عناصر الموضوع

مفهوم العزة

العزة في الاستعمال القرآني

الألفاظ ذات الصلة

الأساليب القرآنية في عرض العزة

أنواع العزة ومقوماتها

علاج العزة المذمومة

آثار العزة وعواقبها

العزة

مفهوم العزة

أولاً: المعنى اللغوي:

العين والزاي أصلٌ واحد يدل على الشدة والقوة وما ضاهاهما من غلبةٍ وقهر، وعز يعز عزًّا وعزَّةً وعزازةً، ورجلٌ عزيزٌ من قومٍ أعزة وأعزاء وعزازٍ، واعتز بي وتعزز: تشرف، وعز علي يعز عزًّا وعزَّةً وعزازةً: كرم، وأعززته: أكرمته وأحببته، ويقال: عز الرجل بعد ضعفٍ، أي: صار عزيزًا بعد ذلة، وأعززته: جعلته عزيزًا، وعز الشيء: إذا قل، ومنه ناقةٌ عزوزٌ: إذا كانت ضيقة الإحليل لا تدر إلا بجهد، ويقال: استعز على المريض، إذا اشتد مرضه. واستعز عليه الشيطان: أي غلب عليه وعلى عقله، واستعز عليه الأمر: إذا لج فيه، والعز من المطر: الكثير الشديد، وأرض معزوزة: إذا أصابها ذلك 1.

إذن فالعزة تدور حول معاني الغلبة والقهر والشدة والقوة ونفاسة الشيء وعلو قدره.

ثانيًا: المعنى الاصطلاحي:

قال الراغب الأصفهاني: «العزة: حالةٌ مانعة للإنسان من أن يغلب»2.

وقيل: «العزة: التأبي عن حمل المذلة، وقيل: الترفع عما تلحقه غضاضة»3.

وقيل: العزة صفة تفيد حصول الفوقية والغلبة لله سبحانه وتعالى وعباده الصالحين على أعدائهم4.

وعرفها الدكتور محمد بن عبد الله الهبدان بأنها: «ارتباط بالله تعالى، وارتفاع بالنفس عن مواضع المهانة، والتحرر من رق الأهواء ومن ذل الطمع، وعن السير إلا وفق ما شرع الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم »5.

وخلاصة القول: إن المتدبر في المعنيين يجد اتصالًا بينهما، حيث إن المعنى الاصطلاحي يعني أن العزة حالة تعتري الإنسان تمنعه من غلبة غيره عليه، وهذا مرتبط بمعنى العزة في اللغة التي هي الشدة والقوة والغلبة والقهر

العزة في الاستعمال القرآني

وردت مادة (عزز) في القرآن الكريم (١٢٠) مرة6.

والصيغ التي وردت عليها هي:

الصيغة

عدد المرات

المثال

الفعل الماضي

٢

( ) [يس:١٤]

الفعل المضارع

١

( ) [آل عمران:٢٦]

المصدر

١٢

( ) [النساء:١٣٩]

الصفة المشبهة

٩٩

( ) [البقرة:٢٠٩]

أفعل التفضيل

٤

( ) [هود:٩٢]

اسم

٢

( ) [المائدة:٥٤]

وجاءت العزة في الاستعمال القرآني على ستة أوجه7:

الأول: المنعة: ومنه قوله تعالى: ( ) [النساء:١٥٨] يعني: منيعًا.

الثاني: العظمة: ومنه قوله تعالى: ( ) يعني: فبعظمتك ( ) [ص:٨٢].

الثالث: الحمية: ومنه قوله تعالى: ( ) [ص:٢] يعني: في حمية.

الرابع: الغلظة: ومنه قوله تعالى: ( ) [المائدة:٥٤] يعني: غلظاء عليهم.

الخامس: الشدة: ومنه قوله تعالى: ( ) [فاطر:١٧] يعني: بشديد.

السادس: القوة: ومنه قوله تعالى: ( ) [يس:١٤] يعني: فقويناهما بثالث.

الألفاظ ذات الصلة

القوة:

القوة لغةً:

قوي الرجل والضعيف يقوى قوة فهو قويٌّ وقويته تقويةً وقاويته فقويته أي غلبته8.

القوة اصطلاحًا:

ذكر الراغب أن أكثر استعمال القوة في القدرة9، وقال السيوطي: «القوة: مبتدأ كل فعل في البدن»10.

الصلة بين القوة والعزة:

يتضح أن العزة دليل على القوة، فلا يعقل أن يكون الإنسان عزيزًا دون أن يكون قويًّا، سواء كانت القوة معنوية أم مادية.

الشدة:

الشدة لغةً:

قال ابن فارس: «الشين والدال أصلٌ واحدٌ يدل على قوةٍ في الشيء، وفروعه ترجع إليه. من ذلك شددت العقد شدًّا أشده»11.

الشدة اصطلاحًا:

قال المناوي: «الشد: العقد القوي»12.

الصلة بين الشدة والعزة:

يظهر أن العزة دليل على الشدة التي تطلق في الأصل على المبالغة في وصف الشيء في صلابة13، فالإنسان لا يكون عزيزًا إلا إذا كانت فيه صلابة على الحق.

الغلبة:

الغلبة لغةً:

من غلب يغلب غلبةً، وهو القهر14.

الغلبة اصطلاحًا:

لا يخرج عن معناه اللغوي، قال الراغب: «الغلبة: القهر»15. والمقصود هو قهر العدو.

الصلة بين الغلبة والعزة:

يتبين أن الغلبة مظهر من مظاهر العزة.

الرفعة:

الرفعة لغةً:

فلان رفعة ورفاعة، ارتفع قدره وشرف، يقال: رفع في حسبه ونسبه فهو رفيع وهي رفيعة16.

الرفعة اصطلاحًا:

ذكر المناوي أن «الرفع: يقال تارة في الأجسام الموضوعة إذا أعليتها عن مقرها، وتارة في البناء إذا طولته، وتارة في الذكر إذا نوهته، وتارة في المنزلة إذا شرفتها»17.

الصلة بين الرفعة والعزة:

لا شك أن الرفعة هي العزة، فهما كلمتان مترادفتان.

الأساليب القرآنية في عرض العزة

لقد عرض القرآن الكريم موضوع العزة بأسلوب مميز، تطرق فيه إلى نواحٍ مختلفة، منها:

أولًا: وصف الله سبحانه بالعزة:

إن اسم الله تعالى (العزيز) ورد ضمن مجموعة من أسمائه الحسنى الواردة في قوله تعالى: ( ﯜﯝ ) [الحشر:٢٣].

ويكمن معنى هذا الاسم الجليل-كما ذكر الزجاج-في أن الله تعالى هو الغالب لكل شيء، فهو سبحانه العزيز الذي ذل كل عزيز لعزته جل جلاله 18.

وقال الغزالي: «العزيز: هو الخطير الذي يقل وجود مثله، وتشتد الحاجة إليه، ويصعب الوصول إليه، فما لم يجتمع عليه هذه المعاني الثلاثة لم يطلق عليه اسم العزيز»19.

وبين السعدي أن العزة لها معانٍ ثلاثة متمثلة في عزة القوة، وعزة الغلبة، وعزة الامتناع، فالله جل جلاله يمتنع عن أن يناله أحد من المخلوقات، وأنه سبحانه قهر جميع الموجودات، ودانت له الخليقة كلها، وخضعت لعظمته وجبروته، ثم قال: «فمعاني العزة الثلاث كلها كاملة لله العظيم، عزة القوة الدال عليها من أسمائه القوي المتين، وهي وصفه العظيم الذي لا تنسب إليه قوة المخلوقات وإن عظمت، وعزة الامتناع فإنه هو الغني بذاته فلا يحتاج إلى أحد، ولا يبلغ العباد ضره فيضرونه، ولا نفعه فينفعونه، بل هو الضار النافع المعطي المانع، وعزة القهر والغلبة لكل الكائنات فهي كلها مقصورة لله خاضعة لعظمته منقادة لإرادته، فجميع نواصي المخلوقات بيده، لا يتحرك منها متحرك ولا يتصرف متصرف إلا بحوله وقوته وإذنه، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، ولا حول ولا قوة إلا به»20.

هذا وقد وصف الله تعالى نفسه بالعزة في آيات عديدة من القرآن الكريم، منها-على سبيل المثال لا الحصر-قوله تعالى: ( ﭿ) [يونس:٦٥].

فالله سبحانه وتعالى ينهى نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم عن الحزن من قول المشركين في الله عز وجل ما يقولون من كلام باطل، وإشراكهم معه الأوثان والأصنام في العبادة، فإن الله سبحانه وتعالى هو المنفرد بعزة الدنيا والآخرة، لا يشاركه فيها أحد، كما أنه هو المنتقم من هؤلاء المشركين، فلن ينصرهم أحد عند انتقام الله تعالى منهم؛ لأنه لا يُعَازُّهُ شيء، فهو تعالى لهم بالمرصاد، يسمع ما يفترون عليه، ويعلم ما يضمرونه في أنفسهم، وما يعلنونه من شرك وعداء للإسلام والمسلمين21.

منها قوله تعالى: ( ) [فاطر:١٠].

والمعنى: أن من يطلب القوة والمنعة والرفعة فإنها تكون بعبادة الله تعالى وطاعته، فبالله عز وجل يكون عز الدنيا والآخرة لا بالأصنام التي عبدها المشركون من دونه سبحانه وتعالى؛ وذلك لأن المشركين كانوا يعبدون هذه الأصنام طلبًا للعز، كما في قوله تعالى: ( ) [مريم:٨١].

وطلبًا للمنعة والقوة أيضًا، كما في قوله تعالى: ( ) [يس:٧٤]22.

وعليه فإن العزة لا تكون إلا لله تعالى وحده، فهو صاحبها ومالكها، كما بين ذلك عن نفسه حين قال: ( ﯿ ) [الصافات:١٨٠].

فهو سبحانه نزه ذاته العلية عما وصفه به المشركون مما لا يليق بجلاله وكماله، ثم أضاف الرب إلى العزة؛ ليفيد اختصاصه بها، كأنه قال: ذو العزة23.

هذا وقد اقترن اسمه «العزيز» بالأسماء والصفات الآتية:

أولًا: ذو انتقام.

قال تعالى: ( ﭵﭶ ) [آل عمران:٤].

أي: إن الذين كفروا بآيات الله تعالى الناطقة بالحق، وبوجوب توحيده وتنزيهه عما لا يليق بجلاله، فإن لهم عذابًا شديدًا، لا يقادر قدره بسبب كفرهم، فالله تعالى عزيز لا يغالب، ويفعل ما يشاء، وذو انتقام عظيم24.

ثانيًا: الحكيم.

قال تعالى: ( ﮖﮗ ﮚﮛ ) [النحل:٦٠].

فالله تعالى يخبر أن الذين ينكرون البعث ولا يؤمنون بالآخرة لهم صفة السوء؛ وذلك لجهلهم وظلمهم أنفسهم؛ أنهم لم ينقذوا أنفسهم بالإيمان وعمل الخير، أما الله سبحانه وتعالى فله الصفة الحسنى، وهو أنه لا إله إلا هو منزه عن كل نقص، ورب كل شيء ومليكه، بيده الخير وهو على كل شيء قدير، لا شريك له، ولا ند له ولا ولد، ثم أثنى الله تعالى على نفسه بأعظم وصف وهو العزة والقهر والغلبة لكل شيء، والحكمة العليا في تدبيره لهذا الكون، وتصريفه لشؤون خلقه، وفي حكمه وقضائه25.

ثالثًا: الرحيم.

قال تعالى: ( ﮏﮐ ) [الشعراء:٧-٩].

فالله تعالى ينكر على المشركين عدم تدبرهم في آيات الله تعالى الدالة على استحقاقه وحده للربوبية والعبادة والخضوع، ثم يخاطب الله تعالى نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم مسليًا إياه بأنه تعالى هو العزيز القاهر الذي لا يعجزه شيء، والرحيم الذي وسعت رحمته كل شيء، فالآية تقرر أن الله تعالى قادر على سحق الكفار والقضاء عليهم غير أن رحمته تعالى اقتضت عدم التعجيل بذلك لعلهم يرعوون26.

رابعًا: الحميد.

قال تعالى: ( ) [سبأ:٦].

أي: إن أهل العلم يعلمون أن القرآن الذي أنزل من عند الله تعالى هو الحق، وأنه يرشد إلى الطريق المستقيم، طريق الله العزيز الذي لا يغالب ولا يمانع؛ بل إنه سبحانه حميد محمود في أقواله وأفعاله وشرعه27.

خامسًا: العليم.

قال تعالى: ( ﯥﯦ ) [يس:٣٨].

أي: إن الشمس من آيات الله عز وجل الدالة على نفوذ مشيئته سبحانه، وعلى كمال قدرته، فهي دائمًا تجري لمستقر قدره الله تعالى لها، لا تحيد عنه ولا تتعداه، فهي لا تتصرف في نفسها، ولا تعصي الله تعالى، فسبحان الذي دبر هذه المخلوقات بعزته العظيمة بأكمل تدبير، وأحسن نظام، كما دبرها بعلمه حيث جعلها مصالح لعباده، ومنافع لهم في الدنيا والآخرة28.

سادسًا: الوهاب.

قال تعالى: ( ) [ص:٩].

فالله تعالى يوبخ المشركين وينكر عليهم اعتراضهم على نزول النبوة على محمد صلى الله عليه وسلم دون غيره منهم، فليست خزائن الله تعالى عندهم فيعترضوا ويتصدوا لحرمان من يشاؤون، فإن المواهب من الله تعالى يصيب بها من يشاء، فيختار للنبوة من يصطفيه، وليس لهم الاختيار في ذلك، فهو العزيز الوهاب29.

سابعًا: الغفار.

قال تعالى: ( ﭭﭮ ) [ص:٦٥-٦٦].

والمعنى: أن الله عز وجل يأمر نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يخبر المشركين -إن طلبوا منه ما ليس بيده- أن الأمر لله تعالى قائلًا: ليس لي إلا أن آمركم وأحثكم على الخير، وأنهاكم عن الشر، فما من أحد يعبد حق العبادة إلا الله تعالى الواحد القهار الذي قهر كل شيء، كما أنه خالق السماوات والأرض وما بينهما، ومدبرهما بجميع أنواع التدابير، العزيز الذي له القوة التي بها خلق جميع المخلوقات العظيمة، والغفار لجميع الذنوب الصغيرة والكبيرة لمن تاب إليه سبحانه وتعالى 30.

ثامنًا: الغفور.

قال تعالى: ( ﯣﯤ ) [فاطر:٢٨].

فلما أخبر الله تعالى عن اختلاف الألوان والأصباغ في ثمار النبات، والجمادات والحيوانات، وكذلك الإنسان؛ لأن هذا الاختلاف من أعظم الأدلة على قدرة الله تعالى وبديع صنعه، أخبر تعالى عن العلماء الذين يعرفون جمال ذلك الاختلاف ودقائقه، فهؤلاء العالمون به يخافون الله عز وجل بالغيب، وبما يليق به من صفاته الجليلة وأفعاله الجميلة والتي منها قدرته العظيمة على صنع ما يشاء ويفعله، فمن كان أعلم بالله تعالى كان أخشاهم له، وسبب هذه الخشية من العلماء لله تعالى هو أن الله عز وجل قوي في انتقامه من الكافرين، وغفور لذنوب المؤمنين به التائبين إليه، وهذا يوجب الخوف والرجاء، فكون الله تعالى عزيزًا ذا انتقام يوجب الخوف التام، وكذلك كونه تعالى غفورًا لما دون ذلك يوجب الرجاء البالغ، وهذا ما يدركه العلماء المتخصصون31.

تاسعًا: القوي.

قال تعالى: ( ﭵﭶ ) [الحج:٧٤].

فقد بين الله عز وجل أن المشركين الذين عبدوا الآلهة العاجزة عن فعل شيء، لم يعرفوا الله تعالى حق المعرفة، ولم يعظموه حق التعظيم إذ جعلوا هذه الأصنام والأوثان شركاء له مع هذه الحالة من العجز والضعف، ثم بين الله تعالى أنه القوي على خلق كل شيء، وعزيز غالب لا يغالبه أحد بخلاف آلهة المشركين التي لا تعقل ولا تنفع ولا تضر ولا تقدر على فعل شيء لنفسها حتى تفعله لغيرها، فإنها جماد لا تعقل32.

ثانيًا: العزة من أخلاق المؤمنين:

إن العزة خلق رفيع من أخلاق المؤمنين، فلا يعقل أن يكون المرء مؤمنًا حق الإيمان وفي ذات الوقت غير عزيز، فالعزة والإيمان صنوان لا يفترقان، وذلك أن المرء إذا آمن، وتغلغل الإيمان في قلبه واستقر فإنه في نفس الوقت يتشرب قلبه العزة، فتصدر عنه الأقوال والأفعال وهي متصفة بالفخر والاستعلاء بهذا الدين العظيم الذي أكرمه الله عز وجل به، فيتعامل مع المؤمنين أمثاله بكل تواضع ولين ورحمة، وفي المقابل يتعامل مع الكفار بكل عزة وفخر.

فيقول الله سبحانه وتعالى واصفًا المؤمنين: ( ﯘﯙ ﯟﯠ ) [المائدة:٥٤].

فقد توعد الله تعالى من يرتد عن دينه-وهو لن يضر الله شيئًا - بأنه سوف يأتي بدلًا منهم بأناسٍ من صفاتاهم أن الله جل جلاله يحبهم، وهم يحبونه كذلك، ومن صفاتهم أيضًا أنهم أذلة للمؤمنين من فرط محبتهم لهم، ونصحهم لهم، ولينهم ورقتهم ورأفتهم بهم، وكذلك رحمتهم بهم، ومن صفاتهم أيضًا أنهم أعزة على الكافرين بالله تعالى ورسوله، وقد اجتمعت عزائمهم وهممهم على معاداتهم، وبذلوا كل جهد في كل سبب يحصلون به على الانتصار عليهم33، فهم لا يداهنون الخلق، ولا يستكينون للعدو، ولا يتنازلون عن شيء من دينهم مهما رغبوا أو رهبوا، وفي هذا المعنى قال الشنقيطي: «أخبر تعالى المؤمنين في هذه الآية الكريمة أنهم إن ارتد بعضهم فإن الله يأتي عوضًا عن ذلك المرتد بقومٍ من صفاتهم الذل للمؤمنين، والتواضع لهم، ولين الجانب، والقسوة والشدة على الكافرين، وهذا من كمال صفات المؤمنين»34.

وفي موضع آخر أثنى الله تعالى على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالثناء العطر، كما شهد لرسوله صلى الله عليه وسلم بصدق الرسالة، فقال: ( ﭓﭔ ﭛﭜ ) [الفتح:٢٩].

فوصف أصحابه الأبرار بأنهم غلاظٌ على الكفار، متراحمون فيما بينهم35، قال أبو السعود: «يظهرون لمن خالف دينهم الشدة والصلابة، ولمن وافقهم في الدين الرحمة والرأفة»36.

ومن الآيات الدالة على أن العزة من أخلاق المؤمنين أيضًا قوله تعالى: ( ﮒﮓ ) [المنافقون:٨].

ففي هذه الآية يبين الله عز وجل أن العزة لله تعالى بقهره لأعدائه، وكذلك لرسوله صلى الله عليه وسلم بإظهاره دينه على الأديان كلها، وكذلك للمؤمنين أيضًا بنصر الله تعالى لهم على أعدائهم، ولكن المنافقين لا يعلمون أن الله تعالى معزٌ أولياءه، ومذلٌ أعداءه، ولو علموا ذلك ما قالوا مقالتهم: ( )37، وفي هذا قال الطبري: «فإن الذين اتخذوهم من الكافرين أولياء ابتغاء العزة عندهم، هم الأذلاء الأقلاء، فهلا اتخذوا الأولياء من المؤمنين، فيلتمسوا العزة والمنعة والنصرة من عند الله الذي له العزة والمنعة، الذي يعز من يشاء ويذل من يشاء، فيعزهم ويمنعهم؟»38.

هذا وقد نهى الله سبحانه وتعالى المؤمنين عن الهوان والحزن، ووصفهم بأنهم هم الأعلون، فقال: ( ) [آل عمران:١٣٩].

ففي هذه الآية أدب قرآني عظيم حيث حث الله تعالى المؤمنين المجاهدين الصابرين على عدم الهوان والاستسلام الذي ينافي العزة ويقابلها، فقد أمرهم بالثبات على عزتهم؛ لتبقى العزة ملازمة لهم، لا تنفك عنهم حتى ولو في أحلك الظروف، كما أمرهم بحسن الظن بالله تعالى، والتوكل عليه والثقة بنصره، قال الرازي: «كأنه قال إذا بحثتم عن أحوال القرون الماضية علمتم أن أهل الباطل وإن اتفقت لهم الصولة، لكن كان مآل الأمر إلى الضعف والفتور، وصارت دولة أهل الحق عالية، وصولة أهل الباطل مندرسة، فلا ينبغي أن تصير صولة الكفار عليكم يوم أحد سببًا لضعف قلبكم ولجبنكم وعجزكم؛ بل يجب أن يقوى قلبكم، فإن الاستعلاء سيحصل لكم والقوة والدولة راجعة إليكم»39.

ومن خلال هذا يظهر أن العزة خلق من أخلاق المؤمنين، وقد عبر الله تعالى عنها في الآية الأخيرة بالجملة الاسمية ( ) الدالة على الثبات والاستقرار، وعليه فيجب على المؤمنين الثبات على ما هم عليه من العزة، وعدم التخلي عنها في أي ظرف من الظروف سواء في الحرب أو السلم، في الفرح أو الحزن، في السراء أو الضراء، فالله تعالى يربيهم على معاني العزة، ويغرسها في قلوبهم.

ثالثًا:حسن عاقبة من اعتز بالله ودينه:

يقول الله عز وجل: ( ﯤﯥ ﯬﯭ ﯳﯴ ) [فاطر:١٠].

وقد وردت أقوال عديدة في معنى الآية، وأولاها بالصواب وأرجحها-كما ذكر الطبري-40 أن من كان يريد العزة ويبحث عنها ويطلبها، فليتعزز بالله عز وجل، فلله تعالى العزة جميعًا دون كل ما دونه من الأوثان والأصنام، وفيها تنبيهٌ لذوي الأقدار والهمم العالية من أين تنال العزة، ومن أي جهة تطلب؟41.

ثم بين الله تعالى أن الكلام الطيب من ذكرٍ لله تعالى، أو أمر بالمعروف ونهي عن المنكر، وتلاوة قرآن، وغير ذلك يصعد إلى الله عز وجل فيقبله، والعمل الصالح يرفع الكلم الطيب؛ وذلك لأن العمل الصالح لا يقبل إلا مع التوحيد والإيمان، بالإضافة إلى أن العمل الصالح يرفع صاحبه الذي أراد العزة من الله تعالى42.

قال القرطبي: «فمن طلب العزة من الله وصدقه في طلبها بافتقارٍ وذلٍ، وسكونٍ وخضوعٍ، وجدها عنده إن شاء الله غير ممنوعةٍ ولا محجوبةٍ عنه، قال صلى الله عليه وسلم: (من تواضع لله رفعه الله)43 ومن اعتز بالله أعزه الله»44.

ولذلك اقتضت حكمة الله تعالى أن من اعتز بالله تعالى، واعتز برسوله صلى الله عليه وسلم، وبدين الإسلام، أعزه الله جل جلاله، ولهذا السبب حصر الله تعالى العزة الحقيقية في كونها لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين.

قال ابن عاشور: «والمعنى: إن كان الأعز يخرج الأذل فإن المؤمنين هم الفريق الأعز، وعزتهم بكون الرسول صلى الله عليه وسلم فيهم وبتأييد الله رسوله صلى الله عليه وسلم وأولياءه؛ لأن عزة الله هي العزة الحق المطلقة، وعزة غيره ناقصةٌ، فلا جرم أن أولياء الله هم الذين لا يقهرون إذا أراد الله نصرهم ووعدهم به. فإن كان إخراجٌ من المدينة فإنما يخرج منها أنتم يا أهل النفاق»45.

ويخلص من هذا إلى أنه إذا كانت العزة لله تعالى وحده، فإنه سبحانه يهبها لعباده المؤمنين، وأوليائه الصادقين، وقد استمدوا هذه العزة من الله جل جلاله، فيعزهم الله تعالى في الدنيا والآخرة، فيغفر لهم ذنوبهم، ويكفر عنهم سيئاتهم، ويرفع قدرهم وشأنهم، ويقبل أعمالهم الصالحة ويثيبهم عليها خير الثواب، وينزلهم الدرجات العلا من الجنة، وفي هذا المعنى قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «إنا كنا أذل قوم فأعزنا الله بالإسلام، فمهما نطلب العزة بغير ما أعزنا الله أذلنا الله»46.

رابعًا: بيان سوء عاقبة من أخذته العزة بغير الحق:

اقتضت حكمة الله جل جلاله أن من طلب العزة في غير جانب الله تعالى أذله الله تعالى؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن حقًّا على الله أن لا يرفع شيئًا من الدنيا إلا وضعه)47.

فمن اعتز بالكفار أذله الله تعالى، وأذاقه الذلة والصغار على أيديهم، وفي هذا المعنى قال الزمخشري: «المذلة والهوان للشيطان وذويه من الكافرين والمنافقين»48.

هذا في الدنيا، أما في الآخرة فسوف يصليه الله تعالى جهنم وساءت مصيرًا.

يقول الله عز وجل: ( ﮘﮙ ﮛﮜ ) [البقرة:٢٠٦].

فهذه الآية في ذكر وصف من أوصاف المنافق الذي يظهر خلاف ما يبطن، فإذا نصحه إنسان فقال له: اتق الله، أخذته الحمية الجاهلية، والعزة الشيطانية على ارتكاب الإثم والحرام، فتمادى في غيه وضلاله؛ لأنه ينفر من الصلاح والمصلحين، فبين الله تعالى أن مثل هذا يكفيه عذاب جهنم، فهي مأواه ومهاده، ولبئس المهاد مهاده، بسبب سوء عمله في الدنيا، وسوء خداعه وحاله49.

وتاريخ الأمم السابقة ومصارعها شاهد على أن من يغالب الله جل جلاله يغلب، وأن من اعتز بغير الله تعالى ذل وهان، فقد اعتزت تلك الأمم بقوتها التي منحها الله عز وجل إياها، فبدلًا من أن يشكروا الله تعالى على هذه النعم جحدوا مانحها، واعتزوا بهذه النعم بدلًا من المنعم.

وقد وضح الله عز وجل السبب في اتخاذ المشركين الأصنام والأوثان آلهة يعبدونها من دون الله تعالى، فقال: ( ﭼﭽ ﭿ ) [مريم:٨١-٨٢].

أي: ليكونوا لهم أنصارًا وشفعاء ينقذونهم من عذاب الله تعالى في الآخرة، فزعمهم هذا ما هو إلا كذب وافتراء على الله عز وجل، ثم زجرهم الله تعالى رادعًا إياهم عن ذلك الظن الفاسد بأنه ليس الأمر كما زعموا؛ بل ستكون هذه المعبودات ضدًّا وأعوانًا عليكم في خصومتكم وتكذيبكم فيما زعمتم، ومن ثم التبرؤ منكم50.

ولذلك أنكر الله سبحانه وتعالى عليهم اتخاذهم الأصنام لأجل العزة، فقال: ( ﯜﯝ ) [النساء:١٣٩].

ويوم القيامة يأمرهم بقوله عز وجل: ( ﮛﮜ ﮝﮞ ) [سبأ:٢٧].

وهكذا تظهر سوء عاقبة من اعتز بغير الله تعالى، وأنها عزة واهية باطلة لا حقيقة لها لا في الدنيا ولا في الآخرة.

أنواع العزة ومقوماتها

إن الحديث عن أنواع العزة ومقوماتها يظهر من خلال التعرف على العزة المحمودة ومقوماتها، وكذلك على العزة المذمومة ودوافعها، وتفصيل ذلك فيما يأتي:

أولًا: العزة المحمودة ومقوماتها:

تظهر أنواع العزة المحمودة في القرآن الكريم من خلال النقاط الآتية:

١. العزة لله عز وجل جميعًا.

ذكرنا سابقًا أن من معاني العزة القلة والندرة، فمقومات العزة لله جل جلاله قد تفرد بها دون غيره، وليست لأحد سواه، ومن الأمثلة على هذه المقومات التي ذكرها الله تعالى في كتابه العزيز:


1 انظر: مقاييس اللغة، ابن فارس ٤/٤١، لسان العرب، ابن منظور ٥/٣٧٤.

2 المفردات ص٥٦٣.

3 مقاليد العلوم في الحدود والرسوم، السيوطي ص٢٠٣.

4 انظر: الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ١٨/١٢٩.

5 العزة مصادرها، أسبابها، مواقف وأحداث ص٥.

6 انظر: المعجم المفهرس الشامل لألفاظ القرآن الكريم، عبد الله جلغوم، باب الظاء، ص٧٦٢-٧٦٤.

7 انظر: الوجوه والنظائر، الدامغاني، ص٣٣٣-٣٣٤، نزهة الأعين النواظر، ابن الجوزي، ص٤٣٤-٤٣٦.

8 انظر: لسان العرب، ابن منظور ١٥/٢٠٧.

9 المفردات ص٦٩٣.

10 مقاليد العلوم في الحدود والرسوم ص ١٧٦.

11 مقاييس اللغة ٣/١٧٩.

12 التوقيف على مهمات التعاريف ص ٢٠٢.

13 انظر: الفروق اللغوية، أبو هلال العسكري ص٢٩٧.

14 انظر: مقاييس اللغة، ابن فارس ٤/٣٨٨.

15 المفردات ص٦١١.

16 انظر: المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية ص٣٦٠.

17 التوقيف على مهمات التعاريف ص ١٧٩.

18 انظر: تفسير أسماء الله الحسنى ص٣٤.

19 المقصد الأسنى ص٧٣.

20 تفسير أسماء الله الحسنى ص٢١٤.

21 انظر: جامع البيان، الطبري ١٥/١٤٢.

22 انظر: تأويلات أهل السنة، الماتريدي ٨/٤٧٣.

23 انظر: الكشاف، الزمخشري ٤/٦٩.

24 إرشاد العقل السليم، أبو السعود ٢/٥.

25 انظر: أيسر التفاسير، أبو بكر الجزائري ٣/١٢٩.

26 انظر: التفسير الحديث، محمد عزت دروزة ٣/٢٤٣.

27 انظر: التفسير الميسر، مجمع الملك فهد ص٤٢٨.

28 انظر: تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص٦٩٥.

29 انظر: التحرير والتنوير، ابن عاشور ٢٣/٢١٥.

30 انظر: تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص٧١٦.

31 التفسير المنير، الزحيلي ٢٢/٢٦٠ بتصرف.

32 انظر: فتح القدير، الشوكاني ٣/٥٥٥.

33 انظر: تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص٢٣٥.

34 أضواء البيان ١/٤١٥.

35 انظر: صفوة التفاسير، الصابوني ٣/٢١١.

36 إرشاد العقل السليم ٨/١١٤.

37 انظر: مراح لبيد، محمد الجاوي ٢/٥٣١.

38 جامع البيان ٩/٣١٩.

39 مفاتيح الغيب ٩/٣٧١.

40 انظر: جامع البيان ٢٠/٤٤٤.

41 فتح القدير، الشوكاني ٤/٣٩١، بتصرف.

42 انظر: المصدر السابق.

43 أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء، عن أبي هريرة، ٨/٤٦.

وصححه الألباني في صحيح الجامع، رقم ٦١٦٢، ٢/١٠٦١.

44 الجامع لأحكام القرآن ١٤/٣٢٨.

45 التحرير والتنوير ٢٨/٢٤٩.

46 أخرجه الحاكم في مستدركه، رقم ٢٠٧، ١/١٣٠.

قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.

47 أخرجه البخاري في صحيحه، رقم ٦٥٠١، عن أنس، كتاب الرقاق، باب التواضع، ٨/١٠٥.

48 الكشاف ٤/٥٤٣.

49 انظر: التفسير المنير، الزحيلي ٢/٢٢٩.

50 انظر: أضواء البيان، الشنقيطي ٣/٥٠٩.

51 انظر: تفسير المراغي ٧/١٩٧.

52 أخرجه أحمد في مسنده، رقم ١٨٤٢، ٣/٣٤٧.

وصححه الألباني في تعليقه على مشكاة المصابيح، رقم ٥٧٣٨، ٣/١٥٩٩.

53 انظر: أيسر التفاسير، أبو بكر الجزائري ١/٢٥٢.

54 انظر: الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٤/٧.

55 انظر: نظم الدرر، البقاعي ٨/٣١٨.

56 انظر: تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص٤٢١.

57 انظر: إرشاد العقل السليم، أبو السعود ٦/٢٢٩.

58 انظر: فتح القدير، الشوكاني ٤/٣٨٨.

59 انظر: فتح البيان، صديق خان ١٢/٢٩١.

60 انظر: تفسير القرآن، السمعاني ٤/٤٥٧.

61 جامع البيان ٢١/٤٧٩.

62 انظر: المصدر السابق ٢١/٤٨٠.

63 انظر: لباب التأويل، الخازن ٤/٣٠٠.

64 انظر: معالم التنزيل، البغوي ٨/١٣٣، زاد المسير، ابن القيم ٤/٢٨٩.

65 انظر: أوضح التفاسير، محمد الخطيب ص٤٠٦.

66 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الإيمان، باب حلاوة الإيمان، ١/١٢، رقم ١٦.

67 انظر: تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٧/٥١.

68 السيرة النبوية ٤/٢٥٣ بتلخيص.

69 انظر: جامع البيان، الطبري ٤/٢٤٤.

70 انظر: مدارك التنزيل، النسفي ٢/٧٩.

71 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الجنائز، باب التشديد في النياحة، ٢/٦٤٤، رقم ٩٣٤.

72 في ظلال القرآن، سيد قطب ٤/١٩٢٢.

73 تفسير القرآن العظيم ٥/١٥٧.

74 انظر: محاسن التأويل، القاسمي ٧/٥٣٦.

75 في ظلال القرآن ٥/٢٧١١.

76 انظر: تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص٥٩١.

77 تفسير الشعراوي ١٧/١٠٥٦٧.

78 تيسير الكريم الرحمن ص٣٢٢.

79 انظر: فقه السيرة، البوطي ص١٨٥.

80 انظر: جامع البيان، الطبري ١٤/٥٨.

81 تيسير الكريم الرحمن ص٣٢٦.

82 المصدر السابق ص٢٠٩.

83 انظر: جامع البيان، الطبري ١٩/٤٩٥.

84 تيسير الكريم الرحمن ص ٦٧٥.

85 انظر: جامع البيان، الطبري ١٤/٣٤٧، تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص٣٤٣.

86 في ظلال القرآن ٣/١٦٧٥.

87 التفسير المنير ٢٧/٣٣٣.

88 أخرجه أحمد في مسنده، رقم ٥١١٤، ٩/١٢٣.

وصححه الألباني في تخريج مشكلة الفقر رقم ٢٤، ص٢٥.

89 انظر: أيسر التفاسير، الجزائري ٥/٩٥.

90 انظر: فتح القدير، الشوكاني ٢/٤٣٥.

91 انظر: مفاتيح الغيب، الرازي ٢٥/١١٦.

92 انظر: الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٣/٢٣.

93 انظر: الجامع لأحكام القرآن ٣/٢٣.

94 انظر: فقه السيرة، البوطي ص٢١٦.

95 انظر: لباب التأويل، الخازن ٣/٤١٩.

96 انظر: التفسير المظهري، محمد ثناء الله المظهري ٩/٤٤٢.

97 انظر: تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص١٢١.

98 انظر: تفسير المراغي ٥/٦٨.

99 انظر: التحرير والتنوير، ابن عاشور ٥/٩٠.

100 انظر: تفسير السمرقندي ٢/٣٨٥.

101 انظر: تأويلات أهل السنة، الماتريدي ٨/٢١٩.