عناصر الموضوع
العزم
أولاً: المعنى اللغوي:
عزم الأمر وعزم عليه يَعْزِمُ عَزْمًا ومَعْزَمًا ومَعْزِمًا وعُزْمًا وعزيمًا وعزيمةً وعَزْمةً وعزمانًا، واعتزمه واعتزم عليه: أراد فعله وعقد قلبه عليه؛ فالعزم ما عقد عليه قلبك من أمرٍ أنك فاعله. ويقال: ما لفلان عزيمة؛ أي: ما يثبت على أمرٍ يعزم عليه؛ كأنه لا يمكن أن يصرم الأمر، بل يتردد فيه ويختلط. وعزم عليه ليفعلن؛ أي: أقسم عليه، وأمره أمرًا جدًا، لا استثناء فيه. والرجل يعتزم الطريق: يمضي فيه ولا ينثني. ويقال: إنه لذو أمرٍ عزيمٍ: أي مجمعٌ ومحكمٌ ومؤكدٌ. ورجل ماضي العزيم مجدٌ في أموره. والعزم: الصبر في لغة هذيل. يقولون: مالي عنك عزم؛ أي: صبرٌ. والعزيمة: الصريمة، وهي الحاجة التي قد عزمت على فعلها. والعزيمة: الإرادة المؤكدة. والجمع عزائم1.
ثانيًا: المعنى الاصطلاحي:
عرف العزم اصطلاحًا بتعريفات مقاربة وافيةٍ، فقال الراغب: «العزم والعزيمة: عقد القلب على إمضاء الأمر»2، وقال الجرجاني: «والعزم: جزم الإرادة بغير تردد»3. وقال القرافي: «وأما العزم فهو الإرادة الكائنة على وفق الداعية. والداعية ميلٌ يحصل في النفس لما شعرت به من اشتمال المراد على مصلحة خالصة أو راجحة، أو درء مفسدة خالصة أو راجحة»4. وقال ابن القيم: «والعزم: هو القصد الجازم المتصل بالفعل وحقيقته: استجماع قوى الإرادة على الفعل»5.
ولم يخرج التعريف الاصطلاحي للعزم عن معناه اللغوي، والجزء الحاضر في تلك التعريفات جميعها أن العزم عملٌ قلبيٌ، فهو من باب الإرادات، وليس هو الرغبة المنبتة عن الفعل، وليس هو الهم الطارئ الذي ينصرف عنه صاحبه بذهولٍ أو فترة.
وردت مادة (عزم) في القرآن الكريم (٩) مرات6.
والصيغ التي وردت عليها هي:
الصيغة |
عدد المرات |
المثال |
الفعل الماضي |
٣ |
(ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ) [آل عمران:١٥٩] |
الفعل المضارع |
١ |
(ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ) [البقرة:٢٣٥] |
المصدر |
٥ |
(ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ) [طه:١١٥] |
وجاء العزم في القرآن الكريم بمعناه اللغوي: عقد القلب على قطع الأمر وفعله، ويلزم منه الحزم والصبر لحين تحقيقه وإمضائه، ومنه قوله تعالى: (ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ) [الأحقاف: ٣٥] يعني: الذين عزموا على أمر الله فيما عهد إليهم، وصبروا على كل ما لحقهم من إيذاء؛ في سبيل تحقيق ذلك7.
الإرادة:
الإرادة لغةً:
المشيئة والقصد، أراد الشيء: شاءه8.
الإرادة اصطلاحًا:
ميل يعقب اعتقاد النفع9.
الصلة بين الإرادة والعزم:
أن العزم مقترنٌ بالعمل، وأما الإرادة فقد تسبقه، والعزم إرادةٌ يقطع بها المريد تردده في الإقدام على الفعل أو الإحجام عنه، ويصح أن يسمى مبدأ إرادة الفعل والرغبة فيه قبل هذا القطع إرادةً ولا يسمى عزمًا، فالإرادة من هذه الجهة سابقة على العزم، وكل عزمٍ إرادةٌ، وليس كل إرادةٍ عزمًا10.
الهم:
الهم لغة:
ما هممت به في نفسك؛ تقول: أهمني هذا الأمر، وهم بالشيء يهم همًا: أراده ونواه وعزم عليه. والهِمة: ما هممت به من أمرٍ لتفعله11.
الهم اصطلاحًا:
أول العزيمة وعقد القلب على فعل شيء قبل أن يفعل من خير أو شر12.
الصلة بين الهم والعزم:
أن الهم في الأصل حديث النفس بالفعل، ومبدأ الإرادة، فإذا استحكمت تلك الإرادة صارت عزمًا، وتصميمًا على تحقيق ذلك الهم، فالعزم نهاية الهم13.
الحزم:
الحزم لغةً:
جمع الشيء وشده بحزامٍ أو حبلٍ أو نحوه، والحزم: ضبط الأمر والأخذ فيه بالثقة14.
الحزم اصطلاحًا:
هو ضبط الرجل أمره، والحذر من فواته15، أو هو أخذ الأمور بالضبط والإتقان16.
الصلة بين العزم والحزم:
الحزم: جودة النظر في الأمر وتنقيحه والحذر من الخطأ فيه، والعزم: قصد الإمضاء17.
ما من امرئٍ ذي عقلٍ إلا وهو يهتم لأمرٍ ما؛ ولذا فإن أصدق الأسماء همام وحارث، كما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم 18.
وإنما يتفاوت قدر الناس على قدر هممهم، ومجالاتها.
وقد تطرق القرآن الكريم إلى شيء من مجالات العزم، يمكن تلخيصها في النقاط الآتية:
أولًا: العزم في طلب العلم وتحمله ونشره:
طلب العلم وتحمله ونشره مجالٌ لظهور أثر تفاوت العزم والهمة، فما بين رجلٍ رزق عقلًا وهمةً فجد في الطلب، وارتقى في الرتب؛ حتى صار يعد من العلماء العاملين والأئمة المتبوعين، وبين من تقاعس عن الجد، ولزم الدعة، وانحطت همته؛ فكان في عداد الهمل الهمج الرعاع أتباع كل ناعقٍ.
وقد أمر الله عز وجل اليهود بأن يأخذوا ما آتاهم من الشرع بقوة، فقال: (ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ) [البقرة: ٩٣].
قال ابن عطية: «وقوله تعالى: (ﯟ ﯠ ﯡ) يعني: التوراة والشرع، (ﯢ) أي: بعزمٍ ونشاطٍ وجدٍ، (ﯣ) معناه هنا: وأطيعوا، وليس معناه الأمر بإدراك القول فقط»19.
وقال البيضاوي: «(ﯢ) بجدٍ وعزيمة»20.
وقال تعالى عن موسى عليه السلام: (ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ) [الأعراف: ١٤٥].
أي: بجدٍ واجتهادٍ وبقوة قلبٍ وصحة عزيمةٍ؛ لأنه لو أخذه بضعف نية لأداه إلى فتور العمل به21.
وأمر الله تعالى يحيى عليه السلام: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔﭕ) [مريم: ١٢]أي: بجدٍ وعزمٍ واجتهادٍ ومواظبةٍ22.
ثانيًا: العزم في العبادات:
وصف الله عز وجل المؤمنين أولي العزم بأنهم (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ) [النور: ٣٧].
فلما صح عزمهم في القيام بتلك الأمور استحقوا وصف الرجولة الذي يوحي بتحمل المسئولية وعلو الهمة. فإذا كان الحرص على الوفاء بها بإزاء عاجل ثمرة التجارة، وتحصيل الربح، وكانت همم البشر في جملتها معقودةً على حب خضرة الدنيا؛ كان القائم بها من أهل العزم الخلص.
قال ابن كثير: «فقوله: (ﭑ) فيه إشعار بهممهم السامية، ونياتهم وعزائمهم العالية، التي بها صاروا عمارًا للمساجد، التي هي بيوت الله في أرضه، ومواطن عبادته وشكره، وتوحيده وتنزيهه، كما قال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘﭙ) [الأحزاب: ٢٣]»23.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان في السوق وأقيمت الصلاة فأغلقوا حوانيتهم ودخلوا المسجد، فقال ابن عمر: فيهم نزلت (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ) 24.
ويروى نحو ذلك عن سالم بن عبد الله: أنه نظر إلى قوم من السوق قاموا وتركوا بياعاتهم إلى الصلاة، فقال: «هؤلاء الذين ذكر الله في كتابه: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ). ويروى عن ابن مسعود، نحو ذلك أيضًا 25.
وفيه ترك الربح القريب رغبةً في الفوز بنعيم الآخرة، وهذا مقامٌ لا يقومه إلا أولوالعزم من البشر.
وفي وصية لقمان لابنه (ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ) [لقمان: ١٧].
فيحتمل أن إقامة الصلاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر على الأذى كلها داخلة في المراد بعزم الأمور26.
والحج عبادةٌ لا يتم مقصودها إلا صاحب عزيمةٍ؛ قال تعالى: (ﮱ ﯓ ﯔ ﯕﯖ) [البقرة: ١٩٦] أي: ائتوا بهما تامين كاملين بمناسكهما وشرائطهما لوجه الله من غير توانٍ ولا نقصان يقع منكم فيهما27.
وهو مقامٌ للعطاء المالي والبدني فضلًا عن مفارقة الأهل، ومكابدة السفر ومشاقه. ولا يخلو الحاج من دواعي الرغبة، وبواعث الغضب، والاستفزاز إلى الجدل والمراء؛ ولذا نهاه الله عز وجل عن ذلك، مؤكدًا على فضيلة التقوى، فقال: (ﭑ ﭒ ﭓﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭﭮ ﭯ ﭰ ﭱ)[البقرة: ١٩٧].
والأمر بالتزود إشارةٌ إلى ضرورة استصحابها من أول عقد عزمه على الحج، فيتزود بالتقوى كما يتزود بالطعام؛ مخلصًا نيته من كل شائبةٍ، ومجردًا قصده من كل داخلةٍ. والحج المبرور أفضل الجهاد فعن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، أنها قالت: (يا رسول الله نرى الجهاد أفضل العمل، أفلا نجاهد؟ قال: (لا، لكن أفضل الجهاد: حجٌ مبرورٌ)28.
وقال الغزالي: «وأما العزم؛ فليعلم أنه بعزمه قاصدًا إلى مفارقة الأهل والوطن ومهاجرة الشهوات واللذات متوجهًا إلى زيارة بيت الله عز وجل؛ وليعظم في نفسه قدر البيت وقدر رب البيت، وليعلم أنه عزمٌ على أمرٍ رفيع شأنه خطير أمره، وأن من طلب عظيمًا خاطر بعظيم. وليجعل عزمه خالصًا لوجه الله عز وجل بعيدًا عن شوائب الرياء والسمعة، وليتحقق أنه لا يقبل من قصده وعمله إلا الخالص، وإن من أفحش الفواحش أن يقصد بيت الله وحرمه والمقصود غيره، فليصحح مع نفسه العزم. وتصحيحه بإخلاصه، وإخلاصه باجتناب كل ما فيه رياءٌ وسمعة، فليحذر أن يستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير»29.
ثالثًا: العزم في الجهاد:
الجهاد في سبيل الله عز وجل من أعظم مهمات الدين، وهو أبرز مجالات العزم وأوضحها، ذلك أن الجهاد مخاطرةٌ بالنفس والنفيس، فلا تجد أحدًا أصدق همةً ولا أتم عزيمةً ممن وطن نفسه على بذل النفس والنفيس لإعلاء كلمة الحق. ومنزلة الجهاد من الإسلام سامقةٌ، وشأنه عظيمٌ.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: دلني على عمل يعدل الجهاد؟ قال: (لا أجده)قال: (هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تدخل مسجدك فتقوم ولا تفتر، وتصوم ولا تفطر؟)، قال: ومن يستطيع ذلك؟!30
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: (قيل: يا رسول الله، أي الناس أفضل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مؤمن يجاهد في سبيل الله بنفسه وماله)31.
وعن معاذ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد)32.
فهذه الأحاديث، وعشرات الأحاديث غيرها توقفنا على شرف الجهاد، ورتبة المجاهدين.
وقد كرم الله عز وجل رجالًا بصدق عزائمهم، وعلو همتهم، فقال: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠﭡ ﭢ ﭣ ﭤ) [الأحزاب: ٢٣].
والإخبار عنهم بأنهم رجالٌ زيادة في الثناء؛ لأن الرَجْلَ مشتق من الرِّجْلِ، وهي قوة اعتماد الإنسان33.
وعن أنس رضي الله عنه قال: (غاب عمي أنس بن النضر رضي الله عنه عن قتال بدر، فقال: (يا رسول الله، غبت عن أول قتال قاتلت المشركين، لئن الله أشهدني قتال المشركين ليرين الله ما أصنع) فلما كان يوم أحد، وانكشف المسلمون، قال: (اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء - يعني: أصحابه - وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء، - يعني: المشركين-، ثم تقدم) فاستقبله سعد بن معاذ رضي الله عنه، فقال: (يا سعد بن معاذ، الجنة ورب النضر، إني أجد ريحها من دون أحد) قال سعد: فما استطعت يا رسول الله ما صنع، قال أنس: فوجدنا به بضعًا وثمانين ضربة بالسيف أو طعنة برمح، أو رمية بسهم، ووجدناه قد قتل وقد مثل به المشركون، فما عرفه أحدٌ إلا أخته ببنانه قال أنس: (كنا نرى أو نظن أن هذه الآية نزلت فيه وفي أشباهه: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘﭙ) [الأحزاب: ٢٣]؛ إلى آخر الآية)34.
وفيه الأخذ بالشدة واستهلاك الإنسان نفسه فى طاعة الله. وفيه الوفاء بالعهد لله بإهلاك النفس، ولا يعارض قوله: (ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨﮩ) [البقرة: ١٩٥]؛ لأن هؤلاء عاهدوا الله فوفوا بما عاهدوه من العناء فى المشركين وأخذوا فى الشدة بأن باعوا نفوسهم من الله بالجنة35.
رابعًا: العزم في الدعوة إلى الله:
قال تعالى: (ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ) [المدثر: ١-٢] فقوله: (ﮯ) أي: من مضجعك أو: قم قيام عزمٍ وتصميمٍ، فأنذر36.
والدعوة جهاد بالكلمة، ومنها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. قال لقمان الحكيم لابنه وهو يعظه: (ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ) [لقمان: ١٧].
ولعل من حكمة الترتيب في هذه الوصية أنه ابتدره بالحث على ما فيه صلاح نفسه فيما بينه وبين الله عز وجل، ألا وهو الصلاة، فإذا أقام الصلاة كما أمر بها نهته صلاته عن الفحشاء والمنكر، فكان كاملًا في نفسه مهيأً لتكميل غيره، فانتقل به إلى الوصية التالية (ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ) والآمر بالمعروف الناهي عن المنكر دائرٌ بين ثلاثة أحوال:
الحال الأولى: أن يستجاب له، فيكون عليه أن يشكر الله الذي فتح له القلوب ووضع له القبول، وإنما يكون الشكر بمزيد من الاجتهاد في الطاعة والقيام بحق الله، والصبر عن المعصية التي تحرم التوفيق.
الحال الثانية: أن يعرض الناس عنه، فينبغي عليه ألا ييأس من هدايتهم، وأن يتلطف في نصيحتهم، وأن يتحرى أوقات إقبال قلوبهم، وأن يتخولهم مرةً بعد مرةٍ، وفرصةً بعد فرصة.
الحال الثالثة: أن يضموا إلى إعراضهم عنه أذيته بالقول والفعل؛ فينبغي عليه أن يصبر على أذاهم. ففي الأحوال الثلاثة كان الواجب في حقه أنواعًا من الصبر على الطاعات، والصبر عن المعاصي، والصبر على الأذى؛ فكانت الوصية الثالثة: (ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ).
خامسًا: العزم في العلاقات الأسرية:
من أهم مجالات العزم في العلاقات الأسرية: النكاح والطلاق، وما يتعلق بهما من سلوكٍ يترتب على التزام حكم الشرع فيه، وتعظيم حرمات الله، وحفظ الأعراض، وصيانة جناب العفاف، ويترتب على التجاوز فيه انتهاك المحارم، وإيذاء المشاعر، وهتك الأعراض.
والعلاقة بين الرجل والمرأة قد تحكم بنوعٍ من الميل الفطري والشهوة الغريزية؛ كما دل عليه قوله تعالى: (ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀﮁ) [النساء: ١٢٦].
أي: لن تقدروا أن تسووا بين النساء في الحب وميل القلب، ولو حرصتم على العدل، فلا تميلوا إلى التي تحبونها كل الميل في القسم والنفقة، ولا تتبعوا أهواءكم أفعالكم فتدعوا الأخرى كالمعلقة، لا أيِّـمًا ولا ذات بعلٍ37.
والميل بالتفضيل في الحقوق الشرعية بينهن لا يجوز، أما الميل الطبيعي بمحبة بعضهن أكثر من بعض فهو غير مستطاع دفعه للبشر؛ لأنه انفعالٌ وتأثر نفسانيٌ لا فعلٌ38.
وربما كان هذا الميل الطبيعي مذللًا سبيل الجور في الحقوق الشرعية، وهذا لا يدفع إلا بعزمٍ وتصميمٍ على العدل، ولو بشيءٍ من ترك المباح مخافة الولوج في المحظور، ولو بشيءٍ من هضم حظ النفس من نيل مرادها من محبوبها. وبالجملة فهو مقام عزمٍ لا يثبت فيه إلا من كبح شهوة قلبه بوازع التقوى، وزم شيطان غضبه بلجام الحلم والأناة.
ويظهر هذا العزم في العلاقات الأسرية في أمرٍ آخر وهو الطلاق، فكما يتأثر النكاح وتوابعه بالميل الفطري والشهوة الغريزية، فكذا الطلاق وتوابعه قد يتأثر بالبغض والرغبة في المفارقة بأقل خسارةٍ يتجشمها، وبأكثر ما يستطيع تحميل الطرف الآخر منها، فبعض الأزواج لا يمسك بمعروفٍ ولا يسرح بإحسان، وقد صمم على فراق زوجه، وإنما يفعل ذلك رجاء أن يضطرها أن تترك له حقها أو شيئًا منه، أو نكايةً فيها وتحكمًا بغير وجه حقٍ. فأغلق الشرع عليه إلا باب المعروف، وإن لم يمتثل كان ظالمًا لنفسه.
قال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦﭧ) [البقرة: ٢٣١].
وقال تعالى في الإيلاء: (ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ) [البقرة: ٢٢٦-٢٢٧].
قال البقاعي: «ولما كان الحال في مدة الإيلاء شبيهًا بحال الطلاق وليس به قال مبينًا أن الطلاق لا يقع بمجرد مضي الأربعة الأشهر، بل إما أن يفيء أو يطلق، فإن أبى طلق عليه الحاكم. (ﭰ ﭱ ﭲ) فأوقع عليه العزم من غير حرف جر، بمعنى أنهم تركوا ما كانوا فيه من الذبذبة وجعلوا الطلاق عزيمة واقعًا، ولما كان المطلق ربما ندم فحمله العشق على إنكار الطلاق رهبه بقوله: (ﭳ ﭴ) أي: الملك الذي له الجلال والإكرام (ﭵ) أي: لعبارتهم عنه (ﭶ) أي: به وبنيتهم فيه.
قال الحرالي: وفيه تهديدٌ بما يقع في الأنفس والبواطن من المضارة والمضاجرة بين الأزواج في أمور لا تأخذها الأحكام ولا يمكن أن يصل إلى علمها الحكام فجعلهم أمناء على أنفسهم فيما بطن وظهر»39.
وقال ابن عاشور: «وعزم الطلاق: التصميم عليه، واستقرار الرأي فيه بعد التأمل، وهو شيء لا يحصل لكل مؤلٍ من تلقاء نفسه، وخاصة إذا كان غالب القصد من الإيلاء المغاضبة والمضارة فقوله: (ﭰ ﭱ ﭲ) دليلٌ على شرط محذوف دل عليه قوله: (ﭩ ﭪ) فالتقدير: وإن لم يفيئوا فقد وجب عليهم الطلاق، فهم بخير النظرين بين أن يفيئوا أو يطلقوا، فإن عزموا الطلاق فقد وقع طلاقهم. وقوله: (ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ) دليل الجواب، أي: فقد لزمهم وأمضى طلاقهم، فقد حد الله للرجال في الإيلاء أجلًا محدودًا لا يتجاوزونه، فإما أن يعودوا إلى مضاجعة أزواجهم، وإما أن يطلقوا، ولا مندوحة لهم غير هذين»40.
سادسًا: العزم في العلاقات الاجتماعية:
ومما يتعلق بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: الإصلاح بين الناس.
يقول تعالى: (ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡﭢ) [النساء: ١١٤].
والمعروف هو كل ما أمر الله به أو ندب إليه من أعمال البر والخير. والإصلاح بين الناس هو الإصلاح بين المتباينين أو المختصمين بما أباح الله الإصلاح بينهما؛ ليتراجعا إلى ما فيه الألفة واجتماع الكلمة على ما أذن الله وأمر به41.
فإن كان المظلوم هو الساعي إلى الإصلاح، المبادر بالتأليف؛ ابتغاء مرضات الله، فلعمر الله إنه لمقامٌ عظيمٌ لا يقومه إلا أشداء الرجال وأقوياؤهم. وإن من العزم أن يوطن المرء نفسه على الصبر على الأذى إن كان فيه إصلاحٌ وتأليفٌ للقلوب، فإن غفر لظالمه ابتغاء وجه ربه؛ استحق أن يكون ممن قال فيهم الله عز وجل: (ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ) [الشورى: ٤٣].
قال مكي: «أي: ولمن صبر على إساءة من أساء إليه، وغفر للمسيء إليه جرمه فلم ينتصر منه وهو قادر على ذلك؛ ابتغاء وجه الله عز وجل وجزيل ثوابه، إن ذلك الفعل منه لمن عزم الأمور، لمن أعالي الأمور التي ندب الله إلى فعلها عبادة ومن أجلها، وذلك فعل الوارعين»42.
ويحكى أن رجلًا سب رجلًا في مجلس الحسن، فكان المسبوب يكظم ويعرق فيمسح العرق، ثم قام وتلا هذه الآية: (ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ) [الشورى: ٤٣] فقال الحسن: «عقلها والله وفهمها لما ضيعها الجاهلون»43.
من صفات الأخلاق أنها تؤثر في بعضها بعضًا، فتحصيل خُلُقٍ منها ينعكس إيجابًا على تكوين غيره من الأخلاق، ويظهر هذا القانون بوضوحٍ في خلق العزم، إذ يلزم لصاحبه أن يكون صابرًا مصابرًا قادرًا على كبح شهوات نفسه، وتركيز عزمه، فإذا بلغ تلك الرتبة السامقة كان من أقدر الناس على إتيان البر في المكره والمنشط، وفي العسر واليسر، كالعفو مع القدرة، وتقوى الله فيمن لا يتقي الله فيه.
ولتحليل أخلاق العازمين التي نوه بها القرآن الكريم تقابلنا عبارة (عزم الأمور) ثلاث مراتٍ في ثلاث آيات من كتاب الله عز وجل هي: قوله تعالى: (ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ) [آل عمران: ١٨٦].
وقوله تعالى: (ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ) [لقمان: ١٧].
وقوله تعالى: (ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ) [الشورى: ٤٣].
وبتدبر الآيات المذكورة تتضح أخلاق أولي العزم، فأولها: الصبر، وهو المشترك بين الآيات الثلاث، وثانيها: التقوى، وثالثها: العفو عن المسيء. ثم إن هناك أخلاقًا أخرى من أخلاق أهل العزم نوه بها القرآن الكريم، وهي الصدق والإخلاص والمسارعة في الخيرات، والثبات.
أولًا: الصبر:
الصبر من أهم أخلاق أهل العزم، والعازم محتاجٌ إلى استيفاء أنواع الصبر بقدر عزيمته وشرف معزومه، فهو محتاجٌ إلى الصبر في الطاعة لنيل التوفيق في حصول مسعاه. وهو محتاج إلى الصبر عن تثبيط المثبطين، ونقد المنتقدين الذين لا هَمَّ لهم إلا الهدم، ومحتاجٌ إلى الصبر عن المعاصي التي توهن العزم، وتطمس نور البصيرة، وتورث الكسل، وتقتل الطموح وتفقد زمام المبادرة. ومحتاج إلى الصبر عن رد الأذى، ولا شك أن أعداء أهل العزم كثيرون من أعداء أهل الحق في كل زمان ومكانٍ. فلا عجب أن يعرف أهل العزائم بالصبر، ويشتهرون به. ولما أمر الله عز وجل نبيه بالصبر اقتداءً بصفوة الرسل - عليهم السلام - وصفهم بأولي العزم، فقال تعالى: (ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ) [الأحقاف: ٣٥].
وأولو العزم هم أصحاب الشرائع الذين اجتهدوا في تأسيسها وتقريرها، وصبروا على تحمل مشاقها ومعاداة الطاعنين فيها44، فعلم أن الصبر والمصابرة من أخص أخلاق أولى العزم. قال ابن عاشور: «والوصف بالعزم مشعرٌ بمدح الموصوف؛ لأن شأن الفضائل أن يكون عملها عسيرًا على النفوس؛ لأنها تعاكس الشهوات، ومن ثم وصف أفضل الرسل بأولي العزم»45.
فها هم يقارعون أقوامهم مقسمين مظهرين كمال العزيمة: (ﭻ ﭼ ﭽ ﭾﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ) [إبراهيم: ١٢].
وقال تعالى: (ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ) [آل عمران: ١٨٦].
والبلاء في الأنفس: القتل والأسر والجراح وما يرد عليها من أنواع المخاوف والمصائب، وهلاك الأقرباء والعشائر من أهل النصرة والملة. وفي الأموال: ما يبذله المسلم من مالٍ في سبيل الله، وما يقع في تلك الأموال من أنواع الآفات والتلف، وما يسمعون من أهل الكتاب والمشركين من المطاعن في الدين الحنيف، وصد من أراد الإيمان، وتخطئة من آمن، وسب الله عز وجل، كقولهم: إن الله فقيرٌ ونحن أغنياء، وقولهم: يد الله مغلولة- تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا- وكهجاء رسوله صلى الله عليه وسلم وافترائهم وكذبهم عليه، ومعاداة أصحابه رضي الله عنهم 46.
قال النسفي:«خوطب المؤمنون بذلك ليوطنوا أنفسهم على احتمال ما سيلقون من الشدائد والصبر عليها؛ حتى إذا لقوها وهم مستعدون لا يرهقهم ما يرهق من تصيبه الشدة بغتةً، فينكرها وتشمئز منها نفسه»47.
وفيه إيقاظ المؤمنين إلى ما يعترض أهل الحق وأنصار الرسل من البلوى، وتنبيه لهم على أنهم إن كانوا ممن توهنهم الهزيمة فليسوا أحرياء بنصر الحق، وأكد الفعل بلام القسم وبنون التوكيد الشديدة؛ لإفادة تحقيق الابتلاء48.
ففيه تحضيضٌ لهم على الصبر على أنواع البلاء والأذى المذكورة، وتحذيرٌ لهم من ترك التقوى فيمن لا يتقي الله فيهم، ولا يرقب فيهم إلًا ولا ذمةً، فلا ينبغي للمسلم أن يفتري على عدوه كذبًا، أو يفحش في القول والفعل، وإن كان عدوه هذا من أفحش الناس وأكذبهم. فالصبر المراد: صبر على المصائب، وصبرٌ عن المعاصي.
وقوله تعالى: (ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ) [الشورى: ٤٣].
فيه -زيادةً على الصبر- تحضيضٌ على المغفرة للمسيء مع القدرة على رد الإساءة، وهذه سمة الداعية الحريص على وصول الخير والهداية لكل الناس، وهؤلاء هم من يألفون ويؤلفون.
وقال لقمان لابنه وهو يعظه: (ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ) [لقمان: ١٧].
يعني: «إن ذلك الصبر على الأذى في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من حق الأمور التي أمر الله عز وجل بها وعزم عليها»49.
وفي الآية إشارةٌ إلى الصبر على الطاعة بالأمر بالمحافظة على الصلاة، بالإضافة للأمر بالصبر على الأذى.
ثانيًا: التقوى:
التقوى سبيلها مراقبة الخطرات والحركات، ومراقبة الخطرات سبيل تصحيح العزم، فالعزم مبدؤه خطرةٌ، ومهما أيقن العبد بعلم الله عز وجل السر والنجوى جاهد نفسه في مراقبة عزمه وإخلاصه: (ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ) [طه: ٧] قيل: السر: العزيمة، وما هو أخفى: هو الهم الذي دون العزيمة50.
وعن ابن عباس قال: «السر: ما أسر ابن آدم في نفسه. «وأخفى»: ما أخفى ابن آدم مما هو فاعله قبل أن يعمله، فالله يعلم ذلك، فعلمه فيما مضى من ذلك، وما بقي علم واحد»51.
وعن قتادة قال: «أخفى من السر: ما حدثت به نفسك، وما لم تحدث به نفسك أيضًا مما هو كائن»52.
قال الرازي: «ويحتمل أن يكون المراد بالسر وبالأخفى: ما ليس بقول، وهذا أظهر، فكأنه تعالى بين أنه يعلم السر الذي لا يسمع، وما هو أخفى منه، فكيف لا يعلم الجهر؟! والمقصود منه زجر المكلف عن القبائح ظاهرة كانت أو باطنة، والترغيب في الطاعات ظاهرة كانت أو باطنة، فعلى هذا الوجه ينبغي أن يحمل السر والأخفى على ما فيه ثواب أو عقاب، والسر هو الذي يسره المرء في نفسه من الأمور التي عزم عليها، والأخفى هو الذي لم يبلغ حد العزيمة، ويحتمل أن يفسر الأخفى بما عزم عليه وما وقع في وهمه الذي لم يعزم عليه، ويحتمل ما لم يقع في سره بعد، فيكون أخفى من السر»53.
قال مسروق: «من راقب الله في خطرات قلبه عصمه الله في حركات جوارحه»54.
وعن أبي حفص عمرو بن سلمة النيسابوري قال: «من لم يزن أفعاله وأحواله في كل وقت بالكتاب والسنة، ولم يتهم خواطره فلا تعده في ديوان الرجال»55.
وقال أبو تراب النخشبي: «احفظ همك فإنه مقدمة الأشياء، فمن صح له همه صح له ما بعد ذلك من أفعاله وأحواله»56.
وقال تعالى: (ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ) [آل عمران: ١٨٦].
فعد الصبر والتقوى من عزم الأمور، وأمرهم بتقوى الله فيمن يؤذيهم، وإنما يكون ذلك بطاعة الله فيمن يعصي الله في المؤمنين؛ فلا يبرر فحشه الإفحاش له في القول والفعل، ولا يبرر ارتكابه الخيانة والدسيسة والظلم وهتك الأعراض ونحو ذلك، كل ذلك لا يبرر أن يرتكب المؤمنون مثل ذلك. فالمؤمن صاحب رسالةٍ ومبدإٍ وعزيمةٍ، ليس إمعةً، ولا يقلد في دينه من لا خلاق له.
ثالثًا: العفو والصفح عن المسيء:
العفو والصفح صورتا الحلم ومخرجاه إلى الوجود، والعفو هو ترك المؤاخذة بالذنب، والصفح: ترك التثريب، واشتقاقه من تجاوز الصفحة التي أثبت فيها ذنوب المذنب، أو من الإعراض بصفحة الوجه عن التلفت إلى ما كان منه من إساءة، وهو محمودٌ إذا كان على الوجه الذي يجب.
وقد ندب الله عز وجل إلى ذلك بقوله: (ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧﭨ ﭩ ﭪ ﭫ) [آل عمران: ١٣٤].
فأمر بالحلم والعفو، وقال: (ﮈ ﮉﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐﮑ) [النور: ٢٢].
وقال: (ﮬ ﮭ ﮮ ﮯﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ) [الشورى: ٤٠]57.
وقد عد الله عز وجل العفو والصفح عن المسيء من عزم الأمور، فقال: (ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ) [الشورى: ٤٣].
قال مقاتل: «ولمن صبر ولم يقتص، وغفر وتجاوز فإن ذلك الصبر والتجاوز لمن عزم الأمور، أي: من حق الأمور التي أمر الله عز وجل بها»58.
قال الفضيل بن عياض: «إذا أتاك رجل يشكو إليك رجلًا فقل: يا أخي، اعف عنه فإن العفو أقرب للتقوى، فإن قال: لا يحتمل قلبي العفو، ولكن أنتصر كما أمرني الله عز وجل، فقل له: إن كنت تحسن أن تنتصر؛ وإلا فارجع إلى باب العفو فإنه باب واسعٌ، فإنه من عفا وأصلح فأجره على الله، وصاحب العفو ينام على فراشه بالليل، وصاحب الانتصار يقلب الأمور»59.
وبالجملة فإن العفو مندوبٌ إليه، ثم قد ينعكس الأمر في بعض الأحوال فيرجع ترك العفو مندوبًا إليه، وذلك إذا احتيج إلى كف زيادة البغي وقطع مادة الأذى60.
وقد أكد الله عز وجل هذه الآية بما لم تؤكد به آيتا آل عمران ولقمان فقال هنا: (ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ) [الشورى: ٤٣].
وقال في سورة آل عمران: (ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ) [آل عمران: ١٨٦].
وفي سورة لقمان: (ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ) [لقمان: ١٧] لأن فيها زيادة العفو والصفح على الصبر الذي حثت عليه آيتا آل عمران ولقمان، فإن كان الصبر على الأذى وعن الانتصار للنفس شاقًا فإن إضافة الصفح إلى ذلك أشقٌ.
قال السعدي: «فإن ترك الانتصار للنفس بالقول أو الفعل من أشق شيءٍ عليها، والصبر على الأذى والصفح عنه ومغفرته ومقابلته بالإحسان أشق وأشق، ولكنه يسير على من يسره الله عليه، وجاهد نفسه على الاتصاف به، واستعان الله على ذلك، ثم إذا ذاق العبد حلاوته، ووجد آثاره، تلقاه برحب الصدر، وسعة الخلق، والتلذذ فيه»61.
رابعًا: الصدق والإخلاص:
الصدق والكذب أصلهما في القول، ويدخلان في الإرادة والعزم والفعل، فلفظ الصدق يستعمل في ستة معانٍ: صدق القول، وصدق النية والإرادة، وصدق العزم، وصدق الوفاء بالعزم، وصدق العمل، والصدق في تحقيق مقامات الدين كلها، فمن اتصف بالصدق في جميع ذلك فهو صِدِّيقٌ مبالغة في الصدق. والعزم قد يكون صادقًا جازمًا، وقد يكون فيه نوع ميل وتردد وضعف يضاد الصدق في العزيمة، فكان الصدق ههنا عبارة عن التمام والقوة، والصادق والصديق هو الذي تصادف عزيمته في الخيرات كلها قوةً تامةً ليس فيها ميل ولا ضعفٌ ولا تردد، بل تسخو نفسه أبدًا بالعزم المصمم الجازم على الخيرات. ومن كان عزمه صادقًا تم فعله62.
وفرق بين الصدق والإخلاص أن للعبد مطلوبًا وطلبًا، فالإخلاص توحيد مطلوبه، والصدق توحيد طلبه. فالإخلاص: أن لا يكون المطلوب منقسمًا، والصدق: أن لا يكون الطلب منقسمًا، فالصدق بذل الجهد، والإخلاص إفراد المطلوب63.
ومقام الصدق جامعٌ للإخلاص والعزم، فباجتماعهما يصح له مقام الصدق64.
وأول درجات الصدق صدق القصد، وهو كمال العزم، وقوة الإرادة، بأن يكون في القلب داعيةٌ صادقة إلى السلوك، وميلٌ شديد يقهر السر على صحة التوجه. فهو طلب لا يمازجه رياء ولا فتور، ولا يكون فيه قسمةٌ بحالٍ، ولا يصح الدخول في شأن السفر إلى الله عز وجل، والاستعداد للقائه إلا به. ومن كان صادقًا في طلبه مستجمع القوة لم يقعد به عزمه عن الجد في جميع أحواله. فلا تراه إلا جادًا، وأمره كله جد65.
قال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠﭡ ﭢ ﭣ ﭤ) [الأحزاب: ٢٣].
أي: أوفوا بما عاهدوه عليه من الصبر على البأساء والضراء وحين البأس، فمنهم من قضى نحبه، وفرغ من العمل الذي كان نذره لله وأوجبه له على نفسه، فاستشهد بعضٌ يوم بدر وبعضٌ يوم أحد وبعضٌ في غير ذلك من المواطن، ومنهم من ينتظر قضاءه والفراغ منه، كما قضى من مضى منهم على الوفاء لله بعهده66.
وعن حميد بن عبد الرحمن الحميري أن رجلًا كان يقال له: «حممة» من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم خرج إلى أصبهان غازيًا في خلافة عمر رضي الله عنه فقال: «اللهم إن حممة يزعم أنه يحب لقاءك، فإن كان حممة صادقًا فاعزم له بصدقه، وإن كان كاذبًا فاعزم عليه وإن كره، اللهم لا ترد حممة من سفره هذا». قال: فأخذه الموت، وقال عفان مرة: البطن، فمات بأصبهان. قال: فقام أبو موسى رضي الله عنه فقال: «يا أيها الناس إنا والله ما سمعنا فيما سمعنا من نبيكم صلى الله عليه وسلم، وما بلغ علمنا إلا أن حممة شهيدٌ»67.
وقال تعالى: (ﭰ ﭱ ﭲﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ) [محمد: ٢١]؛ قال الزجاج: «المعنى: فإذا جد الأمر ولزم فرض القتال، فلو صدقوا الله فآمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم وعملوا بما نزل عليه وما أمروا به من فرض القتال؛ لكان خيرًا لهم، أي: لكان صدقهم الله بإيمانهم خيرًا لهم»68. فهاتان الآيتان تبينان فرق ما بين المؤمن والمنافق.
خامسًا: المسارعة في الخيرات:
المبادرة إلى الأعمال الصالحة صفة أولي العزم من البشر، وقد ذكر الله عز وجل جملة من الأنبياء والرسل عليهم السلام، ثم قال في وصفهم: (ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭﯮ ﯯ ﯰ ﯱ) [الأنبياء: ٩٠].
قال بعض المفسرين: (ﯦ) يعني: الأنبياء الذين سماهم في هذه السورة69 يسارعون في طاعة الله، والعمل بما يقرب إليه. والمسارعة في طاعة الله تعالى من أكبر ما يمدح المرء به؛ لأنه يدل على حرص عظيم على الطاعة70.
وقوله تعالى: (ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ) تعليلٌ لما فصل من فنون إحسانه تعالى المتعلقة بالأنبياء المذكورين أي: كانوا يبادرون في وجوه الخيرات مع ثباتهم واستقرارهم في أصل الخير، وهو السر في إيثار كلمة (في) على كلمة (إلى) المشعرة بخلاف المقصود من كونهم خارجين عن أصل الخيرات متوجهين إليها71.
وأفاد فعل الكون أن ذلك كان دأبهم وهجيراهم. والمسارعة: مستعارة للحرص وصرف الهمة والجد72.
وحقيقة المسارعة في الخير: أن يترقى الإنسان فيما يتحراه منزلة فمنزلة، فيتعوده فيتقوى به على المنزلة الثانية؛ لأن الخير حاصلٌ بعضه عن بعض، وحاملٌ بعضه بعضًا73.
ووصف الله عز وجل المؤمنين بذلك فقال: (ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ) [المؤمنون: ٥٧-٦١].
أي: يرغبون في الطاعات أشد الرغبة فيبادرونها، ويسارعون في نيل الخيرات الدنيوية الموعودة على صالح الأعمال بالمبادرة إليها74.
وما كانوا كذلك إلا لعلو هممهم وصدق عزائمهم في ميدان التسارع في أفعال الخير، همهم ما يقربهم إلى الله، وإرادتهم مصروفة فيما ينجي من عذابه، فكل خير سمعوا به، أو سنحت لهم الفرصة إليه انتهزوه وبادروه. ولما كان السابق لغيره المسارع قد يسبق لجده وتشميره، وقد لا يسبق لتقصيره أخبر تعالى أن هؤلاء من القسم السابقين فقال: (ﭠ ﭡ) أي: للخيرات (ﭢ) قد بلغوا ذروتها، وتباروا هم والرعيل الأول، ومع هذا، قد سبقت لهم من الله سابقة السعادة، أنهم سابقون75.
والآيات الداعية إلى المسابقة والمسارعة في الخيرات كثيرة منها قوله تعالى: (ﭯ ﭰﭱ) [البقرة: ١٤٨، والمائدة: ٤٨].
وقوله تعالى: (ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ) [آل عمران: ١٣٣].
وقوله تعالى: (ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡﮢ) [الحديد:٢١].
سادسًا: الثبات:
من أخلاق صاحب العزم الصادق أنه لا ينصرف عن بغيته حتى يبلغها أو يقطع به دونها لعذرٍ قاهرٍ، أو لحينٍ باهرٍ، وقد أمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم أن يستمر في عقد قلبه على طاعة مولاه مواظبًا على العبادة حتى يأتيه الموت، فقال تعالى: (ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ) [الحجر: ٩٩].
ووجه كون أهل العزم أكثر الناس ثباتًا، وأبعدهم عن الانتكاس والفتور أنهم تمرسوا بمراقبة خطراتهم، وتجريد قصدهم. وتجريد القصد وجزم النية والجد فى الطلب هو عين كمال العبد، وهو متضمن للصدق والإخلاص والقيام بالعبودية. والاجتهاد في تجريد القصد وتخليصه من كل شائبة نفسانية أو طبيعية، وتجريده لمراد المحبوب وحده، والجد في طلبه وطلب مرضاته، وجزم النية -وهو أن لا يعتريها وقفة ولا تأخير- هو غاية منازل الصديقين، وصديقية العبد بحسب رسوخه في هذا المقام، وكلما ازداد قربه وعلا مقامه قوي عزمه وتجرد صدقه، فالصادق لا نهاية لطلبه ولا فتور لقصده، بل قصده أتم وطلبه أكمل.
قال تعالى: (ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ) [الحجر:٩٩].
واليقين هنا الموت باتفاق أهل الإسلام، فجاء صلى الله عليه وسلم إذ جاءه وإرادته وقصده ونيته فى الذروة العليا ونهاية كمالها وتمامها76.
وصاحب العزم الصادق لا يفتأ يستعين على هواه بالتجرد من الحول والقوة، والتضرع إلى الله بالدعاء بالثبات، فهو أبعد الناس عن الخذلان، هجيراه في السلم: (ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ) [آل عمران: ٨-٩].
وعند عزم الأمر: (ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ) [البقرة: ٢٥٠].
فكان أثبت الناس قدمًا، وأصدقهم عزمًا. يشيب شعره ولا تشيب عزيمته. بعكس من اشتهر بالتواني والفتور والكسل، ولم يتمرس بالعزم، تراه شابًا في بدنه، وشيخًا في عزيمته وهمته.
يتفاوت العزم قوة وضعفًا بقدر حظ صاحبه من مادة حياة القلب، وقوة الباعث والمنادي، ووجود المساعد والحادي، وبقدر أخذه من أسباب النجاح والتوفيق. فإذا اجتمع له من جملة العوامل المذكورة ما يجيز به أنجح وأفلح، وإلا خاب وخسر. وفيما يأتي نتناول أهم العوامل المؤثرة على العزم قوةً، ولا يخفى أن انتفاءها أو ضعفها يضعف العزم ويحط بالهمة، وبضدها تتميز الأشياء.
أولًا: الإيمان بالله:
تقدم أن العزم من باب الإرادات فهو من أعمال القلوب، والقلب للأعضاء كالملك المتصرف فى الجنود، فتصدر كلها عن أمره، يستعملها فيما شاء، وتكتسب منه الاستقامة والزيغ، وتتبعه فيما يعقده من العزم أو يحله77، فمتى كان القلب حيًا متيقظًا صح العزم، وتمت الإرادة، ومتى كان ميتًا أو مريضًا لم يستقم له عزمٌ في خيرٍ. وقد ضرب الله عز وجل مثلًا للمؤمن والكافر بالحي والميت فقال: (ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ) [الأنعام: ١٢٢].
فهل للميت من إرادةٍ فضلًا عن أن يكون له عزمٌ؟! ولا شك أن إيمان القلب ينعكس أثره على عمل الظاهر فيتميز العازم الحازم من المرتاب الشاك الحيران، يقول شيخ الإسلام: «والقرآن يبين أن إيمان القلب يستلزم العمل الظاهر بحسبه، كقوله تعالى: (ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳﯴ ﯵ ﯶ ﯷ) [النور: ٤٧- ٥١].
فنفى الإيمان عمن تولى عن طاعة الرسول، وأخبر أن المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم سمعوا وأطاعوا؛ فبين أن هذا من لوازم الإيمان»78.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير)79.
والقوة المحمودة ها هنا هي القوة الإيمانية، وعلى قدرها تكون القوة فى الطاعة، فإن وافقت قوة في البدن كان صاحبها أكثر عملًا، وأطول قيامًا، وأكثر صيامًا وجهادًا وحجًا. وقد تكون القوة إشارة إلى عزيمة النفس والحزم، فيكون أتم إقدامًا على العدو فى الجهاد، وأشد عزيمة فى تغيير المنكر، والصبر على إيذاء العدو، واحتمال المكروه والمشاق فى ذات الله، أو تكون القوة بالمال والغنى فيكون أكثر نفقة فى سبيل الخير، وأقل ميلًا إلى طلب الدنيا، والحرص على جمع شىء فيها. وكل هذه الوجوه ظاهرة فى القوة80.
وهي متلازمة؛ لأن قوة الطاعة تأتي على قدر الهمة والعزيمة، ومثل ذلك يقال في القوة المالية؛ إذ إن المال لا يكون قوة ممدوحةً إلا إذا أنفق في أبواب الخير، والجود بالمال فرعٌ عن الجود بالنفس والبدن، فآل الأمر إلى أن القوة الممدوحة هي القوة الإيمانية التي يتولد عنها قوةٌ في العزم.
والقوة الإيمانية أن يعمل المؤمن بعزائم الشرع في مواطنها، وأن لا يجبن على الأخذ برخص الشرع في مواطنها، وأن لا يترك المسلمين من يده حفاظًا لدينهم، واهتمامًا بهم، ذكرهم وأنثاهم، عالمهم وجاهلهم. وأما المؤمن الضعيف فعلى ضد ذلك يكون قانعًا بأن يسلم بنفسه81. وهو ما ينشأ عنه نوعٌ من الحرص والإحجام عن مواطن الرفعة، ومظان السمو، وقبض اليد عن مواطن العطاء.
والمنافق إنما يؤتى انتقاض عزمه من ثلمة يقينه، إذ لا يزال شاكًا حائرًا مترددًا متذبذبًا، فلا يتصور أن ينعقد له عزمٌ، أو يصح له فعلٌ. وهؤلاء موصوفون بقوله تعالى: (ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ) [النساء: ١٤٣].
وبقوله تعالى: (ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ) [التوبة: ٤٥].
وبقوله تعالى: (ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ) [الأنعام: ٧١].
والقدر المشترك بين هذه الآيات أنها تصور حالة الكافر والمنافق من الحيرة والريبة والاضطراب، فهو أبعد ما يكون عن العزم.
ثانيًا: العلم ووضوح الغاية:
العالم أبصر الناس بالعواقب، وعلى قدر علمه تكون بصيرته، وعلى قدر بصيرته تكون عزيمته.
قال تعالى: (ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣﯤ) [فاطر: ٢٨].
ويقول تعالى: (ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ) [سبأ: ٦].
وبدلالة المفهوم فإن الذين لم يؤتوا العلم لا يرونه كذلك، فهم يتقلبون في شكهم وريبهم وضلالهم. ولا شك أن التفكر في ثمرات الأمر ومغباته يأطر القلوب الصافية والألباب الواعية على الجد والاجتهاد، وأن البصيرة بالعواقب تورث اليقظة والعزيمة، وكما قيل: البصيرة ما خلصك من الحيرة82.
وإن عقل العاقل وعلمه لم يزل به من همٍ إلى همٍ، ومن عزمٍ إلى عزمٍ؛ حتى ينضي بدنه كما ينضي المسافر بعيره في تطلاب المآثر والمفاخر والمحامد، في الوقت الذي يتمتع فيه الجاهل على وثير أمن المغبات، وفاره دواب الشهوات.
إن عدم وضوح الأهداف والغايات فرعٌ عن الجهل وضعف الإيمان بالله. وقد شبه الله عز وجل الكفار بالأنعام، بل جعلهم أضل من الأنعام، ذلك أن الأنعام تأكل وتتمتع، وربما كان القصاب يشحذ سكينه أمامها، فهي لا ترى أبعد من أنفها، ولا تطمح إلى أكثر من كومة الكلإ بين يديها.
قال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭﭮ ﭯ ﭰ ﭱ) [الأعراف: ١٧٩].
وقال تعالى: (ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ) [محمد: ١٢].
والآيات في هذا المعنى كثيرةٌ.
يقول سيد قطب: «إن الفارق الرئيسي بين الإنسان والحيوان أن للإنسان إرادةً وهدفًا وتصورًا خاصًا للحياة يقوم على أصولها الصحيحة المتلقاة من الله خالق الحياة، فإذا فقد هذا كله فقد أهم خصائص الإنسان المميزة لجنسه، وأهم المزايا التي من أجلها كرمه الله»83.
فلا هم لمن كان كذلك إلا تحصيل عاجل الأمر، ولو بتفويت آجله، وإيثار فانيه، ولو بتضييع باقيه.
يقول تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ) [الإسراء: ١٩].
فمن كانت الدنيا همه وطلبته ونيته، يعمل لها ويسعى في تحصيلها، لا يوقن بمعادٍ، ولا يرجو ثوابًا، ولا يخاف عقابًا عجل الله له فيها ما يشاء من توسيع وتقتيرٍ، لا ينال منها إلا ما قدره الله عز وجل له، ثم هو في الآخرة في عذاب جهنم مذمومٌ مدحورٌ.
وقيد الأمر تقييدين، أحدهما: تقييد المعجل بمشيئته. والثاني: تقييد المعجل له بإرادته، وهكذا الحال ترى كثيرًا من هؤلاء يتمنون ما يتمنون ولا يعطون إلا بعضًا منه، وكثيرًا منهم يتمنون ذلك البعض وقد حرموه، فاجتمع عليهم فقر الدنيا وفقر الآخرة، وأما المؤمن التقي فقد اختار مراده وهو غنى الآخرة، فما يبالي أوتي حظًا من الدنيا أو لم يؤت، فإن أوتي فيها، وإلا فربما كان الفقر خيرًا له، وأعون على مراده84.
وعن زيد بن ثابت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(من كانت الدنيا همه فرق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له، ومن كانت الآخرة نيته جمع الله له أمره، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة)85.
ومن أحب الدنيا كره الموت إذ عَمَّر الفانية وخرب الباقية، فكره الانتقال من العمران إلى الخراب. وحقيقة كره الموت كره لقاء الله، ومن كره الموت وأساء الظن بالله جمع كل أسباب الجبن.
قال ابن القيم: «والجبن خلق مذمومٌ عند جميع الخلق، وأهل الجبن هم أهل سوء الظن بالله، وأهل الشجاعة والجود هم أهل حسن الظن بالله كما قال بعض الحكماء في وصيته: عليكم بأهل السخاء والشجاعة فإنهم أهل حسن الظن بالله، والشجاعة جُنةٌ للرجل من المكاره، والجبن إعانة منه لعدوه على نفسه، فهو جندٌ وسلاحٌ يعطيه عدوه ليحاربه به»86.
والجبان حريصٌ على الحياة وإن حقرت، لا يصدق له عزمٌ على مكرمة، ولا صبرٌ عن معرة يقول تعالى في وصف اليهود: (ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃﮄ) [البقرة: ٩٦].
وموقفهم من أمر موسى عليه السلام لهم بدخول الأرض المقدسة يصور جبنهم، وترددهم، ووهنهم يقول لهم موسى: (ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ) [المائدة].
فكان جزاؤهم من جنس عملهم؛ إذ تمادوا في ترددهم وحيرتهم، فضرب عليهم التيه أربعين سنةٍ: (ﭲ ﭳ ﭴ ﭵﭶ ﭷ ﭸﭹ ﭺ ﭻ ﭼﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ) [المائدة: ٢٦].
وهم وأشباههم من المنافقين مؤنثي العزم إن أجبروا على معركةٍ لا يقاتلون إلا من وراء حصونهم، أو من خلف جدرهم: (ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰﮱ ﯓ ﯔ ﯕﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ) [الحشر: ١٤].
فهذه الحال التي جمعتهم هم وإخوانهم من المنافقين؛ تبين ما يفعله حب الدنيا والحرص عليها في قلب المرء.
وقد حذر الله عز وجل المؤمنين من أن يركنوا إلى الدنيا، فيتثاقلوا عن الجهاد، قال تعالى: (ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ) [التوبة: ٣٨].
فلما صار كثيرٌ من المسلمين إلى ما حذروا منه سلط عليهم أعداؤهم لا عن قلةٍ، ولكن لحبهم الدنيا وكراهيتهم الموت.
عن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يوشك أن تداعى عليكم الأمم من كل أفق كما تداعى الأكلة على قصعتها). قال: قلنا: يا رسول الله، أمن قلة بنا يومئذ؟ قال: (أنتم يومئذ كثيرٌ، ولكن تكونون غثاءً كغثاء السيل، تنتزع المهابة من قلوب عدوكم، ويجعل في قلوبكم الوهن). قال: قلنا: وما الوهن؟ قال: (حب الحياة وكراهية الموت)87.
ثالثًا: الدعاء:
قال تعالى: (ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ) [الأنفال: ٢٤].
ذلك خبرٌ من الله عز وجل أنه أملك لقلوب عباده منهم، وأنه يحول بينهم وبينها إذا شاء، حتى لا يقدر ذو قلب أن يدرك به شيئًا من إيمان أو كفر، أو أن يعي به شيئًا، أو أن يفهم إلا بإذنه ومشيئته88. فهو سبحانه يحول بين المرء وإرادته؛ لأن الأمر لا يكون بإرادة العبد، وإنما يكون بإرادة الله تعالى89.
وهو سبحانه القادر أن يقلب قلب العبد فيفسخ عزائمه، ويغير نياته ومقاصده، فلما كان كذلك لم يكن للعبد حيلةٌ إلا أن يلهج بالدعاء إلى مقلب القلوب أن يثبتها.
وقد صح بذلك الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم فعن أنس رضي الله عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول: (يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك). قال: فقلنا يا رسول الله، آمنا بك، وبما جئت به، فهل تخاف علينا؟! قال: فقال: (نعم إن القلوب بين أصبعين من أصابع الله عز وجل يقلبها)90.
وفي تفسير قوله تعالى: (ﮢ ﮣﮤ ﮥ ﮦ) [الذاريات: ٢١].
يقول أبو بكر الوراق:«يعني: في تحويل الحالات، وضعف القوة، وقهر المنة، وعجز الأركاب، وفسخ الصريمة، ونقض العزيمة»91.
قال الثعلبي: «قالت الحكماء: من كان اليوم على حالة وغدًا أخرى فليعلم أن تدبيره إلى سواه»92.
وسئل سفيان الثوري: بم عرفت ربك؟ قال: «بفسخ العزم، ونقض الهمة»93.
وعن أحمد بن أبي الحواري قال: التقى حكيمان من الحكماء، فقال أحدهما لصاحبه: بم عرفت ربك؟ قال: بفسخ العزم، ومنع الهم، لما عزمت فأزالني القدر، وهممت فحال بيني وبين همي، فعلمت أن المستولي على قلبي غيري94.
وعن شداد بن أوس رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا كنز الناس الذهب والفضة، فاكنزوا هؤلاء الكلمات: اللهم إني أسألك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد، وأسألك شكر نعمتك، وأسألك حسن عبادتك، وأسألك قلبا سليمًا، وأسألك لسانًا صادقًا، وأسألك من خير ما تعلم، وأعوذ بك من شر ما تعلم، وأستغفرك لما تعلم، إنك أنت علام الغيوب)95.
قال ابن القيم: «الدين مداره على أصلين: العزم والثبات وهما الأصلان المذكوران في الحديث «اللهم إنى أسألك الثبات في الأمر والعزيمة على الرشد» وأصل الشكر صحة العزيمة، وأصل الصبر قوة الثبات، فمتى أيد العبد بعزيمة وثباتٍ؛ فقد أيد بالمعونة والتوفيق»96.
وقال: «وهاتان الكلمتان هما جماع الفلاح، وما أتي العبد إلا من تضييعهما أو تضييع أحدهما، فما أتـي أحدٌ إلا من باب العجلة والطيش واستفزاز البداءات له، أو من باب التهاون والتماوت وتضييع الفرصة بعد مواتاتها، فإذا حصل الثبات أولًا، والعزيمة ثانيًا أفلح كل الفلاح، والله ولي التوفيق»97.
وينفسخ العزم بتشعب الهم، واستيلاء الحزن على القلب، والعجز عن الاضطلاع بالأمر، والكسل عنه، ولذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ من ذلك كثيرًا، عن أنس رضي الله عنه أنه كان يسمع النبي صلى الله عليه وسلم كثيرًا يقول: (اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، والعجز والكسل، والبخل والجبن، وضلع الدين، وغلبة الرجال)98.
قال ابن القيم: «والمقصود أن النبى صلى الله عليه وسلم جعل الحزن مما يستعاذ منه، وذلك لأن الحزن يضعف القلب ويوهن العزم، ويضر الإرادة، ولا شيء أحب إلى الشيطان من حزن المؤمن، قال تعالى: (ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ) [المجادلة: ١٠].
فالحزن مرض من أمراض القلب يمنعه من نهوضه وسيره وتشميره»99.
رابعًا: الاستخارة والاستشارة:
عظم النبي صلى الله عليه وسلم أمر الاستخارة، وبلغ من اهتمامه بها أنه كان يعلمها للصحابة رضي الله عنهم كما يعلمهم السورة من القرآن، وكان يأمرهم بها في الأمور كلها.
فعن جابر رضي الله عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كما يعلمنا السورة من القرآن يقول: (إذا هم أحدكم بالأمر، فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري - أو قال عاجل أمري وآجله - فاقدره لي ويسره لي، ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري - أو قال في عاجل أمري وآجله - فاصرفه عني واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان، ثم أرضني. قال: ويسمي حاجته)100.
والاستخارة استفعال من الخير، ومعناها أن يسأل العبد ربه عز وجل التوفيق إلى خير الأمرين101.
قال ابن بطال: «يجب على المؤمن رد الأمور كلها إلى الله، وصرف أزمتها والتبرؤ من الحول والقوة إليه، وينبغى له أن لا يروم شيئًا من دقيق الأمور وجليلها، حتى يستخير الله فيه ويسأله أن يحمله فيه على الخير ويصرف عنه الشر؛ إذعانًا بالافتقار إليه فى كل أمر والتزامًا لذلة العبودية له، وتبركًا باتباع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم فى الاستخارة؛ ولذلك كان النبى صلى الله عليه وسلم يعلمهم هذا الدعاء كما يعلمهم السورة من القرآن؛ لشدة حاجتهم إلى الاستخارة فى الحالات كلها، كشدة حاجتهم إلى القراءة فى كل الصلوات»102.
ونقل ابن حجر أن ترتيب الوارد على القلب على مراتب: الهمة ثم اللمة ثم الخطرة ثم النية ثم الإرادة ثم العزيمة، فالثلاثة الأولى لا يؤاخذ بها بخلاف الثلاثة الأخرى، فقوله: «إذا هم» يشير إلى أول ما يرد على القلب يستخير، فيظهر له ببركة الصلاة والدعاء ما هو الخير، بخلاف ما إذا تمكن الأمر عنده وقويت فيه عزيمته وإرادته، فإنه يصير إليه له ميلٌ وحبٌ؛ فَيُخْشَى أن يخفى عنه وجه الأرشدية لغلبة ميله إليه. ويحتمل أن يكون المراد بالهم العزيمة؛ لأن الخاطر لا يثبت فلا يستمر إلا على ما يقصد التصميم على فعله وإلا لو استخار في كل خاطر لاستخار فيما لا يعبأ به فتضيع عليه أوقاته103.
وأما الاستشارة فهي استنباط المرء الرأي من غيره فيما يعرض له من مشكلات الأمور، ويكون ذلك في الأمور التي يتردد المرء فيها بين فعلها وتركها104.
ومن الأخذ بأسباب الحزم والعزم استشارة ذوي العلم السديد، والفهم الرشيد، وقد أمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم بمشاورة أصحابه رضي الله عنهم فقال: (ﭭ ﭮ ﭯﭰ) [آل عمران: ١٥٩].
وعن الضحاك بن مزاحم قال: «ما أمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم بالمشورة إلا لما علم فيها من الفضل»105.
وعن الحسن: «ما شاور قومٌ قط إلا هدوا لأرشد أمورهم»106.
وفي رواية قال: «والله ما استشار قومٌ قط إلا هدوا لأفضل ما بحضرتهم. ثم تلا: (ﮞ ﮟ ﮠ) [الشورى: ٣٨]»107.
«وعن سفيان أن الشورى نصف العقل. قال: وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يشاور حتى المرأة»108.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه: ما رأيت من الناس أحدًا أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم 109.
قال البخاري: «المشاورة قبل العزم والتبين؛ لقوله: (ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵﭶ) [آل عمران: ١٥٩].
فإذا عزم الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن لبشرٍ التقدم على الله ورسوله، وشاور النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه يوم أحد في المقام والخروج، فرأوا له الخروج، فلما لبس لأمته وعزم قالوا: أقم فلم يمل إليهم بعد العزم، وقال: «لا ينبغي لنبيٍ يلبس لأمته فيضعها حتى يحكم الله»110.
قال ابن عطية: «والشورى من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام، ومن لا يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب، هذا ما لا خلاف فيه. وصفة المستشار في الأحكام أن يكون عالمًا دينًا، وقل ما يكون ذلك إلا في عاقل، فقد قال الحسن بن أبي الحسن: ما كمل دين امرئ لم يكمل عقله، وصفة المستشار في أمور الدنيا أن يكون عاقلًا مجربًا وادًّا في المستشير، والشورى بركة، وقد جعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه الخلافة -وهي أعظم النوازل- شورى، وقال الحسن: والله ما تشاور قوم بينهم إلا هداهم الله لأفضل ما بحضرتهم، وكان صلى الله عليه وسلم يشاور أصحابه، وقد قال في غزوة بدر: أشيروا علي أيها الناس، في اليوم الذي تكلم فيه المقداد، ثم سعد بن عبادة. ومشاورته صلى الله عليه وسلم إنما هي في أمور الحروب والبعوث ونحوه من أشخاص النوازل، وأما في حلال أو حرام أو حدٍ فتلك قوانين شرع»111.
وقال: «والشورى مبينة على اختلاف الآراء، والمستشير ينظر في ذلك الخلاف ويتخير، فإذا أرشده الله تعالى إلى ما شاء منه، عزم عليه وأنفذه متوكلا على الله، إذ هي غاية الاجتهاد المطلوب منه»112.
قال الراغب: «المشاورة حصن من الندامة وأمنٌ عن الملامة، وقيل: الأحمق من قطعه العجب عن الاستشارة، والاستبداد عن الاستخارة، والرأي الواحد كالخيط السحيل، والرأيان كالخيطين والثلاثة إصرار لا ينقض»113.
وقيل: شاور من جرب الأمور، فإنه يعطيك من رأيه ما قام عليه بالغلاء، وأنت تأخذه مجانًا114.
وقال قتادة: «أمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم أن يشاور أصحابه في الأمور، وهو يأتيه وحي السماء؛ لأنه أطيب لأنفس القوم، وإن القوم إذا شاور بعضهم بعضًا، وأرادوا بذلك وجه الله عزم لهم على أرشده»115.
وعن الحسن قال: «قد علم الله عز وجل أنه ليس به إليهم حاجة، ولكن أراد أن يستن به من بعده»116.
والنبي صلى الله عليه وسلم كان يعرف مطالب وجوه ما حزبه من الأمور بوحي من الله أو إلهامه إياه صواب ذلك. وأما أمتهفإنهم إذا تشاوروا مستنين بفعله في ذلك على تصادق وتوخٍ للحق وإرادة جميعهم للصواب، من غير ميل إلى هوى، ولا حيد عن هدى فالله مسددهم وموفقهم117.
وفي المشاورة اجتماع العقول والأذهان، وإذا اجتمعت كانت إلى استدراك الحق والصواب أسرع وأبلغ مما لو انفرد كل عقل بنفسه118.
وفي المشاورة أيضًا ترك الملامة؛ لأنه يقال: فعلت كذا بمشاورتكم، والمشاور إذا لم ينجح أمره، علم أن امتناع النجاح محض قدر، فلم يلم نفسه119.
ومنها أنه قد يعزم على أمر فيبين له الصواب في قول غيره، فيعلم عجز نفسه عن الإحاطة بفنون المصالح120.
وفي المشاورة تطييب نفوس المشاورين، والرفع من مقدارهم بصفاء قلب المشاور لهم، حيث أهلهم للمشاورة. وفي المشاورة اختبار عقول المشاورين؛ فيظهر للمشاور مقدار فهومهم، وتنوع ملكاتهم؛ فينزلهم منازلهم121.
ومدح الله عز وجل المؤمنين بقوله: (ﮞ ﮟ ﮠ) [الشورى: ٣٨].
أي: لا ينفردون برأي حتى يجتمعوا عليه، وفي ذلك اجتماع الكلمة والتحاب واتصال الأيدي، والتعاضد على الخير، فالشورى ألفة للجماعة ومسبار للعقول وسببٌ إلى الصواب122.
وعن عمر بن عبد العزيز قال: «إن المشورة والمناظرة بابا رحمةٍ ومفتاحا بركة، لا يضل معهما رأي، ولا يفقد معهما حزم»123.
وقال الماوردي: «اعلم أن من الحزم لكل ذي لبٍ ألا يبرم أمرًا ولا يمضي عزمًا إلا بمشورة ذي الرأي الناصح، ومطالعة ذي العقل الراجح»124.
وقيل لرجل من عبس: ما أكثر صوابكم! قال: نحن ألف رجل وفينا حازمٌ، ونحن نطيعه فكأنا ألف حازمٍ125.
خامسًا: الأخذ بالأسباب:
من أسباب ضعف العزم ترك الأخذ بالأسباب، فيستصعب القاعد ما هو مقدمٌ عليه من مهمات الأمور، وكلما فوت فرصة المبادرة ثبطه سبق السابقين، واتساع البون بينه وبينهم، فلا يرى إلا في المتأخرين، فيعين على نفسه شيطانها. وقد نعى الله عز وجل على المنافقين ترك الأخذ بالأسباب فقال: (ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ) [التوبة: ٤٦].
وأخذهم العدة يكون بصدق العزم، ونشاط النفس، وبإعداد السلاح والزاد والراحلة للسفر، ونفقة الأهل في الحضر126. فتركهم الاستعداد وأخذ العدة دليلٌ على إرادتهم التخلف127.
ومن الأخذ بالأسباب الاستخارة والاستشارة، والمغلوب على الاستخارة والاستشارة أعجز عما سواهما من عظائم الاستعداد. ولعل ما كان يستصعبه مما هو مقدمٌ عليه صائرٌ إلى يسرٍ وسهولةٍ بمشورة بعض أهل الرأي والعقل والحزم. فترك ذلك مؤدٍ إلى ضعف العزم.
والأخذ بالأسباب يقطع على الشيطان فتح باب التحسر والندامة إن لم يقدر للمرء بلوغ ما عزم عليه، قال مسلمة بن عبد الملك: «ما أحمدت نفسي على ظفرٍ ابتدأته بعجزٍ، ولا لمتها على مكروهٍ ابتدأته بحزمٍ» وقال بعض الحكماء: «لا ينبغي لأحدٍ أن يدع الحزم لظفرٍ ناله عاجزٌ، ولا يرغب في التضييع لنكبةٍ حلت على حازمٍ»128.
سادسًا: التوكل والتفويض:
يقول تعالى: (ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ) [آل عمران: ١٥٩].
أي: فإذا قطعت الرأي على شيء بعد الشورى فتوكل على الله في إمضاء أمرك على الأرشد لا على المشورة، ولا تظن أنك تنال منالًا تحبه إلا بتوفيق الله، إن الله يحب المتوكلين عليه. والتوكل: الاعتماد على الله والتفويض في الأمور إليه129.
فالعبد يحتاج إلى الاستعانة بالله والتوكل عليه في تحصيل العزم، وفي العمل بمقتضى العزم بعد حصول العزم130.
فالتوكل على الله أدعى إلى قوة العزيمة، فإن العبد إذا أيقن أن معه قاهر الكون رفعته تلك الفكرة، وجعلته أقوى الناس، وأقدرهم على صعاب الأمور، لا كما يظنه المنتكسون الجاهلون الكسالى اليائسون من روح الله، حيث جعلوا التوكل ذريعة إلى البطالة، فباؤوا بغضب على غضب131.
فإذا حصل الرأي المتأكد بالمشورة فيجب ألا يقع الاعتماد عليه، بل يجب أن يكون الاعتماد على إعانة الله وتسديده وعصمته، والمقصود أن لا يكون للعبد اعتمادٌ على شيء إلا على الله في جميع الأمور، ودلت الآية على أنه ليس التوكل أن يهمل الإنسان نفسه كما يقوله بعض الجهال، وإلا لكان الأمر بالمشاورة منافيًا للأمر بالتوكل، بل التوكل هو أن يراعي الإنسان الأسباب الظاهرة، ولكن لا يعول بقلبه عليها، بل يعول على عصمة الحق132.
قال القرطبي: «قال المهلب: وامتثل هذا النبي صلى الله عليه وسلم من أمر ربه فقال: (لا ينبغي لنبي يلبس لأمته أن يضعها حتى يحكم الله) أي: ليس ينبغي له إذا عزم أن ينصرف؛ لأنه نقض للتوكل الذي شرطه الله عز وجل مع العزيمة. فلبسه لأمته صلى الله عليه وسلم حين أشار عليه بالخروج يوم أحد من أكرمه الله بالشهادة فيه، وهم صلحاء المؤمنين ممن كان فاتته بدر.... دالٌ على العزيمة»133.
ومن أخطر أمراض القلوب التي تضاد التوكل، فتحول بين المرء وبين كل خيرٍ: سوء الظن بالله، واليأس من روح الله، ولذلك كان اليأس من روح الله كفرًا.
يقول تعالى على لسان نبيه يعقوب عليه السلام: (ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ) [يوسف: ٨٧].
ومن علامات سوء الظن بالله التطير والتشاؤم، وكان الرجل منهم في الجاهلية يكون في الشأن الخطير، والحدث الجلل، فيحدث له ما يتطير به، فينفرط عقد عزمه، وتفتر همته. ولذلك نهي المؤمنون عن الطيرة، بل بلغ التحذير منها أن عدها النبي صلى الله عليه وسلم شركًا134، وهي سوء ظنٍ بالله، وفرارٌ من قضائه، وهي من الشرك؛ لأن العرب كانوا يعتقدون أن ما يتشاءمون به يؤثر في حصول المكروه، وملاحظة الأسباب في الجملة شركٌ خفيٌ، فكيف إذا انضم إليها جهالة فاحشة وسوء اعتقاد في الله؟! ومن اعتقد أن غير الله ينفع أو يضر استقلالًا فقد أشرك135.
يقول ابن القيم: «وقد كانت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها تستحب أن تتزوج المرأة أو يبنى بها في شوال وتقول: ما تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا في شوال، فأي نسائه كان أحظى عنده مني؟! مع تطير الناس بالنكاح في شوال، وهذا فعل أولى العزم والقوة من المؤمنين الذين صح توكلهم على الله واطمأنت قلوبهم إلى ربهم ووثقوا به، وعلموا أن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأنهم لن يصيبهم إلا ما كتب الله لهم، وأنهم ما أصابهم من مصيبة إلا وهي في كتاب من قبل أن يخلقهم ويوجدهم، وعلموا أنه لا بد أن يصيروا إلى ما كتبه وقدره، ولابد أن يجري عليهم، وأن تطيرهم لا يرد قضاءه وقدره عنهم، بل قد يكون تطيرهم من أعظم الأسباب التي يجري عليهم بها القضاء والقدر؛ فيعينون على أنفسهم، وقد جرى لهم القضاء والقدر بأن نفوسهم هي سبب إصابة المكروه لهم، فطائرهم معهم.
وأما المتوكلون على الله المفوضون إليه العالمون به وبأمره فنفوسهم أشرف من ذلك، وهممهم أعلى، وثقتهم بالله وحسن ظنهم به عدةٌ لهم، وقوة وجنةٌ مما يتطير به المتطيرون ويتشاءم به المتشائمون، عالمون أنه لا طير إلا طيره، ولا خير إلا خيره، ولا إله غيره، له الخلق والأمر، تبارك الله رب العالمين»136.
ومن أمثلة تأثر العزم بسوء الظن بالله: الإنفاق والصدقة في سبيل الله، فإن سوء الظن في حصول البركة والزيادة بالنفقة يورث خشية الفقر، وهو يورث التقتير والبخل والشح.
قال تعالى: (ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞﯟ ﯠ ﯡ ﯢ) [البقرة: ٢٦٨].
ولا جرم أن من استجاب لهذه الوساوس حصل له سوء الظن والتكذيب بوعد الله؛ فغل يديه إلى عنقه. وعدد ابن القيم فوائد الصدقة فذكر منها أنها توجب الثقة بالله، وحسن الظن به كما أن البخل سوء الظن بالله137.
ومن التفويض والتوكل ألا يتحدث المرء أنه فاعلٌ ما هو عازمٌ عليه حتى يستثني ويعلق الأمر على مشيئة الله عز وجل.
قال تعالى: (ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥﮦ) [الكهف: ٢٣-٢٤].
وهذا إرشاد من الله عز وجل لرسوله الله صلى الله عليه وسلم إلى الأدب فيما إذا عزم على شيء ليفعله في المستقبل أن يرد ذلك إلى مشيئة الله عز وجل علام الغيوب، الذي يعلم ما كان وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف كان يكون138. وقال ابن العربي: «وهذا عزمٌ من الله لعبده على أن يدخل قولًا وعقدًا في مشيئة ربه، فما تشاؤون إلا أن يشاء الله، وقول ذلك أجدر في قضاء الأمر، ودرك الحاجة»139.
سابعًا: المبادرة وترك التسويف:
أرشد الله عز وجل إلى المبادرة إلى العمل بما استبان فيه الرشد مما عزم عليه فقال: (ﭭ ﭮ ﭯﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵﭶ) [آل عمران: ١٥٩].
قال ابن عاشور: المراد: «التوكل حقيقته الاعتماد، وهو هنا مجاز في الشروع في الفعل مع رجاء السداد فيه من الله، وهو شأن أهل الإيمان، فالتوكل انفعال قلبي عقلي يتوجه به الفاعل إلى الله راجيًا الإعانة ومستعيذًا من الخيبة والعوائق، وربما رافقه قول لساني وهو الدعاء بذلك. وبذلك يظهر أن قوله: (ﭳ ﭴ ﭵﭶ) دليل على جواب (إذا) وفرع عنه.
والتقدير: فإذا عزمت فبادر ولا تتأخر وتوكل على الله؛ لأن للتأخر آفات، والتردد يضيع الأوقات، ولو كان التوكل هو جواب «إذا» لما كان للشورى فائدة؛ لأن الشورى كما علمت لقصد استظهار أنفع الوسائل لحصول الفعل المرغوب على أحسن وجه وأقربه، فإن القصد منها العمل بما يتضح منها، ولو كان المراد حصول التوكل من أول خطور الخاطر لما كان للأمر بالشورى من فائدة. وهذه الآية أوضح آية في الإرشاد إلى معنى التوكل الذي حرف القاصرون ومن كان على شاكلتهم معناه، فأفسدوا هذا الدين من مبناه»140.
وعن أحمد بن عاصم الأنطاكي قال: «وأنفع الحزم ما طرحت به التسويف للعمل عند إمكان الفرصة وانتهاز البغية في أيام المهلة، وعند غفلة أهل الغرة»141.
وقال ابن القيم: «وأول مراتب تعظيم الأمر التصديق به، ثم العزم الجازم على امتثاله، ثم المسارعة إليه والمبادرة به رغم القواطع والموانع، ثم بذل الجهد والنصح في الإتيان به على أكمل الوجوه»142.
والتسويف سمة بارد الحس عديم المبالاة، الذي كلما همت نفسه بخيرٍ وتشوفت إليه وعزمت عليه أعاقها بالتسويف حتى يفجأه الموت. ومن علامات التسويف كثرة الجدال في الأمر، وافتراض المسائل وتشقيقها؛ فرارًا من العمل.
يقول ابن رجب: «فأما إن كانت همة السامع مصروفة عند سماع الأمر والنهي إلى فرض أمور قد تقع وقد لا تقع فإن هذا مما يدخل في النهي، ويثبط عن الجد في متابعة الأمر، وقد سأل رجلٌ ابن عمر عن استلام الحجر، فقال له: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يستلمه ويقبله. فقال له الرجل: أرأيت إن غلبت عنه؟ أرأيت إن زوحمت؟ فقال له ابن عمر: «اجعل (أرأيت) باليمن، رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلمه ويقبله»، ومراد ابن عمر أن لا يكون لك همٌ إلا في الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولا حاجة إلى فرض العجز عن ذلك أو تعسره قبل وقوعه، فإنه يفتر العزم على التصميم عن المتابعة»143.
ومن الفوائد المستنبطة من حديث الثلاثة الذين خلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجهاد: أن الرجل إذا سنحت له فرصة القربة والطاعة فالحزم كل الحزم في انتهازها والمبادرة إليها، والعجز في تأخيرها والتسويف بها، ولا سيما إذا لم يثق بقدرته وتمكنه من أسباب تحصيلها، فإن العزائم والهمم سريعة الانتقاض قلما ثبتت، والله سبحانه يعاقب من فتح له بابًا من الخير فلم ينتهزه، بأن يحول بين قلبه وإرادته، فلا يمكنه بعد من إرادته عقوبة له144.
ثامنًا: التحرز من المعاصي:
من أسباب ضعف القلب كثرة المعاصي؛ يقول تعالى: (ﭹﭺ ﭻﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ) [المطففين: ١٤].
قال قتادة: «هو الذنب على الذنب، حتى يرين على القلب فيسود»145.
وعن الحسن قال: الذنب على الذنب حتى يموت قلبه146، وقال: غشيت على قلوبهم فهوت بها فلا يفزعون، ولا يتحاشون147.
فهم قد غطى على قلوبهم الرين علاها كما يعلو الصدأ الحديد، فلا يبصرون رشدًا ولا يخلص إلى قلوبهم خيرٌ؛ بسبب إصرارهم على الكبائر وتسويف التوبة.
قال القشيري: «وإن قسوة القلب تحصل من اتباع الشهوة، والشهوة والصفوة لا تجتمعان فإذا حصلت الشهوة رحلت الصفوة. وموجب القسوة هو انحراف القلب عن مراقبة الرب. ويقال: موجب القسوة أوله خطرة، فإن لم تتدارك صارت فكرة، وإن لم تتدارك صارت عزيمة، فإن لم تتدارك جرت المخالفة، فإن لم تتدارك بالتلافى صارت قسوة، وبعدئذ تصير طبعًا ورينًا»148.
وعن حذيفة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودًا عودًا، فأي قلبٍ أشربها نكت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير على قلبين: على أبيض مثل الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود مربادًا كالكوز مجخيًا لا يعرف معروفًا، ولا ينكر منكرًا، إلا ما أشرب من هواه)149.
قال القاضي عياض: «وقوله: «على قلبين أبيض مثل الصفا» ليس تشبيهه بالصفا لما تقدم من بياضه، لكن أخذ في وصف آخر من شدته على عقد الإيمان وسلامته من الخلل وأن الفتن لم تلصق به، ولم تؤثر فيه كالصفا، وهو الحجر الأملس الذي لا يعلق به شيء، بخلاف الآخر الذي شبهه بالكوز الخاوي الفارغ من الإيمان، كما قيل في قوله تعالى: (ﭙ ﭚ) [إبراهيم: ٤٣]قيل: لا تعي خيرًا»150.
فكثرة المعاصي من أسباب فتور الهمة وقصور العزم عن الخير.
تاسعًا: مجاهدة الشيطان:
قال تعالى: (ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘﯙ) [اليقرة: ٢٦٨].
أي: يخوفكم به ويوسوس إليكم، فلا تخرجون الزكاة151.
وعن عبد الله بن مسعودٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن للشيطان لمةً، وللملك لمة، فأما لمة الشيطان فإيعادٌ بالشر وتكذيب بالحق، وأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق، فمن وجد ذلك فليحمد الله، ومن وجد الأخرى فليتعوذ من الشيطان)، ثم قرأ: (ﯔ ﯕ ﯖ)»152.
قال ابن رجب: «من صدق العزيمة يئس منه الشيطان، ومتى كان العبد مترددًا طمع فيه الشيطان وسوفه ومناه. يا هذا كلما رآك الشيطان قد خرجت من مجلس الذكر كما دخلت، وأنت غير عازمٍ على الرشد فرح بك إبليس، وقال: فديت من لا يفلح»153.
وإن الشيطان ليستعين على ابن آدم بالهوى، فيأتيه من أضعف جهات عزيمته، فإن المرء قد يكون ذا عزيمةٍ ماضيةٍ، ولكنه أمام داعي هواه لا صبر له قال تعالى: (ﭥ ﭦ ﭧ) [النساء: ٢٨].
وفي المراد بضعف الإنسان ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه الضعف في أصل الخلقة. قال الحسن: هو أنه خلق من ماءٍ مهين.
والثاني: أنه قلة الصبر عن النساء، قاله طاوس، ومقاتل.
والثالث: أنه ضعف العزم عن قهر الهوى، وهذا قول الزجاج، وابن كيسان154.
فلما رأى إبليس منه هذا الضعف (ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ) [الإسراء: ٦٢].
قال الرازي: «فإن قيل: كيف ظن إبليس هذا الظن الصادق بذرية آدم؟ قلنا: فيه وجوه: الأول: أنه سمع الملائكة يقولون: (ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ) [البقرة: ٣٠].
فعرف هذه الأحوال. الثاني: أنه وسوس إلى آدم فلم يجد له عزمًا، فقال: الظاهر أن أولاده يكونون مثله في ضعف العزم »155.
والوسوسة إذا استحكمت من القلب أفسدت كل عزمٍ، ونقلته إلى الشك والحيرة، التي قد تفسد على العبد اعتقاده وعبادته، فلا عجب أن تكررت وجوه الاستعاذة؛ إشعارًا بعظم خطر المستعاذ منه في قوله تعالى: (ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ) [الناس: ١-٦].
فلما كانت مضرة الدين، وهي آفة الوسوسة، أعظم من مضرة الدنيا وإن عظمت، جاء البناء في الاستعاذة منها بصفات ثلاث: الرب والملك والإله، وإن اتحد المطلوب، وفي الاستعاذة من ثلاث: الغاسق والنفاثات والحاسد بصفة واحدة وهي الرب، وإن تكثر الذي يستعاذ منه156.
قال الشيخ عطية سالم: «ولقد علم عدو المسلمين أن أخطر سلاح على الإنسان هو الشك، ولا طريق إليه إلا بالوسوسة، فأخذ عن إبليس مهمته وراح يوسوس للمسلمين في دينهم وفي دنياهم، ويشككهم في قدرتهم على الحياة الكريمة مستقلين عنه، ويشككهم في قدرتهم على التقدم والاستقلال الحقيقي، بل وفي استطاعتهم على الإبداع والاختراع؛ ليظلوا في فلكه ودائرة نفوذه، فيبقى المسلمون يدورون في حلقة مفرغة، يقدمون رِجْلًا ويؤخرون أخرى. والمتشكك في نتيجة عمل لا يقدم عليه أبدًا، بل ما يبنيه اليوم يهدمه غدًا»157.
وإذا كانت مهمة الوسوسة التشكيك والذبذبة والتردد فإن عمومات التكليف تلزم المسلم بالعزم واليقين والمضي دون تردد، والقاعدة الفقهية: «اليقين لا يرفع بشكٍ» ومن هنا كانت التكاليف كلها على اليقين، فالعقائد لا بد فيها من اليقين، والفروع في العبادات لا بد فيها من النية؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات) والشرط في النية الجزم واليقين، فمن هذا كله كانت دوافع العزيمة مستقاة من التكاليف، مما يقضي على نوازع الشك والتردد، فلم يبق في قلب المؤمن مجالٌ لشكٍ، ولا محلٌ لوسوسة158.
عاشرًا: أثر الصحبة:
من أهم أسباب قوة العزم صحبة أولي الهمم العالية، ومطالعة أخبارهم159، ومن أسباب الفتور وضعف العزيمة، وسفول الهمة مصاحبة البطالين، والركون إلى المثبطين.
ولو كان أحدٌ آمنًا من تأثير البطالين لكان النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن الله عز وجل يأمره: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ) [الكهف: ٢٨].
قال ابن القيم: «فإذا أراد العبد أن يقتدي برجل فلينظر: هل هو من أهل الذكر أم من الغافلين؟ وهل الحاكم عليه الهوى أم الوحي؟ فإن كان الحاكم عليه هو الهوى وهو من أهل الغفلة كان أمره فرطًا. ومعنى الفرط قد فسر بالتضييع، أي: أمره الذي يجب أن يلزمه ويقوم به، وبه رشده وفلاحه ضائعٌ قد فرط فيه. وفسر بالإسراف، أي: قد أفرط بالإهلاك. وفسر بالخلاف للحق.وكلها أقوال متقاربة.
والمقصود: أن الله سبحانه وتعالى نهى عن طاعة من جمع هذه الصفات. فينبغي للرجل أن ينظر في شيخه وقدوته ومتبوعه، فإن وجده كذلك فليبعد منه، وإن وجده ممن غلب عليه ذكر الله تعالى عز وجل واتباع السنة، وأمره غير مفروط عليه، بل هو حازم في أمره فليستمسك بغرزه»160.
وقال تعالى: (ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕﮖ) [آل عمران: ١١٨]أي: لا تتخذوا أولياء وأصدقاء لأنفسكم من دون أهل دينكم وملتكم، يعني من غير المؤمنين، وإنما جعل البطانة مثلًا لخليل الرجل فشبهه بما ولي بطنه من ثيابه؛ لحلوله منه في اطلاعه على أسراره، وما يطويه عن أباعده وكثيرٍ من أقاربه محل ما ولي جسده من ثيابه، فنهى الله المؤمنين أن يتخذوا من الكفار أخلاء وأصفياء، فإنهم منطوون على الغش والخيانة، وبغيهم إياهم الغوائل، لا يتركون جهدهم في تخبيل المؤمنين وإفسادهم، يتمنون لهم العنت والشر والمضرة لا المسرة161.
والحاصل أنهم لا يدعون للتثبيط عن الخير سبيلًا إلا طرقوه، ولا يبقون غاية في التلبيس على المؤمنين إلا قصدوها.
وقال تعالى: (ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ) [هود: ١١٣].
وقال تعالى: (ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ) [الفرقان: ٢٧-٢٩].
فهذه الآيات وأشباهها دالة على أثر الصاحب على صاحبه، فإن كان ممن وفقوا لصاحب الخير فقد رشد، وإن كانت الأخرى فقد غوى وهلك. نسأل الله التوفيق والسلامة.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل)162.
قال الغزالي:« وأما الحريص على الدنيا فصحبته سمٌ قاتل؛ لأن الطباع مجبولةٌ على التشبه والاقتداء، بل الطبع يسرق من الطبع من حيث لا يدري صاحبه، فمجالسة الحريص على الدنيا تحرك الحرص، ومجالسة الزاهد تزهد في الدنيا؛ فلذلك تكره صحبة طلاب الدنيا، ويستحب صحبة الراغبين في الآخرة»163.
حادي عشر: تحصيل ملكة العزم بالمداومة عليه:
عن معاوية رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الخير عادة، والشر لجاجة)164.
ومن اعتاد صدق العزم في أموره كلها حصلت له ملكة العزيمة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما العلم بالتعلم وإنما الحلم بالتحلم، ومن يتحر الخير يعطه، ومن يتوق الشر يوقه)165.
وكما أن الرجل لا يزال يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقًا، فكذلك الرجل يعزم ويتحرى صدق العزم حتى يكتب عند الله من أهل العزم، ولعل وصف الله عز وجل بعض عباده بأولي العزم شاهدٌ بهذا الاختصاص، وهو يحصل بالدربة والتعود والتكرار، وإلا ما كان لأمر الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم معنى إذ قال له: (ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ) [الأحقاف: ٣٥].
فمن وطن نفسه على العزم حتى صار له ملكةً راسخةً حصل له من الكمال الممكن في هذا الباب بقدر تحريه ومصابرته فيعتاد عليه، ويسهل عليه عقده. وهي سمةٌ تميز أهل العزائم.
قال ابن القيم: «تأمل الحكمة في التشديد في أول التكليف ثم التيسير في أخره بعد توطين النفس على العزم والامتثال، فيحصل للعبد الأمران: الأجر على عزمه، وتوطين نفسه على الامتثال، والتيسير والسهولة بما خفف الله عنه»166.
ويحصل له هذه الملكة الراسخة من العزم، فإذا استنفر بعد ذلك إلى خيرٍ نفر، وإن استنهض إلى مكرمةٍ نهض.
والخبير من أهل العزم أحرى من غيره بالاهتداء إلى معاقد العزم فيمضي في تحصيلها كالسهم، والوقوف على علل العزائم فيتجنبها.
قال ابن القيم: «قوله [الهروي]: فإن العزائم لم تورث أربابها ميراثًا أكرم من وقوفهم على علل العزائم. ومدار علل العزائم: على ثلاثة أشياء:
أحدها: فتورها وضعفها.
والثاني: عدم تجردها من الأغراض وشوائب الحظوظ.
والثالث: رؤية العزائم وشهودها، ونسبتها إلى أنفسهم.
فإذا عرف هذه الثلاثة عرف علل العزائم»167.
للعزم آثار حميدة، منها ما يعود على الفرد، ومنها ما يعود على الأمة.
أولًا: آثار العزم على الفرد:
العزم من أهم مقومات تحصيل خيري الدنيا والآخرة، فهو مادة الطموح وعلو الهمة والرجولة والشهامة والمروءة وتحمل المسئولية، وهو أحد ثلاث خصالٍ ما اجتمعت في امرئٍ إلا كان له شأنٌ بين الرجال: العقل والعلم والعزم، فبالعقل يميز وجهته وبغيته، وبالعزم يُغذُّ السير إليها، وبالعلم يستقيم له سيره. وغياب العزم فتورٌ وتوانٍ، وانحطاط الهمم مؤذنٌ بانحطاط الأمم، وضعف العزائم مؤذنٌ بذهاب المكارم.
وقد بينا أن العزم أوكد النية، والنية - كما يقول ابن القيم - هي روح العمل ولبه وقوامه، وهو تابع لها يصح بصحتها ويفسد بفسادها، والنبي صلى الله عليه وسلم قد قال كلمتين كفتا وشفتا، وتحتهما كنوز العلم، وهما قوله: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى)168. فبين في الجملة الأولى أن العمل لا يقع إلا بالنية؛ ولهذا لا يكون عملٌ إلا بنية، ثم بين في الجملة الثانية أن العامل ليس له من عمله إلا ما نواه وهذا يعم العبادات والمعاملات والأيمان والنذور وسائر العقود والأفعال169.
فلما كان تحقق العمل فرعًا عن العزم وجمع الهمة، كان كل الطاعات والقربات والمكرمات مفتقرةً إلى جمع الهمة؛ ولذا قال أبو محمد المرتعش: «ما نفعني من العبادات شيءٌ ما نفعني جمع الهمة»170.
فإذا صحت العبادة كثرت الحسنات، ونال العبد بعزمه ما قد لا يبلغه بعمله لعذرٍ لا يد له فيه، إذا كان صادق العزم. والأدلة على هذا الأصل أكثر من أن تحصى. قال ابن القيم: «وأما أعمال البر والطاعات فلا ضيق على العباد فيها، فلو اشترك الألوف المؤلفة فى الطاعة الواحدة لم يكن عليهم فيها ضيق ولا تزاحم ووسعتهم كلهم، وإن قدر التزاحم فى عمل واحد أو مكان لا يمكن أن يفعله الجميع بحيث إذا فعله واحد فات على غيره، فإن فى العزم والنية الجازمة على فعله من الثواب ما لفاعله، كما ثبت عن النبى صلى الله عليه وسلم فى غير حديث، فإذا قدر فوت مباشرته له فلا يفوت عليه عزمه ونيته لفعله»171.
والعزم يورث التأهب لكل أمرٍ جليلٍ، فإذا عزم الأمر ألفيت العازم مبادرًا متفانيًا غير متوانٍ، فكان حقيقًا بنجاح المسعى، وجديرًا بنيل طلبته. وفي المبادرة حفظٌ للأوقات، وقطعٌ لآفات التأخر والتباطؤ.
ويدل على أثر العزم وتأثير فقده قوله تعالى: (ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ) [طه: ١١٥].
أي: لم نجد له صبرًا عن الأكل من الشجرة172.
قال ابن جرير: «وأصل العزم اعتقاد القلب على الشيء، يقال منه: عزم فلان على كذا: إذا اعتقد عليه ونواه، ومن اعتقاد القلب: حفظ الشيء، ومنه الصبر على الشيء؛ لأنه لا يجزع جازع إلا من خور قلبه وضعفه. فإذا كان ذلك كذلك، فلا معنى لذلك أبلغ مما بينه الله تبارك وتعالى، وهو قوله: (ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ) فيكون تأويله: ولم نجد له عزم قلبٍ على الوفاء لله بعهده، ولا على حفظ ما عهد إليه»173.
قال ابن زيد: «ولو كان له عزمٌ ما أطاع عدوه الذي حسده، وأبى أن يسجد له مع من سجد له، وعصى الله الذي كرمه وشرفه»174.
فما كان من أمر آدم عليه السلام مع إبليس، وخروجه من الجنة إنما كان بسبب ضعف عزمه، ولم يقتصر تأثير ذلك على آدم وزوجه فحسب، بل تعدى أثره إلى ذريته؛ ولذا قال له موسى عليه السلام: (يا آدم أنت أبونا خيبتنا وأخرجتنا من الجنة)175.
ومن آثار العزم استجابة الدعاء عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا دعا أحدكم فليعزم المسألة، ولا يقولن: اللهم إن شئت فأعطني فإنه لا مستكره له)176.
ومن آثار العزم حسن الخاتمة ذلك أن الثبات على الأمر والعزيمة على الرشد يورثان المواظبة على الطاعة، ومن واظب على الطاعة مخلصًا كل أوقاته فحريٌ أن توافيه منيته وهو مقيمٌ على الطاعة.
قال ابن كثير: «وقوله: (ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ) [آل عمران: ١٠٢] أي: حافظوا على الإسلام في حال صحتكم وسلامتكم؛ لتموتوا عليه، فإن الكريم قد أجرى عادته بكرمه أنه من عاش على شيء مات عليه، ومن مات على شيء بعث عليه، فعياذًا بالله من خلاف ذلك»177.
ومن آثار العزم أن يفتح للمرء باب الفهم في دين الله، فالمواظبة على شحذ القلب بالعزم الصادق يشحذ ملكة الفهم وآلته. والفهم من بركات الطاعة كما قال تعالى: (ﯸ ﯹﯺ ﯻ ﯼﯽ) [البقرة: ٢٨٢].
ولذا قال أبو حازم: «عند تصحيح الضمائر تغفر الكبائر، وإذا عزم العبد على ترك الآثام أمه الفتوح»178.
ومن آثار العزم على ترك الذنوب وعدم العودة إليها أن تقبل التوبة فيختم له بالصالحات، وتبدل السيئات حسناتٍ، وتفتح له الجنات، وترفع له الدرجات. وكفى بذلك لصاحب العزم منزلةً ومثوبةً.
ثانيًا: آثارالعزم على الأمة:
إن سقوط الهمم وخساستها حليف الهوان وقرين الذل والصغار، وهو أصل الأمراض التي تفشت في أمتنا فأورثتها قحطًا في الرجال، وجفافًا في القرائح، وتقليدًا أعمى، وتواكلًا، وكسلًا، واستسلامًا لما يسمى بالأمر الواقع179.
ولا ريب أن طريق هذه الأمة في الأرض يبدأ بصناعة الجيل الذي وصفه ربنا عز وجل: (ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘﯙ) [المائدة: ٥٤].
قومٌ صلاب في دينهم، إذا شرعوا في أمر من أمور الدين من إنكار منكر أو أمر بمعروف، مضوا فيه كالمسامير المحماة، لا يرعبهم قول قائلٍ، ولا اعتراض معترض، ولا لومة لائمٍ، ممن يشق عليه جدهم في إنكارهم وصلابتهم في أمرهم. وهذان الوصفان: الجهاد والصلابة في الدين هما نتيجة الأوصاف السابقة؛ لأن من أحب الله لا يخشى إلا إياه، ومن كان عزيزًا على الكافر جاهد في إخماده واستئصاله180.
قال السعدي: «فهم للمؤمنين أذلةٌ من محبتهم لهم، ونصحهم لهم، ولينهم ورفقهم ورأفتهم، ورحمتهم بهم وسهولة جانبهم، وقرب الشيء الذي يطلب منهم وعلى الكافرين بالله المعاندين لآياته المكذبين لرسله، أعزةٌ قد اجتمعت هممهم وعزائمهم على معاداتهم، وبذلوا جهدهم في كل سبب يحصل به الانتصار عليهم فالغلظة والشدة على أعداء الله مما يقرب العبد إلى الله، ويوافق العبد ربه في سخطه عليهم، ولا تمنع الغلظة عليهم والشدة دعوتهم إلى الدين الإسلامي بالتي هي أحسن. فتجتمع الغلظة عليهم، واللين في دعوتهم، وكلا الأمرين من مصلحتهم ونفعه عائد إليهم. يجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، بأقوالهم وأفعالهم، ولا يخافون لومة لائم بل يقدمون رضا ربهم والخوف من لومه على لوم المخلوقين، وهذا يدل على قوة هممهم وعزائمهم، فإن ضعيف القلب ضعيف الهمة، تنتقض عزيمته عند لوم اللائمين، وتفتر قوته عند عذل العاذلين، وفي قلوبهم تعبد لغير الله، بحسب ما فيها من مراعاة الخلق وتقديم رضاهم ولومهم على أمر الله، فلا يسلم القلب من التعبد لغير الله، حتى لا يخاف في الله لومة لائم»181.
وقال ابن عاشور: «وهذا الوصف علامة على صدق إيمانهم حتى خالط قلوبهم بحيث لا يصرفهم عنه شيء من الإغراء واللوم؛ لأن الانصياع للملام آية ضعف اليقين والعزيمة. ولم يزل الإعراض عن ملام اللائمين علامة على الثقة بالنفس وأصالة الرأي»182.
وليس ذلك بسبيل الإمعة ضعيف العزيمة المتردي في أسر الشهوات والعادات، المتهاوي في حبائل عدوه، وقد يكون من الموقنين بأنه عدوه، وأنه أحرص الناس على مضرته، ولكن وهنه، وانحطاط عزيمته، وهوانه على نفسه وعلى الناس يثبطه عن قطع الحبل الذي يربطه بالمذلة، ويجلب عليه بالمعرة.
ومن آثار العزم على الأمة الاستقرار الأسري، فإن عزم الرجل أمر النكاح والطلاق يحسم مادة الجور، فيقوم المرء لله بالقسط، إن أحب أمسك بالمعروف، وإن كره سرح بإحسانٍ، وهذا وحده كفيلٌ بحسم مئات الآلاف من قضايا الأحوال الشخصية، التي تهدر فيها الأموال، وتضيع فيها الأوقات، فضلًا عن إراقة ماء الوجه، وقطيعة الأرحام، وفسخ أواصر العلاقات الاجتماعية مع ما فيه من فساد ذات البين.
ومن آثار العزم على الأمة صناعة الفرسان في كل ميادين الحياة، بين عالمٍ ومخترعٍ وطبيب ومهندسٍ وزارعٍ وصانعٍ إلخ، وإقامة القدوات للنشء، وصناعة المواهب، وتوريث الإبداع، فضلًا عن استجلاب الرخاء العميم، والخير المقيم ببركة الطاعات.
إن المتدبر في قوله تعالى: (ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢﮣ ﮤ ﮥ ﮦﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ) [التوبة: ٧١].
ليرى أن مكونات تلك الصورة الكلية الرائعة لا تتحقق إلا بالعزم الماضي، والهمة الأكيدة، فموالاة المؤمنين ليست كلمةً تقال، وإنما جهادٌ ومناصرةٌ ومؤازرةٌ بالنفس والنفيس، تتجاوز الكلمات الشفوية، وبيانات الشجب والاستنكار.
وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وطاعة الله ورسوله، كل ذلك من عزم الأمور.
والتعبير بالأفعال المضارعة إشارةٌ إلى أن ذلك دينهم وعادتهم وديدنهم، ولا شك أنه مما يحتاج إلى مثابرة ومرابطةٍ، ومكابدة للمشاق والعقبات، ومجاهدة للنفس المحبة للدعة والراحة.
والصورة المقابلة لتلك الصورة هي للمنافقين: (ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰﮱ) [التوبة: ٦٧].
ولما وصف المؤمنين بكون بعضهم أولياء بعضٍ ذكر بعده ما يجري كالتفسير والشرح له، وهي الخمسة التي يميز بها المؤمن على المنافق.
فالمنافق يأمر بالمنكر، وينهى عن المعروف ولا يقوم إلى الصلاة إلا وهو كسلان، ويبخل بالزكاة، ويتخلف بنفسه عن الجهاد، وإذا أمره الله تثبط وثبط غيره. والمؤمن بضد ذلك كله من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، والجهاد183.
فهذه صورة المجتمع المؤمن إذا حضره الإيمان وانحسر عنه النفاق، وتصدره أولو العزم، وتبدد عنه التثبيط والمثبطون. والله المستعان.
موضوعات ذات صلة: |
التوكل، الثبات، الشورى، الصبر، الضعف، الوهن |
1 انظر: العين، الفراهيدي ١/٣٦٣-٣٦٤، جمهرة اللغة، ابن دريد ٢/٨١٧، تهذيب اللغة، الأزهري ٢/١٥٢، الصحاح، الجوهري ٥/١٩٨٥، مقاييس اللغة، ابن فارس ٤/٣٠٨-٣٠٩، لسان العرب، ابن منظور ٦/٢٣٦-٢٣٧.
2 المفردات ٢/٤٣٤.
3 التعريفات ص ١٦.
4 الأمنية في إدراك النية ص ١١٧-١١٨.
5 مدارج السالكين ١/١٥٢.
6 انظر: المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، محمد فؤاد عبد الباقي، ص٤٦١، المعجم المفهرس الشامل، عبد الله جلغوم، باب العين ص٧٦٤.
7 انظر: الوجوه والنظائر، الدامغاني، ص٣٤٠-٣٤١،، بصائر ذوي التمييز، الفيروزآبادي، ٤/٦٣-٦٤.
8 انظر: العين، الفراهيدي ٨/٦٤، تهذيب اللغة، الأزهري ١٤/١٦٣، الصحاح، الجوهري ٢/٤٧٨، المحكم والمحيط الأعظم، ابن سيده ٩/٤٢١، لسان العرب، ابن منظور ٤/٢٩٥-٢٩٧.
9 التعريفات، الجرجاني ص ١٦.
10 انظر: الفروق اللغوية ص ١٢٤.
11 انظر: العين، الفراهيدي ٣/٣٥٧، تهذيب اللغة، الأزهري ٥/٣٨١، الصحاح، الجوهري ٥/٢٠٦١، المحكم والمحيط الأعظم، ابن سيده ٤/١١٠- ١١١، لسان العرب، ابن منظور ٩/١٣٨- ١٤٠.
12 انظر: التعريفات، الجرجاني ص ٢٥٧، التوقيف على مهمات التعاريف، المناوي ص ٣٤٤.
13 الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان ٢/١٠٧.
14 انظر: العين، الفراهيدي ٣/١٦٦، تهذيب اللغة، الأزهري ٤/٣٧٦، الصحاح، الجوهري ٥/١٨٩٨، مقاييس اللغة، ابن فارس ٢/٥٣، المحكم والمحيط الأعظم، ابن سيده ٣/٢٣٢، لسان العرب، ابن منظور ٢/٤٢٨.
15 انظر: الفائق في غريب الحديث، الزمخشري ١/٢٧٨، النهاية في غريب الحديث والأثر، ابن الأثير ١/٣٧٩.
16 انظر: التعريفات، الجرجاني ص ٨٦، التوقيف على مهمات التعاريف، المناوي ص ١٣٩.
17 انظر: المحرر الوجيز ١/٥٥١، البحر المحيط ٨/٤١٦.
18 روى أبو داود في سننه، كتاب الأدب، باب في تغيير الأسماء، رقم ٤٩٥٠، عن أبي وهب الجشمي رضي الله عنه، وكانت له صحبة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «تسموا بأسماء الأنبياء، وأحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن، وأصدقها حارث وهمام، وأقبحها حرب ومرة».
وحسنه لغيره الألباني في السلسلة الصحيحة رقم ٩٠٤، ورقم١٠٤٠.
19 المحرر الوجيز، ابن عطية١/١٨٠.
20 أنوار التنزيل ١/٨٥.
21 انظر: النكت والعيون، الماوردي ٢/٢٦٠، التفسير البسيط، الواحدي ٩/٣٤٧، معالم التنزيل، البغوي ٢/٢٣٣.
22 انظر: جامع البيان، الطبري ١٥/٤٧٣-٤٧٤، الهداية إلى بلوغ النهاية، مكي بن أبي طالب ٧/٤٥٠٢.
23 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٦/٦٧.
24 تفسير عبد الرزاق ٢/٤٤٢.
25 انظر: جامع البيان، الطبري ١٧/٣٢١- ٣٢٢، تفسير ابن أبي حاتم ٨/٢٦٠٨.
26 انظر: لباب التأويل، الخازن ٣/٣٩٩، البحر المحيط، أبو حيان ٨/٤١٥-٤١٦.
27 الكشاف، الزمخشري ١/٢٣٨.
28 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الحج، باب فضل الحج المبرور، رقم ١٥٢٠.
قال ابن حجر في فتح الباري ٣/٣٨٢: «اختلف في ضبط لكن فالأكثر بضم الكاف خطاب للنسوة قال القابسي وهو الذي تميل إليه نفسي، وفي رواية الحموي لكن بكسر الكاف وزيادة ألف قبلها، بلفظ الاستدراك، والأول أكثر فائدة، لأنه يشتمل على إثبات فضل الحج وعلى جواب سؤالها عن الجهاد وسماه جهادا لما فيه من مجاهدة النفس».
29 إحياء علوم الدين ١/٢٦٧.
30 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجهاد والسير، باب فضل الجهاد، رقم ٢٧٨٥، ومسلم في صحيحه، كتاب الإمارة، باب فضل الشهادة في سبيل الله، رقم ١٨٧٨.
31 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجهاد والسير، باب أفضل الناس مؤمن مجاهد بنفسه وماله في سبيل الله، رقم ٢٧٨٦، ومسلم في صحيحه، كتاب الإمارة، باب فضل الجهاد والرباط، رقم ١٨٨٨.
32 جزء من حديث أخرجه أحمد في مسنده، رقم ٢٢٠١٦.
وصححه لغيره الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، رقم ٢٨٦٦.
33 انظر: التحرير والتنوير، ابن عاشور ٢١/٣٠٧.
34 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجهاد والسير، باب قول الله عز وجل:( من المؤمنين رجال صدقوا)، رقم ٢٨٠٥، ومسلم في صحيحه، كتاب الإمارة، باب ثبوت الجنة للشهيد، رقم ١٩٠٣.
35 شرح صحيح البخاري، ابن بطال ٥/٢٣.
36 إرشاد العقل السليم، أبو السعود ٩/٥٤.
37 معالم التنزيل، البغوي ١/٧٠٩.
38 أضواء البيان، الشنقيطي ٣/٢٢.
39 نظم الدرر، البقاعي٣/٢٩٢-٢٩٤.
40 التحرير والتنوير ٢/٣٨٦.
41 جامع البيان، الطبري ٧/٤٨١.
42 الهداية إلى بلوغ النهاية ١٠/٦٦٠٩-٦٦١٠.
43 انظر: مفاتيح الغيب، الرازي ٢٧/٦٠٧، البحر المحيط، أبو حيان ٩/٣٤٥-٣٤٦.
44 أنوار التنزيل، البيضاوي ٥/١١٧.
45 التحرير والتنوير ٢٥/١٢٢.
46 انظر: جامع البيان، الطبري ٦/٢٩٠، الكشاف، الزمخشري ١/٤٤٩.
47 مدارك التنزيل، النسفي ١/٣١٨-٣١٩.
48 التحرير والتنوير ٤/١٨٩.
49 تفسير مقاتل ٣/٤٣٥.
50 انظر: النكت والعيون، الماوردي ٣/٣٩٤، تفسير السمعاني ٣/٣٢١، معالم التنزيل، البغوي ٣/٢٥٦.
51 انظر: جامع البيان، الطبري ١٦/١٣، تفسير ابن حاتم ٧/٢٤١٦.
52 تفسير عبد الرزاق ٢/٣٦٧.
53 مفاتيح الغيب، الرازي ٢٢/١٠.
وانظر لباب التأويل، الخازن ٣/٢٠١.
54 ذم الهوى ص ١٦٢.
55 حلية الأولياء ١٠/٢٣٠.
56 انظر: سير السلف الصالحين ص ١٢١١، ذم الهوى ص ١٦١.
57 انظر: الذريعة إلى مكارم الشريعة، الراغب الأصفهاني ص ٢٤١.
58 تفسير مقاتل ٣/٧٧٣.
59 انظر: تفسير ابن أبي حاتم ١٠/٣٢٨٠، تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٧/٢١٤.
60 انظر: الذريعة إلى مكارم الشريعة، الراغب الأصفهاني ص ٢٤١-٢٤٢، الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ١٨/٤٩٠-٤٩٦.
61 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص ٧٦٠.
62 انظر: إحياء علوم الدين، الغزالي ٤/٣٨٧-٣٨٩.
63 انظر: مدارج السالكين، ابن القيم ١/١٣٠.
64 المصدر السابق ١/١٥٧.
65 انظر: المصدر السابق ٢/٢٦٧- ٢٦٩.
66 جامع البيان، الطبري ١٩/٦١.
67 أخرجه أحمد في مسنده، رقم ١٩٦٥٩.
قال محققو المسند: «إسناده صحيح إن ثبت سماع حميد بن عبد الرحمن الحميري لهذه القصة من أبي موسى، فليس في الإسناد تصريح من حميد بسماعه منه.ورجال الإسناد ثقات رجال الشيخين غير داود بن عبد الله الأودي، فمن رجال أصحاب السنن، وهو ثقة».
68 معاني القرآن، الزجاج ٥/١٣.
69 انظر: الكشف والبيان، الثعلبي ٦/٣٠٥، البسيط، الواحدي ١٥/١٨٠، تفسير السمعاني ٣/٤٠٥، معالم التنزيل، البغوي ٣/٣١٥.
وقال بعضهم: إنما يعني زكريا وزوجه ويحيى عليهم السلام.
انظر: زاد المسير، ابن الجوزي ٣/٢١١، الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ١٤/٢٧٩.
70 مفاتيح الغيب، الرازي ٢٢/١٨٢.
71 إرشاد العقل السليم، أبو السعود ٦/٨٣.
72 التحرير والتنوير، ابن عاشور ١٧/١٣٦.
73 انظر: تفسير الراغب الأصفهاني ٣/٩٩٧.
74 أنوار التنزيل، البيضاوي ٤/٩٠.
75 انظر: تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص ٥٥٤.
76 انظر: طريق الهجرتين ص٢٢٤.
77 انظر: إغاثة اللهفان، ابن القيم ١/٥.
78 مجموع فتاوى ابن تيمية ٧/٢٢١.
79 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب القدر، باب في الأمر بالقوة وترك العجز، رقم ٢٦٦٤.
80 انظر: إكمال المعلم بفوائد مسلم، القرطبي ٨/١٥٧، شرح صحيح مسلم، النووي ١٦/٢١٥.
81 الإفصاح عن معاني الصحاح، ابن هبيرة ٨/٤٤.
82 انظر: مدارج السالكين، ابن القيم ١/١٤٣.
83 في ظلال القرآن ٦/٣٢٩٠.
84 الكشاف، الزمخشري ٢/٦٥٦.
85 أخرجه أحمد في مسنده، رقم ٢١٥٩٠.
وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، رقم ٩٥٠.
86 الفروسية، ابن القيم ص ٤٩١.
87 أخرجه أحمد في مسنده، رقم ٢٢٣٩٧.
وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، رقم ٩٥٨.
88 جامع البيان، الطبري ١١/١١٢.
89 تفسير السمرقندي ٢/١٥.
90 أخرجه أحمد في مسنده، رقم ١٢١٠٧.
وصححه الألباني في تعليقه على مشكاة المصابيح، رقم ١٠٢.
91 الكشف والبيان، الثعلبي ٩/١١٣.
92 المصدر السابق ١٠/١٦٢.
93 حلية الأولياء، أبو نعيم الأصبهاني ٧/٥٢.
94 العظمة، أبو الشيخ الأصبهاني ١/٣٣٢.
95 أخرجه أحمد في مسنده، رقم ١٧١١٤.
وحسنه محققو المسند بمجموع طرقه.
96 عدة الصابرين ص ١١٠.
97 مفتاح دار السعادة ١/٤٤٦.
98 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجهاد والسير، باب من غزا بصبيٍ للخدمة، رقم ٢٨٩٣.
99 طريق الهجرتين ص ٢٧٩.
100 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التهجد، باب ما جاء في التطوع مثنى مثنى، رقم ١١٦٢.
101 انظر: كشف المشكل من حديث الصحيحين، ابن الجوزي ٣/٥١، شرح المشكاة، الطيبي ٤/١٢٤٥.
102 شرح صحيح البخاري، ابن بطال ١٠/١٢٣.
103 فتح الباري ١١/١٨٥.
104 الذريعة إلى مكارم الشريعة، الراغب الأصفهاني ص ٢١٠.
105 جامع البيان، الطبري ٦/١٨٩.
106 المصدر السابق ٦/١٩٠.
107 أخرجه البخاري في الأدب المفرد.
وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد ص ١١٤.
108 انظر: تفسير ابن المنذر ٢/٤٦٨، تفسير ابن أبي حاتم ٣/٨٠١.
109 جزء من حديث أخرجه عبد الرزاق في مصنفه ٥/٣٣٠، رقم ٩٧٢٠.
110 صحيح البخاري ص ١٨١٨.والحديث أخرجه أحمد ح ١٤٧٨٧، وصححه محققو المسند.
111 المحرر الوجيز ١/٥٣٤.
112 المصدر السابق.
113 الذريعة إلى مكارم الشريعة ص ٢١٠.
114 أدب الدنيا والدين، الماوردي ص ٣٠٣.
115 جامع البيان،الطبري ٦/١٨٨-١٨٩.
116 تفسير ابن المنذر ٢/٤٦٧.
117 انظر: جامع البيان، الطبري ٦/١٩١.
118 تأويلات أهل السنة، الماتريدي ٩/١٣٣.
119 انظر: تفسير السمرقندي ١/٢٦٠، زاد المسير ١/٣٤٠.
120 انظر: مفاتيح الغيب، الرازي ٩/٤٠٩، زاد المسير، ابن الجوزي ١/٣٤٠.
121 انظر: مفاتيح الغيب، الرازي ٩/٤٠٩، البحر المحيط، أبو حيان ٣/٤٠٨-٤٠٩.
122 انظر: معاني القرآن وإعرابه، الزجاج ٤/٤٠١، المحرر الوجيز، ابن عطية ٥/٣٩، أحكام القرآن، ابن العربي ٤/٩١.
123 انظر: أدب الدنيا والدين، الماوردي ص ٣٠٠.
124 المصدر السابق.
125 المصدر السابق.
126 انظر: النكت والعيون، الماوردي ٢/٣٦٨.
127 تفسير السمرقندي ٢/٦٣
128 انظر: مكارم الأخلاق، الخرائطي ص ٣٠٥.
129 انظر: جامع البيان، الطبري ٦/١٩١، معاني القرآن وإعرابه، الزجاج ١/٤٨٣، مدارك التنزيل، النسفي ١/٣٠٦.
130 مجموع رسائل ابن رجب ١/٣٧٢.
131 محاسن التأويل ٥/٢٦٣.
132 مفاتيح الغيب، الرازي ٩/٤١٠.
133 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٥/٣٨٤-٣٨٥.
134 عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الطيرة شرك».
أخرجه أحمد في مسنده، ٦/٢١٣، رقم ٣٦٨٧، وأبو داود في سننه، كتاب الطب، باب في الطيرة، رقم ٣٩١٠.
وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، رقم ٤٢٩.
135 انظر: فيض القدير، المناوي ٤/٢٩٤.
136 مفتاح دار السعادة ٢/٢٦١.
137 عدة الصابرين، ابن القيم ص ٢٥٤.
138 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٥/١٤٨.
139 أحكام القرآن، ابن العربي ٣/٢٢٨.
140 التحرير والتنوير ٤/١٥١.
141 انظر: حلية الأولياء، أبو نعيم الأصبهاني ٩/٢٨٣.
142 الصواعق المرسلة ٤/١٥٦١.
143 جامع العلوم والحكم ص ٩٢.
144 انظر: زاد المعاد، ابن القيم ٣/٥٠٢-٥٠٣.
145 انظر: تفسير عبد الرزاق ٣/٤٠٤، جامع البيان، الطبري ٢٤/٢٠٣.
146 انظر: جامع البيان، الطبري ٢٤/٢٠١.
147 انظر: المصدر السابق ٢٤/٢٠٣.
148 لطائف الإشارات ٣/٥٣٩.
149 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب أن الإسلام بدأ غريبًا وسيعود غريبًا، رقم ١٤٤.
150 إكمال المعلم ١/٤٥٣.
151 الهداية إلى بلوغ النهاية، مكي بن أبي طالب ١/٨٩٤.
152 أخرجه الترمذي ح٢٩٨٨ في التفسير، باب ومن سورة البقرة، وابن حبان في صحيحه ح ٩٩٧، وفي سنده من اختلط، وأخرجه الطبري بسنده موقوفًا على ابن مسعود رضي الله عنه ٥/٦-٨، قال الأرنؤوط: «وهذا إسناد صحيح، وقد أعل بالوقف، وأجيب بأن له حكم الرفع، لأنه لا يعلم بالرأي ولا يدخله القياس».
153 مجموع رسائل ابن رجب ١/٣٧٧.
154 زاد المسير ص ٣٩٥.
155 مفاتيح الغيب، الرازي ٢١/٣٦٧.
156 البحر المحيط، أبو حيان ١٠/٥٧٩.
157 تتمة أضواء البيان ٩/١٨٥.
158 انظر: المصدر السابق ٩/١٨٩.
159 انظر: علو الهمة ص ٣٥٢-٣٥٧.
160 الوابل الصيب ص ٤١.
161 انظر: جامع البيان، الطبري ٥/٧٠٧-٧٠٩.
162 أخرجه أحمد في مسنده، رقم ٨٤١٧، وأبو داود في سننه، كتاب الأدب، باب من يؤمر أن يجالس، رقم ٤٨٣٣.
وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة، رقم ٩٢٧.
163 إحياء علوم الدين ٢/١٧٣.
164 أخرجه ابن ماجه في مقدمة سننه، باب فضل العلماء والحث على طلب العلم، ١/٨٠، رقم ٢٢١.
وحسنه الألباني في صحيح الجامع، ١/٦٣١، رقم ٣٣٤٨.
165 أخرجه الدارقطني في الأفراد، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة، رقم ٣٤٢.
166 عدة الصابرين ص ١٨٣.
167 مدارج السالكين ٢/٣٤٤.
168 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي، رقم ١.
169 إعلام الموقعين ٣/٩١.
170 انظر: ذم الهوى ص ٩٠.
171 طريق الهجرتين ص ٢٩٩.
172 وهو قول قتادة مقاتل.
انظر: تفسير مقاتل ٣/٤٣، جامع البيان، الطبري ١٦/١٨٣.
173 انظر: جامع البيان، الطبري ١٦/١٨٥.
174 انظر: المصدر السابق ١٦/١٨٢.
175 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب القدر، باب تحاج آدم وموسى عند الله، رقم ٦٦١٤، ومسلم في صحيحه، كتاب القدر، باب حجاج آدم وموسى عليهما السلام، رقم ٢٦٥٢.
176 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الدعوات، باب ليعزم المسألة فإنه لا مكره له، رقم ٦٣٣٨.
177 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٢/٨٧.
178 انظر: حلية الأولياء ٣/٢٣٠.
179 علو الهمة ص ٣٢٥.
180 انظر: الكشاف، الزمخشري ١/٦٤٨، البحر المحيط، أبو حيان ٤/٢٩٩.
181 تيسير الكريم الرحمن ص ٢٣٥.
182 التحرير والتنوير ٦/٢٣٨.
183 انظر: البحر المحيط، أبو حيان ٥/٤٥٩.