عناصر الموضوع
العزة
أولاً: المعنى اللغوي:
العين والزاي أصلٌ واحد يدل على الشدة والقوة وما ضاهاهما من غلبةٍ وقهر، وعز يعز عزًّا وعزَّةً وعزازةً، ورجلٌ عزيزٌ من قومٍ أعزة وأعزاء وعزازٍ، واعتز بي وتعزز: تشرف، وعز علي يعز عزًّا وعزَّةً وعزازةً: كرم، وأعززته: أكرمته وأحببته، ويقال: عز الرجل بعد ضعفٍ، أي: صار عزيزًا بعد ذلة، وأعززته: جعلته عزيزًا، وعز الشيء: إذا قل، ومنه ناقةٌ عزوزٌ: إذا كانت ضيقة الإحليل لا تدر إلا بجهد، ويقال: استعز على المريض، إذا اشتد مرضه. واستعز عليه الشيطان: أي غلب عليه وعلى عقله، واستعز عليه الأمر: إذا لج فيه، والعز من المطر: الكثير الشديد، وأرض معزوزة: إذا أصابها ذلك 1.
إذن فالعزة تدور حول معاني الغلبة والقهر والشدة والقوة ونفاسة الشيء وعلو قدره.
ثانيًا: المعنى الاصطلاحي:
قال الراغب الأصفهاني: «العزة: حالةٌ مانعة للإنسان من أن يغلب»2.
وقيل: «العزة: التأبي عن حمل المذلة، وقيل: الترفع عما تلحقه غضاضة»3.
وقيل: العزة صفة تفيد حصول الفوقية والغلبة لله سبحانه وتعالى وعباده الصالحين على أعدائهم4.
وعرفها الدكتور محمد بن عبد الله الهبدان بأنها: «ارتباط بالله تعالى، وارتفاع بالنفس عن مواضع المهانة، والتحرر من رق الأهواء ومن ذل الطمع، وعن السير إلا وفق ما شرع الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم »5.
وخلاصة القول: إن المتدبر في المعنيين يجد اتصالًا بينهما، حيث إن المعنى الاصطلاحي يعني أن العزة حالة تعتري الإنسان تمنعه من غلبة غيره عليه، وهذا مرتبط بمعنى العزة في اللغة التي هي الشدة والقوة والغلبة والقهر
وردت مادة (عزز) في القرآن الكريم (١٢٠) مرة6.
والصيغ التي وردت عليها هي:
الصيغة |
عدد المرات |
المثال |
الفعل الماضي |
٢ |
(ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ) [يس:١٤] |
الفعل المضارع |
١ |
(ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ) [آل عمران:٢٦] |
المصدر |
١٢ |
(ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ) [النساء:١٣٩] |
الصفة المشبهة |
٩٩ |
(ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ) [البقرة:٢٠٩] |
أفعل التفضيل |
٤ |
(ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ) [هود:٩٢] |
اسم |
٢ |
(ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ) [المائدة:٥٤] |
وجاءت العزة في الاستعمال القرآني على ستة أوجه7:
الأول: المنعة: ومنه قوله تعالى: (ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ) [النساء:١٥٨] يعني: منيعًا.
الثاني: العظمة: ومنه قوله تعالى: (ﰖ ﰗ) يعني: فبعظمتك (ﰘ ﰙ) [ص:٨٢].
الثالث: الحمية: ومنه قوله تعالى: (ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ) [ص:٢] يعني: في حمية.
الرابع: الغلظة: ومنه قوله تعالى: (ﮭ ﮮ ﮯ) [المائدة:٥٤] يعني: غلظاء عليهم.
الخامس: الشدة: ومنه قوله تعالى: (ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ) [فاطر:١٧] يعني: بشديد.
السادس: القوة: ومنه قوله تعالى: (ﭟ ﭠ) [يس:١٤] يعني: فقويناهما بثالث.
القوة:
القوة لغةً:
قوي الرجل والضعيف يقوى قوة فهو قويٌّ وقويته تقويةً وقاويته فقويته أي غلبته8.
القوة اصطلاحًا:
ذكر الراغب أن أكثر استعمال القوة في القدرة9، وقال السيوطي: «القوة: مبتدأ كل فعل في البدن»10.
الصلة بين القوة والعزة:
يتضح أن العزة دليل على القوة، فلا يعقل أن يكون الإنسان عزيزًا دون أن يكون قويًّا، سواء كانت القوة معنوية أم مادية.
الشدة:
الشدة لغةً:
قال ابن فارس: «الشين والدال أصلٌ واحدٌ يدل على قوةٍ في الشيء، وفروعه ترجع إليه. من ذلك شددت العقد شدًّا أشده»11.
الشدة اصطلاحًا:
قال المناوي: «الشد: العقد القوي»12.
الصلة بين الشدة والعزة:
يظهر أن العزة دليل على الشدة التي تطلق في الأصل على المبالغة في وصف الشيء في صلابة13، فالإنسان لا يكون عزيزًا إلا إذا كانت فيه صلابة على الحق.
الغلبة:
الغلبة لغةً:
من غلب يغلب غلبةً، وهو القهر14.
الغلبة اصطلاحًا:
لا يخرج عن معناه اللغوي، قال الراغب: «الغلبة: القهر»15. والمقصود هو قهر العدو.
الصلة بين الغلبة والعزة:
يتبين أن الغلبة مظهر من مظاهر العزة.
الرفعة:
الرفعة لغةً:
فلان رفعة ورفاعة، ارتفع قدره وشرف، يقال: رفع في حسبه ونسبه فهو رفيع وهي رفيعة16.
الرفعة اصطلاحًا:
ذكر المناوي أن «الرفع: يقال تارة في الأجسام الموضوعة إذا أعليتها عن مقرها، وتارة في البناء إذا طولته، وتارة في الذكر إذا نوهته، وتارة في المنزلة إذا شرفتها»17.
الصلة بين الرفعة والعزة:
لا شك أن الرفعة هي العزة، فهما كلمتان مترادفتان.
الأساليب القرآنية في عرض العزة
لقد عرض القرآن الكريم موضوع العزة بأسلوب مميز، تطرق فيه إلى نواحٍ مختلفة، منها:
أولًا: وصف الله سبحانه بالعزة:
إن اسم الله تعالى (العزيز) ورد ضمن مجموعة من أسمائه الحسنى الواردة في قوله تعالى: (ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ) [الحشر:٢٣].
ويكمن معنى هذا الاسم الجليل-كما ذكر الزجاج-في أن الله تعالى هو الغالب لكل شيء، فهو سبحانه العزيز الذي ذل كل عزيز لعزته جل جلاله 18.
وقال الغزالي: «العزيز: هو الخطير الذي يقل وجود مثله، وتشتد الحاجة إليه، ويصعب الوصول إليه، فما لم يجتمع عليه هذه المعاني الثلاثة لم يطلق عليه اسم العزيز»19.
وبين السعدي أن العزة لها معانٍ ثلاثة متمثلة في عزة القوة، وعزة الغلبة، وعزة الامتناع، فالله جل جلاله يمتنع عن أن يناله أحد من المخلوقات، وأنه سبحانه قهر جميع الموجودات، ودانت له الخليقة كلها، وخضعت لعظمته وجبروته، ثم قال: «فمعاني العزة الثلاث كلها كاملة لله العظيم، عزة القوة الدال عليها من أسمائه القوي المتين، وهي وصفه العظيم الذي لا تنسب إليه قوة المخلوقات وإن عظمت، وعزة الامتناع فإنه هو الغني بذاته فلا يحتاج إلى أحد، ولا يبلغ العباد ضره فيضرونه، ولا نفعه فينفعونه، بل هو الضار النافع المعطي المانع، وعزة القهر والغلبة لكل الكائنات فهي كلها مقصورة لله خاضعة لعظمته منقادة لإرادته، فجميع نواصي المخلوقات بيده، لا يتحرك منها متحرك ولا يتصرف متصرف إلا بحوله وقوته وإذنه، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، ولا حول ولا قوة إلا به»20.
هذا وقد وصف الله تعالى نفسه بالعزة في آيات عديدة من القرآن الكريم، منها-على سبيل المثال لا الحصر-قوله تعالى: (ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ) [يونس:٦٥].
فالله سبحانه وتعالى ينهى نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم عن الحزن من قول المشركين في الله عز وجل ما يقولون من كلام باطل، وإشراكهم معه الأوثان والأصنام في العبادة، فإن الله سبحانه وتعالى هو المنفرد بعزة الدنيا والآخرة، لا يشاركه فيها أحد، كما أنه هو المنتقم من هؤلاء المشركين، فلن ينصرهم أحد عند انتقام الله تعالى منهم؛ لأنه لا يُعَازُّهُ شيء، فهو تعالى لهم بالمرصاد، يسمع ما يفترون عليه، ويعلم ما يضمرونه في أنفسهم، وما يعلنونه من شرك وعداء للإسلام والمسلمين21.
منها قوله تعالى: (ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ) [فاطر:١٠].
والمعنى: أن من يطلب القوة والمنعة والرفعة فإنها تكون بعبادة الله تعالى وطاعته، فبالله عز وجل يكون عز الدنيا والآخرة لا بالأصنام التي عبدها المشركون من دونه سبحانه وتعالى؛ وذلك لأن المشركين كانوا يعبدون هذه الأصنام طلبًا للعز، كما في قوله تعالى: (ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ) [مريم:٨١].
وطلبًا للمنعة والقوة أيضًا، كما في قوله تعالى: (ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ) [يس:٧٤]22.
وعليه فإن العزة لا تكون إلا لله تعالى وحده، فهو صاحبها ومالكها، كما بين ذلك عن نفسه حين قال: (ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ) [الصافات:١٨٠].
فهو سبحانه نزه ذاته العلية عما وصفه به المشركون مما لا يليق بجلاله وكماله، ثم أضاف الرب إلى العزة؛ ليفيد اختصاصه بها، كأنه قال: ذو العزة23.
هذا وقد اقترن اسمه «العزيز» بالأسماء والصفات الآتية:
أولًا: ذو انتقام.
قال تعالى: (ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ) [آل عمران:٤].
أي: إن الذين كفروا بآيات الله تعالى الناطقة بالحق، وبوجوب توحيده وتنزيهه عما لا يليق بجلاله، فإن لهم عذابًا شديدًا، لا يقادر قدره بسبب كفرهم، فالله تعالى عزيز لا يغالب، ويفعل ما يشاء، وذو انتقام عظيم24.
ثانيًا: الحكيم.
قال تعالى: (ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖﮗ ﮘ ﮙ ﮚﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ) [النحل:٦٠].
فالله تعالى يخبر أن الذين ينكرون البعث ولا يؤمنون بالآخرة لهم صفة السوء؛ وذلك لجهلهم وظلمهم أنفسهم؛ أنهم لم ينقذوا أنفسهم بالإيمان وعمل الخير، أما الله سبحانه وتعالى فله الصفة الحسنى، وهو أنه لا إله إلا هو منزه عن كل نقص، ورب كل شيء ومليكه، بيده الخير وهو على كل شيء قدير، لا شريك له، ولا ند له ولا ولد، ثم أثنى الله تعالى على نفسه بأعظم وصف وهو العزة والقهر والغلبة لكل شيء، والحكمة العليا في تدبيره لهذا الكون، وتصريفه لشؤون خلقه، وفي حكمه وقضائه25.
ثالثًا: الرحيم.
قال تعالى: (ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ) [الشعراء:٧-٩].
فالله تعالى ينكر على المشركين عدم تدبرهم في آيات الله تعالى الدالة على استحقاقه وحده للربوبية والعبادة والخضوع، ثم يخاطب الله تعالى نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم مسليًا إياه بأنه تعالى هو العزيز القاهر الذي لا يعجزه شيء، والرحيم الذي وسعت رحمته كل شيء، فالآية تقرر أن الله تعالى قادر على سحق الكفار والقضاء عليهم غير أن رحمته تعالى اقتضت عدم التعجيل بذلك لعلهم يرعوون26.
رابعًا: الحميد.
قال تعالى: (ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ) [سبأ:٦].
أي: إن أهل العلم يعلمون أن القرآن الذي أنزل من عند الله تعالى هو الحق، وأنه يرشد إلى الطريق المستقيم، طريق الله العزيز الذي لا يغالب ولا يمانع؛ بل إنه سبحانه حميد محمود في أقواله وأفعاله وشرعه27.
خامسًا: العليم.
قال تعالى: (ﯢ ﯣ ﯤ ﯥﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ) [يس:٣٨].
أي: إن الشمس من آيات الله عز وجل الدالة على نفوذ مشيئته سبحانه، وعلى كمال قدرته، فهي دائمًا تجري لمستقر قدره الله تعالى لها، لا تحيد عنه ولا تتعداه، فهي لا تتصرف في نفسها، ولا تعصي الله تعالى، فسبحان الذي دبر هذه المخلوقات بعزته العظيمة بأكمل تدبير، وأحسن نظام، كما دبرها بعلمه حيث جعلها مصالح لعباده، ومنافع لهم في الدنيا والآخرة28.
سادسًا: الوهاب.
قال تعالى: (ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ) [ص:٩].
فالله تعالى يوبخ المشركين وينكر عليهم اعتراضهم على نزول النبوة على محمد صلى الله عليه وسلم دون غيره منهم، فليست خزائن الله تعالى عندهم فيعترضوا ويتصدوا لحرمان من يشاؤون، فإن المواهب من الله تعالى يصيب بها من يشاء، فيختار للنبوة من يصطفيه، وليس لهم الاختيار في ذلك، فهو العزيز الوهاب29.
سابعًا: الغفار.
قال تعالى: (ﭪ ﭫ ﭬ ﭭﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ) [ص:٦٥-٦٦].
والمعنى: أن الله عز وجل يأمر نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يخبر المشركين -إن طلبوا منه ما ليس بيده- أن الأمر لله تعالى قائلًا: ليس لي إلا أن آمركم وأحثكم على الخير، وأنهاكم عن الشر، فما من أحد يعبد حق العبادة إلا الله تعالى الواحد القهار الذي قهر كل شيء، كما أنه خالق السماوات والأرض وما بينهما، ومدبرهما بجميع أنواع التدابير، العزيز الذي له القوة التي بها خلق جميع المخلوقات العظيمة، والغفار لجميع الذنوب الصغيرة والكبيرة لمن تاب إليه سبحانه وتعالى 30.
ثامنًا: الغفور.
قال تعالى: (ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ) [فاطر:٢٨].
فلما أخبر الله تعالى عن اختلاف الألوان والأصباغ في ثمار النبات، والجمادات والحيوانات، وكذلك الإنسان؛ لأن هذا الاختلاف من أعظم الأدلة على قدرة الله تعالى وبديع صنعه، أخبر تعالى عن العلماء الذين يعرفون جمال ذلك الاختلاف ودقائقه، فهؤلاء العالمون به يخافون الله عز وجل بالغيب، وبما يليق به من صفاته الجليلة وأفعاله الجميلة والتي منها قدرته العظيمة على صنع ما يشاء ويفعله، فمن كان أعلم بالله تعالى كان أخشاهم له، وسبب هذه الخشية من العلماء لله تعالى هو أن الله عز وجل قوي في انتقامه من الكافرين، وغفور لذنوب المؤمنين به التائبين إليه، وهذا يوجب الخوف والرجاء، فكون الله تعالى عزيزًا ذا انتقام يوجب الخوف التام، وكذلك كونه تعالى غفورًا لما دون ذلك يوجب الرجاء البالغ، وهذا ما يدركه العلماء المتخصصون31.
تاسعًا: القوي.
قال تعالى: (ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ) [الحج:٧٤].
فقد بين الله عز وجل أن المشركين الذين عبدوا الآلهة العاجزة عن فعل شيء، لم يعرفوا الله تعالى حق المعرفة، ولم يعظموه حق التعظيم إذ جعلوا هذه الأصنام والأوثان شركاء له مع هذه الحالة من العجز والضعف، ثم بين الله تعالى أنه القوي على خلق كل شيء، وعزيز غالب لا يغالبه أحد بخلاف آلهة المشركين التي لا تعقل ولا تنفع ولا تضر ولا تقدر على فعل شيء لنفسها حتى تفعله لغيرها، فإنها جماد لا تعقل32.
ثانيًا: العزة من أخلاق المؤمنين:
إن العزة خلق رفيع من أخلاق المؤمنين، فلا يعقل أن يكون المرء مؤمنًا حق الإيمان وفي ذات الوقت غير عزيز، فالعزة والإيمان صنوان لا يفترقان، وذلك أن المرء إذا آمن، وتغلغل الإيمان في قلبه واستقر فإنه في نفس الوقت يتشرب قلبه العزة، فتصدر عنه الأقوال والأفعال وهي متصفة بالفخر والاستعلاء بهذا الدين العظيم الذي أكرمه الله عز وجل به، فيتعامل مع المؤمنين أمثاله بكل تواضع ولين ورحمة، وفي المقابل يتعامل مع الكفار بكل عزة وفخر.
فيقول الله سبحانه وتعالى واصفًا المؤمنين: (ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ) [المائدة:٥٤].
فقد توعد الله تعالى من يرتد عن دينه-وهو لن يضر الله شيئًا - بأنه سوف يأتي بدلًا منهم بأناسٍ من صفاتاهم أن الله جل جلاله يحبهم، وهم يحبونه كذلك، ومن صفاتهم أيضًا أنهم أذلة للمؤمنين من فرط محبتهم لهم، ونصحهم لهم، ولينهم ورقتهم ورأفتهم بهم، وكذلك رحمتهم بهم، ومن صفاتهم أيضًا أنهم أعزة على الكافرين بالله تعالى ورسوله، وقد اجتمعت عزائمهم وهممهم على معاداتهم، وبذلوا كل جهد في كل سبب يحصلون به على الانتصار عليهم33، فهم لا يداهنون الخلق، ولا يستكينون للعدو، ولا يتنازلون عن شيء من دينهم مهما رغبوا أو رهبوا، وفي هذا المعنى قال الشنقيطي: «أخبر تعالى المؤمنين في هذه الآية الكريمة أنهم إن ارتد بعضهم فإن الله يأتي عوضًا عن ذلك المرتد بقومٍ من صفاتهم الذل للمؤمنين، والتواضع لهم، ولين الجانب، والقسوة والشدة على الكافرين، وهذا من كمال صفات المؤمنين»34.
وفي موضع آخر أثنى الله تعالى على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالثناء العطر، كما شهد لرسوله صلى الله عليه وسلم بصدق الرسالة، فقال: (ﭑ ﭒ ﭓﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ) [الفتح:٢٩].
فوصف أصحابه الأبرار بأنهم غلاظٌ على الكفار، متراحمون فيما بينهم35، قال أبو السعود: «يظهرون لمن خالف دينهم الشدة والصلابة، ولمن وافقهم في الدين الرحمة والرأفة»36.
ومن الآيات الدالة على أن العزة من أخلاق المؤمنين أيضًا قوله تعالى: (ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ) [المنافقون:٨].
ففي هذه الآية يبين الله عز وجل أن العزة لله تعالى بقهره لأعدائه، وكذلك لرسوله صلى الله عليه وسلم بإظهاره دينه على الأديان كلها، وكذلك للمؤمنين أيضًا بنصر الله تعالى لهم على أعدائهم، ولكن المنافقين لا يعلمون أن الله تعالى معزٌ أولياءه، ومذلٌ أعداءه، ولو علموا ذلك ما قالوا مقالتهم: (ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ)37، وفي هذا قال الطبري: «فإن الذين اتخذوهم من الكافرين أولياء ابتغاء العزة عندهم، هم الأذلاء الأقلاء، فهلا اتخذوا الأولياء من المؤمنين، فيلتمسوا العزة والمنعة والنصرة من عند الله الذي له العزة والمنعة، الذي يعز من يشاء ويذل من يشاء، فيعزهم ويمنعهم؟»38.
هذا وقد نهى الله سبحانه وتعالى المؤمنين عن الهوان والحزن، ووصفهم بأنهم هم الأعلون، فقال: (ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ) [آل عمران:١٣٩].
ففي هذه الآية أدب قرآني عظيم حيث حث الله تعالى المؤمنين المجاهدين الصابرين على عدم الهوان والاستسلام الذي ينافي العزة ويقابلها، فقد أمرهم بالثبات على عزتهم؛ لتبقى العزة ملازمة لهم، لا تنفك عنهم حتى ولو في أحلك الظروف، كما أمرهم بحسن الظن بالله تعالى، والتوكل عليه والثقة بنصره، قال الرازي: «كأنه قال إذا بحثتم عن أحوال القرون الماضية علمتم أن أهل الباطل وإن اتفقت لهم الصولة، لكن كان مآل الأمر إلى الضعف والفتور، وصارت دولة أهل الحق عالية، وصولة أهل الباطل مندرسة، فلا ينبغي أن تصير صولة الكفار عليكم يوم أحد سببًا لضعف قلبكم ولجبنكم وعجزكم؛ بل يجب أن يقوى قلبكم، فإن الاستعلاء سيحصل لكم والقوة والدولة راجعة إليكم»39.
ومن خلال هذا يظهر أن العزة خلق من أخلاق المؤمنين، وقد عبر الله تعالى عنها في الآية الأخيرة بالجملة الاسمية (ﮯ ﮰ) الدالة على الثبات والاستقرار، وعليه فيجب على المؤمنين الثبات على ما هم عليه من العزة، وعدم التخلي عنها في أي ظرف من الظروف سواء في الحرب أو السلم، في الفرح أو الحزن، في السراء أو الضراء، فالله تعالى يربيهم على معاني العزة، ويغرسها في قلوبهم.
ثالثًا:حسن عاقبة من اعتز بالله ودينه:
يقول الله عز وجل: (ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ) [فاطر:١٠].
وقد وردت أقوال عديدة في معنى الآية، وأولاها بالصواب وأرجحها-كما ذكر الطبري-40 أن من كان يريد العزة ويبحث عنها ويطلبها، فليتعزز بالله عز وجل، فلله تعالى العزة جميعًا دون كل ما دونه من الأوثان والأصنام، وفيها تنبيهٌ لذوي الأقدار والهمم العالية من أين تنال العزة، ومن أي جهة تطلب؟41.
ثم بين الله تعالى أن الكلام الطيب من ذكرٍ لله تعالى، أو أمر بالمعروف ونهي عن المنكر، وتلاوة قرآن، وغير ذلك يصعد إلى الله عز وجل فيقبله، والعمل الصالح يرفع الكلم الطيب؛ وذلك لأن العمل الصالح لا يقبل إلا مع التوحيد والإيمان، بالإضافة إلى أن العمل الصالح يرفع صاحبه الذي أراد العزة من الله تعالى42.
قال القرطبي: «فمن طلب العزة من الله وصدقه في طلبها بافتقارٍ وذلٍ، وسكونٍ وخضوعٍ، وجدها عنده إن شاء الله غير ممنوعةٍ ولا محجوبةٍ عنه، قال صلى الله عليه وسلم: (من تواضع لله رفعه الله)43 ومن اعتز بالله أعزه الله»44.
ولذلك اقتضت حكمة الله تعالى أن من اعتز بالله تعالى، واعتز برسوله صلى الله عليه وسلم، وبدين الإسلام، أعزه الله جل جلاله، ولهذا السبب حصر الله تعالى العزة الحقيقية في كونها لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين.
قال ابن عاشور: «والمعنى: إن كان الأعز يخرج الأذل فإن المؤمنين هم الفريق الأعز، وعزتهم بكون الرسول صلى الله عليه وسلم فيهم وبتأييد الله رسوله صلى الله عليه وسلم وأولياءه؛ لأن عزة الله هي العزة الحق المطلقة، وعزة غيره ناقصةٌ، فلا جرم أن أولياء الله هم الذين لا يقهرون إذا أراد الله نصرهم ووعدهم به. فإن كان إخراجٌ من المدينة فإنما يخرج منها أنتم يا أهل النفاق»45.
ويخلص من هذا إلى أنه إذا كانت العزة لله تعالى وحده، فإنه سبحانه يهبها لعباده المؤمنين، وأوليائه الصادقين، وقد استمدوا هذه العزة من الله جل جلاله، فيعزهم الله تعالى في الدنيا والآخرة، فيغفر لهم ذنوبهم، ويكفر عنهم سيئاتهم، ويرفع قدرهم وشأنهم، ويقبل أعمالهم الصالحة ويثيبهم عليها خير الثواب، وينزلهم الدرجات العلا من الجنة، وفي هذا المعنى قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «إنا كنا أذل قوم فأعزنا الله بالإسلام، فمهما نطلب العزة بغير ما أعزنا الله أذلنا الله»46.
رابعًا: بيان سوء عاقبة من أخذته العزة بغير الحق:
اقتضت حكمة الله جل جلاله أن من طلب العزة في غير جانب الله تعالى أذله الله تعالى؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن حقًّا على الله أن لا يرفع شيئًا من الدنيا إلا وضعه)47.
فمن اعتز بالكفار أذله الله تعالى، وأذاقه الذلة والصغار على أيديهم، وفي هذا المعنى قال الزمخشري: «المذلة والهوان للشيطان وذويه من الكافرين والمنافقين»48.
هذا في الدنيا، أما في الآخرة فسوف يصليه الله تعالى جهنم وساءت مصيرًا.
يقول الله عز وجل: (ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘﮙ ﮚ ﮛﮜ ﮝ ﮞ ﮟ) [البقرة:٢٠٦].
فهذه الآية في ذكر وصف من أوصاف المنافق الذي يظهر خلاف ما يبطن، فإذا نصحه إنسان فقال له: اتق الله، أخذته الحمية الجاهلية، والعزة الشيطانية على ارتكاب الإثم والحرام، فتمادى في غيه وضلاله؛ لأنه ينفر من الصلاح والمصلحين، فبين الله تعالى أن مثل هذا يكفيه عذاب جهنم، فهي مأواه ومهاده، ولبئس المهاد مهاده، بسبب سوء عمله في الدنيا، وسوء خداعه وحاله49.
وتاريخ الأمم السابقة ومصارعها شاهد على أن من يغالب الله جل جلاله يغلب، وأن من اعتز بغير الله تعالى ذل وهان، فقد اعتزت تلك الأمم بقوتها التي منحها الله عز وجل إياها، فبدلًا من أن يشكروا الله تعالى على هذه النعم جحدوا مانحها، واعتزوا بهذه النعم بدلًا من المنعم.
وقد وضح الله عز وجل السبب في اتخاذ المشركين الأصنام والأوثان آلهة يعبدونها من دون الله تعالى، فقال: (ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ) [مريم:٨١-٨٢].
أي: ليكونوا لهم أنصارًا وشفعاء ينقذونهم من عذاب الله تعالى في الآخرة، فزعمهم هذا ما هو إلا كذب وافتراء على الله عز وجل، ثم زجرهم الله تعالى رادعًا إياهم عن ذلك الظن الفاسد بأنه ليس الأمر كما زعموا؛ بل ستكون هذه المعبودات ضدًّا وأعوانًا عليكم في خصومتكم وتكذيبكم فيما زعمتم، ومن ثم التبرؤ منكم50.
ولذلك أنكر الله سبحانه وتعالى عليهم اتخاذهم الأصنام لأجل العزة، فقال: (ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ) [النساء:١٣٩].
ويوم القيامة يأمرهم بقوله عز وجل: (ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛﮜ ﮝﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ) [سبأ:٢٧].
وهكذا تظهر سوء عاقبة من اعتز بغير الله تعالى، وأنها عزة واهية باطلة لا حقيقة لها لا في الدنيا ولا في الآخرة.
إن الحديث عن أنواع العزة ومقوماتها يظهر من خلال التعرف على العزة المحمودة ومقوماتها، وكذلك على العزة المذمومة ودوافعها، وتفصيل ذلك فيما يأتي:
أولًا: العزة المحمودة ومقوماتها:
تظهر أنواع العزة المحمودة في القرآن الكريم من خلال النقاط الآتية:
١. العزة لله عز وجل جميعًا.
ذكرنا سابقًا أن من معاني العزة القلة والندرة، فمقومات العزة لله جل جلاله قد تفرد بها دون غيره، وليست لأحد سواه، ومن الأمثلة على هذه المقومات التي ذكرها الله تعالى في كتابه العزيز:
فالله عز وجل هو الخالق لكل شيء في هذا الكون، وهذه المخلوقات كلها التي تتجلى فيها قدرته عز وجل وعظمته قد أوجدها من عدم.
يقول الله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟﭠ ﭡ ﭢﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ) [الأنعام:٩٥-٩٦].
فقد ذكر في هاتين الآيتين مجموعة من المخلوقات الدالة على وحدانيته تعالى وقدرته، وعلى علمه وحكمته، فهو فالقٌ لما يزرعونه من حب الحصيد ونوى الثمر، وشقه بقدرته بربط الأسباب بمسبباتها كجعل الحب والنوى في التراب، وإرواء التراب بالماء، كما أنه يخرج الحي من الميت كالزرع يخرجه من التراب أو البذور، ويخرج الحيوان من البيضة أو النطفة، وهو أيضًا مخرج الميت من الحي إذ يخرج اليابس من النبات الحي النامي، كما أنه فلق ظلمة الليل وشقها بنور الصباح، وجعل الليل سكنًا يستراح فيه من التعب بالنهار، كما خلق الشمس والقمر يجريان بحساب وعدد لبلوغ أمرهما ونهاية آجالهما، وفيهما مصالح ومنافع للناس حيث يحتاجون إلى معرفة حساب الأوقات لعباداتهم ومعاملاتهم وتواريخهم، فذلك كله من تقدير العزيز المتفرد بالخلق، الغالب على أمره في تنظيم ملكه، والعليم بما اقتضاه، واسعٌ علمه51.
ومثله قوله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ) [إبراهيم:١٩-٢٠].
والآيات على ذلك كثيرة.
فقد أنكر المشركون أمر البعث، فبين الله تعالى في كثير من الآيات أنه قادر على ذلك.
ومنها قوله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ) [البقرة:٢٦٠].
فقد طلب إبراهيم عليه السلام من الله تعالى رؤية كيفية إحياء الموتى، وهو لم يشك قط في قدرة الله تعالى على ذلك، ولكن لأن النفس البشرية جبلت على رؤية ما أخبرت به بالعين المجردة؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس الخبر كالمعاينة)52.
فأمره تعالى أن يأخذ أربعة من الطير فيذبحهن ويجزئهن، ويضع على كل جبل منهم جزءًا، ثم يدعهن بأسمائهن فتأتيه هذه الطيور مسرعة، ففعل إبراهيم عليه السلام ذلك، وشاهد بأم عينيه قدرة الخالق العزيز الحكيم53.
وقد ذكر الله تعالى في أكثر من موضع أن الإحياء بعد الإماتة أهون عليه من الخلق، فقال: (ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ) [الروم:٢٧].
فإذا كان المشركون يعترفون بأن الله عز وجل هو الخالق كما أخبر عنهم بقوله: (ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ) [الزخرف:٩].
فلماذا ينكرون البعث؟!
وهذا أمر قد تفرد الله تعالى به كما تفرد بالخلق والإحياء بعد الإماتة، فقال: (ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ) [آل عمران:٦].
فقد أخبر الله تعالى عن تصويره للبشر في أرحام أمهاتهم على الكيفية التي يشاؤها جل جلاله من حسن وقبح، وسواد وبياض، وطول وقصر، وسلامة وعاهة إلى غير ذلك من السعادة والشقاء، وهذا دليل على وحدانيته عز وجل، ولا يقدر على ذلك إلا العزيز الذي لا يغالب، والحكيم بخلقه وشؤونهم54.
وهذا واردٌ في قوله تعالى: (ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ) [آل عمران:١٢٦].
والمعنى: أن نصر المؤمنين لا يكون إلا من عند الله عز وجل على خلاف ما كان يعتقد المشركون من أن الآلهة هي التي تمدهم بالنصر في حروبهم ومعاركهم، وهذا واضحٌ من التركيب القرآني حيث استخدم «ما» النافية مع حرف الاستثناء «إلا»، وهو أسلوب حصر وقصر؛ لذلك ناسب أن يذكر اسمه «العزيز» لتفرده سبحانه بأمر النصر فهو العزيز الغالب القاهر.
وهذا ما أخبر الله تعالى به في قوله: (ﭟ ﭠ ﭡﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ) [الأنفال:٦٣].
فالله تعالى له جميع صفات الكمال، فألف بين قلوب المؤمنين من الأوس والخزرج، وعلل سبحانه فعله ذلك؛ لأنه عزيز حكيم، فلولا عزته التي غلبت كل شيء، وحكمته التي أتقن بها كل ما يريد بحيث لا يستطيع أحد أن يغير مما أراد الله تعالى شيئًا لما تآلف المؤمنون فيما بينهم بعدما كانت تثور الإحن والفتن بينهم، فتغلي لها الصدور حتى يقتتلوا55.
يقول الله عز وجل: (ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ) [إبراهيم:٤].
أي: إن من لطف الله تعالى أن أرسل الرسل بلسان الأقوام الذين بعثوا إليهم؛ ليتمكنوا من فهم ما يدعونهم إليه، وحينئذٍ يقيم عليهم الحجة، فيضل الله تعالى من لم يرد الهداية، ويهدي من يشاء ممن اختصه برحمته فيهديه؛ وذلك لأنه هو العزيز الذي من عزته أن انفرد بأمر الهداية والضلال، ومن حكمته أنه لا يضع هدايته ولا إضلاله إلا في المحل اللائق به56.
يقول الله عز وجل: (ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ) [النمل:٧٨].
أي: إن الله تعالى سوف يقضي بين بني إسرائيل وغيرهم بالحق الذي يحكم به أو بحكمته العلية، فهو العزيز الذي لا يرد حكمه وقضاؤه، ومن عزته تفرده بالقضاء، كما أنه عليمٌ بجميع الأشياء التي من جملتها ما يقضي به57.
فيقول الله عز وجل: (ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ) [فاطر:٢].
فكل ما يفتحه الله تعالى للناس من خزائن رحمته لن يستطيع أحد منعه، وكذلك ما منعه الله تعالى من نعمه عن أحد، فلا يستطيع أحد إرساله إليه، فهو سبحانه المعطي المانع، لا معطي سواه، ولا منعم غيره58، فهو العزيز الذي من عزته يعطي من يشاء، ويمنع من يشاء، وليس لأحد فعل ذلك.
ويقول أيضًا: (ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ) [الشورى:١٩].
فالله تعالى كثير اللطف بهم، وبالغ الرأفة لهم، ويرزق من يشاء من أنواع الرزق، وإن كان يرزق كل نفس، لكنه فاوت بين المرزوقين في الرزق في القلة والكثرة لحكمة لا يعلمها إلا هو عز وجل 59.
فالله سبحانه هو القوي العظيم القوة، والباهر القدرة، والعزيز الذي من عزته انفرد بأمر الرزق والعطاء، ومن أجمع الآيات على مقومات عزة الله جل جلاله، قوله تعالى: (ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ) [السجدة:٤-٩].
٢. العزة لكتاب الله.
لقد وصف الله عز وجل نفسه بأنه عزيز، وعليه فإن كل ما يصدر عنه جل جلاله يستمد العزة من عزته تعالى، فالقرآن الكريم هو كلام الله تعالى، ولذلك فهو يتصف بالعزة أيضًا.
يقول الله عز وجل: (ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ) [الزمر:١].
فهذا الكتاب العظيم هو منزل من الله تعالى العزيز في ملكه والحكيم في أمره60.
وفي وصف القرآن ذاته يقول الله جل جلاله: (ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ) [فصلت:٤١-٤٢].
فإن الكافرين جحدوا وكفروا بالقرآن الكريم، فبين الله تعالى أن هذا القرآن هو كتاب عزيز، قال الطبري: «وإن هذا الذكر لكتاب عزيز بإعزاز الله إياه، وحفظه من كل من أراد له تبديلًا أو تحريفًا، أو تغييرًا من إنسي أو جني وشيطان ومارد»61.
كما وصفه الله عز وجل بأن من هو على الباطل لا يستطيع أن يغير شيئًا من القرآن بكيده، أو أن يبدل شيئًا من معانيه، ولا أن يلحق فيه مما ليس منه، فهو تنزيلٌ من عند ذي حكمة بتدبير عباده، ومن عند حميد محمود على نعمه عليهم بأياديه عندهم62.
٣. العزة لرسوله صلى الله عليه وسلم.
بما أن الله جل جلاله قد وصف نفسه بأنه عزيز، فإن كل ما يصدر عنه من أفعال فهو يتصف بالعزة أيضًا، ومن جملة أفعاله عز وجل أنه بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم رحمةً للعالمين، وعليه فإن نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم يتصف بالعزة، يقول الله تعالى: (ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ) [المنافقون:٨].
وعزة الرسول صلى الله عليه وسلم متمثلةٌ في إظهار دينه على سائر الأديان الموجودة على الأرض63.
٤. العزة للمؤمنين.
إن الله تعالى لما ذكر العزة الحقيقية حصرها فيه جل جلاله، وفي رسوله صلى الله عليه وسلم، وفي المؤمنين، فقال تعالى: (ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ) [المنافقون:٨].
وعزة المؤمنين تتمثل في نصر الله تعالى إياهم على أعدائهم64، حيث يقول الله عز وجل: (ﭺ ﭻ ﭼ ﭽﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ) [الحج:٤٠].
أي: إن الله سبحانه وتعالى ينصر من ينصر دينه، ويدافع عن أوليائه، فالله تعالى لا يحتاج إلى نصرة أحد؛ بل كل الخلق مفتقرٌ إلى نصرته سبحانه65.
فهذه العزة المحمودة للمؤمنين تكون في اتباعهم لشرع الله تعالى، وتنفيذه في أمور حياتهم، والسير على منهج أهل السنة والجماعة، ونبذ كل ما يعكر صفو الإيمان من الأمور البدعية والفلسفية والكلامية التي لا جدوى من ورائها، فالإيمان الذي به عزة المسلمين هو الإيمان الذي يولد عملًا صالحًا من صلاة خاشعة أو صيام، وأداء للزكاة، وبعدًا عن كل ما حرم الله تعالى من الربا والزنا والغش والغيبة والنميمة وغير ذلك من المنكرات، فهذا هو الإيمان الحقيقي.
وهذا الإيمان هو الذي تكون به العزة والرفعة والكرامة والمكانة للمسلمين جميعًا، وبالإضافة إلى ذلك فهو إيمانٌ قائمٌ على إخلاص العبادة لله عز وجل الذي بيده ملكوت كل شيء، وبيده الأمر كله، فحياتنا وأرزاقنا وآجالنا كلها بيد الله عز وجل، فإذا كان الأمر كذلك فكيف يتوجه العبد بالتوكل أو الخوف أو الرجاء أو المحبة لغير الله عز وجل، والإنسان المؤمن العزيز هو الذي يجد للإيمان طعمًا وحلاوةً في أمور حياته كلها، وهذا ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: (ثلاثٌ من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار)66.
ثانيًا: العزة المذمومة ودوافعها:
كما تكون العزة محمودة كذلك قد تكون مذمومة، ومن أهم أنواع هذه العزة المذمومة والبواعث عليها أو دوافعها كما يأتي:
١. عزة الكافر دوافعها الكبر والعناد.
يقول الله عز وجل: (ﭑﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ) [ص:١-٢].
فالله تعالى حين أنزل هذا القرآن العظيم على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، أنزله ذكرًا لمن يتذكر، وعبرة لمن يعتبر، فانتفع به المؤمنون، ولم ينتفع به الكافرون، والسبب في ذلك أنهم في عزة وحمية واستكبار عن قبول الحق والإيمان به، فهم دائمًا يخالفون الحق ويعاندونه67 مع اعتقادهم في قرارة أنفسهم أن القرآن حق، وأن النبي محمدًا صلى الله عليه وسلم حق قد بعثه الله تعالى إليهم؛ ليخرجهم من الظلمات إلى النور، ولكن ما يمنعهم من الإيمان به إلا عزتهم وحميتهم الباطلة، وجحودهم وظلمهم لأنفسهم.
ولذلك يقول الله عز وجل: (ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ) [الأنعام:٣٣].
هذا وقد بين الله تعالى أن هؤلاء الكفار يعتزون بالأصنام والأوثان التي يعبدونها من دونه سبحانه حيث قال: (ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ) [مريم:٨١].
ولا شك أنها عزة مذمومة.
٢. عزة المنافق، دوافعها الاغترار بالمواقف والمصالح.
إن المنافق هو شخص أخطر من الكافر على الإسلام والمسلمين، وذلك لأنه يظهر الإسلام والموالاة لأهله، في حين يبطن الكفر والعداء لهم، ويوالي الكفار، فخطره أشد وأعظم من الكافر نفسه، وكان هؤلاء المنافقون يبحثون عن مصالحهم، فيلهثون وراءهم سواءً كانت عند المسلمين أم عند الكافرين، وكانوا دائمًا يتحينون الفرص، وينتهزون المواقف ليثيروا الفتن.
ومنها ما أخبرنا به الله عز وجل في كتابه العزيز إذ قال: (ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ) [المنافقون:٨].
وللوقوف على المعنى المراد من هذه الآية، لا بد من التعرف على سبب نزولها، فقد روى ابن هشام أن غلامًا لعمر بن الخطاب اسمه جهجاه بن سعيد الغفاري تنازع مع سنان بن وبر الجهني، وهما مع جمع عند ماء المريسيع أثناء مقام النبي صلى الله عليه وسلم هناك، وكادا يقتتلا، فصرخ الجهني: يا معشر الأنصار، وصرخ جهجاه: يا معشر المهاجرين، فسمع بالأمر عبد الله بن أبي بن سلول، فغضب وقال للرهط ممن معه: أو فعلوها؟! قد نافرونا وكاثرونا في دارنا والله ما أعدنا وجلابيب قريش -يقصد المسلمين من قريش- إلا كما قالوا: سمن كلبك يأكلك، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل.
وكان ممن سمع كلامه زيد بن أرقم، فمشى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره الأمر، وكان عنده عمر رضي الله عنه، فقال: يا رسول الله مر به عباد بن بشر فليقتله، فقال له صلى الله عليه وسلم: (فكيف يا عمر إذا تحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه؟ لا. ولكن أَذِّنْ بالرحيل، وذلك في ساعة لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يرتحل فيها، فارتحل الناس.
ومشى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس يومهم ذلك حتى أمسى، وليلتهم حتى أصبح، وهكذا إلى أن آذنتهم الشمس، ثم نزل بالناس فلم يلبثوا أن وجدوا مس الأرض فوقعوا نيامًا. وإنما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك؛ ليشغل الناس عن الحديث الذي كان بالأمس من حديث عبد الله بن أبي، ونزلت سورة المنافقين تصديقًا لقول زيد بن أرقم68.
فكما ظهر من هذه الحادثة أن عبد الله بن أبي بن سلول قد أخذته العزة بالإثم، وانتهز هذا الحدث وهذا الموقف لأجل تحقيق مصلحة له ولأعوانه، وهي إثارة الفتنة بين المهاجرين والأنصار مما قد يؤدي إلى خطر أعظم لولا حكمة تصرف النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد قال الله عز وجل: (ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘﮙ ﮚ ﮛﮜ ﮝ ﮞ ﮟ) [البقرة:٢٠٦].
أي: إذا قيل للمنافق: اتق الله تعالى، وخفه ولا تفسد في الأرض، ولا تسع فيها بما حرم الله تعالى عليك من معاصٍ، ولا تهلك حرث المسلمين ونسلهم، فإذا نصح بذلك استكبر ودخلته عزة وحمية بما حرم الله تعالى عليه، وتمادى في غيه وضلاله، فتوعده الله تعالى بأنه سوف يصليه نار جهنم، وبئس المهاد لصاليها69.
٣. عزة القبيلة والرهط، دوافعها العجب بالنفر والحسب.
ويظهر هذا النوع من العزة المذمومة في قوله تعالى: (ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾﭿ ﮀ ﮁ ﮂﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ) [هود:٩١-٩٢].
فلما بعث الله تعالى شعيبًا عليه السلام إلى قومه، ودعاهم إلى التوحيد، وأمرهم بالمعروف ونهاهم عما كانوا يفعلون من منكرات أهمها: التطفيف في الميزان، ولكنهم لم يستجيبوا، فحذرهم وخوفهم بما أصاب الأقوام السابقة حين عصت أمر ربها جل جلاله، فكانت هذه الآية هي رد القوم على نبيهم شعيب عليه السلام، ومعناها أن القوم قالوا: لا نفهم يا شعيب صحة ما تقول -وقد كان عليه السلام خطيب الأنبياء-، ولا قوة لك ولا عز لك بيننا، وإنك لا تقدر على الامتناع منا إن أردنا أن نلحق بك مكروهًا، ولولا عشيرتك ورهطك لقتلناك رجمًا، وحينئذٍ أنت لا تعز علينا حتى نكرمك من القتل، ونرفع عنك الرجم، وإنما يعز علينا رهطك؛ لأنهم من أهل ديننا وملتنا، فرهطك هم الأعزة علينا70.
ولذلك أنكر شعيب عليه السلام عليهم هذه العزة المذمومة التي كان دافعها العجب بالنسب والكثرة والنفر، وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أربعٌ في أمتي من أمر الجاهلية، لا يتركونهن: الفخر في الأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة)71.
قال صاحب الظلال: «الجماعة من البشر مهما يكونوا من القوة والمنعة فهم ناس، وهم ضعاف، وهم عباد من عباد الله أهؤلاء أعز عليكم من الله؟ أهؤلاء أشد قوة ورهبة في نفوسكم من الله؟ (ﮐ ﮑ ﮒ) وهي صورة حسية للترك والإعراض، تزيد في شناعة فعلتهم، وهم يتركون الله ويعرضون عنه، وهم من خلقه، وهو رازقهم وممتعهم بالخير الذي هم فيه. فهو البطر وجحود النعمة وقلة الحياء إلى جانب الكفر والتكذيب وسوء التقدير»72.
٤. عزة الغنى وزينة الحياة الدنيا، دوافعها الركون إلى الملذات.
يتمثل هذا النوع من العزة المذمومة في قصة أصحاب الجنتين، حيث قال سبحانه وتعالى: (ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ) [الكهف:٣٢-٣٦].
فهذا مثلٌ ضربه الله تعالى لتوضيح حال المؤمن والكافر ومآل أمرهما، وهما أخوان من بني إسرائيل مات أبوهما وورثا عنه أموالًا طائلة فاقتسماها، فصرف المؤمن ماله في سبيل الله تعالى، وأنفق منها على الفقراء واليتامى والمساكين، في حين اشترى الكافر مزارع وبساتين، وكثر ماله إلى أن حان وقت الابتلاء، فكان له جنتان مملوءتان بجميع الخيرات، ولم ينقص من ثمرهما شيء، هذا بالإضافة إلى ما كان عنده من النقود والجواهر والعبيد وغير ذلك من أنواع النعيم، فقال الأخ الكافر على سبيل البطر والمباهاة لأخيه المؤمن: أنا أكثر منك مالًا؛ لأنه بالمال تنال جميع اللذات والشهوات، كما أنني أعز نفرًا وأبناء عشيرة وخدمًا.
قال ابن كثير: «أي: أكثر خدمًا وحشمًا وولدًا، قال قتادة: تلك-والله-أمنية الفاجر: كثرة المال وعزة النفر»73.
ومن شدة بطره وخيلائه دخل جنته وهو ظالمٌ لنفسه؛ لأنه لم يعترف بهذه النعمة أنها من عند الله سبحانه وتعالى، كما كان لديه طول أملٍ وحرصٍ وغرورٍ شديدين، هذا بالإضافة إلى غفلته فقال معتمدًا على هذه الثروة والجاه وكثرة الأعوان: ما أشك أن تهلك هذه الجنة وتعدم؛ بل هي ستظل هكذا من النضارة على الأبد، كما أنني ما أظن أن الساعة الموعودة التي أخبر بها جميع الأنبياء والرسل أنها آتية حتى تنعدم هذه الجنة بانعدام العالم، وعلى فرض قيام الساعة وانتهاء الدنيا فإنني سأجد جنة أفضل من هذه في الآخرة، ثم ذكره أخوه المؤمن بالله عز وجل، وكيف خلقه وأنعم عليه، فمن الواجب أن يشكره على هذه النعم، وفي لحظة وجد الكافر جنته خاوية ساقطة على عروشها، وحين أفاق من سكر غروره وغفلته، تنبه إلى هذه الصدمة وقال متحسرًا: (ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ) [الكهف:٤٢].
ومثله أيضًا عزة قارون بماله، حيث قال الله عز وجل فيه: (ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ) [القصص:٧٦].
فقارون كان على شاكلة قوم موسى في الكفر والطغيان، فبغى عليهم بالكبر لما غلب عليه من الحرص على الدنيا، وذلك لما اتصف به من الغرور والتعزز برؤية زينة نفسه، وقد أعطاه الله تعالى من الأموال المدخرة ما يثقل على الجماعة الكثيرة من الرجال أصحاب القوة حمل مفاتيح صناديقها، فقام قومه بتوجيه النصح له بعدم الفرح بزخارف الدنيا، حيث إن هذا الفرح يشغله عن القيام بحق الله تعالى في هذه الأموال، فالله تعالى لا يحب الفرحين؛ لأن في حب المال إلى هذه الدرجة إيثار لها على الآخرة، وهذا أصل كل شر، ومنبع كل فساد74.
قال سيد قطب: «وفي هذا القول جماع ما في المنهج الإلهي القويم من قيم وخصائص تفرده بين سائر مناهج الحياة. «لا تفرح» فرح الزهو المنبعث من الاعتزاز بالمال، والاحتفال بالثراء، والتعلق بالكنوز، والابتهاج بالملك والاستحواذ، لا تفرح فرح البطر الذي ينسي المنعم بالمال وينسي نعمته، وما يجب لها من الحمد والشكران، لا تفرح فرح الذي يستخفه المال، فيشغل به قلبه، ويطير له لبه، ويتطاول به على العباد، «إن الله لا يحب الفرحين» فهم يردونه بذلك إلى الله، الذي لا يحب الفرحين المأخوذين بالمال، المتباهين المتطاولين بسلطانه على الناس»75.
ومثله أيضًا قوله تعالى في حق سحرة فرعون إذ قال: (ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ) [الشعراء:٤٤].
فاستعان هؤلاء السحرة بعزة عبد عاجز ضعيف، ولكنه تجبر فأصبح في صورة ملك له جنود، كما أنه استخف قومه وأطاعوه، فغرتهم هذه الزينة وهذه الأبهة، ولم يعلموا حقيقة الأمر التي لم تصل بصائرهم إليها76. قال الشعراوي «رحمه الله» في تفسيره للآية: «هذا قسمهم، وما أخيبه من قسم؛ لأن فرعون لا يغلب ولا يقهر في نظرهم، والعزة تعني عدم القهر وعدم الغلبة، لكن عزة فرعون عزة كاذبة وأنفة وكبرياء بلا رصيد من حق، وعزة بالإثم كالتي قال الله عنها: (ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ) [البقرة:٢٠٦]»77.
فكثرة الغنى والمال والجاه والركون إلى ألوان الملذات والشهوات مع عدم القيام بحق الله عز وجل في هذه النعم من الحمد والشكر عليها سببٌ لهلاك العبد، فهذه عزة مذمومة.
ويخلص من هذا إلى أن أنواع العزة المذمومة-كما جاءت في القرآن الكريم-هي أربع: عزة الكافر عنادًا واستكبارًا عن قبول الحق، وعزة المنافق اغترارًا بالمواقف، وعزة الرهط والعشيرة والقبيلة افتخارًا بالنسب والنفر، وعزة الغنى وزينة الحياة الدنيا ركونًا إلى الملذات والشهوات، فعلى المسلم تجنب هذه البواعث والدوافع على العزة المذمومة حتى لا يقع فيها من حيث لا يشعر.
قدمت النصوص القرآنية مجموعة من الآيات التي تحمل علاجًا لمن يتصفون بهذا الخلق المذموم، وهي متمثلة فيما يأتي:
أولًا: تقوية الإيمان بالله والتوكل عليه:
ذكرنا من أنواع العزة المذمومة عزة المنافق، والتي كان من أهم دوافعها تصيد الفرص واقتناصها لجعلها في غير صالح المؤمنين، فها هو الله عز وجل يقول عنهم: (ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ) [الأنفال:٤٩].
فهؤلاء المنافقون يحتقرون المؤمنين ويستخفون بعقولهم عندما أقدموا على قتال المشركين في بدر، وكان عددهم يفوق عدد المشركين بثلاثة أضعاف تقريبًا، فقال المنافقون مستهزئين بالمؤمنين: إن هذا الدين الذي اعتنقه المؤمنون هو الذي أدى بهم إلى هذه الموارد التي سوف يكون فيها هلاكهم، ولم يعلموا أن إيمانهم بهذا الدين العظيم هو الذي يوجب عليهم الإقدام لنصرة دين الله عز وجل.
قال السعدي رحمه الله: «فإن الإيمان يوجب لصاحبه الإقدام على الأمور الهائلة التي لا يقدم عليها الجيوش العظام، فإن المؤمن المتوكل على الله، الذي يعلم أنه ما من حول ولا قوة ولا استطاعة لأحد إلا بالله تعالى، وأن الخلق لو اجتمعوا كلهم على نفع شخص بمثقال ذرة لم ينفعوه، ولو اجتمعوا على أن يضروه لم يضروه إلا بشيء قد كتبه الله عليه، وعلم أنه على الحق، وأن الله تعالى حكيم رحيم في كل ما قدره وقضاه، فإنه لا يبالي بما أقدم عليه من قوة وكثرة، وكان واثقًا بربه، مطمئن القلب لا فزعًا ولا جبانًا، ولهذا قال:(ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ) لا يغالب قوته قوة، (ﮭ)فيما قضاه وأجراه»78.
وبهذا تكون تقوية الإيمان بالله سبحانه وتعالى والتوكل عليه من أهم نقاط علاج العزة المذمومة لأصحاب النفوس الضعيفة، فإذا قوي إيمانهم وتوكلوا على الله تعالى حق التوكل، أمدهم الله تعالى بالعزة والغلبة، ولذلك إذا كان الله تعالى قد أمر نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم بالتوكل عليه حين قال: (ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ) [الشعراء:٢١٧].
فمن باب أولى أن يتوكل عليه المؤمنون.
ثانيًا: بيان حقيقة الدنيا وزينتها وسرعة زوالها:
يقول الله عز وجل: (ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ) [الأنفال:٦٧].
فهذه الآية فيها عتابٌ للنبي صلى الله عليه وسلم لما كان منه من فداء الأسرى يوم بدر، فاستشار أصحابه فيهم، فأشار أبو بكر رضي الله عنه عليه بفدائهم مقابل إطلاق سراحهم؛ لأن المهاجرين كانوا في ذلك الوقت فقراء، وكانوا حديثي عهد بترك ديارهم وأموالهم في مكة حين هاجروا إلى المدينة المنورة، ولعل الله تعالى يهديهم بعد فكاك أسرهم فيؤمنوا، في حين أشار عمر بن الخطاب رضي الله عنه بقتل الأسرى جميعهم؛ لأنهم كانوا أئمة الكفر وصناديدهم، فيعلم المشركون حينئذٍ أن بأس المؤمنين شديد، وتظهر به قوة الإسلام والمسلمين، لكن النبي صلى الله عليه وسلم للينه ورقة قلبه ورحمته أخذ برأي أبي بكر79، فنزلت هذه الآية تعاتب النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، وتعرفه أن قتل المشركين كان أولى بالصواب من أخذ الفدية منهم وإطلاقهم، فكان يجب على النبي صلى الله عليه وسلم المبالغة في قتل هؤلاء المشركين، وقهرهم غلبةً وقسرًا.
ثم وجه الله عز وجل الخطاب إلى المؤمنين من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أيها المؤمنون إنكم تريدون عرض الدنيا من مال ومتاع حين أسرتم المشركين، ولكن الله تعالى يريد لكم زينة الآخرة، وما أعده سبحانه للمؤمنين وأهل ولايته في جنان النعيم بقتلكم هؤلاء المشركين وإثخانكم في الأرض، فافعلوا ما يريده الله تعالى منكم، وليس ما تدعوكم إليه أهواؤكم، من الرغبة في الدنيا، فإنه جل جلاله عزيز حكيم، عزيز إن فعلتم ما يريده منكم، فإنه لن يجعل عدوكم يغلبكم؛ بل ستكون الغلبة لكم؛ لأن الله تعالى عزيز لا يقهر ولا يغلب، كما أنه حكيم في تدبيره أمر خلقه80.
فما أخذه المسلمون من مال مقابل إبقاء أسرى المشركين على قيد الحياة هو عرض قليل بالنسبة إلى المصلحة المقتضية لإبادتهم والقضاء عليهم.
قال السعدي رحمه الله: «يقول تعالى: (ﯧ) بأخذكم الفداء وإبقائهم (ﯨ ﯩ) أي: لا لمصلحة تعود إلى دينكم، (ﯪ ﯫ ﯬ) بإعزاز دينه، ونصر أوليائه، وجعل كلمتهم عالية فوق غيرهم، فيأمركم بما يوصل إلى ذلك، (ﯮ ﯯ ﯰ) أي: كامل العزة، ولو شاء أن ينتصر من الكفار من دون قتال لفعل، لكنه حكيم، يبتلي بعضكم ببعض»81.
وبهذا تكون معرفة حقيقة الدنيا سببًا في علاج أصحاب النفوس المريضة الذين يلهثون وراء التمتع بزينتها.
ثالثًا: بيان ضعف الولاء لغير الله وانقطاعه:
يقول الله عز وجل في الذين تركوا الولاء لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين، وطلبوه عند المشركين، فاتخذوهم أولياء يتعززون بهم ويستنصرونهم: (ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ) [النساء:١٣٨-١٣٩].
فالله تعالى يبشر هؤلاء المنافقين-على سبيل التهكم-وهم الذين أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر، فيبشرهم بأقبح بشارة، وهي العذاب الأليم الموجع، وذلك بسبب اتخاذهم الكافرين أولياء عن طريق محبتهم ومعاونتهم ونصرتهم، في حين تركوا ولاية المؤمنين، فما الذي دفعهم إلى ذلك؟ هل يبتغون العزة ويطلبونها عندهم؟ فإن العزة الحقيقية لله جل جلاله، وفي موالاته تعالى وموالاة المؤمنين.
قال السعدي رحمه الله: «وهذا هو الواقع من أحوال المنافقين، ساء ظنهم بالله وضعف يقينهم بنصر الله لعباده المؤمنين، ولحظوا بعض الأسباب التي عند الكافرين، وقصر نظرهم عما وراء ذلك، فاتخذوا الكافرين أولياء يتعززون بهم ويستنصرون، والحال أن العزة لله جميعًا، فإن نواصي العباد بيده، ومشيئته نافذة فيهم، وقد تكفل بنصر دينه وعباده المؤمنين، ولو تخلل ذلك بعض الامتحان لعباده المؤمنين، وإدالة العدو عليهم إدالة غير مستمرة، فإن العاقبة والاستقرار للمؤمنين، وفي هذه الآية الترهيب العظيم من موالاة الكافرين، وترك موالاة المؤمنين، وأن ذلك من صفات المنافقين، وأن الإيمان يقتضي محبة المؤمنين وموالاتهم، وبغض الكافرين وعداوتهم»82.
فإذا علم هؤلاء أن ولاءهم لغير الله تعالى هو باطل وضعيف ومنقطع، ولا يجدي من ورائه نفعًا يوصلهم إلى الآخرة، وإلى مرضات الله سبحانه وتعالى، حينئذٍ يكون هذا علاجًا للعزة المزعومة المذمومة التي يلهث أصحابها وراءها، فهي عزة واهية باطلة، فالعزة الحقيقية المحمودة هي التي تكون في رضا الله جل جلاله.
ويخلص من هذا إلى أن القرآن الكريم وضع بعض الحلول أو العلاج لهذه العزة المذمومة، فإذا قوى المرء إيمانه بالله تعالى، وتوكل عليه حق توكله، وإذا لم يلهث وراء ملذات الدنيا وشهواتها ليحصل منها على عرض زائل، وأن هذه الحياة الدنيا كلها فانية وسريعة الزوال، ولا تساوي عند الله تعالى جناح بعوضة، وإذا علم حقيقة الولاء، وأنه لا يكون إلا لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين، حينئذٍ يتخلص هذا المرء من هذا الخلق المذموم، ويتحول عنده إلى خلق محمود.
لاشك أن للعزة المحمودة آثارًا في الدنيا وفي الآخرة، وللعزة المذمومة عواقب وخيمة في الدنيا وفي الآخرة، سنتعرف على أهم الآثار وأهم العواقب لكلا النوعين في النقاط الآتية:
أولًا: آثار العزة المحمودة في الدنيا:
إن العزة المحمودة تظهر آثارها في الدنيا، وذلك من خلال النقاط الآتية:
١. علو الهمة والثبات على الحق.
يقول الله عز وجل: (ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ) [النمل:٧٨-٧٩].
فالله تعالى سوف يقضي بين المختلفين من بني إسرائيل بحكمه فيهم، فينتقم من المبطل منهم، كما سيجزي المحسن منهم بالثواب الحسن، فهو العزيز في انتقامه من المبطلين، لا يقدر أحد على منعه تعالى من الانتقام منهم ومن غيرهم الضالين عن طريق الهدى.
ثم يأمر الله عز وجل نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم بتفويض جميع أموره إليه، فإنه سبحانه وتعالى كافيه؛ لأنه على الحق المبين الواضح لمن تأمله وتدبره، فهذا من باب التسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، وكأنه تعالى يقول له: لا يحزنك تكذيب المكذبين لك، وخلافهم لما تأمرهم به، ولكن امض لأمر ربك الذي بعثك فيه83.
فنبذ المؤمن لما يلاقيه من المكذبين والمشركين فيه إعلاءٌ للهمة، وثبات على الحق، وعدم الركون إلى ما يلاقيه منهم، فإذا لم يكن الأمر كذلك فستأتي نتيجة ذلك بالفشل، فيجب على المؤمن المضي في طريق الحق والثبات عليه، حتى يمده الله تعالى بالنصر المؤزر.
٢. الصبر على الشدائد.
إن إبراهيم عليه السلام لما دعا قومه إلى توحيد الله عز وجل، وإفراده بالعبادة دون ما كانوا يعبدونه من الأصنام والأوثان، فقابلوا هذه الدعوة بالسخرية والاستهزاء؛ بل هموا بقتله وحرقه، فلما ألقوه في النار نجاه الله تعالى منها، وما زال قومه مستمرين في عنادهم وغيهم وضلالهم، ولم يؤمن معه إلا لوط عليه السلام.
فقال تعالى: (ﮄ ﮅ ﮆ ﮇﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ) [العنكبوت:٢٦].
ثم قرر إبراهيم عليه السلام ترك هذه الأرض السوء التي عليها قومه، وأن يهاجر إلى الأرض المباركة في الشام، وعلل هجرته بقوله: (ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ)، أي إنه سبحانه وتعالى العزيز القادر على هدايتهم، والحكيم بتدبير شؤون خلقه.
وعليه فإن العزة التي كان يتمتع بها إبراهيم عليه السلام جعلته يثبت على الحق الذي آتاه الله تعالى إياه، فلم يجزع لما لاقاه من قومه في طريق دعوتهم إلى الحق؛ بل صبر وتحمل في سبيل الله تعالى الكثير والكثير، ومع ذلك لم يذكر الله تعالى لنا أنه دعا على قومه، ولم يذكر أيضًا أنه تعالى أهلك قومه بعذاب مستأصل كبقية الأقوام السابقة التي أهلكها الله تعالى بالاستئصال، ولكنه تعالى ذكر اعتزال إبراهيم عليه السلام لقومه، وهجرته من بين أظهرهم ثابتًا على الحق، صابرًا لما لاقاه من أذى قومه له، ولما سيلاقيه من شدائد بعد ذلك.
٣. التمسك بهدايات القرآن الكريم والسنة النبوية.
إن الله تعالى ذكر حال المهتدين الموفقين من عباده، وهم أهل العلم، فقال عز وجل فيهم: (ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ) [سبأ:٦].
فإنهم يرون فيما أنزل الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم من القرآن الكريم، وما اشتمل عليه من الأخبار أنه الحق، وما سواه مما خالفه أو ناقضه فهو باطل، كما أنهم يرون في أوامره ونواهيه أنه يهدي إلى صراط العزيز الحميد، قال السعدي: «وذلك أنهم جزموا بصدق ما أخبر به من وجوه كثيرة ويرون في الأوامر والنواهي، أنها تهدي إلى الصراط المستقيم، المتضمن للأمر بكل صفة تزكي النفس، وتنمي الأجر، وتفيد العامل وغيره، كالصدق والإخلاص وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والإحسان إلى عموم الخلق، ونحو ذلك. وتنهى عن كل صفة قبيحة، تدنس النفس، وتحبط الأجر، وتوجب الإثم والوزر، من الشرك، والزنا، والربا، والظلم في الدماء والأموال، والأعراض.
وهذه منقبة لأهل العلم وفضيلة، وعلامة لهم، وأنه كلما كان العبد أعظم علمًا وتصديقًا بأخبار ما جاء به الرسول، وأعظم معرفة بحكم أوامره ونواهيه، كان من أهل العلم الذين جعلهم الله حجة على ما جاء به الرسول، احتج الله بهم على المكذبين المعاندين»84.
وعليه فإن العزة التي يتمتع بها المؤمنون جعلتهم يزيدون تمسكًا بهدايات القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة.
٤. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله.
ذكر الله تعالى أن العزة التي يتمتع بها المؤمنون في الدنيا جعلتهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ولا يخافون فيه لومة لائم.
فقال سبحانه وتعالى: (ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢﮣ ﮤ ﮥ ﮦﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ) [التوبة:٧١].
والمعروف هو اسم جامع لكل ما عرف حسنه من برٍ وخير، من العقيدة الحسنة والأعمال الصالحة والأخلاق الفاضلة، وإن أول ما يأمرون به أنفسهم، والمنكر هو كل ما خالف المعروف وناقضه من العقائد الباطلة المزيفة، والأعمال الخبيثة والأخلاق الرذيلة، كما أنهم يطيعون الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، فلا يزالون ملازمين لطاعة الله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم على الدوام85.
قال سيد قطب عن طبيعة المؤمنين أنهم «يتجهون بهذه الولاية إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإعلاء كلمة الله، وتحقيق الوصاية لهذه الأمة في الأرض، فلا يكون لهم هوى غير أمر الله وأمر رسوله، ولا يكون لهم دستور إلا شريعة الله ورسوله، ولا يكون لهم منهج إلا دين الله ورسوله، ولا يكون لهم الخيرة إذا قضى الله ورسوله ،وبذلك يوحدون نهجهم ويوحدون هدفهم ويوحدون طريقتهم، فلا تتفرق بهم السبل عن الطريق الواحد الواصل المستقيم»86.
ويقول الله تعالى عنهم في موضع آخر:. (ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ) [الحج:٤٠-٤١].
ومن آثار هذه العزة في الدنيا أيضًا الجهاد في سبيل الله عز وجل حيث قال تعالى عنهم: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ) [الحديد:٢٥].
فإن من جملة ما أنعم الله تعالى به على عباده خلقه الحديد، إذ علم الله تعالى الناس صنعته، وجعله رادعًا لمن أبى الحق وعانده بعد أن أقام عليه الحجة، كما أن فيه منافع للناس في كثير من أمور حياتهم، ومنها صناعة أدوات الحرب من آلات وأسلحة وغير ذلك؛ لتكون قوة رادعة يستخدمها المسلمون في تنفيذ أحكام الشريعة فيما بينهم، ولجهاد الأعداء الذين يعتدون على حرمات الدين والبلاد، ويعرقلون انتشار الإسلام على وجه الأرض.
قال الزحيلي: «إنما فعل الله ذلك ليعلم علم مشاهدة ووجود من ينصر دينه وينصر رسله بإخلاص ونية صالحة، باستعمال الحديد، في أسلحة الجهاد ومقاومة الأعداء، إن الله قوي قادر عزيز قاهر غالب، يستطيع دفع عدوان الظالمين، وينصر رسله والمؤمنين من غير حاجة إليهم، وإنما أمرهم بالجهاد لينتفعوا به وبثوابه، ويحققوا لأنفسهم العزة والمنعة والهيبة في قلوب الناس، فإن حماية القيم والمبادئ تحتاج دائما إلى حماة أشداء، ذوي بأس وإباء»87.
وقد ورد عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بعثت بالسيف حتى يعبد الله لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقومٍ فهو منهم)88.
ويفهم من هذا أن العزة والكرامة جعلت لمن اتبع أمر النبي صلى الله عليه وسلم، وسار على هداه، واقتفى أثره، فأمر بالمعروف ونهى عن المنكر، وجاهد في سبيل الله تعالى لإعلاء كلمة التوحيد.
ثانيًا: آثار العزة المحمودة في الآخرة:
تظهر آثار العزة المحمودة في الآخرة من خلال النقاط الآتية:
١. مغفرة الذنوب.
يقول الله عز وجل: (ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ) [الفتح:٥].
وهذه الآية ضمن مجموعة من الآيات التي تتحدث عن صلح الحديبية، وقد سماه الله تعالى فتحًا مبينًا، فهو سبحانه قد فتح على رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بهذا الفتح العظيم؛ ليشكروه بالطاعة والجهاد والصبر، وقد أتم الله تعالى لهم ذلك؛ ليدخلهم الجنة، ويغفر لهم ذنوبهم، ويكفر عنهم سيئاتهم، فيفوزوا بهذا الفوز العظيم89.
٢. استحقاق رضوان الله تعالى.
يقول الله عز وجل: (ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢﮣ ﮤ ﮥ ﮦﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ) [التوبة:٧١-٧٢].
فهؤلاء المؤمنون الذين يتصفون بالعزة المحمودة، ويتصفون بالأوصاف الواردة في الآية من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وطاعة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، فأولئك يستحقون الرحمة من الله تعالى، كما أنه عز وجل وعدهم -ووعده حق منجز لا محالة- بجنات تجري من تحتها الأنهار، ومنازل يسكنونها من الدر والياقوت، كما أنهم يستحقون رضوان الله تعالى، فرضوانٌ يسيرٌ منه عز وجل أكبر من كل الذي أعطاهم إياهم من نعم في الآخرة، فذلك هو الفوز العظيم90.
فلذلك أتى بكلمة «رضوان» نكرة؛ ليبين أن القليل من رضوان الله تعالى أفضل وأعظم من كل ما منحهم من نعيم وملذات، وبذلك يكون المؤمنون قد استحقوا هذا الرضوان فمنحهم الله تعالى إياه في الآخرة.
٣. جنات الخلد والنعيم المقيم.
يقول الله عز وجل: (ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠﮡ ﮢ ﮣ ﮤﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ) [لقمان:٨-٩].
فذكر الله تعالى نعيم المؤمنين في الآخرة، حيث أعد لهم جنات النعيم الخالد الدائم الذي لا ينتهي، فهذا وعد الله جل جلاله النافذ لا محالة، وكان قد وعدهم به في الدنيا، وها هو سبحانه في الآخرة ينفذ لهم ما وعد به، فهو العزيز الحكيم كامل القدرة يعذب المعرض، ويثيب المقبل، كامل العلم، يفعل الأفعال كما ينبغي، فلا يعذب من يؤمن، ولا يثيب من كفر، فهو حكيم يضع الفعل المناسب اللائق في مكانه المناسب91.
وهكذا تظهر آثار العزة المحمودة في الآخرة من مغفرة الذنوب، واستحقاق رضوان الله تعالى، والفوز بجنات الخلد والنعيم المقيم.
ثالثًا: عواقب العزة المذمومة في الدنيا:
تتجلى عواقب العزة المذمومة في القرآن الكريم من خلال النقاط الآتية:
١. اتباع الهوى والشهوات.
يقول الله عز وجل: (ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ) [البقرة:٢٠٨-٢٠٩].
وهذه الآية نزلت في أهل الكتاب الذين آمنوا بموسى وعيسى عليهما السلام، فأمرهم الله تعالى أن يؤمنوا كذلك بمحمد صلى الله عليه وسلم، ويدخلوا في دين الإسلام، ونهاهم عن السير في الطريق الذي يدعوهم إليه الشيطان؛ لأنه عدوٌ مبينٌ ظاهر العداوة، ثم توعدهم الله تعالى بأنهم إن تنحوا عن طريق الحق والاستقامة من بعد ما جاءتهم الآيات من التعريف بمحمد صلى الله عليه وسلم في كتبهم، فإن الله تعالى عزيز لا يمتنع عليه ما يريده من إنزال العقوبة بهم، وحكيم فيما يفعله.
وقد يكون هذا الخطاب موجهًا إلى المؤمنين أيضًا، ويكون المعنى: أن الله تعالى يأمرهم بالتمسك بالإسلام، واتباع أوامره واجتناب نواهيه، ويحذرهم من تتبع خطوات الشيطان، فعداوته لهم ظاهرة وواضحة، ثم توعدهم بأنهم إن تنحوا عن طريق الاستقامة من بعد ما جاءتهم المعجزات وآيات القرآن الكريم، فإن الله تعالى عزيز لا يمتنع عليه ما يريده من إنزال العقوبة لهم في الدنيا والآخرة، وحكيم فيما يفعل92.
وذكر القرطبي أن الآية فيها دليلٌ على أن عقوبة العالم بالذنب أعظم من عقوبة الجاهل به93.
وعليه فإن من كانت عزته لغير الله تعالى، فعزته مذمومة ينتج عنها أنه سوف يكون عرضةً لاتباع الهوى والشيطان.
٢. الفرقة والتنازع والفشل.
ذكرنا فيما سبق أن من دوافع عزة الكفار الكبر والعناد والاستعلاء على الحق رغم معرفتهم به وتأكدهم منه، فلما اجتمعوا على النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين لقتالهم في غزوة الأحزاب، فوجئوا بأمر لم تعهده العرب من قبل في الحروب، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه قد حفروا خندقًا، واستعانوا بالمنافقين واليهود على حرب المؤمنين، فعسكروا حول الخندق يحاصرون المسلمين، ولم يحدث بينهما قتال، فهزم الله تعالى جموع المشركين بوسيلتين لا دخل للمسلمين فيهما، وهما:
الأولى: عندما أتى نعيم بن مسعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليعلن إسلامه بين يديه، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: إنما أنت رجل واحد فينا، ولكن خذل عنا إن استطعت، فإن الحرب خدعة، فخرج نعيم، وأوقع العداوة والبغضاء بين المشركين واليهود، فصار كل منهما يظن بالآخر سوءًا، فتألب بعضهم على بعض، وأصبح كل منهما يتهم الآخر بالغدر والخيانة، واختفت بينهم الثقة، فأشار أبو سفيان قائد المشركين على جيشه بالانسحاب.
الثانية: الريح الهوجاء التي أرسلها الله تعالى على المشركين فاقتلعت خيامهم، وقلبت قدورهم، وذلك بعد بضعة عشر يومًا من المحاصرة التي ضربها المشركون على المسلمين94.
فرد الله تعالى الكفار من قريش واليهود بغيظهم، ولم يشف صدورهم بنيل ما أرادوا من هذه الحرب، وكفى الله عز وجل المؤمنين في هذه الحرب، وأمدهم بنصر من عنده عز وجل بالملائكة والريح، وكان الله تعالى قويًا في ملكه، عزيزًا في انتقامه من الأحزاب95.
فقال تعالى: (ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ) [الأحزاب:٢٥].
فالعزة والأنفة التي كان يتمتع بها المشركون استكبارًا وعنادًا عن قبول الحق قادت بهم إلى الفرقة والنزاع والفشل.
رابعًا: عواقب العزة المذمومة في الآخرة:
تبرز أهم عواقب العزة المذمومة في الآخرة من خلال ما يأتي:
١. استحقاق غضب الله.
يقول الله تعالى: (ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ) [القمر:٤١-٤٢].
فإن الله عز وجل يقسم أنه أنذر فرعون وقومه، حيث أرسل لهم موسى عليه السلام، وأيده بالمعجزات المادية التسعة المعروفة الدالة على صدق رسالته ونبوته، ومع ذلك كذبوا وأنكروا هذه الآيات، وكذبوا الرسول الذي أرسله الله تعالى من عنده عز وجل المستحق وحده أن يفرد بالعبادة دون غيره، فأغرقهم الله تعالى في البحر، ثم أدخلهم النار، فهو العزيز الغالب الذي لا يغلب، مقتدر على الانتقام، ولا يعجزه ما أراد، كما لا يمنعه شيء عما أراد96.
ففرعون وقومه لما كذبوا نبيهم موسى عليه السلام والآيات التي أيده الله تعالى بها، استحقوا بذلك غضب الله تعالى عليهم، فأهلكهم في الدنيا، وأخذهم أخذ عزيز مقتدر، كما أنه تعالى سوف يدخلهم النار في الآخرة.
٢. العذاب الشديد.
يقول الله عز وجل: (ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ) [آل عمران:٣-٤].
فالله سبحانه وتعالى أنزل القرآن والتوراة والإنجيل لإخراج الناس مما هم عليه من ضلال، فَمَنْ قَبِلَ هدى الله تعالى فهو المهتدي، ومن لم يقبل بقي على غيه وضلاله، كما أنه سبحانه أنزل الحجج والبراهين القاطعات الدالة على جميع المقاصد، وفسر كل ما يحتاج إليه الخلق، فأصبحت الأحكام من شدة الظهور والوضوح ما لا يقوى أحد على ردها إلا عنادًا واستكبارًا، وهذا ما فعله المشركون إذ لم يبق لهم عذر ولا حجة على عدم إيمانهم.
ولهذا توعد الله عز وجل الذين كفروا-بعدما بين الآيات ووضحها، فلم يبق عليها لبس أو إشكال-بالعذاب الشديد الذي لا يقدر قدره، ولا يدرك وصفه، فهو سبحانه قوي لا يعجزه شيء، وهو ذو انتقام ممن عصاه97.
٣. الخلود في نار جهنم.
يقول الله جل جلاله: (ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ) [النساء:٥٦].
فالله تعالى قد أعد لمن جحد آياته التي أيد بها أنبياءه ورسله نارًا مستعرة تشويهم وتحرق أجسامهم إلى درجة تفقدها الحس والإدراك، وكلما وصلت إلى هذه المرحلة بدلهم الله تعالى جلودًا حية غيرها؛ ليحسوا بالعذاب ويشعروا بالألم، فيستمر الألم بلا انقطاع، ويذوقوا العذاب الأليم98، فهو سبحانه له العزة التي تتأتى بها تمام القدرة في عقاب المجترئين على الله عز وجل، وله الحكمة التي تتأتى بها الكيفية في إصلائهم النار99.
٤. الخوف والتخاذل والانهيار عند الشدائد.
أخبر الله تعالى أن المشركين اتخذوا الأصنام والأوثان لتعزهم وتقويهم وتنصرهم وتمدهم بالمال والولد والنعم في الدنيا، ولتكون لهم منعةً من عذاب الله تعالى في الآخرة، فقال تعالى: (ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ) [مريم:٨١].
فرد الله تعالى عليهم بقوله: (ﭼﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ) [مريم:٨٢].
أي: لن تكون لهم هذه الأصنام منعة في الآخرة؛ بل إن هذه الآلهة نفسها التي كانوا يعبدونها في الدنيا ستجحد عبادتهم لها في الآخرة، وستكون عونًا عليهم في العذاب، فهؤلاء المشركون عبدوا الآلهة لتكون عزًّا لهم في الآخرة، فصارت عونًا عليهم في العذاب، فوجدوا عكس ما طلبوا100.
هذا وقد أكد الله تعالى في موضع آخر على سبب اتخاذهم الأصنام آلهة من دونه عز وجل لأجل أن تكون مودة بينهم في الحياة الدنيا، وليست مودة تدوم؛ بل ستصير يوم القيامة عداوةً وبغضًا لهم، فقال: (ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ) [العنكبوت:٢٥].
ومعلومٌ أنه في يوم القيامة سيتبرأ المتبوع من الأتباع، وكذلك الأصنام ستتبرأ منهم، وستكفرهم وتلعنهم، وحينئذٍ يكون مصير الكل ومأواه النار، وما لهم من ناصر ينصرهم من عذاب الله عز وجل، أو يدفع عنهم العذاب101.
وهكذا يكون في هذا اليوم العصيب، حيث يظن المشركون أنهم سيجدون من ينصرهم من عذاب الله تعالى، فيعتريهم الخوف الشديد، فَيُفَاجَؤوا بتبرؤ الآلهة منهم وخذلانها لهم، فيصيبهم الانهيار الشديد.
ونخلص من هذا إلى أن العزة المذمومة قادت أصحابها إلى أمورٍ لا تحمد عقباها في الآخرة من استحقاقهم لغضب الله عز وجل، والعذاب الشديد المؤلم، بالإضافة إلى خلودهم في النار أبد الآبدين.
موضوعات ذات صلة: |
الاستكبار، التواضع، الذل، الغرور |
1 انظر: مقاييس اللغة، ابن فارس ٤/٤١، لسان العرب، ابن منظور ٥/٣٧٤.
2 المفردات ص٥٦٣.
3 مقاليد العلوم في الحدود والرسوم، السيوطي ص٢٠٣.
4 انظر: الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ١٨/١٢٩.
5 العزة مصادرها، أسبابها، مواقف وأحداث ص٥.
6 انظر: المعجم المفهرس الشامل لألفاظ القرآن الكريم، عبد الله جلغوم، باب الظاء، ص٧٦٢-٧٦٤.
7 انظر: الوجوه والنظائر، الدامغاني، ص٣٣٣-٣٣٤، نزهة الأعين النواظر، ابن الجوزي، ص٤٣٤-٤٣٦.
8 انظر: لسان العرب، ابن منظور ١٥/٢٠٧.
9 المفردات ص٦٩٣.
10 مقاليد العلوم في الحدود والرسوم ص ١٧٦.
11 مقاييس اللغة ٣/١٧٩.
12 التوقيف على مهمات التعاريف ص ٢٠٢.
13 انظر: الفروق اللغوية، أبو هلال العسكري ص٢٩٧.
14 انظر: مقاييس اللغة، ابن فارس ٤/٣٨٨.
15 المفردات ص٦١١.
16 انظر: المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية ص٣٦٠.
17 التوقيف على مهمات التعاريف ص ١٧٩.
18 انظر: تفسير أسماء الله الحسنى ص٣٤.
19 المقصد الأسنى ص٧٣.
20 تفسير أسماء الله الحسنى ص٢١٤.
21 انظر: جامع البيان، الطبري ١٥/١٤٢.
22 انظر: تأويلات أهل السنة، الماتريدي ٨/٤٧٣.
23 انظر: الكشاف، الزمخشري ٤/٦٩.
24 إرشاد العقل السليم، أبو السعود ٢/٥.
25 انظر: أيسر التفاسير، أبو بكر الجزائري ٣/١٢٩.
26 انظر: التفسير الحديث، محمد عزت دروزة ٣/٢٤٣.
27 انظر: التفسير الميسر، مجمع الملك فهد ص٤٢٨.
28 انظر: تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص٦٩٥.
29 انظر: التحرير والتنوير، ابن عاشور ٢٣/٢١٥.
30 انظر: تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص٧١٦.
31 التفسير المنير، الزحيلي ٢٢/٢٦٠ بتصرف.
32 انظر: فتح القدير، الشوكاني ٣/٥٥٥.
33 انظر: تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص٢٣٥.
34 أضواء البيان ١/٤١٥.
35 انظر: صفوة التفاسير، الصابوني ٣/٢١١.
36 إرشاد العقل السليم ٨/١١٤.
37 انظر: مراح لبيد، محمد الجاوي ٢/٥٣١.
38 جامع البيان ٩/٣١٩.
39 مفاتيح الغيب ٩/٣٧١.
40 انظر: جامع البيان ٢٠/٤٤٤.
41 فتح القدير، الشوكاني ٤/٣٩١، بتصرف.
42 انظر: المصدر السابق.
43 أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء، عن أبي هريرة، ٨/٤٦.
وصححه الألباني في صحيح الجامع، رقم ٦١٦٢، ٢/١٠٦١.
44 الجامع لأحكام القرآن ١٤/٣٢٨.
45 التحرير والتنوير ٢٨/٢٤٩.
46 أخرجه الحاكم في مستدركه، رقم ٢٠٧، ١/١٣٠.
قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
47 أخرجه البخاري في صحيحه، رقم ٦٥٠١، عن أنس، كتاب الرقاق، باب التواضع، ٨/١٠٥.
48 الكشاف ٤/٥٤٣.
49 انظر: التفسير المنير، الزحيلي ٢/٢٢٩.
50 انظر: أضواء البيان، الشنقيطي ٣/٥٠٩.
51 انظر: تفسير المراغي ٧/١٩٧.
52 أخرجه أحمد في مسنده، رقم ١٨٤٢، ٣/٣٤٧.
وصححه الألباني في تعليقه على مشكاة المصابيح، رقم ٥٧٣٨، ٣/١٥٩٩.
53 انظر: أيسر التفاسير، أبو بكر الجزائري ١/٢٥٢.
54 انظر: الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٤/٧.
55 انظر: نظم الدرر، البقاعي ٨/٣١٨.
56 انظر: تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص٤٢١.
57 انظر: إرشاد العقل السليم، أبو السعود ٦/٢٢٩.
58 انظر: فتح القدير، الشوكاني ٤/٣٨٨.
59 انظر: فتح البيان، صديق خان ١٢/٢٩١.
60 انظر: تفسير القرآن، السمعاني ٤/٤٥٧.
61 جامع البيان ٢١/٤٧٩.
62 انظر: المصدر السابق ٢١/٤٨٠.
63 انظر: لباب التأويل، الخازن ٤/٣٠٠.
64 انظر: معالم التنزيل، البغوي ٨/١٣٣، زاد المسير، ابن القيم ٤/٢٨٩.
65 انظر: أوضح التفاسير، محمد الخطيب ص٤٠٦.
66 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الإيمان، باب حلاوة الإيمان، ١/١٢، رقم ١٦.
67 انظر: تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٧/٥١.
68 السيرة النبوية ٤/٢٥٣ بتلخيص.
69 انظر: جامع البيان، الطبري ٤/٢٤٤.
70 انظر: مدارك التنزيل، النسفي ٢/٧٩.
71 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الجنائز، باب التشديد في النياحة، ٢/٦٤٤، رقم ٩٣٤.
72 في ظلال القرآن، سيد قطب ٤/١٩٢٢.
73 تفسير القرآن العظيم ٥/١٥٧.
74 انظر: محاسن التأويل، القاسمي ٧/٥٣٦.
75 في ظلال القرآن ٥/٢٧١١.
76 انظر: تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص٥٩١.
77 تفسير الشعراوي ١٧/١٠٥٦٧.
78 تيسير الكريم الرحمن ص٣٢٢.
79 انظر: فقه السيرة، البوطي ص١٨٥.
80 انظر: جامع البيان، الطبري ١٤/٥٨.
81 تيسير الكريم الرحمن ص٣٢٦.
82 المصدر السابق ص٢٠٩.
83 انظر: جامع البيان، الطبري ١٩/٤٩٥.
84 تيسير الكريم الرحمن ص ٦٧٥.
85 انظر: جامع البيان، الطبري ١٤/٣٤٧، تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص٣٤٣.
86 في ظلال القرآن ٣/١٦٧٥.
87 التفسير المنير ٢٧/٣٣٣.
88 أخرجه أحمد في مسنده، رقم ٥١١٤، ٩/١٢٣.
وصححه الألباني في تخريج مشكلة الفقر رقم ٢٤، ص٢٥.
89 انظر: أيسر التفاسير، الجزائري ٥/٩٥.
90 انظر: فتح القدير، الشوكاني ٢/٤٣٥.
91 انظر: مفاتيح الغيب، الرازي ٢٥/١١٦.
92 انظر: الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٣/٢٣.
93 انظر: الجامع لأحكام القرآن ٣/٢٣.
94 انظر: فقه السيرة، البوطي ص٢١٦.
95 انظر: لباب التأويل، الخازن ٣/٤١٩.
96 انظر: التفسير المظهري، محمد ثناء الله المظهري ٩/٤٤٢.
97 انظر: تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص١٢١.
98 انظر: تفسير المراغي ٥/٦٨.
99 انظر: التحرير والتنوير، ابن عاشور ٥/٩٠.
100 انظر: تفسير السمرقندي ٢/٣٨٥.
101 انظر: تأويلات أهل السنة، الماتريدي ٨/٢١٩.