عناصر الموضوع

مفهوم العفو

العفو في الاستعمال القرآني

الألفاظ ذات الصلة

مشروعية العفو

الترغيب في العفو

أنواع العفو

أسباب العفو

مراتب العفو

مجالات العفو

آثار العفو

العفو

مفهوم العفو

أولًا: المعنى اللغوي:

العفو يطلق على معنيين أصليين: أحدهما: ترك الشيء. والآخر: طلبه.

فمن المعنى الأول: عفو الله تعالى عن خلقه، وذلك تركه إياهم فلا يعاقبهم فضلًا منه.

ومن المعني الثاني: قول: اعتفيت فلانًا، إذا طلبت معروفه وفضله، فهو القصد لتناول الشيء1.

والعفوأيضًا: خيار الشيء وأجوده، والعفو من الماء: ما فضل عن الشاربة وأخذ بلا كلفة ولا مزاحمة، العفو من البلاد: ما لا أثر لأحد فيها بملك2.

فهذان هما المعنيان الأصليان للعفو، وعليهما يدور جميع معاني العفو، فيفسر في كل مقام بما يناسبه.

ثانيًا: المعنى الاصطلاحي:

العفو اصطلاحًا: التجاوز عن الذنب وترك العقاب3.

وقال الراغب: العفو هو التجافي عن الذنب4.

والعفو: كف الضرر مع القدرة عليه، وكل من استحق عقوبة فتركها، فقد عفا5.

فالمعنى الاصطلاحي متفق مع المعنى الأول من المعنيين اللغويين للعفو.

العفو في الاستعمال القرآني

وردت مادة (عفو) في القرآن الكريم (٣٣) مرة6.

والصيغ التي وردت، هي:

الصيغة

عدد المرات

المثال

الفعل الماضي

١١

( ﭿ ) [التوبة:٤٣]

الفعل المضارع

١٢

( ) [الشورى:٢٥]

الفعل الأمر

٤

( ) [آل عمران:١٥٩]

المصدر

٢

( ) [الأعراف:١٩٩]

اسم الفاعل

١

( ) [آل عمران:١٣٤]

الصفة المشبهة

٥

( ) [النساء:٤٣]

وجاء العفو في الاستعمال القرآني على وجهين7:

أحدها: الصفح والمغفرة: ومن لوازمها الترك وعدم المؤاخذة، ومنه قوله تعالى: (ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ) [آل عمران: ١٥٥]، يعني: صفح عنهم وترك مؤاخذتهم.

الثاني: الفضل والكثرة: ومنه قوله تعالى: (ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ)[البقرة: ٢١٩]. يعني: ما كثر من أموالهم وفضل عن حاجتهم.

الألفاظ ذات الصلة

المغفرة:

المغفرة لغة:

أصل الغفر التغطية والستر، غفر الله ذنوبه أي: سترها، والغفر: الغفران، وقد غفره يغفره غفرًا: ستره، وكل شيء سترته فقد غفرته8.

المغفرة اصطلاحًا:

عرفها الكفوي بقوله: «هي أن يستر القادر القبيح الصادر ممن تحت قدرته، حتى إن العبد إن ستر عيب سيده مخافة عتابه لا يقال: غفر له»9، والمغفرة من الله هي بأن يصون العبد من أن يمسه العذاب يوم القيامة10.

الصلة بين العفو والمغفرة:

«أن الغفران يقتضي إسقاط العقاب، وإسقاط العقاب هو إيجاب الثواب، فلا يستحق الغفران إلا المؤمن المستحق للثواب، ولهذا لا يستعمل إلا في الله، فيقال: غفر الله لك. ولا يقال: غفر زيد. والعفو يقتضي إسقاط اللوم والذم، ولا يقتضي إيجاب الثواب، ولهذا يستعمل في العبد، فيقال: عفا زيد عن عمرو. وإذا عفا عنه لم يجب عليه إثابته إلا أنه العفو والغفران» 11.

الصفح:

الصفح لغة:

صفح عنه يصفح صفحًا: أعرض عن ذنبه، وهو صفوح وصفاح أي: عفو، والصفوح: الكريم؛ لأنه يصفح عمن جنى عليه، واستصفحه ذنبه: استغفره إياه وطلب أن يصفح له عنه12.

الصفح اصطلاحًا:

«ترك التأنيب، وهو أبلغ من العفو، فقد يعفو ولا يصفح، وصفحت عنه: أوليته مني صفحة جميلة معرضا عن ذنبه بالكلية»13.

الصلة بين العفو والصفح:

وقال الراغب: «الصفح: ترك التثريب، وهو أبلغ من العفو، وقد يعفو الإنسان ولا يصفح»14.

وقال البيضاوي: « العفو ترك عقوبة المذنب، والصفح ترك تثريبه»15.

العقاب:

العقاب لغة:

العقاب مأخوذ من «عقب»: العين والقاف والباء أصلان صحيحان: أحدهما يدل على تأخير شيء وإتيانه بعد غيره، والأصل الآخر يدل على ارتفاع وشدة وصعوبة16.

العقاب اصطلاحًا:

العقاب هو جزاء الشر، والنكال أخص منه17، أو هو ما يلحق الإنسان بعد الذنب من المحنة في الدنيا أو في الآخرة أو فيهما معًا18.

الصلة بين العفو والعقاب:

هما ضدان فالعفو ترك العقوبة، والعقاب إيقاعها.

مشروعية العفو

بين القرآن الكريم في كثير من آياته مشروعية العفو، ورغب فيه، ومن ذلك:

قوله تبارك وتعالى مخاطبًا نبيه صلى الله عليه وسلم: (ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ) [الأعراف: ١٩٩].

ففي هذه الآية الكريمة أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بمعاملة العباد بخلق العفو، قال عبد الله بن الزبير: (أمر نبي الله صلى الله عليه وسلم أن يأخذ العفو من أخلاق الناس) 19.

قال ابن عاشور عند تفسيره لهذه الآية: «فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يعفو ويصفح، وذلك بعدم المؤاخذة بجفائهم وسوء خلقهم، فلا يعاقبهم ولا يقابلهم بمثل صنيعهم»20.

فالذي ينبغي أن يعامل به الناس أن يأخذ العفو، أي: ما سمحت به أنفسهم، وما سهل عليهم من الأعمال والأخلاق، فلا يكلفهم ما لا تسمح به طبائعهم، بل يشكر من كل أحد ما قابله به من قول وفعل جميل أو ما هو دون ذلك، ويتجاوز عن تقصيرهم ويغض طرفه عن نقصهم، ولا يتكبر على الصغير لصغره، ولا ناقص العقل لنقصه، ولا الفقير لفقره، بل يعامل الجميع باللطف والمقابلة بما تقتضيه الحال وتنشرح له صدورهم21.

وكل ذلك في المعاملات الشخصية لا في العقيدة الدينية ولا في الواجبات الشرعية؛ فليس في عقيدة الإسلام ولا شريعة الله يكون التغاضي والتسامح، ولكن في الأخذ والعطاء والصحبة والجوار، وبذلك تمضي الحياة سهلة لينة. فالإغضاء عن الضعف البشري والعطف عليه، والسماحة معه واجب الكبار الأقوياء تجاه الصغار الضعفاء، ورسول الله صلى الله عليه وسلم راع وهاد ومعلم ومرب، فهو أولى الناس بالسماحة واليسر والإغضاء، وكذلك كان صلى الله عليه وسلم، لم يغضب لنفسه قط، فإذا كان في دين الله لم يقم لغضبه شيء، وكل أصحاب الدعوة مأمورون بما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالتعامل مع النفوس البشرية لهدايتها يقتضي سعة صدر وسماحة طبع ويسرًا وتيسيرًا في غير تهاون ولا تفريط في دين الله 22.

وهذه الآية تدل على عمومية العفو، وأنه ليس خاصًا بالمسلمين فقط، بل يعم جميع الناس؛ لأن: «التعريف في العفو تعريف الجنس، فهو مفيد للاستغراق إذا لم يصلح غيره من معنى الحقيقة والعهد، ولا يخرج عن هذا العموم من أنواع العفو أزمانه وأحواله إلا ما أخرجته الأدلة الشرعية، مثل العفو عن القاتل غيلة، ومثل العفو عن انتهاك حرمات الله، والرسول أعلم بمقدار ما يخص من هذا العموم، وقد يبينه الكتاب والسنة، وألحق به ما يقاس على ذلك المبين، وفي قوله: (ﭷ ﭸ) ضابط عظيم لمقدار تخصيص الأمر بالعفو»23.

ولم يفهم السلف من هذه الآية الخصوصية، بل فهموا منها العموم24.

وأيضًا هذه الآية ليست منسوخة كما ادعى بعضهم أنها منسوخة بالآيات الآمرة بالقتال، بل هي محكمة؛ لأن من ادعى أنها منسوخة لم يستند في دعواه إلى دليل من الكتاب أو من السنة.

وهذه الدعوى لم يعول عليها جهابذة المفسرين، كابن جرير25 وابن عطية26 وابن عاشور27، ولم يذكروها إلا ليبينوا ضعفها.

ولأن العفو من مكارم الأخلاق التي جاء الإسلام بالحث على تكميلها؛ فلا يدخلها النسخ.

ومن الأدلة على مشروعية العفو: قوله تعالى مخاطبا نبيه صلى الله عليه وسلم: (ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ) [آل عمران: ١٥٩]، فقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بالعفو عن أصحابه ما كان منهم يوم أحد مما يختص28 به. وأمره أن يعفو عنهم ما لم يلزمهم من حكم أو حد29.

قال ابن جرير: «يعني تعالى ذكره بقوله: (ﭩ ﭪ) فتجاوز يا محمد عن تباعك وأصحابك من المؤمنين بك وبما جئت به من عندي، ما نالك من أذاهم ومكروهٍ في نفسك»30.

وقد أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بهذه الأوامر التي هي بتدريج بليغ، وذلك أنه أمره بأن يعفو عنهم ما له في خاصته عليهم من تبعة، فلما صاروا في هذه الدرجة أمره أن يستغفر فيما لله عليهم من تبعة أيضًا، فإذا صاروا في هذه الدرجة صاروا أهلًا للاستشارة في الأمور31.

وظاهر الأمر للوجوب، والفاء في قوله تعالى: (ﭩ ﭪ) يدل على التعقيب، فهذا يدل على أنه تعالى أوجب عليه أن يعفو عنهم في الحال، ويدل أيضًا على إيجاب العفو على الرسول عليه السلام، ولما آل الأمر إلى الأمة لم يوجبه عليهم، بل ندبهم إليه، فقال تعالى: (ﭥ ﭦ ﭧ) [آل عمران: ١٣٤]، ليعلم أن حسنات الأبرار سيئات المقربين32.

وقد أخبر تبارك وتعالى بأنه قد عفا عن الصحابة الذين خالفوا أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بملازمة الجبل، وتحذيرهم من النزول منه مهما كانت الظروف والأحوال، فقال تعالى: (ﮠ ﮡ) [آل عمران: ١٥٢].

قال ابن جرير: «( ﮡ ﮢ) أيها المخالفون أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتاركون طاعته فيما تقدم به إليكم من لزوم الموضع الذي أمركم بلزومه عنكم، فصفح لكم من عقوبة ذنبكم الذي أتيتموه عما هو أعظم مما عاقبكم به من هزيمة أعدائكم إياكم، وصرف وجوهكم عنهم، إذ لم يستأصل جمعكم»33.

ولا شك أن ترك الرماة للجبل ونزولهم منه يعد مخالفة صريحة لأمر الرسول لهم بملازمته، وارتكابا لنهيه بعدم النزول منه مهما كانت الظروف والأحوال.

قال الرازي: «واعلم أن الذنب لا شك أنه كان كبيرة؛ لأنهم خالفوا صريح نص الرسول، وصارت تلك المخالفة سببا لانهزام المسلمين وقتل جمع عظيم من أكابرهم، ومعلوم أن كل ذلك من باب الكبائر، وأيضًا ظاهر قوله تعالى: (ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ) [الأنفال: ١٦]، يدل على كونه كبيرة، وقول من قال: إنه خاص في بدر ضعيف؛ لأن اللفظ عام، ولا تفاوت في المقصود، فكان التخصيص ممتنعا، ثم إن ظاهر هذه الآية يدل على أنه تعالى عفا عنهم من غير توبة؛ لأن التوبة غير مذكورة، فصار هذا دليلًا على أنه تعالى قد يعفو عن أصحاب الكبائر، وهذه الآية دالة على أن صاحب الكبيرة مؤمن؛ لأنا بينا أن هذا الذنب كان من الكبائر، ثم إنه تعالى سماهم المؤمنين، فهذا يقتضي أن صاحب الكبيرة مؤمن بخلاف ما تقوله المعتزلة»34.

وقد غفر الله لهم ذلك لكثرة عدد العدو وعددهم وقلة عدد المسلمين وعددهم35.

وأيضًا غفر لهم لعلمه بتوبتهم وندمهم، كما يقول النسفي: «(ﮠ ﮡ ) حيث ندمتم على ما فرط منكم من عصيان رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ) بالعفو عنهم وقبول توبتهم، أو هو متفضل عليهم في جميع الأحوال سواء أديل لهم أو أديل عليهم؛ لأن الابتلاء رحمة كما أن النصرة رحمة»36.

وقد يقال: إنه عفا الله عنهم؛ لأن مخالفتهم تلك لم تكن عن نية سيئة أو إصرار، بل كان عن اجتهاد منهم، كما أشار إلى ذلك صاحب الظلال: «عفا عما وقع منكم من ضعف ومن نزاع ومن عصيان، وعفا كذلك عما وقع منكم من فرار وانقلاب وارتداد، عفا عنكم فضلًا منه ومنة، وتجاوزًا عن ضعفكم البشري الذي لم تصاحبه نية سيئة ولا إصرار على الخطيئة، عفا عنكم؛ لأنكم تخطئون وتضعفون في دائرة الإيمان بالله والاستسلام له، وتسليم قيادكم لمشيئته: (ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ) ومن فضله عليهم أن يعفو عنهم ما داموا سائرين على منهجه، مقرين بعبوديتهم له لا يدعون من خصائص الألوهية شيئًا لأنفسهم، ولا يتلقون نهجهم ولا شريعتهم ولا قيمهم ولا موازينهم إلا منه، فإذا وقعت منهم الخطيئة وقعت عن ضعف وعجز أو عن طيش ودفعة، فيتلقاهم عفو الله بعد الابتلاء والتمحيص والخلاص»37.

ومن الأدلة على مشروعية العفو قوله تعالى: (ﯣ ﯤ ﯥﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ) [المائدة: ١٣].

ففي هذه الآية أمر الله -عز ذكره- نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم بالعفو عن هؤلاء القوم الذين هموا أن يبسطوا أيديهم إليه من اليهود. يقول الله -جل وعز- له: اعف يا محمد عن هؤلاء اليهود الذين هموا بما هموا به من بسط أيديهم إليك وإلى أصحابك بالقتل، واصفح لهم عن جرمهم بترك التعرض لمكروههم، فإني أحب من أحسن العفو والصفح إلى من أساء إليه38.

وقد حث الله على العفو عنهم والحالة هذه؛ لأن في ذلك مصالح عظيمة، قال ابن كثير: «وهذا هو عين النصر والظفر، كما قال بعض السلف: ما عاملت من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه. وبهذا يحصل لهم تأليف وجمع على الحق، ولعل الله أن يهديهم، ولهذا قال تعالى: (ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ) يعني به الصفح عمن أساء إليك» 39.

والعفو عنهم من باب الإحسان إليهم، حتى تهيج فيهم غريزة العرفان بالجميل، فيستل ذلك الإحسان الحقد من قلوبهم، ويفتحوا آذانهم وقلوبهم لكلمة الحق: (ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ) [فصلت: ٣٤]؛ لأن العداوة لا تشتد إلا إذا وجد مؤجج لها من عداوة في المقابل، فعندما تعامل عدوك بالحسنى ولا ترد على عدائه بالعدوان فكم من الزمن يصير عدوًا لك؟ إنه اعتدى مرة وسكت أنت عليه، واعتدى ثانية وسكت أنت عليه، لا بد أنه يهدئ من نفسه40.

ولا دليل ولا حجة لمن ذهب 41 إلى أن هذه الآية منسوخة بآية براءة: (ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ)[التوبة: ٢٩].

فقد رد على من ذهب على ذلك جملة من أئمة التفسير، كابن جرير42 وابن عاشور43 ومحمد رشيد رضا44.

ومن الأدلة على مشروعية العفو قوله تعالى: (ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ) [البقرة: ١٠٩].

ففي هذه الآية أمر الله تبارك وتعالى بالعفو عن ذوي الإساءات من أهل الكتاب، قال ابن جرير: « () فتجاوزوا عما كان منهم من إساءة وخطأ في رأي أشاروا به عليكم في دينكم، إرادة صدكم عنه، ومحاولة ارتدادكم بعد إيمانكم، وعما سلف منهم من قيلهم لنبيكم صلى الله عليه وسلم: (ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ) [النساء: ٤٦].

واصفحوا عما كان منهم من جهل في ذلك حتى يأتي الله بأمره، فيحدث لكم من أمره فيكم ما يشاء، ويقضي فيهم ما يريد»45.

وقال محمد رشيد رضا: «أمر الله تعالى المؤمنين بأن يقابلوا هذا الحسد وما ينبعث عنه بما يليق بهم من محاسن الأخلاق، فقال: (ﮤ ﮥ)، ولم يقل: (فاعفوا واصفحوا عنهم)؛ لإرادة العموم، أي: عاملوا جميع الناس بالصفح والعفو، فإن هذا هو اللائق بشأن المؤمنين المتقين: (ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ) [الفرقان: ٦٣].

وفي أمره تعالى لهم بالعفو والصفح إشارة إلى أن المؤمنين على قلتهم هم أصحاب القدرة والشوكة؛ لأن الصفح إنما يطلب من القادر على خلافه، كأنه يقول: لا يغرنكم أيها المؤمنون كثرة أهل الكتاب مع باطلهم فإنكم على قلتكم أقوى منهم بما أنتم عليه من الحق، فعاملوهم معاملة القوي العادل للقوي الجاهل، وفي إنزال المؤمنين على ضعفهم منزل الأقوياء ووضع أهل الكتاب على كثرتهم موضع الضعفاء إيذان بأن أهل الحق هم المؤيدون بالعناية الإلهية، وأن العزة لهم ما ثبتوا على حقهم، ومهما يتصارع الحق والباطل فإن الحق هو الذي يصرع الباطل، وإنما بقاء الباطل في غفلة الحق عنه»46.

وهذه الآية أيضًا غير منسوخة كما هو قول المحققين من أئمة التفسير، قال الشنقيطي عند تفسيره لها: «هذه الآية في أهل الكتاب كما هو واضح من السياق، والأمر في قوله: ()، قال بعض العلماء: هو واحد الأوامر. وقال بعضهم: هو واحد الأمور. فعلى القول الأول بأنه الأمر الذي هو ضد النهي؛ فإن الأمر المذكور هو المصرح به في قوله: (ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ) [التوبة: ٢٩].

وعلى القول بأنه واحد الأمور فهو ما صرح الله به في الآيات الدالة على ما أوقع باليهود من القتل والتشريد كقوله: (ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ) [الحشر: ٢].

إلى غير ذلك من الآيات، والآية غير منسوخة على التحقيق»47.

ومن الأدلة على مشروعية العفو: قوله تعالى: (ﮈ ﮉﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐﮑ ﮒ ﮓ ) [النور: ٢٢].

قال ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية: «وهذا في غاية الترفق والعطف على صلة الأرحام، ولهذا قال تعالى: (ﮈ ﮉ) أي: عما تقدم منهم من الإساءة والأذى، وهذا من حلمه تعالى وكرمه ولطفه بخلقه مع ظلمهم لأنفسهم، وهذه الآية نزلت في الصديق رضي الله عنه حين حلف أن لا ينفع مسطح بن أثاثة بنافعة بعد ما قال في عائشة ما قال، فلما أنزل الله براءة أم المؤمنين عائشة وطابت النفوس المؤمنة واستقرت وتاب الله على من كان تكلم من المؤمنين في ذلك، وأقيم الحد على من أقيم عليه؛ شرع -تبارك وتعالى وله الفضل والمنة- يعطف الصديق على قريبه ونسيبه وهو مسطح بن أثاثة، فإنه كان ابن خالة الصديق، وكان مسكينا لا مال له إلا ما ينفق عليه أبو بكر رضي الله عنه، وكان من المهاجرين في سبيل الله، وقد زلق زلقة تاب الله عليه منها وضرب الحد عليها، وكان الصديق رضي الله عنه معروفًا بالمعروف، له الفضل والأيادي على الأقارب والأجانب، فلما نزلت هذه الآية: (ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ) فإن الجزاء من جنس العمل، فكما تغفر عن المذنب إليك نغفر لك، وكما تصفح نصفح عنك، فعند ذلك قال الصديق: بلى والله إنا نحب يا ربنا أن تغفر لنا. ثم رجع إلى مسطح ما كان يصله من النفقة، وقال: والله لا أنزعها منه أبدا، في مقابلة ما كان، قال: والله لا أنفعه بنافعة أبدا»48.

ومن الأدلة قوله تعالى: (ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ) [النساء: ١٤٩].

قال القرطبي عند تفسيره لهذه الآية: «فندب إلى العفو ورغب فيه، والعفو من صفة الله تعالى مع القدرة على الانتقام، ففي هذه الألفاظ اليسيرة معان كثيرة لمن تأملها. وقيل: إن عفوت فإن الله يعفو عنك»49.

ومن الأدلة على مشروعية على العفو قوله تعالى: (ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ) [البقرة (١٧٨)].

فقوله تعالى: (ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ) يعني الولي إذا أعطي شيئا من المال فليقبله وليتبعه بالمعروف، وليؤد القاتل إليه بإحسان، فندبه الله تعالى إلى أخذ المال إذا سهل ذلك من جهة القاتل، وأخبر أنه تخفيف منه ورحمة، كما قال عقيب ذكر القصاص من سورة المائدة: (ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ) [المائدة: ٤٥].

فندبه إلى العفو والصدقة، وكذلك ندبه بما ذكر في هذه الآية إلى قبول الدية إذا بذلها الجاني؛ لأنه بدأ بذكر عفو الجاني بإعطاء الدية ثم أمر الولي بالاتباع، وأمر الجاني بالأداء بالإحسان50.

وفي الختام لابد من الإشارة إلى أن العفو ليس محمودا على إطلاقه، بل مقيد بما إذا كان ثمة مصلحة من ورائه، كما يدل على ذلك سياق الآيات الحاثة على ذلك، كقوله تعالى: (ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ) [البقرة: ١٧٨].

وقوله: (ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ) [الشورى: ٤٠].

قال ابن سعدي: «وشرط الله في العفو الإصلاح فيه؛ ليدل ذلك على أنه إذا كان الجاني لا يليق العفو عنه وكانت المصلحة الشرعية تقتضي عقوبته فإنه في هذه الحال لا يكون مأمورًا به»51.

وأكد على ذلك ابن عثيمين بقوله: «العفو المندوب إليه ما كان فيه إصلاح؛ لقوله تعالى: (ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ) [الشورى: ٤٠]؛ فإذا كان في العفو إصلاح، مثل أن يكون القاتل معروفًا بالصلاح ولكن بدرت منه هذه البادرة النادرة، ونعلم أو يغلب على ظننا أنا إذا عفونا عنه استقام وصلحت حاله؛ فالعفو أفضل لا سيما إن كان له ذرية ضعفاء، ونحو ذلك، وإذا علمنا أن القاتل معروف بالشر والفساد، وإن عفونا عنه لا يزيده إلا فسادًا وإفسادًا؛ فترك العفو عنه أولى، بل قد يجب ترك العفو عنه»52.

وقيده الماوردي بالتائب دون المصر، فقال: «أصلح بينه وبين أخيه، وهذا مندوب إليه في العفو عن التائب دون المصر»53.

وأيضًا العفو الممدوح هو العفو عند المقدرة، كما يقول إبراهيم النخعي: «كانوا يكرهون أن يستذلوا، فإذا قدروا عفوا»54.

والأنبياء والرسل عليهم السلام أوذوا في سبيل الله أذى كثيرا، فصبروا وتحملوا أذى قومهم، وليس ذلك في مرحلة الضعف فحسب، بل في مرحلة القوة والقدرة والتمكين؛ وذلك هو كمال العفو: «العفو عند المقدرة».

وهنا نورد مثالين فقط على عفو الأنبياء وصفحهم:

المثال الأول: نبي الله يوسف عليه السلام لما صار ملكا لمصر عفا وصفح عن إخوته، فقال مخاطبا لهم: (ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓﯔ ﯕ ﯖ ﯗﯘ ﯙ ﯚ ﯛ) [يوسف: ٩٢].

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قال يوسف لإخوته: (ﮯ ﮰ) يقول: لا تعيير عليكم ولا إفساد لما بيني وبينكم من الحرمة وحق الأخوة، ولكن لكم عندي الصفح والعفو55.

وكذلك يعقوب عليه السلام عفا عن أبنائه الذين كادوا له ولابنه يوسف، وذلك حينما اعترفوا بخطئهم وطلبوا منه أن يستغفر لهم، فقالوا: (ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ) [يوسف: ٩٧].

فعفا عنهم ولبى طلبهم، فقال: (ﭱ ﭲ ﭳ ﭴﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ) [يوسف: ٩٨].

المثال الثاني: خاتم النبيين وإمام المرسلين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فإن العفو والصفح من أجل صفاته، كما جاء في حديث عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، وفيه: (لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم فاحشًا ولا متفحشًا، ولا صخابًا في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح)56.

وقد طبق ذلك عليه الصلاة والسلام في حياته العملية، فقال لأهل مكة الذين ناصبوه العداء وآذوه: (اذهبوا فأنتم الطلقاء)57.

وهكذا فعل الخلفاء الراشدون مع من أساء إليهم، فقد عفا أبو بكر عن مسطح بعد نزول قول الله تعالى: (ﮈ ﮉﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐﮑ ﮒ ﮓ ﮔ) [النور: ٢٢].

والعفو سجية من سجايا عباد الله المؤمنين، قال تعالى: (ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ) [الشورى: ٣٧].

قال ابن كثير: «أي: سجيتهم وخلقهم وطبعهم تقتضي الصفح والعفو عن الناس، ليس سجيتهم الانتقام من الناس»58.

وعفا عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن ذلك الأعرابي الذي أساء إليه: (ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ) [الأعراف: ١٩٩].

الترغيب في العفو

تعددت أساليب القرآن الكريم في الترغيب في العفو والحث عليه والندب إليه، ومن تلك الأساليب:

أولًا: أسلوب الطلب:

وذلك من خلال فعل الأمر؛ كما في قوله تعالى: (ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ) [الأعراف: ١٩٩].

وقوله: (ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ) [آل عمران: ١٥٩].

وقوله: (ﯣ ﯤ ﯥﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ) [المائدة: ١٣].

وقوله: (ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ) [البقرة: ١٠٩].

وقد سبق أن نقلنا كلام المفسرين في السابق مما أغنى عن إعادته هنا.

ثانيًا: أسلوب التحضيض:

كما في قوله تعالى: (ﮈ ﮉﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐﮑ ﮒ ﮓ ﮔ) [النور: ٢٢].

ففي هذه الآية الكريمة حث الله عباده المؤمنين على العفو عمن أساء إليهم، وما تضمنته هذه الآية من العفو والصفح جاء مبينا في مواضع أخر؛ كقوله تعالى: (ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧﭨ ﭩ ﭪ ﭫ) [آل عمران: ١٣٣- ١٣٤].

وقد دلت هذه الآية على أن كظم الغيط والعفو عن الناس من صفات أهل الجنة، وكفى بذلك حثا على ذلك، ودلت أيضًا على أن ذلك من الإحسان الذي يحب الله المتصفين به. وكقوله تعالى: (ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ) [النساء: ١٤٩].

وقد بين تعالى في هذا الآية أن العفو مع القدرة من صفاته تعالى، وكفى بذلك حثا عليه، وكقوله تعالى: (ﯓ ﯔ ﯕ) [الحجر: ٨٥].

وكقوله: (ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ) [الشورى: ٤٣].

إلى غير ذلك من الآيات.

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: (ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ) [النور: ٢٢]، دليل على أن العفو والصفح عن المسيء المسلم من موجبات غفران الذنوب، والجزاء من جنس العمل، ولذا لما نزلت قال أبو بكر: بلى والله نحب أن يغفر لنا ربنا.ورجع للإنفاق في مسطح، ومفعول: (ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ) محذوف؛ للعلم به، أي: يغفر لكم ذنوبكم59.

وقد اتفق الفقهاء على أن العفو والصفح عن المسيء حسن ومندوب إليه؛ لقوله تعالى: (ﮈ ﮉ) والأمر هنا للندب والإرشاد، وليس للوجوب؛ لأن الإنسان يجوز له أن يقتص ممن أساء إليه، فلو كان العفو واجبًا لما جاز طلب القصاص60.

وهذه الآية وإن كان سبب نزولها خاصا في أبي بكر الصديق رضي الله عنه إلا أنها عامة في الحث على العفو والصفح؛ لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

وفي قوله تعالى: (ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ) [النساء: ١٤٩].

في هذه الآية الكريمة حذف متعلق الأفعال الثلاثة؛ لإرادة العموم، كما أشار إلى ذلك ابن عاشور: «وحذف متعلق الأفعال الثلاثة؛ لظهور أن المراد من أولادكم وأزواجكم فيما يصدر منهم مما يؤذيكم، ويجوز أن يكون حذف المتعلق؛ لإرادة عموم الترغيب في العفو.

وإنما يعفو المرء ويصفح ويغفر عن المذنب إذا كان ذنبه متعلقا بحق ذلك المرء وبهذه الأفعال المذكورة هنا مطلقة، وفي أدلة الشريعة تقييدات لها.

وجملة: (ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ) دليل جواب الشرط المحذوف المؤذن بالترغيب في العفو والصفح والغفر، فالتقدير: وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا يحب الله ذلك منكم؛ لأن الله غفور رحيم، أي: للذين يغفرون ويرحمون، وجمع وصف رحيم الخصال الثلاث»61.

وقال المفسرون: جملة الجزاء تحريض على العفو ببيان أن فيه تخلقًا بالكمال؛ لأن صفات الله غاية الكمالات. والتقدير: «إن تبدو خيرًا» إلخ تكونوا متخلقين بصفات الله، فإن الله كان عفوًا قديرًا، وهذا التقدير لا يناسب إلا قوله: «أو تعفوا عن سوء»، ولا يناسب قوله: (ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ) إلا إذا خصص ذلك بإبداء الخير لمن ظلمهم وإخفائه عمن ظلمهم62.

(ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ) لكم المؤاخذة عليه، وهو المقصود، وذكر إبداء الخير وإخفائه تشبيب له، ولذلك رتب عليه قوله: (ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ) أي: يكثر العفو عن العصاة مع كمال قدرته على الانتقام، فأنتم أولى بذلك، وهو حث للمظلوم على العفو بعد ما رخص له في الانتصار حملا على مكارم الأخلاق63.

وقد بين تعالى في هذا الآية أن العفو مع القدرة من صفاته تعالى، وكفى بذلك حثا عليه، وكقوله تعالى: (ﯓ ﯔ ﯕ) [الحجر: ٨٥]، وكقوله: (ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ) [الشورى: ٤٣]، إلى غير ذلك من الآيات64.

وقد ختم الله هذه الآية الكريمة ببعض أسمائه الحسنى ليرشد عباده إلى التخلق بها، فقال تعالى: ( ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ) كأنه يقول لهم: اعفوا أيها الناس، فإن الله عفو، فلله صفات يحب أن تكون في عباده، وصفات لا يحب أن تكون إلا له وحده سبحانه وتعالى، ومن الصفات التي يحب الله أن تكون في عباده أنه: كريم يحب الكرم، رحيم يحب من عباده الرحماء، عفو يحب من عباده العافين عن الناس، فصفة العفو يحبها سبحانه وتعالى في العباد، قال النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها: (قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني)65.

ثالثًا: أسلوب الترغيب:

فقد رغب الله تعالى في العفو في آيات عديدة، كقوله تعالى: (ﭥ ﭦ ﭧﭨ ﭩ ﭪ ﭫ) [آل عمران: ١٣٤].

في هذه الآية الكريمة مدح الله سبحانه: من كظم غيظه وعفا عمن اجترم إليه، وكظم الغيظ والعفو مندوب إليهما، موعود بالثواب عليهما من الله تعالى66.

قال القرطبي عند تفسيره لهذه الآية: «العفو عن الناس أجل ضروب فعل الخير، حيث يجوز للإنسان أن يعفو وحيث يتجه حقه»67.

وقال الشنقيطي: «وقد دلت هذه الآية على أن كظم الغيط والعفو عن الناس من صفات أهل الجنة، وكفى بذلك حثا على ذلك، ودلت أيضًا على أن ذلك من الإحسان الذي يحب الله المتصفين به»68.

وقال ابن جرير: «وأما قوله: (ﭥ ﭦ ) فإنه يعني: والصافحين عن الناس عقوبة ذنوبهم إليهم وهم على الانتقام منهم قادرون، فتاركوها لهم.

وأما قوله: (ﭪ ﭫ) فإنه يعني: فإن الله يحب من عمل بهذه الأمور التي وصف أنه أعد للعاملين بها الجنة التي عرضها السموات والأرض، والعاملون بها هم محسنون، وإحسانهم هو عملهم بها»69.

وقال أبو السعود: «وفي هذين الوصفين إشعار بكمال حسن موقع عفوه عليه الصلاة والسلام عن الرماة وترك مؤاخذتهم بما فعلوا مخالفة أمره عليه السلام، وندب له عليه السلام إلى ترك ما عزم عليه من مجازاة المشركين بما فعلوا بحمزة رضي الله عنه، حيث قال حين رآه قد مثل به: (لأمثلن بسبعين مكانك)70.

وجاء الترغيب في العفو في قوله تعالى: (ﮤ ﮥ) [البقرة: ١٠٩].

قال الشوكاني عند تفسيره لهذه الآية: «وفيه الترغيب في ذلك والإرشاد إليه»71 أي: الترغيب في العفو والصفح.

وفي قوله تعالى: ( ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ) [الشورى: ٤٠].

ففي هذه الآية تكفل الله تبارك وتعالى بمكافأة المتصفين بالعفو، وكفى بذلك ترغيبا! قال ابن جرير عند تفسيره لهذه الآية: « () عمن أساء إليه إساءته إليه، فغفرها له ولم يعاقبه بها وهو على عقوبته عليها قادر ابتغاء وجه الله، فأجر عفوه ذلك على الله، والله مثيبه عليه ثوابه»72.

(ﮱ ﯓ ﯔ) بينه وبين خصمه بالعفو والإغضاء، كما قال تعالى: (ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ) [فصلت: ٣٤].

(ﯕ ﯖ ﯗ) وهو وعد مبهم، لا يقاس أمره في التعظيم73.

(ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ) أي: من عفا عمن ظلمه وأصلح بالعفو بينه وبين ظالمه، أي: أن الله سبحانه يأجره على ذلك، وأبهم الأجر تعظيما لشأنه وتنبيها على جلالته. قال مقاتل: فكان العفو من الأعمال الصالحة74.

وفي جعل أجر العافي على الله ما يهيج على العفو، وأن يعامل العبد الخلق بما يحب أن يعامله الله به، فكما يحب أن يعفو الله عنه فليعف عنهم، وكما يحب أن يسامحه الله فليسامحهم، فإن الجزاء من جنس العمل75.

وفي قوله تعالى: (ﯵ ﯶ ﯷ) [البقرة: ٢٣٧].

ففي هذه الآية أخبر الله تبارك وتعالى أن العفو سبب من أسباب حصول التقوى ودليل عليها، وكفى بذلك حثا عليه، قال الشنقيطي: «فانظر ما في هذه الآية من الحض على مكارم الأخلاق من الأمر بالعفو والنهي عن نسيان الفضل»76.

فإن قال قائل: وما في الصفح عن ذلك من القرب من تقوى الله، فيقال للصافح العافي عما وجب له قبل صاحبه: فعلك ما فعلت أقرب لك إلى تقوى الله؟ قيل له: الذي في ذلك من قربة من تقوى الله مسارعته في عفوه ذلك إلى ما ندبه الله إليه ودعاه وحضه عليه، فكان فعله ذلك -إذا فعله ابتغاء مرضاة الله، وإيثار ما ندبه إليه على هوى نفسه- معلوما به؛ إذ كان مؤثرا فعل ما ندبه إليه مما لم يفرضه عليه على هوى نفسه، أنه لما فرضه عليه وأوجبه أشد إيثارا، ولما نهاه أشد تجنبا. وذلك هو قربه من التقوى77.

وقال ابن سعدي عند تفسيره لهذه الآية: «رغب في العفو، وأن من عفا كان أقرب لتقواه، لكونه إحسانا موجبا لشرح الصدر، ولكون الإنسان لا ينبغي أن يهمل نفسه من الإحسان والمعروف وينسى الفضل الذي هو أعلى درجات المعاملة؛ لأن معاملة الناس فيما بينهم على درجتين: إما عدل وإنصاف واجب، وهو أخذ الواجب وإعطاء الواجب. وإما فضل وإحسان، وهو إعطاء ما ليس بواجب والتسامح في الحقوق والغض مما في النفس، فلا ينبغي للإنسان أن ينسى هذه الدرجة، ولو في بعض الأوقات، وخصوصا لمن بينك وبينه معاملة أو مخالطة، فإن الله مجاز المحسنين بالفضل والكرم»78.

وفي قوله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ) [النساء: ٩٢].

قال الراغب: «وقوله: (ﭥ ﭦ ﭧ) أي: يعفوا عن الدية، فجعل العفو عنها صدقة منهم؛ تنبيهًا على فضيلة العفو وحثا عليه، وأنه جار مجرى الصدقة في استحقاق الثواب الآجل به دون طلب العوض العاجل، وهذا حكم من قتل في دار الإسلام خطأ»79.

وقوله: (ﭥ ﭦ ﭧ) أي: يتصدق ورثة القتيل بالعفو عن الدية، فإنها تسقط، وفي ذلك حث لهم على العفو؛ لأن الله سماها صدقة، والصدقة مطلوبة في كل وقت80.

أنواع العفو

من خلال جمعنا لآيات العفو في القرآن الكريم واستعراضنا لأقوال أئمة التفسير حول هذه الآيات يمكننا أن نقسم العفو إلى نوعين:

أولًا: عفو مطلق:

المقصود به عفو المجروح إن كان باقيًا، أو وارثه إن كان هالكًا عن عقوبة القصاص في القتل العمد، وما دونها من الأطراف والجروح، فيعفون عفوًا مطلقًا شاملًا، للقصاص والدية معًا، وهو ما يمكن أن نسميه العفو دون مقابل؛ لقوله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ) [النساء: ٩٢].

ففي هذه الآية أخبر جل ثناؤه عباده بحكم من قتل من المؤمنين خطأ، فقال: (ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ) فعليه تحرير (ﭟ ﭠ) في ماله (ﭡ ﭢ) تؤديها عاقلته (ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ) إلا أن يصدق أهل القتيل خطأ على من لزمته دية قتيلهم، فيعفوا عنه ويتجاوزوا عن ذنبه، فيسقط عنه81.

وقال تعالى: (ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ) [المائدة: ٤٥].

فقد ذكر المفسرون أن هذه الآية تحتمل ثلاثة معان:

أحدها: أن تكون () للجروح أو ولي القتيل، ويعود الضمير في قوله: () عليه أيضًا، ويكون المعنى أن من تصدق بجرحه أو دم وليه فعفا عن حقه في ذلك فإن ذلك العفو كفارة له عن ذنوبه، ويعظم الله أجره بذلك، ويكفر عنه.

والمعنى الثاني: أن تكون ()؛ للجروح أو ولي القتيل، والضمير في () يعود على الجارح أو القاتل إذا تصدق المجروح أو على الجارح بجرحه وصفح عنه؛ فذلك العفو كفارة للجارح عن ذلك الذنب، فكما أن القصاص كفارة فكذلك العفو كفارة، وأما أجر العافي فعلى الله تعالى، وعاد الضمير على من لم يتقدم له ذكر؛ لأن المعنى يقتضيه.

والمعنى الثالث: أن تكون للجارح أو القاتل والضمير في له يعود عليه أيضًا، والمعنى: إذا جنى جان فجهل وخفي أمره، فتصدق هو بأن عرف بذلك ومكن الحق من نفسه؛ فذلك الفعل كفارة لذنبه82.

قال ابن عباس: « (ﯠ ﯡ ) فمن عفا وتصدق عليه فهو كفارة للمطلوب وأجر للطالب. وقال أيضًا: (ﯠ ﯡ ﯢ) فهو كفارة للجارح، وأجر المجروح على الله عز وجل »83.

(ﯠ ﯡ ) أي: عفا عن القصاص ممن يستحقه سواء كان هو المجروح إن كان باقيًا، أو وارثه إن كان هالكًا () أي: التصدق بالقصاص (ﯤ ﯥ) أي: ستارة لذنوب هذا العافي84.

وقوله تعالى: (ﯠ ﯡ ﯢ) أي: بالقصاص المتعلق بالنفس، أو بالعين، أو بما بعدها () أي: فذلك التصدق، عاد الضمير على المصدر؛ لدلالة فعله عليه، وهو كقوله تعالى: (ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ) [المائدة: ٨]85.

وكذلك عفو المجروح إن كان باقيًا، أو وارثه إن كان هالكًا عن عقوبة الدية، فيما إذا كان القتل لا يوجب غير ذلك، وذلك في قتل الخطأ؛ لقوله تعالى: (ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ) [النساء: ٩٢].

قال أبو بكر بن العربي: «أوجب الله تعالى الدية في قتل الخطأ جبرا، كما أوجب القصاص في قتل العمد زجرا، وجعل الدية على العاقلة رفقا؛ وهذا يدل على أن قاتل الخطأ لم يكتسب إثمًا ولا محرمًا، والكفارة وجبت زجرًا عن التقصير والحذر في جميع الأمور»86.

وقال أيضًا: «أوجب الله تعالى الدية لأولياء القتيل: (ﭥ ﭦ ﭧ) بها على القاتل، والاستثناء إذا تعقب جملا عاد إلى جميعها إذا صلح ذلك فيها، وإلا عاد إلى ما يصلح له ذلك منها، والذي تقدم الكفارة والدية، والكفارة حق الله سبحانه، ولا تقبل الصدقة من الأولياء؛ لأن الصدقة من المتصدق عليه لا تنفذ إلا فيما يملكه»87.

وقوله تعالى: (ﭥ ﭦ ﭧ) معناه أن الدية تجب على قاتل الخطأ لأهل المقتول، إلا أن يعفوا عنها ويسقطوها باختيارهم فلا تجب حينئذ؛ لأنها إنما فرضت لهم؛ تطييبًا لقلوبهم، وتعويضًا عما فاتهم من المنفعة بقتل صاحبهم، وإرضاء لأنفسهم عن القاتل؛ حتى لا تقع العداوة والبغضاء بينهم، فإذا طابت نفوسهم بالعفو عنها حصل المقصود، وانتفى المحذور؛ لأنهم يرون أنفسهم بذلك أصحاب فضل، ويرى القاتل لهم ذلك، وهذا النوع من الفضل والمنة لا يثقل على النفس حمله كما يثقل عليها حمل منة الصدقة بالمال، وقد عبر عنه بالتصدق للترغيب فيه88.

ثانيًا: عفو مقيد:

المقصود به عفو المجروح إن كان باقيًا، أو وارثه إن كان هالكًا عن عقوبة القصاص في القتل العمد، أو ما دون ذلك من الأطراف والجروح، فيعفون عفوًا مشروطًا مقيدًا بدفع الجاني أو عاقلته الدية للمجروح إن كان باقيًا أو إلى وارثه إن كان هالكًا مقابل عفوهم عن الجاني، وهو ما يمكن أن يطلق عليه العفو عن القصاص مقابل الدية؛ لقوله تعالى: (ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ) [البقرة: ١٧٨].

يعني الولي إذا أعطي شيئًا من المال فليقبله، وليتبعه بالمعروف، وليؤد القاتل إليه بإحسان.

فندبه الله تعالى إلى أخذ المال إذا سهل ذلك من جهة القاتل، وأخبر أنه تخفيف منه ورحمة، كما قال عقيب ذكر القصاص من سورة المائدة: (ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ) [المائدة: ٤٥].

فندبه إلى العفو والصدقة، وكذلك ندبه بما ذكر في هذه الآية إلى قبول الدية إذا بذلها الجاني؛ لأنه بدأ بذكر عفو الجاني بإعطاء الدية ثم أمر الولي بالاتباع، وأمر الجاني بالأداء بالإحسان89.

ومقصد الآية الترغيب في الرضا بأخذ العوض عن دم القتيل بدلًا من القصاص؛ لتغيير ما كان أهل الجاهلية يتعيرون به من أخذ الصلح في قتل العمد، ويعدونه بيعًا لدم مولاهم.

وهذا كله في العفو على قتل العمد، وأما قتل الخطأ فإن شأنه الدية عن عاقلة القاتل90.

وقوله: (ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ) [البقرة: ١٧٨].

أي: شيء من العفو؛ لأن عفا لازم. وفائدته الإشعار بأن بعض العفو كالعفو التام في إسقاط القصاص.

وقيل: «عفا» بمعنى ترك، وشيء مفعول به، وهو ضعيف، إذ لم يثبت عفا الشيء بمعنى تركه، بل أعفاه. و«عفا» يعدى بـ«عن» إلى الجاني وإلى الذنب، قال الله تعالى: (ﭼ ﭽ) [التوبة: ٤٣]، وقال: (ﰁ ﰂ ﰃ ) [المائدة: ٩٥].

فإذا عدي به إلى الذنب عدي إلى الجاني باللام، وعليه ما في الآية، كأنه قيل: «فمن عفي له عن جنايته من جهة أخيه، يعني ولي الدم» 91.

والعفو عن القصاص مقابل الدية ليس على سبيل الوجوب والإلزام، بل على سبيل الجواز والتخيير؛ لما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وفيه: (فمن قتل فهو بخير النظرين: إما أن يعقل، وإما أن يقاد أهل القتيل)92.

وهذا من فضل الله على هذه الأمة، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: (ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ) [البقرة: ١٧٨]؛ لأن أهل التوراة كان لهم القتل ولم يكن لهم غير ذلك، وأهل الإنجيل كان لهم العفو ولم يكن لهم قود ولا دية، فجعل الله تعالى ذلك تخفيفا لهذه الأمة، فمن شاء قتل، ومن شاء أخذ الدية، ومن شاء عفا93.

أسباب العفو

تحدث القرآن الكريم عن أسباب العفو الدنيوية والأخروية حاثا للعباد على الأخذ بها؛ لنيل رضا الله تعالى، ومحبة الخلق، وسوف نبين هذه الأسباب فيما يأتي:

أسباب العفو كثيرة، منها:

١. كرم النفس.

فمن كانت نفسه كريمة فإنه سيعفو ويصفح كما عفا أنبياء الله ورسله عن أقوامهم، ومن ذلك عفو يوسف عليه السلام عنه إخوته وقوله لهم: (ﮯ ﮰ ﮱ ﯓﯔ ﯕ ﯖ ﯗﯘ ﯙ ﯚ) [يوسف: ٩٢].

وعفو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم عن أعدائه، فضلا عن أتباعه وأصحابه.

وأيضًا من علم أن الجاني أهلا للعفو؛ فإنه سيعفو ويصفح.

٢. استشعار الأجر.

فقد جاءت آيات كثيرة تبين أن للعفو أجورا عظيمة، كقوله تعالى: (ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ) [المائدة: ٤٥].

فبين القرآن أن العفو عن القصاص صدقة، وأن من عفا كفر الله من ذنبه بقدر ما عفا.

وقال تعالى: (ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ) [التغابن: ١٤].

فبينت الآية أن من عفا وصفح فقد نال مغفرة الله، ومثل ذلك قوله تعالى: (ﮈ ﮉﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐﮑ ﮒ ﮓ ﮔ) [النــور: ٢٢].

فقد بينت هذه الآية أن العفو والصفح سبب لنيل مغفرة الله؛ ولذلك لما استشعر أبو بكر الصديق رضي الله عنه هذا الأجر العظيم عفا عن مسطح.

وقال تعالى: (ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ) [الشورى: ٤٠].

فقد بينت الآية أن الله تبارك وتعالى هو من يتولى مكافأة من عفا وأصلح.

فإذا استشعر العبد هذه الفضائل وجعلها نصب عينيه كانت مدعاة له للتحلي بالعفو والصفح والإحسان.

٣. امتثال أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم.

لما سبق في الآيات السابقة أن الصحابة رضوان الله عليهم لما امتثلوا أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم عفا الله عنهم، وأنزل في ذلك آيات تتلى إلى يوم القيامة.

٤. التوبة.

فهي أعظم سبب من أسباب عفو الله على العبد؛ فهو سبحانه عفو يحب العافين عن الناس، تواب يحب التوابين؛ ولذلك لما تاب بنو إسرائيل تاب عليهم وعفا عنهم، كما في قوله تعالى عنهم: (ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ) [النساء: ١٥٣].

وفي هذه الآية الكريمة لم يبين سبحانه وتعالى سبب عفوه عنهم ذنب اتخاذ العجل إلها، ولكنه بينه في سورة البقرة بقوله: (ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ) [البقرة: ٥٤]94.

وقد ذكر المفسرون أن في قوله تعالى: (ﯦ ﯧ ) استدعاء إلى التوبة، والمعنى: أن أولئك الذين أجرموا لما تابوا عفونا عنهم؛ فتوبوا أنتم نعف عنكم95.

وقال تعالى: (ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ) [الزمر: ٥٣].

فمن تاب في الدنيا توبة صادقة تاب الله عليه وعفا عنه في الآخرة.

٥. الدعاء.

فهو من أهم أسباب عفو الله على العبد؛ كما دل على ذلك قوله تعالى: (ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ) [البقرة: ٢٨٦].

«فقد طلبوا من ربهم أن يعفو لهم عن تقصير إن كان منهم في بعض ما أمرهم به من فرائضه، فيصفح لهم عنه ولا يعاقبهم عليه»96.

فيستفاد من هذه الآية الكريمة: «أنه ينبغي للإنسان سؤال الله العفو؛ لأن الإنسان لا يخلو من تقصير في المأمورات؛ فيسأل الله العفو عن تقصيره؛ لقوله تعالى: ()، وسؤال الله المغفرة من ذنوبه التي فعلها؛ لقوله تعالى: (ﰄ ﰅ) لأن الإنسان إن لم يغفر له تراكمت عليه الذنوب ورانت على قلبه، وربما توبقه وتهلكه»97.

قال الألوسي عند تفسيره لهذه الآية: «فهو تعليم منه تعالى لعباده كيفية الدعاء والطلب منه، وهذا من غاية الكرم ونهاية الإحسان، يعلمهم الطلب؛ ليعطيهم، ويرشدهم للسؤال؛ ليثيبهم»98.

وقد استجاب الله لهم، كما جاء ذلك مفسرا في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: (لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ) [البقرة: ٢٨٤].

اشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم بركوا على الركب، فقالوا: أي رسول الله، كلفنا من الأعمال ما نطيق، الصلاة والصيام والجهاد والصدقة، وقد أنزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: سمعنا وعصينا؟ بل قولوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير)، قالوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير. فلما اقترأها القوم، ذلت بها ألسنتهم، فأنزل الله في إثرها: (ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫﮬ ﮭ ﮮ ﮯﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ) [البقرة: ٢٨٥].

فلما فعلوا ذلك نسخها الله تعالى، فأنزل الله عز وجل: (ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ)) قال: نعم. ((ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ)) قال: نعم. ((ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ)) قال: نعم. ((ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ))قال: نعم)99.

الشاهد قوله: (ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ) قال: (قد فعلت).

فبينا أن الله قد استجاب للصحابة دعوتهم، ولبى طلبهم، وعفا عنهم، وتجاوز عنهم.

بل إن العبد الصادق في إيمانه المخلص في دعائه إذا دعا الله أن يعفو أولياء المجني عليه على الجاني استجاب الله له، كما جاء في حديث أنس رضي الله عنه: (أن الربيع وهي ابنة النضر كسرت ثنية100 جاريةٍ101 فطلبوا الأرش102، وطلبوا العفو، فأبوا، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأمرهم بالقصاص، فقال أنس بن النضر: أتكسر ثنية الربيع يا رسول الله؟! لا والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنيتها. فقال: (يا أنس، كتاب الله القصاص)103، فرضي القوم وعفوا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره104)105.

٧. كرم الله على عباده وتفضله عليهم.

فقد بين القرآن أن الله سبحانه ذو فضل عظيم يتفضل على عباده بالعفو، كما في قوله تعالى: (ﮠ ﮡ ﮢﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ) [آل عمران: ١٥٢].

ففي هذه الآية أخبر الله تبارك وتعالى بتفضله سبحانه وتعالى بالعفو عن الذين خالفوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتاركين طاعته فيما تقدم به إليكم من لزوم الموضع الذي أمركم بلزومه عنكم، فصفح لكم من عقوبة ذنبكم الذي أتيتموه عما هو أعظم مما عاقبكم به من هزيمة أعدائكم إياكم، وصرف وجوهكم عنهم، إذ لم يستأصل جمعكم106.

وقوله تعالى: (ﮠ ﮡ ﮢﮣ) حيث ندمتم على ما فرط منكم من عصيان رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ) بالعفو عنهم وقبول توبتهم، أو هو متفضل عليهم في جميع الأحوال، سواء أديل لهم أو أديل عليهم؛ لأن الابتلاء رحمة كما أن النصرة رحمة107.

٨. السيرة الحسنة وعدم تعمد الوقوع في الخطأ.

كما في عفو الله سبحانه عن الرماة الذي خالفوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بملازمة الجبل وعدم النزول منه مهما كانت الظروف، إلا أنهم لما رأوا أن الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه قد انتصروا وأن كفار قريش قد انهزموا نزلوا من الجبل، فحصل ما حصل للنبي صلى الله عليه وسلم ولمن معه من الصحابة، فانقلب النصر إلى هزيمة بسبب ذلك، إلا أن الله تبارك وتعالى عفا عن ذلك، فقال تعالى: (ﮠ ﮡ ﮢﮣ) ذلك أن هذا الخطأ كان عن اجتهاد ولم يكن عن تعمد.

٩. من كان له عذر «ذوو الأعذار».

(ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ) [النساء: ٩٩].

قال الحسن: () من الله واجبة، وقيل: إنها بمنزلة الوعد؛ لأنه لا يخبر بذلك عن شك. وقيل: إنما هذا على شك العباد، أي: كونوا أنتم على الرجاء والطمع108.

١٠. الموعظة.

وعظ المجني عليه وحثه على العفو: فقد كان من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم الحث على العفو والأمر به، كما في حديث أنس رضي الله عنه: (ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم رفع إليه شيء فيه قصاص إلا أمر فيه بالعفو)109.

وكل آيات القرآن الكريم الواردة في خلق العفو تشير إلى أنه ينبغي وعظ المجني عليه بالعفو عن الجاني؛ إذ كان أهلا لذلك، ومن تلك الآيات قوله تعالى: (ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ) [التغابن: ١٤].

نزلت في وعظ أولياء الأمور على العفو عمن تحت أيديهم من زوجات وأولاد وخدم، وما أشبه ذلك.

ولما نزل قول الله تعالى في شأن أبي بكر الصديق رضي الله عنه ومسطح: (ﮈ ﮉﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐﮑ ﮒ ﮓ ﮔ) [النــور: ٢٢].

كانت موعظة بليغة له؛ فما كان منه رضي الله عنه إلا أن عفا عن مسطح.

ولما أخطأ أعرابي على عمر بن الخطاب رضي الله عنه فهم به، فوعظه أحد الحاضرين بقوله تعالى: (ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ) [الأعراف: ١٩٩]، فعفا عنه عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما سمع هذه الآية.

ولما وعظ أحد الخلفاء بقوله تعالى: (ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧﭨ ﭩ ﭪ ﭫ) [آل عمران: ١٣٤] من قبل أحد جواريه عفا عنها.

١١. العفو عن الغير.

والعفو اسم من أسماء الله تبارك وتعالى الحسنى، وصفة فعلية من صفاته العلى، فهو سبحانه عفوٌ يحب العفو، بل العفو أحب إليه من العقوبة، وبما أنه تبارك وتعالى عفو يحب العفو فإنه يعفو عمن يعفو عن الناس.

قال تعالى: (ﮈ ﮉﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐﮑ) فمن عفا عن أخيه في الدنيا عفا الله عنه في الآخرة؛ لأن: «الجزاء من جنس العمل، فكما تغفر ذنب من أذنب إليك يغفر الله لك، وكما تصفح يصفح عنك»110.

وإذا عفا أولياء المجني عليه «المقتول» عن الجاني «القاتل» عن عقوبة القصاص، وكذلك الجاني كانت جنايته دون القتل فعفا عن المجني؛ كفر الله عنه من ذنوبه بقدر ما عفا، كما في قوله تعالى: (ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ) [المائدة: ٤٥].

فقد سئل عبد الله بن عمرو بن العاص عن هذه الآية، فقال: «يهدم عنه من ذنوبه بقدر ما تصدق به»111.

ويؤيد ذلك ما جاء في حديث المحرر بن أبي هريرة، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أصيب بشيء في جسده فتركه لله كان كفارة له)112.

مراتب العفو

للعفو ثلاث مراتب، وهي:

أولًا: ترك المعاقبة:

مرتبة ترك المعاقبة هي المعنى الأوَّلي المتبادر إلى الذهن، كما يدل على ذلك المعنى الاصطلاحي للعفو فهو باختصار: «ترك المؤاخذة بالذنب»113.

والمؤاخذة: المعاقبة كما في دعاء الصالحين: (ﯥ ﯦ ) أي: لا تعاقبنا114(ﯨ ﯩ) أمرك ونهيك (ﯪ ﯫ) أي: ففعلنا خلاف الصواب، تفريطًا ونحوه115.

والمعنى: «اعف عن إثم ما يقع منا على هذين الوجهين، أو أحدهما»116 وترك المعاقبة يكون بالفعل والقول، أو هما معا.

وكما يدل على ذلك سياق الآيات الواردة في الحث على العفو، كقوله تعالى: (ﯣ ﯤ ﯥ) [المائدة: ١٣].

ففي هذه الآية حث الله نبيه صلى الله عليه وسلم على العفو، وترك معاقبة من أرادوا به وبأصحابه سوءًا من اليهود، قال ابن جرير عند تفسيره لهذه الآية: «يقول الله جل وعز له: اعف يا محمد عن هؤلاء اليهود الذين هموا بما هموا به من بسط أيديهم إليك وإلى أصحابك بالقتل، واصفح لهم عن جرمهم بترك التعرض لمكروههم، فإني أحب من أحسن العفو والصفح إلى من أساء إليه»117.

والحث على العفو عنهم في هذه الآية إنما هو في الدنيا، وأما في الآخرة فإن الله سيتولى حسابهم، كما قال ابن جرير: «اعف عن هؤلاء الذين هموا ببسط أيديهم إليك وإلى أصحابك واصفح، فإن الله عز وجل من وراء الانتقام منهم، وسينبئهم الله عند ورودهم عليه في معادهم بما كانوا في الدنيا يصنعون من نقضهم ميثاقه، ونكثهم عهده، وتبديلهم كتابه، وتحريفهم أمره ونهيه، فيعاقبهم على ذلك حسب استحقاقهم»118.

وفي قوله: (ﯣ ﯤ) فقد عفا صلى الله عليه وسلم عن الرماة الذين خالفوا أمره، وارتكبوا نهيه، وتجاوز عنهم، وترك معاقبتهم.

وفي قوله: (ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ) [الأعراف: ١٩٩].

فقد فهم منها الصحابة رضوان الله عليهم أنها تحث على العفو عن الجاهلين والتجاوز عنهم، وترك معاقبتهم كما يدل على ذلك حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: (قدم عيينة بن حصن بن حذيفة، فنزل على ابن أخيه الحر بن قيسٍ، وكان من النفر الذين يدنيهم عمر، وكان القراء أصحاب مجالس عمر ومشاورته، كهولًا كانوا أو شبانًا، فقال عيينة لابن أخيه: يا ابن أخي هل لك وجهٌ عند هذا الأمير فاستأذن لي عليه؟ قال: سأستأذن لك عليه، قال ابن عباسٍ: فاستأذن الحر لعيينة، فأذن له عمر، فلما دخل عليه، قال: هي يا ابن الخطاب، فوالله ما تعطينا الجزل، ولا تحكم بيننا بالعدل، فغضب عمر حتى هم أن يوقع به، فقال له الحر: يا أمير المؤمنين إن الله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: (ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ) [الأعراف: ١٩٩].

وإن هذا من الجاهلين، والله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان وقافًا عند كتاب الله 119.

قال ابن الجوزي: المعنى: «أنه وقف عند سماعها عن إمضاء ما هم به من العقوبة»120.

بل عملوا بما دلت عليها، وطبقوها في حياتهم العملية، قال ابن حجر: ومعنى «ما جاوزها» ما عمل بغير ما دلت عليه، بل عمل بمقتضاها؛ ولذلك قال: «وكان وقافا عند كتاب الله» أي: يعمل بما فيه ولا يتجاوزه، وفي هذا تقوية لما ذهب إليه الأكثر أن هذه الآية محكمة.

«قال الطبري بعد أن أورد أقوال السلف في ذلك: وإن منهم من ذهب إلى أنها منسوخة بآية القتال والأولى بالصواب أنها غير منسوخة؛ لأن الله أتبع ذلك تعليمه نبيه محاجة المشركين، ولا دلالة على النسخ، فكأنها نزلت لتعريف النبي صلى الله عليه وسلم عِشْرَةَ من لم يؤمر بقتاله من المشركين، أو أريد به تعليم المسلمين وأمرهم بأخذ العفو من أخلاقهم فيكون تعليما من الله لخلقه صفة عِشْرَةَ بعضهم بعضًا فيما ليس بواجب، فأما الواجب فلا بد من عمله فعلًا أو تركًا»121.

وجاء ذكرها كذلك في قوله تعالى: (ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ) [التغابن: ١٤].

كما يدل على ذلك سبب نزول هذه الآية فقد نزلت في قوم من أهل مكة أسلموا، وأرادوا أن يأتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فأبى أزواجهم وأولادهم أن يدعوهم، فأتوا المدينة، فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم رأوهم قد فقهوا فهموا أن يعاقبوهم، فأنزل الله عز وجل: (ﮔ ﮕ ﮖ)122 الآية.

وهذه الآية وإن كانت نزلت في شأن قوم مخصوصين إلا أن «العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب» وبالتالي فهي عامة كما يقول القرطبي: «وخصوص السبب لا يمنع عموم الحكم»123.

ففي هذه الآية حث الله تبارك وتعالى أولياء الأمور من الآباء والأزواج على العفو عن الضعفاء من زوجات وأولاد وخدم، وترك معاقبتهم، قال النسفي: «(ﮔ ﮕ) عنهما أي: الزوجات والأولاد إذا اطلعتم منهم على عداوة، ولم تقابلوهم بمثلها»124.

وقيد ذلك الألوسي بالذنوب القابلة للعفو، فقال عند تفسيره لهذه الآية: « (ﮔ ﮕ) عن ذنوبهم القابلة للعفو بأن تكون متعلقة بأمور الدنيا، أو بأمور الدين لكن مُقارِنة للتوبة بأن لم تعاقبوهم عليها» إلى أن قال: «ولما كان التكليف هاهنا شاقًا؛ لأن الأذى الصادر ممن أحسنت إليه أشد نكاية وأبعث على الانتقام ناسب التأكيد في قوله سبحانه: () إلخ»125.

وجاء ذكرها أيضًا في قول يوسف لإخوته كما حكى الله عنه أنه قال لهم: ( ﮰ ﮱ ﯓﯔ ﯕ ﯖ ﯗﯘ ﯙ ﯚ ﯛ) [يوسف: ٩٢].

كما يدل على ذلك سياق قصة يوسف عليه السلام مع إخوته، وقد فهم منها ذلك أحد الأمراء وعمل بمقتضاها، كما روي في الأثر عن مالك بن دينار قال: «أتينا منزل الحكم بن أيوب ليلا وهو على البصرة أمير، وجاء الحسن -وهو خائف- فدخلنا معه عليه، فما كنا مع الحسن إلا بمنزلة الفراريج، فذكر الحسن قصة يوسف عليه السلام وما صنع به إخوته، فقال: باعوا أخاهم وأحزنوا أباهم، وذكر ما لقي من كيد النساء ومن الحبس، ثم قال: أيها الأمير، ماذا صنع الله به؟ أداله منهم، ورفع ذكره، وأعلى كلمته، وجعله على خزائن الأرض، فماذا صنع يوسف حين أكمل الله له أمره وجمع له أهله؟ قال: (ﮯ ﮰ ﮱ ﯓﯔ ﯕ ﯖ ﯗﯘ ﯙ ﯚ ﯛ) [يوسف: ٩٢].

يعرض للحكم بالعفو عن أصحابه، قال الحكم: فأنا أقول: لا تثريب عليكم اليوم ولو لم أجد إلا ثوبي هذا لواريتكم تحته»126.

وأيضًا يدل على ذلك قصة يعقوب عليه السلام مع أبنائه، فإنهم لما ظهرت حقيقة فعلهم، طلبوا من أبيهم العفو والمغفرة، فقالوا: (ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ) [يوسف: ٩٧].

فلبى طلبهم، وقال: (ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ) [يوسف: ٩٨].

وجاء ذكرها كذلك في قوله تعالى: () و«أصل الكظم: شد رأس القربة عند امتلائها، ويقال: فلان كظيم أي: ممتلئ حزنا، والغيظ هيجان الطبع عند رؤية ما ينكر، والمراد: والمتجرعين للغيظ الممسكين عليه عند امتلاء نفوسهم منه، فلا ينقمون ممن يدخل الضرر عليهم ولا يبدون له ما يكره، بل يصبرون على ذلك مع قدرتهم على الإنقاذ والانتقام، وهذا هو الممدوح»127.

ومعنى هذه الآية كما يقول الرازي: «الذين يكفون غيظهم عن الإمضاء، ويردون غيظهم في أجوافهم، وهذا الوصف من أقسام الصبر والحلم، وهو كقوله: ( ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ) [الشورى: ٣٧]»128.

والمقصود أنهم: «لا يعملون غضبهم في الناس، بل يكفون عنهم شرهم، ويحتسبون ذلك عند الله عز وجل»129. «وكل من استحق عقوبة فتركت له فقد عفي عنه»130.

وجاء ذكرها أيضًا في قوله: (ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻﭼ ﭽ ﭾ ﭿ) [الأحزاب: ٤٨].

قال القرطبي: «فأمره تبارك وتعالى بترك معاقبتهم، والصفح عن زللهم»131.

ثانيًا: الصفح:

الصفح هو: «إزالة أثر الذنب من النفس، يقال: صفحت عن فلان، إذا أعرضت عن ذنبه، وقد ضربت عنه صفحا، إذا أعرضت عنه وتركته»132.

والصفح أبلغ من العفو وأعلى درجة منه، كما يدل على ذلك سياق الآيات القرآنية الواردة في ذلك، فقد جاءت بالحث على العفو أولًا، ثم أعقبت ذلك بالصفح مما يدل على أن الصفح أبلغ من العفو وأعلى درجة منه.

وهذا ما ذهب إليه الألوسي، فقال: «العفو ترك عقوبة المذنب، والصفح ترك التثريب والتأنيب، وهو أبلغ من العفو إذ قد يعفو الإنسان ولا يصفح»133.

وقال الراغب: «والصفح: ترك التثريب، وهو أبلغ من العفو وقد يعفو الإنسان ولا يصفح»134.

وذكر الماوردي عند تفسيره لقوله تعالى: (ﮔ ﮕ ﮖ) وجهين:

أحدهما: أن العفو عن الأفعال والصفح عن الأقوال.

الثاني: أن العفو ستر الذنب من غير مؤاخذة، والصفح الإغضاء عن المكروه135.

وقال بعضهم: «والصفح ترك التقريع باللسان، والاستقصاء في اللوم»136.

وقد جاء ذكر هذه المرتبة -كما هو الحال في بقية المراتب- في عدة آيات، كقوله تعالى: (ﯣ ﯤ ﯥ) وفي قوله تعالى: (ﮈ ﮉ).

وفي قوله تعالى: (ﮔ ﮕ ﮖ) قال ابن جرير عند تفسيره لهذه الآية: «وتصفحوا لهم عن عقوبتكم إياهم على ذلك، وتغفروا لهم غير ذلك من الذنوب»137.

وقال البيضاوي: « () بالإعراض، وترك التثريب عليها () بإخفائها وتمهيد معذرتهم فيها»138.

وجاء ذكرها صراحة في آيات أخرى مستقلة، كقوله تعالى: (ﯓ ﯔ ﯕ) [الحجر: ٨٥].

ففي هذه الآية أمر الله جل وعلا نبيه عليه الصلاة والسلام في هذه الآية الكريمة أن يصفح عمن أساء الصفح الجميل، أي: بالحلم والإغضاء.

وقال علي وابن عباس: الصفح الجميل: الرضا بغير عتاب. وأمره صلى الله عليه وسلم يشمل حكمة الأمة؛ لأنه قدوتهم، والمشرع لهم139.

وفي أمره صلى الله عليه وسلم -بالصفح عنهم- بذلك إشارة إلى أنه عليه الصلاة والسلام قادر على الانتقام منهم، فكأنه قيل: أعرض عنهم، وتحمل أذيتهم، ولا تعجل بالانتقام منهم، وعاملهم معاملة الصفوح الحليم140.

وجاء ذكرها أيضًا في قوله تعالى: (ﰃ ﰄ ﰅ) [الزخرف: ٨٩].

أي: اصفح عنهم ما يأتيك من أذيتهم القولية والفعلية، واعف عنهم، ولا يبدر منك لهم إلا السلام الذي يقابل به أولو الألباب والبصائر الجاهلين، كما قال تعالى عن عباده الصالحين: (ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ) [الفرقان: ٦٣].

أي: خطابا بمقتضى جهلهم: () فامتثل صلى الله عليه وسلم لأمر ربه، وتلقى ما يصدر إليه من قومه وغيرهم من الأذى، بالعفو والصفح، ولم يقابلهم عليه إلا بالإحسان إليهم والخطاب الجميل141.

وكثير من أهل العلم يقول: إن قوله تعالى: (ﰂ ﰃ ﰄ ﰅﰆ ﰇ ﰈ) [الزخرف: ٨٩]، وما في معناه منسوخ بآيات السيف، وجماعات من المحققين يقولون: هو ليس بمنسوخ.

والقتال في المحل الذي يجب فيه القتال والصفح عن الجهلة والإعراض عنهم وصف كريم، وأدب سماوي، لا يتعارض مع ذلك، والعلم عند الله تعالى142.

وقد أشار ابن سعدي إلي قيد مهم عند تفسيره لقوله: (ﯓ ﯔ ﯕ) فقال: «أي: الحسن الذي قد سلم من الحقد والأذية القولية والفعلية، دون الصفح الذي ليس بجميل وهو الصفح في غير محله، فلا يصفح حيث اقتضى المقام العقوبة، كعقوبة المعتدين الظالمين الذين لا ينفع فيهم إلا العقوبة»143.

ثالثًا: الإحسان:

جاء ذكر هذه المرتبة في آيات عدة، منها قوله تعالى: (ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧﭨ ﭩ ﭪ ﭫ) [آل عمران: ١٣٤].

تتضمن هذه الآية الإحسان إلى المسيء بالعفو عنه، وهذه المرتبة أعلى مراتب العفو.

والإحسان له معان عديدة ليس المقام مقام ذكرها، ولكن نذكر ما يهمنا.

قال الرازي: «واعلم أن الإحسان إلى الغير: إما أن يكون بإيصال النفع إليه، أو بدفع الضرر عنه.

أما إيصال النفع إليه، فهو المراد بقوله: (ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ)

وأما دفع الضرر عن الغير فهو إما في الدنيا وهو أن لا يشتغل بمقابلة تلك الإساءة أخرى، وهو المراد بكظم الغيظ، وإما في الآخرة وهو أن يبرئ ذمته عن التبعات والمطالبات في الآخرة، وهو المراد بقوله تعالى: ( ﭦ ﭧﭨ) »144.

ومن معاني الإحسان: مقابلة الإساءة بالإحسان، قال الثوري: «الإحسان أن تحسن إلى المسيء، فإن الإحسان إلى المحسن تجارة»145.

ومن معانيه: الإنعام على الغير، كما في قول الشاعر146:

أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم

فطالما استعبد الإنسان إحسان

وهذا المعنى أشار إليه الألوسي عند تفسيره لقوله تعالى: (ﭩ ﭪ ﭫ) «ويمكن أن يقال: الإحسان هنا بمعنى الإنعام على الغير على وجه عار عن وجوه القبح، وعبر عنهم بذلك؛ للإشارة إلى أنهم في جميع تلك النعوت محسنون إلى الغير لا في الإنفاق فقط»147.

وأشار إليه الفيروز آبادي بقوله: «والإحسان يقال على وجهين:

أحدهما: الإنعام على الغير، أحسن إلى فلان.

والثاني: إحسان في فعله وذلك إذا علم علمًا حسنًا، أو عمل عملًا حسنًا والإحسان أعم من الإنعام»148.

وهذه المراتب الثلاث قد دل عليها سياق الآيات الكريمة الواردة في العفو -كما سبق أن أوردنا ذلك- ودل عليها أيضًا ما جاء في الواقعة التي حصلت لجارية مع سيدها.

فقد روي في الأثر عن ميمون بن مهران أن جاريته جاءت ذات يوم بصحفة فيها مرقة حارة، وعنده أضياف، فعثرت فصبت المرقة عليه، فأراد ميمون أن يضربها، فقالت الجارية: يا مولاي، استعمل قوله تعالى: (ﭣ ﭤ) قال لها: «قد فعلت» فقالت: اعمل بما بعده: (ﭥ ﭦ ﭧﭨ) فقال: «قد عفوت عنك» فقالت الجارية: (ﭩ ﭪ ﭫ) قال ميمون: «قد أحسنت إليك، فأنت حرة لوجه الله تعالى »149.

فهذه الواقعة تبين مراتب العفو الثلاث ابتداءً بأدناها وانتهاءً بأعلاها، فأدناها: ترك المعاقبة، وهي المرتبة الأولى فإن سيد هذه الجارية لما عثرت وصب المرق عليه؛ هم بضربها؛ فطلبت منه أن يمتثل قول الله تعالى: () فامتثل ذلك، وترك ضربها، فلما فعل ذلك؛ طلبت منه المرتبة الوسطى، وهي مرتبة: الصفح عنها، فقالت له: اعمل بما بعدها: (ﭥ ﭦ ﭧﭨ) فامتثل ذلك، فصفح عنها، ثم طلبت منه المرتبة العليا، فقالت له: (ﭩ ﭪ ﭫ) فامتثل ذلك فأعتقها، وجعلها حرة لوجه الله تعالى.

وقد أشار إلى هذا المعنى مجموعة من علماء التفسير، منهم محمد رشيد رضا حيث يقول: «فالعفو مرتبة فوق مرتبة كظم الغيظ، إذ ربما يكظم المرء غيظه على حقد وضغينة.

وهناك مرتبة أعلى منهما، وهي ما أفاده قوله تعالى: (ﭩ ﭪ ﭫ) فالإحسان وصف من أوصاف المتقين، ولم يعطفه على ما سبقه من الصفات، بل صاغه بهذه الصيغة تمييزًا له بكونه محبوبًا عند الله تعالى لا لمزيد مدح من ذكر من المتقين المتصفين بالصفات السابقة، ولا مجرد مدح المحسنين الذي يدخل في عمومه أولئك المتقون -كما قيل- فالذي يظهر لي هو ما أشرت إليه من أنه وصف رابع للمتقين150.

وأكد على ذلك ابن سعدي عند تفسيره لقوله تعالى: () فقال: «أي: إذا حصل لهم من غيرهم أذية توجب غيظهم وهو امتلاء قلوبهم من الحنق الموجب للانتقام بالقول والفعل، هؤلاء لا يعملون بمقتضى الطباع البشرية، بل يكظمون ما في القلوب من الغيظ، ويصبرون عن مقابلة المسيء إليهم.

( ﭦ ﭧﭨ) يدخل في العفو عن الناس، العفو عن كل من أساء إليك بقول أو فعل، والعفو أبلغ من الكظم؛ لأن العفو ترك المؤاخذة مع المسامحة عن المسيء، وهذا إنما يكون ممن تحلى بالأخلاق الجميلة، وتخلى عن الأخلاق الرذيلة، وممن تاجر مع الله، وعفا عن عباد الله رحمة بهم، وإحسانا إليهم، وكراهة لحصول الشر عليهم، وليعفو الله عنه، ويكون أجره على ربه الكريم، لا على العبد الفقير، كما قال تعالى: (ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ) [الشورى: ٤٠].

ثم ذكر حالة أعم من غيرها، وأحسن وأعلى وأجل وهي الإحسان، فقال تعالى: (ﭩ ﭪ ﭫ) والإحسان نوعان: الإحسان في عبادة الخالق، والإحسان إلى المخلوق، فالإحسان في عبادة الخالق فسرها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك) 151.

وأما الإحسان إلى المخلوق، فهو «إيصال النفع الديني والدنيوي إليهم، ودفع الشر الديني والدنيوي عنهم»152.

وأشار أيضًا إلى ذلك صاحب الظلال: «وكظم الغيظ هو المرحلة الأولى، وهي وحدها لا تكفي، فقد يكظم الإنسان غيظه ليحقد ويضطغن، فيتحول الغيظ الفائر إلى إحنة غائرة، ويتحول الغضب الظاهر إلى حقد دفين، وإن الغيظ والغضب لأنظف وأطهر من الحقد والضغن؛ لذلك يستمر النص؛ ليقرر النهاية الطليقة لذلك الغيظ الكظيم في نفوس المتقين إنها العفو والسماحة والانطلاق.

إن الغيظ وقر على النفس حين تكظمه، وشواظ يلفح القلب، ودخان يغشى الضمير، فأما حين تصفح النفس ويعفو القلب، فهو الانطلاق من ذلك الوقر، والرفرفة في آفاق النور، والبرد في القلب، والسلام في الضمير.

(ﭪ ﭫ) والذين يجودون بالمال في السراء والضراء محسنون، والذين يجودون بالعفو والسماحة بعد الغيظ والكظم محسنون، (ﭩ ﭪ ) والحب هنا هو التعبير الودود الحاني المشرق المنير، الذي يتناسق مع ذلك الجو اللطيف الوضيء الكريم»153.

مجالات العفو

بين القرآن الكريم مجالات العفو، وسوف نتناولها بالتوضيح في الآتي:

أولًا: العفو في المجالات الاجتماعية:

حث القرآن الكريم العباد على العفو والصفح عما يحصل بينهم ومن ذلك:

  1. ما روى في الأثر عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ولي عقدة النكاح الزوج)165. فالحديث نص في أن عقدة النكاح بيد الزوج.
  2. أن ذلك ما فهمه السلف من هذه الآية وعملوا بمقتضاه؛ فقد روي أن جبير ابن مطعم رضي الله عنه تزوج امرأة من بني نصر فطلقها قبل أن يدخل بها فأرسل إليها بالصداق كاملًا، وقال: أنا أحق بالعفو منها، قال الله تعالى: (ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ) وأنا أحق بالعفو منها166.
  3. أن الذي بيد الولي هو عقد النكاح، فإذا عقد حصلت العقدة؛ لأن بناء الفعلة يدل على المفعول، كالأكلة واللقمة، وأما المصدر فالعقد كالأكل واللقم، ثم من المعلوم أن العقدة الحاصلة بعد العقد في يد الزوج لا في يد الولي.
  4. أن قوله تعالى: (ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ) معناه: الذي بيده عقدة نكاح ثابت له لا لغيره؛ كما أن قوله: (ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ) [النازعات: ٤٠-٤١]، أي: نهى النفس عن الهوى الثابت له لا لغيره، كانت الجنة ثابتة له، فتكون مأواه.
  5. أن الله تعالى ذكر الصداق في هذه الآية ذكرًا مجملًا من الزوجين، فحمل على المفسر في غيرها، وقد قال الله تعالى: (ﮣ ﮤ ﮥ ﮦﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ) [النساء: ٤] فأذن الله تعالى للزوج في قبول الصداق إذا طابت نفس المرأة بتركه. وقال أيضًا: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ) [النساء: ٢٠]، فنهى الله تعالى الزوج أن يأخذ مما أتى المرأة إن أراد طلاقها.
  6. قوله تعالى: (ﯫ ﯬ ﯭ) [البقرة: ٢٣٧]. يعني النساء: (ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ) يعني: الزوج، معناه يبذل جميع الصداق، يقال: عفا بمعنى بذل، كما يقال: عفا بمعنى أسقط. ومعنى ذلك وحكمته: أن المرأة إذا أسقطت ما وجب لها من نصف الصداق تقول هي: لم ينل مني شيئًا ولا أدرك ما بذل فيه هذا المال بإسقاطه، وقد وجب إبقاء للمروءة واتقاء في الديانة. ويقول الزوج: أنا أترك المال لها؛ لأني قد نلت الحل وابتذلتها بالطلاق فتركه أقرب للتقوى، وأخلص من اللائمة.
  7. أنه تعالى قال: (ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ) وليس لأحد في هبة مال لآخر فضل، وإنما ذلك فيما يهبه المفضل من مال نفسه، وليس للولي حق في الصداق167. فإن قيل: إن العفو في الترك لا في الإعطاء، والزوج هو المعطي، فكيف يصح منه العفو؟! قيل: إن ذلك في العفو عن الشيء لا في العقوبة، وقد يقال: عفا فلان بكذا إذا بذل، والصداق المفروض تستحق المرأة أخذه بالعقد، فإن أخذته وإلا ففي حكم المأخوذ، فإذا عفا به كملا، فكأنه قد عفي عنه168.

    ولم يقتصر القرآن الكريم على إباحة عفو كلٍّ من الزوجين عما له، أو عليه للآخر، بل ذهب إلى حثهما على ما هو أكمل، فرغبهما جميعًا في العفو فقال: (ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ) [البقرة: ٢٣٧].

    خطاب للرجال والنساء جميعًا إلا أن الغلبة للذكور إذا اجتمعوا مع الإناث، وسبب التغليب أن الذكورة أصل والتأنيث فرع في اللفظ وفي المعنى، أما في اللفظ فلأنك تقول: قائم، ثم تريد التأنيث، فتقول: قائمة. فاللفظ الدال على المذكر هو الأصل، والدال على المؤنث فرع عليه، وأما في المعنى فلأن الكمال للذكور والنقصان للإناث؛ فلهذا السبب متى اجتمع التذكير والتأنيث كان جانب التذكير مغلبًا.

    ومعنى الآية: عفو بعضكم عن بعض أقرب إلى حصول معنى التقوى، وإنما كان الأمر كذلك لوجهين:

    الأول: أن من سمح بترك حقه فهو محسن، ومن كان محسنا فقد استحق الثواب، ومن استحق الثواب نفى بذلك الثواب ما هو دونه من العقاب وأزاله.

    والثاني: أن هذه الصنع يدعوه إلى ترك الظلم الذي هو التقوى في الحقيقة؛ لأن من سمح بحقه -وهو له معرض- تقربا إلى ربه كان أبعد من أن يظلم غيره يأخذ ما ليس له بحق.

    ثم قال تعالى: (ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ) وليس المراد منه النهي عن النسيان؛ لأن ذلك ليس في الوسع، بل المراد منه الترك، فقال تعالى: ولا تتركوا الفضل والإفضال فيما بينكم، وذلك لأن الرجل إذا تزوج بالمرأة فقد تعلق قلبها به، فإذا طلقها قبل المسيس صار ذلك سببا لتأذيها منه، وأيضًا إذا كلف الرجل أن يبذل لها مهرًا من غير أن ينتفع بها البتة صار ذلك سببا لتأذيه منها.

    فندب تعالى كل واحد منهما إلى فعل يزيل ذلك التأذي عن قلب الآخر، فندب الزوج إلى أن يطيب قلبها بأن يسلم المهر إليها بالكلية، وندب المرأة إلى ترك المهر بالكلية، ثم إنه تعالى ختم الآية بما يجري مجرى التهديد على العادة المعلومة، فقال: (ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ) 169.

    فمن عفا كان أقرب لتقواه؛ لكونه إحسانًا موجبًا لشرح الصدر؛ ولكون الإنسان لا ينبغي أن يهمل نفسه من الإحسان والمعروف، وينسى الفضل الذي هو أعلى درجات المعاملة؛ لأن معاملة الناس فيما بينهم على درجتين: إما عدل وإنصاف واجب، وهو أخذ الواجب، وإعطاء الواجب، وإما فضل وإحسان، وهو إعطاء ما ليس بواجبٍ والتسامح في الحقوق، والغض مما في النفس، فلا ينبغي للإنسان أن ينسى هذه الدرجة، ولو في بعض الأوقات، وخصوصًا لمن بينك وبينه معاملة أو مخالطة، فإن الله مجاز المحسنين بالفضل والكرم؛ ولهذا قال: (ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ) 170.

    ومن مجالات العفو الاجتماعية التي ينبغي أن تسود بين الرجل وزوجته في حال ارتباطهما: العفو في النفقة وهو ما يمكن أن نطلق عليه «إنفاق العفو»؛ لقوله تعالى: (ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ) [البقرة: ٢١٩].

    فيجب على الزوج أن ينفق على زوجته حسب قدرته، وعليها أن ترضى بذلك، وإن قصر في ذلك فينبغي لها أن تعفو عنه، وكذلك ينبغي للرجل أن ينفق على أقربائه الفقراء بحسب قدرته، وليس هذا فحسب، بل ينبغي له أن ينفق في وجوه الخير، سواء كان ذلك واجب عليه أم مندوب إليه.

    وهذا هو التكافل الاجتماعي الذي حث القرآن عليه، ورغب فيه، كما دلت على ذلك نصوص كثيرة جدًا.

    • عفو الرجل عن أولاده وزوجته أو زوجاته إذا أخطؤوا في حقه.

      قال تعالى: (ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ) [التغابن: ١٤].

      فقد استدل بها على أنه لا ينبغي للرجل أن يحقد على زوجه وولده إذا جنوا معه جناية، وأن لا يدعو عليهم171.

      ومن مجالات العفو الاجتماعية: عفو الغني عن الفقير، والقريب عن قريبه؛ لقوله تعالى: (ﮈ ﮉ) [النــور: ٢٢].

      فقد نزلت في حث أبي بكر الصديق رضي الله عنه في مواصلة نفقته على مسطح بعد أن منعها عنه؛ بسبب ولوغه في عرض ابنته الصديقة بنت الصديق رضي الله عنها وعن أبيها، كما سبق أن ذكرنا ذلك.

      قال ابن سعدي عند تفسيره لهذه الآية: «وفي هذه الآية دليل على النفقة على القريب، وأنه لا تترك النفقة والإحسان بمعصية الإنسان، والحث على العفو والصفح، ولو جرى عليه ما جرى من أهل الجرائم»172.

    • عفو السيد عن عماله وخدمه، ومنهم تحت يده.

      فقد جاء عن بعض السلف: (ﭥ ﭦ ﭧ) [آل عمران: ١٣٤].

      قال أبو العالية: يريد المماليك.

      قال القاضي أبو محمد: وهذا حسن على جهة المثال، إذ هُم الخَدَمة، فهم مذنبون كثيرًا، والقدرة عليهم متيسرة، وإنفاذ العقوبة سهل؛ فلذلك مثل هذا المفسر به173.

      وكذلك عفو الإنسان عن جلسائه وخلطائه عموما، كما تدل على ذلك عمومات سياق الآيات الواردة في الحث على العفو.

      وبالجملة فإن العفو خلق نبيل ينبغي أن يسود بين الناس جميعًا، وفي الحياة كلها، وإلا لتكدرت الحياة، ولنغصت المعيشة، ولأصبحت جحيمًا لا يطاق.

      ثانيًا: العفو في مجال العقوبات:

      شرع الله العقوبات لما يترتب عليها من الفوائد العظمية، والمصالح القويمة؛ كإقامة العدل، وزجر الجاني، وإصلاحه، وحجزه عن غيه، وردع غيره ممن تسول لهم أنفسهم أن يسلكوا مسلكه، وما أشبه ذلك.

      والعقوبات التي شرعها الله كثيرة، ومنها: عقوبة القصاص فيما إذا كان القتل عمدًا.

      ومع أن الله تبارك أوجب عقوبة القصاص على الجاني الذي قتل عمدًا، فقد حث على العفو عن هذه العقوبة مقابل الدية، سواء كانت هذه العقوبة عقوبة قتل، أو ما دون ذلك من الجراحات فقال تعالى: (ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ) [البقرة: ١٧٨].

      قال ابن عباس رضي الله عنه: «أن يقبل الدية في العمد (ﮟ ﮠ) أن يطلب هذا بمعروف، ويؤدي هذا بإحسان»174.

      وهذا المعنى رجحه كبار أئمة التفسير كابن جرير، فقد قال: «وأولى الأقوال عندي بالصواب في قوله: (ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ) فمن صفح له من الواجب كان لأخيه عليه من القود عن شيء من الواجب على دية يأخذها منه (ﮟ ﮠ) من العافي عن الدم، الراضي بالدية من دم وليه () من القاتل ذلك ()»175.

      وقوله تعالى: (ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ) فيها أربع تأويلات:

      أحدها: أن (مَنْ) يراد بها القاتل () يتضمن عافيا هو ولي الدم والأخ هو المقتول، ويصح أن يكون هو الولي على هذا التأويل، وهي أخوة الإسلام، و() هو الدم الذي يعفى عنه ويرجع إلى أخذ الدية والعفو في هذا القول على بابه والضميران راجعان على (مَنْ) في كل تأويل.

      والتأويل الثاني: أن (مَنْ) يراد بها الولي، و () بمعنى يسر لا على بابها في العفو، والأخ يراد به القاتل، و () هي الدية، والأخوة على هذا أخوة الإسلام، ويحتمل أن يراد بالأخ على هذا التأويل المقتول أي: يسر له من قبل أخيه المقتول وبسببه، فتكون الأخوة أخوة قرابة وإسلام.

      والتأويل الثالث: أن هذه الألفاظ في المعينين الذين نزلت فيهم الآية كلها، وتساقطوا الديات فيما بينهم مقاصة حسبما ذكرناه آنفا، فمعنى الآية فمن فضل له من الطائفتين على الأخرى شيء من تلك الديات، ويكون عفي بمعنى فضل من قولهم: عفا الشيء إذا كثر، أي: أفضلت الحال له أو الحساب أو القدر.

      والتأويل الرابع: في الفضل بين دية المرأة والرجل والحر والعبد، أي: من كان له ذلك الفضل فاتباع بالمعروف، و () في هذا الموضع أيضًا بمعنى أفضل، وكأن الآية من أولها بينت الحكم إذا لم تتداخل الأنواع ثم الحكم إذا تداخلت، و () في هذه الآية مفعول لم يسم فاعله، وجاز ذلك و () لا يتعدى الماضي الذي بنيت منه من حيث يقدر () تقدير المصدر، كأن الكلام: عفي له من أخيه عفوٌ، و () اسم عام لهذا وغيره، أو من حيث تقدر: () بمعنى ترك فتعمل عملها، والأول أجود، وله نظائر في كتاب الله، منها قوله تعالى: (ﮎ ﮏ ﮐ) [هود: ٥٧].

      قال الأخفش: التقدير: لا تضرونه ضرًا، ومن ذلك قول أبي خراش176:

      فعاديت شيئًا والدريس كأنما

      يزعزعه وردٌ من الموم مردم

      فإن قيل: لِمَ قيل شيء من العفو؟

      والجواب: من وجهين:

      أحدهما: أن هذا إنما يشكل إذا كان الحق ليس إلا القود فقط، فحينئذ يقال: القود لا يتبعض فلا يبقى لقوله: () فائدة، أما إذا كان مجموع حقه إما القود وإما المال كان مجموع حقه متبعضًا؛ لأن له أن يعفو عن القود دون المال، وله أن يعفو عن الكل، فلما كان الأمر كذلك جاز أن يقول: (ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ).

      والجواب الثاني: أن تنكير الشيء يفيد فائدة عظيمة؛ لأنه يجوز أن يتوهم أن العفو لا يؤثر في سقوط القود، إلا أن يكون عفوًا عن جميعه، فبين تعالى أن العفو عن جزئه كالعفو عن كله في سقوط القود، وعفو بعض الأولياء عن حقه، كعفو جميعهم عن حقهم، فلو عرف الشيء كان لا يفهم منه ذلك، فلما نكره صار هذا المعنى مفهومًا منه؛ فلذلك قال تعالى: (ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ)177.

      فإن قيل: لم قال: (ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ) ولم يقل: «فمن عفا له أخوه شيئا»؟

      قيل: العدول إلى هذا البناء للطيفة، وهي أنه لا فرق بين أن يكون صاحب الدم واحدًا، فعفا أو جماعة فعفا واحد منهم أنه يبطل حق القصاص ويعدل حينئذ إلى الدية، فقال: (ﮙ ﮚ ﮛ) ليدل على هذا المعنى.

      وقيل: () هو أمر للعافي بحسن المطالبة، والهاء في قوله: () يجوز أن يكون للمقتول، ويكون لولي المقتول، وجعله أخًا لولي الدم لا للنسبة ولا للموالاة الدينية، ولكن للإحسان الذي أسداه إليه وأجرى العهد مجرى الخطأ في الرضا منه بالدية178.

      وإذا عفا ولي الدم عن القصاص مقابل الدية فله أخذها، وإن لم يرض بذلك القاتل، وهذا مذهب أكثر العلماء من الصحابة والتابعين179 ورجح ذلك القرطبي180.

      ولم يقتصر القرآن على الحث على العفو عن عقوبة القصاص مقابل الدية فيما إذا كان القتل عمدًا، وإنما حث على ما هو أولى وأكمل، وهو العفو عن عقوبة القصاص والدية معًا.

      وهذا فيما إذا كان القتل عمدًا، أما إذا كان القتل خطأ فإنه لا يجب القصاص «والحالة هذه»، بل الواجب الدية فقط، وقد حث القرآن أيضًا على العفو عنها فقال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ) [النساء: ٩٢].

      قال ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية: «وقوله: (ﭡ ﭢ) إلى أهله هو الواجب الثاني فيما بين القاتل وأهل القتيل عوضا لهم عما فاتهم من قتيلهم وقوله: (ﭥ ﭦ ﭧ) أي: فتجب فيه الدية مسلمة إلى أهله إلا أن يتصدقوا بها فلا تجب»181.

      والعفو عن عقوبة القصاص في قتل العمد مقابل الدية، أو عنهما جميعا أيضًا، أو العفو عن الدية في قتل الخطأ مقيد بما إذا كان الجاني أهلًا لذلك، وأما إذا لم يكن أهلًا لذلك فالأولى أن لا يعفى عنه، بل يعاقب على فعله؛ حتى يرتدع؛ لقوله تعالى: (ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ) [الشورى: ٤٠].

      فقيد العفو بالصلاح، أما إذا كان ليس أهلًا للعفو فلا يعفى عنه.

      وبعد هذا كله ننبه إلى أن العفو المندوب إليه في مجال العقوبات مقتصر على العقوبات المختصة بالأبدان والأموال، كعفو أولياء الدم عن عقوبة القصاص مقابل الدية، أو عنهما معا؛ لما في العفو عن ذلك من المصالح العظيمة التي تعود على الفرد والمجتمع في الدنيا والآخرة، وأما العقوبات المتعلقة بالأعراض فلا يعفى عنها كعقوبة الزنا، أو عقوبة القذف، فلا يعفى عنها بحال من الأحوال، بل يجب أن تقام مثل هذه العقوبات حتى يرتدع الناس؛ لقوله تعالى: (ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ) [النور: ٢].

      فهذه الآية بينت حكم الزاني والزانية البكرين، أنهما يجلد كل منهما مائة جلدة، وأما الثيب، فقد دلت السنة الصحيحة المشهورة، أن حده الرجم، ونهانا تعالى أن تأخذنا رأفة بهما في دين الله، تمنعنا من إقامة الحد عليهم، سواء رأفة طبيعية، أو لأجل قرابة أو صداقة أو غير ذلك، وأن الإيمان موجب لانتفاء هذه الرأفة المانعة من إقامة أمر الله، فرحمته حقيقة بإقامة حد الله عليه، فنحن وإن رحمناه لجريان القدر عليه فلا نرحمه من هذا الجانب، وأمر تعالى أن يحضر عذاب الزانيين طائفة، أي: جماعة من المؤمنين؛ ليشتهر ويحصل بذلك الخزي والارتداع؛ وليشاهدوا الحد فعلا، فإن مشاهدة أحكام الشرع بالفعل مما يقوي بها العلم، ويستقر به الفهم، ويكون أقرب لإصابة الصواب فلا يزاد فيه ولا ينقص182.

      فهذه العقوبات لا يعفى عنها بحال من الأحوال بل يجب أن تقام؛ لأنه لا فائدة من العفو عنها بل في العفو عنها والتساهل في إقامتها مفاسد عظيمة، وعواقب وخيمة على الفرد والمجتمع في الدنيا والآخرة.

      وأيضًا لا يعفى عن العقوبات المتعلقة بحقوق الله تعالى، أو حقوق رسوله صلى الله عليه وسلم، كعقوبة حد الردة، وما أشبه ذلك، فليس لأحد من البشر كائنًا من كان أن يعفو عنها، بل يجب على أولياء الأمور تنفيذها؛ لأن الله سبحانه قد استخلفهم في الأرض ليقوموا بذلك حق القيام، وعليهم أن يحذروا من التهاون في ذلك.

      آثار العفو

      للعفو آثار جليلة في الدنيا والآخرة نتحدث عنها فيما يلي:

      أولًا: آثار دنيوية:

      للعفو آثار عظيمة دنيوية وأخروية، فمن آثار العفو الدنيوية:

      ١. سقوط القصاص.

      فإذا عفا جميع أولياء المجني عليه، أو عفا بعضهم، وذلك فيما إذا كان القتل عمدًا.

      وبذلك يكونون قد عصموا دمه، وأنقذوه من القتل كما دل على ذلك قوله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ) [المائدة: ٣٢].

      قال بعض المفسرين: «ومن أحياها بالعفو عن القاتل أعطاه الله من الأجر مثل ما لو أحيا الناس جميعًا» 183.

      وإذا عفا أولياء المجني عليه أو بعضهم عن القصاص من الجاني وجب على عاقلة الجاني أن يدفعوا لأولياء المجني عليه الدية؛ لقوله: (ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ) [البقرة: ١٧٨].

      وكذلك إذا عفوا عن القصاص والدية معا في العمد سقط ذلك كله، وكذلك لو عفوا عن الدية في الخطأ سقط ذلك.

      ٢. التيسير والتخفيف.

      والتيسير اختص الله به هذه الأمة دون ما سواها من الأمم السابقة؛ لقوله: ( ﮦ ﮧ ﮨ ﮩﮪ) لأن أهل التوراة كان لهم القتل ولم يكن لهم غير ذلك، وأهل الإنجيل كان لهم العفو ولم يكن لهم قود ولا دية، فجعل الله تعالى ذلك تخفيفا لهذه الأمة، فمن شاء قتل، ومن شاء أخذ الدية، ومن شاء عفا184.

      قال سعيد بن جبير: «كان حكم الله على أهل التوراة أن يقتل قاتل العمد، ولا يعفى عنه، ولا يؤخذ منه دية، فرخص الله لأمة محمد، فإن شاء ولي المقتول عمدًا قتل، وإن شاء عفا، وإن شاء أخذ الدية»185. فإذا عفا أولياء المجني عليه عن القصاص مقابل الدية فقد حققوا هذا المقصد العظيم من مقاصد الشريعة.

      ٣. إصلاح المعتدي والمسامح.

      فالمعتدي حين يشعر بأن العفو جاء سماحة، ولم يجئ ضعفًا فإنه سيخجل ويستحي، ويحس بأن خصمه الذي عفا عنه هو الأعلى، والمسامح حينما يعفو تصفو نفسه وتعلو، فالعفو عندئذ خير لهما معًا.

      ٤. حل المشاكل الأسرية.

      قال تعالى: (ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ) [التغابن: ١٤].

      قال الشنقيطي: «أي: إن عداوة الزوجة والأولاد لا ينبغي أن تقابل إلا بالعفو والصفح والغفران، وأن ذلك يخفف أو يذهب أو يجنب الزوج والوالد نتائج هذا العداء، وإنه خير من المشاحنة والخصام»186.

      ٥. تطهير النفس من الحقد.

      بوب الإمام البخاري رحمه الله في كتابه الصحيح بابا بعنوان: «باب الانتصار من الظالم؛ لقوله تعالى: (ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ) »[الشورى: ٣٩].

      قال إبراهيم النخعي: «كانوا يكرهون أن يستذلوا فإذا قدروا عفوا»187.

      ٦. التغلب على النفس.

      قال تعالى: (ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ) [الشورى: ٤٣].

      فالذي يعفو يتغلب على نفسه، ولا يستجيب لرغبتها في الانتقام والانتصار.

      فإذا عفا الإنسان فقد ارتقى بنفسه إلى المراتب العلية، وإلى الأخلاق النبيلة، والمثل الفاضلة.

      ٧. حفظ الدماء.

      فالعفو يقضي على النعرات الجاهلية، والعصبيات المقيتة، ويخمد فتنة الثأر.

      ٨. حصول التقوى.

      قال تعالى: (ﯵ ﯶ ﯷ ) [البقرة: ٢٣٧].

      قال الفضيل بن عياض رحمه الله: «إذا أتاك رجل يشكو إليك رجلا، فقل: يا أخي، اعف عنه فإن العفو أقرب للتقوى، فإن قال: لا يحتمل قلبي العفو ولكن أنتصر كما أمرني الله عز وجل، فقل له: إن كنت تحسن أن تنتصر وإلا فارجع إلى باب العفو، فإنه باب واسع، فإنه من عفا وأصلح فأجره على الله، وصاحب العفو ينام على فراشه بالليل، وصاحب الانتصار يقلب الأمور»188.

      ٩. يصلح بين المتخاصمين.

      قال تعالى: (ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ) [فصلت: ٣٤].

      ١٠. الأجر والمثوبة.

      العفو من الأعمال الصالحة التي يأجر الله العبد عليها، قال ابن عباس رضي الله عنهما: «من ترك القصاص وأصلح بينه وبين الظالم بالعفو (ﯕ ﯖ ﯗ) [الشورى: ٤٠].

      أي: إن الله يأجره على ذلك، قال مقاتل: «فكان العفو من الأعمال الصالحة» 189.

      ١١. نيل محبة الله.

      قال تعالى: (ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡﯢ ﯣ ﯤ ﯥﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ) [المائدة: ١٣].

      قال ابن عباس رضي الله عنهما: «إذا عفوت فأنت محسن، وإذا كنت محسنا فقد أحبك الله»190؛ لقوله تعالى: (ﭥ ﭦ ﭧﭨ ﭩ ﭪ ﭫ) [آل عمران: ١٣٤].

      فإذا عفا الإنسان عمن أساء إليه، وهو قادر على إنفاذ العقوبة؛ نال بذلك محبة الله تبارك وتعالى، فهو تبارك وتعالى عفو يحب العافين، وإذا أحب الله العبد وضع الله القبول في الأرض.

      ثانيًا: آثار أخروية:

      للعفو آثار أخروية منها:

      ١. تكفير ذنوب العافي.

      فإذا عفا عن الجاني جنايته، وخاصة إذا عفا عن القصاص؛ لقوله: (ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ) [المائدة: ٤٥] شرط وجوابه، أي: تصدق بالقصاص فعفا فهو كفارة له، أي: لذلك المتصدق. وقيل: هو كفارة للجارح فلا يؤاخذ بجنايته في الآخرة؛ لأنه يقوم مقام أخذ الحق منه، وأجر المتصدق عليه.

      قال ابن العربي: «والذي يقول: إنه إذا عفا عنه المجروح عفا الله عنه لم يقم عليه دليل، فلا معنى له»191.

      (ﯠ ﯡﯢ) أي: بالقصاص في النفس، وما دونها من الأطراف والجروح، بأن عفا عمن جنى، وثبت له الحق قبله. (ﯣ ﯤ ﯥ) أي: كفارة للجاني؛ لأن الآدمي عفا عن حقه والله تعالى أحق وأولى بالعفو عن حقه، وكفارة أيضًا عن العافي، فإنه كما عفا عمن جنى عليه، أو على من يتعلق به فإن الله يعفو عن زلاته وجناياته.

      وقد سئل عبد الله بن عمرو بن العاص عن قوله تعالى: (ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ) [المائدة: ٤٥].

      فقال: «يهدم عنه من ذنوبه بقدر ما تصدق به» 192.

      ويؤيد ذلك ما جاء في حديث المحرر ابن أبي هريرة، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أصيب بشيء في جسده فتركه لله كان كفارة له)193.

      وقال تعالى: (ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ) [النور: ٢٢] ففيها «دليل على أن العفو والصفح على المسيء المسلم من موجبات غفران الذنوب، والجزاء من جنس العمل»194.

      ٢. الفوز بالأجر العظيم والثواب الجزيل.

      قال تعالى: (ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ) [الشورى: ٤٠]يجزيه أجرا عظيما، وثوابا كثيرا195.

      فقد تولى سبحانه بنفسه مجازاة من تحلى بهذا الخلق النبيل، وتكفل بذلك سبحانه.

      ٣. عفو الله في الآخرة.

      فمن عفا عن أخيه المسلم في الدنيا عفا الله عنه في الآخرة.

      قال تعالى: (ﮈ ﮉﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐﮑ ﮒ ﮓ ﮔ) [النــور: ٢٢].

      «إن الجزاء من جنس العمل، فكما تغفر ذنب من أذنب عليك يغفر الله لك، وكما تصفح يصفح عنك»196.

      ٤. دخول الجنة.

      قال تعالى: (ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛlﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ) [فصلت: ٣٤].

      قال ابن عباس رضي الله عنهما: «أمره الله تعالى في هذه الآية بالصبر عند الغضب، والحلم عند الجهل، والعفو عند الإساءة، فإذا فعل الناس ذلك عصمهم الله من الشيطان، وخضع لهم عدوهم».

      وقال قتادة ومجاهد -رحمها الله-: «الحظ العظيم: الجنة».

      وقال الحسن رحمه الله: «والله ما عظم حظ قط دون الجنة».

      وقيل: الكناية في () عن الجنة، أي: ما يلقاها إلا الصابرون، والمعنى متقارب197.


1 انظر: مقاييس اللغة، ابن فارس ٤/٥٦، جمهرة اللغة، ابن دريد ٢/٩٣٨.

2 انظر: لسان العرب، ابن منظور ١٥/٧٢، الصحاح، الجوهري ٦/٢٤٣١، تاج العروس، الزبيدي ٣٩/٦٩.

3 انظر: تحفة الأحوذي، المباركفوري ٦/١٤٣.

4 المفردات، الراغب ص ٥٧٤.

5 انظر: الكليات، الكفوي ص ٥٣، ٥٩٨.

6 انظر: المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، محمد فؤاد عبد الباقي ص ٤٦٦، المعجم المفهرس الشامل، عبد الله جلغوم، باب العين ص٧٧١.

7 انظر: الوجوه والنظائر، الدامغاني، ص٣٣٥-٣٣٦، نزهة الأعين النواظر، ابن الجوزي، ص٤٣٧.

8 انظر: لسان العرب، ابن منظور ٥/٢٥.

9 الكليات ص٢٢٣.

10 انظر: التوقيف على مهمات التعاريف، المناوي ص٢٥٢.

11 الفروق اللغوية، العسكري ص٢٣٥.

12 انظر: لسان العرب، ابن منظور ٢/٥١٢.

13 التوقيف على مهمات التعاريف، المناوي ص٢١٧.

14 المفردات ص٢٨٢.

15 أنوار التنزيل ١/١٠٠.

16 انظر: مقاييس اللغة، ابن فارس ٤/٧٧.

17 الكليات، الكفوي ص٦٥٤.

18 انظر: كشاف اصطلاحًات الفنون، التهانوي ٢/١١٩٢.

19 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب تفسير القرآن، باب (خذ العفو وأمر بالعرف)، ٦/٦١، رقم ٤٦٤٤.

20 التحرير والتنوير ٩/٢٢٦- ٢٢٧.

21 انظر: تيسير الكريم الرحمن، السعدي، ص ٣١٣.

22 انظر: ظلال القرآن، سيد قطب ٣/١٤١٩.

23 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٩/٢٢٦- ٢٢٧.

24 انظر: التحرير والتنوير، ابن عاشور ٩/٢٢٧.

25 انظر: جامع البيان، الطبري ٣/٣٢٩.

26 انظر: المحرر الوجيز، ابن عطية ٢/٤٩١.

27 انظر: التحرير والتنوير، ابن عاشور ٩/٢٢٧.

28 انظر: مدارك التنزيل، النسفي ١/٣٠٦.

29 تفسير القرآن العزيز، ابن أبي زمنين ١/٣٣٠.

30 جامع البيان، الطبري ٧/٣٤٣.

31 المحرر الوجيز، ابن عطية ١/٥٣٣- ٥٣٤.

32 انظر: مفاتيح الغيب، الرازي ٩/٤٠٨.

33 جامع البيان، الطبري ٧/٢٩٨.

34 مفاتيح الغيب، الرازي ٩/٣٨٩.

35 انظر: تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٢/١١٦.

36 مدارك التنزيل، النسفي ١/٣٠١. وانظر: أنوار التنزيل، البيضاوي ٢/٤٣.

37 في ظلال القرآن، سيد قطب ١/٤٩٤.

38 انظر: جامع البيان، الطبري ١٠/١٣٤.

39 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٣/٦٠.

40 انظر: تفسير الشعراوي ٥/٣٠١٣.

41 انظر: جامع البيان، الطبري ١٠ /١٣٤.

42 انظر: المصدر السابق ١٠/١٣٥.

43 انظر: التحرير والتنوير، ابن عاشور ٦/١٤٥.

44 انظر: تفسير المنار، محمد رشيد رضا ٦/٢٣٦- ٢٣٧.

45 جامع البيان، الطبري ٢/٥٠٣.

46 تفسير المنار، محمد رشيد رضا ١/٣٤٧- ٣٤٨

47 أضواء البيان، الشنقيطي ١/٤٢-٤٣.

48 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٦/٢٩.

49 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٦/٤.

50 أحكام القرآن، الجصاص ١/١٨٤.

51 تيسير الكريم الرحمن، السعدي، ص ٧٦١.

52 تفسير القرآن الكريم، ابن عثيمين، الفاتحة والبقرة، ٢/٣٠١-٣٠٢.

53 النكت والعيون، الماوردي ٥/٢٠٧.

54 علقه البخاري في صحيحه، كتاب المظالم، باب الانتصار من الظالم، ٣/١٢٩.

55 جامع البيان، الطبري ١٦/٢٤٧.

56 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب تفسير القرآن، سورة الفتح، رقم ٤٨٣٨.

57 القصة أخرجها البيهقي في السنن الكبرى، ٩/١٩٩، رقم ١٨٢٧٥، وهي قصة مشهورة في كتب السير.

58 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٧/١٩٢.

59 أضواء البيان، الشنقيطي ٥/٤٨٧- ٤٨٨.

60 روائع البيان تفسير آيات الأحكام، الصابوني ٢/١١٠.

61 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٢٨/٢٨٥.

62 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٦/٧-٨.

63 أنوار التنزيل، البيضاوي ٢/١٠٦.

64 أضواء البيان، الشنقيطي ٥/٤٨٨.

65 أخرجه أحمد في مسنده، ٤٢/٢٣٦، رقم ٢٥٣٨٤، والترمذي في سننه، أبواب الدعوات، ٥/٥٣٤، رقم ٣٥١٣. قال الترمذي: حديث حسن صحيح. وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، رقم ٣٣٩١.

66 أحكام القرآن، الجصاص ٢/٤٨.

67 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٤/٢٠٧. وانظر: المحرر الوجيز، ابن عطية ١/٥١٠.

68 أضواء البيان، الشنقيطي ٥/٤٨٧.

69 جامع البيان، الطبري ٧/٢١٥.

70 إرشاد العقل السليم ٢/٨٥.

71 فتح القدير، الشوكاني ١/١٤٩.

72 جامع البيان، الطبري ٢١/٥٤٨.

73 مفاتيح الغيب، الرازي ٢٧/٦٠٧.

74 فتح القدير، الشوكاني ٤/٦٢٠. وانظر: محاسن التأويل، القاسمي ٨/٣٧٣.

75 تيسير الكريم الرحمن، السعدي، ص ٧٦٢.

76 أضواء البيان، الشنقيطي ٣/٥٠.

77 جامع البيان، الطبري ٥/١٦٤.

78 تيسير الكريم الرحمن، السعدي، ص ١٠٦.

79 تفسير الراغب الأصفهاني ٣/١٣٩٥. وانظر: البحر المحيط، أبو حيان الأندلسي ٤/٢٣، أنوار التنزيل، البيضاوي ٩/٩٠.

80 تيسير الكريم الرحمن، السعدي، ص ١٩٥.

81 انظر: جامع البيان، الطبري ٩/٣١.

82 انظر: المحرر الوجيز، ابن عطية ٢/١٩٨.

83 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٣/١١٢.

84 نظم الدرر، البقاعي ٦/١٥٥.

85 اللباب في علوم الكتاب، ابن عادل ٧/٣٥٧.

86 أحكام القرآن، ابن العربي ١/٦٠٠.

87 المصدر السابق ١/٦٠٢.

88 تفسير المنار، محمد رشيد رضا ٥/٢٧١- ٢٧٢.

89 انظر: أحكام القرآن، الجصاص ١/١٨٤ الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٢/٢٥٤.

90 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٢/١٤٢. والمقصود بـ(عاقلة القاتل) عصبته من الرجال الذكور، ففي قتل الخطأ الدية تجب على العاقلة كل حسب قرابته وحاله، أما في قتل العمد فتكون واجبة على الجاني نفسه.

91 أنوار التنزيل، البيضاوي ١/١٢٢.

92 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب العلم، باب كتابة العلم، رقم ١١٢.

93 انظر: الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٢/٢٥٥.

94 أضواء البيان، الشنقيطي ١/٣٢١.

95 لباب التأويل، الخازن ١/٤٤٣.

96 جامع البيان، الطبري ٦/١٤٠.

97 تفسير القرآن الكريم، سورتي الفاتحة والبقرة، ابن عثيمين ٣/٤٦٠.

98 روح المعاني، الألوسي ٢/٦٧.

99 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب بيان أنه سبحانه و تعالى لم يكلف إلا ما يطاق، رقم ١٢٥.

100 مفرد ثنايا، وهي مقدم الأسنان.

101 الجارية: هي المرأة الشابة هنا، لا الأمة.

102 الأرش: دية الجراحة أو الأطراف.

103 أي حكم كتاب الله تعالى القصاص، وهو أن تكسر السن مقابل السن.

104 لصدقه وإخلاصه، ولذلك فقد حقق الله رغبته.

105 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الصلح، باب الصلح في الدية، رقم ٢٧٠٣.

106 جامع البيان، الطبري ٧/٢٩٨.

107 مدارك التنزيل، النسفي ١/٣٠١.

108 انظر: أحكام القرآن، الجصاص ٢/٣١٤، تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٢/٣٤٤.

109 أخرجه أحمد في مسنده، ٢٠/٤٣٧، رقم ١٣٢٢٠، وأبو داود في سننه، كتاب الديات، باب الإمام يأمر بالعفو في الدم، رقم ٤٤٩٧، والنسائي في سننه، كتاب القسامة، باب الأمر بالعفو في القصاص، رقم ٤٧٨٤.

110 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٦/٢٩.

111 انظر: جامع البيان، الطبري ١٠/٣٦٢.

112 أخرجه أحمد في مسنده، رقم ٢٢٩٨٣. وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، رقم٢٤٦١.

113 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٢/٧١.

114 مفاتيح الغيب، الرازي ٧/١١٩.

115 محاسن التأويل، القاسمي ٢/٢٤٤.

116 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٣/٤٣١.والمقصود بالوجهين: الخطأ والنسيان، أو أحدهما.

117 جامع البيان، الطبري ١٠/١٣٤.

118 المصدر السابق ١٠/١٤٠.

119 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب تفسير القرآن: سورة الأعراف باب (خذ العفو وأمر بالعرف)، رقم ٤٦٤٢.

120 كشف المشكل من حديث الصحيحين، ابن الجوزي ١/١١١.

121 انظر فتح الباري ١٣/٢٥٩.

122 أخرجه الترمذي في سننه، أبواب تفسير القرآن، باب ومن سورة التغابن، رقم ٣٣١٧. قال الترمذي: حديث حسن صحيح.

123 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ١٨/١٤٢.

124 مدارك التنزيل ٣ /٤٩٣.

125 روح المعاني، ١٤/٣٢١.

126 إحياء علوم الدين، الغزالي ٣/١٨٤.

127 روح المعاني، الألوسي ٢/٢٧٢- ٢٧٣.

128 مفاتيح الغيب، الرازي ٩/٣٦٧.

129 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٢/١٠٦.

130 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٤/٢٠٧.

131 المصدر السابق ١٤/٢٠٢.

132 التفسير المنير، وهبة الزحيلي ١/٢٦٩.

وانظر: الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٢/٧١.

133 روح المعاني، الألوسي ١/٣٥٦.

134 المفردات، الراغب الأصفهاني ص٤٨٦.

135 النكت والعيون، الماوردي ٤/٨٤.

136 روح البيان، إسماعيل حقي ١/٢٠٤.

137 جامع البيان، الطبري ٢٣/٤٢٥.

138 أنوار التنزيل، البيضاوي ٥/٢١٩.

139 انظر: أضواء البيان، الشنقيطي ١/٣١٣.

140 روح المعاني، الألوسي ٧/٣٢٠.

141 تيسير الكريم الرحمن، السعدي، ص ٧٧١.

142 انظر: أضواء البيان، الشنقيطي ٧/١٧١.

143 تيسير الكريم الرحمن، السعدي، ص ٤٣٥.

144 مفاتيح الغيب، الرازي ٩/٣٦٧.

145 معالم التنزيل، البغوي ١/٥٠٨.

146 قصيدة عنوان الحكم، أبو الفتح البستي، ص ٣٦.

147 انظر: روح المعاني ٢/٢٧٣- ٢٧٤.

148 بصائر ذوي التمييز، الفيروزآبادي ٢/٤٦٥.

149 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٤/٢٠٧.

150 تفسير المنار، محمد رشيد رضا ٤/١١١.

151 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الإيمان، باب سؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان والإسلام والإحسان وعلم الساعة، رقم ٥٠.

152 تيسير الكريم الرحمن، السعدي، ص ١٤٩.

153 في ظلال القرآن، سيد قطب ١/٤٧٥.

154 مفاتيح الغيب، الرازي ٩/٤٩٣.

155 تيسير الكريم الرحمن، السعدي، ص ١٦٥.

156 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ١/٤٨٦.

157 جامع البيان، الطبري ٥/١٤١.

158 أحكام القرآن، ابن العربي ١/٢٩٣.

159 مفاتيح الغيب، الرازي ٦/٤٧٩.

160 تيسير الكريم الرحمن، السعدي، ص ١٠٦.

161 أحكام القرآن، الجصاص ١/٥٣٦.

162 انظر: تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ١/٤٨٧.

163 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٣/٢٠٥ - ٢٠٦.

164 انظر: جامع البيان ٥/١٥٨، تفسير الراغب الأصفهاني ١/٤٩١، زاد المسير ١/٢١٤، تفسير القرآن العظيم ١/٤٨٧، أحكام القرآن ١/٥٣٤، إرشاد العقل السليم ١/٢٣٥، روح المعاني ١/٥٤٧، مدارك التنزيل ١/١٩٩، فتح القدير ١/٢٩٢، تيسير الكريم الرحمن، ص ١٠٦، تفسير القرآن الكريم، سورتي: الفاتحة والبقرة ٣/١٧٢.

165 أخرجه الطبراني في الأوسط ٢/٢٦٢، والبيهقي في السنن الكبرى ٧/٤١٠. وصحح الألباني وقفه على علي رضي الله عنه، في إرواء الغليل، رقم ١٩٣٥.

166 أخرجه الدارقطني في سننه ٤/٤٢١.

167 انظر: أحكام القرآن، ابن العربي ١/٢٩٤، مفاتيح الغيب، الرازي ٦/٤٧٩، أحكام القرآن، الجصاص ١/٥٣٠-٥٣٥.

168 تفسير الراغب الأصفهاني ١/٤٩١.

169 مفاتيح الغيب، الرازي ٦/٤٨١.

170 انظر: تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص١٠٦.

171 انظر: روح المعاني، الألوسي ١٤/٣٢١.

172 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ٥٦٥.

173 المحرر الوجيز، ابن عطية ١/٥١٠.

174 انظر: جامع البيان، الطبري ٣/٣٦٧.

175 المصدر السابق ٣/٣٧١.

176 انظر: المحرر الوجيز، ابن عطية ١/٢٤٥ - ٢٤٦، الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٢/٢٥٣- ٢٥٤.

177 مفاتيح الغيب، الرازي ٥/٢٢٧.

178 تفسير الراغب الأصفهاني، ١/٣٨١.

179 انظر: معالم التنزيل، البغوي ١/٢٠٩.

180 انظر: الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٢/٢٥٣.

181 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٣٣١- ٣٣٢.

182 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ٢٣٤.

183 النكت والعيون، الماوردي ٢/٣٢.

184 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٢/٢٥٥.

185 زاد المسير، ابن الجوزي ١/١٣٧.

186 أضواء البيان، الشنقيطي ٨/٢٠٤.

187 علقه البخاري في صحيحه، - ٢/١٢٩. وانظر: تفسير ابن أبي حاتم ١٠/٣٢٧٩.

188 انظر: تفسير ابن أبي حاتم ١٠/٣٢٨٠.

189 المصدر السابق ١٦/٤٠

190 مفاتيح الغيب، الرازي ١١/٣٢٦.

191 أحكام القرآن، ٢/١٣٦.

192 انظر: جامع البيان، الطبري ١٠/٣٦٢ رقم ١٢٠٧٣.

193 أخرجه أحمد في مسنده، رقم٢٧٥٣٤. وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، رقم ٢٤٦١.

194 أضواء البيان، الشنقيطي ٥/٤٨٨.

195 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص٧٦١.

196 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٣/٢٨٦.

197 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ١٥/٣٦٢ - ٣٦٣.