عناصر الموضوع

مفهوم العدل

العدل في الاستعمال القرآني

الألفاظ ذات الصلة

الحث على العدل

مجالات العدل

ثمرات إقامة العدل

العدل

مفهوم العدل

أولاً: المعنى اللغوي:

العدل مصدر عدل يعدل عدلًا، وهو مأخوذ من مادة «ع د ل» التي تدل على معنيين متقابلين: أحدهما يدل على الاستواء، والآخر على الاعوجاج1، ويرجع لفظ العدل هنا إلى المعنى الأول، وإذا كان العدل مصدرًا، فمعناه: خلاف الجور، وهو ما قام في النفوس أنه مستقيم، وقد يستعمل هذا المصدر استعمال الصفات، ويرادفه في معناه المصدري العدالة والعدولة والمعدلة والمعدلة، يقال: فلان من أهل المعدلة، أي: من أهل العدل، وعدل عن الطريق عدولًا مال عنه وانصرف2. والعَدل والعِدل والعَديل: النظير والمثيل3.

ثانيًا: المعنى الاصطلاحي:

لا يخرج العدل عن معنى الاستقامة على الحق، العدل هو الحكم بالحق، أو فصل الحكومة على ما في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لا الحكم بالرأي المجرد4.

وقيل: «بذل الحقوق الواجبة، وتسوية المستحقين في حقوقهم» 5.

وقال ابن حزم: «هو أن تعطي من نفسك الواجب وتأخذه»6.

وقال الجرجاني: «العدل: الأمر المتوسط بين الإفراط والتفريط، فالعدالة في الشريعة: عبارة عن الاستقامة على طريق الحق بالاجتناب مما هو محظور دينًا» 7.

فالمعنى الاصطلاحي لا يخرج عن المعنى اللغوي فكلاهما يدلان على الاستواء والاستقامة، إلا أن المعنى الاصطلاحي خص بالاستقامة على الحق.

العدل في الاستعمال القرآني

وردت مادة (عد ل) في القرآن الكريم (٢٨) مرة، يخص موضوع البحث منها(٢٧) مرة8.

والصيغ التي وردت عليها هي:

الصيغة

عدد المرات

المثال

الفعل المضارع

١١

( ) [الأنعام:٧٠]

الفعل الأمر

٢

( ) [المائدة:٨]

المصدر

١٤

( ) [النحل:٩٠]

وجاء العدل في الاستعمال القرآني على أربعة أوجه9:

الأول: الفداء: ومنه قوله تعالى: ( ﯿ) [البقرة: ٤٨] يعني: فداء.

الثاني: القيمة: ومنه قوله تعالى: ( ﯿ) [المائدة: ٩٥] يعني: قيمة ذلك بصيام.

الثالث: الشرك: ومنه قوله تعالى: ( ) [الأنعام: ١] يعني: يشركون.

الرابع: الإنصاف: ومنه قوله تعالى: ( ) [المائدة: ٨].

الألفاظ ذات الصلة

المساواة:

المساواة لغة:

مصدر سوي، والسوى: العدل، والسواء من المساواة تقول: بنو فلان سواء، إذا استووا في خير أو شر، فإذا قلت: سواسية لم يكن إلا في شر10.

المساواة اصطلاحًا:

اتفاق الشيئين في الكمية 11.

الصلة بين العدل والمساواة:

إن المساواة هي الغاية التي تسعى العدالة إلى تحقيقها، وهي الغاية المرجوة منها، والعدل -في مجال الحكم- هو الحكم بالسوية12، ولما كانت العدالة خلقًا أو هيئة نفسانية تصدر عنها المساواة؛ فقد اقترن الأمران، وارتبطا ارتباطًا وثيقًا؛ لأن العادل من شأنه أن يساوي بين الأشياء التي هي غير متساوية؛ ولما كان الأمر كذلك، فإن كليهما قد يستعمل استعمال الآخر تسامحًا13، ولكنهما غالبًا ما يستعملان معًا.

الإنصاف:

الإنصاف لغة:

إعطاء الحق، وأنصف الرجل صاحبه إنصافًا، أي: عدل، وأنصف: إذا أخذ الحق، وأعطى الحق، والنصفة: اسم الإنصاف، وتفسيره: أن تعطيه من نفسك النصف، أي: تعطيه من الحق كالذي تستحق لنفسك. ويقال: انتصفت من فلان أخذت حقي كاملًا14.

الإنصاف اصطلاحًا:

قال المناوي: «الإنصاف: هو العدل في المعاملة بأن لا يأخذ من صاحبه من المنافع إلا ما يعطيه، ولا ينيله من المضار إلا كما ينيله، وهو والعدل توأمان نتيجتهما علو الهمة، وبراءة الذمة باكتساب الفضائل، وتجنب الرذائل» 15.

الصلة بين العدل والإنصاف:

«إن الإنصاف إعطاء النصف، والعدل يكون في ذلك وفي غيره، ألا ترى أن السارق إذا قطع قيل: إنه عدل عليه، ولا يقال: إنه أنصف، وأصل الإنصاف: أن تعطيه نصف الشيء وتأخذ نصفه من غير زيادة ولا نقصان، وربما قيل: أطلب منك النصف، كما يقال أطلب منك الإنصاف» 16.

القسط:

القسط لغة:

القسط بالكسر: العدل، يقال أقسط يقسط فهو مقسطٌ: إذا عدل، وقسط يقسط فهو قاسطٌ: إذا جار، والقسط أيضًا: مكيال، وهو نصف صاع17.

القسط اصطلاحًا:

«القسط بالكسر، النصيب بالعدل» 18.

الصلة بين العدل والقسط:

إن القسط هو: العدل البين الظاهر، ومنه سمي المكيال قسطًا، والميزان قسطًا؛ لأنه يصور لك العدل في الوزن حتى تراه ظاهرًا، وقد يكون من العدل ما يخفى ولهذا قلنا: إن القسط هو النصيب الذي بينت وجوهه، وتقسط القوم الشيء تقاسموا بالقسط19.

الحث على العدل

تنوعت أساليب القرآن في الحث على العدل، وهي كما يأتي:

أولًا: أسلوب الطلب:

هناك آيات كثيرة تأمر بالعدل، جملة وتفصيلًا في مجالات كثيرة، ومنها:

قوله تعالى: ( ) [البقرة: ٢٨٢].

قال الطبري: «يعني بذلك جل ثناؤه: وليكتب كتاب الدين إلى الأجل المسمى بين الدائن والمدين ( ) يعني: بالحق والإنصاف في كتابه الذي يكتبه بينهما، بما لا يتحيف ذا الحق حقه، ولا يبخسه، ولا يوجب له حجة على من عليه دينه فيه بباطل، ولا يلزمه ما ليس عليه»20.

وقال الماوردي: «وعدل الكاتب ألا يزيد فيه إضرارًا بمن هو عليه، ولا ينقص منه، إضرارًا بمن هو له» 21.

وقوله تعالى: ( ﭿ ) [البقرة: ٢٨٢].

قال الزجاج: «ومعنى: ( ) أي: الذي يقوم بأمره؛ لأن الله أمر ألا نؤتي السفهاء الأموال، وأمر أن يقام لهم بها، فقال: ( ) [النساء: ٥].

فوليه الذي يقوم مقامه في ماله لو كان مميزًا» 22.

وقوله تعالى: ( ) [النساء: ١٢٧].

وعن عائشة رضي الله عنها في قول الله تعالى: (ﯚﯛﯜﯝﯞ ﯟﯠﯡ ﯤﯥ ﯦﯧ ﯨﯩ ) [النساء: ١٢٧].

قالت: «هذا في اليتيمة التي تكون عند الرجل لعلها أن تكون شريكته في ماله، وهو أولى بها، فيرغب عنها أن ينكحها؛ فيعضلها لمالها، ولا ينكحها غيره كراهية أن يشركه أحد في مالها» 23.

وقوله تعالى: ( ﭠﭡ ﭦﭧ ﭮﭯ ﭲﭳ ) [الأنعام: ١٥٢].

في هذه الآية يحذر المولى عز وجل النفوس الضعيفة التي تطبق ميزان العدل، وتشهد بالحق على الآخرين، وإذا كانت القضية تمسهم أو تمس أقاربهم فسرعان ما يميلون عن العدل، ويزيغون عن الحق.

قال ابن كثير: «يأمر الله تعالى بإقامة العدل في الأخذ والإعطاء، كما توعد على تركه في قوله تعالى: ( ) [المطففين: ١]» 24.

وقوله تعالى: ( ﭿ ﮇﮈ ) [النحل: ٩٠].

في هذه الآية الكريمة إشارة إلى الفضل مع العدل، ففيما يتعلق بالعدل فإن الإحسان فوقه؛ لأنه إذا كان العدل يعني أن يأخذ الإنسان ما له، ويعطي ما عليه؛ فإن الإحسان يعني أن يأخذ الإنسان أقل مما له، وأن يعطي أكثر مما عليه، فالإحسان بذلك زائد على العدل، وإذا كان تحري العدل من الواجبات؛ فإن تحري الإحسان ندب وتطوع، وكلاهما مأمور به، فالعدالة لابد منها لضبط الأمور، وإنصاف بعضهم من بعض.

وعندما سأل عمر بن عبد العزيز محمد بن كعب القرظي: صف لي العدل، قال: بخ، سألت عن أمر جسيم، كن لصغير الناس أبًا، ولكبيرهم ابنًا، وللمثل أخًا، وللنساء كذلك! وعاقب الناس على قدر ذنوبهم، ولا تضربن في غضبك سوطًا واحدًا؛ فتكون من العادين، ذاك وصف العدل.

وقال ابن رجب الحنبلي: «فجوامع الكلم التي خص بها النبي صلى الله عليه وسلم نوعان: أحدهما: ما هو في القرآن، كقوله تعالى: ( ﭽﭾ ﭿﮀﮁﮂﮃﮄ ﮆﮇ) [النحل: ٩٠].

قال الحسن البصري: «لم تترك هذه الآية خيرًا إلا أمرت به، ولا شرًا إلا نهت عنه»25.

وقوله تعالى: ( ) [الأعراف: ٢٩].

هذا أمر بالعدل المطلق في الأحكام والأعمال، وهو الأصل العام لجميع الأحكام بين الناس26.

وقوله تعالى: ( ) [الأحزاب: ٧٠].

قال الطبري: « السديد من الكلام: هو العدل والصواب» 27.

وقوله تعالى: ( ) [الحديد: ٢٥].

هذه الآية الكريمة تبين حرص الدعوة الإسلامية على بناء مجتمع العدل والقوة، وتوضح الأسس اللازمة لبناء مجتمع قوي متحضر يقوم على العدل والقوة، فالكتاب والميزان لإقامة العدل، والحديد لإيجاد القوة التي تحمي العدل، وتكفل استمراره، والعدل الشامل يمتد إلى المسلم والذمي والكافر، والأغنياء والفقراء، والأقوياء والضعفاء، والرجال والنساء، حيث تتحدد حقوق الجميع وفق موازين العدل دون احتكار، أو استغلال، أو استئثار، أو ظلم.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «أخبر الله في كتابه أنه أنزل الكتاب والحديد؛ ليقوم الناس بالقسط، فقال تعالى: ( ﭛﭜ ) [الحديد: ٢٥] الآية.

ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم أمته بتولية ولاة الأمور عليهم، وأمر ولاة الأمور أن يردوا الأمانات إلى أهلها، وإذا حكموا بين الناس أن يحكموا بالعدل، وأمرهم بطاعة ولاة الأمور من طاعة الله تعالى » 28.

ثانيًا: أسلوب النهي عن ضده:

ضد العدل: الظلم، وأصله: وضع الشيء في غير موضعه، وكذلك ذكر غير واحد، قالوا: والعرب تقول: من أشبه أباه فما ظلم، أي: ما وضع الشبه في غير موضعه.

وأجمع العلماء سلفًا وخلفًا على تحريم الظلم، -ولو كان شيئًا يسيرًا-، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من اقتطع حق امرئٍ مسلمٍ بيمينه فقد أوجب الله له النار، وحرم عليه الجنة) فقال له رجلٌ: وإن كان شيئًا يسيرًا يا رسول الله؟ قال: (وإن قضيبًا من أراكٍ)29.

قال الزرقاني: «لئلا يتهاون بالشيء اليسير، ولا فرق بين قليل الحق وكثيره في التحريم، أما في الإثم؛ فالظاهر أنه ليس من اقتطع القناطير المقنطرة من الذهب والفضة كمن اقتطع الدرهم والدرهمين، وهذا خرج مخرج المبالغة في المنع، وتعظيم الأمر وتهويله» 30. وقال الراغب الأصفهاني: «الظلم هو الانحراف عن العدل؛ ولذلك حد بأنه وضع الشيء في غير موضعه المخصوص به، وقد يسمى هذا الانحراف جورًا، ولما كانت العدالة تجري مجرى النقطة من الدائرة؛ فإن تجاوزها من جهة الإفراط عدوان وطغيان، والانحراف عنها في بعض جوانبها جور وظلم، والظلم أعم هذه الألفاظ استعمالًا» 31.

«وقال أبو بكر بن الأنباري: الظلم وضع الشيء في غير موضعه، يقال: ظلم الرجل سقاءه، إذا سقا منه قبل أن يخرج زبده، قال الشاعر32:

وصاحب صدق لم تنلني شكاته

ظلمت وفي ظلمي له عامدًا أجر

أراد بالصاحب: وطب اللبن، وظلمه إياه: أن يسقيه قبل أن يخرج زبده، والعرب تقول: هو أظلم من حية؛ لأنها تأتي الحفر الذي لم تحفره فتسكنه، ويقال: قد ظلم الماء الوادي إذا وصل منه إلى مكان لم يكن يصل إليه فيما مضى 33.

وهناك آيات كثيرة قاضية بتحريم الظلم جملة وتفصيلًا، ومنها:

قوله تعالى: ( ﮋﮌ ) [الأعراف: ٣٣].

قال الزمخشري: «البغي: الظلم والكبر، أفرده بالذكر كما قال: ( ) ( ) [الأعراف: ٣٣].

فيه تهكم؛ لأنه لا يجوز أن ينزل برهانًا بأن يشرك به غيره»34.

وقال الشوكاني: «قوله: (ﮋﮌ ) أي: الظلم المجاوز للحد، وأفرده بالذكر بعد دخوله فيما قبله؛ لكونه ذنبًا عظيمًا، كقوله: ( )»35.

وقوله تعالى: ( ﭿ ﮇﮈ ) [النحل: ٩٠].

قال الواحدي: «البغي: الكبر والظلم () ينهاكم عن هذا كله، ويأمركم أن تتحاضوا على ما فيه لله رضا؛ لكي تتعظوا» 36.

ولم يقتصر التحريم على ظلم الغير، بل نهانا ربنا سبحانه وتعالى عن ظلم النفس كذلك، فقال: ( ﯖﯗ ﯚﯛ ) [التوبة: ٣٦].

ومنع سبحانه كل سبب يؤدي إلى الظلم، فقال تعالى: ( ﯕﯖ ) [الشورى: ٢٧].

قال الزمخشري: «لبغوا من البغي، وهو الظلم، أي: لبغى هذا على ذاك، وذاك على هذا؛ لأن الغنى مبطرة مأشرة، وكفى بحال قارون عبرة»37.

وكذلك هناك آيات كثيرة قاضية بوعيد الله للظالمين، ومنها:

قوله تعالى: ( ) [آل عمران: ٢١].

( ) أي: بالعدل38.

وتكرير الفعل «يقتلون» للإشعار بما بين القتلين من التفاوت أو باختلافها في الوقت39.

قال الطبري: «تأويل الآية إذًا: إن الذين يكفرون بآيات الله، ويقتلون النبيين بغير حق، ويقتلون آمريهم بالعدل في أمر الله ونهيه، الذين ينهونهم عن قتل أنبياء الله، وركوب معاصيه»40.

وقال السعدي: «هؤلاء الذين أخبر الله عنهم في هذه الآية أشد الناس جرمًا، وأي جرم أعظم من الكفر بآيات الله التي تدل دلالة قاطعة على الحق الذي من كفر بها فهو في غاية الكفر والعناد، ويقتلون أنبياء الله الذين حقهم أوجب الحقوق على العباد بعد حق الله، الذين أوجب الله طاعتهم والإيمان بهم وتعزيرهم، وتوقيرهم، ونصرهم، وهؤلاء قابلوهم بضد ذلك، ويقتلون أيضًا الذين يأمرون الناس بالقسط، الذي هو العدل، وهو الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر الذي حقيقته إحسان إلى المأمور، ونصحٌ له؛ فقابلوهم شر مقابلة فاستحقوا بهذه الجنايات المنكرات أشد العقوبات، وهو العذاب المؤلم البالغ في الشدة إلى غاية لا يمكن وصفها، ولا يقدر قدرها، المؤلم للأبدان والقلوب والأرواح.

وبطلت أعمالهم بما كسبت أيديهم، وما لهم أحد ينصرهم من عذاب الله، ولا يدفع عنهم من نقمته مثقال ذرة، بل قد أيسوا من كل خير، وحصل لهم كل شر وضير، وهذه الحالة صفة اليهود ونحوهم،-قبحهم الله- ما أجرأهم على الله وعلى أنبيائه وعباده الصالحين»41.

وبين سبحانه وتعالى أن الظالمين لا ينتفعون بالقرآن الكريم؛ لفساد فطرتهم، فقال تعالى: ( ﮫﮬ ) [الإسراء: ٨٢].

قال قتادة: قوله: ( ) إذا سمعه المؤمن انتفع به وحفظه ووعاه ( ) به ( ) أنه لا ينتفع به، ولا يحفظه، ولا يعيه42.

وقال الشعراوي: «لأنهم بظلمهم واستقبالهم فيوضات السماء بملكات سقيمة، وأجهزة متضاربة متعارضة، فلم ينتفعوا بالقرآن، ولم يستفيدوا برحمات الله»43.

ونهانا ربنا سبحانه وتعالى عن مجرد الميل اليسير إلى من تلبس بأي أنواع الظلم القليل، فقال: ( ) [هود: ١١٣].

قال الزمخشري: «تأمل قوله: ( )، فإن الركون هو الميل اليسير، وقوله ( ) أي: إلى الذين وجد منهم الظلم، ولم يقل: إلى الظالمين»44.

وبين المولى أن عاقبة الظالمين وخيمة -وإن أمهلهم-، فقال: (ﯕﯖﯗ ﯘﯙﯚﯛ ) [الحج: ٤٥].

وقال تعالى: ( ) [الحج: ٤٨].

وقال تعالى: ( ﮔﮕ ) [هود: ١٠٢].

فهذه الآية الكريمة تبين أن الله تعالى يمهل ولا يهمل، وقال عليه الصلاة والسلام: (إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته)، ثم قرأ: ( ﮔﮕ ) 45.

وتزداد خيبة الظالم حسب حجم ظلمه ونوعه، قال تعالى: ( ﯯﯰ ) [طه: ١١١].

قال الشنقيطي: «خيبة كل ظالمٍ بقدر ما حل من الظلم» 46.

فعذاب الظالمين ليس عذابًا عاديًا، فوصفه الله عز وجل أنه كبير، فقال: ( ) [الفرقان: ١٩].

وقال تعالى: ( ) [غافر: ١٨].

وقال تعالى: (ﭾﭿ ﮁﮂﮃ ﮄﮅ ﮋﮌﮍ ) [الكهف: ٢٩].

وقال تعالى: ( ﯹﯺ ﯿ ) [الزمر: ٤٧].

وقال تعالى: ( ) [الفرقان: ٢٧].

وقال تعالى: ( ) [الروم: ٥٧].

وقال تعالى: ( ﭵﭶ ) [غافر: ٥٢]47.

وغير ذلك من الآيات التي تبين حال أهل الظلم وموقفهم بين يدي الله تعالى يوم الفصل والقضاء.

ثالثًا: وصف الله تعالى بالعدل في صفاته وأفعاله:

الله سبحانه وتعالى حكم عدل، يضع الأشياء مواضعها، لا يضع شيئًا إلا في موضعه الذي يناسبه وتقتضيه حكمته وعدله تبارك وتعالى، فلا يظلم مثقال ذرة، ولا يجزي أحدًا إلا بذنبه، لا يزاد في سيئاته، ولا ينقص من حسناته شيئًا، كما أنه تعالى لا يسوي بين المؤمن والكافر، والصالح والفاجر، بل يجازي كلا بعمله.

فهو سبحانه عدل فيما شرعه من الدين عن الغلو والتقصير إلى التوسط، وخير الأمور أوساطها، وليس لما جاوز العدل حظ من رشد، ولا نصيب من سداد.

قال تعالى: ( ﯶﯷ ﯿ ) [النجم: ٣٦-٤١].

ومن أسمائه تعالى: العدل48، ودليله: ( ) [الأنعام: ١١٥].

قال ابن الأثير: «في أسماء الله تعالى «العدل» هو الذي لا يميل به الهوى فيجور في الحكم، وهو في الأصل مصدرٌ سمي به فوضع موضع العادل، وهو أبلغ منه؛ لأنه جعل المسمى نفسه عدلًا» 49.

وكذلك من أوصافه تعالى: العدل50، فهو سبحانه على صراط مستقيم، في كل ما يقضيه ويقدره؛ فلا يخاف العبد جوره ولا ظلمه؛ فإنه على صراط مستقيم، ماضٍ في عبده حكمه، عدل فيه قضاؤه، له الملك، وله الحمد، لا يخرج تصرفه في عباده عن العدل والفضل، إن أعطى وأكرم وهدى ووفق فبفضله ورحمته، وإن منع وأهان وأضل وخذل وأشقى فبعدله وحكمته، وهو على صراط مستقيم في هذا وهذا.

قال ابن القيم: «التوحيد والعدل هما جماع51 صفات الكمال، وصفات العدل والقبض والبسط، والخفض والرفع، والعطاء والمنع، والإعزاز والإذلال، والقهر والحكم ونحوها أخص باسم الملك» 52.

وقال القرطبي في قوله تعالى: ( ) [النمل (٣٤)]: «أهانوا شرفاءها؛ لتستقيم لهم الأمور، فصدق الله قولها: ( ) [النمل (٣٤)].

قال ابن الأنباري: قوله تعالى: ( ) هذا وقف تام، فقال الله عز وجل تحقيقًا لقولها: ( )53.

وقال الشيخ ابن غازي: «فعلى هذا يكون قوله تعالى: ( ) من تصديق الله تعالى لقول ملكة سبأ وهي كافرة، وهذا غاية العدل والإنصاف» 54.

وقال أبو حامد الغزالي: «من أراد أن يفهم وصف الله عز وجل بالعدل ينبغي له أن يحيط علمًا بأفعال الله تعالى من ملكوت السموات إلى منتهى الثرى.

حتى إذا لم ير في خلق الرحمن من تفاوت، ثم رجع إليه بصره فما رأى من فطور، ثم رجع مرة أخرى فانقلب إليه البصر خاسئًا وهو حسير، وقد بهره جمال ما رأى، وحيره اعتداله وانتظامه، فعند ذلك يعبق بفمه شيء من معاني عدله تعالى وتقدس.

وقد خلق الله أقسام الموجودات، جسمانيها وروحانيها، كاملها وناقصها، وأعطى كل شيء خلقه، وهو بذلك جواد، ورتبها في مواضعها اللائقة بها، وهو بذلك عدل، ولينظر الإنسان إلى بدنه؛ فإنه مركب من أعضاء مختلفة، فقد ركبه من العظم واللحم والجلد، وجعل العظم عمادًا مستبطنًا، واللحم صوانًا له مكتنفًا إياه، وكذلك جعل الجلد صوانًا للحم، فلو عكس هذا الترتيب وأظهر ما أبطن لبطل النظام، واختل العدل، وعلى هذا ينبغي أن تعلم أنه لم يـخلق شيء في موضع إلا لأنه متعين له، ولو تيامن عنه أو تياسر أو تسفل أو تعلى؛ لكان ناقصًا أو باطلًا، أو قبيحًا، أو خارجًا عن المتناسب، كريهًا في المنظر، ألم تر أنه مثلًا لو خلق الأنف على غير وسط الوجه أو لو خلق على الجبهة أو على الخد لتطرق النقص إليه، ثم إن الإنسان لو ترقى ونظر في ملكوت السماوات والأرض وعجائبها؛ لرأى ما يستحقر فيه عجائب بدنه، وكيف لا؟ وخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس.

هذا هو الطريق لمعرفة هذا الاسم؛ لأن معرفة الأسامي المشتقة من الأفعال لا تفهم إلا بعد فهم الأفعال، وأنت تعلم أن كل ما في الوجود من أفعال الله، فإذا كان الأمر كذلك فإن الواجب على العبد بعد إيمانه بأن الله عدل أنه لا يعترض عليه في تدبيره وحكمه وسائر أفعاله،-وافق مراده أم لم يوافق-؛ لأن كل ذلك عدل، وتيقنه أنه لو لم يفعل سبحانه وتعالى ما فعله؛ لحصل في الوجود أمر آخر هو أعظم ضررًا مما حصل، كما أن المريض لو لم يحتجم؛ لتضرر ضررًا يزيد على ألم الحجامة» 55.

وهناك آيات كثيرة يتجلى فيها وصف الله تعالى بالعدل، ومنها:

قوله تعالى: ( ) [آل عمران: ١٨].

( ) أي: بالعدل56.

قال الطبري: «وأما قوله: ( ) فإنه بمعنى: أنه الذي يلي العدل بين خلقه.

والقسط هو العدل، من قولهم: «هو مقسط»، و«قد أقسط»، إذا عدل، ونصب () على القطع» 57.

وقال الراغب الأصفهاني: «وقوله: ( ) أي: هو تعالى مراعٍ للعدالة بكل حال؛ وذلك حال مؤكدة» 58.

وقال البيضاوي: «( ) مقيمًا للعدل في قسمه وحكمه، وانتصابه على الحال من الله، وإنما جاز إفراده بها، ولم يجز: جاء زيد وعمرو راكبًا؛ لعدم اللبس؛ كقوله تعالى: ( ) [الأنبياء: ٧٢].

أو من هو والعامل فيها معنى الجملة، أي: تفرد قائمًا، أو أحقه؛ لأنها حال مؤكدة، أو على المدح، أو الصفة للمنفي، وفيه ضعف للفصل، وهو مندرج في المشهود به إذا جعلته صفة، أو حالًا من الضمير.

وقريء (القائم بالقسط) على البدل عن ()، أو الخبر لمحذوف» 59.

وقال ابن القيم: «وقوله تعالى: (ﭮﭯ) القسط هو العدل، فشهد سبحانه أنه قائم بالعدل في توحيده، وبالوحدانية في عدله، والتوحيد والعدل: هما جماع صفات الكمال؛ فإن التوحيد يتضمن تفرده سبحانه بالكمال والجلال، والمجد والتعظيم الذي لا ينبغي لأحد سواه، والعدل يتضمن وقوع أفعاله كلها على السداد والصواب، وموافقة الحكمة.

والمقصود: أن قوله تعالى: ( ) هو كقوله: ( ﭿ) [هود: ٥٦]» 60.

وقال محمد رشيد رضا: «أما قوله تعالى: ( ) فمعناه: أنه تعالى شهد هذه الشهادة قائمًا بالقسط، وهو العدل في الدين والشريعة، وفي الكون والطبيعة.

فمن الأول: تقرير العدل في الاعتقاد، كالتوحيد الذي هو وسطٌ بين التعطيل والشرك، ومن الثاني: جعل سنن الخليقة في الأكوان والإنسان الدالة على حقية الاعتقاد قائمةً على أساس العدل، فمن نظر في هذه السنن ونظامها الدقيق يتجلى له عدل الله العام، فالقيام بالقسط على هذا من قبيل التنبيه إلى البرهان على صدق شهادته تعالى في الأنفس والآفاق؛ لأن وحدة النظام في هذا العدل تدل على وحدة واضعه.

وهذا مما يفند تفسير بعضهم للشهادة بأنها عبارةٌ عن خلق ما يدل على الوحدانية من الآيات الكونية والنفسية، كذلك كانت أحكامه تعالى في العبادات والآداب والأعمال مبينةً على أساس العدل بين القوى الروحية والبدنية وبين الناس بعضهم مع بعضٍ؛ فقد أمر بذكره وشكره في الصلاة وغير الصلاة؛ لترقية الروح وتزكيته، وأباح الطيبات والزينة؛ لحفظ البدن وتربيته، ونهى عن الغلو في الدين والإسراف في الدنيا وذلك عين العدل، فهذا هو القسط في العبادات والأعمال الدنيوية.

وأما القسط في الآداب والأخلاق فهو صريحٌ في القرآن كصراحة الأمر بالعدل في الأحكام.

قال الله تعالى: (ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ) [النحل: ٩٠].

وقال: (ﯡﯢﯣ ﯤﯥﯦ ) [النساء: ٥٨].

وإذ قد تجلى لك صدق الشهادة؛ فعليك أن تقر بها قائلًا: لا إله إلا هو العزيز الحكيم، تفرد بالألوهية، وكمال العزة والحكمة، فلا يغلبه أحدٌ على ما قام به من سنن القسط، ولا يخرج شيءٌ منها عن مقتضى الحكمة البالغة» 61.

وقوله تعالى: ( ﯺﯻ ﯿ ) [آل عمران: ١٠٨].

قال الشوكاني: «بالحق: هو العدل» 62.

وقوله تعالى: ( ﭒﭓ ﭘﭙ ﭛﭜﭝ ) [إبراهيم: ١٩].

وقوله تعالى: ( ) [النور: ٢٥].

عن سعيد بن جبيرٍ: «() في الآخرة ( ) حسابهم العدل لا يظلمهم ( ) يعني: العدل المبين» 63.

وقوله تعالى: ( ) [لقمان: ٣٠].

وقوله تعالى: ( ﮋﮌ ) [سبأ: ٢٦].

وقوله تعالى: ( ) [الزمر: ٦٩].

وغير ذلك من عموم الآيات التي فيها وصف الله عز وجل، أو خلق السموات والأرض، أو إنزال الكتاب بالحق، الذي معناه العدل.

ومما نفاه الله عن نفسه مما يقتضي نقصًا في حقه -تبارك وتعالى- الظلم المنافي لكمال عدله، وذلك في آيات عديدة، ومنها:

قوله تعالى: ( ﯿ ) [آل عمران: ١٠٨].

وقوله تعالى: ( ) [النساء: ٤٠].

وقوله تعالى: ( ) [يونس: ٤٤].

وقوله تعالى: ( ﮕﮖ ) [الكهف: ٤٩].

وقوله تعالى: ( ﮋﮌ ) [التوبة: ٧٠].

وغير ذلك كثير جدًا من الآيات الكريمات التي ينفي الله فيه صفة من أنقص الصفات وأشنعها، ألا وهي الظلم الذي هو: «وضع الشيء في غير موضعه المختص به، إما بنقصان أو بزيادة، وإما بعدول عن وقته أو مكانه» 64.

وقال تعالى: ( ﭬﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲﭳ ﭴ ﭵ ﭶﭷ ﭻﭼ ﭿ) [الأنبياء: ٤٧].

قال الطبري: «يقول تعالى ذكره: ( ) العدل وهو القسط، وجعل القسط -وهو موحد- من نعت الموازين، وهو جمع؛ لأنه في مذهب عدل ورضا ونظر.

وقوله: (ﭯﭰﭱﭲ) يقول: فلا يظلم الله نفسًا ممن ورد عليه منهم شيئًا؛ بأن يعاقبه بذنب لم يعمله، أو يبخسه ثواب عمل عمله، وطاعة أطاعه بها، ولكن يجازي المحسن بإحسانه، ولا يعاقب مسيئًا إلا بإساءته»65.

وقال الزجاج: «() العدل، المعنى: ونضع الموازين ذوات القسط، وقسط مثل عدل، مصدر يوصف به، تقول: ميزان قسط، وميزانان قسط، وموازين قسط»66.

وقال الفراء: «وقوله: ( ) القسط من صفة الموازين، وإن كان موحدًا، وهو بمنزلة قولك للقوم: أنتم رضًا وعدلٌ، وكذلك الحق إذا كان من صفة واحدٍ أو اثنين أو أكثر من ذلك كان واحدًا»67.

وقال البغوي: «( ) أي: ذوات القسط، والقسط: العدل ليوم القيامة (ﭯﭰﭱ ) أي: لا ينقص من ثواب حسناتها، ولا يزاد على سيئاتها» 68.

وقال ابن عطية: «لما توعدهم بنفحة من عذاب الدنيا؛ عقب ذلك بتوعده بوضع الموازين، وإنما جمعها -وهو ميزان واحد- من حيث لكل أحد وزن يخصه، ووحد القسط وهو جاء بلفظ الموازين مجموعًا، من حيث القسط مصدر وصف به، كما تقول: قوم عدل ورضا» 69.

وقال القرطبي: «() جمع ميزانٍ، فقيل: إنه يدل بظاهره على أن لكل مكلفٍ ميزانًا توزن به أعماله؛ فتوضع الحسنات في كفةٍ، والسيئات في كفةٍ، وقيل: يجوز أن يكون هناك موازين للعامل الواحد، يوزن بكل ميزانٍ منها صنفٌ من أعماله، كما قال70:

ملكٌ تقوم الحادثات لعدله

فلكل حادثةٍ لها ميزان

ويمكن أن يكون ميزانًا واحدًا عبر عنه بلفظ الجمع.

و() العدل، أي: ليس فيها بخسٌ ولا ظلمٌ، كما يكون في وزن الدنيا.

و() صفة الموازين، ووحد لأنه مصدرٌ، يقال: ميزان قسطٍ، وميزانان قسطٌ، وموازين قسطٌ، مثل رجالٌ عدلٌ ورضًا» 71.

وقال البيضاوي: «(ﭪﭫﭬ) العدل، توزن بها صحائف الأعمال، وقيل: وضع الموازين تمثيل لإرصاد الحساب السوي والجزاء على حسب الأعمال بالعدل، وإفراد القسط لأنه مصدر وصف به للمبالغة» 72.

وقال السعدي: «يخبر تعالى عن حكمه العدل، وقضائه القسط بين عباده إذا جمعهم في يوم القيامة، وأنه يضع لهم الموازين العادلة التي يبين فيها مثاقيل الذر الذي توزن بها الحسنات والسيئات» 73.

وقال الشنقيطي: «ذكر -جل وعلا- في هذه الآية الكريمة أنه يضع الموازين القسط ليوم القيامة، فتوزن أعمالهم وزنًا في غاية العدالة والإنصاف، فلا يظلم الله أحدًا شيئًا، وأن عمله من الخير والشر -وإن كان في غاية القلة والدقة كمثقال حبةٍ من خردلٍ-؛ فإن الله يأتي به؛ لأنه لا يخفى عليه شيءٌ، وكفى به -جل وعلا- حاسبًا؛ لإحاطة علمه بكل شيءٍ.

وقوله في هذه الآية: () أي: العدل، وهو مصدرٌ وصف به؛ ولذا لزم إفراده، كما قال في الخلاصة74:

ونعتوا بمصدرٍ كثيرًا

فالتزموا الإفراد والتذكيرا

كما قدمناه مرارًا، ومعلومٌ أن النعت بالمصدر، يقول فيه بعض العلماء: إنه المبالغة، وبعضهم يقول: هو بنية المضاف المحذوف، فعلى الأول كأنه بالغ في عدالة الموازين حتى سماها القسط الذي هو العدل، وعلى الثاني فالمعنى: الموازين ذوات القسط» 75.

وترك الأخذ على يدي الظالم آذنٌ بعقوبة الجميع، فعن أبي بكرٍ الصديق رضي الله عنه قال: (أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية: (ﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳ ) [المائدة: ١٠٥].

وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب)76.

ولما كان كثير من الظلمة لا يباشر الظلم بنفسه، بل يتخذ أعوانًا يعينونه ويسهلونه عليه، ولا يعلمون أنهم في الإثم سواء، نهانا سبحانه عن مساعدة الظالم، فقال: (ﯭﯮﯯﯰﯱ ﯶﯷ ﯹﯺ ) [المائدة: ٢].

رابعًا: الثناء على أهل العدل:

جاء في غير موطن من الكتاب العزيز إعلان الحب الإلهي بكل وضوح للمقسطين، أهل العدل والإنصاف، ومنها قوله تعالى: ( ) [المائدة: ٤٢- الحجرات: ٩ -الممتحنة: ٨].

وأثنى سبحانه على أهل العدل، فقال: ( ) [الأعراف: ١٥٩].

قال الطبري: «يقول تعالى ذكره: ( ﯦﯧ) يعني: بني إسرائيل () يقول: جماعة ( ) يقول: يهتدون بالحق، أي: يستقيمون عليه ويعملون ( ) أي: وبالحق يعطون ويأخذون، وينصفون من أنفسهم فلا يجورون» 77.

وقال تعالى: ( ) [الأعراف: ١٨١].

قال الطبري: «يقول تعالى ذكره: ومن الخلق الذين خلقنا () يعني: جماعة () يقول: يهتدون بالحق، ( ) يقول: وبالحق يقضون، وينصفون الناس» 78.

وقال محمد رشيد رضا: «الأصل السابع79: هداية الناس بالحق والعدل به، وقد وصف الله تعالى بذلك خيار قوم موسى عليه السلام في آية (١٥٩) وخيار أمة محمدٍ صلى الله عليه وسلم في الآية (١٨١) فهذا من أصول دين الله العامة في جميع شرائعه، والحق هو الأمر الثابت المتحقق في الشرع إن كان شرعيًا، وفي الواقع ونفس الأمر إن كان أمرًا وجوديًا، والعدل ما تحري به الحق من غير ميلٍ إلى طرفٍ من الطرفين أو الأطراف المتنازعة فيه أو المتعلقة به، ويدخل في هذا الأصل الدعوة إلى الحق والخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتضحية العامة والخاصة، والإصلاح بين الناس» 80.

ووصف المولى سبحانه وتعالى من يمتنع عن الظلم والبغي بالإيمان والعمل الصالح، وأن إيمانهم هو الذي يمنعهم من هذا السلوك المستشري بين معظم الشركاء، فقال تعالى: ( ﮰﮱ ) [ص: ٢٤].

قال نظام الدين النيسابوري: «إن أكثر الخلطاء موسوم بسمة الظلم إلا المؤمنين، وإنهم لقليل. و() في قوله: ( ) مزيدة للإبهام، وفيه تعجيب من قلتهم» 81.

وقال الجصاص: «قوله تعالى: ( ) وهو يعني الشركاء يدل على أن العادة في أكثر الشركاء الظلم والبغي، ويدل عليه أيضًا قوله: ( )»82.

وقال الألوسي: «إن كثيرًا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعضٍ إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات إشارة إلى أن النفوس مجبولة على الظلم وسائر الصفات الذميمة، وإلى أن الذين تزكت أنفسهم قليل جدًا بالنسبة إلى الآخرين» 83.

وقال السعدي: «هذه عادة الخلطاء والقرناء الكثير منهم، فقال: ( )؛ لأن الظلم من صفة النفوس ( ) فإن ما معهم من الإيمان والعمل الصالح يمنعهم من الظلم، ( ) كما قال تعالى: ( ) [سبأ: ١٣]» 84.

خامسًا: بيان عاقبة أهل العدل:

ما أجمل العاقبة الحميدة لأهل العدل! إذ بين المولى إكرامهم وإعزازهم في الدنيا والآخرة، ففي الدنيا لهم التمكين وميراث الكتاب، فقال الله عز وجل: ( ﭩﭪ ﭫﭬ ﭯﭰ ﭴﭵ ) [فاطر: ٣٢].

هذه الآية نص على توريث واصطفاء من فيه نوع ظلم، فمن باب أولى أهل العدل والإحسان، وكما هو مفهوم من جزأي الآية الآخرين.

قال الكرجي القصاب: «بشارة كبيرة لهذه الأمة؛ إذ قد وعدوا على اختلاف أحوالهم من الظلم والقصد والمسابقة معًا بالجنة» 85.

وقال تعالى: ( ) [البقرة: ١٤٣]. فالوسط: العدل86.

قال سيد قطب: «إنها الأمة الوسط التي تشهد على الناس جميعًا، فتقيم بينهم العدل والقسط، وتضع لهم الموازين والقيم تصوراتها وقيمها وموازينها، وهي شهيدة على الناس، وفي مقام الحكم العدل بينهم»87.

وقال ابن عاشور: «الله تعالى جعل هذه الأمة وسطًا، وعلمنا أن الوسط هو الخيار العدل الخارج من بين طرفيه إفراط وتفريط، علمنا أن الله تعالى أكمل عقول هذه الأمة بما تنشأ عليه العقول من الاعتقاد بالعقائد الصحيحة، ومجانبة الأوهام السخيفة التي ساخت فيها عقول الأمة» 88.

وقال تعالى: ( ﭕﭖ ) [الأنعام: ٨٢].

قال محمد رشيد رضا: «لا يخفى أن الأمن في الآية مقصورٌ على الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلمٍ، فإذا حمل العموم فيها على إطلاقه وعدم مراعاة موضوع الإيمان يكون المعنى: الذين آمنوا ولم يخلطوا إيمانهم بظلمٍ ما لأنفسهم -لا في إيمانهم ولا في أعمالهم البدنية والنفسية من دينيةٍ ودنيويةٍ، ولا بغيرهم من المخلوقات من العقلاء والعجماوات- أولئك لهم الأمن من عقاب الله تعالى الديني على ارتكاب المعاصي والمنكرات، وعقابه الدنيوي على عدم مراعاة سننه في ربط الأسباب بالمسببات، كالفقر والأسقام والأمراض، دون غيرهم ممن ظلموا أنفسهم أو غيرهم، فإن الظالمين لا أمان لهم، بل كل ظالمٍ عرضةٌ للعقاب، وإن كان الله تعالى لسعة رحمته لا يعاقب كل ظالمٍ على كل ظلمٍ، بل يعفو عن كثيرٍ من ذنوب الدنيا، ويعذب من يشاء، ويغفر لمن يشاء في الآخرة ما دون الشرك به.

وهذا المعنى في تفسير الآية صحيحٌ في نفسه، ويترتب عليه أن الأمن المطلق من الخوف من عقاب الله الديني والدنيوي أو الشرعي والقدري جميعًا لا يصح لأحدٍ من المكلفين، دع خوف الهيبة والإجلال الذي يمتاز به أهل الكمال، وقد صح إسناد الخوف إلى الملائكة والأنبياء»89.

وحصر المولى عز وجل الفلاح لأهل العدل المقسطين، فقال: ( ﮋﮌ) [الأنعام: ١٣٥].

قال محمد رشيد رضا: «قد تقدم شرح هذا المعنى في تفسير: (ﭑﭒ ﭕﭖﭗﭘ ) [الأنعام: ٨٢].

من هذه السورة، وإذا كان فلاح الظالمين لأنفسهم وللناس بالأولى منتفيًا بشرع الله وسنته العادلة؛ انحصر الفلاح والفوز في أهل الحق والعدل الذين يقومون بحقوق الله وحقوق أنفسهم، ومن يرتبط معهم في شئون الحياة، وهذا لا يكمل إلا لرسل الله وجندهم من المؤمنين الصالحين، ألم تر كيف نصر الله رسوله على الظالمين من قومه أولًا كأكابر مجرمي مكة المستهزئين به؟

ثم على سائر مشركي العرب، ثم نصر أصحابه على أعظم أمم الأرض وأقواها جندًا، وأعظمها ملكًا، وأرقاها نظامًا، كالرومان والفرس؟ ثم نصر من بعدهم من المسلمين من كل أمةٍ وشعبٍ على من ناوأهم وقاتلهم من أهل الشرق والغرب في الحروب الصليبية والفتوح العثمانية وغيرها بقدر حظهم من اتباع ما جاء به من الحق والعدل، فلما ظلموا أنفسهم، وظلموا الناس، وصار حظهم من هداية دينهم نحوًا مما كان من حظ أهل الكتاب قبلهم من هداية رسلهم أو أقل، ولم يعد لهم مزيةٌ ثابتةٌ في هذا السبب المعنوي للنصر والفلاح.

بل انحصر الفوز في الأسباب المادية والفنية، وسائر الأسباب المعنوية، كالصبر والثبات، والعدل والنظام ونرى كثيرًا من الجاهلين بالإسلام يقولون: ما بال المسلمين قد أضاعوا ملكهم إذا كان الله قد وعد بنصرهم؟

وجوابه: أن الله تعالى لم يعد قط بنصر من يسمون مسلمين -كيفما كانت حالهم-، وإنما وعد بنصر من ينصره، ويقيم ما شرعه من الحق والعدل، وبإهلاك الظالمين مهما تكن أسماؤهم وألقابهم، إذا نازعهم البقاء من هم أقرب إلى الحق والعدل أو النظام منهم» 90.

وغير هذه الآيات كثير جدًا، مما توضح الفلاح لأهل العدل، وحسن عاقبتهم في الدنيا والآخرة، سواء كانت صريحة أم ضمنية، كقوله تعالى: (ﭮﭯﭰ ﭷﭸ ) [المائدة: ٣٩].

وقوله تعالى: ( ﮙﮚ) [الأنعام: ٢١].

وقوله تعالى: ( ) [يونس: ٣٩].

مجالات العدل

يدخل العدل في مجالات كثيرة في الحياة، ومن ذلك:

أولًا: مجال الأحكام:

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «وكل عمل يؤمر به فلابد فيه من العدل، فالعدل مأمور به في جميع الأعمال، والظلم منهي عنه نهيًا مطلقًا؛ ولهذا جاءت أفضل الشرائع والمناهج بتحقيق هذا كله وتكميله، فأوجب الله العدل لكل أحد على كل أحد في كل حال» 91.

ومن صور اهتمام الإسلام بالجانب العملي والميدان التطبيقي للعدل المأمور به في حياة الأفراد والجماعات البشرية المنتشرة على وجه البسيطة ما يلي:

اشتراط العدل «العدالة» في الشهادة والشهود92:

قال تعالى: ( ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚﭛ ﭟﭠ ﭨﭩ ﭵﭶ ﭿ ) [البقرة: ٢٨٢].

قال الطبري: «يعني بذلك جل ثناؤه: وليكتب كتاب الدين إلى الأجل المسمى بين الدائن والمدين ( ) يعني: بالحق والإنصاف في كتابه الذي يكتبه بينهما، بما لا يتحيف ذا الحق حقه، ولا يبخسه، ولا يوجب له حجة على من عليه دينه فيه بباطل، ولا يلزمه ما ليس عليه»93.

وقال الماوردي: «وعدل الكاتب ألا يزيد فيه إضرارًا بمن هو عليه، ولا ينقص منه إضرارًا بمن هو له» 94.

وقال الزجاج: «ومعنى: ( ) أي: الذي يقوم بأمره؛ لأن الله أمر ألا نؤتي السفهاء الأموال، وأمر أن يقام لهم بها، فقال: ( ) [النساء: ٥]. فوليه الذي يقوم مقامه في ماله لو كان مميزًا» 95.

وقال تعالى: ( ﭟﭠ ﭨﭩ ﭮﭯ ) [النساء: ١٣٥].

هذه الآية الكريمة تبين أن إنصاف المرء أخاه في النسب أو الدين قد يكون أمرًا معقولًا تقره الطبائع السليمة، والفطر النقية، أما إنصاف العدو، وتبرئة ساحته مع مخالفته لنا في الدين فهذا ما لا يستطيعه إلا من تربى على مائدة الإسلام، وتشبع بروح العدل والإنصاف التي جاء بها القرآن، فهذه الآية تعلمنا أن الميل في العدل بسبب الغضب أو عاطفة القرابة، أو بسبب الخشية من إنسان ما، أو التودد إلى ضعيف يجب أن يبعد تمامًا من دائرة العدل عند مباشرته.

وصمام الأمان في إبعاده تذكر الله، واستحضار جلاله في القوامة على الناس، والحكم فيما بينهم.

قال ابن كثير: «أي: لا يحملنكم بغض قوم على ترك العدل؛ فإن العدل واجب على كل أحد في كل حال. وقد قال بعض السلف: ما عاملت من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه»96.

وقال أبو عبيدة والفراء: «أي: لا يكسبنكم بغض قوم أن تعتدوا الحق إلى الباطل، والعدل إلى الظلم» 97.

وقال تعالى: ( ﯡﯢ ) [المائدة: ٩٥].

قال الطبري: «يقول تعالى ذكره: يحكم بذلك الجزاء الذي هو مثل المقتول من الصيد من النعم عدلان منكم، يعني: فقيهان عالمان من أهل الدين والفضل» 98.

وقال الزجاج: «أي: من أهل ملتكم، فعلى قاتل الصيد أن يسأل فقيهين عدلين عن جزاء ما قتل» 99.

وقال الشعراوي: «هم الذين لا يميلون عن الحق، ويقيمون الميزان، ويأمرنا الحق أن نحكم بالإنصاف؛ لنكون من ذوي العدل، أي: أن الإنسان حين يواجه خصمين، فهو يعطي نصفه لخصم، ونصفه الآخر للخصم الثاني، فلا يميل بالهوى ناحية أحدهما، ولا يدير الإنسان وجهه إلى الخصم أكثر مما يديره للآخر.

وإن سأل أحد: كيف نأتي بذوي العدل؟ ونقول: انظر إلى عدالتهما في نفسيهما، ولنر تصرفات الإنسان، هل هي مستقيمة أو لا؟ وهل هو مسرف أو معتدل سواء في الطعام أو الغضب أو في أي لون من ألوان السلوك؟ ومن كان مأمونًا على نفسه فهو مأمون على غيره» 100.

وقال تعالى: ( ﮉﮊ ﮋﮌ ) [المائدة: ١٠٦].

قال الطبري: «( ) يقول: ذوا رشد وعقل وحجًى من المسلمين» 101.

وقال ابن قتيبة: «رجلان عدلان من المسلمين تشهدونهما على الوصية» 102.

وقال تعالى: ( ) [الطلاق: ٢].

قال الطبري: «هما اللذان يرضى دينهما وأمانتهما» 103.

وقال ابن عطية: «العدل حقيقة الذي لا يخاف إلا الله» 104.

ثانيًا: الحياة الأسرية والاجتماعية:

خص المولى عز وجل هذا الجانب باهتمام بالغ؛ فذكر آيات كثيرة في غاية الوضوح تؤسس الأسرة على أسس العدل والحق؛ لأن الأسرة نواة المجتمع، فإذا صلحت، صلح المجتمع، وإذا فسدت فلا سبيل لصلاح المجتمع، ومن هذه الآيات:

قوله تعالى: ( ﮅﮆ ﮋﮌ ﮍﮎ ﮒﮓ ﮜﮝ ) [النساء: ٣].

قال ابن قتيبة: «أي: فإن علمتم أنكم لا تعدلون بين اليتامى يقال: أقسط الرجل: إذا عدل ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (المقسطون في الدنيا على منابر من لؤلؤ يوم القيامة)105.

ويقال: قسط الرجل: إذا جار بغير ألف، ومنه قول الله: ( ) [الجن: ١٥]» 106.

وقال الطبري: «اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: معنى ذلك: وإن خفتم يا معشر أولياء اليتامى أن لا تقسطوا في صداقهن فتعدلوا فيه، وتبلغوا بصداقهن صدقات أمثالهن؛ فلا تنكحوهن، ولكن انكحوا غيرهن من الغرائب اللواتي أحلهن الله لكم وطيبهن، من واحدة إلى أربع، وإن خفتم أن تجوروا -إذا نكحتم من الغرائب أكثر من واحدة- فلا تعدلوا فانكحوا منهن واحدة، أو ما ملكت أيمانكم.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: النهي عن نكاح ما فوق الأربع حذارًا على أموال اليتامى أن يتلفها أولياؤهم؛ وذلك أن قريشًا كان الرجل منهم يتزوج العشر من النساء والأكثر والأقل، فإذا صار معدمًا؛ مال على مال يتيمه الذي في حجره فأنفقه، أو تزوج به، فنهوا عن ذلك، وقيل لهم: إن أنتم خفتم على أموال أيتامكم أن تنفقوها؛ فلا تعدلوا فيها من أجل حاجتكم إليها لما يلزمكم من مؤن نسائكم، فلا تجاوزوا فيما تنكحون من عدد النساء على أربعٍ، وإن خفتم أيضًا من الأربع أن لا تعدلوا في أموالهم؛ فاقتصروا على الواحدة، أو على ما ملكت أيمانكم 107.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: أن القوم كانوا يتحوبون في أموال اليتامى أن لا يعدلوا فيها، ولا يتحوبون في النساء أن لا يعدلوا فيهن، فقيل لهم: كما خفتم أن لا تعدلوا في اليتامى؛ فكذلك فخافوا في النساء أن لا تعدلوا فيهن، ولا تنكحوا منهن إلا من واحدة إلى الأربع، ولا تزيدوا على ذلك، وإن خفتم أن لا تعدلوا أيضًا في الزيادة على الواحدة؛ فلا تنكحوا إلا ما لا تخافون أن تجوروا فيهن من واحدة، أو ما ملكت أيمانكم.

وقال آخرون: معنى ذلك: فكما خفتم في اليتامى؛ فكذلك فتخوفوا في النساء أن تزنوا بهن، ولكن انكحوا ما طاب لكم من النساء.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى، اللاتي أنتم ولاتهنفلا تنكحوهن، وانكحوا أنتم ما حل لكم منهن.

قال أبو جعفر: وأولى الأقوال التي ذكرناها في ذلك بتأويل الآية قول من قال: تأويلها: وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فكذلك فخافوا في النساء فلا تنكحوا منهن إلا ما لا تخافون أن تجوروا فيه منهن، من واحدة إلى الأربع، فإن خفتم الجور في الواحدة أيضًا فلا تنكحوها، ولكن عليكم بما ملكت أيمانكم؛ فإنه أحرى أن لا تجوروا عليهن.

وإنما قلنا: إن ذلك أولى بتأويل الآية؛ لأن الله جل ثناؤه افتتح الآية التي قبلها بالنهي عن أكل أموال اليتامى بغير حقها وخلطها بغيرها من الأموال، فقال تعالى ذكره: ( ﭲﭳ ﭷﭸ ﭽﭾ ﭿ ) [النساء: ٢].

ثم أعلمهم أنهم إن اتقوا الله في ذلك فتحرجوا فيه، فالواجب عليهم من اتقاء الله، والتحرج في أمر النساء مثل الذي عليهم من التحرج في أمر اليتامى، وأعلمهم كيف التخلص لهم من الجور فيهن، كما عرفهم المخلص من الجور في أموال اليتامى، فقال: انكحوا إن أمنتم الجور في النساء على أنفسكم ما أبحت لكم منهن وحللته، مثنى وثلاث ورباع، فإن خفتم أيضًا الجور على أنفسكم في أمر الواحدة، بأن لا تقدروا على إنصافها فلا تنكحوها، ولكن تسروا من المماليك؛ فإنكم أحرى أن لا تجوروا عليهن؛ لأنهن أملاككم وأموالكم، ولا يلزمكم لهن من الحقوق كالذي يلزمكم للحرائر، فيكون ذلك أقرب لكم إلى السلامة من الإثم والجور.

ففي الكلام -إذ كان المعنى ما قلنا- متروك، استغنى بدلالة ما ظهر من الكلام عن ذكره؛ وذلك أن معنى الكلام: وإن خفتم أن لا تقسطوا في أموال اليتامى فتعدلوا فيها، فكذلك فخافوا أن لا تقسطوا في حقوق النساء التي أوجبها الله عليكم، فلا تتزوجوا منهن إلا ما أمنتم معه الجور مثنى وثلاث ورباع، وإن خفتم أيضًا في ذلك فواحدة، وإن خفتم في الواحدة فما ملكت أيمانكم، فترك ذكر قوله: فكذلك فخافوا أن لا تقسطوا في حقوق النساء بدلالة ما ظهر من قوله تعالى: ( ) » 108.

وقوله تعالى: ( ﮦﮧ ) [النساء: ٤].

في هذه الآية الكريمة نهي عن مظلمة تقع على المرأة حين يؤكل صداقها من أقاربها، ولا تعطى إياه، وهو حق لها خالص لا سبيل لوالد ولا لأخ عليه.

وقوله تعالى: ( ﮋﮌ ﮎﮏ ) [النساء: ١٠].

قال البغوي: «( ) أي: حرامًا بغير حقٍ ( ﮋﮌ ) أخبر عن مآله، أي: عاقبته تكون كذلك» 109.

وقوله تعالى: ( ﭪ ﭫ ﭯﭰ ﭶﭷ ) [النساء: ٣٤].

قال محمد رشيد رضا: «معنى: ( ) لا تطلبوا طريقًا للوصول إلى إيذائهن بالقول أو الفعل، فالبغي بمعنى الطلب، ويجوز أن يكون بمعنى تجاوز الحد في الاعتداء، أي: فلا تظلموهن بطريقٍ ما، فمتى استقام لكم الظاهر فلا تبحثوا عن مطاوي السرائر ( ) فإن سلطانه عليكم فوق سلطانكم على نسائكم، فإذا بغيتم عليهن عاقبكم، وإذا تجاوزتم عن هفواتهن كرمًا وشممًا تجاوز عنكم.

قال الأستاذ110: أتى بهذا بعد النهي عن البغي؛ لأن الرجل إنما يبغي على المرأة بما يحسه في نفسه من الاستعلاء عليها، وكونه أكبر منها وأقدر، فذكره تعالى بعلوه وكبريائه وقدرته عليه؛ ليتعظ ويخشع، ويتقي الله فيها، واعلموا أن الرجال الذين يحاولون بظلم النساء أن يكونوا سادةً في بيوتهم إنما يلدون عبيدًا لغيرهم، يعني: أن أولادهم يتربون على ذل الظلم، فيكونون كالعبيد الأذلاء لمن يحتاجون إلى المعيشة معهم»111.

وقوله تعالى: (ﮱﯓ ﯔﯕ ﯤﯥ ﯦﯧ ﯨﯩ ﯫﯬﯭﯮ ﯱﯲ ) [النساء: ١٢٧].

عن عائشة رضي الله عنها في قول الله تعالى: (ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ) قالت: «هذا في اليتيمة التي تكون عند الرجل لعلها أن تكون شريكته في ماله وهو أولى بها، فيرغب عنها أن ينكحها فيعضلها لمالها ولا ينكحها غيره؛ كراهية أن يشركه أحد في مالها» 112.

وقوله تعالى: (ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁﮂ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ) [النساء ١٢٩].

قال الشنقيطي: «قوله تعالى: ( ) الآية [النساء: ٣].

هذه الآية الكريمة تدل على أن العدل بين الزوجات ممكنٌ، وقد جاء في آيةٍ أخرى ما يدل على أنه غير ممكنٍ، وهو قوله تعالى: ( ) [النساء: ١٢٩].

والجواب عن هذا: أن العدل بينهن الذي ذكر الله أنه ممكنٌ هو العدل في توفية الحقوق الشرعية، والعدل الذي ذكر أنه غير ممكنٍ هو المساواة في المحبة والميل الطبيعي؛ لأن هذا انفعالٌ لا فعلٌ، فليس تحت قدرة البشر، والمقصود أن من كان أميل بالطبع إلى إحدى الزوجات فليتق الله وليعدل في الحقوق الشرعية، كما يدل عليه قوله: (ﭻﭼﭽ )» 113.

وقوله تعالى: ( ) [الأحزاب: ٥]. () أي: أعدل114.

قال الطبري: «دعاؤكم إياهم لآبائهم هو أعدل عند الله، وأصدق وأصوب من دعائكم إياهم لغير آبائهم ونسبتكموهم إلى من تبناهم، وادعاهم وليسوا له بنين» 115.

وقال سيد قطب: «وإنه لقسط وعدل أن يدعى الولد لأبيه، عدلٌ للوالد الذي نشأ هذا الولد من بضعة منه حية، وعدلٌ للولد الذي يحمل اسم أبيه، ويرثه ويورثه، ويتعاون معه، ويكون امتدادًا له بوراثاته الكامنة، وتمثيله لخصائصه، وخصائص آبائه وأجداده، وعدلٌ للحق في ذاته الذي يضع كل شيء في مكانه، ويقيم كل علاقة على أصلها الفطري، ولا يضيع مزية على والد ولا ولد، كما أنه لا يحمل غير الوالد الحقيقي تبعة البنوة، ولا يعطيه مزاياها، ولا يحمل غير الولد الحقيقي تبعة البنوة ولا يحابيه بخيراتها! وهذا هو النظام الذي يجعل التبعات في الأسرة متوازنة، ويقيم الأسرة على أساس ثابت دقيق مستمد من الواقع، وهو في الوقت ذاته يقيم بناء المجتمع على قاعدة حقيقية قوية بما فيها من الحق ومن مطابقة الواقع الفطري العميق.

وكل نظام يتجاهل حقيقة الأسرة الطبيعية هو نظام فاشل ضعيف، مزور الأسس، لا يمكن أن يعيش! ونظرًا للفوضى في علاقات الأسرة في الجاهلية، والفوضى الجنسية كذلك التي تخلف عنها أن تختلط الأنساب، وأن يجهل الآباء في بعض الأحيان، فقد يسر الإسلام الأمر -وهو بصدد إعادة تنظيم الأسرة، وإقامة النظام الاجتماعي على أساسها-؛ فقرر في حالة عدم الاهتداء إلى معرفة الآباء الحقيقيين مكانًا للأدعياء في الجماعة الإسلامية، قائمًا على الأخوة في الدين، والموالاة فيه» 116.

وقال الطاهر بن عاشور: «وضمير ( ) عائدٌ إلى المصدر المفهوم من فعل ( ) أي: الدعاء للآباء، وجملة: ( ) استئنافٌ بيانيٌ، كأن سائلًا قال: لماذا لا ندعوهم للذين تبنوهم؟ فأجيب ببيان أن ذلك القسط، فاسم التفضيل مسلوب المفاضلة، أي: هو قسطٌ كاملٌ، وغيره جورٌ على الآباء الحق والأدعياء؛ لأن فيه إضاعة أنسابهم الحق.

والغرض من هذا الاستئناف تقرير ما دل عليه قوله: ( ﮉ ﮊﮋ ﮌ ﮍ ﮎﮏ ﮓ ﮔ ﮕ) [الأحزاب: ٤]؛ لتعلم عناية الله تعالى بإبطال أحكام الجاهلية في التبني، ولتطمئن نفوس المسلمين من المتبنين والأدعياء ومن يتعلق بهم بقبول هذا التشريع الذي يشق عليهم إذ ينزع منهم إلفًا ألفوه» 117.

وقال الشعراوي: «المعنى: إن كنتم جعلتم من العدل والمحبة أن تكفلوا هؤلاء الأولاد، وأن تنسبوهم إليكم، فهذا عدل بشريٌ، لكن حكم الله أعدل وأقسط، وشرفٌ لرسول الله أن يرد الله حكمه إلى حكم ربه، وشرفٌ لرسول الله أن يكون له الأصل في المسألة، وأنه يحكم، فيرد الله حكمه إلى حكمه، فهذا تكريم لرسول الله.

فقوله تعالى: ( ﮚﮛﮜ) يعني: أن فعل محمد كان قسطًا وعدلًا بقانون البشر، وقد جاء محمد ليغير قوانين البشر بقوانين رب البشر، وبهذا خرج سيدنا رسول الله من هذا المأزق» 118.

ثالثًا: العقوبات والقصاص:

قال تعالى: ( ﮋﮌ ﮐﮑ ﮗﮘ ﮠﮡ ﮣﮤ ﮥﮦﮧﮨﮩﮪ ﮫﮬ ﯛﯜ) [البقرة: ١٧٨-١٧٩].

قال ابن كثير: «يقول الله تعالى: كتب عليكم العدل في القصاص أيها المؤمنون، حركم بحركم، وعبدكم بعبدكم، وأنثاكم بأنثاكم، ولا تتجاوزوا وتعتدوا كما اعتدى من قبلكم، وغيروا حكم الله فيهم.

فأمر الله بالعدل في القصاص، ولا يتبع سبيل المفسدين المحرفين المخالفين لأحكام الله فيهم كفرًا وبغيًا» 119.

وقال تعالى: (ﯯﯰﯱ ﯶﯷ ) [البقرة: ١٩٠].

قال السعدي: «النهي عن الاعتداء يشمل أنواع الاعتداء كلها، من قتل من لا يقاتل من النساء والمجانين والأطفال والرهبان ونحوهم والتمثيل بالقتلى، وقتل الحيوانات، وقطع الأشجار ونحوها لغير مصلحة تعود للمسلمين»120.

وقال تعالى: ( ﮋ ﮌ ﮍﮎ ﮏ ﮐ ﮖ ﮗ ) [البقرة: ١٩٤].

(ﮋﮌ) أي: متساوية121.

وقال تعالى: ( ) [المائدة: ٤٥].

قال القاسمي: «حكم الله سبحانه وتعالى في دماء المسلمين أنها كلها سواء، خلاف ما عليه أهل الجاهلية»122.

رابعًا: العدل بين الجنسين:

جعل الإسلام المرأة عضوًا في المجتمع الإسلامي مساويًا للرجل، ففي آيات كثيرة نجد النساء يذكرن إلى جانب الرجال، ويخاطبن كما يخاطبون.

وقد حل الإسلام بهذه المساواة مشكلة الطبقات في المجتمع الإنساني التي قامت على أسس توجب لظلم.

قال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭡ ﭢ ﭹﭺ ) [آل عمران: ١٩٥].

وقال تعالى: (ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ) [النساء: ١٢٤].

وقال تعالى: (ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮢﮣ ﮦﮧ ﮪ ﮫ ﮬ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯝ ﯞ ﯢ ﯣ ) [التوبة: ٧١-٧٢].

وقال تعالى: (ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ) [النحل: ٩٧].

وقال تعالى: ( ﭢ ﭣ ﭰ ﭱ ) [النور: ٢].

وقال تعالى: (ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮨ ﮩ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ) [الأحزاب: ٣٥].

وقال تعالى: ( ﮒﮓ ) [الأحزاب: ٥٨].

وقال تعالى: ( ﯬﯭ ) [غافر: ٤٠].

وقال تعالى: ( ) [محمد: ١٩].

قال محمد رشيد رضا: «المقصد التاسع من فقه القرآن: إعطاء النساء جميع الحقوق الإنسانية والدينية والمدنية.

كان النساء قبل الإسلام مظلوماتٍ ممتهناتٍ مستعبداتٍ عند جميع الأمم وفي جميع شرائعها وقوانينها، حتى عند أهل الكتاب، حتى جاء الإسلام، وأكمل الله دينه ببعثة خاتم النبيين محمدٍ عليه أفضل الصلاة والسلام، فأعطى الله النساء بكتابه الذي أنزله عليه، وبسننه التي بين بها كتاب الله تعالى بالقول والعمل، جميع الحقوق التي أعطاها للرجال، إلا ما يقتضيه اختلاف طبيعة المرأة ووظائفها النسوية من الأحكام، مع مراعاة تكريمها والرحمة بها والعطف عليها.

قد أبطل الإسلام كل ما كان عليه العرب والعجم من حرمان النساء من التملك، أو التضييق عليهن في التصرف بما يملكن، واستبداد أزواج المتزوجات منهن بأموالهن، فأثبت لهن حق الملك بأنواعه والتصرف بأنواعه المشروعة، فشرع الوصية والإرث لهن كالرجال، وزادهن ما فرض لهن على الرجال من مهر الزوجية والنفقة على المرأة وأولادها وإن كانت غنيةً، وأعطاهن حق البيع والشراء والإجارة والهبة والصدقة وغير ذلك.

ويتبع ذلك حقوق الدفاع عن مالها كالدفاع عن نفسها بالتقاضي وغيره من الأعمال، وأن المرأة الفرنسية لا تزال إلى اليوم مقيدةٌ بإرادة زوجها في جميع التصرفات المالية، والعقود القضائية.

وجملة القول: أنه ما وجد دينٌ ولا شرعٌ ولا قانونٌ في أمةٍ من الأمم أعطى النساء ما أعطاهن الإسلام من الحقوق والعناية والكرامة، أفليس هذا كله من دلائل كونه من وحي الله العليم الحكيم الرحيم لمحمدٍ النبي الأمي المبعوث في الأميين؟ بلى، وأنا عن ذلك من الشاهدين المبرهنين، والحمد لله رب العالمين» 123.

خامسًا: العدل بين المؤمنين والكافرين:

قال ابن القيم: «فصل: النوع الثاني عشر124: إنكاره سبحانه أن يسوى بين المختلفين، أو يفرق بين المتماثلين، وأن حكمته وعدله يأبى ذلك، أما الأول فكقوله: ( ) [القلم: ٣٥- ٣٦].

فأخبر أن هذا حكم باطل جائر يستحيل نسبته إليه، كما يستحيل نسبة الفقر والحاجة والظلم إليه، ومنكرو الحكمة والتعليل يجوزون نسبة ذلك إليه، بل يقولون بوقوعه؟

وقال تعالى: (ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭪﭫﭬﭭ )[ص: ٢٨].

وقال: ( ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮﯯ ﯰ ﯱ ) [الجاثية: ٢١].

فجعل سبحانه ذلك حكمًا سيئًا يتعالى ويتقدس عن أن يجوز عليه» 125.

وقال محمد رشيد رضا: «تدل آياتٌ على الحساب والجزاء العام بالقسط على حسب تأثير الأعمال في النفوس، فمن دسى نفسه وأبسلها، لا يمكن أن يكون عند الله كمن زكى نفسه وأسلمها، ولا يمكن أن يقول عاقلٌ: إن نفوس من لم تبلغهم الدعوة الصحيحة تكون سواءً مهما اختلفت عقائدهم وأخلاقهم وأعمالهم، فإن هذا مخالفٌ لحكم العقل وإدراك الحس، إذ لم توجد ولا توجد أمةٌ إلا وفيها الصالحون والطالحون، والأبرار والفجار، والذين يؤثرون ما يرونه من الهدى على داعية الشهوة والهوى والعكس، فهل يكون الفريقان عند الحكم العدل سواءً؟ (ﮝﮞﮟﮠﮡ)[المائدة: ١٠٠].

(ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ) [هود: ٢٤]»126.

وقال كذلك: ( ) [آل عمران:١٨٢] أي: ذلك العذاب إنما يصيبكم بعملكم، وبكونه تعالى عادلًا في حكمه وفعله لا يجور ولا يظلم، فيعاقب غير المستحق للعقاب، ولا يجعل المجرمين كالمتقين، والكافرين كالمؤمنين، فلو كان سبحانه ظلامًا لجاز ألا يذوقوا ذلك العذاب على كفرهم به، واستهزائهم بآياته، وقتلهم لأنبيائه بأن يجعلوا مع المقربين في جنات النعيم؛ وإذًا لكان الدين عبثًا (ﭤﭥﭦ ﭧﭨ ﭪﭫﭬﭭﭮ ) [ص: ٢٨].

(ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯭ ﯮﯯ ) [الجاثية: ٢١].

( ) [القلم: ٣٥-٣٦].

فالاستفهام الإنكاري في هذه الآيات يدل على أن ترك تعذيب أولئك الكفرة الفجرة هو من المساواة بين المحسن والمسيء، ووضع الشيء في غير موضعه، وناهيك به ظلمًا كبيرًا» 127.

وقال الشنقيطي: «نفى الله سبحانه عن حكمه وحكمته التسوية بين المختلفين في الحكم، فقال تعالى: ( ) [القلم: ٣٥-٣٦].

وأخبر أن هذا حكمٌ باطلٌ في الفطر والعقول، لا تليق نسبته إليه سبحانه، وقال تعالى: (ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ) [الجاثية: ٢١].

وقال تعالى: (ﭤﭥﭦﭧ ﭪﭫ ) [ص: ٢٨].

أفلا تراه كيف ذكر العقول، ونبه الفطر بما أودع فيها من إعطاء النظير حكم نظيره، وعدم التسوية بين الشيء ومخالفه في الحكم»128.

وقال تعالى: ( ﭔ ﭕ ﭗﭘﭙ ) [فاطر: ١٩- ٢٢].

وقال تعالى: ( ﭿ ﮂ ﮃ ) [الحشر: ٢٠].

ومثل هذه الآيات كثير، كما هو معلوم، ومذكور في كتب الوجوه والنظائر129.

سادسًا: عدل بين المؤمنين وتفاضلهم في الدرجات:

قال تعالى: ( ﯻ ﯼ ﯿ ﰅﰆ ﰊ ﰋ ) [الحديد: ١٠].

أي: لا يكونون سواء.

قال ابن العربي: «من سبق أكرم عند الله مرتبةً، وأوفى أجرًا، ولو لم يكن للسابق من الفضل إلا اقتداء التالي به، واهتداؤه بهديه، فيكون له ثواب عمله في نفسه، ومثل ثواب من اتبعه مقتديًا به؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من سن سنةً حسنةً في الإسلام كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا)»130.

وقال كذلك: «نفى الله سبحانه المساواة بين من أنفق من قبل فتح مكة وبين من أنفق بعد ذلك؛ لأن حاجة الناس كانت قبل الفتح أكثر لضعف الإسلام، وفعل ذلك كان على المنافقين أشق، والأجر على قدر النصب، إذا ثبت انتفاء المساواة بين الخلق وقع التفضيل بين الناس بالحكمة والحكم؛ فإن التقدم والتأخر يكون في الدين، ويكون في أحكام الدنيا» 131.

وقال ابن عثيمين: «( ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ) دين الإسلام دين العدل في العمل والجزاء، وانتبه دين العدل في العمل والجزاء، وليس كما يقول المحدثون: «إنه دين المساواة» هذا غلط عظيم، لكن يتوصل به أهل الآراء والأفكار الفاسدة إلى مقاصد ذميمة، حتى يقول: المرأة والرجل، والمؤمن والكافر سواء، ولا فرق، وسبحان الله! إنك لن تجد في القرآن كلمة المساواة بين الناس، بل لابد من فرق، بل أكثر ما في القرآن نفي المساواة ( ) [الزمر: ٩]. وآيات كثيرة».

وقال أيضًا: «( ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ) وذلك لأن الأولين أنفقوا وقاتلوا وسبقوا إلى الإسلام، وكان الإسلام في حاجة لهم ولإنفاقهم؛ فكانوا أفضل ممن أنفق من بعد وقاتل، والله سبحانه وتعالى يجزي بالعدل بين عباده، ولكن لما كان تفضيل السابقين قد يفهم منه أن لا فضل للاحقين قال: ( ) أي: كلٌ من الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا، والذين أنفقوا من بعد وقاتلوا، وعدهم الله الحسنى يعني: الجنة» 132.

وقال تعالى: (ﭑﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭧ ﭨ ﭬ ﭭ ) [النساء: ٩٥].

وقال تعالى: ( ﮓﮔ ) [الأنعام: ١٦٠].

وقال تعالى: ( ﮋﮌ ) [فصلت: ٣٤].

سابعًا: العدل في عدم تحمل أحد وزر غيره:

قال الجصاص: «قوله تعالى: (ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ) [البقرة: ٢٨٦].

هو مثل قوله تعالى: ( ) [الأنعام: ١٦٤].

وقوله: ( ) [النجم: ٣٩-٤٠].

وفيه الدلالة على أن كل واحد من المكلفين فأحكام أفعاله متعلقةٌ به دون غيره، وأن أحدًا لا يجوز تصرفه على غيره، ولا يؤاخذ بجريرة سواه، فهذا هو العدل الذي لا يجوز في العقول غيره» 133.

وقال تعالى: ( ﯹﯺ ) [الأنعام: ١٦٤].

قال ابن العربي: « المعنى لا تحمل نفسٌ مذنبةٌ عقوبة الأخرى؛ وإنما تؤخذ كل نفسٍ منهم بجريرتها التي اكتسبتها، كما قال تعالى: ( ) [البقرة: ٢٨٦]»134.

وقال تعالى: (ﯴﯵﯶﯷﯸﯹ ﯻﯼ ﯾﯿ ) [البقرة: ١٣٤، ١٤١].

تكررت هذه الآية الكريمة في موطنين من كتاب الله؛ ولهذا التكرار سر جمال، يوضحه لنا محمد رشيد رضا، فيقول: «(ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸﯹ ﯻ ﯼ ﯾ ﯿ ) وإنما تسئلون عن أعمالكم، وتجازون عليها، فلا ينفعكم ولا يضركم سواها، وهذه قاعدةٌ يثبتها كل دينٍ قويمٍ، وكل عقلٍ سليمٍ، ولكن قاعدة الوثنية القاضية باعتماد الناس في طلب سعادة الآخرة، وبعض مصالح الدنيا على كرامات الصالحين تغلب مع الجهل كل دينٍ وكل عقلٍ، ومع الجهل التقليد المانع من النظر في الأدلة العقلية والدينية جميعًا، اللهم إلا مكابرة الحس والعقل، وتأويل نصوص الشرع، تطبيقًا لهما على ما يقول المقلَدون المتبَعون.

وقد أول المؤولون نصوص أديانهم تقريرًا لاتباع رؤسائهم والاعتماد على جاههم في الآخرة؛ لذلك جاء القرآن يبالغ في تقرير قاعدة ارتباط السعادة بالعمل والكسب وتبيينها، ونفي الانتفاع بالأنبياء والصالحين لمن لم يتأس بهم في العمل الصالح؛ ولذلك أعاد هذه الآية بنصها في مقام محاجة أهل الكتاب المفتخرين بسلفهم من الأنبياء العظام، المعتمدين على شفاعتهم وجاههم، وإن قصروا عن غيرهم في الأعمال.

وفائدة الإعادة تأكيد تقرير قاعدة بناء السعادة على العمل دون الآباء والشفعاء، بحيث لا يطمع في تأويل القول طامعٌ، والإشعار بمعنًى يعطيه السياق هنا وهو: أن أعمال هؤلاء المجادلين المشاغبين من أهل الكتاب مخالفةٌ لأعمال سلفهم من الأنبياء، فهم في الحقيقة على غير دينهم» 135.

وقال كذلك: «القاعدة الحادية والثلاثون136: أن عمل كل إنسانٍ له أو عليه لا يجزى إلا به، ولا يجزى به سواه، فلا ينفعه عمل غيره ولا يضره؛ وذلك قوله تعالى في خاتمة هذه السورة: (ﯞﯟ ﯠﯡﯢﯣ) [البقرة: ٢٨٦]» 137.

وقال تعالى: ( ﯫﯬ ) [الأحقاف: ١٩].

وقال تعالى: ( ﭺﭻ ﭿ ﮃﮄ ﮋﮌ ) [الطلاق: ٧].

ولا تتعارض هذه الآيات وأمثالها مع قوله تعالى: ( ) [الأنفال: ٢٥].

فجواب ذلك: أن الناس إذا تظاهروا بالمنكر فمن الفرض على كل من رآه أن يغيره، فإذا سكت عنه؛ فكلهم عاصٍ، هذا بفعله، وهذا برضاه به.

وقد جعل الله في حكمه وحكمته الراضي بمنزلة العامل؛ فانتظم الذنب بالعقوبة، ولم يتعد موضعه138.

ثامنًا: العدل في القول:

قال تعالى: ( ﭠﭡﭢ ﭣﭤ ﭦﭧ ﭮﭯ ﭲﭳ ) [الأنعام: ١٥٢].

في هذه الآية يحذر المولى عز وجل النفوس الضعيفة التي تطبق ميزان العدل، وتشهد بالحق على الآخرين، وإذا كانت القضية تمسهم أو تمس أقاربهم؛ فسرعان ما يميلون عن العدل، ويزيغون عن الحق.

قال ابن كثير: «يأمر الله تعالى بإقامة العدل في الأخذ والإعطاء، كما توعد على تركه في قوله تعالى: ( ) [المطففين: ١]» 139.

تاسعًا: العدل مع الخصوم:

قال تعالى: ( ) [البقرة: ١٩٤].

قال الراغب الأصفهاني: «قد يوجد في الاعتداء ما ليس بفساد، وهو مقابلة المعتدي بفعله، نحو: ( ) وهذا الاعتداء ليس بإفساد، بل هو بالإضافة إلى ما قوبل به عدل، فلولا كونه جزاءً لكان إفسادًا» 140.

قال ابن كثير: «قوله: ( ) أمر بالعدل حتى في المشركين» 141.

وقال سيد قطب: «ويسمى دفع الظالمين ومناجزتهم عدوانًا، من باب المشاكلة اللفظية، وإلا فهو العدل والقسط، ودفع العدوان عن المظلومين» 142.

وقال الشعراوي: «ولكسر حدة الغل أباح لك الحق سبحانه وتعالى أن تعتدي على من اعتدى عليك بمثل ما اعتدى؛ لأنه سبحانه وتعالى لا يريد لك أن تظل في حالة غليان بالغضب أو القهر بما يمنعك من العمل، بل يريد الحق سبحانه أن تتوجه بطاقاتك إلى أداء عملك.

ولذلك لا يلزمك الحق سبحانه إلا بحكم العدل، فيقول عز وجل: ( )» 143.

وقال كذلك: «ويثور سؤال: من القادر على تحقيق المثلية بعدالة؟ ونجد على سبيل المثال إنسانًا ضرب إنسانًا آخر صفعة على الوجه، فبأية قوة دفعٍ قد ضرب؟ وفي أي مكان ضرب؟ ولذلك نجد أن رد العدوان على درجة المثلية المتساوية أمر صعب، وما دام المأمور به: أن أعتدي بمثل ما اعتدي به علي؛ ولن أستطيع تحقيق المثلية، ولربما زاد الأمر على المثلية؛ وبعد أن كنت المعتدى عليه صرت المعتدي؛ بذلك يكون العفو أقرب وأسلم» 144.

وقال الكرماني: «سمى الثانية اعتداءً للمزاوجة ولها نظائرها، منها: ( ) [البقرة: ١٥].

( ) [الشورى: ٤٠].

(ﭛﭜ ) [آل عمران: ٥٤]»145.

وقال تعالى: ( ﭩﭪ ) [المائدة: ٤٢].

() أي: بالعدل146.

وقال البيضاوي: «أي بالعدل الذي أمر الله به ( ) فيحفظهم، ويعظم شأنهم» 147.

وقال ابن كثير: «أي: بالحق والعدل، وإن كانوا ظلمةً خارجين عن طريق العدل» 148.

وقال تعالى: (ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ) [النحل: ١٢٦].

قال البيضاوي: «لما أمره بالدعوة وبين له طرقها، أشار إليه وإلى من يتابعه بترك المخالفة، ومراعاة العدل مع من يناصبهم؛ فإن الدعوة لا تنفك عنه، من حيث إنها تتضمن رفض العادات، وترك الشهوات، والقدح في دين الأسلاف، والحكم عليهم بالكفر والضلال» 149.

وقال أبو السعود: «أي: بمثل ما فعل بكم، وقد عبر عنه بالعقاب على طريقة إطلاق اسم المسبب على السبب، نحو: كما تدين تدان، أو على نهج المشاكلة، والمقصود إيجاب مراعاة العدل مع من يناصبهم من غير تجاوزٍ» 150.

وقال الطاهر بن عاشور: «والأمر في قوله: () للوجوب باعتبار متعلقه، وهو قوله: (ﯤﯥﯦ ) فإن عدم التجاوز في العقوبة واجبٌ.

وفي هذه الآية إيماءٌ إلى أن الله يظهر المسلمين على المشركين، ويجعلهم في قبضتهم، فلعل بعض الذين فتنهم المشركون يبعثه الحنق على الإفراط في العقاب، فهي ناظرةٌ إلى قوله: ( ) [النحل: ١١٠]» 151.

وقال تعالى: ( ﮋ ﮌ ) [الحج: ٦٠].

قال الطبري: «يقول تعالى ذكره للمؤمنين: وإن عاقبتم أيها المؤمنون من ظلمكم واعتدى عليكم، فعاقبوه بمثل الذي نالكم به ظالمكم من العقوبة» 152.

وقال الزجاج: «سمي الأول عقوبةً، وإنما العقوبة الثاني؛ لازدواج الكلام؛ لأن الجنسين في الفعل معنى واحد، ومثله: ( ﮭﮮ) فالثاني ليس بسيئةٍ، ولكنه سمي به؛ ليتفق اللفظ» 153.

ومن أوضح الآيات في الأمر بالعدل مع غير المسلمين:

قوله تعالى: ( ﭿ ﮉﮊ ﮋﮌ ) [الممتحنة: ٨].

قال الطبري: «يقول تعالى ذكره: ( ﭿ ) من أهل مكة ( ) يقول: وتعدلوا فيهم بإحسانكم إليهم، وبركم بهم.

واختلف أهل التأويل في الذين عنوا بهذه الآية، وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: عني بذلك: لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين من جميع أصناف الملل والأديان أن تبروهم وتصلوهم، وتقسطوا إليهم، إن الله عز وجل عم بقوله: ( ﭿ ) جميع من كان ذلك صفته، فلم يخصص به بعضًا دون بعض، ولا معنى لقول من قال: ذلك منسوخ؛ لأن بر المؤمن من أهل الحرب ممن بينه وبينه قرابة نسب، أو ممن لا قرابة بينه وبينه ولا نسب غير محرم ولا منهي عنه إذا لم يكن في ذلك دلالة له، أو لأهل الحرب على عورة لأهل الإسلام، أو تقوية لهم بكراع أو سلاح» 154.

وقال سيد قطب: «إن الإسلام دين سلام، وعقيدة حب، ونظام يستهدف أن يظلل العالم كله بظله، وأن يقيم فيه منهجه، وأن يجمع الناس تحت لواء الله إخوة متعارفين متحابين، وليس هنالك من عائق يحول دون اتجاهه هذا إلا عدوان أعدائه عليه وعلى أهله، فأما إذا سالموهم؛ فليس الإسلام براغب في الخصومة، ولا متطوع بها كذلك! وهو حتى في حالة الخصومة يستبقي أسباب الود في النفوس بنظافة السلوك، وعدالة المعاملة؛ انتظارًا لليوم الذي يقتنع فيه خصومه بأن الخير في أن ينضووا تحت لوائه الرفيع، ولا ييأس الإسلام من هذا اليوم الذي تستقيم فيه النفوس، فتتجه هذا الاتجاه المستقيم» 155.

عاشرًا: عدل في جزاء السيئة بمثلها:

قال تعالى: ( ﮯﮰ ﯗﯘ ) [الشورى: ٤٠].

قال الطبري: «معلومٌ أن الأولى من صاحبها سيئة؛ إذ كانت منه لله تبارك وتعالى معصية، وأن الأخرى عدلٌ؛ لأنها من الله جزاءٌ» 156.

وقال ابن كثير: «قال بعضهم: لما كانت الأقسام ثلاثةً: ظالمٌ لنفسه، ومقتصدٌ، وسابقٌ بالخيرات، ذكر الأقسام الثلاثة في هذه الآية، فذكر المقتصد، وهو الذي يفيض بقدر حقه؛ لقوله: (ﮬﮭﮮﮯ)، ثم ذكر السابق بقوله: ( )، ثم ذكر الظالم بقوله: ( )، فأمر بالعدل، وندب إلى الفضل، ونهى من الظلم» 157.

وقال النخعي: «كانوا يكرهون أن يذلوا أنفسهم؛ فيجترئ عليهم السفهاء، ولكن هذا الانتصار مشروطٌ بالاقتصار على ما جعله الله له، وعدم مجاوزته كما بينه سبحانه عقب هذا بقوله: (ﮬﮭﮮﮯ) فبين سبحانه أن العدل في الانتصار هو الاقتصار على المساواة، وظاهر هذا العموم» 158.

وقال السيوطي: «فيه وجوب العدل في الجزاء، وعدم الاعتداء فيه، قال ابن أبي نجيح والحسن: لو قال: أخزاه الله، فيقول له: أخزاه الله، وقال السدي: إذا شتمك تشتمه من غير أن تتعدى» 159.

وقال تعالى: ( ) [يونس: ٢٧].

وقال تعالى: ( ) [النمل: ٩٠].

وقال تعالى: (ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽﯾ ﯿ ﰀ ﰁﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ) [القصص: ٨٤].

هذا غيض من فيض صريح مجالات إقامة العدل، فكما أن الشرع كله حكمة وخير، فكذلك كله عدل، فيستدل بما ذكر على ما وراءه، فمحال حصر معاني العدل الصريحة في الشريعة، فضلًا عن المستنبطة.

وقال تعالى بعد ذكره جملة من الأحكام: (ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ) [النساء: ٣٠].

أي: ومن يفعل ما حرمته عليه من نكاح من حرمت نكاحه، وتعدى حدوده، وأكل أموال الأيتام ظلمًا، وقتل النفس المحرم قتلها ظلمًا بغير حق، ومن يأكل مال أخيه المسلم ظلمًا بغير طيب نفس منه فسوف نصليه نارًا.

قال ابن كثير: «ينهى الله تبارك وتعالى عباده المؤمنين عن أن يأكلوا أموال بعضهم بعضًا بالباطل، أي: بأنواع المكاسب التي هي غير شرعية كأنواع الربا والقمار، وما جرى مجرى ذلك من سائر صنوف الحيل، وإن ظهرت في غالب الحكم الشرعي مما يعلم الله أن متعاطيها إنما يريد الحيلة على الربا، ومن يتعاطى ما نهاه الله عنه متعديًا فيه، ظالمًا في تعاطيه، أي: عالمًا بتحريمه، متجاسرًا على انتهاكه (ﮈﮉﮊ) الآية، وهذا تهديد شديد، ووعيد أكيد، فليحذر منه كل عاقل لبيب، ممن ألقى السمع وهو شهيد»160.

حادي عشر: الإصلاح بين الناس:

قال البخاري: « باب فضل الإصلاح بين الناس، والعدل بينهم» 161.

وقال ابن القيم: «الصلح الجائز بين المسلمين هو الذي يعتمد فيه رضا الله سبحانه، ورضا الخصمين، فهذا أعدل الصلح وأحقه، وهو يعتمد العلم والعدل، فيكون المصلح عالمًا بالوقائع، عارفًا بالواجب، قاصدًا للعدل، فدرجة هذا أفضل من درجة الصائم القائم» 162.

قال تعالى: ( ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭡﭢ ) [النساء: ١١٤].

قال الألوسي: « إصلاحٍ بين الناس الذي هو من باب العدل» 163.

وقال الجصاص: «قوله عز وجل: ( ) [النساء: ١١٤].

هو نظير قوله تعالى: ( ﮟﮠ ﮭﮮ ) [الحجرات: ٩].

وقوله: ( ﮰﮱﯓﯔ ﯕﯖ ) [الحجرات: ٩].

وقال: ( ﭟ ﭠ ) [النساء: ١٢٨].

وقال تعالى: ( ﮋ ﮌ ) [النساء: ٣٥]» 164.

وما ينطبق على الأفراد فيما يتعلق بالتناصر والإصلاح ينطبق أيضًا على الدول التي تدين بالإسلام، فإذا ظلمت دولة وجدت من الدول كافة ما يقدم لها العون والمساعدة؛ حتى يتحقق لها النصر على البغاة والظالمين، وإذا كان الباغي مسلمًا فعليه أن يتيقن أن ردعه عن ظلمه ما هو إلا نصرة له، وقيام بتنفيذ أمر الله؛ حتى يفيء إلى الحق والعدل.

فالتناصر صفة المسلمين -أفرادًا وجماعات ودولًا-، أما أن ينكفئ كل فرد، أو كل دولة على شأنه الخاص؛ فإن ذلك كفيل بتعرض الجميع للضياع، ولن يفيد في هذه الحالة أن يتصف هذا أو ذاك بالإسلام؛ لأن الإسلام الحقيقي يقتضي تنفيذ ما أمر الله به؛ ومن ذلك تحقيق التناصر والإصلاح فيما بين المسلمين بعضهم وبعض من ناحية، وفيما بينهم وبين ربهم من ناحية أخرى.

وقال تعالى: (ﮙﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮭ ﮮ ﯕ ﯖ ) [الحجرات: ٩].

فهذه الآية الكريمة تبين أن الأخذ بيد المظلوم، والضرب على يد الظالم يؤدي إلى نجاة المجتمع بأسره، ووصوله إلى بر الأمان.

قال العلماء: «لا تخلو الفئتان من المسلمين في اقتتالهما إما أن يقتتلا على سبيل البغي منهما جميعًا أو لا، فإن كان الأول؛ فالواجب في ذلك أن يمشى بينهما بما يصلح ذات البين، ويثمر المكافة والموادعة، فإن لم يتحاجزا، ولم يصطلحا، وأقامتا على البغي؛ صير إلى مقاتلتهما، وأما إن كان الثاني وهو أن تكون إحداهما باغية على الأخرى؛ فالواجب أن تقاتل فئة البغي إلى أن تكف وتتوب، فإن فعلت أصلح بينها وبين المبغي عليها بالقسط والعدل، فإن التحم القتال بينهما لشبهة دخلت عليهما، وكلتاهما عند أنفسهما محقة؛ فالواجب إزالة الشبهة بالحجة النيرة، والبراهين القاطعة على مراشد الحق، فإن ركبتا متن اللجاج، ولم تعملا على شاكلة ما هديتا إليه، ونصحتا به من اتباع الحق بعد وضوحه لهما، فقد لحقتا بالفئتين الباغيتين» 165.

ثاني عشر: العدل في القضاء:

إن دور الأمة الإسلامية أن تكون الوصية على البشرية تقيم العدل في الأرض غير متأثرة بمودة أو شنآن، وغير ناظرة في إقامة العدل إلى ما أصابها أو يصيبها من الناس، فهذه هي تكاليف القوامة والوصاية والهيمنة، وغير متأثرة كذلك بانحرافات الآخرين وأهوائهم وشهواتهم، فلا تنحرف فيه شعرة عن منهجها وشريعتها وطريقها القويم لاسترضاء أحد، أو لتأليف قلب، وغير ناظرة إلا إلى الله وتقواه166.

ومن الآيات التي تبين هذا المعنى:

قوله تعالى: ( ) [المائدة: ٢].

قال الطبري: «معنى الكلام: ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا، ولكن ليعن بعضكم بعضًا بالأمر بالانتهاء إلى ما حده الله لكم في القوم الذين صدوكم عن المسجد الحرام وفي غيرهم، والانتهاء عما نهاكم الله أن تأتوا فيهم وفي غيرهم، وفي سائر ما نهاكم عنه، ولا يعن بعضكم بعضًا على خلاف ذلك» 167.

وقال الأخفش: «لا يُحِقَنَّ لكم شنآن قوم أن تعتدوا، أي: لا يحملنكم ذلك على العدوان» 168.

وقال ابن كثير: «معناها ظاهرٌ أي: لا يحملنكم بغض قومٍ قد كانوا صدوكم عن الوصول إلى المسجد الحرام؛ وذلك عام الحديبية، على أن تعتدوا في حكم الله فيكم، فتقتصوا منهم ظلمًا وعدوانًا، بل احكموا بما أمركم الله به من العدل في كل أحدٍ.

وهذه الآية كما سيأتي من قوله تعالى: ( ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙﯚ ﯛ ﯜ ) [المائدة: ٨].

أي: لا يحملنكم بغض أقوامٍ على ترك العدل، فإن العدل واجبٌ على كل أحدٍ، في كل أحدٍ، في كل حالٍ.

وقال بعض السلف: ما عاملت من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه، والعدل به قامت السموات والأرض»169.

وقال أبو عبيدة والفراء: «معنى ( ) لا يكسبنكم بغض قومٍ أن تعتدوا الحق إلى الباطل، والعدل إلى الجور والجريمة» 170.

وقال السعدي: «أي: لا يحملنكم بغض قوم وعداوتهم واعتداؤهم عليكم، حيث صدوكم عن المسجد على الاعتداء عليهم؛ طلبًا للاشتفاء منهم، فإن العبد عليه أن يلتزم أمر الله، ويسلك طريق العدل، ولو جني عليه، أو ظلم واعتدي عليه، فلا يحل له أن يكذب على من كذب عليه، أو يخون من خانه» 171.

وقال الشنقيطي: «نهى الله المسلمين في هذه الآية الكريمة أن يحملهم بغض الكفار؛ لأجل أن صدوهم عن المسجد الحرام في عمرة الحديبية، أن يعتدوا على المشركين بما لا يحل لهم شرعًا» 172.

وقال الجصاص: «وقد تضمن ذلك الأمر بالعدل على المحق والمبطل، وحكم بأن كفر الكافرين وظلمهم لا يمنع من العدل عليهم، وأن لا يتجاوز في قتالهم وقتلهم ما يستحقون، وأن يقتصر بهم على المستحق من القتال والأمر والاسترقاق دون المثلة بهم، وتعذيبهم وقتل أولادهم ونساءهم؛ قصدًا لإيصال الغم والألم إليهم» 173.

وقوله تعالى: (ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮯﮰ ﮱ ﯓ ﯘﯙ ﯜﯝﯞ ﯠﯡ ﯤﯥ ) [المائدة: ٨].

أي: لا يحملنكم بغض قوم على ترك العدل فيهم، بل استعملوا العدل في كل إنسان، صديقًا كان أو عدوًا.

قال الطبري: «يعني بقوله جل ثناؤه: () أيها المؤمنون على كل أحد من الناس، وليًا لكم كان أو عدوًا، فاحملوهم على ما أمرتكم أن تحملوهم عليه من أحكامي، ولا تجوروا بأحد منهم عنه.

وأما قوله: (ﯛ ﯜ ﯝ) فإنه يعني بقوله: () العدل عليهم أقرب لكم أيها المؤمنون إلى التقوى، يعني: إلى أن تكونوا عند الله باستعمالكم إياه من أهل التقوى، وهم أهل الخوف والحذر من الله أن يخالفوه في شيء من أمره، أو يأتوا شيئًا من معاصيه.

وإنما وصف جل ثناؤه «العدل» بما وصفه به من أنه (ﯜ ﯝ) من الجور؛ لأن من كان عادلًا كان لله بعدله مطيعًا، ومن كان لله مطيعًا كان لا شك من أهل التقوى، ومن كان جائرًا كان لله عاصيًا، ومن كان لله عاصيًا كان بعيدًا من تقواه» 174.

وقال الراغب الأصفهاني: «إن قيل: كيف قال: (ﯜ ﯝ) وأفعل إنما يقال في شيئين أشركا في معنى واحد لأحدهما مزية، وقد علمنا أن لا شيء من التقوى ومن فعل الخير إلا هو من جملة العدالة فما معنى قوله: ( ) ؟

قيل: إن «أفعل» -وإن كان كما ذكرت- فقد يستعمل على تقدير بناء الكلام على اعتقاد المخاطب في الشيء، لا على ما عليه من حقيقة الشيء في نفسه، قطعًا لكلامه، وإظهار التبكية، فيقال لمن اعتقد مثلًا في زيد فضلًا -وإن لم يكن فيه فضل-، ولكن لا يمكنه أن ينكر أن عمرًا أفضل منه، فقال: أخدم عمرًا؛ فهو أفضل من زيد، وعلى ذلك قوله تعالى: ( ﭿ) [النمل: ٥٩].

وقد علم أن لا خير فيما يشركون بوجه، والآية نزلت في يهود احتالوا النبي صلى الله عليه وسلم.

وقيل: في قريش لما صدوا المسلمين؛ فأمر الله تعالى المسلمين ألا يتركوا معهم مع ذلك استعمال العدالة.

إن قيل: كيف تصور الظلم وقد أبيح للمسلمين أن يقتلوهم ويسبوهم ويسلبوهم؟ وقيل: كل ذلك أبيح لهم على وجه دون وجه، متى أخل لمراعاة الحكم المسنون في شيء من ذلك فهو ظلم، بل من فعل الإنسان بالكافر، مع ما أمر أن يفعل به قصدًا إلى التشفي منه تحريًا لأمر الله، ففي ذلك تعديًا؛ فأوجب الله تعالى تحري العدالة مع كل محق ومبطل، وإقامة الشهادة بالحق في كل أمر، وبين الله أنه تعالى عالم بما يتحرونه، ولا يخفى عليه خافية» 175.

وقال القرطبي: «والمعنى: أتمم عليكم نعمتي فكونوا قوامين لله، أي: لأجل ثواب الله فقوموا بحقه، واشهدوا بالحق من غير ميلٍ إلى أقاربكم، وحيفٍ على أعدائكم، ولا يجرمنكم شنآن قومٍ على ترك العدل، وإيثار العدوان على الحق.

وفي هذا دليلٌ على نفوذ حكم العدو على عدوه في الله تعالى ونفوذ شهادته عليه؛ لأنه أمر بالعدل -وإن أبغضه-، ولو كان حكمه عليه وشهادته لا تجوز فيه -مع البغض له-؛ لما كان لأمره بالعدل فيه وجهٌ، ودلت الآية أيضًا على أن كفر الكافر لا يمنع من العدل عليه، وأن يقتصر بهم على المستحق من القتال والاسترقاق، وأن المثلة بهم غير جائزةٍ -وإن قتلوا نساءنا وأطفالنا وغمونا بذلك-، فليس لنا أن نقتلهم بمثلةٍ؛ قصدًا لإيصال الغم والحزن إليهم» 176.

وقال ابن كثير: «أي: لا يحملنكم بغض قومٍ على ترك العدل فيهم، بل استعملوا العدل في كل أحدٍ-صديقًا كان أو عدوًا- ولهذا قال: (ﯚﯛﯜﯝ) أي: عدلكم أقرب إلى التقوى من تركه، ودل الفعل على المصدر الذي عاد الضمير عليه، كما في نظائره من القرآن وغيره، كما في قوله: ( ﭞﭟ ) [النور: ٢٨].

وقوله: ( ﯜﯝ) من باب استعمال أفعل التفضيل في المحل الذي ليس في الجانب الآخر منه شيءٌ، كما في قوله تعالى: (ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ) [الفرقان: ٢٤].

وكقول بعض الصحابيات لعمر: أنت أفظ وأغلظ من رسول الله صلى الله عليه وسلم » 177.

وقال الشعراوي: «أي: لا يحملنكم بغض قوم على ألا تعدلوا، وإلا سيكون البغض لصالح عدوكم، وبغض المؤمن إذا حمله على اتباع هواه سيكون لصالح العدو؛ لأن الله سيعاقب المؤمن -لو أدخل الهوى والبغض في إقامة الميزان العادل-، فتحكيم البغض والعداء والهوى يكون لصالح الخصوم؛ لذلك لا يحملنكم أيها المؤمنون شنآن -أي بغض- قوم على ألا تعدلوا.

ويضيف الحق: ( ) والعدالة حين تطلب مع الخصم هي تقريع لذلك الخصم؛ لأنه خالف الإيمان، ومن المؤكد أن الخصم يقول لنفسه: إن عدالة هذا المسلم لم تمنعه من أن يقول الحق، ولابد أن عقيدته تجعل منه إنسانًا قويًا، وأن دينه الذي أمره بذلك هو نعم الدين.

إذن ساعة تحكم أيها المؤمن بالعدل لخصمك فأنت تقرعه؛ لأنه ليس مؤمنًا، لكن لو رأى خصمك أنك قد جرت ولم تذهب إلى الحق فأنت بذلك تشجعه على أن يبقى كافرًا؛ لأنه سيعرف أنك تتبع الهوى، أما إذا رآك وأنت تقف موقفًا يرضي الله مع أنه خصم لك، فهو يستدل من ذلك على أن العقيدة التي آمنت بها هي الحق، وأنك تقيم الحق حتى في أعدائك.

وهكذا يقرع الخصم العقدي نفسه، وقد يلفته ذلك إلى الإيمان.

(ﯚﯛ ﯜﯝ) أقرب إلى أي تقوى؟ أأقرب إلى تقوى المؤمن؟ أم أن الخصم يكون أقرب إلى التقوى حين يرى المؤمن مقيمًا للعدل والحق، فلعله يرتدع ويعاود نفسه ويقول: إن الإيمان قد جعل هذا المسلم يتغلب على البغض، وحكم بالحق على الرغم من أنه يعلم أنني عدو له؟، فالمعنى النفسي الذي يصيب خصمك، أو من يبغضك أو من بينك وبينه شنآن، حين يراك آثرت الحق على بغضك له يجعله يلتفت إلى الإيمان، الذي جعل الحق يعلو الهوى، ويغلبه ويقهره، ويصير أقرب للتقوى، و أيضًا من يشهد بالقسط؛ هو أقرب للتقوى» 178.

ثمرات إقامة العدل

لإقامة العدل بين الناس ثمرات كثيرة، منها:

أولًا: الأمن في المجتمع:

إن آثار العدل ومباشرته في الحكم، على نحو صورة العدل المطلوب في سياسة الإسلام حسبما جاء في كتاب الله، توفر حتمًا: صيانة الأعراض من الاعتداء عليها، وصيانة النفوس من الاضطهاد والتعذيب، ومن تتبع الخصوصيات لها ومراقبتها، وعدم التفرقة في فرص المعيشة، وتولي الوظائف العامة.

فبالعدل يتحقق الاستقرار والطمأنينة في المجتمع المسلم؛ لما يشعر به كل فرد من أنه ليس أقل من غيره، وأنه سيحصل على حقه في التعليم والوظائف العامة ونحوها.

والقضاء على الفتن الطائفية؛ نظرًا لشعور الذميين بأن لهم حق المواطنة على قدم العدل مع المسلمين.

ولا أدل على معنى الأمن في المجتمع من إقامة العدل بالقصاص من المعتدي؛ ليكف عدوانه عن المجتمع، فيظل المجتمع مستقرًا هادئًا.

وهذا الاستقرار والهدوء عبر عنه المولى بـ«الحياة» فقال: ( ﯘﯙﯚ ) [البقرة: ١٧٩].

فالقصاص فيه ضمان لبقاء المجتمع وحياته179.

ومن مقتضى رحمته وحكمته سبحانه وتعالى أن يكون التحاكم بين العباد بشرعه ووحيه؛ لأنه المنزه عما يصيب البشر من الضعف والهوى والعجز والجهل، فهو سبحانه الحكيم العليم اللطيف الخبير، يعلم أحوال عباده وما يصلحهم، وما يصلح لهم في حاضرهم ومستقبلهم، ومن تمام رحمته أن تولى الفصل بينهم في المنازعات والخصومات وشئون الحياة؛ ليتحقق لهم العدل والخير والسعادة، بل والرضا والاطمئنان النفسي، والراحة القلبية.

ذلك أن العبد إذا علم أن الحكم الصادر في القضية التي يخاصم فيها هو حكم الله الخالق العليم الخبير، قبل ورضي وسلم -حتى ولو كان الحكم خلاف ما يهوى ويريد-، بخلاف ما إذا علم أن الحكم صادر من أناس بشر مثله، لهم أهواؤهم وشهواتهم؛ فإنه لا يرضى ويستمر في المطالبة والمخاصمة؛ ولذلك لا ينقطع النزاع ويدوم الخلاف، وأن الله سبحانه وتعالى إذ يوجب على العباد التحاكم إلى وحيه رحمة بهم، وإحسانًا إليهم؛ فإنه سبحانه بين الطريق العام لذلك أتم بيان وأوضحه بقوله سبحانه: ( ﯞﯟ ﯧﯨ ﯭﯮ ﯾﯿ ﰍﰎ ) [النساء: ٥٨-٥٩].

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: «إن الناس لم يتنازعوا في أن عاقبة الظلم وخيمة، وعاقبة العدل كريمة، ويروى: الله ينصر الدولة العادلة، وإن كانت كافرة، ولا ينصر الدولة الظالمة، وإن كانت مؤمنة» 180.

وقال ابن القيم: «الإنسان خلق في الأصل ظلومًا جهولًا، ولا ينفك عن الجهل والظلم إلا بأن يعلمه الله ما ينفعه، ويلهمه رشده، فمن أراد به خيرًا؛ علمه ما ينفعه، فخرج به عن الجهل، ونفعه بما علمه، فخرج به عن الظلم، ومن لم يرد به خيرًا؛ أبقاه على أصل الخلقة، فأصل كل خير هو العلم والعدل، وأصل كل شر هو الجهل والظلم، وقد جعل الله سبحانه للعدل المأمور به حدًا، فمن تجاوزه كان ظالمًا معتديًا، وله من الذم والعقوبة بحسب ظلمه وعدوانه» 181.

وقال أيضًا: «إذا جرى على العبد مقدور يكرهه فله فيه ستة مشاهد:

أحدها: مشهد التوحيد، وأن الله هو الذي قدره وشاءه وخلقه، وما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن.

الثاني: مشهد العدل، وأنه ماضٍ فيه حكمه، عدل فيه قضاؤه» 182.

ثانيًا: سعة الرزق:

ذكر المولى سبحانه وتعالى في آيات كثيرة أن رغد العيش، وسعة الرزق في إقامة أوامر الله وشرعه، الذي من أولياتها ومقاصدها العدل، ومن هذه الآيات:

قوله تعالى: ( ﭢﭣ ﭥﭦﭧﭨ ﭭﭮ ﭱﭲ ) [المائدة: ٦٦].

وقوله تعالى: ( ﭒﭓﭔ ) [الأعراف: ٩٦].

وقال تعالى: ( ﯿ ) [نوح: ١٠-١٢].

وقال تعالى: ( ) [الجن: ١٦].

قال القطان: «أوحى الله إلى الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أنه لو استقام الإنس والجن على الحق والعمل بشريعة العدل، ولم يحيدوا عنها لأسقيناهم ماءً غزيرًا، ولرزقناهم سعة في الرزق، ورخاءً في العيش» 183.

وقال محمد بن إسماعيل المقدم: « ( ) أي: على طريقة الحق والعدل.

( ﭨﭩ) أي: لوسعنا عليهم الرزق، وإنما عبر بالماء الغدق -وهو الكثير- عن سعة الرزق؛ لأن الماء الكثير هو أصل المعاش، وسعة الرزق، ولعزة وجوده بين العرب، فهم يعظمون الماء أكثر من غيرهم؛ فمن ثم وعد الله هؤلاء بقوله: ( )» 184.

وقال تعالى: ( ﯿ ﰇﰈ ﰊﰋ ) [الروم: ٤١].

قال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ: «قال الله تعالى: ( ﯿ ) قال ابن عباس رضي الله عنهما: الفساد القحط، وقلة النبات، وذهاب البركة، قال أبو العالية: من عصى الله في الأرض؛ لأن صلاح الأرض والسماء بالطاعة، وقال تعالى: ( ) [الأعراف: ٩٦].

قال: البركات: المطر والنبات، وقال تعالى في أهل الكتاب: ( ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦﭧﭨﭩ ﭪﭫ ) [المائدة: ٦٦].

قال ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير: (ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ) يعني: المطر والنبات، وقال هود لقومه: ( ) [هود: ٥٢].

ذكر المفسرون: أن قوم هود حبس الله عنهم المطر بسبب ذنوبهم ثلاث سنين، فقال لهم هود: إن آمنتم أحيا الله بلادكم، وزادكم عزًا على عزكم. وقال نوح لقومه: (ﯼﯽ ﯾﯿ ) [نوح: ١٠ - ١٢].

قال قتادة: علم نبي الله أنهم أهل حرص على الدنيا، فقال: هلموا إلى طاعة الله؛ فإن في طاعة الله سعادة الدنيا والآخرة، وقال تعالى: ( ﭤﭥﭦ ﭨﭩ) [الجن: ١٦].

ومعنى الآية: لو استقام القاسطون على طريقة الإسلام، وعدلوا إليها، واستمروا عليها؛ لأسقيناهم ماءً غدقًا، يعني: سعة الرزق، وضرب الماء الغدق مثلًا؛ لأن الخير والرزق كله من المطر، هذه الآيات تدل على أن المعاصي سبب لحبس المطر، وذهاب البركة، وأن طاعة الله سبب للمطر والبركات.

وقد روى الإمام أحمد بن حنبل عن أبي مخدع أنه قال: وجد رجل في زمان زياد أو ابن زياد صرة فيها حب يعني: من بر أمثال النوى، مكتوب فيها: هذا نبت في زمان كان يعمل فيه العدل، وجاءت في هذا المعنى أحاديث»185.

وفي المقابل ذكر الله تعالى أن البغي والظلم هو سبب الحرمان من خيراته ورزقه فقال: ( ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯺﯻ ﯾﯿ ) [الأنعام: ١٤٦].

وقال تعالى: ( ﯢﯣ ﯩﯪ ) [يونس: ١٣].

وقال تعالى: (ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ) [الكهف: ٥٩].

وقال تعالى: ( ﭔ ﭕ ﭖﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛﭜ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢﭣ ﭨﭩ ﭽﭾ ﭿ ) [سبأ: ١٥-١٧].

وبمفهوم المخالفة من هذه الآيات فإن العدل هو سبب إغداق الله على عبيده بكل أصناف النعيم.

ثالثًا: الثقة بين الحاكم والرعية:

العدل هو أول واجبات ولاة الأمور، وهو وضع الأشياء في مواضعها، وإعطاء كل ذي حق حقه، والمساواة في الإنصاف بميزان القوانين، وبتحقيقه تكون الثقة بين الحاكم والرعية أقوى من الجبال الرواسي.

سأل الإسكندر حكماء أهل بابل: هل الشجاعة عندكم أبلغ أو العدل؟ فقالوا: إذا استعملنا العدل استغنينا عن الشجاعة، فإلى العدل انتهت الرياسة الكاملة، والمملكة الفاضلة186.

قال تعالى: ( ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯢﯣ ﯤﯥ ﯧﯨ ﯭﯮ ) [النساء: ٥٨].

قال الطبري: «أولى الأقوال بالصواب في معنى الآية قول من قال: هو خطاب من الله إلى ولاة أمور المسلمين بأداء الأمانة إلى من ولوا أمره في فيئهم وحقوقهم، أو ما ائتمنوا عليه من أمورهم بالعدل بينهم في القضية، والقسم بينهم بالسوية» 187.

وقال القرطبي: «فالله سبحانه وتعالى يأمر الحكام بإقامة العدل بين الناس في أحكامهم؛ حتى لا تضيع الحقوق، وتنتفي الأمانة».

وقال أيضًا: «الأظهر في الآية أنها عامة في جميع الناس، فهي تتناول الولاة فيما إليهم من الأمانات في قسمة الأموال، ورد الظلمات، والعدل في الحكومات، وتتناول من دونهم من الناس في حفظ الودائع، والتحري في الشهادات وغير ذلك، كالرجل يحكم في نازلة ما ونحوه» 188.

وقال البيضاوي: «هو خطاب يعم المكلفين؛ ولأن الحكم وظيفة الولاة -قيل الخطاب لهم-، أي: وأن تحكموا بالإنصاف والسوية إذا قضيتم بين من ينفذ عليه أمركم، أو يرضى بحكمكم»189.

وقال الرازي: « أجمعوا على أن من كان حاكمًا وجب عليه أن يحكم بالعدل، وقد أوجب الله العدل على جميع الخلق -حتى الأنبياء-، قال تعالى: (ﯷﯸ ﯹﯺﯻ ﯿ ﰀﰁ ﰂﰃﰄﰅ ) [ص: ٢٦]»190.

وقال الشوكاني: « والعدل هو فصل الحكومة على ما في كتاب الله سبحانه، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لا الحكم بالرأي المجرد، فإن ذلك ليس من الحق في شيء إلا إذا لم يوجد دليل تلك الحكومة في كتاب الله، ولا في سنة رسوله؛ فلا بأس باجتهاد الرأي من الحاكم الذي يعلم بحكم الله سبحانه، وبما هو أقرب إلى الحق عند عدم وجود النص، وأما الحاكم الذي لا يدري بحكم الله ورسوله، ولا بما هو أقرب إليهما، فهو لا يدري ما هو العدل؛ لأنه لا يعقل الحجة إذا جاءته، فضلًا عن أن يحكم بها بين عباد الله»191.

وقال تعالى: ( ﯾﯿ ﰍﰎ ) [النساء: ٥٩].

قال الطاهر بن عاشور: «وإنما أمر بذلك بعد الأمر بالعدل، وأداء الأمانة؛ لأن هذين الأمرين قوام نظام الأمة، وهو تناصح الأمراء والرعية، وانبثاث الثقة بينهم»192.

فهذه النصوص -وإن كانت تمتلئ بالتفخيم في أمر الحاكم-؛ فلأنه القائم بأمر الله في أرضه، فهي كذلك تحذره في نفس الوقت؛ لأنه ليس مالكًا للعباد، فطاعته ما قادهم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم 193.

فعلى الحاكم الاجتهاد في إقامة العدل والاستقامة، وأن لا تأخذه في الله لومة لائم، فيكون حكمه وشهادته لوجه الله، دون تحيز أو محاباة، ولو كان في ذلك الحكم وتلك الشهادة مسٌ به شخصيًا، أو إلحاق أذى أو مضرة بوالديه أو بأقاربه وأنسبائه؛ ذلك أن صلة البر لا تكون بكتمان الحق، ولا بإعانة هؤلاء على ما ليس لهم بحق، فالحق أحق بالإتباع، وهو الحاكم على كل إنسان.

«فالعدل الذي يجب أن يتحلى به الحاكم لا يميل ميزانه الحب والبغض، ولا تغير قواعده المودة والشنآن، العدل الذي لا يتأثر بالقرابة بين الأفراد، ولا بالتباغض بين الأقوام، فيتمتع به أفراد الأمة الإسلامية جميعًا، لا يفرق بينهم حسب ولا نسب، ولا مال ولا جاه، كما تتمتع به الأقوام الأخرى، ولو كان بينها وبين المسلمين شنآن، وتلك قمة العدل لا يبلغها أي قانون دولي إلى هذه اللحظة، ولا أي قانون داخلي كذلك»194.

موضوعات ذات صلة:

الإنصاف، التمكين، الحساب، الحكم، السياسة، الظلم، الوسطية


1 انظر: مقاييس اللغة، ابن فارس ٤/٢٤٦، مجمل اللغة، ابن فارس ١/٦٥١.

2 انظر: العين، الفراهيدي ٢/١١، جمهرة اللغة، ابن دريد ٢/٦٦٣، المصباح المنير، الفيومي ١/٢٠٦، تاج العروس، الزبيدي ٢٩/٤٤٤.

3 انظر: تهذيب اللغة، الأزهري ٢/١٢٣.

4 انظر: فتح القدير، الشوكاني ١/٤٨٠.

5 الرياض الناضرة والحدائق النيرة الزاهرة، السعدي ص٢٥٣.

6 مداواة النفوس ص٨١.

7 انظر: التعريفات ص١٥٣.

8 انظر: المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، محمد فؤاد عبد الباقي، ص ٤٤٨-٤٤٩.

9 انظر: الوجوه والنظائر، الدامغاني، ص٣٤٢-٣٤٣.

10 انظر: جمهرة اللغة، ابن دريد ١/٢٣٧.

11 انظر: الكليات، الكفوي ص٨٤٣.

12 تهذيب الأخلاق، ابن مسكويه ص٩٨.

13 تهذيب الأخلاق، ابن مسكويه ص١٠٧.

14 انظر: لسان العرب، ابن منظور ٩/٣٣٢.

15 التوقيف على مهمات التعاريف، المناوي ص٦٤.

16 الفروق اللغوية، العسكري ص٢٣٤.

17 انظر: لسان العرب، ابن منظور ٥/٣٦٢٦، الصحاح، الجوهري ٣/١١٥٢.

18 التوقيف على مهمات التعاريف ص٢٧١.

وانظر: الكليات، الكفوي ص٧٣٣.

19 انظر: الفروق اللغوية، العسكري ص٢٣٤.

20 جامع البيان ٦/٥١.

21 النكت والعيون ١/٣٥٥.

22 معاني القرآن وإعرابه ١/٣٦٣.

23 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب النكاح، باب من قال: لا نكاح إلا بولي، ٧/١٦، رقم ٥١٢٨، ومسلم في صحيحه، كتاب التفسير، ٤/٢٣١٥، رقم ٣٠١٨.

24 تفسير القرآن العظيم ٢/١٩٠.

25 جامع العلوم والحكم ص٣.

26 تفسير المنار، محمد رشيد رضا ٩/٤٧٧.

27 جامع البيان ٧/٢٦.

28 الحسبة ص١٩.

29 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب وعيد من اقتطع حق مسلم بيمين فاجرة بالنار، ١/١٢٢، رقم ١٣٧.

30 شرح الموطأ ٤/٥.

31 الذريعة إلى مكارم الشريعة، الراغب ص٢٥٣.

32 البيت في لسان العرب ١٢/٣٧٥ دون نسبة، وروايته: «لم تربني» بدل «لم تنلني».

وانظر: تهذيب اللغة، الأزهري ١٤/٢٧٦، الإمتاع والمؤانسة، أبو حيان التوحيدي ص ٣١٠، أساس البلاغة، الزمخشري ١/٦٢٧.

33 زاد المسير، ابن الجوزي ١/٥٥.

وانظر: جامع الرسائل لابن تيمية ١/١٢٤.

34 الكشاف ٢/١٠١.

35 فتح القدير ٢/٢٢٩.

وانظر: نيل المرام من تفسير آيات الأحكام، صديق حسن خان ص٣٠١.

36 الوسيط في تفسير القرآن المجيد ٣/٧٩.

37 الكشاف ٤/٢٢٣.

وانظر: روح المعاني، الألوسي ١٣/٣٨، تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص٧٢٧.

38 معاني القرآن، النحاس ١/٣٧٥.

39 انظر: إرشاد العقل السليم، أبو السعود ٢/١٩، روح المعاني، الألوسي ٢/١٠٥.

40 جامع البيان ٦/٢٨٦.

41 تيسير الكريم الرحمن ص ١٢٦.

42 انظر: جامع البيان، الطبري ١٧/٥٣٩.

43 تفسير الشعراوي ١٤/٨٧١٣.

44 الكشاف ٢/٤٣٣.

وانظر: أنوار التنزيل، البيضاوي ٣/١٥١، وفتح القدير، الشوكاني ٢/٦٠١، والمنار، محمد رشيد رضا لمحمد رشيد ١٢/١٤٠- ١٤٦.

45 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب تفسير القرآن، باب قوله: (وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة)، ٦/٧٤، رقم ٤٦٨٦، ومسلم في صحيحه، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم، ٤/١٩٩٧، رقم ٢٥٨٣.

46 أضواء البيان ٤/١٠١.

47 من أهل العلم من جعل المقصود بالظلم في مثل هذه الآيات هو الشرك، ومنهم من أطلقه، وأدخل فيه كل أنواع الظلم، وجعل العذاب فيه مراتب.

48 اختلف أهل العلم في عده اسمًا لله عز وجل، فجعله د.محمد بن خليفة التميمي في معتقد أهل السنة في أسماء الله الحسنى ص١٧٩ من الأسماء المقيدة لا المطلقة، معللًا أنه لم يصح وروده مطلقًا، ولم يعده من الأسماء الشيخ ابن عثيمين في القواعد المثلى، ولا الشيخ محمد الحمود في النهج الأسمى.

وعده اسمًا الخطابي وابن منده والحليمي والبيهقي وابن العربي والقرطبي وابن الأثير وابن القيم والسعدي والشرباصي ونور الحسن خان، ودليلهم: ما ورد في طريق الوليد بن مسلم عند الترمذي والطبراني وابن حبان وابن خزيمة والبيهقي وابن منده وغيرهم، ولكنه حديث ضعيف عند نقاد الحديث.

وعده صفةً الشيخ علوي السقاف في صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة ص٢٤٧ وقال: قد عد بعضهم [العدل] من أسماء الله تعالى، وليس معهم في ذلك دليل، والصواب أنه ليس اسمًا له، بل هو صفة.

49 النهاية، ابن الأثير ٣/١٩٠.

وقال ابن الأثير ٤/٩٣: في أسماء الله تعالى المقسط هو العادل، يقال: أقسط يقسط فهو مقسط إذا عدل.

وقال الحليمي [كما في فتح الباري ١٣/٥٣٩]: هو المعطي عباده القسط، وهو العدل من نفسه، وانظر لسان العرب، ابن منظور ٥/٢٨٣٩.

50 قال الدكتور صلاح الدين المنجد في المجتمع الإسلامي في ظل العدالة ص ١٥: لا نجد هذه الصفة لله في مفهوم اليهود ولا النصارى، فهو جل وعز في المفهوم الإسلامي العادل المطلق.

51 الجماع بضم الجيم وتشديد الميم: مجتمع أصل كل شيء.

52 مدارج السالكين ١/٣٣- ٤٣ باختصار وتصرف.

وانظر أيضًا: شرح العقيدة الطحاوية، ابن أبي العز ص ٨٩ حيث ذكر تحت عنوان أنواع التوحيد التي دعت إليها الرسل نوعين: هما توحيد الإثبات والمعرفة، والآخر توحيد الطلب والقصد، ولخص كلام ابن القيم هنا.

53 الجامع لأحكام القرآن ١٣/١٩٥.

54 الإنصاف، أبو الحسن بن غازي ص ١٨ [كما في نضرة النعيم ٣/٥٩٥ ]..

55 المقصد الأسنى في شرح معاني أسماء الله الحسنى ص٩٨- ١٠١ بتصرف شديد.

56 غريب القرآن، ابن قتيبة ١/١٠٣، معاني القرآن، النحاس ١/٣٧١.

57 جامع البيان ٦/٢٧٠.

والقطع هو الحال، إذ بينه الفراء في كلامه في معاني القرآن ١/٢٠٠ إذ قال: منصوب على القطع، لأنه نكرة نعت به معرفة، والزجاج في كلامه في معاني القرآن ١/٣٨٧ إذ قال: حال مؤكدة، لأن الحال المؤكدة تقع مع الأسماء.

58 تفسير الراغب ٢/٤٦٥.

59 أنوار التنزيل ٢ /٩.

60 مدارج السالكين ١/٣٣- ٤٣ باختصار وتصرف.

61 تفسير المنار ٣/٢١١.

62 فتح القدير ١/٤٢٤.

63 أخرجه الطبراني في الكبير ٢٣/١٥٥-٢٣٧ بإسناد فيه ابن لهيعة، وابن أبي حاتم في التفسير ٨/٢٥٦٠، رقم ١٤٣٠٧.

64 انظر: المفردات، الراغب ص٥٣٧، النفي في باب صفات الله عز وجل، أرزقي سعيداني ص ٣٣١ ٣٣٢، الجامع الصحيح في الأسماء والصفات، أبو عزيز المروعي ص ٢٦٥.

65 جامع البيان ١٨/٤٥١.

66 معاني القرآن وإعرابه ٣ /٣٩٤.

وانظر: زاد المسير، ابن الجوزي ٣ /١٩٢، وفتح القدير، الشوكاني ٣/٤٨٥.

67 معاني القرآن ٢/٢٠٥.

68 معالم التنزيل، البغوي ٣/٢٩٠.

69 المحرر الوجيز ٤/٨٥.

70 البيت لم نجده في كتب اللغة والأدب، ولم نعثر له على قائل، وإنما ذكره، دون نسبة، القرطبي في التفسير ١١/٢٩٣، والقسطلاني في إرشاد الساري شرح صحيح البخاري ١٠/٤٨٠، والقرطبي في التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة ص ٧٣٥، والشنقيطي في أضواء البيان ٤/١٥٩ وبعده:

تتصرف الأشياء في ملكوته

ولكل شيء مدة وأوان

71 الجامع لأحكام القرآن ١١/٢٩٣.

72 أنوار التنزيل ٤/٥٣.

73 تيسير الكريم الرحمن ص٥٢٤.

74 البيت من ألفية ابن مالك في النحو (الخلاصة) ص ٤٥.

75 أضواء البيان ٤/١٥٨.

76 أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الملاحم، باب الأمر والنهي، ٤/١٢٢، رقم ٤٣٣٨، واللفظ له، والترمذي في سننه، أبواب الفتن، باب ما جاء في نزول العذاب إذا لم يغير المنكر، ٤/٣٧، رقم ٢١٦٨، وابن ماجه في سننه، كتاب الفتن، باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ٢/١٣٢٧، رقم ٤٠٠٥، وأحمد في مسنده، ١/٢٠٨، رقم ٣٠.

وصححه الألباني في صحيح الجامع، ١/٣٩٨، رقم ١٩٧٣

77 جامع البيان ١٣/١٧٢.

وانظر: معاني القرآن وإعرابه، الزجاج ٢/٣٨٢، تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٣/٤٩١.

78 جامع البيان ١٣/٢٨٥.

وانظر: معالم التنزيل، البغوي ٢/٢٥٤، زاد المسير، ابن الجوزي ٢/١٧٣، تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٣/٥١٦.

79 من أصول التشريع في سورة الأعراف.

80 تفسير المنار، محمد رشيد رضا ٩/٤٧٧.

81 غرائب القرآن ورغائب الفرقان ٥/٥٨٩.

82 أحكام القرآن ٥/٢٥٥.

83 روح المعاني ١٢/٢٢١.

84 تيسير الكريم الرحمن ص ٧١٢.

85 النكت الدالة على البيان في أنواع العلوم والأحكام ٣/٧٠٥.

86 الرياض الأنيقة، السيوطي ص ١٨٣.

87 في ظلال القرآن ١/١٣١٠- ١٣١.

88 التحرير والتنوير ٢/١٩.

89 تفسير المنار، محمد رشيد رضا ٧/٤٨٤.

90 تفسير المنار، محمد رشيد رضا ٧/٤٨٣- ٤٨٤، ٨/١٠٥.

91 الرد على المنطقيين ١/٤٢٥.

92 قال بعض العلماء: العدالة صفة توجب مراعاتها الاحتراز عما يخل بالمروءة عادة ظاهرًا، فالمرة الواحدة من صغائر الهفوات، وتحريف الكلام لا تخل بالمروءة ظاهرًا، لاحتمال الغلط والنسيان والتأويل، بخلاف ما إذا عرف منه ذلك وتكرر، فيكون الظاهر الإخلال، ويعتبر عرف كل شخص وما يعتاده من لبسه، وتعاطيه للبيع، والشراء وحمل الأمتعة، وغير ذلك، فإذا فعل ما لا يليق به لغير ضرورة، قدح وإلا فلا.

انظر المصباح المنير، الفيومي ٢/٤٤- ٤٥، لسان العرب، ابن منظور ٥/٢٨٣٨- ٢٨٣٩.

93 جامع البيان ٦/٥١.

94 النكت والعيون ١/٣٥٥.

95 معاني القرآن وإعرابه ١/٣٦٣.

96 تفسير القرآن العظيم ٢/٧.

97 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٦/٤٥.

98 جامع البيان ١٠/٢٢.

99 معاني القرآن وإعرابه ٢/٢٠٧.

100 تفسير الشعراوي ٦/٣٤٠٠.

101 جامع البيان ١١/١٥٤.

102 تأويل مشكل القرآن ص٢١٩.

103 جامع البيان ٢٣/٤٤٤.

104 المحرر الوجيز ٥/٣٢٤.

105 أخرجه بهذا اللفظ أحمد في مسنده، ١١/٤٩٩، رقم ٦٨٩٧.

وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإمارة، باب فضيلة الإمام العادل، ٣/١٤٥٨، رقم ١٨٢٧ بلفظ: (إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن عز وجل، وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم، وما ولوا).

106 غريب القرآن ١/١١٩.

107 أخرج البخاري في صحيحه، كتاب النكاح، باب الترغيب في النكاح، ٧/٢، رقم ٥٠٦٤، ومسلم في صحيحه، كتاب التفسير، ٤/٢٣١٣، رقم ٣٠١٨ عن عروة أنه سأل عائشة رضي الله عنها عن قوله تعالى: ( ﮅﮆ ﮋﮌ ﮍﮎ ﮒﮓ ﮜﮝ ) [النساء: ٣]. قالت: يا ابن أختي اليتيمة تكون في حجر وليها فيرغب في مالها وجمالها، يريد أن يتزوجها بأدنى من سنة صداقها فنهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن فيكملوا الصداق، وأمروا بنكاح من سواهن من النساء.

قال سيد قطب في ظلال القرآن ١/٥٧٧- ٥٧٨: «وحديث عائشة رضي الله عنها يصور جانبًا من التصورات والتقاليد التي كانت سائدة في الجاهلية، ثم بقيت في المجتمع المسلم، حتى جاء القرآن ينهى عنها ويمحوها، بهذه التوجيهات الرفيعة، ويكل الأمر إلى الضمائر، وهو يقول: ( ﮅﮆ ) فهي مسألة تحرج وتقوى وخوف من الله إذا توقع الولي ألا يعدل مع اليتيمة في حجره، ونص الآية مطلق لا يحدد مواضع العدل، فالمطلوب هو العدل في كل صوره وبكل معانيه في هذه الحالة، سواء فيما يختص بالصداق، أو فيما يتعلق بأي اعتبار آخر، كأن ينكحها رغبة في مالها، لا لأن لها في قلبه مودة، ولا لأنه يرغب رغبة نفسية في عشرتها لذاتها، وكأن ينكحها وهناك فارق كبير من السن لا تستقيم معه الحياة، دون مراعاة لرغبتها هي في إبرام هذا النكاح، هذه الرغبة التي قد لا تفصح عنها حياء أو خوفًا من ضياع مالها إذا هي خالفت عن إرادته...، إلى آخر تلك الملابسات التي يخشى ألا يتحقق فيها العدل...، والقرآن يقيم الضمير حارسًا، والتقوى رقيبًا، وقد أسلف في الآية السابقة التي رتب عليها هذه التوجيهات كلها قوله: (ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ) [النساء: ١].

فعندما لا يكون الأولياء واثقين من قدرتهم على القسط مع اليتيمات اللواتي في حجورهم، فهناك النساء غيرهن، وفي المجال متسع للبعد عن الشبهة والمظنة».

108 جامع البيان ٧/٥٣١- ٥٣٩.

وفي الآية أحكام أخرى، انظر: الجامع في أحكام القرآن القرطبي وتفاسير الأحكام.

109 معالم التنزيل ١/٥٧٣.

وانظر: الوسيط ٢/١٦، والوجيز ص٢٥٤ كلاهما الواحدي.

110 أراد به أستاذه محمد عبده فقد تأثر به، ونقل عنه كثيرًا في تفسيره بقوله: قال الأستاذ، أو قال الإمام، حتى قال محمد عبده عنه: «صاحب المنار ترجمان أفكاري».

111 تفسير المنار، محمد رشيد رضا ٥/٦٣.

112 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب النكاح، باب من قال: لا نكاح إلا بولي، ٧/١٦، رقم ٥١٢٨، ومسلم في صحيحه، كتاب التفسير ٤/٢٣١٥، رقم ٣٠١٨.

113 دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب ص ٥٥.

114 معاني القرآن، النحاس ٥/٣٢٢، معاني القرآن وإعرابه، الزجاج ٤/٢١٥.

115 جامع البيان ٢٠/٢٠٧.

116 في ظلال القرآن ٥/٢٨٢٥.

117 التحرير والتنوير ٢١/٢٦١.

118 تفسير الشعراوي ١٩/١٢٠٣٨.

119 تفسير القرآن العظيم ١/٢١٠.

120 تيسير الكريم الرحمن ص ٨٩.

121 محاسن التأويل، القاسمي ٢/٦٠.

122 المصدر السابق.

123 تفسير المنار، محمد رشيد رضا ١١/٢٣٢- ٢٣٦.

124 من أنواع الأصل الخامس: أنه سبحانه حكيم لا يفعل شيئًا عبثًا، ولا لغير معنى ومصلحة وحكمه.

125 شفاء العليل ص١٩٩.

126 تفسير المنار، محمد رشيد رضا ٦/٦٢.

127 المصدر السابق ٤/٢١٨.

128 أضواء البيان ٤/١٨٤.

129 انظر أنموذج جليل في أسئلة وأجوبة عن غرائب آي التنزيل، الرازي ص ٤١٠، نزهة الأعين النواظر، ابن الجوزي ص ١٢١- ١٥٣، البرهان في علوم القرآن، الزركشي ٣/٤٢٨- ٤٢٩.

130 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب العلم، باب من سن سنة حسنة أو سيئة ومن دعا إلى هدى أو ضلالة، ٤/٢٠٦٠، رقم ٢٦٧٤.

131 أحكام القرآن ٢/٥٧٣، ٤/١٧٨.

132 تفسير سورة الحديد ص٣٨١-٣٨٤.

133 أحكام القرآن ٢/٢٧٩.

134 المصدر السابق ٢/٣٠٠.

135 تفسير المنار، محمد رشيد رضا ١/٤٠٣- ٤٠٤.

136 من الأصول والقواعد الشرعية العامة في سورة البقرة.

137 تفسير المنار، محمد رشيد رضا ١/١٠١.

138 أحكام القرآن، ابن العربي ٢/٣٩١- ٣٩٢، الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٧/٣٩٣.

139 تفسير القرآن العظيم ٢/١٩٠.

140 تفسير الراغب ١/٢٠٧.

141 تفسير القرآن العظيم ١/٥٢٧.

142 في ظلال القرآن ١/١٩١.

143 تفسير الشعراوي ١٠/٦٣٥٨.

144 المصدر السابق ٥/٢٧٦١ـ

145 غرائب التفسير وعجائب التأويل ١/٢٠٤.

وانظر: إعجاز القرآن، الباقلاني ص ٢٧١، النكت في القرآن الكريم، الماوردي ص ١٧٩، خصائص التعبير القرآني وسماته البلاغية، د.عبد العظيم المطعني ٢/٤٣٩.

146 انظر: جامع البيان، الطبري ١٠/٣٣٤، معاني القرآن وإعرابه، الزجاج ٢/١٧٧، معالم التنزيل، البغوي ٢/٥٤، المحرر الوجيز، ابن عطية ٢/١٩٥، فتح القدير، الشوكاني ٢/٤٩.

147 أنوار التنزيل ٢/١٢٧.

148 تفسير القرآن العظيم ٣/١١٧.

149 أنوار التنزيل ٣/٢٤٥.

150 إرشاد العقل السليم ٥/١٥٢.

151 التحرير والتنوير ١٤/٣٣٦.

152 جامع البيان ١٧/٣٢٢.

153 معاني القرآن وإعرابه ٣/٢٢٣، ٤٣٥.

154 جامع البيان ٢٣/٣٢١- ٣٢٣

155 في ظلال القرآن ٦/٣٥٤٤.

156 جامع البيان ١/٣٠٢.

وانظر: معاني القرآن وإعرابه، الزجاج ١/٤١٩.

157 تفسير القرآن العظيم ٧/٢١٢.

158 فتح القدير، الشوكاني ٤/٦٢٠.

159 الإكليل في استنباط التنزيل ص ٢٣٠.

160 تفسير القرآن العظيم ١/٤٩٠- ٤٩٢.

161 صحيح البخاري، كتاب الصلح.٣/١٨٧.

162 أعلام الموقعين ١/١٠٩- ١١٠.

163 روح المعاني ٣/١٥٢.

164 أحكام القرآن ٣/٢٧٦.

165 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ١٦/٢٠٨.

166 في ظلال القرآن ٢/٨٢٩.

167 جامع البيان ٩/٤٩١.

168 معاني القرآن ١/٢٧٢.

وانظر: الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٦/٤٥.

169 تفسير القرآن العظيم ٢/١٢.

170 فتح القدير، الشوكاني ٢/٩.

171 تيسير الكريم الرحمن ص ٢١٩.

172 أضواء البيان ١/٣٢٨.

173 أحكام القرآن ٤/٣٩.

174 جامع البيان ١٠/٩٦.

175 تفسير الراغب الأصفهاني ٤/٢٩٤.

واعتبره الألوسي تكلفًا، انظر: روح المعاني ٣/٢٥٥.

176 الجامع لأحكام القرآن ٦/١٠٩.

177 تفسير القرآن العظيم ٣/٦٢.

178 تفسير الشعراوي ٥/٢٩٧٦.

179 المجتمع الإسلامي في ظل العدالة، صلاح الدين المنجد ص ٣٧.

180 مجموع فتاوى ابن تيمية ٢٨/٦٢- ٦٣.

181 إغاثة اللهفان ٢/١٣٦-١٣٧ بتصرف.

182 الفوائد ص ٤٨.

183 تيسير التفسير، القطان ٣/٣٧٦.

184 تفسير القرآن الكريم، المقدم ١٨٣/٤.

185 فتاوى ورسائل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ ٣/١٣٣- ١٣٤.

186 العدالة والحرية في فجر النهضة العربية الحديثة، د.عزت القرني ص ٧٦.

187 جامع البيان ٧/١٧١.

188 الجامع لأحكام القرآن ٥/٢٥٦.

189 أنوار التنزيل ٢/٨٠.

190 مفاتيح الغيب ١٠/١١٠.

191 فتح القدير ١/٥٧١.

192 التحرير والتنوير ٥/٩٨.

193 الفصل في الملل والنحل، ابن حزم ٤/١٧٦.

194 العدالة الاجتماعية في الإسلام، سيد قطب ص١٠٥.