عناصر الموضوع

مفهوم العبادة

العبادة في الاستعمال القرآني

الألفاظ ذات الصلة

العبادة والاستعانة

أنواع العبادة

مكانة العبادة في القرآن

أركان العبادة

شروط العبادة

دوافع العبادة

صور العبادة

عبادة غير الله تعالى

مقاصد العبادة وآثارها

العبادة

مفهوم العبادة

أولًا: المعنى اللغوي:

قال ابن فارس رحمه الله في مادة «عبد»: «العين والباء والدال أصلان صحيحان، كأنهما متضادان، فالأول يدل على لين وذل، والآخر على شدة وغلظ»1.

وقال ابن سيده: «أصل العبادة في اللغة: التذليل، من قولهم: «طريق معبد» أي: مذلل، ومنه أخذ «العبد» لذلته لمولاه، والعبادة والخضوع والتذلل والاستكانة قرائب في المعاني، والعبادة نوع من الخضوع لا يستحقه إلا المنعم بأعلى أجناس النعم، كالحياة والفهم والسمع والبصر»2.

وقال الأزهري: ومعنى العبادة في اللغة: الطاعة مع الخضوع »3.

وقد استخلص ابن عاشور من كلام أهل اللغة معنى العبادة فقال: «إنها إظهار الخضوع للمعبود، واعتقاد أنه يملك نفع العابد وضره ملكًا ذاتيًا مستمرًا، فالمعبود إله للعابد كما حكى الله قول فرعون: ( ) [المؤمنون:٤٧]» 4.

ثانيًا: المعنى الاصطلاحي:

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في تعريف العبادة: «والعبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة»5.

وقال ابن كثير رحمه الله: «والعبادة في الشرع: عبارة عما يجمع كمال المحبة والخضوع والخوف»6؛ لأن الحب الكامل مع الذل التام يتضمن طاعة المحبوب، والانقياد له، فالعبد هو الذي ذلله الحب والخضوع لمحبوبه، فطاعة العبد لربه تكون بحسب محبته وذله له7.

وقال ابن عاشور: «والعبادة في الشرع تعرف بأنها فعل ما يرضي الرب من خضوع وامتثال واجتناب، أو هي فعل المكلف على خلاف هوى نفسه تعظيما لربه»8، فصارت في الشرع اسمًا لكل طاعة لله، أديت له على وجه التذلل والنهاية في التعظيم 9.

وقال الرازي: «العبادة تعظيم أمر الله والشفقة على الخلق، وهذا المعنى هو الذي اتفقت عليه الشرائع وإن اختلفوا في الوضع والهيئة والقلة والكثرة»10.

فهي بهذا التفسير تشمل الامتثال لأحكام الشريعة كلها11، فهي في مفهومها العام تعني: «التذلل لله محبة وتعظيمًا، بفعل أوامره، واجتناب نواهيه، على الوجه الذي جاءت به شرائعه»12.

وتعريف شيخ الاسلام ابن تيمية أدق وأشمل، فالدين كله داخل في العبادة، ومن خلال تعريف العلماء للعبادة في الاصطلاح الشرعي تبين أن لفظ العبادة يدور حول معنى الذل التام والخشوع الكامل لله تعالى، والالتزام بما شرعه، والانتهاء عما نهى عنه تعالى، والتمسك بكل ما يرضى الله تعالى، قولًا وعملًا وتركًا، وكل هذه التعريفات للعبادة معناها واحد ولا تختلف عن المعنى اللغوي.

العبادة في الاستعمال القرآني

وردت مادة (عبد) في القرآن الكريم (٢٧٥) مرة 13.

والصيغ التي وردت عليها هي:

الصيغة

عدد المرات

المثال

الفعل الماضي

٥

( ) [النحل:٣٥]

الفعل المضارع

٨١

( ﭿ ) [الأعراف:٧٠]

فعل الأمر

٣٧

( ﭿ ) [الأعراف:٧٠]

اسم فاعل

١٢

( ) [الكافرون:٤]

اسم (مفرد، مثنى، جمع)

١٣١

( ﭿ ) [سبأ:٩]

مصدر

٩

( ) [الكهف:١١٠]

وجاءت (العبادة) في الاستعمال القرآني على وجهين14:

أحدهما: التوحيد: ومنه قوله تعالى: ( ) [النساء:٣٦] أي: وحدوه.

الثاني: الطاعة: ومنه قوله تعالى: ( ) [يس:٦٠] أي: أن لا تعبدوا الشيطان فتطيعوه في معصية الله15.

الألفاظ ذات الصلة

الطاعة:

الطاعة لغةً:

من طوع بمعنى الانقياد16.

الطاعة اصطلاحًا:

امتثال أمر الله طوعًا17.

الصلة بين الطاعة والعبادة:

قال الكفوي: «والطاعة أعم من العبادة؛ لأن العبادة غلب استعمالها في تعظيم الله غاية التعظيم، والطاعة تستعمل لموافقة أمر الله وأمر غيره، وتجوز الطاعة لغير الله في غير المعصية، ولا تجوز العبادة لغير الله تعالى»18.

النسك:

النسك لغة:

قال الراغب: «النسك: العبادة، واختص بأعمال الحج»19.

وقال الزبيدي: «والنسك: العبادة والطاعة وكل ما تقرب به إلى الله تعالى، ومنه قوله تعالى: ( ) [الأنعام:١٦٢]20.

النسك اصطلاحًا:

لا يخرج عن معناه اللغوي.

الصلة بين النسك والعبادة:

جاءت لفظة النسك في القرآن الكريم بمعنى العبادة مطلقًا، كما جاءت بمعنى الذبائح التي يتقرب بها إلى الله سبحانه، وشعائر الحج، والأماكن التي تؤدى بها شعائر الحج، و«الموضع» الذي تقدم به الذبائح تقربًا إلى الله تعالى.

العبادة والاستعانة

أولًا: حكمة اقتران العبادة بالاستعانة:

ذكر أهل العلم رحمهم الله تعالى الحكمة من اقتران العبادة بالاستعانة، وتقديم العبادة على الاستعانة، وذلك في قوله تعالى: ( ) [الفاتحة:٥].

ومن هذه الحكم ما ذكره أبو حيان حيث قال: «وقرنت الاستعانة بالعبادة للجمع بين ما يتقرب به العبد إلى الله تعالى، وبين ما يطلبه من جهته»21؛ وليدل على أن الإنسان لا يستطيع أن يقوم بعبادة الله إلا بإعانة الله وتوفيقه، ولا ينهض بها إلا بالتوكل عليه، فهو إقرار بالعجز عن حمل هذه الأمانة الثقيلة، إذا لم يعنه الله على ذلك، فالاستعانة بالله علاج لغرور الإنسان وكبريائه، وهما داءان قتالان 22.

ثانيًا: تقديم العبادة على الاستعانة:

ولتقديم العبادة على الاستعانة أسباب عديدة أشار إليها ابن القيم رحمه الله حيث قال: وتقديم العبادة على الاستعانة لما يلي:

  1. العبادة غاية العباد التي خلقوا لها، والاستعانة وسيلة إليها، فكان ذلك من قبيل تقديم الغايات على الوسائل.
  2. قوله: ( ) متعلق بألوهيته سبحانه ( ) متعلق بربوبيته.
  3. تقديم العبادة على الاستعانة يتناسب مع تقديم اسم «الله» على لفظ «الرب» المذكورين في أول السورة، حيث إن ( ) قسم الرب، فكان من الشطر الأول، الذي هو ثناء على الله تعالى، لكونه أولى به ( )قسم العبد فكان من الشطر الذي له وهو ( )إلى آخر السورة.
  4. العبادة المطلقة تتضمن الاستعانة من غير عكس، فكل عابد لله عبودية تامة مستعين، ولا ينعكس الأمر؛ لأن صاحب الأغراض والشهوات قد يستعين به على شهواته، فكانت العبادة أكمل وأتم؛ ولهذا كان قسم الرب.
  5. الاستعانة جزء من العبادة من غير عكس فقدم الكل على الجزء.
  6. العبادة لا تكون إلا من مخلص، والاستعانة تكون من مخلص، ومن غير مخلص.
  7. العبادة حق الله الذي أوجبه على العبد والاستعانة طلب العون على العبادة؛ فكان حق الله أولى بالتقديم.
  8. العبادة شكر لنعمته عليك، والله يحب أن يشكر، والإعانة فعله بك وتوفيقه لك، فإن التزمت عبوديته، ودخلت تحت رقها أعانك عليها، فكان التزامها والدخول تحت رقها سببا لنيل الإعانة، وكلما كان العبد أتم عبودية كانت الإعانة له من الله أعظم.
  9. قوله: ( ) لله، ( )به، والذي له مقدم على ما به؛ لأن ما له متعلق بمحبته ورضاه والذي يكون به متعلق بمشيئته، وما تعلق بمحبته أكمل مما تعلق بمجرد مشيئته، فهذه الأسرار يتبين بها حكمة تقديم ( ) على ( ) 23.

    وتضمنت هذه الآية إثبات مذهب أهل السنة والجماعة في القدر، وأن جميع الأشياء بقضاء الله وقدره، وأن العبد فاعل حقيقة، ليس مجبورًا على أفعاله، فلولا أن مشيئة العبد مضطر فيها إلى إعانة ربه وتوفيقه لم يسأل الاستعانة24.

    فائدة:

    قال بعض السلف: الفاتحة سر القرآن، وسرها هذه الكلمة ( ) فالأول تبرؤ من الشرك، والثاني تبرؤ من الحول والقوة، والتفويض إلى الله عز وجل، وهذا المعنى في غير آية من القرآن، كما قال تعالى: ( ) [هود:١٢٣].

    وقال تعالى: ( ) [الملك:٢٩].

    وقال تعالى: ( ) [المزمل:٩]25.

    أنواع العبادة

    للعبادة معانٍ بحسب ما يتعلق بها، فالعبادة من حيث تعلقها بعموم الخلق وخصوصهم تنقسم إلى نوعين:

    أولًا: عبادة عامة:

    وهي عبودية أهل السماوات والأرض، قال تعالى: ( ) [مريم:٩٣].

    قال ابن القيم: «فالعبودية العامة: عبودية أهل السماوات والأرض كلهم لله، برهم وفاجرهم، مؤمنهم وكافرهم، فهذه عبودية القهر والملك، ويدخل فيه مؤمنهم وكافرهم»26.

    وتسمى كذلك بالعبادة الكونية.

    قال ابن عثيمين: «فالعبادة الكونية: وهي الخضوع لأمر الله تعالى الكوني، وهذه شاملة لجميع الخلق لا يخرج عنها أحد، فهي شاملة للمؤمن والكافر، والبر والفاجر»27.

    فكل من في السماوات والأرض فهو خاضع لله سبحانه وتعالى كونا فلا يمكن أبدًا أن يضاد الله أو يعارضه فيما أراد سبحانه وتعالى بالإرادة الكونية، والعابدون بالعبودية الكونية لا يثابون عليها؛ لأنهم خاضعون لله تعالى شاؤوا أم أبوا، فالإنسان يمرض، ويفقر، ويفقد محبوبه من غير أن يكون مريدًا لذلك بل هو كاره لذلك لكن هذا خضوع لله عز وجل خضوعًا كونيًا28، فالخلق كلهم عبيد ربوبيته.

    وأما وصف عبيد ربوبيته بالعبودية فلا يأتي إلا على أحد خمسة أوجه:

    فالأول: إما منكرًا، كقوله تعالى: ( ) [مريم:٩٣].

    والثاني: معرفًا باللام، كقوله تعالى: ( ) [غافر:٣١].

    وكقوله تعالى: ( ) [غافر:٤٨].

    الثالث: مقيدًا بالإشارة أو نحوها، كقوله تعالى: ( ) [الفرقان:١٧].

    الرابع: أن يذكروا في عموم عباده، فيندرجوا مع أهل طاعته في الذكر، كقوله تعالى: ( ) [الزمر:٤٦].

    الخامس: أن يذكروا موصوفين بفعلهم، كقوله تعالى: ( ) [الزمر:٥٣].

    وقد يقال: إنما سماهم عباده إذ لم يقنطوا من رحمته، وأنابوا إليه، واتبعوا أحسن ما أنزل إليهم من ربهم، فيكونوا من عبيد الإلهية والطاعة 29.

    ثانيًا: عبادة خاصة:

    وهي عبودية الطاعة والمحبة، وهي خاصة بالمؤمنين القائمين بأمره سبحانه وتعالى.

    قال تعالى: ( ) [الفرقان:٦٣].

    قال ابن القيم: «فالعبودية الخاصة: هي عبودية الطاعة والمحبة، واتباع الأوامر.

    قال تعالى: ( ) [الزخرف:٦٨].

    وقال تعالى: ( ) [الزمر:١٧-١٨].

    وقال تعالى: ( ) [الفرقان:٦٣].

    وقال تعالى عن إبليس: ( ) [الحجر:٣٩-٤٠].

    فقال تعالى عنهم: ( ) [الحجر:٤٢].

    وأهل طاعته وولايته هم عبيد إلهيته، ولا يجيء في القرآن إضافة العباد إليه مطلقا إلا لهؤلاء»30.

    وتسمى كذلك بالعبادة الشرعية.

    قال ابن عثيمين: «وهي الخضوع لأمر الله تعالى الشرعي، وهذه خاصة بمن أطاع الله تعالى، واتبع ما جاءت به الرسل مثل قوله تعالى: ( ) [الفرقان:٦٣]»31.

    فهي التذلل له سبحانه وتعالى شرعا فهذه خاصة بالمؤمنين بالله سبحانه وتعالى القائمين بأمره، ثم إن منها ما هو خاص أخص كعبودية الرسل عليهم الصلاة والسلام، مثل قوله تعالى: ( ) [الفرقان:١].

    وقوله تعالى: ( )[البقرة:٢٣].

    وقوله تعالى: ( )[ص:٤٥].

    وغير ذلك من وصف الرسل عليهم الصلاة والسلام بالعبودية 32.

    مكانة العبادة في القرآن

    أوجد الله سبحانه وتعالى الخلق لغاية سامية، وهي عبادته جل شأنه، فأرسل الرسل وأنزل الكتب، لدعوة الناس إلى عبادته وحده لا شريك له، فالعبادة شرف عظيم، من انتسب إليها أصبح من عباده المتقين.

    وقد تحدث القرآن الكريم عن بعض مظاهر مكانة العبادة، نوجزها في النقاط الآتية:

    أولًا: العبادة غاية الخلق:

    والعبادة هي الغاية التي خلق لها الجن والإنس والخلائق كلها، قال تعالى: ( ) [الذاريات:٥٦].

    قال السعدي في هذه الآية: «هذه الغاية التي خلق الله الجن والإنس لها، وبعث جميع الرسل يدعون إليها، وهي عبادته، المتضمنة لمعرفته ومحبته، والإنابة إليه والإقبال عليه، والإعراض عما سواه، وذلك يتضمن معرفة الله تعالى، فإن تمام العبادة متوقف على المعرفة بالله، بل كلما ازداد العبد معرفة لربه كانت عبادته أكمل، فهذا الذي خلق الله المكلفين لأجله»33وقال ابن كثير: «ومعنى الآية: أنه تعالى خلق العباد ليعبدوه وحده لا شريك له، فمن أطاعه جازاه أتم الجزاء، ومن عصاه عذبه أشد العذاب»34.

    وقال ابن عاشور: «وفي هذه الآية خبر مستعمل في التعريض بالمشركين الذين انحرفوا عن الفطرة التي خلقوا عليها، فخالفوا سنتها اتباعا لتضليل المضلين، والجن: جنس من المخلوقات مستتر عن أعين الناس، وهو جنس شامل للشياطين، قال تعالى عن إبليس: ( ) [الكهف:٥٠].

    والإنس: اسم جمع واحده إنسي بياء النسبة إلى اسم جمعه»35.

    وما ذكر الله الجن هنا إلا لتنبيه المشركين بأن الجن غير خارجين عن العبودية لله تعالى، وقد حكى الله عن الجن في سورة الجن قول قائلهم: ( ) [الجن:٤].

    وتقديم الجن في الذكر في قوله: ( ) للاهتمام بهذا الخبر الغريب عند المشركين الذين كانوا يعبدون الجن؛ ليعلموا أن الجن عباد لله تعالى، فهو نظير قوله: ( ﭤﭥ ﭦﭧ ) [الأنبياء:٢٦]36.

    وقال الشوكاني: «ووجه تقديم الجن على الإنس ها هنا تقدم وجودهم »37.

    وفي اختصاص الجن والإنس من بين المخلوقات بالذكر إشارة إلى أنهما هما المخلوقان اللذان لهما إرادة عاملة، وهما بهذه الإرادة يعملان فيؤمنان أو يكفران، ويطيعان أو يعصيان، ومن هنا وقع عليهما التكليف، وحق عليهما الحساب والجزاء، بمقتضى ما يعملان من خير أو شر 38.

    ثانيًا: العبادة رسالة الرسل:

    فكما أن الله خلق الخلق لعبادته كذلك أرسل الرسل أيضًا لعبادته سبحانه وتعالى.

    قال تعالى: ( ) [النحل:٣٦].

    قال الرازي في هذه الآية: «فبين تعالى أن سنته في عبيده إرسال الرسل إليهم، وأمرهم بعبادة الله ونهيهم عن عبادة الطاغوت»39.

    وأن شغل الأنبياء منحصر في أمرين: عبادة الله وهداية الخلق40.

    وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «العبادة لله هي الغاية المحبوبة له والمرضية له التي خلق الخلق لها وبها أرسل جميع الرسل، كما قال نوح لقومه: ( ) [الأعراف:٥٩].

    وكذلك قال هود وصالح وشعيب وغيرهم لقومهم»41.

    فغايتهم العظمى، ووظيفتهم الكبرى، وهدفهم الأسمى: دعوة الناس إلى عبادة الله وحده، وخلع عبادة ما سواه42، وكل رسول من الرسل افتتح دعوته بالدعاء إلى عبادة الله تعالى43.

    وقال السعدي: «يخبر تعالى أن حجته قامت على جميع الأمم، وأنه ما من أمة متقدمة أو متأخرة إلا وبعث الله فيها رسولا وكلهم متفقون على دعوة واحدة ودين واحد، وهو عبادة الله وحده لا شريك له ( )»44.

    والآية تضمنت التصريح بأن الله أمر جميع عباده بعبادته، واجتناب الشيطان، وكل ما يدعو إلى الضلال على ألسنة الرسل عليهم السلام.

    ثالثًا: العبادة تشريف:

    فالعبادة ذروة الشرف، ومقام عظيم، حيث جاءت تشريفًا لعباده المرسلين.

    قال تعالى: ( ) [الصافات:١٧١].

    قال ابن عثيمين: «فوصفهم الله بالعبودية قبل الرسالة مع أن الرسالة شرف عظيم، لكن كونهم عبادًا لله عز وجل أشرف وأعظم، وأشرف وصف له وأحق وصف به»45.

    وقال ابن القيم رحمه الله: «والله تعالى جعل العبودية وصفًا لأكمل خلقه، وأقربهم إليه، فقال تعالى: ( ) [ص:١٧].

    وقال تعالى: (ﯿ ) [ص:٤١].

    وقال تعالى: ( ) [ص:٤٥].

    وقال عن سليمان: ( ﮁﮂ ) [ص:٣٠].

    وقال عن المسيح: ( ) [الزخرف:٥٩].

    فجعل غايته العبودية لا الإلهية، كما يقول أعداؤه النصارى»46.

    وجاءت كذلك تشريفًا لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

    قال ابن كثير رحمه الله: «والعبادة مقام عظيم يشرف به العبد لانتسابه إلى جناب الله تعالى، كما قال بعضهم:

    لا تدعني إلا بيا عبدها

    فإنه أشرف أسمائي

    وقد سمى الله رسوله بعبده في أشرف مقاماته، فقال تعالى: ( ) [الكهف:١].

    ( ) [الجن:١٩].

    ( ) [الإسراء:١].

    فسماه عبدًا عند إنزاله عليه، وقيامه في الدعوة، وإسرائه به »47.

    وقال ابن عاشور في قوله تعالى: ( ): « و (عبد) المضاف إلى ضمير الجلالة هنا هو محمد صلى الله عليه وسلم كما هو مصطلح القرآن والإضافة إضافة تشريف »48.

    وقال سيد قطب في قوله تعالى: ( ) [البقرة:٢٣]: « ويبدأ هذا التحدي بلفتة لها قيمتها في هذا المجال يصف الرسول صلى الله عليه وسلم بالعبودية لله: ( ) ولهذا الوصف في هذا الموضع دلالات منوعة متكاملة:

    فهو أولًا: تشريف للنبي وتقريب بإضافة عبوديته لله تعالى، دلالة على أن مقام العبودية لله هو أسمى مقام يدعى إليه بشر ويدعى به كذلك.

    وهو ثانيًا: تقرير لمعنى العبودية، في مقام دعوة الناس كافة إلى عبادة ربهم وحده، واطراح الأنداد كلها من دونه، فها هو ذا النبي في مقام الوحي -وهو أعلى مقام- يدعى بالعبودية لله، ويشرف بهذه النسبة في هذا المقام»49.

    وقد جاءت تشريفًا للمؤمنين المتقين:

    قال ابن عثيمين: «فأشرف وصف للإنسان أن يكون من عباد الله، قال تعالى: ( ) [الفرقان:٦٣]»50.

    وقال الرازي في قوله تعالى: ( ) [الزخرف:٦٨] « وقد ذكرنا مرارًا أن عادة القرآن جارية بتخصيص لفظ العباد بالمؤمنين المطيعين المتقين، فقوله: () كلام الله تعالى، فكأن الحق يخاطبهم بنفسه ويقول لهم: ( ) وفيه أنواع كثيرة مما يوجب الفرح:

    أولها: أن الحق سبحانه وتعالى خاطبهم بنفسه من غير واسطة.

    وثانيها: أنه تعالى وصفهم بالعبودية، وهذا تشريف عظيم »51.

    وجاءت تشريفًا لملائكته عليهم السلام:

    قال ابن عاشور في قوله تعالى: ( ﯖﯗ ﯙﯚ ) [الزخرف:١٩] «فالإضافة إلى اسم الرحمان تفيد تشريفهم قال تعالى: ( ) [الأنبياء:٢٦].

    والعبودية عبودية خاصة وهي عبودية القرب، كقوله تعالى: ( ) [القمر:٩]»52.

    وقال الرازي في قوله تعالى: ( ﯿ) [الأعراف:٢٠٦]: «أن هذا تشريف للملائكة بإضافتهم إلى الله، من حيث إنه أسكنهم في المكان الذي كرمه وشرفه وجعله منزل الأنوار ومصعد الأرواح والطاعات والكرامات، وإنما قال تعالى في صفة الملائكة: الذين عند ربك؛ لأنهم رسل الله إلى الخلق كما يقال: إن عند الخليفة جيشا عظيمًا، وإن كانوا متفرقين في البلد، فكذا هاهنا، والله أعلم»53.

    أركان العبادة

    لكل بناءٍ أركان يقوم عليه، وبغيرها يكون بناءً ناقصًا ومشوهًا، ولا يقي صاحبه من برد ولا حر، وهكذا هو بناء عبادة الله سبحانه وتعالى، له ركنان يقوم عليهما، ويصبح مقبولًا عند الله سبحانه وتعالى، وهذان الركنان هما:

    أولًا: غاية الحب:

    وهو تقديم محبة الله ورسوله على غيرهما.

    قال تعالى: ( ﭿ ) [التوبة:٢٤].

    قال البغوي: «لما نزلت الآية الأولى ( ﭲﭳ ) [التوبة:٢٣].

    قال الذين أسلموا ولم يهاجروا: إن نحن هاجرنا ضاعت أموالنا وذهبت تجاراتنا وخربت دورنا وقطعنا أرحامنا، فنزل قوله تعالى:( ﭿ )»54.

    قال القرطبي: «وفي الآية دليل على وجوب حب الله ورسوله، ولا خلاف في ذلك بين الأمة، وأن ذلك مقدم على كل محبوب»55.

    وقال ابن عاشور: «فإذا حصل التعارض والتدافع بين ما أراده الله من المؤمنين وبين ما تجر إليه تلك العلائق، وجب على المؤمن دحضها وإرضاء ربه، وقد أفاد هذا المعنى التعبير «بأحب» لأن التفضيل في المحبة يقتضي إرضاء الأقوى من المحبوبين، ففي هذا التعبير تحذير من التهاون بواجبات الدين مع الكناية عن جعل ذلك التهاون مسببا على تقديم محبة تلك العلائق على محبة الله، ففيه إيقاظ إلى ما يؤول إليه ذلك من مهواة في الدين وهذا من أبلغ التعبير»56.

    والعبادة تجمع أصلين: غاية الحب بغاية الذل والخضوع، فمن أحببته ولم تكن خاضعا له، لم تكن عابدًا له، ومن خضعت له بلا محبة لم تكن عابدًا له حتى تكون محبا خاضعا»57.

    ولا تنفع عبادة بواحد من هذين دون الآخر؛ ولذا قال من قال من السلف: من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجئ، ومن عبده بالخوف وحده فهو حروري، ومن عبده بالحب والخوف والرجاء فهو مؤمن موحد58، فـ جنس المحبة يكون لله ولرسوله كالطاعة فإن الطاعة لله ولرسوله59.

    وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم تقديم محبة الله ورسوله على محبة غيرهما من خصال الإيمان، ومن علامات وجود حلاوة الإيمان في القلوب: ففي «الصحيحين » عن أنس رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه، كما يكره أن يلقى في النار) 60.

    ومحبة العبد لله ورسوله وطاعته لهما واتباعه أمرهما.

    قال الله تعالى:( )[آل عمران:٣١].

    قال الحسن وابن جريج: نزلت في قوم من أهل الكتاب قالوا: نحن الذين نحب ربنا، وروي أن المسلمين قالوا: يا رسول الله، والله إنا لنحب ربنا فأنزل الله هذه الآية61.

    قال ابن القيم: «فجعل اتباع رسوله مشروطا بمحبتهم لله، وشرطا لمحبة الله لهم، ووجود المشروط ممتنع بدون وجود شرطه وتحققه بتحققه فعلم انتفاء المحبة عند انتفاء المتابعة، فانتفاء محبتهم لله لازم لانتفاء المتابعة لرسوله، وانتفاء المتابعة ملزوم لانتفاء محبة الله لهم، فيستحيل إذًا ثبوت محبتهم لله، وثبوت محبة الله لهم بدون المتابعة لرسوله»62.

    ثانيًا: غاية الذل والخضوع:

    وهو الذل والخضوع لله سبحانه وتعالى.

    قال جل شأنه: ( ) [الفاتحة:٥].

    قال الطبري: «وتأويل قوله: ( ) لك اللهم نخشع ونذل ونستكين؛ إقرارًا لك يا ربنا بالربوبية لا لغيرك»63.

    وقد ذكر الطبري العلة في اختياره لهذا التأويل حيث قال: «لأن العبودية عند جميع العرب أصلها الذلة»64.

    وقال الماوردي: «وقوله: () فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: أن العبادة الخضوع، ولا يستحقها إلا الله تعالى؛ لأنها أعلى مراتب الخضوع، فلا يستحقها إلا المنعم بأعظم النعم، كالحياة والعقل والسمع والبصر. والثاني: أن العبادة الطاعة. والثالث: أنها التقرب بالطاعة. والأول أظهرها؛ لأن النصارى عبدت عيسى عليه السلام، ولم تطعه بالعبادة، والنبي صلى الله عليه وسلم مطاع، وليس بمعبودٍ بالطاعة»65.

    والعبد كلما كان أذل لله وأعظم افتقارًا إليه وخضوعًا له كان أقرب إليه، وأعز له، وأعظم لقدره، فأسعد الخلق أعظمهم عبودية لله 66.

    وفي الآية إعلام بما صدع به الإسلام من تحرير الأنفس لله تعالى وتخليصها لعبادته وحده، فإن كل ذلك إنما يستحقه فاطر الأرض والسموات وحده، وذلك أن لفظ العبادة يتضمن كمال الذل بكمال الحب. فلا بد أن يكون العابد محبًا للإله المعبود كمال الحب، ولا بد أن يكون ذليلًا له كمال الذل، وهما لا يصلحان إلا لله وحده67.

    ونستخلص مما سبق أن العبادة تتضمن ركنان أساسيان لا قوام للعبادة بدونهما وهما: غاية الحب مع غاية الذل والخضوع، ولا يستحقها إلا المنعم جل وعلا.

    فائدة:

    مراتب العبادة ثلاث:

    الأولى: أن يعبد الله طمعًا في الثواب وخوفًا من العقاب وهي العبادة، وهي درجة نازلة ساقطة؛ لأنه جعل الحق وسيلة لنيل المطلوب.

    الثانية: أن يعبد الله لأجل أن يتشرف بعبادته؛ والانتساب إليه بقبول تكاليفه؛ وهي أعلى من الأولى إلا أنها ليست كاملة؛ لأن المقصود بالذات غير الله.

    الثالثة: أن يعبد الله لكونه إلهًا خالقًا مستحقًا للعبادة وكونه هو عبدًا له، وهذه أعلى المقامات وهو المسمى بالعبودية 68.

    شروط العبادة

    كما أن لكل عبادة في الإسلام أركان تقوم عليها، فكذلك لها شروط لا تصح إلا بها.

    فأما شروط العبادة فهي:

    أولًا: إخلاص النية:

    فالإخلاص لله تعالى شرط أساسي لقبول العبادة.

    قال تعالى: ( ) [البينة:٥].

    وقد اختلفت ألفاظ السلف في معنى قوله: () قال بعضهم: مقرين له بالعبادة، وقال آخرون: قاصدين بقلوبهم رضا الله في العبادة، وقال الزجاج: أي يعبدونه موحدين له لا يعبدون معه غيره، ويدل على هذا قوله: ( ) [التوبة:٣١]69.

    قال القرطبي: «وفي الآية دليلٌ على وجوب النية في العبادات، فإن الإخلاص من عمل القلب وهو الذي يراد به وجه الله تعالى لا غيره»70.

    ففي الحديث الصحيح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو إلى امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه)71.

    فمن لم يخلص لله في عبادته، لم يفعل ما أمر به، بل الذي أتى به شيء غير المأمور، فلا يقبل منه، فقد جاء في الحديث الصحيح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يقول الله: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملًا أشرك فيه معي غيري، تركته وشركه72) 73.

    وللعلماء تعاريف متعددة لهذه الكلمة، قال الكرخي: الإخلاص أن لا يطلع على عملك إلا الله سبحانه ولا تطلب منه ثوابًا، وقال الشهاب: الإخلاص عدم الشرك وأنه ليس بمعنى الإخلاص المتعارف 74.

    فالإخلاص أصل من أصول الدين، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: «وجماع الدين أصلان: ألا نعبد إلا الله ولا نعبده إلا بما شرع لا نعبده بالبدع، كما قال تعالى: ( ) [الكهف:١١٠]»75.

    وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: «فلا يكون العبد متحققا بـ» ( ) [الفاتحة:٥] إلا بأصلين عظيمين:

    أحدهما: متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم.

    والثاني: الإخلاص للمعبود، فهذا تحقيق «( ) [الفاتحة:٥] »76.

    فإن هذين الأصلين هما دين الإسلام الذي ارتضاه الله كما قال تعالى: ( ﮜﮝ ) [النساء:١٢٥].

    ولفظ «أسلم» يتضمن شيئين:

    أحدهما: الإخلاص.

    والثاني: الاتباع والإذلال77.

    ثانيًا: التزام الشرع:

    والتزام الشرع هو المتابعة والموافقة لما جاء به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

    قال تعالى: ( ) [الكهف:١١٠].

    قال ابن كثير: «( )ما كان موافقًا لشرع الله ( ) وهو الذي يراد به وجه الله وحده لا شريك له، وهذان ركنا العمل المتقبل، لا بد أن يكون خالصا لله، صوابًا على شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم»78.

    ولهذا كان أئمة السلف رحمهم الله يجمعون هذين الأصلين كقول الفضيل بن عياض في قوله تعالى: ( ) [الملك:٢].

    قال: أخلصه وأصوبه.

    فقيل له: يا أبا علي، ما أخلصه وأصوبه؟

    فقال: إن العمل إذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يقبل، وإذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يقبل حتى يكون خالصًا صوابًا، والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة79.

    وهو المتفق عليه بين المسلمين، فإنه لا بد له في العمل أن يكون مشروعا مأمورًا به، وهو العمل الصالح، ولا بد أن يقصد به وجه الله، كما قال تعالى:( ) [الكهف:١١٠].

    وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: اللهم اجعل عملي كله صالحًا، واجعله لوجهك خالصًا، ولا تجعل لأحد فيه شيئًا 80.

    قال ابن كثير في قوله تعالى: ( ) [هود:٧].

    « وقوله: ()أي: ليختبركم ( )ولم يقل: أكثر عملًا، بل ( )، ولا يكون العمل حسنًا حتى يكون خالصًا لله عز وجل، على شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمتى فقد العمل واحدًا من هذين الشرطين بطل وحبط»81.

    وأصبح مردودًا على عامله، يعود عليه أحوج ما هو إليه هبًاء منثورًا.

    قال تعالى: ( ) [الفرقان:٢٣].

    وفي الصحيح عن عائشة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو ردٌ) 82.

    وكل عمل بلا اقتداء فإنه لا يزيد عامله من الله إلا بعدًا، فإن الله تعالى إنما يعبد بأمره، لا بالآراء والأهواء 83.

    دوافع العبادة

    هناك دوافع وأسباب تدفع الإنسان لعبادة الله سبحانه وتعالى، وتجعله دائم الصلة بربه تعالى، وبإمكاننا أن نقسم هذه الدوافع إلى قسمين:

    أولًا: دوافع فطرية:

    ومن تلك الدوافع:

    ١. دافع الشعور الفطري بوجود الخالق.

    فمعرفة الخالق مغروسة في الفطرة الإنسانية، وهي عهد الله وميثاقه الذي أخذه سبحانه وتعالى على بني آدم، فقد نص الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز، أنه استخرج من صلب آدم ذريته، وأقروا بأن الله تعالى ربهم ومليكهم.

    قال تعالى: ( ﭳﭴ ﭶﭷ ﭸﭹ ﭿ ) [الأعراف:١٧٢].

    قال ابن كثير رحمه الله: «يخبر تعالى أنه استخرج ذرية بني آدم من أصلابهم، شاهدين على أنفسهم أن الله ربهم ومليكهم، وأنه لا إله إلا هو»84.

    وهي فطرة الله التي فطر الناس عليها، قال تعالى: ( ) [الروم:٣٠].

    قال المراغي: «أي: الزموا خلقة الله التي خلق الناس عليها، فقد جعلهم بفطرتهم جانحين للتوحيد وموقنين به؛ لكونه موافقا لما يهدي إليه العقل، ويرشد إليه صحيح النظر، كما ورد في الحديث عن النبي أنه قال: (كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه...) 85 الحديث »86.

    وثبت أيضًا عن النبي أنه قال فيما يحكى عن ربه تبارك وتعالى أنه قال: (خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين عن دينهم) الحديث87.

    بل إن المشركين في حالة الشدة والبلاء وانقطاع رجائهم عن الدنيا يرجعون إلى الفطرة الشاهدة بالتوحيد، وقد ذكر الله سبحانه وتعالى ذلك في أكثر من آية في كتابه، كقوله تعالى: ( ) [العنكبوت:٦٥].

    قال الرازي: «وفي الآية إشارة إلى أن المانع من التوحيد هو الحياة الدنيا، وبيان ذلك هو أنهم إذا انقطع رجاؤهم عن الدنيا رجعوا إلى الفطرة الشاهدة بالتوحيد ووحدوا وأخلصوا، فإذا أنجاهم وأرجأهم عادوا إلى ما كانوا عليه من حب الدنيا وأشركوا به سبحانه وتعالى»88.

    وإنما خص بالذكر حال خوفهم من هول البحر في هذه الآية وفي آيات كثيرة في كتاب الله؛ لأن أسفارهم في البر كانوا لا يعتريهم فيها خوف يعم جميع السفر؛ لأنهم كانوا يسافرون قوافل، معهم سلاحهم، ويمرون بسبل يألفونها فلا يعترضهم خوف عام، فأما سفرهم في البحر فإنهم يفرقون من هوله ولا يدفعه عنهم وفرة عدد ولا قوة عدد، فهم يضرعون إلى الله بطلب النجاة ولعلهم لا يدعون أصنامهم حينئذ 89.

    فكل فرد من أفراد الناس مفطور أي: مخلوق على ملة الإسلام، ولكن لا اعتبار بالإيمان والإسلام الفطريين، وإنما يعتبر الإيمان والإسلام الشرعيان، وهذا قول جماعة من الصحابة ومن بعدهم، وقول جماعة من المفسرين وهو الحق، والقول بأن المراد بالفطرة هنا الإسلام هو مذهب جمهور السلف 90.

    ونستخلص مما سبق أن معرفة الله فطر عليها الخلق بأجمعهم، والإقرار بربوبيته سبحانه وتعالى، وأن الانحراف عن هذه المعرفة والإيمان قد تكون من قبل الأبوين، أو المجتمع، أو بسبب الغفلة، أو الشياطين، كما جاء في الأحاديث الصحيحة.

    ٢. دافع الحاجة والافتقار.

    أخبر الله سبحانه وتعالى في كتابه الحكيم عن حقيقة العباد وذواتهم بأنها فقيرة إليه سبحانه، كما أخبر عن ذاته المقدسة، وحقيقته أنه غني حميد.

    قال تعالى: ( ﮪﮫ ) [فاطر:١٥].

    قال ابن القيم رحمه الله تعالى: «بين سبحانه في هذه الآية أن فقر العباد إليه أمر ذاتي لهم لا ينفك عنهم، كما أن كونه غنيًا حميدًا ذاتي، فغناه وحمده ثابت له لذاته، لا لأمر أوجبه، وفقر من سواه إليه ثابت له لذاته، لا لأمر أوجبه، فلا يعلل هذا الفقر بحدوث، ولا إمكان - ردًا على الفلاسفة والمتكلمين- بل هو ذاتي للفقير، فحاجة العبد إلى ربه لذاته، لا لعلة أوجبت تلك الحاجة، كما أن غنى الرب سبحانه لذاته، لا لأمر أوجب غناه، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: والفقر لي وصف ذات لازم أبدًا كما أن الغنى أبدًا وصف له ذاتي»91.

    وعرف تبارك وتعالى «الفقراء» في هذه الآية؛ ليريهم شديد افتقارهم إليه، إذ هم جنس الفقراء، وإن كان العالم بأسره مفتقر إليه؛ فلضعفهم جعلوا كأنهم جميع هذا الجنس ولو نكر لكان المعنى: أنتم، يعني: الفقراء92.

    وقال الرازي في سبب نزول هذه الآية: «لما كثر الدعاء من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والإصرار من الكفار، وقالوا إن الله لعله يحتاج إلى عبادتنا حتى يأمرنا بها أمرًا بالغًا، ويهددنا على تركها مُبالغًا، فقال تعالى: ( ﮪﮫ ) فلا يأمركم بالعبادة لاحتياجه إليكم وإنما هو لإشفاقه عليكم»93.

    ثانيًا: دوافع شرعية:

    ومن تلك الدوافع:

    ١. دافع الرغبة والرهبة.

    وهي من أعظم الدوافع الشرعية، فهي من صفات المؤمنين الصادقين، وهي باعث الرجاء والخوف؛ الرغبة في ثواب الله تعالى، والرهبة من عذابه وعقابه سبحانه وتعالى، وقد أثنى الله عزو جل على أشرف الخلق إليه، وهم أنبيائه؛ لرغبتهم ورهبتهم.

    قال تعالى عن زكريا عليه السلام وأهل بيته: ( ﯭﯮ ) [الأنبياء:٩٠].

    قال الرازي: «فقال: ( )، وأراد بذلك زكريا وولده وأهله، فبين أنه آتاهم ما طلبوه، وعضد بعضهم ببعض من حيث كانت طريقتهم، أنهم يسارعون في الخيرات، والمسارعة في طاعة الله تعالى من أكبر ما يمدح المرء به؛ لأنه يدل على حرص عظيم على الطاعة، أما قوله تعالى:( ) قرئ: (رَغْبا ورَهْبا)، وهو كقوله: ( ) [الزمر:٩].

    والمعنى: أنهم ضموا إلى فعل الطاعات والمسارعة فيها أمرين: أحدهما: الفزع إلى الله تعالى لمكان الرغبة في ثوابه والرهبة في عقابه. والثاني: الخشوع وهو المخافة الثابتة في القلب، فيكون الخاشع هو الحذر الذي لا ينبسط في الأمور خوفًا من الإثم».94وقال ابن القيم: «وقد أثنى سبحانه على أقرب عباده إليه بالخوف منه، فقال عن أنبيائه بعد أن أثنى عليهم ومدحهم: ( ) فالرغب: الرجاء والرغبة، والرهب: الخوف والخشية، وقال عن ملائكته الذين قد أمنهم من عذابه: ( ) [النحل:٥٠]» 95.

    ٢. دافع المحبة والتعظيم.

    فإن محبة الله تعالى وتعظيمه، دافع من دوافع عبادته، فالله عزو جل أهل لأن يعبد لذاته الجليلة، وأن يطاع لصفاته العظيمة، قال تعالى: ( ) [المدثر:٥٦].

    قال السعدي: «أي: هو أهل أن يتقى ويعبد؛ لأنه الإله الذي لا تنبغي العبادة إلا له، وأهل أن يغفر لمن اتقاه واتبع رضاه»96.

    وقد مدح الله سبحانه وتعالى المؤمنين الصادقين في كتابه، لمحبتهم إياه، قال تعالى: ( ﭿ ﮇﮈ ) [البقرة:١٦٥].

    قال القرطبي في هذه الآية: «وقيل: إنما قال تعالى: ( )لأن الله تعالى أحبهم أولًا ثم أحبوه، ومن شهد له محبوبه بالمحبة كانت محبته أتم، قال الله تعالى: ( ) [المائدة:٥٤]» 97.

    قال الرازي في قوله تعالى: ( ) « وفيه دقيقة وهي أنه تعالى قدم محبته لهم على محبتهم له، وهذا حق؛ لأنه لولا أن الله أحبهم، وإلا لما وفقهم حتى صاروا محبين له »98.

    فكلما ازداد القلب حبا لله ازداد له عبودية، وكلما ازداد له عبودية ازداد له حبًا وحرية عما سواه 99.

    ٣. دافع الشكر والعرفان.

    فإن نعم الله سبحانه وتعالى على بني آدم عظيمة؛ لأن كل النعم على بني آدم منه.

    قال تعالى: ( ﯿ) [النحل:٥٣].

    وهي دافع للعبادة لله سبحانه وتعالى، شكرًا وعرفانًا بعطاياه التي لا تعد ولا تحصى.

    قال تعالى: ( ﭜﭝ ) [إبراهيم:٣٤].

    فلا يستطيع الإنسان حصر هذه النعم؛ لكثرتها عليه.

    قال الشنقيطي: «ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن بني آدم لا يقدرون على إحصاء نعم الله لكثرتها عليهم، وأتبع ذلك بقوله: ( )فدل ذلك على تقصير بني آدم في شكر تلك النعم، وأن الله يغفر لمن تاب منهم، ويغفر لمن شاء أن يغفر له ذلك التقصير في شكر النعم، وبين هذا المفهوم المشار إليه هنا بقوله: ( )وفي هذه الآية الكريمة دليل على أن المفرد إذا كان اسم جنس وأضيف إلى معرفة أنه يعم؛ لأن( ) مفرد أضيف إلى معرفة فعم النعم»100.

    وقد أمر الله بالشكر، ونهى عن ضده.

    قال الله تعالى: ( ) [النحل:١١٤].

    وقال تعالى: ( ) [البقرة:١٥٢].

    ووعد أهله بأحسن جزائه.

    قال تعالى: ( ) [آل عمران:١٤٤].

    وجعله سببًا للمزيد من فضله، وحارسًا وحافظًا لنعمته.

    قال تعالى: ( ) [إبراهيم:٧].

    وقلة أهله في العالمين تدل على أنهم هم خواصه، كقوله تعالى: ( ) [سبأ:١٣]101.

    وقد سمع عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه رجلا يقول: اللهم اجعلني من القليل، فقال عمر: ما هذا الدعاء؟ فقال الرجل: أردت قوله تعالى: ( ) فقال عمر رضي الله عنه: كل الناس أعلم منك يا عمر! 102، فشكر الله تعالى أصعب عبادة وأشرفها.

    قال الراغب في قوله تعالى: ( ) [البقرة:١٥٢].

    «وإنما قال تعالى:( ) ولم يقل: (واشكروني) علمًا بقصورهم عن إدراكه، بل عن إدراك الآية، كما قال تعالى: ( )، فأمرهم أن يعدوا بعض أفعاله في الشكر له، وشكر الله عز وجل أصعب عبادة وأشرفها، ولهذا قيل: غاية شكر الله الاعتراف بالعجز عنه، فكل نعمة يمكن شكرها إلا نعمة الله، فإن شكرها نعمهً منه » 103.

    صور العبادة

    من حكمة الله تعالى في شريعته أن نوَّع لهم العبادات، وجعل لها صورًا وأشكالًا مختلفة، ومن تلك الصور:

    أولًا: عبادات قولية:

    وتشمل قول اللسان: كالدعوة إلى الله، وتبليغ دينه، وقراءة القرآن، والدعاء إلى الله، ونحو ذلك.

    ومن أدلة هذا النوع:

    قوله تعالى: ( ﮬﮭ ) [النحل:١٢٥].

    وقوله تعالى: ( ) [النحل:٩٨].

    وقوله عز وجل: ( ) [غافر:٦٠]104.

    ثانيًا: عبادات قلبية:

    وتشمل قول القلب: وهو الاعتقاد بما أخبر الله به عن نفسه، وعن ملائكته ولقائه على لسان رسله، ونحو ذلك 105.

    ومن أدلة هذا النوع:

    قوله تعالى: ( ) [البقرة:١٧٧]106.

    وقوله تعالى: ( ) [المائدة:١١١].

    وتشمل كذلك عمل القلب: كالتوكل عليه، والإنابة إليه، والصبر على أوامره، وعن نواهيه، والذل له والخضوع، والإخبات إليه وغير ذلك من أعمال القلوب107.

    ومن أدلة هذا النوع:

    قول الله عز وجل: ( ﯿ ) [المائدة:٢٣].

    وقوله سبحانه وتعالى: ( ) [الزمر:٥٤].

    وقوله عز وجل: ( ) [آل عمران:٢٠٠]108.

    وقوله تعالى: ( ﭿ ﮈﮉ ) [هود:٢٣].

    ثالثًا: عبادات بدنية:

    وتشمل أعمال الجوارح: من صلاة، وجهاد، وحج، ونقل الأقدام إلى الجمعة والجماعات، ومساعدة العاجز، والإحسان إلى الخلق، ونحو ذلك109.

    ومن أدلة هذا النوع:

    قول الله تعالى: ( ) [الحج:٧٧].

    وقوله جل جلاله: ( ) [الحج:٢٩].

    وقوله سبحانه وتعالى: ( ﭟﭠ ) [الجمعة:٩]110.

    وقوله تعالى: ( ﭿ ) [فصلت:٣٣].

    رابعًا: عبادات مالية:

    وتشمل إخراج الزكاة من المال؛ امتثالًا لأمر الله، والوفاء بالنذر، والجهاد بالمال في سبيل الله عز وجل.

    ومن أدلة هذا النوع:

    قول الله عز وجل: ( ﯖﯗ ﯟﯠ ) [البقرة:١١٠].

    وقوله سبحانه وتعالى: ( ﭙﭚ ) [التوبة:٤١].

    وقول الله عز وجل: ( ) [الإنسان:٧]111.

    خامسًا: عبادات مشتركة:

    وهي ما اشتملت على نوعين فأكثر من العبادات، منها على سبيل المثال:

    الحج: وهي عبادة مركبة من نوعين بدنية ومالية112.

    واتفق الفقهاء على أن من شروط وجوب الحج الاستطاعة؛ لقوله تعالى: ( ) [آل عمران:٩٧].

    والاستطاعة أي: القدرة، وتتحقق بأمور منها: وجود المال الذي يكفى ذهابًا وإيابًا113، فالحج إذًا عبادة لا تقوم إلا بالبدن والمال؛ ولهذا لا يجب إلا عند وجود المال وصحة البدن.

    وكذلك العمرة فهي عبادة مركبة من نوعين: بدنية ومالية؛ لقوله تعالى: ( ) [البقرة:١٩٦].

    وقد ذهب الفقهاء إلى أنه يجوز أداء العمرة عن الغير؛ لأن العمرة كالحج تجوز النيابة فيها؛ لأن كلًا من الحج والعمرة عبادة بدنية مالية 114.

    والجهاد كذلك عبادة مركبة من نوعين: بدنية ومالية.

    قال تعالى: ( ) [التوبة:٤١].

    قال الشوكاني رحمه الله تعالى: «قوله: ( ) فيه الأمر بالجهاد بالأنفس والأموال وإيجابه على العباد، فالفقراء يجاهدون بأنفسهم، والأغنياء بأموالهم وأنفسهم، والجهاد من آكد الفرائض وأعظمها »115.

    وقال تعالى: ( ) [النساء:٩٥].

    قال ابن عاشور: «وقوله: ( )، لأن الجهاد يقتضي الأمرين: بذل النفس وبذل المال»116.

    والصلاة تشتمل على عبادات قلبية وقولية وعملية.

    قال تعالى: ( ) [الأنعام:١٦٢].

    فالصلاة في الشرع يراد بها: العبادة المُبتدئَة بالتكبير المُخْتتمَة بالتسليم، التي تشتمل على عبادات قلبية وقولية وعملية، فالصلاة تشتمل على أنواع العبادة في القلب: من الخشوع، والخشية، والإقبال على الله سبحانه وتعالى، وباللسان: من التكبير، والتحميد، والثناء على الله، وتلاوة كتابه الكريم، ومناجاة الرب سبحانه وتعالى، وبالجوارح: من القيام، والركوع، والسجود، والجلوس، فالصلاة عبادة عظيمة، يجتمع فيها ما لا يجتمع في غيرها من أنواع العبادات؛ ولذلك جعلها الله عمود الإسلام، وجعلها الركن الثاني من أركان الإسلام117.

    عبادة غير الله تعالى

    كان الناس أمة واحدة على دين واحد بعد أبينا آدم عليه السلام، واستمروا على ذلك فترة من الزمن، حتى عبدوا الأصنام، فبعث الله الرسل لدعوتهم إلى عبادة الله وترك عبادة ما سواه، وكان أول الرسل نوح عليه السلام.

    وقد تحدث القرآن الكريم عن عبادة غير الله عز وجل كثيرًا، ويمكن إيجازها في النقاط الآتية:

    أولًا: النهي عن عبادة غير الله:

    لقد بعث الله سبحانه وتعالى في كل أمة من الأمم رسولًا يدعوهم إلى عبادة الله وحده، وينهاهم عن عبادة ما زينه الشيطان لهم وأوقعهم فيه من عبادة ما سواه.

    قال تعالى: ( ) [النحل:٣٦].

    قال السعدي: «يخبر تعالى أن حجته قامت على جميع الأمم، وأنه ما من أمة متقدمة أو متأخرة إلا وبعث الله فيها رسولًا، وكلهم متفقون على دعوة واحدة ودين واحد، وهو عبادة الله وحده لا شريك له ( )»118.

    والطاغوت: كل ما عبد من دونه إما بقهر منه لمن عبده، وإما بطاعة ممن عبده له، سواء كان إنسانًا ذلك المعبود، أو شيطانًا، أو وثنًا، أو صنمًا، أو كائنًا ما كان من شيء119.

    وقد أخبر الله تعالى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أن دعوته إلى عبادة الله تعالى وحده والنهي عن عبادة ما سواه، هي دعوة الرسل من قبله.

    قال تعالى: ( ) [الأنبياء:٢٥].

    وقد قام الأنبياء والرسل جميعًا بذلك، فما منهم من أحد إلا قال لقومه: ( ﭿ ) [المؤمنون:٣٢].

    وقد احتدم الصراع بين دعاة الحق وأنصار الباطل بين الرسل وأممهم، وخلال هذا الصراع الرهيب تحطمت الأصنام وتهاوت الأوثان، وانخذل الشرك وأهله، وانتصر الحق ودعاته 120.

    المعبودات من دون الله لا تملك شيئًا لعابديها:

    أخبر الله عزو جل في كتابه عن جهل المشركين في عبادتهم لمن لا يملك لهم نفعًا، ولا ضرًا، ولا نصرًا، ولا رزقًا، في أكثر من آية.

    منها: قوله تعالى: ( ﯿ ﰂﰃ ) [الفرقان:٥٥].

    قال ابن كثير في هذه الآية: «يخبر تعالى عن جهل المشركين في عبادتهم غير الله من الأصنام، التي لا تملك لهم نفعًا ولا ضرًا، بلا دليل قادهم إلى ذلك، ولا حجة أدتهم إليه، بل بمجرد الآراء والتشهي والأهواء، فهم يوالونهم، ويقاتلون في سبيلهم؛ ولهذا قال:( ) أي: عونا في سبيل الشيطان على حزب الله، وحزب الله هم الغالبون، كما قال تعالى: ( ) [يس:٧٤-٧٥].

    أي: آلهتهم التي اتخذوها من دون الله لا تملك لهم نصرًا، وهؤلاء الجهلة للأصنام جند محضرون يقاتلون عنهم، ويذبون عن حوزتهم، ولكن العاقبة والنصرة لله ولرسوله في الدنيا والآخرة»121.

    وفي قوله تعالى: ( ) معنى لطيف ذكره الرازي: «وهو أنه تعالى لما قال: ( ) أكدها بأنهم لا يستطيعون نصرهم حال ما يكونون جندًا لهم ومحضرون لنصرتهم، فإن ذلك دال على عدم الاستطاعة، فإن من حضر واجتمع ثم عجز عن النصرة يكون في غاية الضعف بخلاف من لم يكن متأهبًا ولم يجمع أنصاره»122.

    وقال تعالى: ( ) [النحل:٧٣-٧٤].

    وفي هذه الآيات تقريع للكفار وتوبيخ لهم، وإظهار لفساد نظرهم فهذه الأصنام لا تملك توفير الرزق لعبدتها ولا تستطيع فعل شيء، فآية: ( ) نفي الملك وتحصيل الملك، ومن لا يملك شيئا وهي الأصنام، ليس في استطاعتها تحصيل الملك، أي: إنها لا تملك شيئًا، ولا تستطيع تمليك شيء، والنتيجة لذلك أنكم أيها الوثنيون لا تجعلوا لله أندادًا وأشباهًا وأمثالًا، ولا تشبهوه بخلقه، فمعنى قوله تعالى: ( ) لا تمثلوا لله الأمثال، وإن الله يعلم ويشهد أنه لا إله إلا هو، وأنتم أيها البشر الوثنيون بجهلكم تشركون به غيره 123.

    وقد ضرب الله الأمثال في القرآن لبيان حال هذه المعبودات، وأنها ضعيفة وعاجزة.

    ومن هذه الأمثال، قوله تعالى: ( ﭖﭗ ﭣﭤ ﭫﭬ ) [الحج:٧٣].

    قال ابن القيم رحمه الله تعالى حول هذا المثل: «حقيق على كل عبد أن يستمع لهذا المثل، ويتدبره حق تدبره، فإنه يقطع موارد الشرك من قلبه، وذلك أن المعبود أقل درجاته أن يقدر على إيجاد ما ينفع عابده، وإعدام ما يضره، والآلهة التي يعبدها المشركون من دون الله لن تقدر على خلق ذباب، ولو اجتمعوا كلهم لخلقه فكيف ما هو أكبر منه، ولا يقدرون على الانتصار من الذباب، وإذا سلبهم الذباب شيئًا مما عليهم من طيب ونحوه فيستنقذونه منه، فلا هم قادرون على خلق الذباب الذي هو من أضعف الحيوان، ولا على الانتصار منه، واسترجاع ما يسلبهم إياه فلا أعجز من هذه الآلهة، ولا أضعف منها فكيف يستحسن عاقل عبادتها من دون الله تعالى؟! وهذا المثل من أبلغ ما أنزله الله سبحانه في بطلان الشرك وتجهيل أهله وتقبيح عقولهم»124.

    ثانيًا: إنكار المعبودات من دون الله لعابديها:

    أخبر الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم أن هذه المعبودات التي عبدت من دون الله، سواءً كانت من الحجر، أو من البشر، أو من الملائكة، أو من الجن، سوف تنكر عابديها يوم القيامة وتتبرأ من ذلك.

    قال تعالى في شأن إبليس: ( ﮗﮘ ﮣﮤ ﮨﮩ ﮯﮰ ﯗﯘ ) [إبراهيم:٢٢].

    قال السعدي في هذه الآية: «أي: ( )الذي هو سبب لكل شر يقع ووقع في العالم، مخاطبًا لأهل النار ومتبرئًا منهم ( )ودخل أَهلُ الجَنَّةِ الجَنَّةَ، وأهلُ النَّارِ النَّارَ ( ) على ألسنة رسله، فلم تطيعوه() الخير()أي: لم يحصل ولن يحصل لكم ما منيتكم به من الأماني الباطلة ( ) أي: من حجة على تأييد قولي، ( )أي: هذا نهاية ما عندي أني دعوتكم إلى مرادي وزينته لكم، فاستجبتم لي اتباعًا لأهوائكم وشهواتكم ( ) فأنتم السبب وعليكم المدار في موجب العقاب، ( ) أي: بمغيثكم من الشدة التي أنتم بها ( ) كل له قسط من العذاب ( ) أي: تبرأت من جعلكم لي شريكًا مع الله، فلست شريكًا لله ولا تجب طاعتي»125.

    والإشراك الذي كفر به إشراكهم إياه في العبادة بأن عبدوه مع الله؛ لأن من المشركين من يعبدون الشياطين والجن، فهؤلاء يعبدون جنس الشيطان مباشرة، ومنهم من يعبدون الأصنام فهم يعبدون الشياطين بواسطة عبادة آلهته 126.

    قال ابن عاشور: «والمقصود من وصف هذا الموقف إثارة بغض الشيطان في نفوس أهل الكفر ليأخذوا حذرهم بدفاع وسواسه؛ لأن هذا الخطاب الذي يخاطبهم به الشيطان، مليء بإضمار الشر لهم فيما وعدهم في الدنيا مما شأنه أن يستفز غضبهم من كيده لهم وسخريته بهم، فيورثهم ذلك كراهية له وسوء ظنهم بما يتوقعون إتيانه إليهم من قبله، وذلك أصل عظيم في الموعظة والتربية»127.

    وقال تعالى في شأن الأولياء والصالحين وغيرهم: ( ﯙﯚ ) [الفرقان:١٧-١٩].

    قال السعدي في هذه الآية: «يخبر تعالى عن حالة المشركين وشركائهم يوم القيامة وتبريهم منهم، وبطلان سعيهم فقال: ( )أي: المكذبين المشركين( )الله مخاطبًا للمعبودين على وجه التقريع لمن عبدهم: ( ) هل أمرتموهم بعبادتكم وزينتم لهم ذلك أم ذلك من تلقاء أنفسهم؟ ( ) نزهوا الله عن شرك المشركين به وبرؤوا أنفسهم من ذلك ( ) أي: لا يليق بنا ولا يحسن منا أن نتخذ من دونك من أولياء نتولاهم ونعبدهم وندعوهم، فإذا كنا محتاجين ومفتقرين إلى عبادتك متبرئين من عبادة غيرك، فكيف نأمر أحدًا بعبادتنا؟! هذا لا يكون، أو سبحانك عن ( ) فلما نزهوا أنفسهم أن يدعوا لعبادة غير الله، ذكروا السبب الموجب لإضلال المشركين، فقالوا: ( ) في لذات الدنيا وشهواتها ( ) اشتغالًا في لذات الدنيا، وإكبابًا على شهواتها .

    ( ) أي: بائرين لا خير فيهم، فلما تبرؤوا منهم قال الله توبيخًا وتقريعًا للعابدين ( ) إنهم أمروكم بعبادتهم ورضوا فعلكم، وأنهم شفعاء لكم عند ربكم، كذبوكم في ذلك الزعم وصاروا من أكبر أعدائكم، فحق عليكم العذاب ( ) للعذاب عنكم بفعلكم، أو بفداء أو غير ذلك ( ) لعجزكم وعدم ناصركم، هذا حكم الضالين المقلدين الجاهلين، وأما المعاند منهم الذي عرف الحق وصدف عنه، فقال في حقه: ( ) بترك الحق ظلما وعنادًا( ) لا يقادر قدره ولا يبلغ أمره»128.

    وقال تعالى في شأن الأصنام: ( ) [الأحقاف:٥-٦].

    أي: لا أحد أضل منه ولا أجهل، فإنه دعا من لا يسمع، فتبين بهذا أنه أجهل الجاهلين، وأضل الضالين والاستفهام للتوبيخ والتقريع ( ) الضمير الأول للأصنام، والثاني لعابديها.

    والمعنى: أن الأصنام التي يدعونها غافلون عن ذلك لا يسمعون ولا يعقلون، لكونهم جمادات، فالغفلة مجاز عن عدم الفهم فيهم، وأجرى على الأصنام ما هو للعقلاء؛ لاعتقاد المشركين فيها أنها تعقل( ) العابدون للأصنام ()أي: كان الأصنام () أي: لعابديهم () يتبرأ بعضهم من بعض، ويلعن بعضهم بعضًا، وقد قيل: إن الله يخلق الحياة في الأصنام فتكذبهم، وقيل: المراد إنها تكذبهم وتعاديهم بلسان الحال لا بلسان المقال ( ) أي: كان المعبودون بعبادة المشركين إياهم جاحدين مكذبين، وقيل: الضمير في كانوا للعابدين، كما في قوله: ( ) [الأنعام:٢٣]، والأول أولى 129.

    مقاصد العبادة وآثارها

    لقد فرض الله تعالى عن الناس عبادات لها مقاصدها وآثارها في إصلاح الفرد والمجتمع، وفي تزكية الأنفس وإصلاح القلوب، ولها آثار ونتائج مفيدة.

    وسيتم الحديث عنها في النقاط الآتية:

    أولًا: مقاصد العبادة:

    إن المقصد الأعظم والباعث الأساسي للعبادة هو استحقاق الله تعالى لذلك، فنحن نعبد الله جل وعلا؛ لأنه مستحق للعبادة؛ وتحقيقًا للغاية التي من أجلها خلق الإنس والجن.

    قال تعالى: ( ) [الذاريات:٥٦].

    فالمقصد الأصلي للعبادات هو تحقيق العبودية لله والانقياد له سبحانه وتعالى.

    قال الشاطبي: «إن مقصود العبادات الخضوع لله، والتوجه إليه، والتذلل بين يديه، والانقياد تحت حكمه، وعمارة القلب بذكره، حتى يكون العبد بقلبه وجوارحه حاضرًا مع الله، ومراقبًا له غير غافل عنه، وأن يكون ساعيًا في مرضاته وما يقرب إليه على حسب طاقته»130.

    ونجد أن هذا المعنى قد تقرر في القرآن بأساليب مختلفة، منها ما جاء بصيغة الأمر.

    قال تعالى: ( ) [النساء:٣٦].

    وقال تعالى: ( ) [البقرة:٢١].

    وقال تعالى: ( ) [الزمر:٦٦].

    إلى غير ذلك من الآيات131.

    وهناك بعض المقاصد للعبادات قد نص الله تعالى عليها في كتابه، وبين ثمرتها وفائدتها، ومن ذلك:132

    أنه قال في الصلاة: ( ) [طه:١٤].

    قال السعدي: «وقوله: () اللام للتعليل أي: أقم الصلاة لأجل ذكرك إياي؛ لأن ذكره تعالى أجل المقاصد، فشرع الله للعباد أنواع العبادات، التي المقصود منها إقامة ذكره، وخصوصًا الصلاة.

    قال تعالى: ( ﯡﯢ ﯨﯩ ) [العنكبوت:٤٥].

    أي: ما فيها من ذكر الله أكبر من نهيها عن الفحشاء والمنكر، ثم خص الصلاة بالذكر وإن كانت داخلة في العبادة؛ لفضلها وشرفها، وتضمنها عبودية القلب واللسان والجوارح»133.

    وقال في الزكاة: ( ) [التوبة:١٠٣].

    والصدقة تطلق على الفرض والنفل وسمى الله تعالى الزكاة صدقة؛ لأن المال بها يصح ويكمل، فهي سبب إما لكمال المال وبقائه، وإما لأنه يستدل بها على صدق العبد في إيمانه وكماله فيه 134.

    وقد بين الله تعالى الحكمة في الزكاة وبيان مصالحها العظيمة، فقوله:()أي: من الذنوب ومن الأخلاق الرذيلة، وتطهر المال من الأوساخ والآفات، وأما قوله: ( ) فالزكاة هي النماء والزيادة، فهي تنمي المؤتي للزكاة، تنمي أخلاقه، وتحل البركة في أعماله، وتنمي المال بزوال ما به ضرره وحصول ما فيه خيره، وتحل فيه البركة من الله135.

    ونسبت التزكية إلى رسول الله؛ لأنه هو المربي للمؤمنين على ما تزكو به نفوسهم136.

    وفي الآية دلالة على أن الزكاة إنما يتولى أخذها الإمام أو نائبه؛ لأنه تعالى جعل للعاملين سهمًا منها137.

    وفيها دلالة على وجوب الزكاة في جميع الأموال، وأن العبد لا يمكنه أن يتطهر ويتزكى حتى يخرج زكاة ماله، وأنه لا يكفرها شيء سوى أدائها؛ لأن الزكاة والتطهير متوقف على إخراجها138.

    وقال في الصيام: ( ) [البقرة:١٨٣].

    قال أبو زهرة: «وقد بين الله تعالى حكمة شرعيته بقوله تعالى: ( ) أي رجاء منكم لأن تصلوا إلى درجة المتقين، فتتقوا المعاصي، وسيطرة الأهواء والشهوات على نفوسكم، وذلك لأن الصوم يربي النفس على الضبط، والاستيلاء على أهوائها وشهواتها، وحيث قويت الإرادة قوي سلطانها على الالتواء وعلى الشهوات»139.

    وفي الآية تأكيد للحكم، وترغيب في الفعل، وتطييب لأنفس المخاطبين فإنه عبادة شاقة، والأمور الشاقة إذا عمت كثيرًا من الناس سهل تحملها ورغب كل أحد في عملها140.

    وقال في الحج: ( ) [الحج:٢٧-٢٨].

    قال الرازي: «لما أمر بالحج في قوله: ( ) ذكر حكمة ذلك الأمر في قوله: ( ) واختلفوا فيها فبعضهم حملها على منافع الدنيا، وهي أن يتجروا في أيام الحج، وبعضهم حملها على منافع الآخرة، وهي العفو والمغفرة، وبعضهم حملها على الأمرين جميعًا وهو الأولى، ثم نكر المنافع؛ لأنه أراد منافع مختصة بهذه العبادة دينية ودنيوية لا توجد في غيرها من العبادات»141.

    ولأن العبادات شرعت للابتلاء بالنفس كالصلاة والصوم أو بالمال كالزكاة، وقد اشتمل الحج عليهما مع ما فيه من تحمل الأثقال وركوب الأهوال142.

    وكنى عن الذبح والنحر بذكر اسم الله تعالى؛ لأن أهل الإسلام لا ينفكون عن ذكر اسمه إذا نحروا وذبحوا، وفيه تنبيه على أن الغرض الأصلي فيما يتقرب به إلى الله تعالى أن يذكر اسم الله تعالى، وأن يخالف المشركين في ذلك، فإنهم كانوا يذبحونها للنصب والأوثان 143.

    ثانيًا: آثار العبادة:

    إن الإسلام قد فرض على الناس عبادات لها أثر حسن في إصلاح القلوب وتهذيب النفوس144، فأثرها يتمثل في تقويم أخلاقهم، وتزكية نفوسهم، وتوجيههم الوجهة النافعة، وقد أوصى الله عباده بالفضائل، وحذرهم من الرذائل، فقال سبحانه: ( ﭿ ﮇﮈ ) [النحل:٩٠]145.

    ومن الآثار المترتبة على العبادات: انشراح الصدر، وراحة البال، وسعة الرزق، وسلامة الإنسان وارتياحه واطمئنانه، وقد جاء في القرآن آياتٌ كثيرة تدل على تلك الآثار، وعلى أن تقوى الله عز وجل والأعمال الصالحة يترتب عليها سعادة الدنيا وسعادة الآخرة.

    قال الله عز وجل: ( ) [الأعراف:٩٦].

    فإن هذه الآية الكريمة تدل على أن من اتقى الله عز وجل وآمن به، فإن الله تعالى يثيبه ويعطيه في الحياة الدنيا من الرزق، ويفتح عليه من بركات السماء والأرض وما ذكره الله في هذه الآية عن أهل القرى، هو من الثواب الدنيوي على الإيمان والتقوى، وأما الثواب الأخروي للمؤمنين المتقين، فقد ذكره الله تعالى في قوله: ( ) [المائدة:٦٥].

    وقال عز وجل: ( ) [الأحزاب:٧٠].

    وهذه عبادة، ثم ذكر الأثر المترتب على ذلك بقوله: ( ﯔﯕ ) [الأحزاب:٧١].

    فإن إصلاح الأعمال في الدنيا، ومغفرة الذنوب في الآخرة، من الآثار المترتبة على العبادة، فقد اشتملت هذه الآية الكريمة على ذكر آثار تترتب على العبادة في الدنيا وفي الآخرة.

    وقال تعالى فيما حكاه عن نوح وقومه: ( ﯿ ) [نوح:١٠-١٢].

    فإن هذه الأمور من الآثار المترتبة على العبادة، فالعبادة هنا هي الاستغفار والآثار المترتبة عليها في هذه الآية هي أنه يرسل السماء عليهم مدرارًا، ويمددهم بالأموال والبنين، ويجعل لهم جنات ويجعل لهم أنهارًا، ومثل هذه الآية 146.

    وقال تعالى: ( ﮔﮕ ) [النحل:٩٧].

    قال القاسمي في هذه الآية: «فضمن لأهل الإيمان والعمل الصالح الجزاء في الدنيا بالحياة الطيبة، والحسنى يوم القيامة، فلهم أطيب الحياتين وهم أحياء في الدارين»147، ثم إن من العبادات الصلاة والزكاة والصيام والحج، وكل واحدة منها لها آثار طيبة في حياة المسلم.

    فالصلاة هي عمود الإسلام، وهي التي تنهى عن الفحشاء والمنكر.

    قال الله عز وجل: ( ﯡﯢ ) [العنكبوت:٤٥].

    وهي صلةٌ وثيقةٌ بين العبد وبين ربه، فإذا حافظ الإنسان على الصلوات في المساجد جماعة مع المسلمين فإنه تقوى صلته بالله عز وجل؛ لأنه يكون على صلة بالله دائمًا وأبدًا في اليوم والليلة148؛ لذلك حث الله تعالى على إقامة الصلاة في الجماعة، قال تعالى: ( ) [البقرة:٤٣].

    ومن آثارها أنها تمد المؤمن بقوة روحية تعينه على مواجهة المشقات والمكاره في الحياة الدنيا، قال تعالى: ( ﯵﯶ ) [البقرة:١٥٣]149.

    ثم إن الزكاة آثارها عظيمة فهي تطهر النفس من الشح والبخل، وتطهر المال، وتكون سببًا في نمائه وكثرته، وبذلك يحصل الخير والفلاح والفوز 150.

    قال تعالى: ( ﮢﮣ ﮧﮨ ) [التوبة:١٠٣].

    وقال ابن عاشور في قوله تعالى: ( ﮯﮰ ) [التغابن:١٦].

    «والمعنى: أن الإنفاق يقي صاحبه من الشح المنهي عنه، فإذا يسر على المرء الإنفاق فيما أمر الله به فقد وقي شح نفسه، وذلك من الفلاح وإضافة الشح إلى النفس؛ للإشارة إلى أن الشح من طباع النفس، فإن النفوس شحيحة بالأشياء المحببة إليها، قال تعالى: ( ) [النساء:١٢٨]»151.

    وأما الصيام فإن آثاره عظيمة، ونتائجه كبيرة، قال تعالى: ( ) [البقرة:١٨٣].

    قال المراغي: «فرضه عليكم ليعدكم لتقوى الله بترك الشهوات المباحة الميسورة؛ امتثالًا لأمره واحتسابًا للأجر عنده، فتتربى بذلك العزيمة والإرادة على ضبط النفس وترك الشهوات المحرمة والصبر عنها، وإعداد الصوم لتقوى الله يظهر من وجوه كثيرة، منها: أنه يُعوِّدُ الإنسان الخشية من ربه في السر والعلن، ويكسر حدة الشهوة، ويجعل النفس مصرفة لشهواتها بحسب الشرع، ويعود الشفقة والرحمة الداعيتين إلى البذل والصدقة، فهو عند ما يجوع يتذكر من لا يجد قوتًا من أولئك البائسين، فيرق قلبه لهم ويشفق عليهم، وفي ذلك تكافل للأمة وشعور بالأخوة الدينية»152.

    وأما الحج فإنه عبادة عظيمة، ولها آثار طيبة، ونتائج حميدة في حياة الإنسان.

    قال تعالى: ( ﭓﭔ ﭠﭡ ﭧﭨ ﭭﭮ ) [البقرة:١٩٧].

    فالحج غذاء روحي كبير تمتلئ فيه جوانح المسلم خشية وتقى لله رب العالمين، ففي كل منسك من مناسكه غذاء للروح، فما الإحرام إلا تجرد من شهوات النفس والهوى، وحبس للنفس عما سوى الله عز وجل، وحث على التفكير في عظمة الله جل جلاله، وحث على تذكر الموت والاستعداد له بالعمل الصالح فالحاج في لباس إحرامه يذكر الميت في أكفانه، وما التلبية إلا استجابة وذكر وطاعة وامتثال، وما الطواف بعد التجرد إلا استحضار لعظمة الله تعالى حول بيته، وامتثال لأمره ( ) [الحج:٢٩].

    وما السعي بين الصفا والمروة إلا تردد بينهما التماسا لرحمة الله تعالى وطلبا لمغفرته، وما الوقوف بعرفة إلا بذل للمهج في الضراعة إلى الله بقلوب مملوءة بالخشية وأيد مرفوعة بالرجاء وألسنة لاهجة بالدعاء وآمال صادقة في أرحم الراحمين، وما الرمي بعد ذلك إلا رمز لاحتقار عوامل الشر ونزعات الشيطان، وما الذبح إلا إراقة للدم الذي أمر الله به أن يراق ورمز للتضحية والفداء ( ) [الأنعام:١٦٢].153.

    والحاصل أن هذه العبادات العظيمة التي شرعها الله عز وجل، وبنى عليها دينه الحنيف، تترتب عليها آثار طيبة في حياة المسلم الدنيوية، وآثار عظيمة في حياته الأخروية154.

    موضوعات ذات صلة:

    الحج، الزكاة، الصبر، الصلاة، الصيام، الطهارة


1 مقاييس اللغة، ابن فارس ٤/٢٠٥ - ٢٠٧ بتصرف يسير.

2 المخصص، ابن سيده ٤/٦٢.

3 تهذيب اللغة، الأزهري ٢/١٣٨.

وانظر: لسان العرب، ابن منظور ٣/٢٧٣، تاج العروس، الزبيدي ٨/٣٣١.

4 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٢٧/٢٦.

5 العبودية، ابن تيمية ص ٤٤.

6 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ١/١٣٤.

7 شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري، عبد الله الغنيمان ١/٤٦.

8 التحرير والتنوير، ابن عاشور ١/١٨٠.

9 مفاتيح الغيب، الرازي ٣٢/٢٤٣ بتصرف.

10 المصدر السابق ٢٨/١٩٣ بتصرف

11 التحرير والتنوير، ابن عاشور ١/١٨٠.

12 المفيد في مهمات التوحيد، عبدالقادر صوفي ص٩٢.

13 انظر: المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، محمد فؤاد عبد الباقي ص٤٤١- ٤٤٥.

14 انظر: نزهة الأعين النواظر، ابن الجوزي ١/٤٣١-٤٣٢.

15 انظر: جامع البيان، الطبري ١٩/٤٧٠.

16 انظر: مقاييس اللغة، ابن فارس ٣/٤٣١.

17 انظر: التعريفات، الجرجاني ١/١٤٠، اللباب في علوم القرآن، ابن عادل ١٠/٣٩٧، محاسن التأويل، القاسمي ٤/٥٢٣.

18 الكليات، الكفوي ص ٥٨٣.

19 المفردات، الراغب الاصفهاني ص ٨٠٢.

20 تاج العروس، الزبيدي ٢٧/٣٧٢.

21 البحر المحيط، أبو حيان ١/٤٤.

22 لمسات بيانية في نصوص من التنزيل، فاضل السامرائي ص ٤٥.

23 مدارج السالكين، ابن القيم ١/٩٧-٩٨ بتصرف واختصار.

24 تيسير اللطيف المنان في خلاصة تفسير القرآن، السعدي ص١٢.

25 محاسن التأويل، القاسمي ١/٢٣٠.

26 مدارج السالكين، ابن القيم ١/١٢٥ بتصرف واختصار.

27 مجموع فتاوى ورسائل، ابن عثيمين ٦/٣٢.

28 المصدر السابق ١/٨٩.

29 مدارج السالكين، ابن القيم ١/١٢٦ -١٢٧.

30 مدارج السالكين، ابن القيم ١/١٢٦ بتصرف يسير.

31 مجموع فتاوى ورسائل، ابن عثيمين ٦/٣٣.

32 المصدر السابق ١/٨٩.

33 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص ٨١٣.

34 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٧/٤٢٥.

35 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٢٧/٢٥ بتصرف.

36 المصدر السابق ٢٧/٢٨.

37 فتح القدير، الشوكاني ٥/١١٠.

38 التفسير القرآني للقرآن، عبد الكريم الخطيب ١٤/٥٣٨.

39 مفاتيح الغيب، الرازي ٢٠/٢٠٤.

40 المصدر السابق ٢٨/١٩٢.

41 العبودية، ابن تيمية ص ٤٤ بتصرف.

42 النبوات، ابن تيمية ١/٢٨ بتصرف.

43 العبودية، ابن تيمية ص ٧٧.

44 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص ٤٤٠.

45 القول المفيد على كتاب التوحيد، ابن عثيمين ١/٣٧٠- ٣٧١.

46 مدارج السالكين، ابن القيم ١/١٢٢ بتصرف واختصار.

47 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ١/١٣٦.

48 التحرير والتنوير، ابن عاشور ١٥/١٢ باختصار.

49 في ظلال القرآن، سيد قطب ١/٤٨.

50 القول المفيد على كتاب التوحيد، ابن عثيمين ١/٣٧٠- ٣٧١.

51 مفاتيح الغيب، الرازي ٢٧/٦٤٢.

52 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٢٥/١٨٣.

53 مفاتيح الغيب، الرازي ١٥/٤٤٦ بتصرف.

54 معالم التنزيل، البغوي ٢/٣٢٨.

55 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٨/٩٥.

56 التحرير والتنوير، ابن عاشور ١٠/١٥٣.

57 مدارج السالكين، ابن القيم ١/٩٥-٩٦ باختصار.

58 معارج القبول بشرح سلم الوصول، حافظ الحكمي ٢/٤٣٧.

59 العبودية، ابن تيمية ص ٤٩.

60 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الإيمان، باب حلاوة الإيمان، رقم ١٦، ومسلم في صحيحه، كتاب الايمان، باب خصال من اتصف بهن وجد حلاوة الإيمان، رقم ٦٧.

61 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٤/٦٠ بتصرف.

62 مدارج السالكين، ابن القيم ١/١١٩.

63 جامع البيان، الطبري ١/١٥٧.

64 انظر: المصدر السابق ١/١٦١.

65 النكت والعيون، الماوردي ١/٥٧-٥٨.

66 مجموع فتاوى ابن تيمية ١/٣٩.

67 محاسن التأويل، القاسمي ١/٢٢٨.

68 مفاتيح الغيب، الرازي ١/٢١٤ بتصرف.

69 انظر: مفاتيح الغيب، الرازي ٣٢/٢٤٣، ومعاني القرآن وإعرابه، للزجاج ٥/٣٥٠.

70 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٢٠/١٤٤.

وانظر: فتح القدير، الشوكاني ٥/٥٨٠، فتح البيان في مقاصد القرآن، صديق خان ١٥/٣٣٤.

71 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، رقم ١.

72 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الزهد والرقائق، باب من أشرك في عمله غير الله، رقم ٢٩٨٥.

73 محاسن التأويل، القاسمي ٦/٢٢٨.

74 فتح البيان في مقاصد القرآن، صديق خان ١٥/٣٣٤.

75 العبودية، ابن تيمية ص ١٤٨.

76 مدارج السالكين، ابن القيم ١/١٠٤.

77 جامع المسائل، ابن تيمية ٦/٢٨.

78 مفاتيح الغيب، الرازي ٣٢/٢٤٣.

79 الاستقامة، ابن تيمية ٢/٣٠٨ -٣٠٩.

80 الفتاوى الكبرى، ابن تيمية ٢/٧٦ بتصرف.

81 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٤/٣٠٨.

82 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة، ورد محدثات الأمور، رقم ١٧١٨.

83 مدارج السالكين، ابن القيم ١/١٠٥ بتصرف.

84 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٣/٥٠٠.

85 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجنائز، باب ما قيل في أولاد المشركين، رقم ١٣٨٥، واللفظ له، ومسلم في صحيحه، كتاب القدر، باب معنى كل مولود يولد على الفطرة وحكم موت أطفال الكفار وأطفال المسلمين، رقم ٢٦٥٨.

86 تفسير المراغي ٢١/٤٥-٤٦.

87 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار، رقم ٢٨٦٥.

88 مفاتيح الغيب، الرازي ٢٥/٧٦.

89 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٢١/٣٢ بتصرف.

90 فتح القدير، الشوكاني ٤/٢٥٨.

91 طريق الهجرتين وباب السعادتين، ابن القيم ص ٨ بتصرف يسير.

92 البحر المحيط في التفسير، أبو حيان ٩/٢٣.

93 مفاتيح الغيب، الرازي ٢٦/٢٢٩.

94 مفاتيح الغيب، الرازي ٢٢/١٨٢-١٨٣.

95 طريق الهجرتين وباب السعادتين، ابن القيم ص٢٨٢- ٢٨٣.

96 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص ٨٩٨.

97 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٢/٢٠٤، معالم التنزيل، البغوي ١/١٩٦-١٩٧.

98 مفاتيح الغيب، الرازي ١٢/٣٨١.

99 الفتاوى الكبرى، ابن تيمية ٥/١٨٨.

100 أضواء البيان، الشنقيطي ٢/٣٦٢.

101 مدارج السالكين، ابن القيم ٢/٢٣٢-٢٣٣.

102 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ١٤/٢٧٧.

103 تفسير الراغب الأصفهاني، ١/٣٤٥.

104 المفيد في مهمات التوحيد، عبد القادر صوفي ص ٩٥ بتصرف.

105 مدارج السالكين، ابن القيم ١/١٢٠ بتصرف.

106 المفيد في مهمات التوحيد، عبدالقادر صوفي ص ٩٥.

107 مدارج السالكين، ابن القيم ١/١٢١ بتصرف.

108 المفيد في مهمات التوحيد، عبدالقادر صوفي ص ٩٥.

109 مدارج السالكين، ابن القيم ١/١٢١ بتصرف.

110 المفيد في مهمات التوحيد، عبدالقادر صوفي ص ٩٦.

111 المصدر السابق ص ٩٦.

112 انظر: المنتقى من فرائد الفوائد، ابن عثيمين ص ٤.

وانظر: الفقه الإسلامي وأدلته، الزحيلي ٣/٢٠٩٥.

113 الموسوعة الفقهية الكويتية ٣٢/٣٤٨ بتصرف.

114 المصدر السابق ٣٠/٣٢٨.

115 فتح القدير، الشوكاني ٢/٤١٤.

116 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٥/١٧١.

117 إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد، صالح الفوزان ١/١٦٥ بتصرف يسير.

118 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص ٤٤٠.

119 جامع البيان، الطبري ٥/٤١٩ بتصرف.

120 منهج القرآن الكريم في دعوة المشركين إلى الإسلام، حمود الرحيلي ١/١٧ بتصرف.

121 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٦/١١٨ باختصار يسير.

122 مفاتيح الغيب، الرازي ٢٦/٣٠٧.

123 التفسير الوسيط، الزحيلي ٢/١٢٨٣.

124 إعلام الموقعين عن رب العالمين، ابن القيم ١/١٣٩.

125 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص ٤٢٤ باختصار يسير.

126 التحرير والتنوير، ابن عاشور ١٣/٢٢١.

127 المصدر السابق ١٣/٢١٨.

128 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص ٥٨٠ باختصار.

129 فتح البيان في مقاصد القرآن، صديق خان ١٣: ١١- ١٢ باختصار.

130 الموافقات، الشاطبي ٢/٣٨٣.

131 مقاصد الشريعة الإسلامية وعلاقتها بالأدلة الشرعية، محمد اليوبي ص٤٨٥ بتصرف.

132 انظر: المصدر السابق ص٤٨١ بتصرف.

133 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص ٥٠٣ بتصرف واختصار.

134 مفاتيح الغيب، الرازي ٧/٦١.

135 تيسير اللطيف المنان في خلاصة تفسير القرآن، السعدي ص٧٦-٧٧ باختصار.

136 تفسير المراغي ١١/١٦-١٧ بتصرف.

137 غرائب القرآن ورغائب الفرقان، النيسابوري ٣/٤٩٢.

138 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص ٣٥٠.

139 زهرة التفاسير، أبو زهرة ١/٥٥١ باختصار يسير.

140 تفسير المراغي ٢/٦٨.

141 مفاتيح الغيب، الرازي ٢٣/٢٢١.

142 مدارك التنزيل وحقائق التأويل، النسفي ٢/٤٣٦.

143 مفاتيح الغيب، الرازي ٢٣/٢٢١.

144 العبادات في الإسلام وأثرها في إصلاح المجتمع، محمود السيد شيخون ص ٨٩.

145 العبادات في الإسلام وأثرها في تضامن المسلمين، علي عبد اللطيف منصور ص ١١٩ باختصار.

146 أثر العبادات في حياة المسلم، عبد المحسن البدر ص ١١-١٦ بتصرف واختصار.

147 محاسن التأويل، القاسمي ٧/١٥٩.

148 أثر العبادات في حياة المسلم، عبد المحسن البدر ص ٢٠ بتصرف.

149 العبادات في الإسلام وأثرها في إصلاح المجتمع، محمود السيد شيخون ص ٩٠ بتصرف.

150 أثر العبادات في حياة المسلم، عبد المحسن البدر ص ٢١ بتصرف.

151 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٢٨/٢٨٩.

152 تفسير المراغي ٢/٦٨-٧٠ بتصرف واختصار.

153 العبادات في الإسلام وأثرها في إصلاح المجتمع، محمود السيد شيخون ص ٩٧ بتصرف.

154 أثر العبادات في حياة المسلم، عبد المحسن البدر ص ٣٠.