في هذا الملك العريض! »76.
وهذه العمارة للأرض هي منهج رباني تعاقب عليه الرسل و الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قال الله تعالى: (ﯬ ﯭ ﯮ ﯯﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ) [هود: ٦١].
لقد استخلف الله آدم في الأرض لعمارتها وإصلاحها، وتنميتها وتحويرها، واستخدام الكنوز والطاقات المرصودة فيها، واستغلال الثروات الظاهرة والمخبوءة، والبلوغ بها إلى الكمال المقدر لها في علم الله. ولقد وضع الله للبشر منهجًا كاملًا متكاملًا للعمل على وفقه في هذه الأرض، منهجًا يقوم على الإيمان والعمل الصالح، وفي الرسالة الأخيرة للبشر فصل هذا المنهج، وشرع له القوانين التي تقيمه وتحرسه وتكفل التناسق والتوازن بين خطواته.
في هذا المنهج ليست عمارة الأرض واستغلال ثرواتها والانتفاع بطاقاتها هو وحده المقصود، ولكن المقصود هو هذا مع العناية بضمير الإنسان؛ ليبلغ الإنسان كماله المقدر له في هذه الحياة، فلا ينتكس حيوانا في وسط الحضارة المادية الزاهرة ولا يهبط إلى الدرك بإنسانيته وهو يرتفع إلى الأوج في استغلال موارد الثروة الظاهرة والمخبوءة.
وفي الطريق لبلوغ ذلك التوازن والتناسق تشيل كفة وترجح كفة. وقد يغلب على الأرض جبارون وظلمة وطغاة، وقد يغلب عليها همج ومتبربرون وغزاة، وقد يغلب عليها كفار فجار يحسنون استغلال قوى الأرض وطاقاتها استغلالًا ماديًا ولكن هذه ليست سوى تجارب الطريق، والوراثة الأخيرة هي للعباد الصالحين، الذين يجمعون بين الإيمان والعمل الصالح، فلا يفترق في كيانهم هذان العنصران ولا في حياتهم.
وحيثما اجتمع إيمان القلب ونشاط العمل في أمة فهي الوارثة للأرض في أية فترة من فترات التاريخ، ولكن حين يفترق هذان العنصران فالميزان يتأرجح، وقد تقع الغلبة للآخذين بالوسائل المادية حين يهمل الأخذ بها من يتظاهرون بالإيمان، وحين تفرغ قلوب المؤمنين من الإيمان الصحيح الدافع إلى العمل الصالح، وإلى عمارة الأرض، والقيام بتكاليف الخلافة التي وكلها الله إلى هذا الإنسان.
وما على أصحاب الإيمان إلا أن يحققوا مدلول إيمانهم، وهو العمل الصالح، والنهوض بتبعات الخلافة؛ ليتحقق وعد الله، وتجري سنته: (ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ) [الأنبياء: ١٠٥ - ١٠٦].
فالمؤمنون العاملون هم العباد الصالحون77.
وبعد جولة في ضمير السماوات والأرض وما بينهما -وهي جولة بعيدة الآماد والآفاق في هيكل الكون الهائل، وفي محتوياته المنوعة، الشاملة للأحياء والأشياء، والأفلاك والأجرام، والنجوم والكواكب، والجليل والصغير، والخافي والظاهر، والمعلوم والمجهول- من هذه الجولة البعيدة في ضمير الكون ينقلهم إلى جولة أخرى في ضمير الزمان وأبعاد التاريخ، يرون فيها طرفا من سنة الله الجارية، التي لا تتخلف مرة ولا تحيد:
(ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ) [الروم: ٩- ١٠].
وهي دعوة إلى التأمل في مصائر الغابرين، وهم ناس من الناس، وخلق من خلق الله، تكشف مصائرهم الماضية عن مصائر خلفائهم الآتية، فسنة الله هي سنة الله في الجميع، وسنة الله حق ثابت يقوم عليه هذا الوجود، بلا محاباة لجيل من الناس، ولا هوى يتقلب فتتقلب معه العواقب -حاشا لله رب العالمين! -، وهي دعوة إلى إدراك حقيقة هذه الحياة وروابطها على مدار الزمان، وحقيقة هذه الإنسانية الموحدة المنشأ والمصير على مدار القرون؛ كي لا ينعزل جيل من الناس بنفسه وحياته، وقيمه وتصوراته، ويغفل عن الصلة الوثيقة بين أجيال البشر جميعا، وعن وحدة السنة التي تحكم هذه الأجيال جميعا ووحدة القيم الثابتة في حياة الأجيال جميعا.
فهؤلاء أقوام عاشوا قبل جيل المشركين في مكة (ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ) فحرثوها وشقوا عن باطنها، وكشفوا عن ذخائرها (ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ) فقد كانوا أكثر حضارة من العرب، وأقدر منهم على عمارة الأرض ثم وقفوا عند ظاهر الحياة الدنيا لا يتجاوزونه إلى ما وراءه (ﮘ ﮙ ﮚ). فلم تتفتح بصائرهم لهذه البينات ولم يؤمنوا فتتصل ضمائرهم بالنور الذي يكشف الطريق، فمضت فيهم سنة الله في المكذبين ولم تنفعهم قوتهم ولم يغن عنهم علمهم ولا حضارتهم ولقوا جزاءهم العادل الذي يستحقونه: (ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ) كانت السوأى هي العاقبة التي لقيها المسيئون وكانت جزاء وفاقا على (ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ).
والقرآن الكريم يدعو المكذبين المستهزئين بآيات الله أن يسيروا في الأرض فلا ينعزلوا في مكانهم كالقوقعة، وأن يتدبروا عاقبة أولئك المكذبين المستهزئين ويتوقعوا مثلها، وأن يدركوا أن سنة الله واحدة وأنها لا تحابي أحدًا، وأن يوسعوا آفاق تفكيرهم فيدركوا وحدة البشرية، ووحدة الدعوة، ووحدة العاقبة في أجيال البشرية78.
هذا الذي تقدم ليس حصرًا لكل وظائف الدولة، وإنما هو بيان إجماليٌ لها؛ لأن الدولة تقوم بكثير من الوظائف والواجبات والوظائف الإيجابية والسلبية؛ فإن الدولة التي يريدها الإسلام ليس لها غاية سلبية فقط، بل لها غاية إيجابية أيضًا، أي: ليس من مقاصدها المنع من عدوان الناس بعضهم على بعض، وحفظ حرية الناس، والدفاع عن أرض الدولة فحسب.
بل الحق أن هدفها الأسمى هو نظام العدالة الاجتماعية الصالح الذي جاء به كتاب الله، وفي سبيل تحقيق هذا الغرض تستعمل القوة السياسية تارةً، ويستفاد من منابر الدعوة والتبليغ العام تارةً أخرى، ويستخدم لذلك وسائل التربية والتعليم طورًا، ويستعمل لذلك الرأي العام والنفوذ الاجتماعي طورًا آخر، كما تقتضيه الظروف والأحوال، فمن الظاهر أنه لا يمكن لمثل هذا النوع من الدولة أن تحدد دائرة عملها؛ لأنها شاملة محيطة بالحياة الإنسانية بأسرها، وتطبع كل فرع من فروع الحياة الإنسانية بطابع نظريتها الخلقية الخاصة وبرنامجها الإصلاحي الخاص، فليس لأحد أن يقوم في وجهها ويستثنى أمرًا من أموره قائلًا: إن هذا أمر شخصي خاص لكي لا تتعرض له الدولة، وبالجملة: إن الدولة الإسلامية تحيط بالحياة الإنسانية، وبكل فرع من فروع الحضارة وفق نظريتها الخلقية وبرنامجها الإصلاحي79.
وليس هناك ما يحد من اختصاصات الدولة ووظائفها؛ إذ إنها تقوم بعمل يؤدي إلى جلب المصالح ودفع المضار، وإلى إقامة القسط في حقوق الله وحقوق العباد، ولتكون كلمة الله هي العليا، وليكون الدين كله لله، من خلال تبليغ رسالة الإسلام إلى الناس وإتاحة الحرية الكاملة لهم في قبولها أو رفضها؛ لأنه لا إكراه في الدين. ومن أجل ذلك تمارس الدولة أو ولاة الأمور عددًا من الأعمال يمكن توزيعها في عدة ولايات، كولاية الحرب والقضاء والمال وغيرها، وهذا التوزيع والاختصاصات في الوظائف والولايات راجعٌ إلى عرف الناس ومقتضيات المصلحة، وليس له حدٌ في الشرع 80.
علاقة الدولة الإسلامية بالدول الأخرى
بعث الله تعالى رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم برسالة خاتمة تهدف إلى رد البشرية كلها إلى الله تعالى والخضوع لدينه؛ ليكون ذلك سبيلًا إلى تحريرها حرية حقيقية كاملة، عندما تتحرر من كل عبودية لغير الله تعالى. فانقسم الناس عندئذ قسمين:
منهم من فتح قلبه وعقله للهداية والنور، فآمن بالرسول صلى الله عليه وسلم وصدق بما جاء به من عند الله تعالى، ومنهم من أغلق قلبه وعقله، وجعل على بصره غشاوة، فكفر وكذب؛ فكانوا بذلك فريقين اثنين: (ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽﯾ) [الأعراف: ٣٠].
(ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ) [محمد: ٣ ].
(ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ) [التغابن: ٢ ].
وعندما كتب الله تعالى النصر لنبيه صلى الله عليه وسلم وأظهر دينه على الدين كله، وضرب الإسلام بجرانه81، أصبح للمسلمين دولة تضم جميع المؤمنين بالله تعالى الموحدين له، ترفرف عليها راية التوحيد، وتقيم الحق والعدل بين الناس، وتدعو إلى الإنصاف والقسط. لم يكن من أهدافها العلو في الأرض ولا مجرد بسط السيطرة والنفوذ، ولا إكراه الناس على الدين، فتركتهم وما يختارون، عندما يخضعون لسلطان الإسلام وسيادة أحكامه، بعد أن أزاحت العقبات من طريق الدعوة الإسلامية، وخلت بينها وبين الناس؛ ليختاروا - عندما يكون لهم الاختيار- عن طواعية وإرادة.
وأقام الإسلام قواعد العلاقات الدولية بين الناس على افتراض أنهم إما مؤمنون، وإما معاهدون، وإما لا عهد لهم82.
وفي هذا يقول عبدالله بن عباس رضي الله عنهما: «كان المشركون على منزلتين من النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين؛ كانوا مشركي أهل حرب يقاتلهم ويقاتلونه، ومشركي أهل عهد لا يقاتلهم ولا يقاتلونه»83.
ويقول ابن قيم الجوزية رحمه الله: «فاستقر أمر الكفار معه صلى الله عليه وسلم بعد نزول سورة براءة على ثلاثة أقسام: محاربين له، وأهل عهد، وأهل ذمة. ثم آلت حال أهل العهد والصلح إلى الإسلام، فصاروا معه قسمين: محاربين له، وأهل ذمة. والمحاربون له خائفون منه، فصار أهل الأرض معه ثلاثة أقسام: مسلم مؤمنٌ به، ومسالمٌ له آمن، وخائف محارب»84.
وعلاقة الدولة الإسلامية بالدول الأخرى ومظاهر هذه العلاقة سيتم تناوله حالي السلم والحرب فيما يأتي:
أولًا: حال السلم:
ينشد الإسلام السلم في محيط الفرد والأسرة والمجتمع؛ ليصل إلى السلم المنشود مع الأمم والدول الأخرى بعد تلك الخطوات، فالمسلمون أمة واحدة، والبشرية أسرة واحدة، لذا فالمسلمون مكلفون بتبعات إنسانية تجاه هذه البشرية، بحكم أنهم الأمة الخيرة الوسط التي أخرجت من أجل خير البشرية.
قال الله تعالى: (ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵﭶ) [البقرة: ١٤٣ ].
وقال سبحانه: (ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩﭪ) [آل عمران: ١١٠].
فالإسلام ينشد السلام الداخلي والخارجي، ويسعى إلى الاستقرار داخل الأمة، وفي علاقتها بالأمم الأخرى، فيطالب المسلمين بالسلام والاستقرار وعدم الاعتداء في علاقتهم بهذه الأمم، وهو يدعوهم إلى السلام وإلى الإسلام: (ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ) [البقرة: ٢٠٨].
كما يطلب من المسلمين أن يكون قولهم قول الحريص على السلام، وأن يعملوا على سلامة السلام العزيز، لا السلم الرخيص85. فهو دين السلام في اسمه: (ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ) [البقرة: ٢٠٨].
و هو دين السلام في تحيته في الدنيا وفي الجنة في الآخرة: (ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬﯭ ﯮ ﯯ ﯰ) [إبراهيم: ٢٣].
(ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ) [يونس: ١٠ ٢٣].
وهو دين السلام في ليلة نزول الوحي فيه: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ) [القدر: ١ - ٥].
وفي اسم الله الكريم الذي أنزله: (ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ) [الحشر: ٢٣].
وتقدم أن غير المسلمين من الناس ومن الدول أصناف؛ فمنهم المسالمون ومنهم المحاربون غير المسالمين. والكلام هنا ينصب على المسالمين وهم الأجانب غير المسلمين الذين يقيمون في دار الإسلام أو الدولة الإسلامية إقامة مؤقتة، على أساس عقد الأمان.
قال الله تعالى: (ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ) [التوبة: ٦].
يقول تعالى مخاطبًا نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم: وإن أحدٌ من هؤلاء المشركين استأمنك؛ فسألك الجوار والأمان؛ ليسمع القرآن الكريم، ويعلم أحكامه وأوامره ونواهيه، وما تدعو إليه من التوحيد وما بعثت به، فأعذه وأمنه حتى يسمع كلام الله تعالى، وحتى يتدبره ويطلع على حقيقة الأمر وحال الإسلام، فإن قبل أمرًا فحسنٌ، وإن أبى أن يسلم فرده إلى مأمنه، وهو الموضع الذي يأمن فيه منك وممن هو في طاعتك من المسلمين، حتى يلحق بداره وقومه من المشركين86.
وقد أفردت الشريعة الإسلامية لهؤلاء المسالمين من الأجانب غير المسلمين معاملة خاصة لا يمكن إدراك مستواها الأخلاقي السامي إلا عند موازنتها بمعاملة الأجانب في مختلف النظم التي سبقت دعوة الإسلام التي بعث الله تعالى بها نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم، أو النظم التي عاصرتها، أو تلك التي جاءت تالية لها87.
وغير المسلمين هؤلاء أصناف متنوعة من حيث علاقتهم بالمسلمين، ولذلك يقول ابن قيم الجوزية: «الكفار؛ إما أهل حرب وإما أهل عهد. وأهل العهد ثلاثة أصناف: أهل ذمة، وأهل هدنة، وأهل أمان. وقد عقد الفقهاء لكل صنف بابًا، فقالوا: باب الهدنة، باب الأمان، باب عقد الذمة.
ولفظ «الذمة والعهد» لغةً يتناول هؤلاء كلهم في الأصل، وكذلك لفظ «الصلح»؛ فإن الذمة من جنس لفظ العهد والعقد وهكذا لفظ «الصلح» عامٌ في كل صلح، وهو يتناول صلح المسلمين بعضهم مع بعض، وصلحهم مع الكفار. ولكن صار في اصطلاح كثير من الفقهاء «أهل الذمة» عبارة عمن يؤدي الجزية، وهؤلاء لهم ذمة مؤبدة، قد عاهدوا المسلمين على أن يجري عليهم حكم الله ورسوله؛ إذ هم مقيمون في الدار التي يجري فيها حكم الله ورسوله، بخلاف «أهل الهدنة» فإنهم صالحوا المسلمين على أن يكونوا في دارهم، لا تجري عليهم أحكام الإسلام كما تجري على أهل الذمة، لكن عليهم الكف عن محاربة المسلمين. وهؤلاء يسمون «أهل العهد» و«أهل الصلح» و«أهل الذمة».
وأما المستأمن: فهو الذي يقدم بلاد المسلمين من غير استيطان لها؛ وهؤلاء أربعة أقسام: رسلٌ، وتجار، ومستجيرون حتى يعرض عليهم الإسلام والقرآن، فإن شاؤوا دخلوا فيه وإن شاؤوا رجعوا إلى بلادهم، وطالبو حاجة من زيارة أو غيرها. وحكم هؤلاء ألا يهاجروا88 ولا يقتلوا، ولا تؤخذ منهم الجزية، وأن يعرض على المستجير منهم: الإسلام والقرآن، فإن دخل فيه فذاك، وإن أحب اللحاق بمأمنه ألحق به، ولم يعرض له قبل وصوله إليه، فإذا وصل مأمنه عاد حربيًا كما كان»89.
ونختم هذا بالإشارة إلى الحكمة التشريعية لهذا التعامل مع المستأمنين في حال السلم وإباحة دخولهم بلاد الإسلام والتعامل معهم، فإن الإسلام -كما تقدم- دعوة للناس كافة للدخول في دين الله تعالى، وينبغي على المسلمين أن يتخذوا من الوسائل ما يمكنهم من إبلاغ هذه الدعوة وتعريف الناس بها. ولما كان الكفار الحربيون لا يجوز لهم دخول دار الإسلام دون إذن من ولي أمر المسلمين؛ لأنهم أعداء للمسلمين ولا يؤمن كيدهم وشرهم، فإن الحكمة تقتضي أن يكون هناك وسيلة لاختلاط الكفار بالمسلمين -ولو لمدة مؤقتة- يتعرفون فيها على الدين وتعاليمه وسيرة أهله بما قد يكون عونًا على فهمهم الصحيح للدين ودخولهم فيه، فيكون هذا في معنى الدعاء إلى الدين بأرفق الطريقين وأيسرهما.
و فيه أيضًا توطيد للعلاقات السلمية بين المسلمين والحربيين، وهذا له أثره في نشر الدعوة واطمئنان الكفار إلى المسلمين.
كما أن ذلك فيه تحقيق مصلحة للحربيين أنفسهم في تمتعهم بالأمان عند دخولهم لغرض من أغراضهم، فكثيرًا ما تقع الحاجة إلى تردد التجار وأشباههم إلى دار الإسلام وفي هذا تحقيق لمصلحة الطرفين 90.
ثانيًا: حال الحرب:
أما الحربيون أو المحاربون، فهم القسم الثاني من الكفار والمشركين الذين سبقت الإشارة إليهم بأنهم الخائفون المحاربون للنبي صلى الله عليه وسلم 91.
وهم أهل إحدى المنزلتين من النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما: «كان المشركون على منزلتين من النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين؛ كانوا مشركي أهل حرب يقاتلهم ويقاتلونه، ومشركي أهل عهد لا يقاتلهم ولا يقاتلونه»92.
وقد ألمعنا -آنفًا- إلى هذا الصنف الأخير من أهل العهد في الفقرة السابقة، أما الحربيون فهم الأعداء من سكان دار الحرب أو بلاد الكفر الذين لا يدينون بالإسلام، ويحاربون المسلمين، أو ينتسبون إلى قوم محاربين لهم حقيقة وواقعًا أو حكمًا وتوقعًا. وبعبارة أخرى: هم غير المسلمين الذين لم يدخلوا في عقد الذمة، ولا يتمتعون بأمان المسلمين ولا عهدهم، وهم أصناف: الكفار الذين يقاتلون المسلمين بالفعل ويكيدون لهم، والكفار الذين أعلنوا الحرب على الإسلام وأهله، بأن ضيقوا على المسلمين وحاصروهم اقتصاديًا، أو فتنوهم عن دينهم، أو ظاهروا أعداء الإسلام على المسلمين، والكفار الذين ليس لهم عهد مع المسلمين ولو لم يحاربوا المسلمين ولم يظاهروا عليهم، فهؤلاء كلهم يسمون في الاصطلاح الفقهي أهل الحرب أو الحربيين، ولا يشترط أن تكون الحرب قائمة فعلًا، وإن كانت من الناحية التاريخية الواقعية قد ناصبت الدولة المسلمة العداء والخصام والحرب 93.
والحربيون غير معصومين، فدماؤهم وأموالهم مباحة للمسلمين؛ لأن العصمة في الشريعة الإسلامية لا تكون إلا بأحد؛ بالإيمان أو الأمان، وليس للحربيين إذا لم يكن لهم عهد أو أمان أن يدخلوا دار الإسلام ولا أن يقيموا فيها، فإذا دخلها أحدهم فهو مباح الدم والمال، ويجوز قتله ومصادرة ماله، كما يجوز أسره والعفو عنه 94.
ولذلك قال ابن المرتضى: «ودار الحرب دار إباحة، يملك كلٌ فيها ما ثبتت يده عليه، ولا قصاص فيها ولا أرش؛ إذ دماؤهم هدر، ويملك بعضهم بعضًا وماله بالقهر، إذ رقابهم معرضة للاسترقاق وأموالهم للأخذ»95.
علاقة دعوية ينبثق عنها أصل العلاقات الدولية:
ومن ذلك كله يمكن أن ندرك أن علاقة المسلمين بغيرهم من الأمم الأخرى -على اختلاف ألوانها ولغاتها وأديانها- ليست في حقيقتها علاقة سلم ولا علاقة حرب ابتداءً، وأن الأصل ليس هو السلم بإطلاق، وليس هو الحرب بإطلاق، «وإنما هي علاقة دعوة، فالأمة المسلمة أمة دعوة عالمية تتخطى في إيمانٍ وسموٍ وعفوية كل الحدود والحواجز التي تنتهي إليها، أو تتهاوى عندها المبادئ الأخرى، سواء كانت هذه الحدود والحواجز جغرافية أو سياسية أو عرقية أو لغوية وهي بذلك تفتح أبواب رحمة السماء لأهل الأرض أجمعين»96.
وإنما تكون العلاقة -بعد ذلك- علاقة سلم أو حرب، ويكون الأصل هو السلم أو الحرب، بعد تحديد موقف الأمم والدول الأخرى من دعوة الإسلام قبولًا أو رفضًا. ولذلك يقول الدكتور الغنيمي: «إن علاقة الدولة الإسلامية بأيٍ من دول دار المخالفين تتوقف على سياسة تلك الدول من الدولة الإسلامية. وتلك -لعمر الحق- بديهة من بدهيات السياسة الدولية. فإن هي نهجت منهج الموادعة والمسالمة كان حكمها هو ما قررت الآية الكريمة: (ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ) [الممتحنة: ٨].
وعندئذٍ لا يطلب من المسلمين أن يمارسوا إكراهًا على هؤلاء؛ لأن الإقساط يتنافى مع الإكراه» 97.
بل إننا نقول: إن الإكراه يتنافى دائمًا مع الإقساط، وحتى في الحرب لا يجوز أن يقع إكراه على قبول الدين. ونقول أيضًا: إن وقفت دار المخالفين من الدعوة الإسلامية موقف الرفض والعداء والحرب، فإن حكمها هو ما قررته الآية الكريمة التي جاءت تالية للآية السابقة، وهي قوله تعالى: (ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ) [الممتحنة: ٩].
وهذا الذي انتهينا إليه هو ما يفهم من كلام العلماء رحمهم الله تعالى، حيث قرروا أنه إذا لقي المسلمون المشركين وكانوا لم يبلغهم الإسلام، فليس ينبغي لهم أن يقاتلوهم حتى يدعوهم، لقوله تعالى: (ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ) [الإسراء: ١٥].
وبه أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمراء الجيوش، فقال: « فادعوهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله»98. ولأنهم ربما يظنون أنا نقاتلهم طمعًا في أموالهم وسبي نسائهم وذراريهم، ولو علموا أنا نقاتلهم على الدين أجابوا إلى ذلك من غير أن تقع الحاجة إلى القتال، وفي تقديم عرض الإسلام عليهم دعاء إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة، فيجب البداية به99.
ولذلك يقول العلامة أبو القاسم السمناني الحنفي: «وكل من لم تبلغه الدعوة إلى الإسلام: فالسنة أن يدعى إلى الإسلام، ويعلم ما يدعى إليه، ونبين له شرائعه وفرائضه وأحكامه، فإن أسلم كف عنه وخلي وشأنه، ودعي إلى التحول إلى دار الإسلام والكون فيها، فإن لم يجب إلى ذلك كله دعي إلى الجزية، فإن بذلها كف عنه، وإن امتنع استعين بالله وقوتلوا على اسم الله وملة رسول الله صلى الله عليه وسلم »100.
ويقول الكاساني: «إن كانت الدعوة لم تبلغهم فعلى المجاهدين الافتتاح بالدعوة إلى الإسلام باللسان؛ لقول الله تبارك وتعالى: (ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛﯜ ﯝ ﯞ ﯟ) [النحل: ١٢٥].
ولا يجوز لهم القتال قبل الدعوة؛ لأن الإيمان -وإن وجب عليهم قبل بلوغ الدعوة بمجرد العقل فاستحقوا القتل بالامتناع- لكن الله تبارك وتعالى حرم قتلهم قبل بعث الرسول عليه الصلاة والسلام وبلوغ الدعوة إياهم؛ فضلًا منه ومنةً، قطعًا لمعذرتهم بالكلية ولئلا يبقى لهم شبهة عذر (ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ) [القصص: ٤٧].
كما يجب تقديم هذه الدعوة كذلك؛ لأن القتال ما فرض لعينه وذاته، بل للدعوة إلى الإسلام. والدعوة دعوتان: دعوة بالبنان وهي القتال، ودعوة بالبيان وهو اللسان، وذلك بالتبليغ. والثانية أهون من الأولى؛ لأن في القتال مخاطرة بالروح والنفس والمال. وليس في دعوة التبليغ شيء من ذلك، فإذا احتمل المقصود بأهون الدعوتين لزم الافتتاح بها»101.
وهذا يعني: أن الأصل في العلاقة بين المسلمين وغيرهم من أهل الحرب في هذه الحال هو السلم، ويبقى هذا الأصل قائمًا إذا كان قد بلغهم الإسلام ولكن لا يدرون أنا نقبل منهم الجزية ونعقد لهم الذمة، فينبغي ألا نقاتلهم حتى ندعوهم إلى ذلك، وبهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم أمراء الجيوش، وهو آخر ما ينتهي به القتال، وفي هذا التزام بعض أحكام المسلمين، والانقياد لهم في المعاملات، فيجب عرضه عليهم إذا لم يعلموا به102.
وتتحول هذه العلاقة إلى علاقة حرب فيما عدا ذلك «فإن كانوا قومًا لا تقبل منهم الجزية كالمرتدين وعبدة الأوثان من العرب، فإنه لا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف. فإذا أبوا الإسلام: قوتلوا من غير أن يعرض عليهم إعطاء الجزية»103.
وروى الإمام محمد أيضًا عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقبل من مشركي العرب إلا الإسلام أو القتل» وقال: بهذا كان يأخذ أبو يوسف104.
وكذلك: من تقبل منهم الجزية، إذا عرض عليهم الإسلام ولم يقبلوه، وعرضت عليهم الجزية فلم يقبلوها أو يلتزموا بها، فإن العلاقة بهم علاقة حرب؛ لذلك قال الإمام محمد بن الحسن: «فينبغي أن لا نقاتلهم حتى ندعوهم إلى إعطاء الجزية. وهو آخر ما ينتهي به القتال» يعني: فإن لم يلتزموا ذلك فقد وجب علينا قتالهم.
وذهب جمهور الفقهاء إلى أن الأصل في العلاقة بغير المسلمين - عند امتناعهم عن الإسلام أو الجزية - هو الحرب والقتال، وأن السلم ليست إلا هدنة يستعد بها لاستئناف القتال والاستعداد له105.
فلا ينبغي موادعة أهل الشرك إذا كان بالمسلمين عليهم قوة؛ لأن فيه ترك القتال المأمور به. وإن لم يكن بالمسلمين عليهم قوة فلا بأس بالموادعة؛ لأنها خير للمسلمين، ولأن هذا من تدبير القتال.
وحينئذ تكون الموادعة جهادًا معنىً؛ لأن المقصود -وهو دفع الشر- حاصلٌ بها. وإن السلم المطلق لا يكون إلا بإسلامٍ أو أمانٍ، أي: بالدخول في دين الإسلام أو الرضا بعقد الذمة. ولذلك قالوا: يقاتل أهل الكتاب والمجوس حتى يسلموا أو يعطوا الجزية، ويقاتل من سواهم من الكفار حتى يسلموا.
وهذا هو الذي نص عليه الشافعي رحمه الله حيث قال: «حكم الله عز وجل في المشركين حكمين: فحكم أن يقاتل أهل الأوثان حتى يسلموا، وأهل الكتاب حتى يعطوا الجزية إن لم يسلموا»106.
وقالوا: إن الجهاد لإعلاء كلمة الله، وقتال الكفار الذين امتنعوا عن الإسلام وأداء الجزية - وهم ممن تقبل منهم - واجب كفائي على المسلمين كل سنة وإن لم يبدؤونا بالقتال. وإن دعت الحاجة إلى القتال في كل عام أكثر من مرة وجب ذلك عليهم. ولهذا لا تجوز المهادنة مع الأعداء إذا كانت الهدنة مطلقة لم تقيد بمدة107؛ لأن الإطلاق يقتضي التأبيد، وذلك يفضي إلى ترك الجهاد بالكلية، وهو غير جائز108.
قال الإمام محمد بن الحسن: «الجهاد واجب على المسلمين، إلا أنهم في سعة من ذلك حتى يحتاج إليهم؛ لقوله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ) [التوبة: ١٢٣].
ولقوله: (ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦﮧ) [الحج: ٧٨].
حتى لو اجتمع المسلمون على تركه اشتركوا في المأثم. وفي مثل هذا يجب على الإمام النظر للمسلمين؛ لأنه منصوب لذلك نائب عن جماعتهم، فعليه ألا يعطل الثغور، ولا يدع الدعاء إلى الدين، وعليه حث المسلمين على الجهاد، ولا ينبغي أن يدع المشركين بغير دعوة إلى الإسلام أو إعطاء الجزية إذا تمكن من ذلك» 109.
هذه خلاصة ما جاء من نصوص عند العلماء المتقدمين، وهو ما نص عليه أيضًا المتأخرون من العلماء المحققين، فقال الشوكاني: «وأما غزو الكفار ومناجزة أهل الكفر، وحملهم على الإسلام أو تسليم الجزية، أو القتل، فهو معلوم من الدين بالضرورة الدينية، ولأجله بعث الله تعالى رسله وأنزل كتبه، وما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ بعثه الله سبحانه وتعالى إلى أن قبضه إليه جاعلًا هذا الأمر من أعظم مقاصده ومن أهم شئونه. وأدلة الكتاب والسنة في هذا لا يتسع لها المقام، ولا لبعضها. وما ورد في موادعتهم أو في تركهم إذا تركوا المقاتلة: فذلك منسوخ -باتفاق المسلمين- بما ورد من إيجاب المقاتلة على كل حال مع ظهور القدرة عليهم والتمكن من حربهم وقصدهم في ديارهم » 110.
وقال السيد صديق حسن خان عن جواز الصلح مع الكفار: «ذهب الجمهور إلى أنه لا يجوز أن يكون أكثر من عشر سنين؛ لأن الله سبحانه قد أمرنا بمقاتلة الكفار، فلا يجوز مصالحتهم بدون شيء من جزية أو نحوها. ولكنه لما وقع ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم كان دليلًا على الجواز إلى المدة التي وقع الصلح عليها، ولا تجوز الزيادة عليها؛ رجوعًا إلى الأصل وهو وجوب مقاتلة الكفار ومناجزتهم الحرب»111.
ولذلك يرى الدكتور مصطفى كمال وصفي رحمه الله أن علاقة المسلمين مع غير المسلمين لا تقوم على وجهها الإسلامي إلا إذا كان للمسلمين هيبة تكفل لهم قيام الأحكام الشرعية وحسن تطبيقها، فإن تطبيق الشريعة الإسلامية في المحيط الدولي يتطلب عزًا وكرامة وهيبة، فيكون لتسامحها ومرونتها أثره في حسن الدعوة وحسن التمثل بالمسلمين. وبدون ذلك فإن التحدث بالعزة الإسلامية يحمل على الاستخفاف فتطمع فينا الدول، وينتهزون ذلك ويستغلونه لمصالحهم، كما حدث بالنسبة لمعاهدات الامتيازات التي أولاها العثمانيون -وهم في قوتهم- للأوربيين، فكانت أول مسمار في نعش هذه الدولة.
ومن أهم ما يوجبه الإسلام أن نقوم ببث الهيبة الإسلامية كل سنة بإظهار القوة العسكرية الإسلامية على الحدود، فإن القيام بالغزوات الآن محفوف بالقيود الدولية، لذلك يجب -على الأقل- بث الهيبة على الحدود بعد تحرير أراضي المسلمين والجهاد لنصرة أقلياتهم المغلوبة، وهو عمل يسهل مع مضي الوقت وزيادة النفوذ الدولي، وإن يكن صعبًا في البداية، كما يجب القيام بالدعوة والتوعية بصورة فعالة موازية للحرب المضادة على الأقل 112.
العهود بين الدولة الإسلامية وغيرها
تعتبر المعاهدات والمواثيق أو الاتفاقات من أهم وسائل العلاقات الدولية في القديم والحديث، فهي توطد فكرة السلام، وتوجه العلاقات السلمية بين المسلمين وغير المسلمين. وفي هذا الموضع إيجاز للمعاهدات بين الدولة الإسلامية والدول الأخرى، و نقض العقد ومسوغاته، والاستجابة للدعوة إلى السلم عندما يميل العدو إلى ذلك.
أولًا: الدولة الإسلامية والمعاهدات:
المعاهدة في اللغة: مأخوذة العين والهاء والدال، وهو أصل يدل على الاحتفاظ بالشيء وإحداث العهد به. فمن ذلك: العهد؛ وهو حفظ الشيء ومراعاته حالًا بعد حال. وهوأيضًا: العقد والموثق واليمين والوصية والتقدم إلى المرء بالشيء أو بالأمر، وجمعه عهود. والمعاهدة والتعاهد بمعنىً واحد. وهي: المعاقدة والمحالفة. يقال: تعاهد القوم، أي: تحالفوا. فالمعاهدة ميثاق بين اثنين أو جماعتين؛ لأنها على وزن «مفاعلة»، وهي تدل على المشاركة فلابد أن تكون بين طرفين 113.
والمعاهدة عند الفقهاء: موادعة المسلمين والمشركين سنين معلومة. أو هي: الصلح على ترك القتال مؤقتًا114.
ويدل على مشروعية هذه المعاهدات قوله تعالى: (ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ) [الأنفال: ٦١].
ففي الآية الكريمة دلالة على مشروعية المصالحة والموادعة إذا طلبها المشركون ومالوا إليها، وإذا كان في الصلح مصلحة فلا بأس أن يبتدئ به المسلمون إذا احتاجوا إليه115.
وقوله سبحانه وتعالى: (ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ) [ النساء: ٩٢].
والآية الكريمة نزلت في بيان ما يترتب على قتل رجل من الكفار الذين بيننا وبينهم عهد، ففيها دليل على مشروعية الدخول في العهد أو المعاهدة التي سماها الله تعالى في هذه الآية ميثاقًا؛ لأنها عهد وعقد مؤكد 116.
ولما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وادعته يهود كلها، وكتب بينه وبينها كتابًا، وألحق كل قوم بحلفائهم. وكان فيما شرط عليهم ألا يظاهروا عليه عدوًا117. كما صالح النبي صلى الله عليه وسلم أهل مكة عام الحديبية على أن وضع الحرب بينه وبينهم عشر سنين، وعلى أن من جاءه منهم مسلمًا رده إليهم، ومن جاءهم من عنده لا يردونه إليه، وغير ذلك من الشروط118.
أنواع المعاهدات: وإذا شرعت المعاهدات فإنها تتنوع حسب وجهة النظر إليها؛ فمن حيث التوقيت: قد تكون المعاهدة مؤبدة، كعقد الذمة، وقد تكون مؤقتة كالأمان والهدنة والموادعة، وقد تكون مطلقة الوقت. ولكل نوع منها أحكام خاصة، والكلام هنا ينصب على هذا النوع المؤقت بخاصة.
ومن حيث موضوعها: قد تكون معاهدات لوضع الحرب كالهدنة والصلح والموادعة. وهي الموضوع الرئيس الذي كانت تعقد المعاهدات من أجله، كما أنها هي المقصودة أساسًا بالبحث في كتب الفقه، وقد تتعلق بأمور التجارة والاقتصاد والخدمات والثقافة ونحوها مما يكون بين الدول من علاقات ومعاملات متنوعة. وليست كلها سواء من حيث المشروعية.
ومن حيث الأطراف: قد تكون ثنائية بين دولتين، وقد تتعدد أطرافها أكثر، فينضم إلى أحد الطرفين من يدخل في عهده كما في صلح الحديبية.
وكي تكون المعاهدات صحيحة تترتب عليها آثارها ينبغي أن تستجمع شروطًا لا بد منها، فإن اختلت هذه الشروط أو فقدت، أو اختل بعضها، ترتب على ذلك عدم صحة المعاهدة. وهي:
والأصل العام والقاعدة المتبعة أن يتولى إبرام المعاهدات رئيس الدولة «الخليفة» باعتباره ممثلًا للجماعة الإسلامية ومعبرًا عن إرادتها وناظرًا لمصلحتها، أومن ينوب عنه؛ لأنه يقوم مقام الخليفة نفسه ويعبر عنه. ولذلك لا تصح المعاهدة في مهادنة الكفار ونحوها إلا منهما، لما يترتب على عقد غيرهما لها من المفاسد، ولما فيه من الافتئات عليه.
حيث تقوم العقود في الإسلام على مبدأ الرضا الذي أرساه القرآن الكريم بقوله تعالى: (ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷﭸ) [النساء: ٢٩].
فاقتضت الآية الكريمة إباحة سائر التجارات الواقعة عن تراضٍ من الطرفين، ويدخل في هذا جميع العقود، والموادعة عقد من هذه العقود.
يشترط أن يكون في المعاهدة مصلحة للمسلمين وحاجة تدعو إليها، كي يتحقق الباعث على المعاهدة. وعلى هذا فإن وقعت المعاهدة مع الإخلال بهذا الشرط فهي فاسدة يجب نقضها وإبطالها وإعلام الطرف الثاني بذلك. ودليل ذلك قول الله سبحانه وتعالى: (ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ) [الأنفال: ٦١].
وهذه الآية الكريمة وإن كانت مطلقة، لكن إجماع الفقهاء على تقييدها برؤية المصلحة للمسلمين في ذلك بآية أخرى، وهي قوله تعالى: (ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ) [محمد: ٣٥].
فأما إذا لم يكن في الموادعة مصلحة فلا تجوز بالإجماع.
يشترط لصحة المعاهدة أن يكون محلها أو موضوعها مشروعًا، فلا تصادم نصًا أوحكمًا شرعيًا ثابتًا، وألا يكون فيها تغيير للأوضاع الشرعية؛ لأن في هذا التغيير خروجًا على الشريعة وأحكامها ومناقضةً لها، وهو محرم وباطل على الإطلاق، ولا يجب الوفاء إلا بما كان مشروعًا من المعاهدات دون ما كان معصية لا تجوزه الشريعة119.
قال الله تعالى: (ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ) [النساء: ٥٩].
وقال سبحانه: (ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫﭬ ﭭ ﭮ ﭯ) [الأعراف: ٣].
من شروط المعاهدة أن تكون مؤقتة بمدة معينة، وذلك لبيان سريان المعاهدة والالتزام بها، ولا يتم ذلك إلا ببيان أول تلك المدة وآخرها. والمعاهدة قد تكون مؤقتة بمدة، وقد تكون مؤبدة، وقد تكون مطلقة عن التوقيت والتأبيد:
آثار المعاهدات الدولية على غير الأطراف:
الأصل في المعاهدات أنها تنتج أثرها وتلزم عاقديها «الأطراف في المعاهدة» دون غيرهم. إلا أن هذه القاعدة يكتنفها قاعدة أخرى تنازعها الحكم، وتجيز أن تتمتع الدول غير الأطراف بآثار المعاهدة وإن لم يكونوا طرفًا فيها، ودليل ذلك: هو قول الله تعالى: (ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯﮰ) [النساء: ٨٩-٩٠].
فالذين يصلون إلى قوم بيننا وبينهم عهد أو ميثاق يدخلون معهم، وترتب المعاهدة آثارًا بالنسبة لهم، كما في صلح الحديبية؛ فقد جاء فيه أن من أحب أن يدخل في عهد محمد صلى الله عليه وسلم دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عهد قريش دخل فيه.
وتستنفد المعاهدة أغراضها وينتهي أجلها، فتفنى وتنتهي آثارها، وذلك عندما يطرأ عليها سبب من أسباب الانتهاء والانقضاء، ويمكن أن نجملها بأربعة أسباب123:
وتنتهي المعاهدة المؤقتة بوقتٍ معلوم بانتهاء الوقت من غير حاجة إلى نبذٍ أو إعلام للطرف الآخر؛ لأن العقد المؤقت إلى غاية ينتهي بانتهاء الغاية، فالمعاهدة في هذه الحال أصبحت غير قائمة فعلًا.
وقد ينبذ الطرفان المعاهدة أو ينهياها صراحةً، وهو ما سماه الإمام الكاساني «النص على إنهاء المعاهدة»، على غرار الإقالة في العقود.
وتنتهي المعاهدة كذلك إذا نقضها المعاهدون من الأعداء صراحةً أو دلالةً، ويكون هذا النقض بواحد من أمرين يدلان على ذلك:
أحدهما: قيامهم بأعمال تعتبر نقضًا للمعاهدة؛ لأنها مخالفة لموجبها. والدليل على ذلك: أن أهل مكة لما بدؤوا بالغدر ونقض العهد الذي كان بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية، قبل مضي المدة، حيث عاونت قريشٌ بني بكرٍ على خزاعة، وهم حلفاء الرسول صلى الله عليه وسلم، قاتلهم النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينبذ إليهم124.
والثاني: مخالفتهم لشروط المعاهدة والإخلال بها. ويدل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم صالح ابني أبي الحقيق من اليهود على شروط اشترطها عليهم فخالفوها، فكان ذلك نقضًا منهم للصلح، كما هو معروف في كتب السيرة 125.
وقد تنهى المعاهدة بإرادة منفردة: والأصل في هذا قوله تعالى: (ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ) [الأنفال: ٥٨].
وانقضاء المعاهدة بالنبذ «الإلغاء» من جانب المسلمين يكون لأحد أمرين هما: تعذر الوفاء بشرط من شروط المعاهدة، وتغير الظروف التي عقدت المعاهدة في ظلها فتبدلت المصلحة الداعية إليها126.
ثانيًا: الدولة الإسلامية والوفاء بالعهود:
الوفاء بالعهود والمواثيق من أعظم ما يترتب على العقود، سواء كانت عقودًا بين العبد وربه تبارك وتعالى، أو بين العبد وإخوانه في أنواع المعاملات المختلفة، أو بين الدولة وغيرها من الدول والأمم والشعوب. وهو من القواعد العامة في الشريعة الإسلامية ومن أحكامها القطعية الثابتة، وهو كذلك معلم من المعالم البارزة في العلاقات الدولية الإسلامية.
والأصل في ذلك: كثير من الآيات القرآنية الكريمة، والأحاديث النبوية الشريفة، التي ترسي هذا المبدأ الأصيل في العلاقات الدولية وغيرها.
ففي الوفاء بالعهد أو العقد، يقول الله سبحانه وتعالى: (ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ) [المائدة: ١].
ووجه الاستدلال بالآية الكريمة: «أن العقد ما يعقده العاقد على أمر يفعله هو، أو يعقد على غيره فعله على وجه إلزامه إياه والعهد والأمان يسميان عقودًا؛ لأن معطيها قد ألزم نفسه الوفاء بها. والأيمان كذلك؛ لأن الحالف قد ألزم نفسه التمام عليه والوفاء به، والشركة والمضاربة تسمى أيضًا عقودًا؛ لأنها تقتضي الوفاء بما شرطه كل واحد من الربح والعمل لصاحبه، وألزم نفسه بما شرطه في شيء يفعله في المستقبل، فهو عقد كعقود البيوع والإجارات وغيرها. فقد اشتملت الآية الكريمة على إلزام الوفاء بالعهود والذمم التي نعقدها لأهل الحرب وأهل الذمة والخوارج وغيرهم من سائر الناس وجميع ما يتناوله اسم العقود» 127.
ويأمر الله تعالى بإتمام العهود إلى مدتها ويحذر من نقضها فيقول: (ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ) [التوبة: ٤].
ومنذ أن كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه - رضوان الله عليهم - في مكة المكرمة والدعوة في مهدها لا تتجاوز أم القرى، يعلم الله تعالى أن المسلمين سيكون لهم دولة قوية.
وقد تحمل القوة أهلها على التهاون بالعهود والمواثيق تحقيقًا لمصلحة قريبة أو ثأرًا لمظلمة سابقة، فكان من حكمة الله تعالى أن يأتي التأكيد على الوفاء بالعهد والتحذير من الغدر في التعامل مع الأمم الأخرى، وكان ذلك أيضًا إرهاصًا بقيام دولة قوية عزيزة للمسلمين ينبغي أن تستشرف الحق والعدل والوفاء، فقال الله تعالى: (ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ) [النحل: ٩١ -٩٢]128.
وقال تعالى: (ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ) [الإسراء: ٣٤].
وتواردت الآيات الكريمة في الوفاء بالعهد في مجالات العقيدة والعبادة والأخلاق وفي العلاقات الاجتماعية والدولية وفي المعاملات المالية وغيرها، وسلك القرآن الكريم في ذلك مناهج شتى، فقد أوجب الوفاء بالعهود بصيغة الأمر المباشر، وبصيغة الخبر، ثم بطريقة التحذير من عدم الوفاء أو التهاون بالعهود، وجعل الوفاء بالعهد من صفات المؤمنين 129.
ثم عرضت الآيات الكريمة للصورة المقابلة للوفاء فحذرت من خيانة العقود ونقضها وعدم مراعاتها مع بيان ما يترتب على ذلك من الآثار، فقال الله سبحانه وتعالى: (ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ) [الأنفال: ٥٥- ٥٦].
وقال سبحانه وتعالى: (ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ) [البقرة: ١٠٠].
وقال سبحانه وتعالى: (ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧﯨ ﯩﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ) [التوبة: ١٢ -١٣].
أما الأحاديث النبوية فقد جاءت بتفصيلات أوسع في الوفاء بالعهود والنهي عن الغدر والخيانة والنقض، حسبنا أن نشير إلى طرفٍ منها:
عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا ائتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر) 130.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الغادر ينصب له لواء يوم القيامة، فيقال: هذه غدرة فلان ابن فلان). وقال: (لكل غادر لواء عند استه يوم القيامة، ألا ولا غادر أعظم غدرًا من أمير عامةٍ)131.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك)132.
وأخرج أبو عبيد بسنده عن رجل من جهينة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنكم لعلكم تقاتلون قومًا فيتقونكم بأموالهم دون أنفسهم وأبنائهم ويصالحونكم على صلح، فلا تأخذوا منهم فوق ذلك، فإنه لا يحل لكم)133.
وفي هذا دليل على أنه لا يجوز للمسلمين بعد وقوع الصلح بينهم وبين الكفار على شيء أن يطلبوا منهم زيادة عليه، فإن ذلك من ترك الوفاء بالعهد ونقض العهد وهما محرمان بنص القرآن والسنة 134.
وإذا كان للوفاء بالعهد أثره في الالتزام بالمعاهدات الدولية واستقرارها فإنه كذلك يجعل المعاهدين عونًا للمسلمين ويزرع في نفوسهم الثقة بهم، فقد أخرج القاضي أبو يوسف أن أبا عبيدة بن الجراح لما صالح أهل الشام واشترط لهم وعليهم شروطًا كان الصلح عليها، قالوا له: اجعل لنا يومًا في السنة نخرج فيه صلباننا بلا رايات، وهو يوم عيدنا الأكبر. ففعل ذلك وأجابهم إليه، فلم يجدوا بدًا أن يفوا لهم بما شرطوا، ففتحت المدن على هذا.
فلما رأى أهل الذمة وفاء المسلمين وحسن السيرة فيهم صاروا أشداء على عدو المسلمين وعونًا للمسلمين على أعدائهم، فبعث أهل كل مدينة ممن جرى الصلح بينهم وبين المسلمين رجالًا من قبلهم يتحسسون الأخبار عن الروم وعن ملكهم وما يريدون أن يصنعوا، فأتى أهل كل مدينة رسلهم يخبرونهم بأن الروم قد جمعوا جمعًا لم ير مثله، فأتى رؤساء أهل كل مدينة إلى الذي خلفه أبو عبيدة فأخبروه بذلك135.
وقد كان الوفاء بالعهد والتحرز عن الغدر من المعالم البارزة والأصول الثابتة في الفقه الإسلامي، وكثيرًا ما نجدهم يعللون لما يذهب إليه بأن فيه وفاءً وتحرزًا عن الغدر. وإليك ما يدل على هذا:
وبهذا يضع الفقه الإسلامي قيدًا على الوفاء بالعهد، ويعاملهم بالمثل فيما هو سائغ جائز لنا. وهذا ما يفهم من قولهم آنفًا: «إن شرطوا أن لا نأسر منهم أحدًا، فليس ينبغي لنا أن نأسرهم أو نقتلهم إلا أن تظهر الخيانة منهم، بأن كانوا التزموا أن لا يقتلوا منا أحدًا، ولا يأسروا منا أحدًا، ثم فعلوا ذلك، فحينئذ يكون هذا منهم نقضًا للعهد، فلا بأس بأن نقتل أسراهم وأن نأسرهم، كما كان لنا ذلك قبل العهد»141.
والأصل في هذا قوله تعالى: (ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ) [التوبة: ٤].
وقوله تعالى: (ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ) [التوبة: ٧].
كما يدل على ذلك أيضًا أن أهل مكة لما نقضوا العهد مع النبي صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية بمساعدتهم بني بكرٍ على خزاعة، وكانت خزاعة حلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، قصدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير نبذٍ إليهم، وسأل الله تعالى أن يعمي عليهم الأخبار حتى يأتيهم بغتة142.
واتفق الفقهاء على أنه ينبغي على المسلمين أن يفوا بكل ما في المعاهدة من شرط صحيح، طالما أنها لا تزال قائمة لم تنتقض143.
قال ابن حزم: «اتفق الفقهاء على أن الوفاء بالعهود التي نص القرآن على جوازها ووجوبها وذكرت فيه بصفاتها وأسمائها، وذكرت في السنة كذلك، وأجمعت الأمة على وجوبها أو جوازها، فإن الوفاء بها فرض، وإعطاؤها جائز. واختلفوا في الوفاء بكل عهد كان بخلاف ما ذكرنا، أيحرم إعطاؤه ويبطل إن عقد أم ينفذ؟»144.
هذا، وبالمقارنة نجد البون شاسعًا بين تأكيد الإسلام على الوفاء بالعهد وشروطه ومنع الغدر، حتى غدا ذلك أصلًا عظيمًا في العلاقات الدولية والاجتماعية، وبين واقع غير المسلمين في القديم والحديث، وتعاملهم مع المسلمين بالغدر وعدم الوفاء، حتى اعترف بذلك كتابهم، ومنهم «فوشيه» الذي يقرر أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أوصى أتباعه بمراعاة المعاهدات وتنفيذ نصوصها، قبل أن تظهر في الغرب قاعدة احترام المعاهدات145.
بل في وقت كان الغرب يغط فيه في دياجير الجهالة والظلمة، ولم يكن فيه أي احترام لذمةٍ أو عهد أو ميثاق، وإنما كانت القاعدة هي الكذب والخديعة والغدر، حتى إن الكنيسة الكاثوليكية في القرن السابع عشر قد قامت بإعفاء الأمراء الكاثوليك من الالتزام بالمعاهدات التي أبرموها مع الكفار وغير المؤمنين بالكاثوليكية، ومنها المعاهدات المبرمة مع البروتستانت146.
فكان ذلك شهادة لا يرقى إليها الشك؛ إذ هي شهادة من الأعداء، تدل على عظمة الإسلام وأحكامه وسمو مبادئه التي تقوم على الحق والعدل اللذين قامت بهما السموات والأرض147.
ثالثًا: الدولة الإسلامية وجنوح العدو إلى السلم:
قال الله تعالى: (ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ) [الأنفال: ٦٠ - ٦٢].
قال الإمام أبو جعفر الطبري: «يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: (ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ) وغدرًا، (ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ) وآذنهم بالحرب (ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ) وإن مالوا إلى مسالمتك ومتاركتك الحرب؛ إما بالدخول في الإسلام، وإما بإعطاء الجزية، وإما بموادعة، ونحو ذلك من أسباب السلم والصلح (ﯿ ﰀ)، يقول: فمل إليها، وابذل لهم ما مالوا إليه من ذلك وسألوكه»148.
ويقول الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله: يقول تعالى: (ﯼ ﯽ) أي: الكفار المحاربون، أي: مالوا (ﯾ) أي: الصلح وترك القتال (ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ) أي: أجبهم إلى ما طلبوا متوكلًا على ربك، فإن في ذلك فوائد كثيرة:
منها: أن طلب العافية مطلوب كل وقت، فإذا كانوا هم المبتدئين في ذلك، كان أولى لإجابتهم.
ومنها: أن في ذلك إجماما لقواكم، واستعدادا منكم لقتالهم في وقت آخر، إن احتيج لذلك. ومنها: أنكم إذا أصلحتم وأمن بعضكم بعضا، وتمكن كل من معرفة ما عليه الآخر، فإن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه، فكل من له عقل وبصيرة إذا كان معه إنصاف فلا بد أن يؤثره على غيره من الأديان، لحسنه في أوامره ونواهيه، وحسنه في معاملته للخلق والعدل فيهم، وأنه لا جور فيه ولا ظلم بوجه، فحينئذ يكثر الراغبون فيه والمتبعون له.
فصار هذا السلم عونًا للمسلمين على الكافرين، ولا يخاف من السلم إلا خصلة واحدة، وهي أن يكون الكفار قصدهم بذلك خدع المسلمين، وانتهاز الفرصة فيهم، فأخبرهم الله أنه حسبهم وكافيهم خداعهم، وأن ذلك يعود عليهم ضرره149.
وفي ظلال هذه الآية الكريمة يقول الأستاذ سيد قطب رحمه الله: «والتعبير عن الميل إلى السلم بالجنوح تعبيرٌ لطيف، يلقي ظل الدعة الرقيق. فهي حركة جناح يميل إلى جانب السلم، ويرخي ريشه في وداعة! كما أن الأمر بالجنوح إلى السلم مصحوب بالتوكل على الله السميع العليم الذي يسمع ما يقال ويعلم ما وراءه من مخبآت السرائر. وفي التوكل عليه الكفاية والأمان.
وبالعودة إلى تلخيص ابن القيم لطوائف الكفار ومواقفهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم وموقفه كذلك منهم، أول العهد بالمدينة إلى يوم بدر ونزول هذا الحكم150.
يتبين أن هذا النص يتعلق بالفريق الذي اعتزل رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقاتله وجنح إلى السلم ولم يظهر العداء والمقاومة للدعوة الإسلامية، ولا للدولة المسلمة. وقد أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يترك هذا الفريق، وأن يقبل مهادنته ومسالمته «وذلك حتى نزلت براءة ونزل فيها إمهال من لم يكن له عهد، أو كان له عهد غير موقت، مدة أربعة أشهر، يكون له بعدها حكم آخر بحسب موقفه»، ومن ثم فهو ليس حكمًا نهائيًا على إطلاقه الذي يؤخذ من نصه مجردًا عن هذه الملابسات، ومجردًا كذلك عن النصوص التالية له في الزمن، وعن التصرفات الواقعية بعده لرسول الله صلى الله عليه وسلم. ولكن النص كان له نوع من العموم في الحكم في حينه. فقد عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم به حتى نزلت سورة براءة، ومن عمله به كان صلح الحديبية في السنة السادسة للهجرة..
ولقد اتجه بعض الفقهاء إلى اعتبار الحكم نهائيًّا ودائمًا، ففسروا الجنوح إلى السلم بقبول أداء الجزية ولكن هذا لا يتفق مع الواقع التاريخي، فإن أحكام الجزية نزلت في سورة براءة بعد السنة الثامنة للهجرة، وهذه الآية نزلت في السنة الثانية بعد بدر ولم تكن أحكام الجزية موجودة. والأقرب إلى الصحة بمراجعة الأحداث وتواريخ النزول والطبيعة الحركية للمنهج الإسلامي، أن يقال: إن هذا الحكم ليس نهائيًّا، وأنه عدل أخيرًا بالأحكام النهائية التي نزلت في سورة براءة «التوبة» والتي انتهى بها الناس إلى أن يكونوا مع الإسلام: إما محاربين يحاربون، وإما مسلمين تحكمهم شريعة الله، وإما أهل ذمة يؤدون الجزية وهم على عهدهم ما استقاموا، وهذه هي الأحكام النهائية التي تنتهي إليها حركة الجهاد الإسلامي.
وكل ما عداها هو حالات واقعية يسعى الإسلام إلى تغييرها حتى تنتهي إلى هذه الأوضاع الثلاثة التي تمثل العلاقات النهائية، وهي العلاقات التي يمثلها الحديث الذي أخرجه مسلم عن بريدة الأسلمي رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث أميرًا على سرية أو جيش أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله، وبمن معه من المسلمين خيرًا، وقال: (اغزوا باسم الله، في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، إذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى إحدى ثلاث خصال أو خلال، فأيتهن أجابوك إليها فاقبل منهم، وكف عنهم؛ ادعهم إلى الإسلام. فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، وأعلمهم إن فعلوا ذلك أن لهم ما للمهاجرين وأن عليهم ما على المهاجرين. فإن أبوا واختاروا دارهم فأعلمهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين، يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين، ولا يكون لهم في الفيء والغنيمة نصيب، إلا أن يجاهدوا مع المسلمين. فإن أبوا فادعهم إلى إعطاء الجزية، فإن أجابوا فاقبل منهم وكف عنهم. فإن أبوا فاستعن بالله وقاتلهم))151.
والمشكل في هذا الحديث هو ذكر الهجرة ودار المهاجرين، مع ذكر الجزية، والجزية لم تفرض إلا بعد الفتح، وبعد الفتح لم تعد هجرة «بالقياس إلى الجماعة المسلمة الأولى التي انتهت إلى دار إسلام وفتح وتمكن»، والثابت أن الجزية لم تفرض إلا بعد السنة الثامنة، وأنها من ثم لم تؤخذ من المشركين العرب؛ لأنهم أسلموا قبل نزول الجزية، فقبلت بعد ذلك من أمثالهم من المشركين المجوس، وهم مثلهم في الشرك، ولو نزلت أحكام الجزية وفي الجزيرة مشركون لقبلت منهم كما يقرر الإمام ابن القيم. وهو -فيما ذكر - قول أبي حنيفة وأحد قولي الإمام أحمد، أما القرطبي فقد روى هذا القول عن الأوزاعي ومالك، وروى غيره عن أبي حنيفة152.
وعلى أية حال فالذي ننتهي إليه، أن قول الله تعالى: (ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ) [الأنفال: ٦١].
لا يتضمن حكمًا مطلقًا نهائيًّا في الباب، وأن الأحكام النهائية نزلت فيما بعد في سورة براءة، إنما أمر الله رسوله أن يقبل مسالمة وموادعة ذلك الفريق الذي اعتزله فلم يقاتله، سواء كان قد تعاهد، أو لم يتعاهد معه حتى ذلك الحين، وأنه ظل يقبل السلم من الكفار وأهل الكتاب حتى نزلت أحكام سورة براءة. فلم يعد يقبل إلا الإسلام أو الجزية، أو هو القتال ما استطاع المسلمون هذا؛ ليكون الدين كله لله153.
مزايا الدولة الإسلامية هي مجموعة من الخصائص والقابليات التي تفردها عن الأمم الأخرى، وتجعل لها كيانها المتكامل الفريد وشخصيتها الذاتية154.
وهي خصائص ومزايا كثيرة، ومنها:
أولًا: التمكين في الأرض:
التمكين هو: التوثيق، وأصله إقرار الشيء في مكان. وهو مستعمل فيما يأتي من الآيات الكريمة في التسليط والتمليك. وتمكين المؤمنين الذي تتميز به الدولة المسلمة هو تسليطهم على شيء من الأرض فيكون ذلك شأنهم فيما هو من ملكهم وما بسطت فيه أيديهم.
قال الله تعالى: (ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ) [النور: ٥٥].
وهذا وعدٌ من وعود الله الصادقة، التي شوهد تأويلها ومخبرها، فإنه وعد من قام بالإيمان والعمل الصالح من هذه الأمة، أن يستخلفهم في الأرض، يكونون هم الخلفاء فيها، المتصرفين في تدبيرها، وأنه يمكن لهم دينهم الذي ارتضى لهم، وهو دين الإسلام، الذي فاق الأديان كلها، ارتضاه لهذه الأمة؛ لفضلها وشرفها، ونعمته عليها بأن يتمكنوا من إقامته، وإقامة شرائعه الظاهرة والباطنة في أنفسهم وفي غيرهم؛ لكون غيرهم من أهل الأديان وسائر الكفار مغلوبين ذليلين، وأنه يبدلهم من بعد خوفهم الذي كان الواحد منهم لا يتمكن من إظهار دينه، وما هو عليه إلا بأذى كثير من الكفار، وكون جماعة المسلمين قليلين جدًّا بالنسبة إلى غيرهم، وقد رماهم أهل الأرض عن قوس واحدة.
فوعدهم الله هذه الأمور وقت نزول الآية، وهي لم تشاهد الاستخلاف في الأرض والتمكين فيها، والتمكين من إقامة الدين الإسلامي، والأمن التام، بحيث يعبدون الله ولا يشركون به شيئًا، ولا يخافون أحدًا إلا الله، فقام صدر هذه الأمة، من الإيمان والعمل الصالح، بما يفوقون على غيرهم، فمكنهم من البلاد والعباد، وفتحت مشارق الأرض ومغاربها، وحصل الأمن التام والتمكين التام. فهذا من آيات الله العجيبة الباهرة، ولا يزال الأمر إلى قيام الساعة، مهما قاموا بالإيمان والعمل الصالح، فلا بد أن يوجد ما وعدهم الله، وإنما يسلط عليهم الكفار والمنافقين، ويديلهم في بعض الأحيان، بسبب إخلال المسلمين بالإيمان والعمل الصالح155.
وفي ظلال هذه الآية الكريمة يقول الأستاذ سيد قطب رحمه الله: «ذلك وعد الله للذين آمنوا وعملوا الصالحات من أمة محمد صلى الله عليه وسلم أن يستخلفهم في الأرض، وأن يمكن لهم دينهم الذي ارتضى لهم، وأن يبدلهم من بعد خوفهم أمنًا ذلك وعد الله، ووعد الله حق، ووعد الله واقع، ولن يخلف الله وعده، فما حقيقة ذلك الإيمان؟ وما حقيقة هذا الاستخلاف؟
إن حقيقة الإيمان التي يتحقق بها وعد الله حقيقة ضخمة تستغرق النشاط الإنساني كله، وتوجه النشاط الإنساني كله، فما تكاد تستقر في القلب حتى تعلن عن نفسها في صورة عمل ونشاط وبناء وإنشاء موجه كله إلى الله، لا يبتغي به صاحبه إلا وجه الله، وهي طاعة لله واستسلام لأمره في الصغيرة والكبيرة، لا يبقى معها هوى في النفس، ولا شهوة في القلب، ولا ميل في الفطرة إلا وهو تبع لما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند الله.
فهو الإيمان الذي يستغرق الإنسان كله، بخواطر نفسه، وخلجات قلبه. وأشواق روحه، وميول فطرته، وحركات جسمه، ولفتات جوارحه، وسلوكه مع ربه في أهله ومع الناس جميعا، ويتوجه بهذا كله إلى الله.
يتمثل هذا في قول الله سبحانه في الآية نفسها تعليلًا للاستخلاف والتمكين والأمن: (ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ). والشرك مداخل وألوان، والتوجه إلى غير الله بعمل أو شعور هو لونٌ من ألوان الشرك بالله.
ذلك الإيمان منهج حياة كامل، يتضمن كل ما أمر الله به، ويدخل فيما أمر الله به توفير الأسباب، وإعداد العدة، والأخذ بالوسائل، والتهيؤ لحمل الأمانة الكبرى في الأرض أمانة الاستخلاف..
فما حقيقة الاستخلاف في الأرض؟
إنها ليست مجرد الملك والقهر والغلبة والحكم، إنما هي هذا كله على شرط استخدامه في الإصلاح والتعمير والبناء، وتحقيق المنهج الذي رسمه الله للبشرية كي تسير عليه، وتصل عن طريقه إلى مستوى الكمال المقدر لها في الأرض، اللائق بخليقة أكرمها الله.
إن الاستخلاف في الأرض قدرة على العمارة والإصلاح، لا على الهدم والإفساد، وقدرة على تحقيق العدل والطمأنينة، لا على الظلم والقهر، وقدرة على الارتفاع بالنفس البشرية والنظام البشري، لا على الانحدار بالفرد والجماعة إلى مدارج الحيوان! وهذا الاستخلاف هو الذي وعده الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات وعدهم الله أن يستخلفهم في الأرض كما استخلف المؤمنين الصالحين قبلهم؛ ليحققوا النهج الذي أراده الله، ويقرروا العدل الذي أراده الله ويسيروا بالبشرية خطوات في طريق الكمال المقدر لها يوم أنشأها الله، فأما الذين يملكون فيفسدون في الأرض، وينشرون فيها البغي والجور، وينحدرون بها إلى مدارج الحيوان، فهؤلاء ليسوا مستخلفين في الأرض. إنما هم مبتلون بما هم فيه، أو مبتلى بهم غيرهم، ممن يسلطون عليهم؛ لحكمة يقدرها الله، آية هذا الفهم لحقيقة الاستخلاف قوله تعالى بعده: (ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ).
وتمكين الدين يتم بتمكينه في القلوب، كما يتم بتمكينه في تصريف الحياة وتدبيرها. فقد وعدهم الله إذن أن يستخلفهم في الأرض، وأن يجعل دينهم الذي ارتضى لهم هو الذي يهيمن على الأرض. ودينهم يأمر بالإصلاح، ويأمر بالعدل، ويأمر بالاستعلاء على شهوات الأرض، ويأمر بعمارة هذه الأرض، والانتفاع بكل ما أودعها الله من ثروة، ومن رصيد، ومن طاقة، مع التوجه بكل نشاط فيها إلى الله. (ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅﮆ) ولقد كانوا خائفين، لا يأمنون، ولا يضعون سلاحهم أبدًا حتى بعد هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى قاعدة الإسلام الأولى بالمدينة.
قال الربيع بن أنس عن أبي العالية في هذه الآية: (كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بمكة نحوًا من عشر سنين يدعون إلى الله وحده، وإلى عبادته وحده بلا شريك له، سرًّا وهم خائفون لا يؤمرون بالقتال حتى أمروا بَعْدُ الهِجْرَةَ إلى المدينة، فقدموها، فأمرهم الله بالقتال، فكانوا بها خائفين، يمسون في السلاح ويصبحون في السلاح، فصبروا على ذلك ما شاء الله. ثم إن رجلًا من الصحابة قال: يا رسول الله أبد الدهر نحن خائفون هكذا؟ أما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع عنَّا السلاح؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لن تصبروا إلا يسيرًا حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم ليست فيه حديدة) وأنزل الله هذه الآية)156.
فأظهر الله نبيه على جزيرة العرب، فأمنوا ووضعوا السلاح. ثم إن الله قبض نبيه صلى الله عليه وسلم فكانوا كذلك آمنين في إمارة أبي بكر وعمر وعثمان. حتى وقعوا فيما وقعوا فيه، فأدخل الله عليهم الخوف، فاتخذوا الحجزة والشرط، وغيروا فغير بهم.
(ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ) الخارجون على شرط الله، ووعد الله، وعهد الله.
لقد تحقق وعد الله مرة، وظل متحققًا وواقعًا ما قام المسلمون على شرط الله: (ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ) [النور: ٥٥] لا من الآلهة ولا من الشهوات. ويؤمنون -من الإيمان- ويعملون صالحًا.
ووعد الله مذخورٌ لكل من يقوم على الشرط من هذه الأمة إلى يوم القيامة، إنما يبطؤ النصر والاستخلاف والتمكين والأمن؛ لتخلف شرط الله في جانب من جوانبه الفسيحة أو في تكليف من تكاليفه الضخمة، حتى إذا انتفعت الأمة بالبلاء، وجازت الابتلاء، وخافت فطلبت الأمن، وذلت فطلبت العزة، وتخلفت فطلبت الاستخلاف، كل ذلك بوسائله التي أرادها الله، وبشروطه التي قررها الله تحقق وعد الله الذي لا يتخلف، ولا تقف في طريقه قوة من قوى الأرض جميعا157.
وقال سبحانه وتعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑﮒ ﮓ ﮔ ﮕ) [الحج: ٣٩ - ٤١].
والكلام هنا في الآيات الكريمة مسوقٌ للتنبيه على الشكر على نعمة النصر بأن يأتوا بما أمر الله به من أصول الإسلام، فإن بذلك دوام نصرهم، وانتظام عقد جماعتهم، والسلامة من اختلال أمرهم، فإن حادوا عن ذلك فقد فرطوا في ضمان نصرهم وأمرهم إلى الله. فأما إقامة الصلاة فلدلالتها على القيام بالدين وتجديد لمفعوله في النفوس، وأما إيتاء الزكاة فهو ليكون أفراد الأمة متقاربين في نظام معاشهم، وأما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فلتنفيذ قوانين الإسلام بين سائر الأمة من تلقاء أنفسهم»158.
وقد جاء هذا المعنى في آيات أخرى كقوله تعالى: (ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗﯘ ﯙ ﯚ ﯛ) [الأعراف: ١٠].
وقوله: (ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ) [يوسف: ٥٦].
ثانيًا: تحقيق العدل:
تقوم الدولة الإسلامية على العدل الحقيقي، بل تهدف إلى تحقيق أعدل سيرة ممكنة للحاكم المسلم في هذا المجال، وتتنزه عن اعتبارات الأنانية والظلم والصراع على المصالح الذاتية؛ فإن الله تعالى ما بعث الرسل وأنزل عليهم الكتب والشرائع إلا ليقوم الناس بالحق والعدل والقسط.
و العدل: هو المساواة بين الناس في تطبيق الأحكام وإعطاء الحقوق لأصحابها، وعدم التمييز بينهم في المعاملة تبعًا للهوى والمصلحة الذاتية.
وقد أعلى الإسلام من قيمة العدل فجعله الغاية من إرسال الرسل -عليهم الصلاة والسلام- وإنزال الشرائع والكتب. قال سبحانه وتعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ) [الحديد: ٢٥].
وبالعدل والحق قامت السماوات والأرض. قال الله سبحانه وتعالى: (ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬﮭ ﮮ ﮯ ﮰﮱ ﯓ ﯔ ﯕ) [الحجر: ٨٥].
وقال سبحانه: (ﭩ ﭪ ﭫ ﭬﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ) [الروم: ٨ ].
وقال أيضًا: (ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ) [الأحقاف: ٣].
وبالعدل يطمئن الناس على حقوقهم، وتتطهر قلوبهم ونفوسهم من الأحقاد والخصومات و الضغائن، وعندئذ تسودهم السعادة وينتشر بينهم السلام، ويترقون في مدارج الحضارة والعلم والرقي159.
والإسلام يسير في إقرار العدل والدعوة إليه بخطوات متدرجة، فيبدأ بالعدل مع النفس: (ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ) [النساء: ١٣٥].
ثم العدل مع الأهل و الأسرة: (ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ) [النساء: ٣ ].
و العدل مع القرابة: (ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮﭯ) [الأنعام: ١٥٢].
والعدل مع هؤلاء جميعا في دائرة واحدة: (ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ) [النساء: ١٣٥ ].
والعدل بين المتخاصمين والمتقاتلين من المؤمنين: (ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ) [الحجرات: ٩].
ثم ينتهي بالعدل مع الأمم الأخرى، فيشمل البشرية كلها بعدله ورحمته: (ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ) [النساء: ٥٨].
وقد تضافرت الأدلة الشرعية والعقلية والواقع التاريخي العملي على تقرير هذا المبدأ والدعوة إليه بوسائل متعددة:
فمن القرآن الكريم: أرست الآيات القرآنية هذا الأصل الكبير، وجعلته قاعدة عامة مطلقة، لا تختص بأمر من الأمور ولا قوم من الأقوام. فقال الله تعالى: (ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇﮈ ﮉ ﮊ ﮋ) [النحل: ٩٠].
وقال تعالى في الحكم بما أنزل الله، و هو الحق والعدل: (ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪﮫ ﮬ ﮭﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ) [المائدة: ٤٢].
وفي المعاملة مع الأعداء؛ لا يجوز أن تحملنا العداوة لهم والبغضاء على أن نَنْتَكِبَ جادة العدل؛ فإن شريعة الله تعالى هي شرعة الحق والعدل المطلق. قال الله تعالى: (ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝﯞ ﯟ ﯠﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ) [المائدة: ٨].
كما حكت الآيات القرآنية واقعة عملية؛ حيث نزلت لتبرئ ساحة يهودي اتهم بالسرقة، بل نزلت لتقيم ميزان العدالة الذي لا يميل مع الهوى ولا مع العصبية، ولا يتأرجح مع المودة والشنآن أيًّا كانت الملابسات والأحوال، وأمرت النبي صلى الله عليه وسلم ألا يجادل عن الذين اتهموا اليهودي بذلك؛ لأنهم يختانون أنفسهم160.
(ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﭑ ﭒﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ) [النساء: ١٠٥ -١٠٧].
وفي ظلال هذه الآيات الكريمة يقول الأستاذ سيد قطب رحمه الله: هذه الآيات تحكي قصةً لا تعرف لها الأرض نظيرًا، ولا تعرف لها البشرية شبيهًا، وتشهد وحدها بأن هذا القرآن وهذا الدين لا بد أن يكون من عند الله؛ لأن البشر -مهما ارتفع تصورهم، ومهما صفت أرواحهم، ومهما استقامت طبائعهم- لا يمكن أن يرتفعوا بأنفسهم إلى هذا المستوى الذي تشير إليه هذه الآيات إلا بوحي من الله.
هذا المستوى الذي يرسم خطًا على الأفق لم تصعد إليه البشرية إلا في ظل هذا المنهج، ولا تملك الصعود إليه أبدًا إلا في ظل هذا المنهج كذلك، إنه في الوقت الذي كان اليهود في المدينة يطلقون كل سهامهم المسمومة، التي تحويها جعبتهم اللئيمة، على الإسلام والمسلمين والتي حكت هذه السورة -النساء- وسورة البقرة وسورة آل عمران جانبًا منها ومن فعلها في الصف المسلم.
في الوقت الذي كانوا فيه ينشرون الأكاذيب ويؤلبون المشركين ويشجعون المنافقين، ويرسمون لهم الطريق ويطلقون الإشاعات ويظللون العقول ويطعنون في القيادة النبوية، ويشككون في الوحي والرسالة ويحاولون تفسيخ المجتمع المسلم من الداخل، في الوقت الذي يؤلبون عليه خصومه؛ ليهاجموه من الخارج والإسلام ناشئ في المدينة، ورواسب الجاهلية ما يزال لها آثارها في النفوس، ووشائج القربى والمصلحة بين بعض المسلمين وبعض المشركين والمنافقين واليهود أنفسهم تمثل خطرًا حقيقيًّا على تماسك الصف المسلم وتناسقه.
في هذا الوقت الحرج الخطر الشديد الخطورة كانت هذه الآيات كلها تتنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى الجماعة المسلمة؛ لتنصف رجلًا يهوديًّا اتهم ظلما بسرقة؛ ولتدين الذين تآمروا على اتهامه، وهم بيت من الأنصار في المدينة، والأنصار يومئذ هم عدة الرسول صلى الله عليه وسلم وجنده في مقاومة هذا الكيد الناصب من حوله، ومن حول الرسالة والدين والعقيدة الجديدة.
أي مستوى هذا من النظافة والعدالة والتسامي؟! ثم أي كلام يمكن أن يرتفع ليصف هذا المستوى؟ وكل كلام، وكل تعليق، وكل تعقيب يتهاوى دون هذه القمة السامقة التي لا يبلغها البشر وحدهم، بل لا يعرفها البشر وحدهم إلا أن يقادوا بمنهج الله إلى هذا الأفق العلوي الكريم الوضيء.
إن المسألة لم تكن مجرد تبرئة بريء تآمرت عليه عصبة؛ لتوقعه في الاتهام -وإن كانت تبرئة بريء أمرًا هائلًا ثقيل الوزن في ميزان الله- إنما كانت أكبر من ذلك، كانت هي إقامة الميزان الذي لا يميل مع الهوى، ولا مع العصبية، ولا يتأرجح مع المودة والشنآن أيًا كانت الملابسات والأحوال.
وكانت المسألة هي تطهير هذا المجتمع الجديد، وعلاج عناصر الضعف البشري فيه مع علاج رواسب الجاهلية والعصبية في كل صورها حتى في صورة العقيدة، إذا تعلق الأمر بإقامة العدل بين الناس وإقامة هذا المجتمع الجديد الفريد في تاريخ البشرية على القاعدة الطيبة النظيفة الصلبة المتينة التي لا تدنسها شوائب الهوى والمصلحة والعصبية، والتي لا تترجرج مع الأهواء والميول والشهوات، ولقد كان هناك أكثر من سبب للإغضاء عن الحادث، أو عدم التشديد فيه والتنديد به وكشفه هكذا لجميع الأبصار. بل فضحه بين الناس على هذا النحو العنيف المكشوف.
كان هناك أكثر من سبب لو كانت الاعتبارات الأرضية هي التي تتحكم وتحكم. ولو كانت موازين البشر ومقاييسهم هي التي يرجع إليها هذا المنهج؛ كان هناك سبب واضح عريض أن هذا المتهم «يهودي» من يهود، يهود التي لا تدع سهمًا مسمومًا تملكه إلا أطلقته في حرب الإسلام وأهله، يهود التي يذوق منها المسلمون الأمرين في هذه الحقبة ويشاء الله أن يكون ذلك في كل حقبة، يهود التي لا تعرف حقًا ولا عدلًا ولا نصفة، ولا تقيم اعتبارًا لقيمة واحدة من قيم الأخلاق في التعامل مع المسلمين على الإطلاق.
وكان هنالك سبب آخر: وهو أن الأمر في الأنصار، الأنصار الذين آووا ونصروا، والذين قد يوجد هذا الحادث بين بعض بيوتهم ما يوجد من الضغائن، بينما أن اتجاه الاتهام إلى يهودي يبعد شبح الشقاق.
وكان هنالك سبب ثالث: هو عدم إعطاء اليهود سهمًا جديدًا يوجهونه إلى الأنصار، وهو أن بعضهم يسرق بعضًا، ثم يتهمون اليهود، وهم لا يدعون هذه الفرصة تفلت؛ للتشهير بها والتغرير، ولكن الأمر كان أكبر من هذا كله، كان أكبر من كل هذه الاعتبارات الصغيرة، الصغيرة في حساب الإسلام.
كان أمر تربية هذه الجماعة الجديدة؛ لتنهض بتكاليفها في خلافة الأرض وفي قيادة البشرية، وهي لا تقوم بالخلافة في الأرض ولا تنهض بقيادة البشرية حتى يتضح لها منهج فريد متفوق على كل ما تعرف البشرية وحتى يثبت هذا المنهج في حياتها الواقعية، وحتى يمحص كيانها تمحيصا شديدا وتنفض عنه كل خبيئة من ضعف البشر ومن رواسب الجاهلية، وحتى يقام فيها ميزان العدل؛ لتحكم به بين الناس مجردًا من جميع الاعتبارات الأرضية، والمصالح القريبة الظاهرة، والملابسات التي يراها الناس شيئًا كبيرًا لا يقدرون على تجاهله.
واختار الله سبحانه هذا الحادث بذاته، في ميقاته مع يهودي من يهود التي يذوق منها المسلمون الأمرين إذ ذاك في المدينة والتي تؤلب عليهم المشركين، وتؤيد بينهم المنافقين، وترصد كل ما في جعبتها من مكر وتجربة وعلم لهذا الدين، وفي فترة حرجة من حياة المسلمين في المدينة، والعداوات تحيط بهم من كل جانب، ووراء كل هذه العداوات يهود.
اختار الله هذا الحادث في هذا الظرف؛ ليقول فيه سبحانه للجماعة المسلمة ما أراد أن يقول، وليعلمها به ما يريد لها أن تتعلم، ومن ثم لم يكن هناك مجال للباقة، ولا للكياسة، ولا للسياسة، ولا للمهارة في إخفاء ما يحرج، وتغطية ما يسوء، ولم يكن هناك مجال لمصلحة الجماعة المسلمة الظاهرية، ومراعاة الظروف الوقتية المحيطة بها.
هنا كان الأمر جدًّا خالصًا، لا يحتمل الدهان ولا التمويه وكان هذا الجد هو أمر هذا المنهج الرباني وأصوله، وأمر هذه الأمة التي تعد؛ لتنهض بهذا المنهج وتنشره، وأمر العدل بين الناس، العدل في هذا المستوى الذي لا يرتفع إليه الناس -بل لا يعرفه الناس- إلا بوحي من الله، وعون من الله.
وينظر الإنسان من هذه القمة السامقة على السفوح الهابطة -في جميع الأمم على مدار الزمان- فيراها هنالك، هنالك في السفوح ويرى بين تلك القمة السامقة والسفوح الهابطة صخورًا متردية، هنا وهناك، من الدهاء والمراء، والسياسة، والكياسة، والبراعة، والمهارة، ومصلحة الدولة، ومصلحة الوطن، ومصلحة الجماعة إلى آخر الأسماء والعنوانات فإذا دقق الإنسان فيها النظر رأى من تحتها الدود.
وينظر الإنسان مرة أخرى فيرى نماذج الأمة المسلمة وحدها صاعدة من السفح إلى القمة تتناثر على مدار التاريخ، وهي تتطلع إلى القمة التي وجهها إليها المنهج الفريد.
أما العفن الذي يسمونه «العدالة» في أمم الجاهلية الغابرة والحاضرة، فلا يستحق أن نرفع عنه الغطاء في مثل هذا الجو النظيف الكريم»161.
وفي أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وسيرته ما يؤكد ذلك، فهي تلزم الحاكم بالعدل وترتب على ذلك عظيم الأجر والثواب، وتنهى عن الظلم وتبين آثاره على الظالمين، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سبعةٌ يظلهم الله تعالى في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمامٌ عدل، وشاب نشأ في عبادة الله. )162.
وقال عليه الصلاة والسلام: (إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا)163.
وقال أيضًا: (إن أحب الناس إلى الله يوم القيامة، وأقربهم منه مجلسًا: إمام عادل، وإن أبغض الناس إلى الله يوم القيامة، وأبعدهم منه مجلسًا: إمام جائر) 164.
وأخرج مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن الله تبارك وتعالى أنه قال: (يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا)165.
من الوقائع في العدل المطلق في الإسلام، والذي لا يفرق بين الناس في إقامة أحكام الشريعة في الحدود ما أخرجه البخاري عن عائشة رضي الله عنها (أن قريشًا أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت، فقالوا ومن يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلمه أسامة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أتشفع في حدٍ من حدود الله) ثم قام فاختطب ثم قال: (إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمدٍ سرقت لقطعت يدها)166.
وقال تعالى: (ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ) [المائدة: ٤٢].
ثم جاء الواقع التاريخي شاهدًا صادقًا على ذلك، والأمثلة على هذا كثيرةٌ تعز على الحصر، حسبنا منها الإشارة إلى واقعتين اثنتين:
الأولى: حكم القاضي جُمَيْعُ بن حاضر على جيش المسلمين في الخروج من سمرقند بعد فتحها دون إنذار؛ تحقيقًا لهذا العدل المطلق. فلما استخلف عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، قال أهل سمرقند لسليمان بن أبي السري -عامل عمر على تلك البلاد-: إن قتيبة بن مسلمٍ قد غدر بنا وظلمنا وأخذ بلادنا، وقد أظهر الله العدل والإنصاف. فأذن لنا فليفد منا وفد إلى أمير المؤمنين يشكو ظلامتنا، فإن كان لنا حقٌ أعطيناه، فإن بنا إلى ذلك حاجة، فأذن لهم، فوجهوا منهم قومًا فقدموا على عمر، فرفعوا إليه أن قتيبة دخل مدينتهم وأسكنها المسلمين على غدر.
فكتب عمر إلى سليمان بن أبي السري: إن أهل سمرقند قد شكوا إلي ظلمًا أصابهم، وتحاملًا من قتيبة عليهم حتى أخرجهم من أرضهم. فإذا أتاك كتابي فأجلس لهم القاضي، فلينظر في أمرهم، فإن قضى لهم فأخرجهم إلى معسكرهم كما كانوا وكنتم قبل أن ظهر عليهم قتيبة. قال: فأجلس لهم القاضي جميع بن حاضر الناجي، فحكم بإخراج المسلمين إلى معسكرهم، وأن ينابذوهم بعد ذلك على سواء، فيكون صلحًا جديدًا أو ظفرًا عنوة. فقال أهل سمرقند: قد خالطنا هؤلاء القوم وأقمنا معهم وأمنونا وأمناهم، فإن حكم لنا عدنا إلى الحرب ولا ندري لمن يكون الظفر، وإن لم يكن لنا كنا قد اجتلبنا عداوة في المنازعة، فنرضى بما كان ولا نجدد حربًا، فتركوا الأمر على ما كان، ورضوا ولم ينازعوا167.
والثانية: حين رد أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه على أهل الذمة في بلاد الشام ما جبي منهم من الجزية والخراج؛ لأنه كان قد اشترط لهم أن يمنعهم ويدافع عنهم، وهو لا يقدر على ذلك لما رأى تجمع الروم، وقال لهم: إنما رددنا عليكم أموالكم؛ لأنه بلغنا ما جمع لنا من الجموع، وإنكم اشترطتم علينا أن نمنعكم، وإنا لا نقدر على ذلك، وقد رددنا عليكم ما أخذنا منكم، ونحن لكم على الشرط وما كتبنا بيننا وبينكم إن نصرنا الله عليهم. فلما قال لهم ذلك وردوا عليهم الأموال التي جبوها منهم، قالوا: ردكم الله علينا ونصركم عليهم. فلو كانوا هم لم يردوا علينا شيئًا وأخذوا كل شيء بقي لنا حتى لا يدعوا لنا شيئًا168.
ونضع هنا كلمة مضيئة منصفة لشيخ الإسلام ابن تيمية في أثر العدل في قيام الأمم والحضارات وأثر الظلم في سقوطها، قال رحمه الله:
«وأمور الناس تستقيم في الدنيا مع العدل الذي فيه الاشتراك في أنواع الإثم، أكثر مما تستقيم مع الظلم في الحقوق وإن لم تشترك في إثم؛ ولهذا قيل: إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة. ويقال: الدنيا تدوم مع العدل والكفر، ولا تدوم مع الظلم والإسلام. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس ذنبٌ أسرع عقوبةً من البغي وقطيعة الرحم)169. فالباغي يصرع في الدنيا وإن كان مغفورًا له مرحومًا في الآخرة، وذلك أن العدل نظام كل شيء، فإذا أقيم أمر الدنيا بعدل قامت وإن لم يكن لصاحبها في الآخرة من خلاق، ومتى لم تقم بعدل لم تقم وإن كان لصاحبها من الإيمان ما يجزى به في الآخرة»170.
هذا بينما تقوم الدول الاستعمارية -في القديم والحديث- على الأنانية المفرطة وحب الذات، والظلم والعدوان، ففي السياسة الداخلية كثيرًا ما نجد التفرقة بين البيض والملونين في الحقوق والامتيازات، وبين أولئك الذين ينحدرون من أصول معينة وبين غيرهم من الأجناس في البلاد التي تتشدق بالعدالة والديمقراطية إلى زمن قريب. ومن المؤسف أن هذه السيئات والانحرافات عند أولئك القوم نجدها في واقعنا المعاصر رغم أن الإسلام يجعل العدل -كما رأينا- قيمة من أعلى القيم.
أما في العلاقات الخارجية وفي التعامل الدولي فتقوم تلك الدول الاستعمارية باستغلال الشعوب الضعيفة واستنزاف خيراتها، وإفساد عقائدها وأخلاقها؛ لتسهل السيطرة عليها، شأنها في ذلك شأن الأناني في علاقته مع الناس، وهذا كله مما يثير الصراع ويفشي الظلم، ويسوغ الغدر، ويبرر الواسطة -مهما كانت- بالغاية الأنانية التي تستهدف المصلحة الخاصة مهما كان الضرر الذي تلحقه بالغير. وواقع العلاقات الدولية اليوم شاهد ناطق بذلك، وما قضايا المسلمين في فلسطين وفي العراق وفي أفغانستان والشيشان والفلبين وفي البوسنة وغيرها في بقاع كثيرة من العالم ببعيدة عنا.
ثالثًا: تحرير الإنسان من العبودية لغير الله:
إن هذا الدين إعلان عام لتحرير الإنسان في الأرض من العبودية للعباد، ومن العبودية لهواه أيضًا وهي من العبودية للعباد، وذلك بإعلان ألوهية الله وحده سبحانه وربوبيته للعالمين إن إعلان ربوبية الله وحده للعالمين معناها: الثورة الشاملة على حاكمية البشر في كل صورها وأشكالها وأنظمتها وأوضاعها، والتمرد الكامل على كل وضع في أرجاء الأرض الحكم فيه للبشر بصورة من الصور أو بتعبير آخر مرادف: الألوهية فيه للبشر في صورة من الصور ذلك أن الحكم الذي مرد الأمر فيه إلى البشر، ومصدر السلطات فيه هم البشر، هو تأليه للبشر، يجعل بعضهم لبعض أربابا من دون الله إن هذا الإعلان معناه انتزاع سلطان الله المغتصب ورده إلى الله، وطرد المغتصبين له الذين يحكمون الناس بشرائع من عند أنفسهم فيقومون منهم مقام الأرباب، ويقوم الناس منهم مقام العبيد إن معناه تحطيم مملكة البشر؛ لإقامة مملكة الله في الأرض.
أو بالتعبير القرآني الكريم: (ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭﮮ ﮯ ﮰ ﮱ) [الزخرف: ٨٤].
(ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ) [يوسف: ٤٠].
(ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ) [آل عمران: ٦٤].
والدولة الإسلامية لا تقوم بأن يتولى الحاكمية في الأرض رجال بأعيانهم هم رجال الدين كما كان الأمر في سلطان الكنيسة، ولا رجال ينطقون باسم الآلهة، كما كان الحال في ما يعرف باسم الثيوقراطية أو الحكم الإلهي المقدس، ولكنها تقوم بأن تكون شريعة الله هي الحاكمة وأن يكون مرد الأمر إلى الله وفق ما قرره من شريعة مبينة.
وقيام الدولة المسلمة في الأرض، وانتزاع السلطان من أيدي مغتصبيه من العباد ورده إلى الله وحده. وسيادة الشريعة الإلهية وحدها وإلغاء القوانين البشرية كل أولئك لا يتم بمجرد التبليغ والبيان؛ لأن المتسلطين على رقاب العباد، المغتصبين لسلطان الله في الأرض، لا يسلمون في سلطانهم بمجرد التبليغ والبيان. وإلا فما كان أيسر عمل الرسل في إقرار دين الله في الأرض! وهذا عكس ما عرفه تاريخ الرسل صلوات الله وسلامه عليهم، وتاريخ هذا الدين على ممر الأجيال.
إن هذا الإعلان العام لتحرير الإنسان في الأرض من كل سلطان غير سلطان الله، بإعلان ألوهية الله وحده وربوبيته للعالمين، لم يكن إعلانًا نظريًّا فلسفيًّا سلبيًّا، إنما كان إعلانًا حركيًّا واقعيًّا إيجابيًّا، إعلانًا يراد له التحقيق العملي في صورة نظام يحكم البشر بشريعة الله، ويخرجهم بالفعل من العبودية للعباد إلى العبودية لله وحده بلا شريك، ومن ثم لم يكن بد من أن يتخذ شكل «الحركة» إلى جانب شكل «البيان» ذلك ليواجه الواقع البشري بكل جوانبه بوسائل مكافئة لكل جوانبه.
والواقع الإنساني، أمس واليوم وغدًا، يواجه هذا الدين -بوصفه إعلانًا عامًا لتحرير الإنسان في الأرض من كل سلطان غير سلطان الله- بعقبات اعتقادية تصورية، وعقبات مادية واقعية وعقبات سياسية واجتماعية واقتصادية وعنصرية وطبقية، إلى جانب عقبات العقائد المنحرفة والتصورات الباطلة وتختلط هذه بتلك وتتفاعل معها بصورة معقدة شديدة التعقيد.
وإذا كان «البيان» يواجه العقائد والتصورات، فإن الحركة تواجه العقبات المادية الأخرى، وفي مقدمتها السلطان السياسي القائم على العوامل الاعتقادية التصورية، والعنصرية والطبقية، والاجتماعية والاقتصادية المعقدة المتشابكة وهما معًا -البيان والحركة- يواجهان الواقع البشري بجملته، بوسائل مكافئة لكل مكوناته، وهما معًا لا بد منهما لانطلاق حركة التحرير للإنسان في الأرض، الإنسان كله في الأرض كلها، وهذه نقطة هامة لا بد من تقريرها مرة أخرى، إن هذا الدين ليس إعلانًا لتحرير الإنسان العربي، وليس رسالة خاصة بالعرب، إن موضوعه هو الإنسان نوع الإنسان ومجاله هو الأرض كل الأرض.
إن الله سبحانه ليس ربا للعرب وحدهم ولا حتى لمن يعتنقون العقيدة الإسلامية وحدهم، إن الله هو رب العالمين، وهذا الدين يريد أن يرد العالمين إلى ربهم، وأن ينتزعهم من العبودية لغيره. والعبودية الكبرى -في نظر الإسلام- هي خضوع البشر لأحكام يشرعها لهم ناس من البشر وهذه هي العبادة التي يقرر أنها لا تكون إلا لله. وأن من يتوجه بها لغير الله يخرج من دين الله مهما ادعى أنه في هذا الدين. ولقد نص رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن الاتباع في الشريعة والحكم هو العبادة التي صار بها اليهود والنصارى مشركين مخالفين لما أمروا به من عبادة الله وحده.
أخرج الترمذي -بإسناده- عن عدي ابن حاتم رضي الله عنه (أنه لما بلغته دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم فر إلى الشام، وكان قد تنصر في الجاهلية، فأسرت أخته وجماعة من قومه، ثم من رسول الله صلى الله عليه وسلم على أخته وأعطاها. فرجعت إلى أخيها فرغبته في الإسلام، وفي القدوم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فتحدث الناس بقدومه. فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عنقه (أي: عدي) صليب من فضة، وهو (أي: النبي صلى الله عليه وسلم) يقرأ هذه الآية: (ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ) [التوبة: ٣١].
قال: فقلت: إنهم لم يعبدوهم. فقال: (بلى! إنهم حرموا عليهم الحلال، وأحلوا لهم الحرام. فاتبعوهم. فذلك عبادتهم إياهم)171.
وتفسير رسول الله صلى الله عليه وسلم لقول الله سبحانه نص قاطع على أن الاتباع في الشريعة والحكم هو العبادة التي تُخرج من الدين، وأنها هي اتخاذ بعض الناس أربابا لبعض الأمر الذي جاء هذا الدين ليلغيه، ويعلن تحرير الإنسان في الأرض من العبودية لغير الله.
ومن ثم لم يكن بد للإسلام أن ينطلق في الأرض؛ لإزالة الواقع المخالف لذلك الإعلان العام بالبيان وبالحركة مجتمعين، وأن يوجه الضربات للقوى السياسية التي تعبد الناس لغير الله -أي: تحكمهم بغير شريعة الله وسلطانه- والتي تحول بينهم وبين الاستماع إلى البيان واعتناق العقيدة بحرية لا يتعرض لها السلطان.
ثم لكي يقيم نظاما اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا يسمح لحركة التحرر بالانطلاق الفعلي - بعد إزالة القوة المسيطرة - سواء كانت سياسية بحتة، أو متلبسة بالعنصرية أو الطبقية داخل العنصر الواحد، إنه لم يكن من قصد الإسلام قط أن يكره الناس على اعتناق عقيدته، ولكن الإسلام ليس مجرد عقيدة.
إن الإسلام -كما قلنا- إعلان عام لتحرير الإنسان من العبودية للعباد، فهو يهدف ابتداء إلى إزالة الأنظمة والحكومات التي تقوم على أساس حاكمية البشر للبشر، وعبودية الإنسان للإنسان، ثم يطلق الأفراد بعد ذلك أحرارًا -بالفعل- في اختيار العقيدة التي يريدونها بمحض اختيارهم بعد رفع الضغط السياسي عنهم وبعد البيان المنير لأرواحهم وعقولهم، ولكن هذه الحرية ليس معناها أن يجعلوا إلههم هواهم، أو أن يختاروا بأنفسهم أن يكونوا عبيدا للعباد، وأن يتخذ بعضهم بعضا أربابًا من دون الله. إن النظام الذي يحكم البشر في الأرض يجب أن تكون قاعدته العبودية لله وحده، وذلك بتلقي الشرائع منه وحده، ثم ليعتنق كل فرد -في ظل هذا النظام العام- ما يعتنقه من عقيدة، وبهذا يكون الدين كله لله. أي: تكون الدينونة والخضوع والاتباع والعبودية كلها لله، إن مدلول الدين أشمل من مدلول العقيدة، إن الدين هو المنهج والنظام الذي يحكم الحياة. وهو في الإسلام يعتمد على العقيدة، ولكنه في عمومه أشمل من العقيدة وفي الإسلام يمكن أن تخضع جماعات متنوعة لمنهجه العام الذي يقوم على أساس العبودية لله وحده ولو لم يعتنق بعض هذه الجماعات عقيدة الإسلام172 كما تقدم في مقومات الدولة.
رابعًا: إطلاق طاقات الأمة:
إن الدولة الإسلامية -وهي التي تقوم بأعباء الخلافة والعمران والإبداع المادي في الأرض، الذي جعله الإسلام نوعًا من أنواع العبادة لله تعالى، ومظهرًا لتحقيق العبودية له سبحانه- دولة إيجابية فاعلة، ومن وظيفتها إطلاق طاقات الأمة وتحفيزها للعمل والإيجابية المؤثرة في الحياة. وتنبثق هذه الإيجابية الفاعلة من إيجابية العقيدة الإسلامية والإيمان بالله تعالى.
وإن استقرار هذه الحقيقة في ضمير الجماعة المسلمة الأولى هو الذي أنشأ هذه المجموعة الفريدة الممتازة في تاريخ البشرية كله على الإطلاق، وبدون استثناء. فقد عاشوا هذه الحقيقة. عاشوها حية في نفوسهم. عاشوها ليل نهار، وصباح مساء. عاشوها كما يعيشون حياتهم اليومية الواقعة. عاشوا مع الله ومن ثَمَّ كانوا هذا الذي كانوا من الحساسية والطمأنينة معًا، ومن اليقظة والراحة معًا، ومن التوكل والفاعلية معًا، ومن الخوف والطمع معًا، ومن التواضع والعزة معًا -التواضع لله والعزة بالله-، ومن الخضوع والاستعلاء معًا -الخضوع لله والاستعلاء على أعداء الله-، ومن ثم صنع الله بهم في هذه الأرض ما صنع من الصلاح والعمار، ومن الرفعة والطهارة مما لم يسبق ولم يلحق في تاريخ بني الإنسان.
ولذلك كانت الصورة الأخرى للإيجابية وإطلاقات طاقات الأمة للعمل في كل المجالات والميادين هي إيجابية الإنسان في الكون. وإيجابية المؤمن بهذه العقيدة في واقع الحياة على وجه خاص.
إن هذا التصور ما يكاد يستقر في الضمير؛ حتى يتحرك ليحقق مدلوله في صورة عملية، وليترجم ذاته في حالة واقعية. والمؤمن بهذا الدين ما يكاد الإيمان يستقر في ضميره حتى يحس أنه قوة فاعلة مؤثرة. فاعلة في ذات نفسه، وفي الكون من حوله.
إن التصور الإسلامي ليس تصورًا سلبيًا يعيش في عالم الضمير قانعًا بوجوده هناك في صورة مثالية نظرية، أو تصوفية روحانية، إنما هو تصميم لواقع مطلوب إنشاؤه وفق هذا التصميم. وطالما هذا الواقع لم يوجد فلا قيمة لذلك التصميم في ذاته إلا باعتباره حافزًا لا يهدأ لتحقق ذاته.
وحيثما ذكر الإيمان في القرآن أو ذكر المؤمنون ذكر العمل، الذي هو الترجمة الواقعية للإيمان، فليس الأمر مجرد مشاعر، إنما هو مشاعر تفرغ في حركة لإنشاء واقع، وفق التصميم الإسلامي للحياة، أو وفق التصور الإسلامي للحياة: (ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛﯜ ﯝ ﯞ ﯟ) [الحجرات: ١٥].
(ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ) [النور: ٥٥ ].
(ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝﭞ ﭟ ﭠ ﭡﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ) [آل عمران: ١٩٥].
(ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ) [العصر: ١ -٣ ].
ثم يحس المسلم من وحي تصوره الإسلامي أنه مطالب بأداء شهادة لهذا الدين، لا يستريح ضميره، ولا يطمئن باله، ولا يستشعر أنه أدى حق نعمة الله عليه بالإسلام. وأنه يطمع من ثم في النجاة من عذاب الله في الدنيا والآخرة إلا أن يؤدي هذه الشهادة كاملة، بكل تكاليفها في النفس والجهد والمال: (ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ) [البقرة: ١٤٣].
وهو يؤدي هذه الشهادة أولًا في ذات نفسه: بأن يطابق بين واقع حياته الشخصية، في كل جزئية من جزئيات نشاطه، وبين مقتضيات التصور الذي يقوم عليه اعتقاده.
وهو يؤديها ثانية في دعوة الآخرين إلى هذا المنهج وبيانه لهم. مسوقًا في هذه الدعوة وهذا البيان بدوافع كثيرة:
أولها: دافع أداء الشهادة لينجو من الله، وليؤدي حق نعمته عليه بهدايته إلى الإسلام.
وثانيها: حب الخير للناس، وهدايتهم إلى هذا الخير الذي هدي هو إليه، والذي لا يحتجنه لنفسه، ولا لأسرته، ولا لعشيرته، ولا لقومه، ولا لجنسه؛ لأنه يتعلم من هذا التصور ذاته أن البشر كلهم إخوة.
وثالثها: شعوره بأن تبعة ضلال الناس -إذا ضلوا- إنما تقع على عاتقه هو، ما لم يبين لهم -بعد ما عرف وتبين- وهي تبعة ثقيلة تنوء بضميره، وتنوء بكاهله، وقد علم أنها تبعة الرسل - صلوات الله وسلامه عليهم- وأنه هو مستخلف فيها عن الرسل، ومسؤول عنها بعدهم.
وهو يؤديها -أخيرًا- بالعمل على تحقيق منهج الله في حياة الناس، وإقامة النظام الذي ينبثق من ذلك التصور، وإقامة حياة الجماعة الإنسانية على أساس هذا النظام. باعتبار أن هذا التصور هو «تصميم» لعالم واقعي، يراد إخراجه وتحقيقه؛ ليتحقق وجود الإسلام في الأرض؛ ولتخلص الألوهية لله، إذ لا وجود للإسلام بدون قيام مجتمع يعيش بهذا النظام، ويعترف لله وحده بالألوهية، فلا يتلقى في منهج حياته الأساسي إلا من الله. ثم ليستحق المسلمون نصر الله وتأييده الذي وعدهم إياه. وشرط له شرطًا واضحًا لا عوج فيه: (ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑﮒ ﮓ ﮔ ﮕ) [الحج: ٤٠ - ٤١]
بهذا كله يستشعر المسلم أن وجوده على الأرض ليس فلتة عابرة، إنما هو قدر مقدور، مرسوم له طريقه ووجهته وغاية وجوده، وأن وجوده على الأرض يقتضيه حركة وعملًا إيجابيًّا في ذات نفسه. وفي الآخرين من حوله. وفي هذه الأرض التي هو مستخلف فيها، وفي هذا الكون المحسوب حسابه في تصميمه، وأنه لا يبلغ شكر نعمة الله عليه بالوجود، ونعمة الله عليه بالإيمان، ولا يطمع في النجاة من حساب الله وعذابه، إلا بأن يؤدي دوره الإيجابي في خلافة الأرض، وفق شرط الله ومنهجه، وتطبيق هذا المنهج في حياته وفي حياة غيره، والجهاد لدفع الفساد عن هذه الأرض التي هو قيم عليها، والفساد في الأرض إنما ينشأ عن عدم تطبيق منهج الله في عالم الواقع، ودنيا الناس، حياة الجماعات - وأن وزر هذا الفساد -حين يقع- واقع على عاتقه هو، ما لم يؤد الشهادة لله في نفسه وفي غيره، وفي الأرض كلها من حوله.
وتصور المسلم للأمر على هذا النحو، لا جرم يرفع من قيمته في نظر نفسه، كما يرفع من اهتماماته بقدر ما يشعره بضخامة التبعة الملقاة على عاتقه، وبثقل العبء الذي يحمله، ويكدح فيه حتى يلاقي الله ربه، وقد أدى الأمانة، وأدى الشهادة، ووفى بحق النعمة - فيما يملك من الطاقة- وطمع في النجاة من عذاب الله، وزحزح عن النار173.
و الواقع التاريخي للأمة المسلمة منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم شاهد صادق على هذه الإيجابية، وعلى إطلاقات طاقات الأمة الكامنة في أفرادها، حتى صار ذلك واقعًا ملموسًا نشاهده رأي العين، فالذين حملوا الدعوة الأولى و تحركوا بها ونشروها بعد جهد وجهاد وصبر ومصابرة، والذين كان النبي صلى الله عليه وسلم يستشيرهم ويأخذ برأيهم، ويقول لأحدهم: إنما أنت فرد فخذل عنا، والذين يقومون بمهمة في الجهاد و الدفاع والحماية للمسلمين، والذين كانوا أصحاب مشورة عمر رضي الله عنه، والذين قادوا الجيوش في الفتوحات، والذين ارتادوا للبشرية طريق الهداية وطريق العلم والصناعة والاكتشافات الجغرافية مثلًا، والذين حملوا مشاعل الحضارة والعرفان فأناروا طريق البشرية كل هؤلاء وأمثالهم.
إنما هم أمثلة حية وشواهد صادقة على هذه الطاقات التي أطلقها الإسلام، وعلى هذه التربية الراقية التي وضع أسسها وطرائقها فأثمرت ثمراتها التي ننعم بها و تنعم بها البشرية اليوم على الرغم من جحود الجاحدين وإنكار المستكبرين. (ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ) [يوسف: ٢١].
خامسًا: إعداد القوة المادية والمعنوية:
من مزايا الدولة الإسلامية أن تقوم بإعداد القوة بكل أنواعها؛ لأن الله تعالى يأمر بإعداد القوة والاستعداد بدرجة قصوى؛ ليكون ذلك الإعداد والاستعداد سببًا لردع الأعداء وإرهابهم قبل وقوع الحرب والقتال. ونظرية الردع هذه مفتاح الاستراتيجية المعاصرة التي وصل إليها الفكر العسكري العالمي بعد معاناة قاسية وطويلة في حروب طاحنة اكتوى العالم بنارها خلال الحربين العالميتين، ثم وجد أخيرًا الوسيلة لمنع وقوع مثل هذه المآسي، وهي استراتيجية الردع174.
وهي أول نظرية حربية في الإسلام منذ خمسة عشر قرنًا، أرساها القرآن الكريم وأوضح معانيها النبي صلى الله عليه وسلم في كثير من الأحاديث. وتناولها العلماء بالبحث بأسلوب يتفق مع العصر الذي يعيشون فيه.
وأما الاستعداد والإعداد الذي أشارت إليه الآية الكريمة وأمرت به: (ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ) [الأنفال: ٦٠].
فإنه يشمل جوانب متعددة يتضمن كل ما يمكن أن يساعد على الظفر والنصر في المعركة والتهيؤ لها قبل وقوعها.
إن الإعداد القوي يشمل أنواعًا كثيرة دينية وأدبية وعلمية وخلقية ومادية وإدارية وفنية ومالية.
فأما الإعداد العلمي فهو يشمل الفكرة والمبدأ والعقيدة. والإسلام حريص - رغم حرصه على السلام- على تنشئة فكرة القوة في نفوس المسلمين تنشئة عادلة كريمة، وعلى توجيهها من أول أمرها توجيهًا إسلاميًا نزيها وإنسانيا عالميًا، وجعلها من أسمى العبادات المفروضة لحفظ العقيدة وحرية الحياة وبناء الأمة وإرهاب العدو، لا للعدوان والظلم والإفساد والسيطرة، وجعلها آخر ما يلجأ إليه المسلمون من أدوات التفاهم مع المعتدين. وفي هذا المقام تتجلى عزة الإسلام وروعته وحكمته، حيث جعل الجهاد في سبيل الله تعالى أسمى الأعمال وأفضلها، وجعل المجاهدين في أعلى الدرجات.
فقال الله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ) [النساء: ٩٥].
وأما الإعداد الأدبي فهو يشمل آداب القيادة وآداب الجندية. وفي ذلك جاء الاهتمام بالصفات الخلقية والآداب الضرورية، فيجب على القائد أن يكون عالمًا بكتاب الله، و ملما بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن يكون عارفًا بالحروب ومعداتها، وأن يكون قويًا حائزًا لثقة أتباعه واحترامهم، هادئ الأعصاب، ثابت الجنان، كثير الاختبار لجنوده، سريع الحركة بينهم، عاقلًا وحكيمًا وحازمًا في اتخاذ القرارات، وأن يكون عادلًا ولو مع الأعداء، رحيمًا بجنوده متفقدًا لأحوالهم، وأن يخرج في كل موقف أو معركة بفوائد جليلة لدينه وأمته.
وأما الجنود وهم الآلة الحية المنفذة واليد العاملة و القوة الفاعلة، فإنهم يتصفون -كذلك- بصفات وآداب هي روح المؤمنين وسر حياتهم. ومن أخلاقهم السامية التي لا بد أن يتربوا عليها: الإيمان بالفكرة والإخلاص لها، والاستعداد للتضحية في سبيلها، والوفاء بالوعد، و الصدق، والسمع والطاعة في المعروف، والثبات عند اللقاء، واستشعار الرضا بقضاء الله و التسليم لقدره، وعدم التنازع، والتحرز عن المعاصي، والترفع عن الطمع، والإيمان بأن النصر من عند الله تعالى.
وإن الإدارة أمر خطير، يتوقف على حسن نظامها وتجهيزها التصرف في المواقف؛ لذلك عني الإسلام بالإعداد الإداري للقيادة ولهيئة أركان الحرب ولقلم المخابرات الذي يستطلع ويعرف أخبار العدو ومخططاته؛ لمواجهتها بالأساليب والأدوات المكافئة، وفي كل قسم من هذه الأمور الثلاثة آداب وأحكام لا مجال لتفصيلها، فحسبنا هذه الإشارة الموجزة إليها.
وأما الإعداد الفني: وهو الخطوة العملية الأولى في الإعداد الأدبي باعتبارها حقيقة واقعة في ميدان الجهاد، وهو المظهر الحسي للقوة المعنوية الكامنة في نفوس المجاهدين. وهذا الإعداد قسمان: إعداد عمليٌّ وآخر خلقيٌّ.
وهما يسيران جنبًا إلى جنب، لا يمكن فصل أحدهما عن الآخر. فالعملي يتركز في النظافة والنظام والرياضة البدنية والتدريبات العسكرية بأنواعها. والخلقي يتمثل في الرياضة الروحية والعقلية، وفي التعرف على واجبات الجندية والقيادة والتخلق بها، وتحديد المسؤوليات والتعاون عليها، وتوضيح الصلة بين كلٍ من الجندي والقائد، وأساليب المعاملة بينهما ويتبنيان مبدأ الجزاء وقوانينه.
وأما الإعداد المالي: وذلك لأن الإنفاق هو شطر الجهاد الأول، وبدونه لا قيام للشطر الثاني. و الإنفاق مبدأ من مبادئ الإسلام القويمة التي لا يقبل الإسلام التقصير فيها مع القدرة، والتقصير نكوص وإلقاء بالنفس إلى التهلكة.
وقد قال الله تعالى في ذلك: (ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ) [البقرة: ١٩٥].
والواقع التاريخي يثبت لنا حسن تمثل الصحابة رضوان الله عليهم في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لهذا المبدأ وتطبيقه. والأمثلة في ذلك كثيرة تعز على الحصر، ومن ذلك ما هو معروف من مواقف أبي بكر، و عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان وغيرهم -رضي الله عنهم أجمعين- حتى ممن كان في قلةٍ من ذات اليد، فإنهم أيضًا لم يبخلوا بالقليل الذي كان عندهم، وقد سجل الله تعالى لهم مواقفهم الطيبة تلك.
وأما الإعداد المادي: ويشمل الإعداد للرجال والعتاد بكل أنواعه، ففي إعداد القوة والسلاح والفروسية روي عن عتبة بن أبي حكيم قال: ذكرت القوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (ما سبقها سلاحٌ قط إلى خيرٍ)175.
يعني أنها أقوى آلات الجهاد.
وفي هذا حثٌ للمجاهدين على تعلم الرمي، وفي ذلك جاءت أحاديث وآثار منها حديث عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في قوله تعالى: (ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ): (ألا إن القوة الرمي) قالها ثلاثًا176.
وروي عنه أيضًا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله يدخل بالسهم الواحد الجنة ثلاثة: صانعه الذي يحتسب به، ومنبله، والرامي به)177.
وعن عمر رضي الله عنه أنه قال: «علموا أولادكم السباحة والفروسية، ومروهم بالاحتفاء بين الأغراض»178.
وأما المرابطة بالنفس وبالخيل ونحوها فإنها كذلك من أهم مظاهر القوة والإعداد والاستعداد للجهاد: (ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ) [آل عمران: ٢٠٠].
وأما درجة الاستعداد القصوى بالحث على الجهاد والاستنفار الدائم له والتأهب على أقصى درجات التأهب، والاستعداد للحركة والانطلاق نحو الخطر، فقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان يهتف بأهل مكة فيقول: «يا أهل مكة، يا أهل البلدة، ألا التمسوا الأضعاف المضاعفة في الجنود المجندة والجيوش السائرة. ألا وإن لكم العشر ولهم الأضعاف المضاعفة».
وهذه خطبة الاستنفار لتحريض الناس على الجهاد والاستعداد له، وقد فعله النبي صلى الله عليه وسلم في مواطن، كما قال تعالى: (ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ) [الأنفال: ٦٥ ].
ثم اقتدى به عمر رضي الله عنه في تحريضه أهل مكة، فحثهم على الجهاد وتحصيل أعلى الدرجات؛ لكي لا يتخلفوا عن الجهاد معتمدين على أنهم جيران بيت الله وسكان حرمه.
وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه قال: «يا أهل المدينة خذوا بحظكم من الجهاد في سبيل الله، ألا ترون إلى إخوانكم من أهل الشام وأهل مصر وأهل العراق، فوالله ليومٌ يعمله أحدكم في سبيل الله خير له من ألف يوم يعمله في بيته صائمًا قائمًا لا يفطر ولا يفتر»179.
وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: «خير الناس هو رجلٌ من أهل البادية، صاحب صرمة إبل أو غنم180، قدم بإبله أو غنمه إلى مصرٍ من الأمصار فباعها ثم أنفقها في سبيل الله، فكان مسلحة بين المسلمين وبين عدوهم. فذاك خير الناس»181.
وفي أصول التربية على القوة والتحذير من التنعم والترف، روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: «لا تزال هذه الأمة على شرعة من الإسلام حسنة، هم فيها لعدوهم قاهرون وعليه ظاهرون ما لم يصبغوا الشعر ويلبسوا المعصفر ويشاركوا الذين كفروا في صغارهم. فإن فعلوا ذلك كانوا قمنا أن ينتصف منهم عدوهم»182.
وكتب عمر إلى خليفته بالشام: «انظر من قبلك فمرهم فلينتعلوا وليحتفوا وليأتزروا وليرتدوا وليؤدبوا الخيل، ولا يظهر صليب، ولا يجاورنهم الخنازير، ولا يقعدون على مائدة يشرب عليها الخمر، وإياكم وأخلاق الأعاجم»183 يعني: في التنعم وإظهار التجبر. وفي هذا وذاك بيان النصرة لهذه الأمة ما داموا مشتغلين بالجهاد، فإذا انشغلوا بالدنيا واتبعوا اللذات والشهوات وأعرضوا عن الجهاد يظفر عليهم عدوهم184.
ولذلك جاء التحذير من الانشغال عن الجهاد والتقاعس عنه بسبب الانشغال بالدنيا ومتاعها؛ إذ إن ذلك سبب في ضعف الأمة أمام أعدائها يطمعهم فيها وينزع هيبتها من صدورهم، فيكون ذلك طريقًا إلى الذلة. وفي هذا روى الإمام محمد عن معبدٍ قال: «إذا زرعت هذه الأمة نزع منهم النصر وقذف في قلوبهم الرعب».
و عن محمد بن كعب قال: قيل لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه في قوله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ) [آل عمران: ١٤٩].
أهو التعرب -الإقامة بالبادية وترك الهجرة-؟! قال: لا، ولكنه الزرع185.
وروي عن ابن عمر موقوفًا: «إذا تبايعتم بالعينة ، واتبعتم أذناب البقر، وكرهتم الجهاد، ذللتم حتى يطمع فيكم عدوكم» 186. وعنه أيضًا قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلًا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم) 187.
ولا يقتصر الاستعداد للحرب البرية فقط، بل يشمل الحرب البحرية. فقد روي عن مجاهد عن تبيع -وهو ابن امرأة كعب - عن كعبٍ قال: «إذا وضع الرجل رجله في السفينة خرج من خطاياه كيوم ولدته أمه، والمائد فيه كالمتشحط بدمه في سبيل الله، والغريق فيه له مثل أجر شهيدين، والصابر فيه كالملك على رأسه التاج»188189.
أسس العلاقات الدولية في الإسلام
تقوم العلاقات الدولية في الإسلام على مجموعة من القواعد العقدية والأخلاقية والتشريعية، وهي أسس عامة تبنى عليها أحكام هذه العلاقات، وهذا يؤدي إلى تميز هذه الأحكام في الإسلام عن العلاقات الدولية في النظم الوضعية؛ ولذلك نعقد هذا الموضع لبيان هذه الأسس التي تتميز بها، وذلك فيما سيأتي.
المقصود بالأسس: مجموعة الأحكام والقواعد العقدية والتشريعية التي تقوم عليها العلاقات الدولية في الإسلام، وتؤثر فيها. وقد تناول البحث بعض الأسس التشريعية فيما سبق عن مزايا الدولة، مثل تحقيق العدل والوفاء بالعهود والمواثيق؛ ولذلك نكتفي في هذا الموضع بإشارات سريعة إلى أهم الأسس العقدية والأخلاقية في فقرتين.
أولًا: الأسس العقدية:
عني القرآن الكريم كما عنيت السنة النبوية بالعقيدة التي تقوم على أساس الإيمان بالله تعالى ربًا متفردًا بالخلق، وإلهًا متفردًا بالأمر والنهي، فلا عبودية إلا له، وبذلك يتحرر الإنسان من كل عبودية لغير الله، يتحرر وجدانه وعقله حريةً حقيقية. فالدولة الإسلامية والأمة المسلمة لها مثالية لم تنعم بها أي دولة كبرى سبقتها أو جاءت بعدها، وهذه المثالية التي هي دعامة الدولة الإسلامية، هي عقيدة التوحيد190.
والتوحيد له أيضًا أثر سياسيٌ وقانونيٌ، لم يفطن له الكثيرون، فالتوحيد وقاية من طغيان الفرد وظلم الإنسان للإنسان. وهل هناك تحرر من طغيان البشر أروع من الإيمان بأن الله هو خالق الكون، وأن القوة لله جميعًا، وأن السلطة لله وحده، وأن الخير بيده سبحانه وإليه المصير؟! هذا المعنى رد للفرد شعوره بشخصيته وبكرامته، وبأن له حرمةً في نظر القانون، وأنه لا توجد قوة في الأرض تستطيع أن تجرده من حقوقه كإنسان، وإن حاولت فهو مطالب بالدفاع عن تلك الحقوق، وإن مات دونها فهو شهيد191.
وإذا كانت العقيدة هي الموضوع الرئيس الأساس في السور المكية، فإنها كذلك موضوع رئيسي في السور المدنية التي تنزلت لتعالج قضايا تشريعية دولية مثل الدعوة إلى السلم، واستنقاذ المستضعفين، والوفاء بالعهد، والعدل والمعاملة بالمثل وغير ذلك من المبادئ والأحكام التي عرضت من خلال هذه العقيدة ومقتضى الإيمان بالله تعالى والإيمان باليوم الآخر، مرتبطةً بصفات الله تعالى من أنه حكيم عليم، سميع بصير، حكم عدل؛ ولذلك نجد هذه الآيات الكريمة وأمثالها:
(ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ) [الأنفال: ٦١].
(ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ) [النساء: ٧٥].
(ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ) [التوبة: ٤].
(ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝﯞ ﯟ ﯠﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ) [المائدة: ٨].
ومن هنا كانت أحكام العلاقات الدولية - كغيرها من جوانب الفقه الإسلامي - ذات اعتبارين: قضائي ودياني. فالقضائي يحاكم العمل بحسب الظاهر، أما الدياني فإنما تحكم بحسب الحقيقة والواقع. فالأمر أو العمل الواحد قد يختلف حكمه في القضاء عنه في الديانة. ولذلك نجد الفقهاء يميزون بين ما ينفذ من الأحكام ظاهرًا وباطنًا وبين ما ينفذ ظاهرًا؛ تأسيسًا على هذا التفريق192.
وقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا المعنى فيما روته أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سمع خصومة بباب حجرته، فخرج إليهم فقال: (إنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له بحق أخيه شيئًا فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار، فليأخذها أو ليتركها)193.
ثانيًا: الأسس الأخلاقية والقيم العليا:
تمتزج العقيدة بالأخلاق، فتهذب النفس وتربي الضمير، فتجعل منه محكمة داخلية في نفس المسلم، ينصف من نفسه قبل أن ينتصف هو من الآخرين، وتحمله على الامتثال والالتزام بالأحكام عن طواعية واختيار في كل معاملاته على مستوى الأفراد والجماعة والأمة، وفي العلاقات مع الأمم الأخرى194.
ومن الواضح أن القانون الإسلامي يعلق أهمية غير قليلة على القيمة الأخلاقية. وقد ألمحنا آنفًا إلى بعض الآيات القرآنية الكريمة التي توجب الالتزام بقانون الأخلاق الإسلامية في العلاقات الدولية، تمامًا كما هي ملزمة في العلاقات الفردية.
وقد جاءت السنة النبوية وأعمال الخلفاء الراشدين وسيرتهم في الجهاد والعلاقات الدولية تطبيقًا عمليًا لذلك، ثم بنى الفقهاء كثيرًا من أحكامهم في العلاقات الدولية والجهاد على هذا الأصل العظيم.
ومن ذلك: الحفاظ على الكرامة الإنسانية، وإعلاء مكانة الجوانب الشعورية والنفسية، ووجوب الوفاء بالعهد، والتحرز عن الغدر حتى ولو غدروا بنا، وتحريم المثلة بالأعداء في الجهاد، وتحريم قتل غير المقاتلين، وتحريم استعمال آلاتٍ وأدواتٍ يعم ضررها، وغيرها من المبادئ الأخلاقية التي ستأتي - إن شاء الله تعالى - في مواضعها.
وقد أدرك بعض الكتاب في القانون الدولي- من غير المسلمين- قيمة هذه الخاصية ومكانتها، حيث إن الإسلام بوصفه منهجًا للحياة، فإنه يشدد على أهمية المبادئ الخلقية في العلاقات الدولية، التي دفعت المسلمين لاتخاذ موقفٍ رائع من التسامح نحو غير المسلمين، والتحلي بمبادئ إنسانية، يعكسها لنا مضمون الأحكام التي استنبطوها لحالة الحرب ولسير المعارك مع الأعداء. والواقع التاريخي الإسلامي - وهذا يصدق على البشر أجمعين - يظهر لنا أن أي نظام اجتماعي على الصعيد الدولي، يفقد معناه إذا خلا كليًا من المبادئ الأخلاقية والقيم العليا الفاضلة.
وهذ الارتباط بين الأخلاق والتشريعات أفاض على الأحكام هيبة واحترامًا في عقول المخاطبين بالتشريع، وأورثها سلطانًا على النفوس، كان به الفقه الإسلامي شريعة مدنية ووازعًا أخلاقيًا في وقت معًا؛ لما فيه من قدسية المصدر القرآني الآمر، ومن الزاجر الديني الباطن إلى جانب القضاء الظاهر، فلا يحتاج الإنسان إلى قوة مصلتة عليه دائمًا؛ لتلزمه الخضوع لإيجابه، ولا يجد في الإفلات من سلطان حكمه غنيمة -إن استطاع الإفلات- سواء كان عظيمًا أو ضعيفًا195.
كما ترتب على هذا أيضًا: أن يكون لمخالفة الحكم الشرعي جزاء يتحمله المخالف، وهو يشمل الثواب عند الطاعة والعقاب أو الضمان عند المخالفة.
والجزاء قد يكون دنيويًا يتولاه الحاكم، أي: السلطة العامة في الدولة، وقد يكون جزاء أخرويًّا عند الله تعالى يوم القيامة، ولكن للتوبة أثر في سقوط العقاب عند الله تعالى، ولها أثر في سقوط بعض العقوبات في الدنيا196.
وأما في القوانين الوضعية فلا نجد لذلك مثيلًا، حيث إن القانون الوضعي لا يلتفت إلى الأحكام الأخلاقية، ولا يعاقب على مخالفتها. فإن شراح القانون الدولي يميزون بين قواعد القانون الدولي العام وبين الأخلاق الدولية والمجاملات الدولية، فيجعلون الأولى لها صفة الإلزام بينما الأخيرة ليس لها هذه الصفة، كما أنه لا يترتب على مخالفتها أو تجاهلها تحمل المسؤولية الدولية، ولا تعد مخالفتها مخالفة دولية، وإن كانت قد تتحول إلى قواعد قانونية عندما تتكرر وتتعارف عليها الدول197.
خصائص العلاقات الدولية في الإسلام
تتميز أحكام العلاقات الدولية في الإسلام بمجموعة من الخصائص التي تفردها عن غيرها من الأنظمة القانونية.
فأحكامها في الإسلام ليست قواعد وضعية يمكن أن تتناول أصولها يد البشر بالتعديل والتبديل كلما عَنَّ لهم ذلك. بل هي أحكام شرعية تكون جزءًا لا يتجزأ من الشريعة السمحاء، التي تنظم كل جوانب الحياة، مستقاة من آيات الله البينات وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فأول مصادرها الكتاب الكريم ثم السنة المطهرة، دون أن نغفل أهمية المصادر الأخرى باعتبارها كلها مصادر مكملة أو تابعة. وعلى هذا يمكن أن نبرز - بإيجاز - أهم الخصائص التي تتميز بها أحكام العلاقات الدولية في الإسلام:
١. مرجعها الوحي.
وهذه الخاصية هي أهم الخصائص، وعنها تنبثق سائر الخصائص، فالإسلام دين رباني، ومنهج إلهي كامل مترابط، ينظم الحياة ويحكم كافة جوانبها. وبما أن العلاقات الدولية جزء من الفقه الإسلامي الذي يقوم على الشريعة كتابًا وسنة فإنه يقوم على الوحي الإلهي. هذا الوحي الذي نجده في كتاب الله الكريم، وسنة رسوله العظيم، الذي لا ينطق عن الهوى. ففي هذين المصدرين نجد جماع الأحكام الشرعية في كل جوانب الحياة، بما في ذلك أحكام العلاقات الدولية. وكل فقيه مقيد في استنباطه للأحكام بنصوص هذين المصدرين أو الأصلين الأساسيين عندما تسعفه النصوص بذلك، وإلا فهو مقيد باستلهام روح الشريعة ومقاصدها وأصولها.
وينص الله تعالى في كتابه الكريم على أن هذا الدين كله وحي منه سبحانه لهداية البشرية، ورحمة منه لها، وأن وظيفة الرسول عليه الصلاة والسلام هي البلاغ والبيان، فقد قال سبحانه وتعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ) [الشورى: ٥٢ - ٥٣].
وقال سبحانه: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ) [النجم: ١ -٤].
وتقوم الأدلة القاطعة من القرآن الكريم على بيان هذه الخاصية وتأكيدها وإبرازها، فقد تواردت آيات الكتاب الكريم تؤكد بأن الله سبحانه وتعالى هو المتفرد بالخلق والإيجاد والملك، فهو إذن المتفرد كذلك بالحكم والأمر والتشريع فقال سبحانه: (ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ) [الأعراف: ٥٤].
وهذه الخاصية تميز أحكام العلاقات الدولية في الإسلام عن سائر الأنظمة والقوانين الوضعية التي يضعها الناس لأنفسهم في القديم والحديث؛ لذلك لا نجد لها من الهيبة والاحترام ما نجده للتشريع الإلهي الذي يقوم على الوحي المنزل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهو الوحي الذي تكفل الله تعالى بحفظه.
وهي كذلك ضمانة لتوحيد كلمة الأمة كلها على منهج واحد، ونظام واحد، عندما تلتقي على هذا الوحي بما فيه من موازين لا تضطرب، ولا تتأرجح، ولا تتأثر بالهوى والعصبية والدوافع الذاتية. فالإسلام دينٌ ربانيٌ، ومنهج إلهيٌ كامل مترابط، ينظم الحياة ويحكم كافة جوانبها. وبما أن العلاقات الدولية جزء من الفقه الإسلامي الذي يقوم على مصادر الشريعة الأصلية كتابًا وسنة فإنه بذلك يقوم على الوحي الإلهي. ففي هذين المصدرين نجد جماع الأحكام الشرعية في كل جوانب الحياة، بما في ذلك أحكام العلاقات الدولية. وهذا يسبغ عليها صفة الكمال ويعطيها الثقة والاحترام، ويضمن لها الالتزام والامتثال198.
٢. تشمل الفرد والدولة.
إن الشريعة الإسلامية خطاب عام للمكلفين، أفرادًا وجماعاتٍ، وهم محل للتكليف بوصفهم أفرادًا وبوصفهم جماعات.
وقد قال الله تعالى: (ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ) [الحجرات: ١٣].
وفي كثير من الآيات القرآنية الكريمة يتوجه الخطاب مباشرة إلى الإنسان الفرد كما يتوجه إلى الجماعة والأمة، وهذا أمر واضح في القرآن الكريم.
قال الله تعالى: (ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ) [المائدة: ٦٧].
فالخطاب هنا موجه للفرد، ثم يتوجه إلى الجماعة بمثل قوله تعالى: (ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠﮡ ﮢ ﮣ ﮤ) [آل عمران: ١٠٤].
وينبني على ذلك: أنه إذا أخذنا الخطاب المباشر معيارًا للشخصية القانونية وجب علينا أن نرتب على ذلك نتيجةً حتميةً، وهي أن الإنسان بوصفه إنسانًا هو محل التكليف في الشريعة الإسلامية؛ لأن النصوص الشرعية تخاطبه خطابًا مباشرًا، فتلزمه بالتكليف وتكسبه الحقوق، وتبشره بالثواب وتوقع عليه الجزاء بطريق مباشر. فليست أحكام العلاقات الدولية قاصرة على الدول، بل هي مفتوحة عامة شاملة تقوم أصلًا على الكيان الفردي، سواء كان الفرد منفردًا أو في جماعة أو في تشكيل سياسي باسم دولة.
بينما يثير مركز الفرد في القانون الدولي الوضعي جدلًا كبيرًا، حيث يصر الشراح التقليديون على أن القانون الدولي هو قانون الدول فحسب، ولا يرتبون للفرد حقوقًا أو واجبات دولية بصفة مباشرة، وإنما اعتبروه مجرد محل لهذه القواعد. أما الإسلام فقد اعترف للفرد بالشخصية القانونية الدولية منذ خمسة عشر قرنًا، دون تفريق بين الرجال والنساء ودون تمييز بسبب الجنس أو اللغة أو الإقليم199.
٣. جزء من الأحكام الإسلامية.
جاء الإسلام ليكون دينًا عالميًا للناس جميعًا؛ لذلك لم يفرق الإسلام في خطاب التكليف بين الفرد والجماعة على اختلاف صورها؛ لأن الخطاب في الإسلام صادر من رب العالمين وموجه إلى بني البشر جميعًا - كما رأينا - وشريعة الإسلام تهدف إلى تنظيم الأفراد والجماعات والشعوب والأمم في منظمة عالمية، متحدة في العقيدة وفي المبادئ والأصول الكلية التي تحكم العلاقات. والشريعة الإسلامية تنتظم كافة العلاقات الإنسانية، فردية كانت أم جماعية، سواء فيما بين الأفراد والجماعات داخل المجتمع الإسلامي ذاته، أو بين المجتمع الإسلامي بوصفه وحدة قائمة بذاتها وبين المجتمعات الأخرى المختلفة معها في العقيدة في وقت السلم ووقت الحرب على حد سواء.
وإذا أردنا استعمال المصطلحات القانونية الحديثة فإنه ينبني على هذا: أنه يجتمع في الشريعة الإسلامية كل أحكام العلاقات الدولية وكل أحكام القانون الداخلي بفروعه المختلفة، أو بتعبير آخر: إن الشريعة الإسلامية نظام واحد يشمل النظام الدولي والداخلي معًا، وينتظمهما في وحدة قانونية أو في نظام واحد. فالقانون الدولي والقانون الداخلي هما - في الشريعة الإسلامية - فرعان لنظام واحد، دون أن يكون لأحدهما الصدارة على الآخر من حيث القوة القانونية، فكلاهما يتساوى مع الآخر؛ لأن طبيعة أحكامهما واحدة، ولأن مصدر كلٍ منهما واحد، وهدف كل منهما واحد؛ والشريعة ليست نظامًا قانونيًا داخليًا فحسب أدمجت فيه الأحكام والقواعد الدولية، وليست نظامًا دوليًا فحسب أدمجت فيه الأحكام والقواعد القانونية الداخلية. وإنما هي نظام وشريعة عالمية تنتظم العلاقات الداخلية والدولية معًا، ويسري الفرع الداخلي منها في النطاق الإقليمي للدولة الإسلامية العالمية، بينما تسري أحكام الفرع الدولي منها على العلاقات ما بين الدولة الإسلامية، وبين غيرها من الدول الأخرى.
ويذهب الدكتور حسني جابر إلى أن الشريعة الإسلامية قد قررت قاعدة أن القانون الدولي له الأولوية على القانون الداخلي عند التعارض، والأصل في ذلك قوله تعالى: (ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ) [الأنفال: ٧٢].
فمناصرة الأقليات الإسلامية في الدول غير الإسلامية إذا تعرضوا لاضطهاد ديني هو واجب، بناء على تشريع داخلي إسلامي يندرج في عموميات الجهاد، إلا أن ذلك يمتنع إذا كان بين الدولة الإسلامية وبين إحدى تلك الدول معاهدة لا تمكن المسلمين من تلك المناصرة كمعاهدة عدم اعتداء أو نحوها200.
إلا أننا نلاحظ -حتى في هذه الحالة- أن ذلك لا يعني أولوية في قانون ثنائي، وإنما هو سريان لحكم شرعي في العلاقات الدولية بين المسلمين وغيرهم في الفرع الدولي من القانون أو الفقه الإسلامي201.
٤. مبنية على الالتزام الذاتي.
يقوم النظام الإسلامي على الالتزام الذاتي بقواعد العلاقات الدولية؛ لأنه جزء من قانونه الداخلي، أي: ولو بدون معاهدة أو عرف دولي، وبصرف النظر عن قوة الدولة الإسلامية وسيادتها وقدرتها على الدول الأخرى، فالقانون الدولي الإسلامي يستند إلى إرادة الدولة الإسلامية - شأنه في ذلك شأن أي قانون إسلامي آخر في البلاد، وحتى الالتزامات المفروضة بمقتضى معاهدات ثنائية أو متعددة الأطراف دولية فإن لها نفس الأساس. فهو التزام ذاتي سببه التكليف الشرعي باعتبار أن أحكام الشريعة الإسلامية خطاب ملزم للمسلم في ذاته، فهو يطبق أحكام وقواعد السير في مجالها، كما تطبق أي قاعدة شرعية أخرى في مجالها. وكلها على وجه الالتزام وعلى وجه حكمها الشرعي من الوجوب أو الندب أو الإباحة أو الكراهة أو التحريم. فإنه - على سبيل المثال - إذا طلب العدو الأمان أو الذمة، فيجب إجابته إلى ذلك فرضًا بنص القرآن الكريم على ذلك: (ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ) [التوبة: ٦].
وفي الحديث الصحيح عن سليمان بن بريدة عن أبيه في الدعوة إلى الإسلام قبل القتال (فإن هم أبوا الإسلام فسلهم الجزية، فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم)202.
وكذلك اعتبار عقد الأمان ملزمًا لنا وحدنا دون من يعقد معهم من المشركين، وكذلك لا ننتهز فرصة ضعف للإجهاز عليه، ولا يجوز للمسلمين قتل الصبي أو المرأة في الحرب -إلا في أحوال خاصة كما سيأتي- ولا يجوز الغدر بهم حتى ولو غدروا.
وهذا الالتزام الخاص منشؤه أننا مخاطبون بأحكام الشريعة دونهم، وهم ليسوا مخاطبين بفروعها ولا يلتزمونها203، فالتزامنا بها التزام أصيل وناشئ عن خضوعنا لله تعالى في كل أعمالنا. وقد كانت الدولة الإسلامية في أوج قوتها وعنفوان سيادتها تلزم نفسها بأدق آداب الإسلام في القتال والمعاهدات، ولو لم يلتزمها من تحاربهم، إلا إذا ساغ في الشرع رد العدوان بمثله204.
وأساس الإلزام بهذه الأحكام -وسائر الأحكام- أنها أوامر الله سبحانه وتعالى لعباده، فهو وحده الحاكم الآمر الواجب الطاعة، وهو مقتضى الإيمان بالله وتوحيده وعبادته.
أما في القانون الدولي، فقد نشأت مدارس متعددة لتفسير طبيعة القانون الدولي ومصادره وأساس الإلزام بقواعده. وبالمقارنة نلمح شبهًا بين نظرية القانون الطبيعي والأصول التي تقوم عليها الشريعة الإسلامية، نتيجة التأثير الإسلامي في أصحاب هذا الاتجاه الذين درسوا الثقافة الإسلامية وعلوم الإسلام، ونشؤوا في بيئة إسلامية الثقافة، وإن كانوا يخفون مصادر تأثرهم؛ خشية الإرهاب الديني الذي كانت تعيشه أوربا في تلك العصور205.
٥. مقيدة بالشرع.
تتقيد جميع الأحكام بالمشروعية الإسلامية، التي تتضمن التضامن في تنفيذ ما أمرالله به وفي منع ما نهى عنه206.
فقد قال الله تعالى: (ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶﯷ ﯸ ﯹﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ) [المائدة: ٢].
ومن هنا تتميز أحكام العلاقات الدولية والتنظيم الدولي الإسلامي عن القانون الدولي الحديث، حيث تقوم في الإسلام على هذا التضامن، فإن وحدة الأمة الإسلامية التي تسكن دار الإسلام إنما تظهر فيها أحكام الشريعة الإسلامية، وهذه الوحدة المتماسكة لا يجوز أن يقوم بينها وبين غيرها علاقة الحرب إلا لأجل إعلاء كلمة الله تعالى، فلا يجوز أن تشن على سائر البلاد حربًا بقصد الاغتناء الاقتصادي أو فتح الأسواق أو تأمين المواصلات أو غير ذلك، وإنما الهدف الوحيد الذي يسوغ الحرب هو الجهاد لإعلاء كلمة الله تعالى؛ ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سئل عن الرجل يقاتل حمية ويقاتل رياء، أي ذلك في سبيل الله؟ فقال: (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله)207.
موضوعات ذات صلة: |
الاقتصاد، الحرب، السلم، السياسة، العلاقات الاجتماعية |
1 انظر: مقاييس اللغة، ابن فارس ٤/١٢٧، المخصص، ابن سيده ١/٣٧٨، الصحاح، الجوهري ١/٤٩٢، تهذيب اللغة، الأزهري ١/١٦٣، المصباح المنير، الفيومي ص ٤٢٥-٤٢٦.
2 انظر: مقاييس اللغة، ابن فارس ٢/٣١١، لسان العرب، ابن منظور ١١/٢٥٢، ترتيب القاموس المحيط، ١/٢٣٤، المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية ١/٣٠٤.
3 الكليات ص ٤٠٤١.
4 انظر: معجم تصحيح لغة الإعلام العربي، عبد الهادي أبوطالب ص ١٦٧، معجم اللغة العربية المعاصرة، أحمد مختار عمر ٢/١٥٣٨.
5 انظر: العلاقات الدولية، د.محمد سامي عبدالحميد ص ٩ - ١٤، مذكرات في العلاقات الدولية، د.محمد السعيد الدقاق ص ٦.
6 انظر: المعاهدات والاتفاقات، بحث للدكتور عبدالعزيز خياط في [مجلة مجمع الفقه الإسلامي] بجدة، العدد ٧ - الجزء ٤- ١٤١٢ هـ- ص ٥٠.
7 انظر: مقاييس اللغة، ابن فارس ٥/٧٨.
8 المفردات، الراغب الأصفهاني ص٤٠٢.
9 انظر: قانون السلام في الإسلام، د.محمد طلعت الغنيمي ص٣٢٤.
10 انظر: جمهرة اللغة، ابن دريد ٢/٨٥٨.
11 انظر: المفردات، الراغب الأصفهاني ص٢٤٠.
12 انظر: القانون الدولي العام، د.محمود سامي جنينة، ص ٩٧، القانون الدولي العام، د.حامد سلطان وآخرين، ص ٣٤٩، القانون الدولي العام، د.إبراهيم العناني، ص ٦٢، الشريعة الإسلامية والقانون الدولي العام، د.علي علي منصور، ص ٨٩.
13 قانون السلام في الإسلام، د.محمد طلعت الغنيمي، ص ٣٢٤.
14 انظر: مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة، ص ٦٤-٦٥.
15 انظر: قانون السلام في الإسلام، ص٣٢٥.١
16 انظر: المفردات، الراغب الأصفهاني، ص٨٦-٨٧، بصائر ذوي التمييز، الفيروزآبادي ١/٧٩-٨٠، الوجوه والنظائر، مقاتل بن سليمان، ص ٤٧-٤٩.
17 انظر: الوجوه والنظائر، العسكري، ص ٣١-٣٦، و الوجوه والنظائر، مقاتل بن سليمان، ص ٤٧-٤٩، نزهة الأعين النواظر، ابن الجوزي، ص ١٤٢-١٤٤.
18 جامع البيان، الطبري ٣/٧٤. وانظر: معالم التنزيل، البغوي: ١/١٥٠.
19 التحرير والتنوير، ابن عاشور ١/٧٢١.
20 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الصلاة، في باب فضل استقبال القبلة، ١/٨٧، رقم ٣٩١.
21 أوصت الدول النصرانية والمستشارون النصارى واليهود وأعوانهم بانتهاج سبيل أوربا باعتباره الطريق الوحيد للتخلص من مشاكل الحكم والإدارة والقضاء وغيرها في الدولة العثمانية، فبادر أولئك المغلوبون على أمرهم من الحكام بتلقف جملة من القوانين والتشريعات الأوربية، فصدرت عدة قوانين مستمدة من التقنين الفرنسي وغيره، ومن ذلك قانون الجنسية الذي صدر في سنة ١٨٦٩ م وكان ضربة وجهت إلى أخوة الإسلام بوصفها الرابطة التي كانت تربط بين المسلمين.فقد أعطى القانون المذكور المشاعر القومية والعواطف العنصرية دفعة هيأت الرابطة القومية، لتحل محل الرابطة الإسلامية، وبذلك خطت الدولة العثمانية خطواتها الواسعة نحو التمزق.انظر: النهي عن الاستعانة والاستنصار في أمور المسلمين بأهل الذمة والكفار، مصطفى بن محمد الورداني، ص ٤١ - ٤٣ من مقدمة المحقق، القانون الدولي الخاص، د.مصطفى الحفناوي، ص ٢٥ - ٢٧.
22 شرح السير الكبير، السرخسي ٥/٢٠٤٧.
23 أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الجهاد، باب السرية، ٣/٨٠، رقم ٢٧٥١. وصححه الألباني في صحيح الجامع، ٢/١١٣٧، رقم ٦٧٠٧.
24 نظرية الإسلام وهديه في السياسة والقانون والدستور، ص ٣٠٢.
25 انظر: في ظلال القرآن، سيد قطب ٣/١٥٦٦.
26 انظر: حجة الله البالغة لشاه ولي الله الدهلوي ٢/٧٩٤، في ظلال القرآن، سيد قطب ٣/١٦٣٣.
27 أخرجه الإمام محمد بن الحسن في الحجة على أهل المدينة: ٤/٣٥٢ـ ٣٥٤ ومن طريقه الشافعي في السنن: ٢/١٠٥ـ ١٠٦، وأخرجه الدارقطني في السنن: ٣/١٤٧ـ ١٤٨، والجصاص في أحكام القرآن: ١/١٤١.وفيه أبو الجنوب الأسدي وهو ضعيف.وهذ ا الأثر اشتهر عند الفقهاء بلفظ [إنما قبلوا الذمة لتكون أموالهم كأموالنا، ودماؤهم كدمائنا].وقال عنه الزيلعي: غريب بهذا اللفظ.انظر: نصب الراية: ٣/٣٨.
28 انظر بالتفصيل-إن شئت-: أصول العلاقات الدولية في فقه الإمام الشيباني، عثمان جمعة ضميرية: ١/٤٣٠-٥٨٢. وفي الواقع المعاصر لا نجد لأحكام الذمة بمفهومها الفقهي تطبيقًا عمليًا أو التزامًا في البلاد الإسلامية، بعد قيام الدول على أسس مدنية، و بعد نظم وقوانين الجنسية التي بدأت في أواخر عهد الدولة العثمانية، كما تقدمت الإشارة لذلك، ثم تبعتها سائر البلاد الأخرى، وإن كنا نجد أحكام ما يتعلق بغير المسلمين أو بعض هذه الأحكام في بعض البلاد.ولعل هذه القضية بحاجة إلى دراسة مستقلة.
29 انظر: حاشية ابن عابدين ٤/١٦٦.
30 انظر: التشريع الجنائي الإسلامي، عبدالقادر عودة: ١/٢٧٤- ٢٧٥.
31 در المنتقى شرح الملتقى: ١/٦٣٤.وقال المالكية: هي ما تجري فيها أحكام المسلمين.انظر: المقدمات الممهدات لابن رشد: ٢/١٥٣.و قال الشافعية: كل دار ظهرت فيها دعوة الإسلام من أهله بلا خفير ولا مجير ولا بذل جزية، ونفذ فيها حكم المسلمين على أهل الذمة، ولم يقهر أهل البدعة فيها أهل السنة فهي دار الإسلام.انظر: أصول الدين للبغدادي، ص ٢٧٠، وقال الحنابلة: «هي كل دار كانت الغلبة فيها لأحكام الإسلام دون أحكام الكفر».
انظر: الآداب الشرعية، ابن مفلح ١/٢١٣.
32 التشريع الجنائي الإسلامي ١/٢٧٥ - ٢٧٦.
33 انظر: شرح السير الكبير، السرخسي ٤/١٢٥٣، المبسوط، السرخسي ١٠/٩٣ و١١٤.
34 انظر: المبسوط، السرخسي ١٠/١١٤، در المنتقى، داماد أفندي ١/٦٣٤، المدونة الكبرى، الإمام مالك ٢/٢٢، كشاف القناع، البهوتي ٣/٣٨، الإنصاف، المرداوي ٤/١٢١.
35 انظر: منهج الإسلام في الحرب والسلام، عثمان جمعة ضميرية، ص ٥٦-٥٨، أصول العلاقات الدولية في فقه الإمام محمد بن الحسن الشيباني له أيضا: ١/٣١٥-٣٨٠.
36 المبسوط، السرخسي ١٠/١١٤.
37 انظر: من أجل نظرية في القانون الدولي لإدمون رباط، ترجمة الدكتور إبراهيم عوض، ص ٣٠ - ٣١.وهو بحث بالفرنسية منشور في المجلة المصرية للقانون الدولي عام ١٩٥٠ ص ١-٢٣.
38 انظر: العلاقات الدولية في الإسلام، أبو زهرة، ص ٥١، وبحثه عن نظرية الحرب ص ١٤ ١٥ منشور بالمجلة المصرية للقانون الدولي، المجلد الرابع عشر، ١٩٥٨.ففيهما تقرير أن التقسيم كان بحكم الواقع لا بحكم الشرع.أما سائر النقاط الأخرى أعلاه فهي خلاصة رأي أستاذنا الدكتور وهبة الزحيلي في كتابيه آثار الحرب ص ١٨١ و ١٩٤ - ١٩٥ و العلاقات الدولية في الإسلام ص ١٠٩ و ١١٣ - ١١٦.
39 آثار الحرب في الفقه ص ١٩٥ - ١٩٦، العلاقات الدولية ص ١١٦.ويلاحظ أن فقهاء القانون الدولي كان لهم نظرة لهذا التقسيم تتسم بالدقة، فوصفوا هذا المصطلح بأن فيه سهولة ويسرًا وضبطًا.انظر: أحكام القانون الدولي، د.حامد سلطان، ص ١١٥.
40 أخرجه النسائي في كتاب البيعة، باب تفسير الهجرة ٧/١٤٤ - ١٤٥.
41 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الجهاد، باب تأمير الإمام الأمراء، ٣/١٣٥٧، رقم ١٧٣١.
42 أخرجه أبو يوسف في الخراج ص ٢١٠.
43 أخرجه أبو يوسف في الخراج ص ١٥٥.
وانظر: الأموال، أبو عبيد، ص ٩٨، مجموعة الوثائق السياسية د.محمد حميد الله ص ٣٨١.
44 انظر: مصنفة النظم الإسلامية د.مصطفى كمال وصفي، ص ٢٨٩.
45 مجلة مجمع الفقه الإسلامي العدد السابع، الجزء الرابع ١٤١٢ هـ، من مداخلة للدكتور عابد السفياني.
46 المصدر السابق، ص ٢٨٠ من مداخلة للدكتور طه جابر العلواني.
47 انظر: نظام الحكم الإسلامي، د.محمود حلمي، ص٢٠-٢١، الدولة والسيادة في الفقه الإسلامي د.فتحي عبد الكريم، ص ١٥٠ وما بعدها.
48 انظر بالتفصيل: الدولة والسيادة في الفقه الإسلامي، ص ١٨٦-١٩٥. وفروض الكفاية: هي الواجبة على مجموع الأمة كوحدة، دون نظر إلى الأفراد بذواتهم.وهي على الغالب تتعلق بحقوق الله فيما يتصل بمصلحة المجتمع أو الأمة كلها، فهي ذات أثرٍ في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية.ونظرًا لأهمية هذه الفروض أطلق عليها بعضهم اسم «الفروض التضامنية» أو «الاجتماعية» أو «السياسية» أو «العامة».وهذه التسمية الأخيرة أكثر دقةً من الناحية العلمية، وأكثر انطباقًا على طبيعتها.والأصل أن هذه الفروض يقوم بها المجتمع عامة، وتطلب من الأفراد، فإن تخلف أفراد المجتمع عن القيام بها وجب عندئذ على الدولة أن تقوم بها.
انظر: الموافقات، الشاطبي ١/١٧٨ -١٨١، آراء ابن تيمية في الدولة، محمد المبارك ص١٣٥، في المجتمع الإسلامي، أبو زهرة، ص ٥٥-٥٦.
49 انظر: النظام الدستوري في الإسلام، مصطفى كمال وصفي، ص ٩٣-٩٤.
50 انظر: مبادئ نظام الحكم، د.فؤاد النادي، ص ٤٧-٤٩، النظام السياسي والدستوري في الإسلام، د.عثمان جمعة ضميرية، ص٩١-٩٢. وأفرد الدكتور فتحي عبد الكريم موضوع نظرية الدولة والسيادة في الفقه الإسلامي برسالة مستقلة مطبوعة في مكتبة وهبة بالقاهرة.
51 انظر: نظام الحياة في الإسلام، المودودي ص ٢٧ - ٢٩، الإسلام وأوضاعنا السياسية، عبد القادر عودة، ص ٦٤ - ٦٦، النظم الإسلامية، د.محمد عبد الله العربي ١/١٢٢.
52 العبودية، ابن تيمية ص٤٧ وما بعدها.
وانظر: أحكام الصيام وفلسفته، مصطفى السباعي ص١٨ وما بعدها.
53 العبودية، ابن تيمية، ص ٣٨، ٣٩.
54 خصائص التصور الإسلامي، ص ١٣١.
55 انظر: الموافقات، الشاطبي ٢/٨ - ١٠.
56 انظر: المستصفى، الغزالي ١/٢٨٧.
57 الطرق الحكمية ص ٢٧٩ - ٢٨٠.
58 أخرجه البخاري في صححيه، كتاب التيمم، - ١/٧٤، رقم ٣٣٥، ومسلم في صحيحه، كتاب المساجد، باب جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، ١/٣٧٠، رقم ٥٢١.
59 انظر: الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة، ابن رشد، ص ١٠٣.
60 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل القرآن، باب كيف نزل الوحي، ٦/١٨٢، رقم ٤٩٨١ ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ١/١٣٤، رقم ١٥٢.واللفظ له.
61 انظر: «في ظلال القرآن» للأستاذ سيد قطب: ١٩/٢٥٨٤.
62 ولذلك كان من العجب والغريب، بعد معرفة هذه الأدلة والشواهد، ما يلهج به بعض المستشرقين ممن عنوا بدراسة السيرة النبوية ودعوة الإسلام، من إنكارهم هذه الصفة العالمية للإسلام، حيث يقول وليم موير مثلا: «إن فكرة عالمية الرسالة قد جاءت فيما بعد.وإن هذه الفكرة على الرغم من كثرة الآيات والأحاديث التي تؤيدها، لم يفكر فيها محمد نفسه.وعلى فرض أنه فكر فيها، فقد كانت الفكرة غامضة، فإن عالمه الذي كان يفكر فيه إنما كان بلاد العرب، كما أن هذا الدين الجديد لم يهيأ إلا لها، وأن محمدًا لم يوجه دعوته منذ بعث إلى أن مات إلا للعرب دون غيرهم.وهكذا نرى أن نواة عالمية الإسلام قد عرفت، ولكنها إذا كانت قد اختمرت ونمت بعد ذلك، فإنما يرجع هذا إلى الظروف والأحوال أكثر منه إلى الخطط والمناهج».ويذهب كذلك كايتاني إلى هذا الرأي. انظر: الدعوة إلى الإسلام، توماس أرنولد، ترجمة حسن إبراهيم حسن وعبدالمجيد عابدين، ص ٤٩. وهذا نموذج لتفكير المستشرقين ومناهجهم وأساليبهم يشير إلى أن بعضهم يقول ما لا يعقل أو يفكر بأدوات تفكير لا يفكر بها إلا أمثالهم.فكيف جاءت فكرة عالمية الإسلام فيما بعد رغم الآيات المكية والواقع العملي للدعوة ؟ وهل كان هرقل وكسرى والنجاشي عربًا يوجه إليهم النبي صلى الله عليه وسلم الدعوة على أنهم عرب ؟ !
63 انظر: السيرة النبوية، ابن هشام ١/٤٣٤- ٤٣٥، طبقات ابن سعد - ٣/١١٦- ١٢٢.
64 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الجهاد والسير، باب كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى ملوك الكفار، ٣/١٣٩٧، رقم ١٧٧٤.
65 انظر بالتفصيل: الطبقات الكبرى، ابن سعد ١/٢٥٨، السيرة النبوية، ابن هشام ٢/٦٠٦، المصباح المضي، ابن حديدة ١/١٩٣، زاد المعاد، ابن القيم ٣/٦٨٨.
66 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجهاد، باب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم الناس إلى الإسلام، ٤/٤٥، رقم ٢٩٤١، ومسلم في صحيحه، كتاب الجهاد والسير، باب كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل، - ٣/١٣٩٣، رقم ١٧٧٣.
67 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المظالم والغصب، باب من قاتل دون ماله، ٣/١٣٦، رقم ٢٤٨٠، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من.قتل دون ماله فهو شهيد، ١/١٢٤، رقم ١٤١.
68 السير الكبير مع شرح السرخسي، ٥/١٨٥٣.
69 المصدر السابق، ٥/١٨٥٦.
70 انظر: القانون والعلاقات الدولية في الإسلام، د.صبحي محمصاني، ص ١٩٤ - ١٩٥.
71 عرنة: بضم العين وفتح الراء، وادٍ في عرفات.
72 السير الكبير ١/٢٦٦ - ٢٦٩. والقصة أخرجها: أحمد في مسنده، ٢٥/٤٤١، رقم ١٦٠٤٧، وأبو داود في سننه، تفريع صلاة المسافر، باب صلاة الطالب ٢/١٨، رقم ١٢٤٩.
وحسن إسناده ابن حجر في فتح الباري، ٢/٤٣٧.
73 ويستدل بعض الكتاب بالآية الكريمة على إعلان الجهاد من أجل استنقاذ غير المسلمين ولو لم يكونوا من أهل الذمة أو المستأمنين.ولا يصح لهم هذا الاستشهاد، لأن سياق الآية في المؤمنين الذين لم يهاجروا إلى دار الإسلام كما هو في السياق.
74 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الذكر، باب أكثر أهل الجنة الفقراء، - ٤/٢٠٩٨، رقم ٢٧٤٢.
75 جامع البيان، الطبري ١/٤٤٨-٤٤٩.
76 في ظلال القرآن ا/٥٦.
77 في ظلال القرآن ٤/٢٤٠٠.
78 في ظلال القرآن ٥/٢٧٦٠.
79 نظرية الإسلام وهديه في السياسة والقانون والدستور،المودودي، ص ٤٥ - ٤٦.
80 الحسبة في الإسلام، ابن تيمية، ص ١٥- ١٦، الطرق الحكمية، ابن القيم، ص ٢٥٨.
81 الجران: باطن العنق من البعير وغيره، يقال: ألقى فلان على هذا الأمر جرانه: وطن نفسه عليه.ومنه قول عائشة رضي الله عنها: «حتى ضرب الحق بجرانه» أي: ثبت واستقر. انظر: القاموس المحيط، الفيروزآبادي ١/٤٨٢، النهاية، ابن الأثير ١/٢٦٣، المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية - ١/١١٩.
82 انظر: الرسالة الخالدة، عبدالرحمن عزام، ص١٥٦.
ونجد أصلًا لهذا التقسيم وإشارة له في شرح السير الكبير ١/٣٠٦، المبسوط، السرخسي ١٠/٨٤ - ٨٦.
83 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الطلاق، باب نكاح من أسلم من المشركات، ٧/٤٨، رقم ٥٢٨٦.
84 انظر: زاد المعاد، ابن القيم ٣/١٦٠.
85 انظر: السلام العالمي والإسلام، سيد قطب، ص ٥، الإسلام في حياة المسلم، محمد البهي، ص٤٨٢-٤٨٣، منهج الإسلام في الحرب والسلام، عثمان ضميرية، ص٣٥-٥٨.
86 انظر: جامع البيان، الطبري ١٤/١٣٨، معالم التنزيل، البغوي ٤/١٤، الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٨/٧٧.
87 أحكام القانون الدولي في الشريعة الإسلامية، ص ٢١٧، القانون الدولي العام وقت السلم ص ٤٨٤ - ٤٩٠، حامد سلطان، مبادئ القانون الدولي العام، عبدالعزيز سرحان، ص ٣٣٤ - ٣٤٥.
88 هكذا في الأصل.ولعلها: يهاجوا.يقال: هاجه وأهاجه وهايجه، أي: أثاره وقاتله. انظر: المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية، ٢/١٠٠٢.
89 أحكام أهل الذمة، ابن القيم ٢/٤٧٥- ٤٧٦.
90 انظر: المبسوط، السرخسي ١٠/٧٧- ٧٨، حجة الله البالغة، الدهلوي ٢/٧٩٧.
91 انظر: زاد المعاد، ابن القيم ٣/١٦٠.
92 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الطلاق، باب نكاح من أسلم من المشركات ٧/٤٨، رقم ٥٢٨٦.
93 انظر: بدائع الصنائع، الكاساني ٩/٤٣٧٥، الدر النقي في شرح ألفاظ الخرقي، ابن عبدالهادي ٣/٧٤٤.
94 انظر: المبسوط، السرخسي ١٠/٩٢، بدائع الصنائع، الكاساني ٩/٤٣١١، الأم، الشافعي ٣/٢٠١، شرح السنة، البغوي ١١/٧٧، المغني، ابن قدامة ١٠/٦١٢، كشاف القناع، البهوتي ٣/١٠٠.
95 البحر الزخار الجامع لمذاهب علماء الأمصار، أحمد بن يحيى بن المرتضى ٦/٤٠٧.
96 ما هي علاقة الأمة المسلمة بالأمم الأخرى؟، أحمد محمود الأحمد، ص ٧ - ٨. وانظر: الأصول الشرعية للعلاقات الدولية بين المسلمين وغيرهم، محمد أبو الفتح البيانوني، مقال بمجلة جامعة الإمام محمد بن سعود لإسلامية بالرياض، عدد محرم ١٤١٣ هـ.
97 انظر: قانون السلام في الإسلام، محمد طلعت الغنيمي، ص ١٠٤، الاستعانة بغير المسلمين في الفقه الإسلامي، عبدالله - الطريقي، ص ٢٦، المقدمة العامة لمشروع العلاقات الدولية» بإشراف د.نادية محمود مصطفى، ص ١٦٠.
98 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الجهاد، باب تأمير الإمام الأمراء على البعوث، ٣/١٣٥٧، رقم ١٧٣١.
99 انظر: شرح السير الكبير، السرخسي ١/٧٥ - ٧٦.
100 روضة القضاة وطريق النجاة، السمناني ٣/١٢٣٧.
وانظر: الاختيار لتعليل المختار، البلدحي ٤/١٨٧.
101 بدائع الصنائع، الكاساني ٩/٤٣٠٤ - ٤٣٠٥ بتصرف يسير.
وانظر: غياث الأمم في التياث الظلم، الجويني، ص ٢٠٧.
102 انظر: شرح السير الكبير، السرخسي ١/٧٦.
وانظر: المبسوط، السرخسي، ١٠/٧، بدائع الصنائع، الكاساني - ٩/٤٣٠٥.
103 السير الكبير، الشيباني ١/٧٦ - ٧٧ و ١٨٩.مع شرح السرخسي.
وانظر: الجامع الصغير، الشيباني، ص ٢٤٨ - ٢٤٩، أحكام القرآن، الجصاص ١/٢٦١، الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ١٦/٢٧٣.
104 انظر: السير الكبير، الشيباني، ص ٢٢٢، شرح السير الكبير، السرخسي ٥/١٧٠٨.
105 جعل الأستاذ ظافر القاسمي هذا المذهب نظرية لفريق من الباحثين المتأخرين.بينما نجد أن هذا مذهب عامة الفقهاء المتقدمين، ولم نجد -كما سيأتي- لأيٍ منهم ما يخالف ذلك، إلا ما روي عن سفيان الثوري رحمه الله في الجهاد الدفاعي وعدم وجوب البدء بالقتال إن لم يقاتلونا.وإن كان هذا في غير ما نحن فيه، لأنه رحمه الله لم يحرم الجهاد أو يمنعه بل هو ينفي وجوب البدء إن لم يقاتلونا.وقد وضعه بعض الكتاب في غير موضعه وأنطقوا الإمام سفيان رحمه الله بما لم يقل به.
انظر: الجهاد والحقوق الدولية العامة في الإسلام، ظافر القاسمي، ص ١٦٠.
106 أحكام القرآن، الشافعي ٢/٥٦. وانظر: الأم، الشافعي ٤/١٥٥-١٥٦.
107 وهذا أحد القولين في مذاهب العلماء.وفي قول آخر أنه يجوز ذلك وهو الذي نص عليه الشافعي في المختصر. والمذكور عن أبي حنيفة: أنها لا تكون لازمة بل جائزة، فإنه جوز فسخها متى شاء.وهذا القول الثالث مال إليه ورجحه ابن القيم واستدل له بجملة أدلة. انظر: أحكام أهل الذمة ٢/٤٧٦-٤٩٠.
108 انظر: المبسوط، السرخسي ١٠/٢-٣ و ٢٧، فتح القدير، ابن الهمام ٤/٢٨٢، الكافي في فقه أهل المدينة، ابن عبد البر ١/٤٦٦، روضة الطالبين، النووي ١٠/٢٠٨ و ٣٣٥ - ٣٣٦، الأحكام السلطانية، الماوردي ص ٥٢، كشاف القناع، البهوتي ٣/٢٨، المغني، ابن قدامة ١٠/٣٨١.
109 السير الكبير، الشيباني ١/١٨٧ - ١٨٩ مع شرح السرخسي.
110 انظر: السيل الجرار، الشوكاني ٤/١٥٨ - ١٥٩.
111 الروضة الندية ٢/٤٧٩ - ٤٨٠.
112 انظر: مصنفة النظم الإسلامية، مصطفى كمال وصفي، ص ٣٣٩ - ٣٤١.
113 انظر: مقاييس اللغة، ابن فارس ٤/١٦٧ - ١٧٠، القاموس المحيط، الفيروزآبادي ٣/٣٣٥ - ٣٣٦، لسان العرب، ابن منظور ٣/٣١١ - ٣١٥.
114 السير الكبير، الشيباني ٥/١٧٨٠، الإنصاف، المرداوي ٤/٢١١.
115 انظر: جامع البيان، الطبري ١٤/٤٠، معالم التنزيل، البغوي ٣/٣٧٣، أحكام القرآن، الجصاص ٣/٦٩-٧٠.
116 انظر: معالم التنزيل، البغوي ٥/٢٦٣.
117 أخرجه البلاذري في أنساب الأشراف: ١/٢٨٦، وأبو عبيد في الأموال، ص ٢٣٢، وذكره الشافعي في الأم ٤/١٢٩. وانظر: مجموعة الوثائق السياسية، محمد حميد الله، ص ٥٧-٥٩.
118 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الصلح، باب الصلح مع المشركين، ٣/١٨٥، رقم ٢٧٠٠.
119 أحكام القرآن، الجصاص ٢/٢٩٤، أحكام المعاهدات في الشريعة الإسلامية، طلعت الغنيمي ص ٩٨-١٠٠، المعاهدات الدولية في الشريعة، أحمد أبو الوفا، ص ٦٩-٧٤.
120 اختلاف الفقهاء، الطبري ص ١٤، البحر الزخار، ابن المرتضى ٦/٤٤٨.
121 انظر: شرح السير الكبير، السرخسي ٥/١٧٨٠، معالم السنن، الخطابي ٤/٨٠، فتح الباري، ابن حجر ٦/٢٨٢.
122 أحكام القرآن، ابن العربي ٤/١٧٨٩، مجموع فتاوى ابن تيمية ٢٩/١٤٠، أحكام أهل الذمة» ابن القيم ٢/٤٧٦-٤٩٠.
123 وعلى هذا فإن بطلان المعاهدات لا يدخل ضمن هذا الموضع، لأن الباطل غير قائم شرعًا ولا أثر له، لأنه يعني أن المعاهدة لم توجد أصلًا من الناحية الشرعية حتى ولو كانت قائمةً حسًا.بينما في الانتهاء كانت المعاهدة موجودة ثم طرأ عليها سبب من أسباب الانتهاء والانقضاء.
124 أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه، ١٤/٤٧٣ و٤٨١، وعبدالرزاق في مصنفه، ٥/٣٧٤.
125 السيرة النبوية، ابن هشام ١/٢٧٨ - ٢٨١، زاد المعاد، ابن القيم، ٣/١٤٣.
126 شرح السير الكبير، السرخسي ١/٣٠٤، البحر الرائق، ابن نجيم ٥/٨٦، بدائع الصنائع، الكاساني ٩/٤٣٢٧.
127 أحكام القرآن، الجصاص ٢/٢٩٣ - ٢٩٤.وانظر: جامع البيان، الطبري ٩/٤٤٩ - ٤٥٤، الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ١٠/١٦٩.
128 انظر: أحكام القرآن، الجصاص ٢/١٩٠.
129 انظر: العهد والميثاق في القرآن الكريم، ناصر العمر ص ١٥٣.
130 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الإيمان، باب علامة المنافق ١/١٦، رقم ٣٤، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب خصال المنافق ١/٧٨، رقم ٥٨.
131 أخرجه البخاري في كتاب الجزية، باب إثم الغادر، ٤/١٠٤، رقم ٣١٨٦، ومسلم في صحيحه، كتاب الجهاد والسير، باب تحريم الغدر، ٣/١٣٥٩، رقم ١٧٣٥.
132 أخرجه أبو داود في البيوع، باب في الرجل يأخذ حقه، ٣/٢٩٠، رقم ٣٥٣٤، والترمذي في سننه، أبواب البيوع، ٣/٥٥٦، رقم ١٢٦٤.
قال الترمذي: «حسن غريب». وصححه الألباني في صحيح الجامع، ١/١٠٧، رقم ٢٤٠.
133 «الأموال» لأبي عبيد ص ١٧٠ و ١٧١، وأخرجه أبو داود في سننه، كتاب الخراج، باب في تعشير أهل الذمة، ٣/١٧٠، رقم ٣٠٥١.
وضعفه الألباني في ضعيف الجامع، ص٦٧٤، رقم ٤٦٨٠.
134 انظر: نيل الأوطار، الشوكاني ٨/٦٩.
135 انظر القصة كاملة: في الخراج، أبو يوسف ص ١٤٩ - ١٥١.
136 انظر: شرح السير الكبير، السرخسي ٤/١٦٦٧.
137 الأصل، الشيباني ص ١٩٦.
138 السير الكبير ١/٣٠٠ - ٣٠١.
139 المصدر السابق ١/٣٠٢ - ٣٠٤.
140 انظر: الفتاوى الهندية ٢/٢٠٣.
141 السير الكبير ١/٣٠٣ - ٣٠٤.
142 انظر: السيرة النبوية، ابن هشام ٢/٣٩٤-٣٩٥، زاد المعاد، ابن القيم ٣/٣٩٤.
143 انظر: عقد الجواهر الثمينة، ابن شاس ١/٤٩٨، روضة الطالبين، النووي ١٠/٣٣٧، المغني، ابن قدامة ١٠/٥١٣.
144 مراتب الإجماع، ابن حزم، ص ١٢٣.
145 نقلًا عن آثار المعاهدات بالنسبة للدول غير الأطراف، محمد مجدي مرجان، ص ٢٣.
146 تاريخ القانون الدولي، لوران، ١٠/٤٣٢ - ٤٣٩ نقلًا من المصدر السابق.
147 انظر: حضارة العرب، غوستاف لوبون، ترجمة عادل زعيتر، ص ٣٣٠ - ٣٣١، الشرع الدولي في الإسلام، أرمنازي، ص ٤٠ - ٤١، منهج الإسلام في الحرب والسلام، عثمان ضميرية، ص ٥٤ - ٥٥، المعاهدات الدولية، أحمد أبو الوفا ص ١٢٤ - ١٢٥، آثار المعاهدات بالنسبة للدول غير الأطراف، محمد مجدي مرجان، ص ٢٣.
148 جامع البيان ١٤/٤٠.
149 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص٣٢٥.
150 انظر: زاد المعاد، ابن القيم ٣/١٦٠.
151 أخرجه مسلم في صحيحه، الجهاد، باب تأمير الإمام الأمراء على البعوث ٣/١٣٥٧.
152 انظر: أصول العلاقات الدولية في فقه الإمام محمد بن الحسن الشيباني، عثمان جمعة ضميرية ١/٤٦٤-٤٨٧.
153 الظلال، سيد قطب ٣/١٥٤٥-١٥٤٦.
154 انظر: تميز الأمة الإسلامية إسحاق عبدالله السعدي: ١/٥١-٦٨.ففيه بيان لمفهوم التميز والمزايا في اللغة العربية وفي النصوص الشرعية.
155 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص ٥٧٣.
156 أخرجه الطبري في تفسيره ١٨/١٥٩-١٦٠، ووصله الحاكم في المستدرك: ٢/٤٠١.
قال الهيثمي في المجمع ٧/٨٣: أخرجه الطبراني في الأوسط ورجاله ثقات.
157 في ظلال القرآن ٤/٢٥٢٨-٢٥٣٠.
158 التنوير والتحرير، ابن عاشور ٢٨٠-٢٨١.
159 انظر: فلسفة التربية الإسلامية، ماجد عرسان الكيلاني، ص ١٤٣-١٤٨، القرآن العظيم في هدايته وإعجازه، محمد الصادق عرجون، ص ٣١-٣٨.
160 القصة التي رويت من عدة مصادر في سبب نزول هذه الآيات أن نفرًا من الأنصار - قتادة بن النعمان وعمه رفاعة - غزوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض غزواته.فسرقت درع لأحدهم -رفاعة- فحامت الشبهة حول رجل من الأنصار من أهل بيت يقال لهم: بنو أبيرق.فأتى صاحب الدرع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن طعمة بن أبيرق سرق درعي.فلما رأى السارق ذلك عمد إلى الدرع فألقاها في بيت رجل يهودي اسمه زيد بن السمين، وقال لنفر من عشيرته: إني غيبت الدرع، وألقيتها في بيت فلان.وستوجد عنده.فانطلقوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا نبي الله: إن صاحبنا بريء، وإن الذي سرق الدرع فلان.وقد أحطنا بذلك علمًا، فاعذر صاحبنا على رؤوس الناس، وجادل عنه، فإنه إن لم يعصمه الله بك يهلك..ولما عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الدرع وجدت في بيت اليهودي، قام فبرأ ابن أبيرق وعذره على رؤوس الناس.وكان أهله قد قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم قبل ظهور الدرع في بيت اليهودي: إن قتادة بن النعمان وعمه عمدا إلى أهل بيت منا أهل إسلام وصلاح يرمونهم بالسرقة من غير بينة ولا ثبت! قال قتادة: فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمته.فقال: [عمدت إلى أهل بيت يذكر منهم إسلام وصلاح وترميهم بالسرقة على غير ثبت ولا بينة؟] قال: فرجعت، ولوددت أني خرجت من بعض مالي ولم أكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك.فأتاني عمي رفاعة فقال: يا ابن أخي ما صنعت؟ فأخبرته بما قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم.فقال: الله المستعان، فلم نلبث أن نزلت (ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ) [النساء: ١٠٥]. انظر: جامع البيان، الطبري ٩/١٨٣، معالم التنزيل، البغوي ٢/٢٤٤٧-٢٤٨.
161 في ظلال القرآن، سيد قطب ٢/٧٥١-٧٥٣.
162 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأذان، باب من جلس في المسجد ينتظر الصلاة ٢/١٤٣، ومسلم في صحيحه، كتاب الزكاة، باب فضل إخفاء الصدقة ٢/٧١٥.
163 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإمارة، باب فضيلة الإمام العادل ٣/١٤٥٨.
164 أخرجه الترمذي في سننه، أبواب الأحكام، باب ما جاء في الإمام العادل: ٤/٥٥٩.
قال: حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة، ٣/١٩٧، رقم ١١٥٦.
165 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب البر والصلة، باب تحريم الظلم، ٤/١٤٤٩.
166 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الحدود، باب إقامة الحدود على الشريف والوضيع، ٨/١٦٠ ، رقم ٦٧٨٧.
167 انظر: تاريخ الطبري ٦/٥٦٨ - ٥٦٩، فتوح البلدان، البلاذري ٣/٥١٩، الكامل، ابن الأثير ٤/١٦٢ - ١٦٣. وهذا الحكم الذي أصدره القاضي المسلم ضد جيش المسلمين المنتصر لا تجد له نظيرًا في التاريخ كله، إذ لا نجد جيشًا يخرج من بلد احتله بحكم أصدره أو يصدره قاضٍ في الجيش الذي احتل البلد، بل إنهم يباركون ذلك الاحتلال ويسعون إلى مزيد من السيطرة.هذا الحكم الذي ينطق بالعدالة والسمو والرفعة يعتبره المستشرق القذر فان فلوتن حكمًا ينطوي على خبث !! فيقول: «ولما ارتقى عمر بن عبد العزيز عرش الخلافة شكا إليه أهل سمرقند تلك الحالة الجائرة، فأمر أحد قضاته بالنظر في هذه المسألة، فقضى بينهم بحكم يكاد يخفي ما انطوى عليه من الخبث حتى على أشد الناس نزاهة، وذلك أن يتقابل الفريقان من العرب ومن أهل سمرقند تحت أسوار المدينة، وأن يؤخذوا بالقوة أو أن تعقد معهم محالفة جديدة.ومعنى ذلك أنه إذا انتصر العرب وهو ما كان راجحًا، فإن سكان سمرقند كانوا لا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم في أسوارهم عاملوا أهل سمرقند معاملة من فتحت بلادهم عُنوة. ومن الجلي أن حكم ذلك القاضي لم يغير تلك الحالة في شيء».وما أظن هذا المستشرق كان يفكر بعقله وهو يكتب هذا الكلام والافتراء.فقد أشار إلى مرجعه في ذلك، وهو الطبري والبلاذري، وقد رأينا أنه ليس في هذين المرجعين أن يتقابل الفريقان تحت أسوار المدينة - كما زعم فلوتن - وإنما فيه خروج الجيش المسلم من المدينة، وهذا يعني أن أهل سمرقند يتحصنون في حصونهم ويمكنهم أن يدافعوا عن أنفسهم، ولعله أصبح واضحًا أن الخبث ينضح من كلام الخبيث فلوتن وليس من حكم القاضي المسلم.
168 انظر: الخراج، أبو يوسف القاضي، ص ١٤٩ - ١٥٠.
169 أخرجه أبوداود في سننه، كتاب الأدب، باب النهي عن البغي، ٦/٢٧٦، رقم ٤٩٠٢، والترمذي في سننه، أبواب صفة القيامة، ٤/٦٦٤، رقم ٢٥١١.
قال الترمذي: هذا حديث صحيح.
وصححه الألباني في صحيح الجامع، ٢/٩٩٤، رقم ٥٧٠٤.
170 مجموع فتاوى ابن تيمية ٢٨/١٤٦.
171 أخرجه الترمذي في سننه، أبواب تفسير القرآن، تفسير سورة براءة، ٨ /٤٩٢-٤٩٤، والطبري في تفسيره ١٤/٢١٠. قال الترمذي: «هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث عبد السلام بن حرب، وغطيف بن أعين ليس بمعروف في الحديث». وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، ٧/٨٦١، رقم ٣٢٩٣.
172 انظر: في ظلال القرآن، سيد قطب ٣/١٤٣٤- ١٤٣٥.
173 انظر: خصائص التصور الإسلامي ومقوماته، سيد قطب، ص ١٦٩-١٧٠.
174 انظر: العسكرية الإسلامية ونهضتنا الحضارية، ص ٩٨، الجانب العسكري من حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، للواء الركن محمد جمال الدين محفوظ، ص ٥١٨ - ٥١٩ ضمن الجزء الرابع من البحوث والدراسات المقدمة للمؤتمر العالمي الثالث للسيرة النبوية، قطر، ١٤٠١ هـ «اقتباس النظام العسكري» ص ١١٨-١١٩ وهو يشمل ثلاث بحوث للواء محمود شيت خطاب، واللواء جمال محفوظ، وعبداللطيف زايد.
175 أخرجه الديلمي عن ابن عباس قال: ما مد الناس أيديهم إلى شيء من السلاح إلا وللقوس عليه فضلٌ.انظر: «كنز العمال»: ٤/٣٥٥، وأشار السيوطي إلى ضعفه.
176 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإمارة، باب فضل الرمي، ٣/١٥٢٢، رقم ١٩١٧.
177 أخرجه أحمد في مسنده، ٢٨/٥٣٢، رقم ١٧٣٠٠، والترمذي في سننه، أبواب فضائل الجهاد، باب ما جاء في فضل الرمي، ٥/٢٠٥، ١٦٣٧.
قال الترمذي: «حديث حسن». وضعفه الألباني في ضعيف الجامع، ص٢٥٩، رقم ١٧٣٢..
178 أخرجه القراب في فضائل الرمي، رقم ١٥ دون قوله: ومروهم بالاحتفاء.وانظر: التعليق الممجد على موطأ محمد ٣/٤٢٣، الفروسية، ابن القيم، ص ٩ - ١٠.
179 المصدر السابق، ص ١٥ - ١٦.
180 الصرمة - بالكسر - القطعة من الإبل ما بين العشرين إلى الثلاثين أو إلى الخمسين والأربعين، أو ما بين العشرة والأربعين.
انظر: ترتيب القاموس المحيط ٢/٨١٨.
181 أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف ٥/٣٣٤.
182 السير الكبير، الشيباني ١/١٣ - ١٤.
183 أخرجه عبدالرزاق والبيهقي.انظر: كنز العمال ٤/٤٦٧.
184 السير الكبير، ص ١٣ - ١٤ و ٥٦ - ٥٧.
185 أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره ٢/٥٩٦.
186 أخرجه البيهقي في السنن الكبرى ٥/٣١٧.
187 أخرجه أبو داود في سننه، كتاب البيوع، باب في النهي عن العينة، ٥/٩٩ - ١٠١.
وصححه ابن القطان وضعفه آخرون.وله شواهد يتقوى بها.
انظر: نصب الراية ٤/١٦، التلخيص الحبير ٣/١٩، الجوهر النقي، التركماني ٥/٣١٧.
188 أخرجه سعيد بن منصور عن تبيع عن كعب مرفوعًا و موقوفًا، ٢/١٥٤و١٥٥.
189 انظر: القتال في الإسلام، أحمد نار، ص ٣٠، منهج الإسلام في الحرب والسلام، عثمان ضميرية، ص ٩٠ - ٩٤.
190 انظر: العبودية، ابن تيمية، ص ١١٠ - ١١٨، العدالة الاجتماعية، سيد قطب، ص ٤٠ - ٥٥، وله أيضًا «مقومات التصور الإسلامي»، ص ٨١.
191 انظر: الإسلام والعلاقات الدولية، مصطفى الحفناوي، مجلة المسلمون، ص ٥١ - ٥٢ العدد الثالث، ١٣٧٣ هـ القاهرة، خصائص التصور الإسلامي، سيد قطب، ص ٢٣١ - ٢٣٦.
192 انظر: حاشية ابن عابدين ٥/٤٠٥ - ٤٠٦.
193 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأحكام، باب موعظة الإمام الخصوم، ٩/٦٩، رقم ٧٢٦٨، ومسلم في صحيحه، كتاب الأقضية، باب الحكم بالظاهر، ٣/١٣٣٧، رقم ١٧١٣.
194 انظر: دراسات إسلامية، محمد عبدالله دراز، ص ٦٦ - ٦٨.
195 انظر: المدخل الفقهي العام، مصطفى الزرقا ١/٢١٩ـ ٢٢٠.
196 انظر: بدائع الصنائع، الكاساني ٩/٤٢٩٥ـ ٤٢٩٦، الأم، الشافعي ٤/١٣٣ـ ١٣٤، المغني، ابن قدامة ١٠/٣٠٨ - ٣١١، التشريع الجنائي الإسلامي، عبد القادر عودة ١/٣٢٥ - ٣٥٥، العقوبة في الفقه الإسلامي، محمد أبو زهرة ٢٤١ - ٢٥٥.
197 انظر: الأصول الجديدة للقانون الدولي، محمد حافظ غانم، ص ٢٨ - ٣٠، القانون الدولي العام وقت السلم، حامد سلطان، ص ١٨ - ١٩، القانون الدولي العام، جنينة، ص١٧ـ ١٨.
198 انظر: أصول العلاقات الدولية في فقه الإمام الشيباني، عثمان ضميرية ١/٢٥٥-٢٦٠.
199 انظر: المصدر السابق، ص ٢٦٩-٢٧٣، قانون السلام في الإسلام، محمد طلعت الغنيمي، ص ٣١٧ - ٣١٨.
200 انظر: القانون الدولي، حسني جابر، ص ٣٩.
201 انظر: أصول العلاقات الدولية، عثمان ضميرية ١/٢٧٣-٢٨١، أحكام القانون الدولي في الشريعة الإسلامية، حامد سلطان، ص ١٨٢ - ١٨٣.
202 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الجهاد والسير، باب تأمير الإمام الأمراء على البعوث ووصيته إياهم، ٣/١٣٥٧-١٣٥٨.
203 أجمع العلماء على أن الكفار مخاطبون بالإيمان وأصول الدين، واختلفوا في تكليفهم بالفروع على مذاهب، فمنهم من قال: هم مخاطبون بها، ومنهم من نفى ذلك، ومنهم من فرق بين الأوامر والنواهي فقال: يخاطب بالنواهي دون الأوامر. انظر بالتفصيل هذا الخلاف وما يترتب عليه في «أصول السرخسي»: ١/٧٣ - ٧٨، «البرهان في أصول الفقه» لإمام الحرمين الجويني: ١/١٠٧ - ١١٠، «شرح تنقيح الفصول» للقرافي، ص ١٦٦- ١٦٧.
204 انظر: مصنفة النظم الإسلامية، ص ٢٨٢-٣٢١، المشروعية في النظام الإسلامي، مصطفى كمال وصفي، ص ٥١ - ٥٢.
205 انظر: قواعد العلاقات الدولية، جعفر عبد السلام، ص ٩١، الشخصية الدولية، محمد كامل ياقوت، ص ٢٧١ - ٢٧٣.
206 انظر: المشروعية الإسلامية العليا، مصطفى كمال وصفي، ص ١٩.
207 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجهاد، باب من قاتل لتكون كلمة الله العليا، ٤/٢٠، رقم ٢٨١٠، ومسلم في صحيحه، كتاب الإمارة، باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، ٣/١٥١٢ - ١٥١٣، رقم ١٩٠٤.