عناصر الموضوع
التعريف بمحمد صلى الله عليه وسلم
ذكر محمد عليه السلام في القرآن الكريم
أوصاف نودي بها النبي في القرآن
صفته عليه السلام في الكتب السابقة
صفة محمد عليه السلام في القرآن
محمد صلى الله عليه وسلم
التعريف بمحمد صلى الله عليه وسلم
أولًا: اسمه ونسبه:
هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب -واسم عبد المطلب: شيبة - بن هاشم - واسم هاشم: عمرو - بن عبد مناف - واسم عبد مناف: المغيرة - بن قصي -واسم قصي زيد- بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة - واسم مدركة: عامر - بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان 1.
واسم (محمد) «منقول من صفة، وهي في معنى محمود، ولكن فيه معنى المبالغة والتكرار. فالمحمد هو الذي حمد مرة بعد مرة. كما أن المكرم من الكرم مرة بعد مرة. وكذلك الممدح ونحو ذلك. فاسم محمد مطابق لمعناه، والله سبحانه سماه قبل أن يسمي به نفسه. فهذا علم من أعلام نبوته، إذ كان اسمه صادقًا عليه، فهو محمود في الدنيا لما هدى إليه ونفع به من العلم والحكمة. وهو محمود في الآخرة بالشفاعة. فقد تكرر معنى الحمد كما يقتضي اللفظ»2.
«وأحمد اسم نبينا صلى الله عليه وسلم. وهو اسم علم منقول من صفة لا من فعل، فتلك الصفة أفعل التي يراد بها التفضيل. فمعنى أحمد أي: أحمد الحامدين لربه. والأنبياء صلوات الله عليهم كلهم حامدون الله، ونبينا أحمد أكثرهم حمدًا »3.
وقيل: إنه « مبالغة في المفعول، أي: الأنبياء كلهم محمودون لما فيهم من الخصال الحميدة وهو أكثرهم مبالغة وأجمع للفضائل والمحاسن التي يحمد بها»4.
«ثم إنه لم يكن محمدًا حتى كان أحمد، حمد ربه فنبأه وشرفه؛ فلذلك تقدم اسم أحمد على الاسم الذي هو محمد فذكره عيسى عليه السلام فقال: اسمه أحمد. وذكره موسى عليه السلام حين قال له ربه: تلك أمة أحمد، فقال: اللهم اجعلني من أمة أحمد. فبأحمد ذكره قبل أن يذكره بمحمد؛ لأن حمده لربه كان قبل حمد الناس له. فلما وجد وبعث كان محمدًا بالفعل»5.
وعن جبير بن مطعم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن لي خمسة أسماء: أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر وأنا العاقب والعاقب الذي ليس بعده نبي)6.
وعن أبي موسى الأشعري قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمي لنا نفسه أسماء، فقال: (أنا محمد، وأحمد، والمقفي، والحاشر، ونبي التوبة، ونبي الملحمة)7.
ويعود نسبه الشريف إلى إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام.
وهو من قبيلة قريش، أفضل العرب وأشرفها.
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله عز وجل اصطفى بني كنانة من بني إسماعيل، واصطفى من بني كنانة قريشًا، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم)8.
وأم رسول الله صلى الله عليه وسلم التي ولدته: آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة ابن كلاب.
وأم رسول الله صلى الله عليه وسلم التي أرضعته حتى شب: حليمة بنت الحارث بن سجنة السعدية. من بني سعد بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس عيلان، بن مضر9.
ومات أبوه عبد اللَه بن عبد المطلب -ورسول اللَه صلى اللَه عليه وسلم حمل في بطن أمه- بالمدينة 10.
ثانيًا: زمانه ومكانه:
ولد صلى الله عليه وسلم في مكة، عام الفيل، يوم الاثنين، في شهر ربيع الأول، واختلف في تحديد تاريخه11. وبعث صلى الله عليه وسلم وعمره أربعون سنة.
ذكر محمد عليه السلام في القرآن الكريم
ورد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم باسم (محمد) في القرآن الكريم (٤) مرات، في (٤) سور، وهي:
السورة |
الآيات |
آل عمران |
١٤٤ |
الأحزاب |
٤٠ |
محمد |
٢ |
الفتح |
٢٩ |
وهناك موضع خامس: عدل فيه إلى اسم أحمد بسبب وقوعه في سياق الإخبار عن بشرى عيسى عليه السلام ببعثته عليه الصلاة والسلام (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ) [الصف:٦].
أوصاف نودي بها النبي في القرآن
كل نداء نودي محمد صلى الله عليه وسلم في القرآن الكريم كان بأوصاف، لا باسمه الشريف.
ومن تلك الأوصاف:
إن أكثر ما يدعى به محمد صلى الله عليه وسلم في القرآن الكريم النبي والرسول، مثال ذلك قوله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ) [الطلاق:١].
وقوله: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ) [التحريم:١].
وقوله: (ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ) [المائدة:٦٧].
وتعلن هاتان الصفتان عن منزلة التكريم التي يمتدح الله بها نبيه صلى الله عليه وسلم ويشهد له بها: (ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔﮕ ﮖ ﮗﮘ ﮙ ﮚﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ) [النساء:١٦٦].
وقد وقع العدول في هذه الآيات ونحوها عن مناداته صلى الله عليه وسلم باسمه إلى مناداته بوصفي «النبي» و «الرسول» بغرض التكريم وبيان رفعة المنزلة، وذلك أن «الأصل في النداء أن يكون باسم المنادى العلم إذا كان معروفًا عند المتكلم، فلا يعدل من الاسم العلم إلى غيره من وصف أو إضافة إلا لغرض يقصده البلغاء من تعظيم وتكريم نحو: (ﭶ ﭷ) [الأنفال:٦٤].
أو تلطف وتقرب نحو: يا بني ويا أبت، أو قصد تهكم نحو: (ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ) [الحجر:٦]»12.
فأما لفظ (النبي) فهو مشتق من (نبأ) أو (أنبأ) بمعنى: أخبر13.
والنبوة: « سفارة بين الله وبين ذوي العقول؛ لإزاحة عللهم فى أمر معادهم ومعاشهم»14.
«والنبي: من أوحى الله إليه بإصلاح أمر قوم بحملهم على شريعة سابقة، أو بإرشادهم إلى ما هو مستقر في الشرائع كلها»15.
وأما الرسول فـ: « هو الرجل المبعوث من الله إلى الناس بشريعة، فالنبي أعم من الرسول»16، وكلاهما صفة مدح وتشريف في حق محمد صلى الله عليه وسلم.
ولإن كانت صفتا (النبي) و(الرسول) أكثر صفتين يدعى بهما في القرآن الكريم، فإنهما الصفتان اللتان يوصف بهما عليه الصلاة والسلام للناس في سياق الحث على الإيمان به: (ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ) [النساء:١٧٠].
وعلى الإقرار بالحق الذي جاء به: (ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ) [المائدة:١٥].
وعلى طاعته: (ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ) [النساء:٥٩].
وعلى اتباعه وترك التقدم بين يديه: (ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖﮗ ﮘ ﮙﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ) [الحجرات:١].
وعلى توقيره ومعرفة قدره: (ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ) [الحجرات:٢].
وعلى ترك ما يؤذيه: (ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ) [الأحزاب:٥٣] ونحو ذلك بمعنى: قد وجب ذلك له؛ لأنه نبي الله ورسوله.
كما نسبه الله عز وجل إلى ذاته العلية رفعًا لشأنه وتعظيما لمقامه: (ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ) [المائدة:٩٢].
(ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ) [الأحزاب:٤٠].
(ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ) [التوبة:٦١].
وهذه نسبة تشريف، ورفع لقدره، ودلالة على مقامه، حتى اختصه الله بخلته، وقرن اسمه باسمه عليه الصلاة والسلام.
ومن الأسماء التي دعي بها محمد صلى الله عليه وسلم في القرآن الكريم:
(المزمل) في قوله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ) [المزمل:١-٢].
وتعني: « الملتف في ثيابه، وأصله المتزمل فأدغمت التاء في الزاي، فثقلت. وكل من التف بثوبه فقد تزمل»17.
(المدثر) في قوله تعالى: (ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ) [المدثر:١-٢].
وأصله أيضًا: « المتدثر، فأدغمت التاء، كما في المتزمل، وهذا في قول الجمهور؛ من التدثير بالثياب. وقيل: المعنى: يا أيها المدثر بالنبوة، وأثقالها، قال عكرمة: دثرت هذا الأمر فقم به »18.
ولهذين الاسمين ارتباط بما روى البخاري في كتاب التفسير من حديث جابر عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال:(جاورت بحراء، فلما قضيت جواري هبطت فنوديت، فنظرت عن يميني فلم أر شيئًا، ونظرت عن شمالي فلم أر شيئًا، ونظرت أمامي فلم أر شيئًا، ونظرت خلفي فلم أر شيئًا، فرفعت رأسي فرأيت شيئًا، فأتيت خديجة فقلت: دثروني وصبوا علي ماءً باردًا. قال: فدثروني وصبوا علي ماءً باردًا. قال: فنزلت (ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ) [المدثر:١-٣].)19.
ولأن الحديث نص على أن الواقعة نزلت بسببها سورة المدثر، فقد ذكرها الإمام البخاري سببا لنزولها وحدها دون آيات سورة المزمل، وإن كان الحديث قد تضمن لفظ «زملوني» وكذلك فعل مشاهير المفسرين20، ثم ذكروا في سبب تسميته صلى الله عليه وسلم بالمزمل أوجهًا.
قال ابن الجوزي: «قال المفسرون: وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتزمل في ثيابه في أول ما جاء جبريل فرقًا منه حتى أنس به. وقال السدي: كان قد تزمل للنوم. وقال مقاتل: خرج من البيت وقد لبس ثيابه، فناداه جبريل: يا أيها المزمل. وقيل: أريد به متزمل النبوة. قال عكرمة: في معنى هذه الآية: زملت هذا الأمر، فقم به»21.
والمتأمل لهذه الأقوال يجد أن بعضها حمل اللفظ على ظاهره، ويحتاج عند ذلك إلى الاستناد على واقعة تنقل من طريق الرواية، وهي أن يكون قد تزمل في ثيابه في أول ما جاء جبريل خوفًا منه حتى أنس به، أو أن يكون قد تزمل للنوم، أو أن يكون قد خرج من البيت وقد لبس ثيابه، فناداه جبريل: يا أيها المزمل. وأما باقي الأقوال فقد عدل عن الظاهر فقيل: أراد متزمل النبوة، أو زملت هذا الأمر، فقم به.
قال ابن العربي: « واختلف في تأويله، فمنهم من حمله على حقيقته، قيل له: يا من تلفف في ثيابه أو في قطيفته قم، قاله إبراهيم وقتادة.
ومنهم من حمله على المجاز كأنه قيل له: يا من تزمل بالنبوة. روي عن عكرمة أنه قال: معناه يا من تزمل، أي: زملت هذا الأمر فقم به »22.
ثم قال: « فأما العدول عن الحقيقة إلى المجاز فلا يحتاج إليه لاسيما وفيه خلاف الظاهر؛ وإذا تعاضدت الحقيقة والظاهر لم يجز العدول عنه.
وأما قول عكرمة: إنك زملت هذا الأمر فقم به؛ وإنما يسوغ هذا التفسير لو كانت الميم مفتوحة مشددة بصيغة المفعول الذي لم يسم فاعله، وأما وهو بلفظ الفاعل فهو باطل.
وأما قول من قال: إنه زمل بالقرآن فهو صحيح في المجاز، لكنه كما قدمنا لا يحتاج إليه23.
وهذا النداء كما عدل فيه عن مناداته صلى الله عليه وسلم باسمه، فقد عدل فيه عن مناداته بـ «النبي» و «الرسول».
فأما العدول فيه عن وصف النبي والرسول، فـقيل في سببه: « إنما لم يخاطب بالنبي والرسول هاهنا، لأنه لم يكن قد بلغ، وإنما كان في بدء الوحي »24.
وفيه ملاطفة للنبي صلى الله عليه وسلم، كما فيه تنشيط لمن حاله النوم كي يقوم للعبادة، قال القرطبي: « وفي خطابه بهذا الاسم فائدتان:
إحداهما: الملاطفة، فإن العرب إذا قصدت ملاطفة المخاطب وترك المعاتبة سموه باسم مشتق من حالته التي هو عليها، كقول النبي صلى الله عليه وسلم لعلي حين غاضب فاطمة رضي الله عنهما، فأتاه وهو نائم وقد لصق بجنبه التراب فقال له:(قم يا أبا تراب) إشعارًا له أنه غير عاتب عليه، وملاطفة له. وكذلك قوله عليه السلام لحذيفة: (قم يا نومان) وكان نائمًا ملاطفة له، وإشعارًا لترك العتب والتأنيب. فقول الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم: « يا أيها المزمل قم » فيه تأنيس وملاطفة؛ ليستشعر أنه غير عاتب عليه.
والفائدة الثانية: التنبيه لكل متزمل راقد ليله ليتنبه إلى قيام الليل وذكر الله تعالى فيه؛ لأن الاسم المشتق من الفعل يشترك فيه مع المخاطب كل من عمل ذلك العمل واتصف بتلك الصفة»25.
ولعل في الوصفين تنبيها إلى الحال التي صار إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم أول ما أوحى الله إليه، بسبب أنه لم يكن قد توقع نزول الوحي عليه ولا رجاه أو طلبه، والله أعلم.
كما أن فيها تنبيها على رأفة الله به وحمله على القيام برسالته على جهة التأنيس والتلطف، وكل ذلك لا يخرج عن سياق الدلالة على رفعة الشأن والمقام.
وهناك صفة أخرى دلت عليه فكانت في عرف السامع كاسمه الدال عليه، وهي إذا تعلقت بمحمد صلى الله عليه وسلم اكتسبت بعد المدح له والثناء عليه، بل اكتسبت أعلى درجات المدح والتشريف، وهي صفة العبودية، كما في قوله تعالى: (ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ) [الأنفال:٤١].
وقوله: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ) [الإسراء:١] ونحوها.
فالإضافة في (عبدنا) و(عبده) «إضافة تشريف لا إضافة تعريف؛ لأن وصف العبودية لله متحقق لسائر المخلوقات فلا تفيد إضافته تعريفا »26.
قال في الجامع لأحكام القرآن: «قال العلماء: لو كان للنبي صلى الله عليه وسلم اسم أشرف منه لسماه به في تلك الحالة العلية »27 يعني: حين أسري به.
وقد « ذكروا أنه لم يعبر الله تعالى عن أحد بالعبد مضافًا إلى ضمير الغيبة المشار به إلى الهوية إلا النبي صلى الله عليه وسلم، وفي ذلك من الإشارة ما فيه»28.
كما أن في التعبير بوصف «العبودية» في هذا المقام سد لباب الغلو في نبي الله صلى الله عليه وسلم، كما فعلت النصارى مع عيسى عليه السلام29.
صفته عليه السلام في الكتب السابقة
محمد صلى الله عليه وسلم هو استجابة الله لدعوة الخليل عليه السلام أن يبعث الله في ذريته رسولًا يتلو عليهم آياته ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم، كما قص القرآن الكريم خبر دعائه حين قال: (ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ) [البقرة:١٢٨-١٢٩].
روى الحاكم عن خالد بن معدان، عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنهم قالوا: (يا رسول الله، أخبرنا عن نفسك؟ فقال: (دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى، ورأت أمي حين حملت بي أنه خرج منها نور أضاءت له بصرى، وبصرى من أرض الشام)30.
قال الشنقيطي: « قوله تعالى: (ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ)لم يبين هنا من هذه الأمة التي أجاب الله بها دعاء نبيه إبراهيم وإسماعيل، ولم يبين هنا أيضا هذا الرسول المسؤول بعثه فيهم من هو؟ ولكنه يبين في سورة الجمعة أن تلك الأمة العرب، والرسول هو سيد الرسل محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك في قوله: (ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ)[الجمعة:٢-٣]لأن الأميين العرب بالإجماع، والرسول المذكور نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إجماعًا، ولم يبعث رسول من ذرية إبراهيم وإسماعيل إلا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وحده. وثبت في الصحيح أنه هو الرسول الذي دعا به إبراهيم، ولا ينافي ذلك عموم رسالته صلى الله عليه وسلم إلى الأسود والأحمر»31.
وقد نص القرآن الكريم على أن وصف النبي صلى الله عليه وسلم مكتوب في الكتب السابقة، في قوله تعالى مخاطبا نبيه موسى عليه السلام: (ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ) [الأعراف:١٥٦-١٥٧].
وأن من أهل الكتاب قومًا عرفوا النبي صلى الله عليه وسلم بوصفه كما يعرفون أبناءهم: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ) [البقرة:١٤٦].
وهم علماؤهم الذين يقرؤون الكتاب، قال في البحر المحيط: « فقال سبحانه: الذين آتيناهم الكتاب واخترناهم لتحمل العلم والوحي، يعرفون هذا الذي خاطبناه في الآي السابقة وأمرناه ونهيناه، لا يشكون في معرفته، ولا في صدق أخباره، بما كلفناه من التكاليف التي منها نسخ بيت المقدس بالكعبة، لما في كتابهم من ذكره ونعته، والنص عليه يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل»32.
والذي يعرفونه كما يعرفون أبناءهم هو محمد صلى الله عليه وسلم «قال قتادة والسدي وابن جريج: الضمير عائد في (ﭔ) على محمد عليه السلام ورسالته، وذلك على ما في قوله: (ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ) [الأنعام:١٩].
فكأنه قال: وأهل الكتاب يعرفون ذلك من إنذاري والوحي إلي»33.
قال ابن عطية: « وتأول ابن سلام رضي الله عنه المعرفة بالابن تحقق صحة نسبه، وغرض الآية إنما هو الوقوف على صورته فلا يخطئ الأب فيها »34.
ولكن فريقًا منهم كتموا الحق الذي عرفوه واستيقنوه: (ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ)[البقرة:١٤٦] « أي: (فريقًا) من الذين آتيناهم الكتاب، وهم المصرون على الكفر والعناد من علماء اليهود والنصارى، على أحسن التفاسير في الذين آتيناهم الكتاب، وأبعد من ذهب إلى أنه أريد بهذا الفريق جهال اليهود والنصارى، الذين قيل فيهم: (ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ) [البقرة:٧٨]. للإخبار عن هذا الفريق أنهم يكتمون الحق وهم عالمون به، ولوصف الأميين هناك بأنهم لا يعلمون الكتاب إلا أماني.
والحق المكتوم هنا هو نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قاله قتادة ومجاهد، والتوجه إلى الكعبة، أو أن الكعبة هي القبلة، أو أعم من ذلك، فيندرج فيه كل حق »35.
وقد كان هذا سببًا لخسرانهم عند الله: (ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ) [الأنعام:٢٠].
فقد «قيل: أريد بهم أهل الكتاب، أي: الذين كتموا الشهادة، فيكون (ﮅ ﮆ) بدلًا من (ﭽ ﭾ ﭿ)»36.
وأما مرد هذه المعرفة فإلى أن محمدًا صلى الله عليه وسلم قد كتب وصفه في الكتب السابقة كما تقدم، ولا يضر كتمان فريق من علمائهم وصفه.
قال ابن تيمية: « ثم العلم بأن الأنبياء قبله بشروا به يعلم من وجوه:
أحدها: ما في الكتب الموجودة اليوم بأيدي أهل الكتاب من ذكره.
الثاني: إخبار من وقف على تلك الكتب وغيرها من كتب أهل الكتاب ممن أسلم ومن لم يسلم بما وجدوه من ذكره فيها.
وهذا مثل ما تواتر عن الأنصار أن جيرانهم من أهل الكتاب كانوا يخبرون بمبعثه، وأنه رسول الله؛ وأنه موجود عندهم، وكان هذا من أعظم ما دعا الأنصار إلى الإيمان به لما دعاهم إلى الإسلام، حتى آمن الأنصار به وبايعوه من غير رهبة ولا رغبة. ولهذا قيل: إن المدينة فتحت بالقرآن لم تفتح بالسيف كما فتح غيرها»37.
ويضاف إلى هذا النوع الثاني الذي نص عليه ابن تيمية أمور:
أحدها: ما اشتهر عن خلق كثير من علماء أهل الكتاب ابتداء من عبد الله بن سلام رضي الله عنه وإلى عصرنا هذا، بل وإلى يوم القيامة، من وجدانهم أوصاف محمد صلى الله عليه وسلم وأنهم كانوا يقرؤونها في كتبهم.
والثاني: ما نقل العلماء والمفسرون من أخبار كثيرة عن أكابر أهل الكتاب وعلمائهم الذين شهدوا بالحق حتى وإن لم يتبعوه، من نحو خبر قيصر مع أبي سفيان، ومعرفته النبي صلى الله عليه وسلم، حتى هم أن يسلم ثم نكص لما عارضته حاشيته38.
ومنها خبر الفتى اليهودي الذي حضر النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وفاته وشهادته بالحق قبل أن يموت39.
ومنها أثر هشام بن العاص حين أرسل إلى هرقل فأراه صور الأنبياء وصورة النبي صلى الله عليه وسلم40، وأثر جبير بن مطعم حين خرج تاجرًا إلى الشام فأراه رجل صورته عليه الصلاة والسلام41، وحديث الأقرع مؤذن عمر في سؤال عمر رضي الله عنه للأسقف عما في كتابهم وإخباره له بصفته42.
والثالث: كثير من الأخبار التي تتلى في كتب أهل الكتاب وفيها صفته صلى الله عليه وسلم، نحو ما نقل عطاء بن يسار عن عبد الله بن عمرو -وكان يحدث من كتب السابقين وأصاب في إحدى الغزوات صحيفة فكان يحدث منها- من أن صفة النبي صلى الله عليه وسلم « في التوراة كصفته في القرآن: يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدًا ومبشرًا ونذيرًا، وحرزًا للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، ليس بفظٍ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح، ولن نقبضه حتى نقيم به الملة العوجاء، بأن يقولوا: «لا إله إلا الله»، فنفتح به قلوبًا غلفًا، وآذانًا صمًا، وأعينًا عميًا« قال عطاء -وكان سأل عبد الله بن عمرو: ثم لقيت كعبًا فسألته عن ذلك، فما اختلفا حرفًا، إلا أن كعبًا قال بلغته: قلوبًا غلوفيا، وآذانًا صموميا، وأعينًا عموميا»43.
ومن ذلك ما أخرج الحافظ ابن عساكر الدمشقي عن سهل مولى غنيمة أنه كان نصرانيًا من أهل مريس، وأنه كان يتيمًا في حجر أمه وعمه، وأنه كان يقرأ التوراة والإنجيل، قال: فأخذت مصحفًا لعمي فقرأته حتى مرت بي ورقة أنكرت كتابتها حين مرت بي ومسستها بيدي، قال: فنظرت فإذا أصول الورقة ملصوقة بغراء، قال: ففتقتها فوجدت فيها نعت محمد عليه الصلاة والسلام: «أنه لا قصير ولا طويل، أبيض ذو صفرة، من بين كتفيه خاتم، يكثر الاحتباء، ولا يقبل الصدقة، ويركب الحمار والبعير، ويحتلب الشاة، ويلبس قميصًا مرقوعًا، ومن فعل ذلك فقد برئ من الكبر، وهو يفعل ذلك وهو من ذرية إسماعيل اسمه أحمد»44.
ومن ذلك، ما أخرجه البيهقي في الدلائل عن وهب بن منبه قال: «إن الله تعالى أوحى في الزبور يا داود، إنه سيأتي من بعدك نبي اسمه أحمد ومحمد، لا أغضب عليه أبدًا، ولا يعصيني أبدًا، وقد غفرت له قبل أن يعصيني ما تقدم من ذنبه وما تأخر.
وأمته مرحومة أعطيتهم من النوافل مثل ما أعطيت الأنبياء، وافترضت عليهم الفرائض التي افترضت على الأنبياء والرسل، حتى يأتوني يوم القيامة ونورهم مثل نور الأنبياء.
وذلك أني افترضت عليهم أن يتطهروا إلى كل صلاة كما افترضت على الأنبياء قبلهم، وأمرتهم بالغسل من الجنابة كما أمرت الأنبياء قبلهم، وأمرتهم بالحج كما أمرت الأنبياء قبلهم، وأمرتهم بالجهاد كما أمرت الرسل قبلهم.
يا داود إني فضلت محمدًا وأمته على الأمم كلهم، أعطيتهم ست خصال لم أعطها غيرهم من الأمم:
وهذه الأخبار ونحوها وإن كانت قد رويت من طريق من أسلموا، أو من طريق مسلمين اطلعوا على كتب اليهود والنصارى، فليس ذلك قدحًا ولا طعنًا فيها؛ لأن أقل ما يقال لمن يعترض عليها: إن كان في كون رواتها مسلمين مطعن عليها، ففي كون المنكرين لها غير مسلمين مطعن في إنكارهم، وليس لهم أن يقولوا: إننا لا نجد في كتبنا ما نص عليه القرآن من تبشير الأنبياء به. قال ابن تيمية: «فإذا قال المعارض: عدم إخبار من قبله به يقدح في نبوته، وأنه إذا قدر أنه لم يخبر به من قبله -والإخبار شرط في النبوة- كان ذلك قدحا. قيل: الجواب هنا من طريقين:
أحدهما: أن يقال: إذا علمت نبوته بما قام عليها من أعلام النبوة فإما أن يكون تبشير من قبله لازمًا لنبوته واجبًا أو واقعًا، وإما أن لا يكون لازمًا؛ فإن لم يكن لازمًا لم يجب وقوعه، وإن كان لازمًا عُلِمَ أنه قد وقع وإن كان ذلك لم ينقل إلينا؛ إذ ليس كل ما قالته الأنبياء المتقدمون علمناه ووصل إلينا، وليس كل ما أخبر به المسيح ومن قبله من الأنبياء وصل إلينا، وهذا مما يعلم بالاضطرار.
ولو قدر أن هذا ليس في الكتب الموجودة لم يلزم أن المسيح ومن قبله لم يذكروه، بل يمكن أنهم ذكروه وما نقل، ويمكن أنه كان في كتب غير هذه، ويمكن أنه كان في نسخ غير هذه النسخ فأزيل من بعضها ونسخت هذه مما أزيل منه، وتكون تلك النسخ التي هو موجود فيها غير هذه، فكل هذا ممكن في العادة لا يمكن الجزم بنفيه. فلو قدر أنه ليس في هذه الكتب الموجودة اليوم بأيدي أهل الكتاب لم يقطع بأن الأنبياء لم يبشروا به، فإذا لم يمكن لليهود أن يقطعوا بأن المسيح لم يبشر به الأنبياء، ولا يمكن أهل الكتاب أن يقطعوا بأن محمدًا لم يبشر به الأنبياء، لم يكن معهم علم بعدم ذلك، بل غاية ما يكون عند أحدهم ظن لكونه طلب ذلك فلم يجده »46.
الرابع: أن كثيرا من هذه الأخبار ما زالت تتلى في كتب النصارى إلى اليوم، وإن كانوا يتأولونها على غير ما يقول المسلمون فيها، وقد أورد الرازي في تفسيره « بعض ما جاء به عيسى عليه السلام بمقدم سيدنا محمد عليه السلام في الإنجيل
أولها: في الإصحاح الرابع عشر من إنجيل يوحنا هكذا: «و أنا أطلب لكم إلى أبي حتى يمنحكم، ويعطيكم الفارقليط حتى يكون معكم إلى الأبد، والفارقليط هو روح الحق اليقين» هذا لفظ الإنجيل المنقول إلى العربي، وذكر في الإصحاح الخامس عشر هذا اللفظ: «و أما الفارقليط روح القدس يرسله أبي باسمي، ويعلمكم ويمنحكم جميع الأشياء، وهو يذكركم ما قلت لكم» ثم ذكر بعد ذلك بقليل: «وإني قد خبرتكم بهذا قبل أن يكون حتى إذا كان ذلك تؤمنون».
وثانيها: ذكر في الإصحاح السادس عشر هكذا: «و لكن أقول لكم الآن حقًا يقينا: انطلاقي عنكم خير لكم، فإن لم أنطلق عنكم إلى أبي لم يأتكم الفارقليط، وإن انطلقت أرسلته إليكم، فإذا جاء هو يفيد أهل العالم، ويدينهم ويمنحهم ويوقفهم على الخطيئة والبر والدين».
وثالثها: ذكر بعد ذلك بقليل هكذا: «فإن لي كلامًا كثيرًا أريد أن أقوله لكم، ولكن لا تقدرون على قبوله والاحتفاظ به، ولكن إذا جاء روح الحق إليكم يلهمكم ويؤيدكم بجميع الحق؛ لأنه ليس يتكلم بدعة من تلقاء نفسه» هذا ما في الإنجيل، فإن قيل: المراد بفارقليط إذا جاء يرشدهم إلى الحق ويعلمهم الشريعة وهو عيسى يجيء بعد الصلب؟
نقول: ذكر الحواريون في آخر الإنجيل أن عيسى لما جاء بعد الصلب ما ذكر شيئًا من الشريعة، وما علمهم شيئًا من الأحكام، وما لبث عندهم إلا لحظة، وما تكلم إلا قليلًا، مثل أنه قال: «أنا المسيح فلا تظنوني ميتا، بل أنا ناج عند الله ناظر إليكم، وإني ما أوحي بعد ذلك إليكم»47.
وقد نقل من تفسيرات علمائهم الذين أسلموا علمهم بدلالتها على النبي صلى الله عليه وسلم كما كتب السموأل المغربي الذي كان من أكابر أحبارهم في كتابه «بذل المجهود في إفحام اليهود»48 مثلًا.
وقد قام الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور بمقارنة بعض هذه الأخبار بما يقرأ النصارى اليوم في أناجيلهم، قال: « روى البخاري في كتاب «التفسير» من صحيحه في الكلام على سورة الفتح عن عطاء بن يسار أن عبد الله بن عمرو ابن العاص قال: «إن هذه الآية التي في القرآن: (ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ) [الأحزاب:٤٥]. قال في التوراة: يا أيها النبيء إنا أرسلناك شاهدًا ومبشرًا ونذيرًا وحرزًا للأميين، أنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق، ولا يدفع السيئة بالسيئة، ولكن يعفو ويصفح (أو ويغفر) ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا: لا إله إلا الله، ويفتح (أو فيفتح) به أعينًا عميًا وآذانًا صمًا وقلوبًا غلفًا» اهـ.
وقول عبد الله بن عمرو «في التوراة» -يعني بالتوراة: أسفار التوراة وما معها من أسفار الأنبياء إذ لا يوجد مثل ذلك فيما رأيت من الأسفار الخمسة الأصلية من التوراة- وهذا الذي حدث به عبد الله بن عمرو ورأيت مقاربه في سفر النبيء أشعياء من الكتب المعبر عنها بالتوراة تغليبا، وهي الكتب المسماة بالعهد القديم، وذلك في الإصحاح الثاني والأربعين منه بتغيير قليل (أحسب أنه من اختلاف الترجمة أو من تفسيرات بعض الأحبار وتأويلاتهم).
ففي الإصحاح الثاني والأربعين منه «هو ذا عبدي الذي أعضده مختاري الذي سرت به نفسي، وضعت روحي عليه فيخرج الحق للأمم، لا يصيح ولا يرفع ولا يسمع في الشارع صوته، قصبة مرضوضة لا تقصف، وفتيلة خامدة لا تطفأ، إلى الأمان يخرج الحق، لا يكل ولا ينكسر حتى يضع الحق في الأرض، وتنتظر الجزائر شريعته أنا الرب قد دعوتك بالبر فأمسك بيدك، وأحفظك وأجعلك عهدًا للشعب ونورًا للأمم؛ لتفتح عيون العمي؛ لتخرج من الحبس المأسورين من بيت السجن، الجالسين في الظلمة، أنا الرب هذا اسمي ومجدي لا أعطيه لآخر».
وإليك نظائر صفته التي في التوراة من صفاته في القرآن:
في سورة البقرة في ذكر الذين كفروا مقابلًا لذكر المؤمنين في قوله قبله: (ﭚ ﭛ) [البقرة:٢].
ولنذكر هنا ما في سفر أشعياء ونقحم فيه بيان مقابلة كلماته بالكلمات التي جاءت في حديث عبد الله بن عمرو.
جاء في «الإصحاح» الثاني والأربعين من سفر أشعياء: هو ذا عبدي (أنت عبدي) «الذي أعضده مختاري (ورسولي) الذي سرت به نفسي، وضعت روحي عليه فيخرج الحق للأمم لا يصيح (ليس بفظ) ولا يرفع (ولا غليظ) ولا يسمع في الشارع صوته (ولا صخاب في الأسواق) قصبة مرضوضة لا يقصف (ولا يدفع السيئة بالسيئة) وفتيلة خامدة لا تُطْفأ (يعفو ويصفح) إلى الأمان يخرج الحق (وحرزًا) لا يكل ولا ينكسر حتى يضع الحق في الأرض (ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء) وتنتظر الجزائر شريعته (للأميين) أنا الرب قد دعوتك بالبر فأمسك بيدك (سميتك المتوكل) وأحفظك (ولن يقبضه الله) وأجعلك عهدًا للشعب (أرسلناك شاهدًا) ونورا للأمم (مبشرًا) لنفتح عيون العمي (ونفتح به أعينًا عميًا) لتخرج من الحبس المأسورين من بيت السجن (وآذانًا صمًا) الجالسين في الظلمة (وقلوبًا غلفًا). أنا الرب هذا اسمي ومجدي لا أعطيه لآخر» (بأن يقولوا: لا إله إلا الله)»49.
هذا عما روي من أوصاف النبي صلى الله عليه وسلم في الكتب السابقة، أما القرآن الكريم فإنه مع إخباره بأن أهل الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم إلا أنه لم ينص على وصف خاص من أوصافه سوى أنه من الأميين (ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ) [الأعراف:١٥٧].
وإنما نص على أمور:
أحدها: الشريعة التي يجيء بها: (ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ) [الأعراف:١٥٧].
والثاني: صفة تأديبه للناس: (ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ) [البقرة:١٢٩].
والثالث: صفة أصحابه: (ﭑ ﭒ ﭓﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ) [الفتح:٢٩].
وصفة من بعث فيهم (ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ) [الجمعة:٢].
فأما (الأمي) فقيل: هو الذي لا يقرأ ولا يكتب ولا يحسب «قال ابن عباس: هو منكم كان أميًا لا يكتب ولا يقرأ ولا يحسب قال الله تعالى:(ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ)[العنكبوت:٤٨].
وقال صلى الله عليه وسلم (إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب).
وقيل: هو منسوب إلى أمته كأن أصله أمتي فسقطت التاء من النسبة كما سقطت من المكي والمدني.
وقيل: منسوب إلى أم القرى وهي مكة أم القرى. (ﭹ ﭺ) أي: صفته ونبوته ونعته وأمره مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل»50.
وأما معنى: (ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ) فـ«المراد بالمعروف: الإيمان، وقيل: ما عرف في الشريعة. والمراد بالمنكر ضد ذلك، (ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ) فسر الأول بالأشياء التي يستطيبها الطبع كالشحوم، والثاني بالأشياء التي يستخبثها كالدم، فتكون الآية دالة على أن الأصل في كل ما تستطيبه النفس ويستلذه الطبع الحل، وفي كل ما تستخبثه النفس ويكرهه الطبع الحرمة إلا لدليل منفصل، وفسر بعضهم الطيب بما طاب في حكم الشرع والخبيث بما خبث فيه كالربا والرشوة »51.
وقد جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى الناس رسولا « فأمرهم بالمعروف ونهاهم عن المنكر وأحل لهم الطيبات وحرم عليهم الخبائث، لم يحرم عليهم شيئًا من الطيبات كما حرم على اليهود، ولم يحل لهم شيئًا من الخبائث كما استحلتها النصارى، ولم يضيق عليهم باب الطهارة والنجاسة كما ضيق على اليهود، ولم يرفع عنهم طهارة الحدث والخبث كما رفعته النصارى؛ فلا يوجبون الطهارة من الجنابة، ولا الوضوء للصلاة، ولا اجتناب النجاسة في الصلاة، بل يعد كثير من عبادهم مباشرة النجاسات من أنواع القرب والطاعات حتى يقال في فضائل الراهب: له أربعون سنة ما مس الماء؛ ولهذا تركوا الختان مع أنه شرع إبراهيم الخليل عليه السلام وأتباعه.
واليهود إذا حاضت عندهم المرأة لا يؤاكلونها ولا يشاربونها ولا يقعدون معها في بيت واحد، والنصارى لا يحرمون وطء الحائض، وكان اليهود لا يرون إزالة النجاسة بل إذا أصاب ثوب أحدهم قرضه بالمقراض، والنصارى ليس عندهم أي نجس يحرم أكله أو تحرم الصلاة معه»52.
وأما الإصر الذي يضعه النبي صلى الله عليه وسلم فهو التكاليف الثقيلة، سواء أنزل بها شرع من عند الله أم استحدثها الناس من تلقاء أنفسهم، وأصل الإصر: « الثقل الذي يأصر صاحبه عن الحراك »53.
ومعنى: « (ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ) أي: يخفف عنهم ما كلفوه من التكاليف الشاقة كقطع موضع النجاسة من الثوب أو منه ومن البدن، وإحراق الغنائم، وتحريم السبت، وقطع الأعضاء الخاطئة، وتعين القصاص في العمد والخطأ من غير شرع الدية فإنه وإن لم يكن مأمورًا به في الألواح إلا أنه شرع بعد تشديدًا عليهم على ما قيل.
وعن عطاء كانت بنو إسرائيل إذا قامت تصلي لبسوا المسوح، وغلوا أيديهم إلى أعناقهم، وربما ثقب الرجل ترقوته وجعل فيها طرف السلسلة، وأوثقها على السارية يحبس نفسه على العبادة، وعلى هذا فالأغلال يمكن أن يراد حقيقته »54.
وأما وصف من بعث فيهم فهم الأميون: (ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ) [الجمعة:٢].
والأميون هم: « العرب، والأمي: هو الذي لا يقرأ ولا يكتب، وكذلك كان كثير من العرب. وسمي أميًّا نسبة إلى أمه يوم ولدته، لم يعرف القراءة ولا الكتابة وبقي على ذلك.
ومما يدل على أن المراد بالأميين هم العرب بعثة النبي صلى الله عليه وسلم منهم لقوله تعالى: (ﭣ ﭤ) كما يدل عليه قوله تعالى عن نبي الله إبراهيم: (ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ) [إبراهيم:٣٧].
وقوله تعالى: (ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ) [البقرة:١٢٩].»55.
«والمعنى: أن الله أقام رسوله للناس بين العرب يدعوهم، وينشر رسالته إلى جميع الناس من بلاد العرب، فإن دلائل عموم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم معلومة من مواضع أخرى من القرآن كما في سورة الأعراف:(ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ)[الأعراف:١٥٨].
وفي سورة سبأ: (ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ)[سبأ:٢٨].»56.
وأما وصف أصحابه، فقد ابتدأت فيه الآية بإثبات الرسالة له أولًا « محمدٌ رسول الله ». فـ «محمدٌ» مبتدأ و« رسول» خبره57.
أو هو «خبر مبتدأ محذوف، تقديره: هو محمد يعود هذا الضمير المحذوف على قوله: رسوله في الآية قبلها»58.
ثم عطفتهم عليه (ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ)[الفتح:٢٩].
وقد تضمنت الآية إخبارًا منه «تعالى عن رسوله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من المهاجرين والأنصار، أنهم بأكمل الصفات، وأجل الأحوال، وأنهم (ﭗ ﭘ ﭙ) أي: جادون ومجتهدون في عداوتهم، وساعون في ذلك بغاية جهدهم، فلم يروا منهم إلا الغلظة والشدة؛ فلذلك ذل أعداؤهم لهم، وانكسروا، وقهرهم المسلمون»59.
والشدة في هذا المقام صفة مدح؛ لأنها غلظة على غليظ، وقمع لمتجبر ظالم عات، وانتصار للحق، وغيرة على الدين، قال في التحرير والتنوير: «والشدة على الكفار: هي الشدة في قتالهم وإظهار العداوة لهم، وهذا وصف مدح؛ لأن المؤمنين الذين مع النبيء صلى الله عليه وسلم كانوا هم فئة الحق ونشر الإسلام، فلا يليق بهم إلا إظهار الغضب لله، والحب في الله، والبغض في الله من الإيمان، وأصحاب النبيء صلى الله عليه وسلم أقوى المؤمنين إيمانًا من أجل إشراق أنوار النبوءة على قلوبهم، فلا جرم أن يكونوا أشد على الكفار، فإن بين نفوس الفريقين تمام المضادة، وما كانت كراهيتهم للصلح مع الكفار يوم الحديبية ورغبتهم في قتل أسراهم الذين ثقفوهم يوم الحديبية، وعفا عنهم النبيء صلى الله عليه وسلم إلا من آثار شدتهم على الكفار، ولم تكن لاحت لهم المصلحة الراجحة على القتال وعلى القتل التي آثرها النبيء صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك كان أكثرهم محاورة في إباء الصلح يومئذ أشد أشدائهم على الكفار وهو عمر بن الخطاب، وكان أفهمهم للمصلحة التي توخاها النبيء صلى الله عليه وسلم في إبرام الصلح أبا بكر»60.
قال: «ثم تكون أحكام الشدة على الكفار من وجوب وندب وإباحة وأحكام صحبتهم ومعاملتهم جارية على مختلف الأحوال ولعلماء الإسلام فيها مقال»61.
والصفة الثانية لأصحابه صلى الله عليه وسلم أنهم: «(ﭚ ﭛ) أي: متحابون متراحمون متعاطفون، كالجسد الواحد، يحب أحدهم لأخيه ما يحب لنفسه »62.
«وفي الجمع لهم بين هاتين الخلتين المتضادتين الشدة والرحمة؛ إيماء إلى أصالة آرائهم وحكمة عقولهم، وأنهم يتصرفون في أخلاقهم وأعمالهم تصرف الحكمة والرشد، فلا تغلب على نفوسهم محمدة دون أخرى؛ ولا يندفعون إلى العمل بالجبلة وعدم الرؤية. وفي معنى هذه الآية قوله تعالى:(ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ) في سورة العقود [المائدة:٥٤].
وفي تعليق رحماء مع ظرف (بين) المفيد للمكان الداخل وسط ما يضاف هو إليه تنبيه على انبثاث التراحم فيهم جميعًا»63.
«هذه معاملتهم مع الخلق، وأما معاملتهم مع الخالق فإنك (ﭝ ﭞ ﭟ) أي: وصفهم كثرة الصلاة، التي أجل أركانها الركوع والسجود.
(ﭠ) بتلك العبادة (ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ) أي: هذا مقصودهم بلوغ رضا ربهم، والوصول إلى ثوابه»64.
وأما الصفة الأخرى التي ذكرت لأصحابه صلى الله عليه وسلم فهي علامة على وجوهم، ناتجة عن صفتهم السابقة التي هي كثرة السجود: (ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ)، «والسيما: العلامة وهذه سيما خاصة هي من أثر السجود.
واختلف في المراد من السيما التي وصفت بأنها من أثر السجود على ثلاثة أنحاء:
الأول: أنها أثر محسوس للسجود.
الثاني: أنها من الأثر النفسي للسجود.
الثالث: أنها أثر يظهر في وجوههم يوم القيامة»65. تلك صفتهم في التوراة.
«فأما قوله:(ﭲ ﭳ ﭴ) ففيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أن هذا المثل المذكور أنه في التوراة هو مثلهم في الإنجيل. قال مجاهد: مثلهم في التوراة والإنجيل واحد.
والثاني: أن المتقدم مثلهم في التوراة. فأما مثلهم في الإنجيل فهو قوله:(ﭵ)وهذا قول الضحاك وابن زيد.
والثالث: أن مثلهم في التوراة والإنجيل كزرع»66.
وقد اختار ابن جرير أن هذا مثلهم في التوراة، وأن قوله: (ﭵ ﭶ ﭷ) مثلهم في الإنجيل، قال: «وقوله: (ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ) يقول: وصفتهم في إنجيل عيسى صفة زرع أخرج شطأه، وهو فراخه، يقال منه: قد أشطأ الزرع: إذا فرخ فهو يشطي إشطاء، وإنما مثلهم بالزرع المشطئ؛ لأنهم ابتدءوا في الدخول في الإسلام، وهم عدد قليلون، ثم جعلوا يتزايدون، ويدخل فيه الجماعة بعدهم، ثم الجماعة بعد الجماعة، حتى كثر عددهم، كما يحدث في أصل الزرع الفرخ منه، ثم الفرخ بعده حتى يكثر وينمي»67.
ثم روى بسنده عن ابن عباس قال: « قوله (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ) أصحابه مثلهم، يعني: نعتهم مكتوبًا في التوراة والإنجيل قبل أن يخلق السموات والأرض»68.
وإذا تأملنا هذه الأوصاف التي ذكر القرآن الكريم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد عرف بها في الكتب السابقة، وجدناها أوصافًا لأمة كبيرة من الناس: الأميون الذين بعث فيهم، وأصحابه الذين معه، وهي أوصاف يستحيل انتحالها بخلاف صفة الفرد الواحد، ولو كانت أوصاف شخص واحد لجاز لأحد ممن يقرؤها أن يزعم أنه يرى تحققها في شخص يعرفه أو فيه هو.
وقد ورد في سورة الصف ما يوهم ذكر اسمه صلى الله عليه وسلم في الإنجيل.
قال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ) [الصف:٦].
فنصت الآية على أن عيسى عليه السلام بشر بمحمد صلى الله عليه وسلم وأخبر باسمه «أحمد»، وروى ابن جرير بسنده عن عرباض بن سارية، قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:(إني عند الله مكتوبٌ لخاتم النبيين، وإن آدم لمنجدلٌ في طينته، وسأخبركم بأول ذلك: دعوة أبي إبراهيم، وبشارة عيسى بي، والرؤيا التي رأت أمي، وكذلك أمهات النبيين، يرين أنها رأت حين وضعتني أنه خرج منها نورٌ أضاءت منه قصور الشام)69.
غير أن الآية لم تنص صراحة على أن اسمه « أحمد» مكتوب في الإنجيل، بل غاية ما نصت عليه أنه خبر على لسان المسيح وليس فيه نص على أنه مكتوب في الإنجيل ولا أنه غير مكتوب.
وقد أوهم ذلك أن اسم النبي صلى الله عليه وسلم مكتوب في الإنجيل، كما قال القرطبي: «وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اسمي في التوراة أحيد لأني أحيد أمتي عن النار، واسمي في الزبور الماحي محا الله بي عبدة الأوثان، واسمي في الإنجيل أحمد، واسمي في القرآن محمد؛ لأني محمود في أهل السماء والأرض)70»71.
ومن ذلك ما أخرج ابن عساكر عن سهل مولى غنيمة أن نعت محمد عليه الصلاة والسلام في التوراة: «أنه لا قصير ولا طويل أبيض ذو صفرة، من بين كتفيه خاتم، يكثر الاحتباء، ولا يقبل الصدقة، ويركب الحمار والبعير، ويحتلب الشاة، ويلبس قميصًا مرقوعًا، ومن فعل ذلك فقد برئ من الكبر وهو يفعل ذلك وهو من ذرية إسماعيل اسمه أحمد»72.
ويرى السموأل المغربي أن اسمه صلى الله عليه وسلم مرموز إليه فيها، وقد عقد فصلا في «الإشارة إلى اسمه في التوراة» اعتمد فيه حساب الجمل -الذي هو من صناعة اليهود وعلومهم التي يبرعون فيها- في الدلالة على اسم النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: «وإنما جعل ذلك في هذا الموضوع ملغزا؛ لأنه لو صرح به لبدلته اليهود، أو أسقطته من التوراة كما عملوا في غير ذلك »73.
فكل هذه الأقوال وردت في سياق إثبات التصريح باسمه صلى الله عليه وسلم في الإنجيل خصوصًا وفي الكتب السابقة عمومًا، ومثل هذا إن لم تثبت رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم به فإن لفظ الآية لا يدل عليه، وغاية ما دلت عليه آية سورة الصف أن المسيح عليه السلام بشر به مُصرِّحًا باسمه «أحمد»، بل إن لفظ «قال» مشعر بأنه من كلام المسيح وليس من الإنجيل، مع عدم استحالة كونه مع ذلك مكتوبًا، وغاية ما في الأمر أن القرآن الكريم لم ينص على ذلك صراحة.
هذا وعدم النص على اسمه أو وصفه الخاص أبلغ، إذ لو علم لطلبه مدعو النبوة، ولبدله الذين يحرفون الكلم عن مواضعه. وقد بقي أن له علامات غير منحصرة يعرفه بها علماء أهل الكتاب، وعدم انحصارها عاصم لها من التحريف.
قال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ) [البقرة:٨٩].
فأما بشارة المسيح به صلى الله عليه وسلم فلا يطعن فيها زعم أهل الكتاب أنهم لا يجدونها في كتبهم، وما تقدم من كلام السموأل والرازي حجة عليهم. قال الألوسي: «هذا وبشارته عليه السلام بنبينا صلى الله تعالى عليه وسلم مما نطق به القرآن المعجز، فإنكار النصارى ذلك ضرب من الهذيان، وقولهم: ولو وقعت لذكرت في الإنجيل، الملازمة فيه ممنوعة، وإذا سلمت قلنا بوقوعها في الإنجيل إلا أن جامعيه بعد رفع عيسى عليه السلام أهملوها؛ اكتفاء بما في التوراة ومزامير داود عليه السلام وكتب أشعياء وحبقوق وأرمياء وغيرهم من الأنبياء عليهم السلام.
ويجوز أن يكونوا قد ذكروها إلا أن علماء النصارى بعد حبا لدينهم أو لأمر ما غير ذلك أسقطوها كذا قيل»74.
أقول: وليست البشارة مقتصرة على الاسم فقط، ولا يلزم أنها من الوحي المكتوب، بل قد تكون قد وقعت على لسان المسيح عليه السلام كما تقدم.
قال الألوسي: « الأناجيل التي عند النصارى أربعة: إنجيل متى من الاثني عشر الحواريين، جمعه باللغة السريانية بأرض فلسطين بعد رفع عيسى عليه السلام بثماني سنين، وعدة إصحاحاته ثمانية وستون إصحاحًا، وإنجيل مرقص وهو من السبعين، جمعه باللغة الفرنجية بمدينة رومية بعد الرفع باثنتي عشرة سنة، وعدة إصحاحاته ثمانية وأربعون إصحاحًا، وإنجيل لوقا وهو من السبعين أيضًا، جمعه بالإسكندرية باللغة اليونانية، وعدة إصحاحاته ثلاثة وثمانون إصحاحًا، وإنجيل يوحنا وهو حبيب المسيح، جمعه بمدينة إقسس من بلاد رومية بعد الرفع بثلاثين سنة، وعدة إصحاحاته في النسخ القبطية ثلاثة وثلاثون إصحاحا وهي مختلفة، وفيها ما يشهد الإنصاف بأنه ليس كلام الله عز وجل، ولا كلام عيسى عليه السلام كقصة صلبه الذي يزعمونه ودفنه ورفعه من قبره إلى السماء، فما هي إلا كتواريخ وتراجم فيها شرح بعض أحوال عيسى عليه السلام ولادة ورفعًا ونحو ذلك، وبعض كلمات له عليه السلام على نحو بعض الكتب المؤلفة في بعض الأكابر والصالحين فلا يضر إهمالها بعض الأحوال، والكلمات التي نطق القرآن العظيم بها ككلامه عليه السلام في المهد وبشارته بنبينا صلى الله تعالى عليه وسلم، على أن في إنجيل يوحنا ما هو بشارة بذلك عند من أنصف وسلك الصراط السوي وما تعسف»75.
ومثل هذه الكتب واختلافها وكثرة التناقض فيها يجعلنا نجزم بأن كل ما جاء فيها ليس من كلام المسيح عليه السلام، ولا أن كل ما قال المسيح منقول فيها حتى تجعل حكمًا في مثل هذا.
صفة محمد عليه السلام في القرآن
وصف محمد صلى الله عليه وسلم في القرآن الكريم بجملة من الصفات منها:
أولًا: النبي:
النبوة من النبأ، «والنبأ: الخبر، تقول نَبَأ ونَبَّأ، أي: أخبر، ومنه أخذ النبيء لأنه أنبأ عن الله تعالى، وهو فعيلٌ، بمعنى فاعل»76.
وإذا قيل للخبر: نبأ فهو ذو فائدة عظيمة ولا يتطرق إليه الكذب، وهو متضمن لمعنى العلم، قال الراغب: «النبأ: خبر ذو فائدة عظيمة يحصل به علم أو غلبة ظن، ولا يقال للخبر في الأصل نبأٌ حتى يتضمن هذه الأشياء الثلاثة، وحق الخبر الذي يقال فيه نبأٌ أن يتعرى عن الكذب، كالتواتر، وخبر الله تعالى، وخبر النبي عليه الصلاة والسلام. ولتضمن النبإ معنى الخبر يقال: أنبأته بكذا كقولك: أخبرته بكذا، ولتضمنه معنى العلم قيل: أنبأته كذا، كقولك: أعلمته كذا. قال الله تعالى: (ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ)[ص:٦٧-٦٨]»77.
والنبي مشتق من فعل «أنبأ» أو من فعل «نبا» بمعنى: علا وارتفع، «فهو مهموز من النبأ، وغير مهموز من النبوة، وهو المرتفع من الأرض، فهو صلى الله عليه وسلم مخبر عن الله سبحانه وتعالى، رفيع القدر عنده، فاجتمع له الوصفان، وتم له الشرفان»78.
هذا عن مدلول النبوة في اللغة واشتقاقها، وأما مدلولها القرآني فهو الإخبار بما تلقاه النبي عن الله سبحانه وتعالى، قال الفيروزآبادي: « والنبوة: سفارة بين الله وبين ذوي العقول؛ لإزاحة عللهم فى أمر معادهم ومعاشهم»79.
وقد تقدم أن وصف «النبي» تكرر في القرآن الكريم بصفة جعلته علمًا على محمد صلى الله عليه وسلم حتى صار اسمًا من أسمائه، غير أنه قد استعمل بمعنى الصفة في نحو قوله تعالى: (ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ) [آل عمران:٦٨].
فقوله تعالى: (ﯧ ﯨ) تضمن الإشارة إلى محمد صلى الله عليه وسلم، ووصفه بصفة النبوة تأكيدًا له عند المخاطبين، ودفعا لأي شك قد يبدر منهم وترغيما للمعاندين من اليهود وغيرهم.
وكما استعمل لفظ «النبي» فقد استعمل لفظ «الرسول» في القرآن الكريم بمعنى الاسم، وبمعنى الصفة له صلى الله عليه وسلم أيضًا.
ثانيًا: رسول الله:
الرسول مشتق من الرسل -بكسر الراء- و «أصل الرسل: الانبعاث على التؤدة ويقال: ناقة رسلةٌ: سهلة السير، وإبل مراسيل: منبعثة انبعاثًا سهلًا، ومنه: الرسول المنبعث، وتصور منه تارة الرفق، فقيل: على رسلك، إذا أمرته بالرفق، وتارة الانبعاث فاشتق منه الرسول»80.
والتوظيف اللغوي للإرسال ليس مقصورًا على الإنسان فقط، فقد يقال أيضا في الأشياء، ومن معانيه: « التسخير كإرسال الريح والمطر نحو: (ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ) [الأنعام:٦].
وقد يكون ببعث من له اختيار، نحو إرسال الرسل.
قال تعالى: (ﭮ ﭯ ﭰ) [الأنعام:٦١].
(ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ) [الشعراء:٥٣].
وقد يكون ذلك بالتخلية، وترك المنع، نحو قوله: (ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ) [مريم:٨٣].
والإرسال يقابل الإمساك. قال تعالى:(ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ)[فاطر:٢].»81.
هذا عن مدلول الإرسال واشتقاقه اللغوي، أما في الاستعمال القرآني فـالرسول: « هو الذي تتابع خبره عن الله، وهو المرسًل بفتح السين، ولا يقتضي التتابع. وهو المرسل: بكسر السين؛ لأنه لا يعم بالتبليغ مشافهة، فلم يك بد من الرسل ينوبون عنه، ويتلقون منه، كما بلغ عن ربه قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (تسمعون، ويسمع منكم، ويسمع ممن يسمع منكم) »82.
وقد استعمل لفظ «الرسول» في القرآن الكريم بدلالات أخرى أيضًا، فـ «رسل الله تارة يراد بها الملائكة، وتارة يراد بها الأنبياء، فمن الملائكة قوله تعالى: (ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ) [التكوير:١٩].
وقوله: (ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ) [هود:٨١].
وقوله: (ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ) [هود:٧٧].
وقال: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ) [العنكبوت:٣١].
وقال: (ﮑ ﮒ ﮓ) [المرسلات: ١].
(ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ) [الزخرف: ٨٠].
ومن الأنبياء قوله: (ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ) [آل عمران:١٤٤].
(ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ) [المائدة:٦٧].
وقوله: (ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ) [الأنعام:٤٨].
فمحمول على رسله من الملائكة والإنس. وقوله: (ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ) [المؤمنون:٥١].
قيل: عني به الرسول وصفوة أصحابه، فسماهم رسلا لضمهم إليه، كتسميتهم المهلب وأولاده المهالبة»83.
وكثيرًا ما دعي النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الوصف في القرآن الكريم حتى صار علما عليه، لكنه قد استعمل أيضا بمعنى الصفة له عليه الصلاة والسلام في نحو قوله تعالى: (ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ) [آل عمران:١٤٤].
فـ «محمد» اسمه صلى الله عليه وسلم، و « رسول » صفته في هذا السياق.
الفرق بين النبي والرسول:
جاء الوصفان النبي والرسول معطوف أحدهما على الآخر فأوحى ذلك بأن بينهما فرقا،كما في قوله تعالى: (ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ) [الحج:٥٢].
و «هذه الآية دالة عليه -أي: الاختلاف بين مفهومي النبي والرسول- لأنه عطف النبي على الرسول، وذلك يوجب المغايرة وهو من باب عطف العام على الخاص»84.
قال القاضي عياض: «واختلف العلماء هل النبي والرسول بمعنى أو بمعنيين فقيل: هما سواء وأصله من الإنباء وهو الإعلام، واستدلوا بقوله تعالى: (ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ) فقد أثبت لهما معًا الإرسال قال: ولا يكون النبي إلا رسولًا ولا الرسول إلا نبيًا. وقيل: هما مفترقان من وجه إذ قد اجتمعا في النبوة التي هي الاطلاع على الغيب، والإعلام بخواص النبوة أو الرفعة لمعرفة ذلك وحوز درجتها، وافترقا في زيادة الرسالة للرسول وهو الأمر بالإنذار والإعلام كما قلنا، وحجتهم من الآية نفسها التفريق بين الاسمين، ولو كانا شيئًا واحدًا لما حسن تكرارهما في الكلام البليغ»85.
ثم قال: « والصحيح والذي عليه الجماء الغفير: أن كل رسول نبي، وليس كل نبي رسولًا، وأول الرسل آدم وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم»86.
فبين وصفي النبي والرسول عموم وخصوص، ويستلزم ذلك أنهما ليسا متطابقين تطابقًا كاملًا رغم أنهما يجتمعان في جزء من الدلالة، ولكن بينهما فرقًا في زيادة يحويها مفهوم «الرسول».
وقد «ذكروا في الفرق بين الرسول والنبي أمورًا:
أحدها: أن الرسول من الأنبياء من جمع إلى المعجزة الكتاب المنزل عليه، والنبي غير الرسول من لم ينزل عليه كتاب، وإنما أمر أن يدعو إلى كتاب من قبله.
والثاني: أن من كان صاحب المعجزة وصاحب الكتاب ونسخ شرع من قبله فهو الرسول، ومن لم يكن مستجمعًا لهذه الخصال فهو النبي غير الرسول، وهؤلاء يلزمهم أن لا يجعلوا إسحاق ويعقوب وأيوب ويونس وهارون وداود وسليمان رسلًا؛ لأنهم ما جاءوا بكتاب ناسخ.
والثالث: أن من جاءه الملك ظاهرًا وأمره بدعوة الخلق فهو الرسول، ومن لم يكن كذلك، بل رأى في النوم كونه رسولًا، أو أخبره أحد من الرسل بأنه رسول الله، فهو النبي الذي لا يكون رسولًا»87. وهذا المعنى الثالث رجحه الرازي وقال: «وهو الأولى»88.
ولابن تيمية في المسألة رأي يبدو أقرب إلى الصواب، وهو أن الرسول يزيد عن النبي بكونه مرسلًا إلى من خالف أمر الله يبلغه رسالة الله، قال: «والمقصود هنا: الكلام على النبوة فالنبي هو الذي ينبئه الله، وهو ينبئ بما أنبأ الله به، فإن أرسل مع ذلك إلى من خالف أمر الله ليبلغه رسالة من الله إليه فهو رسول، وأما إذا كان إنما يعمل بالشريعة قبله ولم يُرسَل هو إلى أحد يبلغه عن الله رسالة فهو نبي، وليس برسول قال تعالى: (ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ) وقوله: (ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ)؛ فذكر إرسالًا يعم النوعين، وقد خص أحدهما بأنه رسول، فإن هذا هو الرسول المطلق الذي أمره بتبليغ رسالته إلى من خالف الله كنوح»89.
وبناء على ذلك فكل رسول نبي، وليس كل نبي رسولًا، ومحمد صلى الله عليه وسلم نبي ورسول، بل هو خاتم الأنبياء والمرسلين، كما قال تعالى: (ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ) [الأحزاب:٤٠].
««وخاتم» بفتح التاء بمعنى أنهم به ختموا فهو كالخاتم والطابع لهم، وقرأ الباقون والجمهور «خاتم» بكسر التاء بمعنى أنه ختمهم، أي: جاء آخرهم، وروت عائشة أنه عليه السلام قال: (أنا خاتم الأنبياء) -بفتح التاء- وروي عنه عليه السلام أنه قال: (أنا خاتم ألف نبي) وهذه الألفاظ عند جماعة علماء الأمة خلفًا وسلفًا متلقاة على العموم التام مقتضية نصًّا أنه لا نبي بعده صلى الله عليه وسلم»90.
ومع كونه صلى الله عليه وسلم النبي الرسول وخاتم الأنبياء، فقد كان أول من أمر بالتزام الإسلام والعمل بأحكامه وأن يكون أول المسلمين.
ثالثًا: أول المسلمين:
نص القرآن الكريم على أن محمدًا صلى الله عليه وسلم أمر أن يكون أول من أسلم، كما قال تعالى: (ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ) [الأنعام:١٤].
كما أمر أن يخبر عن نفسه بذلك: (ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ) [الأنعام:١٦٢-١٦٣].
و«المعنى أول من أسلم من هذه الأمة وبهذه الشريعة»91.
وقد دلت الآية على صدق النبي صلى الله عليه وسلم، فهو المبادر إلى فعل ما يأمر به من أحكام هذا الدين، وهو أول مخاطب به، وهو سابق المسلمين، و «خيرهم وأولهم، كما قال: (ﯣ ﯤ ﯥ) [الأنعام:١٦٣].
وتقدم في ذلك بشرف انقياده بكل وجه، وبكل حال إلى الله وبسلامة عن الجهل والمعاصي»92.
وفي قوله تعالى: « (ﯓ ﯔ ﯕ)الآية، أمر من الله عز وجل أن يعلن بأن مقصده في صلاته، وطاعته من ذبيحة وغيرها، وتصرفه مدة حياته، وحاله من الإخلاص والإيمان عند مماته إنما هو لله عز وجل، وإرادة وجهه وطلب رضاه، وفي إعلان النبي صلى الله عليه وسلم بهذه المقالة ما يلزم المؤمنين التأسي به؛ حتى يلتزموا في جميع أعمالهم قصد وجه الله عز وجل»93.
والآية تدل على أنه صلى الله عليه وسلم أول من أسلم من هذه الأمة، ولكن هل تدل على أنه أول المسلمين من جميع الأمم؟
قال ابن عطية: «والمعنى أول من أسلم من هذه الأمة وبهذه الشريعة، ولا يتضمن الكلام إلا ذلك»94. فجزم بأن المراد: أول من أسلم من هذه الأمة لا غيره.
ولكن بعض المفسرين لم يستبعد هذه الدلالة وإن لم يجزم بها، قال ابن عاشور: « ومعنى أول من أسلم أنه أول من يتصف بالإسلام الذي بعثه الله به، فهو الإسلام الخاص الذي جاء به القرآن، وهو زائد على ما آمن به الرسل من قبل، بما فيه من وضوح البيان والسماحة، فلا ينافي أن بعض الرسل وصفوا بأنهم مسلمون، كما في قوله تعالى حكاية عن إبراهيم ويعقوب:(ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ)[البقرة:١٣٢].
ويجوز أن يكون المراد أول من أسلم ممن دعوا إلى الإسلام. ويجوز أن يكون الأول كناية عن الأقوى والأمكن في الإسلام؛ لأن الأول في كل عمل هو الأحرص عليه والأعلق به، فالأولية تستلزم الحرص والقوة في العمل، كما حكى الله تعالى عن موسى قوله: (ﯹ ﯺ ﯻ) [الأعراف:١٤٣].
فإن كونه أولهم معلوم وإنما أراد: أني الآن بعد الصعقة أقوى الناس إيمانًا. وفي الحديث: (نحن الآخرون الأولون يوم القيامة) »95.
أما صاحب «ملاك التأويل» فنظر إلى الآية في سياق ما نصت عليه آيات أخرى من كون الأنبياء جميعًا كانوا مسلمين، فأثبت لهم جميعًا أولية في السبق إلى الإيمان والإسلام، قال في بيان الفرق بين قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ﯣ ﯤ ﯥ) وقول موسى عليه السلام: (ﯹ ﯺ ﯻ) «والجواب والله أعلم: أن هذه الآية لما تقدمها قوله تعالى: (ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ)[الأنعام:١٦١].
وقد قال فى سورة آل عمران: (ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ)[آل عمران:٦٧].
وفي وصيته عليه السلام لبنيه: (ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ)[البقرة:١٣٢].
وبهذا أوصى يعقوب عليه السلام.
قال تعالى: (ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ) [البقرة:١٣٢].
وهي جواب بني يعقوب حين قال لهم: (ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ) فأجابوا بقولهم: (ﯧ ﯨ) إلى قوله: (ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ) [البقرة:١٣٣].
وقال سبحانه لنبينا صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين: (ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ)[الأنعام:٩٠].
وقال تعالى: (ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ) إلى قوله: (ﯣ ﯤ ﯥ)[الأنعام:١٦٣].
فإنما قال عليه السلام وعمل واقتدى ظاهرًا وباطنًا بما أمر به وما درج عليه هؤلاء الصفوة المذكورون ومن سلك مسلكهم. وعبارة الإسلام تعم الاستسلام بالظاهر والباطن، والإيمان الذي هو التصديق داخل تحت ذلك، وفي جملة ما يطلق عليه اسم الإسلام، فقد تحصلت عبارته عليه السلام منبئة عن الكمال في مسمى الإيمان والإسلام على الحال التى درج عليها المصطفون الأخيار، وحالهم فى ذلك لا يدركها غيرهم من حيث الكمال التام صلى الله عليهم أجمعين ولا قطعنا عن التمسك بهديهم »96.
رابعًا: رحمة للعالمين:
كان النبي صلى الله عليه وسلم رحمة، وكان رحيمًا بالمؤمنين، بل بمن ينافقه ويعاديه، ومن مظاهر رحمته صلى الله عليه وسلم أنه كان حريصًا على هداية الناس جميعًا.
ولقد نص القرآن الكريم -نصًا صريحًا- على أنه صلى الله عليه وسلم رحمة لا للمؤمنين وحدهم بل للعالمين جميعا، كما في قوله تعالى: (ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ) [الأنبياء:١٠٧].
وهذه الآية لم تنص على أنه رحيم، ولكن على أنه هو صلى الله عليه وسلم الرحمة، فـ « انتصاب (ﮓ) على أنه حال من ضمير المخاطب يجعله وصفا من أوصافه، فإذا انضم إلى ذلك انحصار الموصوف في هذه الصفة صار من قصر الموصوف على الصفة. ففيه إيماء لطيف إلى أن الرسول اتحد بالرحمة وانحصر فيها، ومن المعلوم أن عنوان الرسولية ملازم له في سائر أحواله، فصار وجوده رحمة وسائر أكوانه رحمة.
ووقوع الوصف مصدرًا يفيد المبالغة في هذا الاتحاد، بحيث تكون الرحمة صفة متمكنة من إرساله، ويدل لهذا المعنى ما أشار إلى شرحه النبيء صلى الله عليه وسلم بقوله: (إنما أنا رحمة مهداة) »97.
وهذه الآية على وجازة ألفاظها تضمنت مدحًا بليغًا للنبي صلى الله عليه وسلم، وقد « صيغت بأبلغ نظم إذ اشتملت على مدح الرسول عليه الصلاة والسلام ومدح مرسله تعالى، ومدح رسالته بأن كانت مظهر رحمة الله تعالى للناس كافة، وبأنها رحمة الله تعالى بخلقه.
فهي تشتمل على أربعة وعشرين حرفًا بدون حرف العطف الذي عطفت به، ذكر فيه الرسول، ومرسله، والمرسل إليهم، والرسالة، وأوصاف هؤلاء الأربعة، مع إفادة عموم الأحوال، واستغراق المرسل إليهم، وخصوصية الحصر، وتنكير رحمة للتعظيم، إذ لا مقتضى لإيثار التنكير في هذا المقام غير إرادة التعظيم وإلا لقيل: إلا لنرحم العالمين، أو إلا أنك الرحمة للعالمين. وليس التنكير للإفراد قطعًا لظهور أن المراد جنس الرحمة وتنكير الجنس هو الذي يعرض له قصد إرادة التعظيم. فهذه اثنا عشر معنى خصوصيًا، فقد فاقت أجمع كلمة البلغاء العرب»98.
وأما معنى كونه «رحمة للعالمين» من مؤمنين وكافرين فقد ذكر في معناه أن الله سبحانه وتعالى: «رحمهم به في الدنيا من العذاب، وفي الآخرة بتعجيل الحساب، وتضعيف الثواب، قال الله تعالى: (ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ) [الأنفال:٣٣]»99.
والنص على كون وجوده صلى الله عليه وسلم بين الكافرين مانعًا من نزول العذاب بهم؛ رحمة لهم لا يعني اقتصارها على ذلك؛ لأن هذا الوجود محدود بالزمان والمكان. وإن أعظم الرحمة استنقاذهم به من الضلال والشرك والجهل، وفي صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: (وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهل الكتاب، وقال: إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك، وأنزلت عليك كتابًا لا يغسله الماء، تقرؤه نائمًا ويقظان)100.
فنص الحديث على أنه قد بعث صلى الله عليه وسلم حين عم الضلال الأرض، ونظر الله إلى أهل الأرض فمقتهم جميعًا؛ بسبب شركهم وضلالهم، فكان هو المبدل لوجه هذه الأرض بإذن ربه، وكان رحمة الله للناس جميعًا.
وكما كانت بعثته رحمة، كان خلقه الرحمة، وكانت رسالته التي بعث بها الرحمة، بل كان موقعها من رسالات الأنبياء وديمومتها واستمرارها، وما اختصت به من عفو وتيسير الرحمة التي رحم الله بها خلقه إنسهم وجنهم وحتى الحيوان.
وقد نظر ابن عاشور إلى دلالة موقع الآية في سياقها من سورة الأنبياء فقال: «أقيمت هذه السورة على عماد إثبات الرسالة لمحمد صلى الله عليه وسلم وتصديق دعوته. فافتتحت بإنذار المعاندين باقتراب حسابهم، ووشك حلول وعد الله فيهم، وإثبات رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وأنه لم يكن بدعًا من الرسل، وذكروا إجمالًا، ثم ذكرت طائفة منهم على التفصيل، وتخلل ذلك بمواعظ ودلائل. وعطفت هذه الجملة على جميع ما تقدم من ذكر الأنبياء الذين أوتوا حكمًا وعلمًا وذكر ما أوتوه من الكرامات، فجاءت هذه الآية مشتملة على وصف جامع لبعثة محمد صلى الله عليه وسلم، ومزيتها على سائر الشرائع مزية تناسب عمومها ودوامها، وذلك كونها رحمة للعالمين »101.
وبقدر ما كانت هذه الرحمة خلقًا تخلقت به نفسه الزكية عليه الصلاة والسلام، فقد كانت أيضا الصبغة العامة التي اصطبغت بها الشريعة التي جاء بها.
قال ابن عاشور: «وتفصيل ذلك يظهر في مظهرين:
الأول: تخلق نفسه الزكية بخلق الرحمة،
والثاني: إحاطة الرحمة بتصاريف شريعته.
فأما المظهر الأول فقد قال فيه أبو بكر محمد بن طاهر القيسي الإشبيلي: «زين الله محمدًا صلى الله عليه وسلم بزينة الرحمة، فكان كونه رحمة، وجميع شمائله رحمة، وصفاته رحمة على الخلق» قلت: يعني أن محمدًا صلى الله عليه وسلم فطر على خُلُقِ الرحمة في جميع أحوال معاملته الأمة لِتَتَكوَّنَ مُنَاسَبةٌ بين روحه الزكية وبين ما يلقى إليه من الوحي بشريعته التي هي رحمة؛ حتى يكون تلقيه الشريعة عن انشراح نفس أن يجد ما يوحى به إليه ملائمًا رغبته وخلقه. قالت عائشة: «كان خلقه القرآن». ولهذا خص الله محمدًا صلى الله عليه وسلم في هذه السورة بوصف الرحمة ولم يصف به غيره من الأنبياء، وكذلك في القرآن كله.
وأما المظهر الثاني من مظاهر كونه رحمة للعالمين فهو مظهر تصاريف شريعته، أي: ما فيها من مقومات الرحمة العامة للخلق كلهم؛ لأن قوله تعالى: « للعالمين » متعلق بقوله: «رحمة» »102.
خامسًا: الشاهد:
أوصاف « الشاهد، والمبشر، والنذير، والداعي، والسراج المنير » جاءت كلها مجموعة في قوله تعالى: (ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ) [الأحزاب:٤٥-٤٦].
« والشهادة: قولٌ صادر عن علم حصل بمشاهدة بصر أو بصيرة »103. «وشهدت يقال على ضربين: أحدهما: جارٍ مجرى العلم، وبلفظه تقام الشهادة، يقال: أشهد بكذا. ولا يُرْضَى من الشاهد أن يقول: أعلم، بل يحتاج أن يقول: أشهد. والثاني: يجري مجرى القسم، فيقول: أشهد بالله إن زيدًا منطلق. ومنهم من يقول: إن قال: أشهد. ولم يقل: بالله. يكون قسمًا. ويجرى علمت مجراه فى القسم فيجاب بجواب القسم كقوله: ولقد علمت لتأتين منيتى
ويقال: شاهد، وشهيد، وشهداء. ويقال: شهدت كذا، أي: حضرته، وشهدت على كذا.
قال الله تعالى: (ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ) [فصلت:٢٠]»104.
«والشاهد: المخبر عن حجة المدعي المحق ودفع دعوى المبطل »105.
وشهادة النبي صلى الله عليه وسلم تتضمن شهادته لله بالوحدانية، وشهادته للرسل بالتبليغ، كما تتضمن شهادته على من بلغ إليهم رسالة الله من مؤمنين وكافرين.
فأما شهادته للرسل بالبلاغ فقد وقع النص عليها في قوله تعالى: (ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ) [البقرة:١٤٣].
وفي قوله تعالى: (ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰﮱ ﯓ ﯔ ﯕﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ) [الحج:٧٨].
روى البخاري عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يدعى نوح يوم القيامة، فيقول: لبيك وسعديك يا رب، فيقول: هل بلغت؟ فيقول: نعم، فيقال لأمته: هل بلغكم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير، فيقول: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته، فتشهدون أنه قد بلغ: (ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ) فذلك قوله جل ذكره: (ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ))106.
و«الوسط» في الآية: « الخيار والأجود، كما يقال: قريشٌ أوسط العرب نسبًا ودارًا، أي: خيرها. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وسطًا في قومه، أي: أشرفهم نسبًا»107. وقال ابن جرير: «وأنا أرى أن«الوسط» في هذا الموضع، هو«الوسط» الذي بمعنى: الجزء الذي هو بين الطرفين، مثل«وسط الدار» محرك الوسط مثقله، غير جائز في«سينه» التخفيف. وأرى أن الله تعالى ذكره إنما وصفهم بأنهم«وسط» لتوسطهم في الدين، فلا هم أهل غلوٍ فيه، غلو النصارى الذين غلوا بالترهب، وقيلهم في عيسى ما قالوا فيه، ولا هم أهل تقصير فيه، تقصير اليهود الذين بدلوا كتاب الله، وقتلوا أنبياءهم، وكذبوا على ربهم، وكفروا به، ولكنهم أهل توسط واعتدال فيه. فوصفهم الله بذلك، إذ كان أحب الأمور إلى الله أوسطها»108.
وهناك تلازم بين الخيرية ووسطية المنهج -بمعنى الوسط بين طرفين- وكمال الشريعة، ولأجل ذلك كانت هذه الأمة ونبيها صلى الله عليه وسلم شاهدين للرسل على من كذبهم من قومهم.
قال ابن كثير: « ولما جعل الله هذه الأمة وسطًا خصها بأكمل الشرائع وأقوم المناهج وأوضح المذاهب، كما قال تعالى:(ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰﮱ ﯓ ﯔ ﯕﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ)»109، أي: «شهداء لأنبيائي ورسلي على أممها بالبلاغ، أنها قد بلغت ما أمرت ببلاغه من رسالاتي إلى أممها، ويكون رسولي محمدٌ صلى الله عليه وسلم شهيدًا عليكم، بإيمانكم به وبما جاءكم به من عندي »110.
وعليه فالرسول صلى الله عليه وسلم « شاهد بصحة ما هو صحيح من الشرائع وبقاء ما هو صالح للبقاء منها ويشهد ببطلان ما ألصق بها وبنسخ ما لا ينبغي بقاؤه من أحكامها بما أخبر عنهم في القرآن والسنة.
قال تعالى: (ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ) [المائدة:٤٨].
وفي حديث الحشر: (يسأل كل رسول هل بلغ؟ فيقول: نعم. فيقول الله: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته) الحديث»111.
وأما شهادته صلى الله عليه وسلم على من بلغته دعوته فقد نص عليها قوله تعالى: (ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ) [المزمل:١٥].
ومعنى الآية: «(ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ)[الأحزاب:٤٥].
على من بعثت إليهم تراقب أحوالهم، وتشاهد أعمالهم، وتتحمل منهم الشهادة بما صدر عنهم من التصديق والتكذيب، وسائر ما هم عليه من الهدى والضلال، وتؤديها يوم القيامة أداءً مقبولًا »112.
وكما أن النبي صلى الله عليه وسلم شاهد على من كذب، فهو شاهد أيضا على من يزعم الإيمان، وذلك أنه « صلى الله عليه وسلم شاهد أيضا على أمته بمراقبة جريهم على الشريعة في حياته وشاهد عليهم في عرصات القيامة.
قال تعالى: (ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ) [النساء:٤١].
فهو شاهد على المستجيبين لدعوته وعلى المعرضين عنها، وعلى من استجاب للدعوة ثم بدل. وفي حديث الحوض: (ليردن علي ناس من أصحابي الحوض حتى إذا رأيتهم وعرفتهم اختلجوا دوني فأقول: يا رب أصيحابي أصيحابي. فيقال لي: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك فأقول: تبا وسحقا لمن أحدث بعدي) يعني: أحدثوا الكفر وهم أهل الردة كما في بعض روايات الحديث: (إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم). فلا جرم كان وصف الشاهد أشمل هذه الأوصاف للرسول صلى الله عليه وسلم بوصف كونه رسولا لهذه الأمة، وبوصف كونه خاتما للشرائع ومتمما لمراد الله من بعثة الرسل »113.
سادسًا: المبشر:
المبشر: المخبر بالخبر الذي يسر، يقال: « أبشرت الرجل وبشرته وبشرته: أخبرته بسار بسط بشرة وجهه، وذلك أن النفس إذا سرت انتشر الدم فيها انتشار الماء في الشجر»114.
« ويقال للخبر السار: البشارة والبشرى.
قال تعالى: (ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ) [يونس:٦٤]»115.
وقد بعث عليه الصلاة والسلام يبشر من استجاب له بالخير والسعادة والنجاة من أسباب الخزي والهلاك في الدنيا والآخرة فهو « صلى الله عليه وسلم مبشر لأهل الإيمان والمطيعين بمراتب فوزهم. وقد تضمن هذا الوصف ما اشتملت عليه الشريعة من الدعاء إلى الخير من الأوامر وهو قسم الامتثال من قسمي التقوى، فإن التقوى امتثال المأمورات واجتناب المنهيات، والمأمورات متضمنة المصالح فهي مقتضية بشارة فاعليها بحسن الحال في العاجل والآجل»116.
وقد وقع تفصيل هذه البشارة في الآية الموالية وهي قوله عز وجل: (ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ) [الأحزاب:٤٧].
أي: «وبشر أهل الإيمان بالله يا محمد (ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ): يقول: بأن لهم من ثواب الله على طاعتهم إياه تضعيفا كثيرا، وذلك هو الفضل الكبير من الله لهم»117.
قال ابن عطية: «قال لنا أبي رضي الله عنه: هذه من أرجى آية عندي في كتاب الله تعالى لأن الله تعالى أمر نبيه أن يبشر المؤمنين بأن لهم عنده فضلًا كبيرًا، وقد بين تعالى الفضل الكبير ما هو في قوله تعالى: (ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ) [الشورى:٢٢].
فالآية التي في هذه السورة خبر والتي في «حم عسق» تفسير لها»118.
وعلى هذا فالفضل الكبير هو الجنة لهم فيها ما يشاؤون عند ربهم.
ويقترن وصف البشير غالبا بوصف النذير -كما في الآية السابقة-، «وقدمت البشارة على النذارة لأن النبيء صلى الله عليه وسلم غلب عليه التبشير لأنه رحمة للعالمين، ولكثرة عدد المؤمنين في أمته»119.
والبشارة سابقة للإنذار وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى أنها القاعدة الأولى والصبغة الأساس التي يجب أن تصطبغ بها الدعوة إلى دين الله، ففي المعجم الكبير للطبراني عن ابن عباس، قال: لما أنزلت (ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ) دعا النبي صلى الله عليه وسلم عليا ومعاذا، وقد كان أمرهما أن يخرجا إلى اليمن، فقال: (انطلقا وبشرا، ولا تنفرا، ويسرا ولا تعسرا، فإنه قد أنزلت علي (ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ): على أمتك، (ﭠ): بالجنة، (ﭡ): من النار (ﭣ) إلى شهادة أن لا إله إلا الله (ﭧ ﭨ) بالقرآن)120.
سابعًا: النذير:
وأما النذير فهو المنذر؛ مأخوذ من الإنذار: وهو الإعلام على سبيل التحذير والتخويف، يقال: «نذر بالشيء وبالعدو -بكسر الذال-، نذرا: علمه فحذره. وأنذره بالأمر إنذارا ونذرا أعلمه، والصحيح أن النذر الاسم والإنذار المصدر. وأنذره أيضا: خوفه وحذره »121.
وإذا كان البشير هو المخبر بالخبر السار فإن النذير هو المخبر بضده، وكذا فإن البشرى لما كانت لأهل الإيمان فإن الإنذار لمن هم بخلاف حالهم، وهو عليه الصلاة والسلام منذرهم والنذير لهم: «مشتق من الإنذار وهو الإخبار بحلول حادث مسيء أو قرب حلوله، والنبيء عليه الصلاة والسلام منذر للذين يخالفون عن دينه من كافرين به ومن أهل العصيان بمتفاوت مؤاخذتهم على عملهم »122.
وقد اشتق وصف النذير من الإنذار على صيغة فعيل في الآية ليكون كالاسم للموصوف به أي: النبي صلى الله عليه وسلم، قال في التحرير: «جيء في جانب النذارة بصيغة فعيل دون اسم الفاعل لإرادة الاسم فإن النذير في كلامهم اسم للمخبر بحلول العدو بديار القوم. ومن الأمثال: أنا النذير العريان، أي: الآتي بخبر حلول العدو بديار قوم. والمراد بالعريان أنه ينزع عنه قميصه ليشير به من مكان مرتفع فيراه من لا يسمع نداءه، فالوصف بنذير تمثيل بحال نذير القوم كما قال: (ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ) [سبأ:٤٦].
للإيماء إلى تحقيق ما أنذرهم به حتى كأنه قد حل بهم وكأن المخبر عنه مخبر عن أمر قد وقع، وهذا لا يؤديه إلا اسم النذير، ولذلك كثر في القرآن الوصف بالنذير وقل الوصف بمنذر »123.
وقد ضرب عليه الصلاة والسلام مثلا لهذا الإنذار بمن يخوف الناس عدوا يوشك أن يبطش بهم فمن صدق قوله وعمل بنصحه نجا ومن لم يفعل هلك، ففي صحيح البخاري عن أبي موسى، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مثلي ومثل ما بعثني الله، كمثل رجل أتى قوما فقال: رأيت الجيش بعيني، وإني أنا النذير العريان، فالنجاء النجاء، فأطاعته طائفة فأدلجوا على مهلهم فنجوا، وكذبته طائفة فصبحهم الجيش فاجتاحهم)124.
«وشمل اسم النذير جوامع ما في الشريعة من النواهي والعقوبات وهو قسم الاجتناب من قسمي التقوى فإن المنهيات متضمنة مفاسد فهي مقتضية تخويف المقدمين على فعلها من سوء الحال في العاجل والآجل»125.
ثامنًا: الداعي إلى الله:
«والداعي إلى الله هو الذي يدعو الناس إلى ترك عبادة غير الله، ويدعوهم إلى اتباع ما يأمرهم به الله.
والدعاء: الحث على قصد الشيء، ومنه قول يوسف عليه السلام: (ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ) [يوسف:٣٣].
وقول مؤمن آل فرعون: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ) [غافر:٤١]126.
«وأصل دعاه إلى فلان: أنه دعاه إلى الحضور عنده، يقال: ادع فلانا إلي. ولما علم أن الله تعالى منزه عن جهة يحضرها الناس عنده تعين أن معنى الدعاء إليه الدعاء إلى ترك الاعتراف بغيره (كما يقولون: أبو مسلم الخراساني يدعو إلى الرضى من آل البيت) فشمل هذا الوصف أصول الاعتقاد في شريعة الإسلام مما يتعلق بصفات الله لأن دعوة الله دعوة إلى معرفته وما يتعلق بصفات الدعاة إليه من الأنبياء والرسل والكتب المنزلة عليهم.
وزيادة بإذنه ليفيد أن الله أرسله داعيًا إليه ويسر له الدعاء إليه مع ثقل أمر هذا الدعاء وعظم خطره وهو ما كان استشعره النبيء صلى الله عليه وسلم في مبدأ الوحي من الخشية إلى أن أنزل عليه: (ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ)[المدثر:١-٢].»127.
تاسعًا: السراج المنير:
وصف «السراج المنير» ورد أيضًا في آية الأحزاب السابقة: (ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ) [الأحزاب:٤٥-٤٦].
والسراج: « المصباح الزاهر الذي يسرج بالليل»128، «والشمس سراج النهار، والهدى سراج المؤمنين»129.
ومعنى كون النبي صلى الله عليه وسلم سراجا منيرا أنه «مثل السراج الذي يستضاء به، أو مثل الشمس في النور والظهور»130. أو « هاديا كأنه سراج يهتدى به في الظلم»131.
وقد التفت الطبري إلى أن السراج له مادة يستضيء بها فيضيء هو في نفسه، ثم يستضيء به الناس، قال: «(ﭧ ﭨ) يقول: وضياء لخلقه يستضيء بالنور الذي أتيتهم به من عند الله، (ﭨ) يقول: ضياء ينير لمن استضاء بضوئه، وعمل بما أمره، وإنما يعني بذلك: أنه يهدي به من اتبعه من أمته»132.
فهو عليه الصلاة والسلام يستضيء بالنور الذي جاءه من عند الله: وهو الوحي، فيضيء ويهدي بنوره لأن أمره «ظاهرٌ فيما جاء به من الحق، كالشمس في إشراقها وإضاءتها، لا يجحدها إلا معاندٌ»133.
وأما ابن عاشور فقد نظر إلى الجانب العقلي من الهداية وهو إقامة الحجة وإزالة الشبهات فقال: «وقوله:(ﭧ ﭨ): تشبيه بليغ بطريق الحالية وهو طريق جميل، أي: أرسلناك كالسراج المنير في الهداية الواضحة التي لا لبس فيها والتي لا تترك للباطل شبهة إلا فضحتها وأوقفت الناس على دخائلها، كما يضيء السراج الوقاد ظلمة المكان. وهذا الوصف يشمل ما جاء به النبيء صلى الله عليه وسلم من البيان وإيضاح الاستدلال وانقشاع ما كان قبله في الأديان من مسالك للتبديل والتحريف فشمل ما في الشريعة من أصول الاستنباط والتفقه في الدين والعلم، فإن العلم يشبه بالنور فناسبه السراج المنير»134.
وهذا الوصف للنبي صلى الله عليه وسلم ورد في هذا الموضع فقط، ولكننا بعد التأمل نجد أن له نظائر؛ فقد وصفه الله سبحانه وتعالى بـ «السراج المنير»، ووصف القرآن بـ «النور» في قوله: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ) [الشورى:٥٢].
ولا ينير السراج إلا وله نور. كما أن الآية صريحة في أنه صلى الله عليه وسلم لما أوحي إليه بهذا النور صار يهدي إلى صراط مستقيم.
ومثل القرآن الكريم النور في قلب المؤمن بالمصباح الذي يوقد من زيت شجرة مباركة كأنه كوكب دري، فقال تعالى: (ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓﯔ ﯕ ﯖ ﯗﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬﯭ ﯮ ﯯ ﯰﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ) [النور:٣٥].
قال السعدي: « (ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ) الحسي والمعنوي، وذلك أنه تعالى بذاته نور، وحجابه -الذي لولا لطفه، لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه- نور، وبه استنار العرش، والكرسي، والشمس، والقمر، والنور، وبه استنارت الجنة. وكذلك النور المعنوي يرجع إلى الله، فكتابه نور، وشرعه نور، والإيمان والمعرفة في قلوب رسله وعباده المؤمنين نور. فلولا نوره تعالى، لتراكمت الظلمات، ولهذا: كل محل، يفقد نوره فثم الظلمة والحصر. (ﮮ ﮯ) الذي يهدي إليه، وهو نور الإيمان والقرآن في قلوب المؤمنين، (ﮰ) أي: كوة (ﮱ ﯓ) لأن الكوة تجمع نور المصباح بحيث لا يتفرق ذلك (ﯕ ﯖ ﯗﯘ ﯙ) من صفائها وبهائها (ﯚ ﯛ ﯜ) أي: مضيء إضاءة الدر.
(ﯝ) ذلك المصباح، الذي في تلك الزجاجة الدرية (ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ) أي: يوقد من زيت الزيتون الذي ناره من أنور ما يكون، (ﯢ ﯣ) فقط، فلا تصيبها الشمس آخر النهار، (ﯤ ﯥ) فقط، فلا تصيبها الشمس أول النهار، وإذا انتفى عنها الأمران، كانت متوسطة من الأرض، كزيتون الشام، تصيبها الشمس أول النهار وآخره، فتحسن وتطيب، ويكون أصفى لزيتها، ولهذا قال: (ﯦ ﯧ) من صفائه (ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ) فإذا مسته النار، أضاء إضاءة بليغة (ﯮ ﯯ ﯰ) أي: نور النار، ونور الزيت »135.
فإذا كان العلم والمعرفة صورة نور الله في قلوب رسله وعباده المؤمنين، فإن أحق من أشع منه هذا النور السراج المنير صلى الله عليه وسلم. جاء في تفسير ابن كثير: « وقال شمر بن عطية: جاء ابن عباس إلى كعب الأحبار فقال: حدثني عن قول الله: (ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ)، قال: يكاد محمد يبين للناس، وإن لم يتكلم، أنه نبي، كما يكاد ذلك الزيت أن يضيء»136.
ولقد صدق كعب، فقد كان وجهه صلى الله عليه وسلم يشع صدقا كما قال عبد الله بن سلام: « لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة انجفل الناس نحوه فأتيته، فلما نظرت إليه، عرفت أن وجهه ليس وجه كذابٍ»137، وكان أذن خير (ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ) [التوبة:٦١].
زكى الله لسانه (ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ) [النجم:٣].
وبصره: (ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ) [النجم:١٧].
وشرح صدره:(ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ) [الشرح:١].
وختم على قلبه لئلا يدخله باطل وربط عليه بالصبر (ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ) [الشورى:٢٤].
وامتدح خلقه: (ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ) [القلم:٤].
وأقسم بعمره: (ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ) [الحجر:٧٢].
ورفع ذكره: (ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ) [الشرح:٤].
وألقى في قلوب المؤمنين حبه: (فو الذي نفسي بيده، لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده)138. فمن رآه أو سمع عنه أشع له من صدق الحق الذي يدعو إليه أشد من نور الشمس في ضحاها. فصلاة الله وسلامه عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وصحبه الصادقين المرضيين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
خلقه عليه السلام من خلال القرآن
جمع محمد صلى الله عليه سلم مكارم الأخلاق كلها واتصف بكمالها الإنساني، ولقد امتدحه ربه عز وجل فقال: (ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ) [القلم:٤].
«والخلق العظيم: هو الخلق الأكرم في نوع الأخلاق وهو البالغ أشد الكمال المحمود في طبع الإنسان لاجتماع مكارم الأخلاق في النبيء صلى الله عليه وسلم فهو حسن معاملته الناس على اختلاف الأحوال المقتضية لحسن المعاملة، فالخلق العظيم أرفع من مطلق الخلق الحسن. ولهذا قالت عائشة: «كان خلقه القرآن»، ألست تقرأ:(ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ)[المؤمنون:١] - الآيات العشر-، وعن علي: الخلق العظيم: هو أدب القرآن ويشمل ذلك كل ما وصف به القرآن محامد الأخلاق وما وصف به النبيء صلى الله عليه وسلم من نحو قوله: (ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ) [آل عمران:١٥٩].
وقوله: (ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ) [الأعراف:١٩٩].
وغير ذلك من آيات القرآن. وما أخذ به من الأدب بطريق الوحي غير القرآن، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)»139.
فهو صلى الله عليه وسلم متصف بالخلق العظيم المستوحى من القرآن الكريم والحاصل من تأديب الحق سبحانه وتعالى له حتى بلغ في حسن الخلق منتهاه، وكان خلقه القرآن.
هذا على الإجمال، أما على التفصيل، فإننا نجد أنه عليه الصلاة والسلام قد وصف في نصوص القرآن الكريم بجملة من الأخلاق، هي:
أولًا: الصبر:
لا يختلف اثنان في أن محمدًا صلى الله عليه وسلم كان آية في الصبر، ولقد أصابه من البلاء في الله ما أصابه: فمنذ أوحى الله إليه وصدع في الناس بالحق واجهه الناس بالصد والتكذيب والاستهزاء والإيذاء النفسي والبدني؛ ألقوا التراب على رأسه، واجتمعوا حول بيته يريدون قتله، وقاطعوه وقومه سنين عدة حتى أكلوا أوراق الشجر، وقتلوا من أصحابه من قتلوا وسلطوا على من قدروا عليه منهم العذاب الشديد، ولم يزالوا به حتى هاجر من مكة مستخفيا، وسيروا البعوث والجيوش لقتاله، وتحالفوا على ذلك وتراسلوا فيما بينهم.
وما جمع قبائل العرب المتعادية مع اليهود إلا الرغبة في استئصال الإسلام وأهله، حتى تعدى الأمر إلى الروم الذين كان لهم حظ من البلاء الذي أصاب المسلمين يوم مؤتة وفي مشاهد من بعدها ولكن الناس لم يروا النبي صلى الله عليه وسلم يوما شاكيا أو ضاجرا أو ضعيفا أو يائسا، ولما أمكنه الله من رقاب أعدائه قال لهم:(اذهبوا فأنتم الطلقاء)
مع أنه صلى الله عليه وسلم كان آية في الصبر، إلا أن القرآن الكريم لم يصفه بهذه الصفة كما وصف أيوب عليه السلام مثلا من قبل بقوله: (ﭤ ﭥ ﭦ) [ص:٤٤].
بل نجد في مقابل ذلك وصية له صلى الله عليه وسلم بالصبر، وأمرا له بالاقتداء في ذلك بالأنبياء من قبله.
قال تعالى: (ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ) [النحل:١٢٦-١٢٨].
وقال سبحانه: (ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ) [الأحقاف:٣٥].
وقد دلت الآيتان على أن الله عز وجل قد أدب نبيه صلى الله عليه وسلم فاختار له من الأخلاق مكارمها، وأمره أن يتمثل الصفات الطيبة في خلق أولي العزم من الرسل.
أخرج البزار عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف على حمزة بن عبد المطلب حين استشهد فنظر إلى منظر لم ينظر إلى منظر أوجع للقلب منه -أو قال لقلبه منه- ونظر إليه وقد مثل به فقال:(رحمة الله عليك إن كنت ما علمت لوصولا للرحم فعولا للخيرات، والله لولا حزن من بعدك عليك لسرني أن أتركك حتى يحشرك الله من بطون السباع -أو كلمة نحوها-، أما والله على ذلك لأمثلن بسبعين كمثلتك)، فنزل جبريل عليه السلام على محمد صلى الله عليه وسلم بهذه السورة وقرأ: (ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ) -إلى آخر الآية-، فكفر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمسك عن ذلك)140.
واستئناسًا بهذا السبب، فإن الآية قد أمرته صلى الله عليه وسلم بالصبر والعفو في هذه الواقعة الخاصة، ولكن لفظها جار مجرى العموم خاصة مع الضعف الذي يعتري سبب النزول، وفيها أنه سبحانه وتعالى «رخص في القصاص للمظلوم في غير عدوان وندب له العفو والإحسان، وعزم لنبيه على الصبر يقول تعالى -مبيحا للعدل ونادبًا للفضل والإحسان-: (ﯡ ﯢ) من أساء إليكم بالقول والفعل (ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ) من غير زيادة منكم على ما أجراه معكم. (ﯩ ﯪ) عن المعاقبة وعفوتم عن جرمهم (ﯫ ﯬ ﯭ) من الاستيفاء وما عند الله خير لكم وأحسن عاقبة كما قال تعالى: (ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ)[الشورى:٤٠].
ثم أمر رسوله بالصبر على دعوة الخلق إلى الله والاستعانة بالله على ذلك وعدم الاتكال على النفس فقال: (ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ) هو الذي يعينك عليه ويثبتك. (ﯵ ﯶ ﯷ) إذا دعوتهم فلم تر منهم قبولا لدعوتك، فإن الحزن لا يجدي عليك شيئا. (ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ) أي: شدة وحرج (ﯼ ﯽ) فإن مكرهم عائد إليهم وأنت من المتقين المحسنين، والله مع المتقين المحسنين، بعونه وتوفيقه وتسديده، وهم الذين اتقوا الكفر والمعاصي، وأحسنوا في عبادة الله، بأن عبدوا الله كأنهم يرونه فإن لم يكونوا يرونه فإنه يراهم، والإحسان إلى الخلق ببذل النفع لهم من كل وجه»141.
فعزم الله لنبيه صلى الله عليه وسلم على الصبر، ورخص لغيره في القصاص وجعل الصبر له مندوبا، «ويروى أنه عليه السلام قال لأصحابه: (أما أنا فأصبر كما أمرت، فماذا تصنعون؟ فقالوا: نصبر يا رسول الله كما ندبنا) 142.
وكما أمره الله عز وجل أن يصبر ويعفو، فقد أمره أن يتمثل ذلك في خلق أولي العزم من الرسل وأن يقتدي بهم في كونهم صابرين في قوله سبحانه: (ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ) [الشورى:٣٥].
وهم ذوو الحزم والجد والصبر»143.
وأما من هم أولوا العزم من الرسل فقد ذكر المفسرون فيه أقوالًا:
«أحدها: أنهم نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد صلى الله عليه وسلم، رواه الضحاك عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وقتادة، وعطاء الخراساني، وابن السائب.
والثاني: نوح، وهود، وإبراهيم، ومحمد صلى الله عليه وسلم، قاله أبو العالية الرياحي.
والثالث: أنهم الذين لم تصبهم فتنةٌ من الأنبياء، قاله الحسن.
والرابع: أنهم العرب من الأنبياء، قاله مجاهد، والشعبي.
والخامس: أنهم إبراهيم، وموسى، وداود، وسليمان، وعيسى، ومحمد صلى الله عليه وسلم، قاله السدي.
والسادس: أن منهم إسماعيل، ويعقوب وأيوب، وليس منهم آدم، ولا يونس، ولا سليمان، قاله ابن جريج.
والسابع: أنهم الذين أمروا بالجهاد والقتال، قاله ابن السائب، وحكي عن السدي.
والثامن: أنهم جميع الرسل، فإن الله لم يبعث رسولًا إلا كان من أولي العزم، قاله ابن زيد، واختاره ابن الأنباري، وقال: «من» دخلت للتجنيس لا للتبعيض، كما تقول: قد رأيت الثياب من الخز والجباب من القز.
والتاسع: أنهم الأنبياء الثمانية عشر المذكورون في سورة (الأنعام)، قاله الحسين بن الفضل.
العاشر: أنهم جميع الأنبياء إلا يونس، حكاه الثعلبي»144.
ورغم أن الآية لم تنص نصًا صريحًا على اتصافه صلى الله عليه وسلم بالصبر، فإنها دلت على ذلك دلالة ضمنية.
قال ابن عاشور: «وهذه الآية اقتضت أن محمدا صلى الله عليه وسلم من أولي العزم لأن تشبيه الصبر الذي أمر به بصبر أولي العزم من الرسل يقتضي أنه مثلهم لأنه ممتثل أمر ربه، فصبره مثيل لصبرهم، ومن صبر صبرهم كان منهم لا محالة»145.
فقد نص على أن الآية تدل ضمنا على دخوله صلى الله عليه وسلم في عداد أولي العزم من الرسل واتصافه بالصبر، ويكون ذلك من الأساليب القرآنية البليغة التي تسري على قلبه صلى الله عليه وسلم وتثبته على الحق بما تضرب له من المثل في صفة إخوانه من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كما قال تعالى: (ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ) [هود:١٢٠].
على أن عدم وصفه بالصبر وصفا صريحا قد تضمن معنا بليغا يستشف من النصوص، فإنه صلى الله عليه وسلم جاوز مرحلة التأذي بصد المشركين عنه إلى الحزن عليهم لشدة الحرص والرغبة في استنقاذهم حتى قيل له (ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ) [الكهف:٦].
فإن الأذى الذي تهون منه الآية في نفسه صلى الله عليه وسلم لم يكن سببه ما لقيه من صد وجفوة، بل الحزن على إهلاك المعادين له أنفسهم بتكذيبهم بالحق، فكانت «هذه الآية تسلية للنبي عليه السلام، وقوله: (ﭤ) تقرير وتوفيق بمعنى الإنكار عليه أي: لا تكن كذلك، و «الباخع نفسه» هو مهلكها وجدا وحزنا على أمر ما، وقوله:(ﭧ ﭨ) استعارة فصيحة، من حيث لهم إدبار وتباعد عن الإيمان وإعراض عن الشرع، فكأنهم من فرط إدبارهم قد بعدوا فهو في آثارهم يحزن عليهم، وقوله: (ﭬ ﭭ) أي: بالقرآن الذي يحدثك به، و «الأسف»: المبالغة في حزن أو غضب»146.
وعليه فقد بلغ عليه الصلاة والسلام مرتبة عالية من الصبر جعلته يجاوز الأسف والحزن على ما يصيبه من أذى إلى الحزن على من يؤذيه لإهلاكه نفسه بالتكذيب.
ثانيًا: الحياء:
كان النبي صلى الله عليه وسلم: (أشد حياءً من العذراء في خدرها)147، كما قال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه، ومن مظاهر حيائه عليه الصلاة والسلام: «أنه لم يكن يواجه أحدا بما يكرهه بل يتغير وجهه فيفهم أصحابه كراهيته لذلك»148.
ولقد أصابه عليه الصلاة والسلام أذى من بعض الناس على غير قصد منهم فمنعه حياءه أن يواجههم به، ولكن القرآن الكريم نزل مربيًا ومؤدبًا وموجهًا للمؤمنين ومرشدًا لهم إلى التيقظ والتنبه في معاملتهم له إلى ما فيه إيذاء له، فإنه يستحيي أن يرده عليهم.
عن أنسٍ رضي الله عنه، قال: (بني على النبي صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحشٍ بخبزٍ ولحمٍ، فأرسلت على الطعام داعيًا فيجيء قومٌ فيأكلون ويخرجون، ثم يجيء قومٌ فيأكلون ويخرجون، فدعوت حتى ما أجد أحدًا أدعو، فقلت: يا نبي الله ما أجد أحدًا أدعوه، قال: (ارفعوا طعامكم) وبقي ثلاثة رهطٍ يتحدثون في البيت، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فانطلق إلى حجرة عائشة فقال: (السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله)، فقالت: وعليك السلام ورحمة الله، كيف وجدت أهلك بارك الله لك، فتقرى حجر نسائه كلهن، يقول لهن كما يقول لعائشة، ويقلن له كما قالت عائشة، ثم رجع النبي صلى الله عليه وسلم فإذا ثلاثةٌ من رهطٍ في البيت يتحدثون، وكان النبي صلى الله عليه وسلم شديد الحياء، فخرج منطلقًا نحو حجرة عائشة فما أدري آخبرته أو أخبر أن القوم خرجوا فرجع، حتى إذا وضع رجله في أسكفة149 الباب داخلةً، وأخرى خارجةً أرخى الستر بيني وبينه، وأنزلت آية الحجاب)150.
وقد نزل في ذلك قوله تعالى: (ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ) [الأحزاب:٥٣].
والمعنى: « (ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ) يعني: إلا أن تدعوا إلى (ﮡ) فيؤذن لكم فتأكلون (ﮢ ﮣ ﮤ) يعنى: منتظرين نضجه ووقت إدراكه (ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ) أي: أكلتم الطعام (ﮫ) أي: فاخرجوا من منزله وتفرقوا (ﮬ ﮭ: ﮮ) أي: لا تطيلوا الجلوس ليستأنس بعضكم بحديث بعض، وكانوا يجلسون بعد الطعام يتحدثون فنهوا عن ذلك (ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ) أي: فيستحيي من إخراجكم (ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ) أي: لا يترك تأديبكم وبيان الحق حياء، ولما كان الحياء مما يمنع الحيي من بعض الأفعال، قال:(ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ) بمعنى: لا يمتنع منه ولا يتركه ترك الحيي منكم وهذا أدب أدب الله به الثقلاء»151.
وقد أبرزت الآية مظهر خلقه صلى الله عليه وسلم الكريم، فهذه السريرة الطيبة، وتلك النفس العظيمة، قد تدثرت بلباس العظمة التي تشفق على المخطئ أن يتطاير إليه منها شرارة تمسه ببعض الأذى أو تنبهه على أنه أتى شيئا لا يليق، وقد تظافر في تشكيل هذه النفسية العظيمة حياء العظماء وشفقة الرحماء.
ثالثًا: الرأفة والرحمة بالمؤمنين:
كان النبي صلى الله عليه وسلم رحيمًا رؤوفًا هيِنًا ليِنًا عفوًا قابلًا للعذر حريصًا على سوق الخير للناس؛ عامل بهذا الخلق أصحابه وأعداءه، إلا أن يقابل في ساحة الوغى قوما يعادون الحق ويحاربونه فيغلظ عليهم في الله انتصارا للحق والضعفاء لا لنفسه.
ولقد تفرق عنه أصحابه يوم أحد وهو يدعوهم في أخراهم، ثم أنزل الله العفو عنهم وأمره هو صلى الله عليه وسلم أن يعفو عنهم أيضا فقال: (ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ) [آل عمران:١٥٩].
والمتأمل للآية يجد أنها قد مهدت لهذا الأمر بالعفو بالنص على أنه صلى الله عليه وسلم رحمة رحم الله بها المؤمنين فلان لهم، فاجتمعوا على محبته، ولو أنه كان فظا غليظ القلب لكانوا قد تفرقوا عنه. قال ابن جرير: « يعني جل ثناؤه بقوله:(ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ)، فبرحمة من الله، و«ما» صلة. وأما قوله:(ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ)، فإنه يعني بـ«الفظ» الجافي، وبـ«الغليظ القلب»: القاسي القلب، غير ذي رحمة ولا رأفة. وكذلك كانت صفته صلى الله عليه وسلم، كما وصفه الله به: (ﯘ ﯙ ﯚ) [التوبة:١٢٨].
فتأويل الكلام: فبرحمة الله، يا محمد، ورأفته بك وبمن آمن بك من أصحابك (ﭝ ﭞ): لتباعك وأصحابك، فسهلت لهم خلائقك، وحسنت لهم أخلاقك، حتى احتملت أذى من نالك منهم أذاه، وعفوت عن ذي الجرم منهم جرمه، وأغضيت عن كثير ممن لو جفوت به وأغلظت عليه لتركك ففارقك ولم يتبعك ولا ما بعثت به من الرحمة، ولكن الله رحمهم ورحمك معهم، فبرحمة من الله لنت لهم»152.
ولئن كان هذا خلقه صلى الله عليه وسلم مع أصحابه فقد كان ذلك خلقه مع أعدائه، وحتى مع أشد الناس أذى له في نفسه وأهله كما فعل مع عبد الله بن أبي بن سلول رأس المنافقين والذي رمى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بالفاحشة في قصة الإفك المشهورة، وما كان قصده إلا إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الذي كاد للمؤمنين يوم أحد، وراسل بني النضير يعدهم بالنصرة، ووصف النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من المهاجرين بالكلاب، وقال لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل وتربص وأصحابه بالنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين الدوائر
عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: (لما توفي عبد الله بن أبي، جاء ابنه عبد الله بن عبد الله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه أباه، فأعطاه، ثم سأله أن يصلي عليه، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه، فقام عمر فأخذ بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله تصلي عليه، وقد نهاك ربك أن تصلي عليه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما خيرني الله فقال:) استغفر لهم أو لا تستغفر لهم، إن تستغفر لهم سبعين مرة، وسأزيده على السبعين (قال: إنه منافق، قال: فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله:(ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ)[التوبة:٨٤])153.
ولقد نسي النبي صلى الله عليه وسلم كل أذى أصابه من ابن سلول وهم أن يستغفر له أكثر من سبعين مرة، وهو أمر يجاوز مجرد مواساة ابنه المؤمن، ولقد كان صلى الله عليه وسلم ينظر إلى ما أصابه هو من أذى منه مختارا سبيل الصفح والعفو، ولكن الآية نزلت تأمر بالنظر إلى جرمه في حق الإسلام وأهله، وهي دالة على أن موجب الرحمة يزول في حق المحاد لله ورسوله من باب كونه عدوا للحق محاربا له صادا عنه، ولعل الآية قد قصرت رأفته ورحمته صلى الله عليه وسلم على المؤمنين لأجل أن الغلظة واجبة عند انتهاك حرمات الله كما يأتي -إن شاء الله-.
وحين سخر المنافقون من إنصات النبي صلى الله عليه وسلم لهم وهم له كاذبون وقالوا: «هو أذن»، رد عليهم القرآن الكريم بأنه أذن خير ورحمة للمؤمنين، وأن الله قد أعد للمؤذين له والمستهزئين به عذابا عظيما.
قال تعالى: (ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ) [التوبة:٦١].
«فلأجل كرم خلقه كان صلى الله عليه وسلم رحمة أي: هو رحمة (ﯬ ﯭ ﯮ)، وإنما قال:(ﯮ) لأن المنافقين كانوا يزعمون أنهم مؤمنون فبين الله سبحانه وتعالى كذبهم بقوله: إنه رحمة للمؤمنين المخلصين لا للمنافقين، وقيل: في كونه صلى الله عليه وسلم رحمة: لأنه يجري أحكام الناس على الظاهر ولا ينقب عن أحوالهم ولا يهتك أسرارهم»154.
فكان صلى الله عليه وسلم رحمة، وكان رحيما بالمؤمنين وبمن أظهر الإيمان بل بمن ينافقه ويعاديه ويكذب عليه وإن علم كذبه رغبة في هدايته وإصلاحه ولئلا يغلق باب الإنابة دونه بفضح أمره.
رابعًا: الحرص على المؤمنين و التألم لألمهم:
ومن مظاهر رحمته صلى الله عليه وسلم أنه كان حريصا على هداية الناس جميعا يعز عليه ما يعنتهم، كما قال تعالى: (ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ) [التوبة:١٢٨].
و معنى (ﮯ ﮰ): « من جنسكم عربي مثلكم. وقرئ: «من أنفسكم» أي: من أشرفكم»155.
والميم في قوله تعالى: (ﮬ ﮭ) إما أن تعود على العرب، أو على الناس كافة، وينبني على ذلك أن قوله سبحانه:(ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ) عائد كذلك على العرب أو على الناس كافة غير مقتصر على المؤمنين وحدهم لأنه قال بعد ذلك: (ﯘ ﯙ ﯚ) فخصهم بها من دون سائر الناس.
قال ابن عطية: « (ﮬ ﮭ) مخاطبة للعرب في قول الجمهور وهذا على جهة تعديد النعمة عليهم في ذلك، إذ جاء بلسانهم وبما يفهمونه من الأغراض والفصاحة وشرفوا به غابر الأيام، وقال الزجاج: هي مخاطبة لجميع العالم، والمعنى لقد جاءكم رسول من البشر، والأول أصوب »156.
و«(ﮱ ﯓ) شديد شاق (ﯔ ﯕ) عنتكم ولقاؤكم المكروه. (ﯖ ﯗ) أي: على إيمانكم وصلاح شأنكم. (ﯘ) منكم ومن غيركم. (ﯙ ﯚ): قدم الأبلغ منهما وهو الرؤوف لأن الرأفة شدة الرحمة»157.
واختصاص الرأفة والرحمة بالمؤمنين يدل على أن قوله تعالى: (ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ) يعم المؤمنين والكافرين، وحتى الرأفة والرحمة قد لا تكون قد قصرت في الآية على المؤمنين وحدهم إلا لأجل أن الغلظة واجبة عند انتهاك حرمات الله -والله أعلم-.
وقد نظر الشيخ محمد الطاهر بن عاشور إلى أن الآية هي خاتمة سورة التوبة التي جاءت بتعذيب الكافرين وفضح المنافقين وأنها أعقبت ذلك ببيان أن النبي صلى الله عليه وسلم رحمة رحمهم الله بها، قال: «كانت هذه السورة سورة شدة وغلظة على المشركين وأهل الكتاب والمنافقين من أهل المدينة ومن الأعراب، وأمرا للمؤمنين بالجهاد، وإنحاء على المقصرين في شأنه. وتخلل ذلك تنويه بالمتصفين بضد ذلك من المؤمنين الذين هاجروا والذين نصروا واتبعوا الرسول في ساعة العسرة. فجاءت خاتمة هذه السورة آيتين بتذكيرهم بالمنة ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم والتنويه بصفاته الجامعة للكمال. ومن أخصها حرصه على هداهم، ورغبته في إيمانهم ودخولهم في جامعة الإسلام ليكون رؤوفا رحيما بهم ليعلموا أن ما لقيه المعرضون عن الإسلام من الإغلاظ عليهم بالقول والفعل ما هو إلا استصلاح لحالهم. وهذا من مظاهر الرحمة التي جعلها الله تعالى مقارنة لبعثة رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله: (ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ)[الأنبياء:١٠٧].
بحيث جاء في هاتين الآيتين بما شأنه أن يزيل الحرج من قلوب الفرق التي نزلت فيهم آيات الشدة وعوملوا بالغلظة تعقيبا للشدة بالرفق وللغلظة بالرحمة، وكذلك عادة القرآن. فقد انفتح بهاتين الآيتين باب حظيرة الإيمان والتوبة ليدخلها من وفقه الله إليها. فالجملة مستأنفة استئنافا ابتدائيا. وفي وقوعها آخر السورة ما يكسبها معنى التذييل والخلاصة»158.
وقد بنى على ذلك أن المقصود جميع من بلغتهم دعوة النبي صلى الله عليه وسلم وأولهم المشركون والمكذبون، قال: «فالخطاب بقوله: جاءكم وما تبعه من الخطاب موجه إلى جميع الأمة المدعوة للإسلام. والمقصود بالخطاب بادئ ذي بدء هم المعرضون من المشركين والمنافقين من العرب بقرينة قوله عقب الخطاب (ﯘ ﯙ ﯚ) »159.
ومن مظاهر رحمته صلى الله عليه وسلم أنه كان سماعا للخير قابلا للعذر.
خامسًا: أذن الخير:
حين سخر المنافقون من إنصات النبي صلى الله عليه وسلم لهم وهم له كاذبون وقالوا: «هو أذن»، رد عليهم القرآن الكريم بأنه أذن خير ورحمة للمؤمنين، وأن الله قد أعد للمؤذين له والمستهزئين به عذابا عظيما.
قال تعالى: (ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ) [التوبة:٦١].
قال السدي: « اجتمع ناس من المنافقين فيهم: جلاس بن سويد بن صامت ومخشي بن حمير ووديعة بن ثابت فأرادوا أن يقعوا في النبي صلى الله عليه وسلم فنهى بعضهم بعضا وقالوا: إنا نخاف أن يبلغ محمدا فيقع بكم، فقال بعضهم: إنما محمد أذن نحلف له فيصدقنا، وعندهم غلام من الأنصار يدعى عامر بن قيس فحقروه فتكلموا وقالوا: «لئن كان ما يقول محمد حقا لنحن شر من الحمير»، فسمعها الغلام فغضب وقال: والله إن محمدا لصادق، وإنكم لشر من الحمير ثم ذهب فبلغها النبي صلى الله عليه وسلم فدعاهم، فحلفوا بالله إن عامرا لكاذب، وحلف عامر إنهم لكذبة فصدقهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال عامر: اللهم لا تفرق بيننا حتى تبين صدق الصادق من كذب الكاذب، وقد كان مخشي بن حمير قال في ذلك المجلس: ويحكم يا معشر المنافقين، والله إني لأرى أنا شر خلق الله وخليقته، والله لوددت أني قدمت فجلدت مائة جلدة، وأنه لا ينزل فينا شيء يفضحنا فعند ذلك قالوا: والله إن كان محمد صادقا، وقالوا: هو أذن »160.
وقد فضحت الآية المنافقين وحكت قولهم، والمعنى: «ومن هؤلاء المنافقين جماعة يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعيبونه (ويقولون هو أذن) سامعةٌ، يسمع من كل أحدٍ ما يقول فيقبله ويصدقه. وهو من قولهم: «رجل أذنة»، مثل «فعلة» إذا كان يسرع الاستماع والقبول، كما يقال: «هو يقن، ويقن» إذا كان ذا يقين بكل ما حدث»161. وقد كان قولهم هذا استهزاء، وهو « منهم تنقيص للرسول صلى الله عليه وسلم، إذ وصفوه بقلة الحزامة والانخداع»162. «أي: من قال له شيئًا صدقه، ومن حدثه فينا صدقه، فإذا جئنا وحلفنا له صدقنا. روي معناه عن ابن عباسٍ، ومجاهدٍ، وقتادة »163.
ولم تكتف الآية بفضيحتهم وحكاية قولهم ولكنها ردت عليهم -مادحة له صلى الله عليه وسلم دالة على رفعة قدره- بأنه أذن خير في الحق ورحمة لمن أظهر الإيمان (ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ).
و« (ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ): من قبيل رجل، صدق فهو من إضافة الموصوف إلى الصفة للمبالغة في الجودة والصلاح، كأنه قيل: نعم هو أذن ولكن نعم الأذن، ويجوز أن تكون الإضافة على معنى في؛ أي: هو أذن في الخير والحق وفيما يجب سماعه وقبوله وليس بأذن في غير ذلك، ويدل عليه قراءة حمزة: «ورحمةٍ» بالجر عطفا على خير، فإنه لا يحسن وصف الأذن بالرحمة ويحسن أن يقال: أذن في الخير والرحمة»164. «وقرئ: «أذنٌ خير»ٌ -مرفوعين منونين- ومعناه يسمع منكم ويصدقكم خير لكم من أن يكذبكم ولا يقبل قولكم»165. فهو أذن في الخير لو كان قولهم من جنسه، وهو نعم الأذن لأجل ذلك، وليس سماعا للشر ولا منخدعا به.
«وقوله سبحانه: (ﯧ ﯨ) تفسير لكونه عليه الصلاة والسلام أذن خير لهم، أي: يصدق بالله تعالى لما قام عنده من الأدلة والآيات الموجبة لذلك، وكون ذلك صفة خير للمخاطبين كما أنه خير للعالمين مما لا يخفى (ﯩ ﯪ) أي: يصدقهم لما علم فيهم من الخلوص»166.
وإذا كان كذلك فقد باءوا بأخسر الحظين لما رضوا بعدم مؤاخذته إياهم على أن يصيبهم حظ المؤمنين منه، فـ «المعنى هو أذن خير يسمع آيات الله تعالى ودلائله فيصدقها ويسمع قول المؤمنين فيسلمه لهم ويصدقهم به، وهو تعريض بأن المنافقين أذن شر يسمعون آيات الله تعالى ولا ينتفعون بها ويسمعون قول المؤمنين ولا يقبلونه، وأنه صلى الله عليه وسلم لا يسمع قولهم إلا شفقة عليهم لا أنه يقبله لعدم تمييزه عليه الصلاة والسلام كما زعموا»167.
وكل هذه الأخلاق والطباع الطيبة تعكس نفسا عظيمة وقلبا رحيما حريصا على كل مؤمن رؤوفا به مشفقا عليه، ولذلك كانت منزلته صلى الله عليه وسلم بين المؤمنين عالية رفيعة؛ فكان أحب إليهم من أنفسهم وأهليهم والناس أجمعين، وكانت منزلته عند آله أعظم وأرفع.
أولًا: منزلته في الدنيا:
أعلى الله قدر نبيه صلى الله عليه وسلم فشرح صدره ورفع ذكره (ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ) [الشرح:١-٤].
فأما شرح صدره فهو تنويره وتوسيعه بمعنى: « نورناه وجعلناه فسيحا رحيبا واسعا كقوله: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ) [الأنعام:١٢٥].
وكما شرح الله صدره كذلك جعل شرعه فسيحا واسعا سمحا سهلا لا حرج فيه ولا إصر ولا ضيق»168.
وفي رفع ذكره صلى الله عليه وسلم: « خمسة أقوال:
أحدها: ما روى أبو سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سأل جبريل عن هذه الآية، فقال:(قال الله عز وجل: إذا ذكرت ذكرت معي). قال قتادة: فليس خطيب، ولا متشهدٌ، ولا صاحب صلاة إلا يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله، وهذا قول الجمهور.
والثاني: رفعنا لك ذكرك بالنبوة، قاله يحيى بن سلام.
والثالث: رفعنا لك ذكرك في الآخرة كما رفعناه في الدنيا، حكاه الماوردي.
والرابع: رفعنا لك ذكرك عند الملائكة في السماء.
والخامس: بأخذ الميثاق لك على الأنبياء، وإلزامهم الإيمان بك، والإقرار بفضلك»169.
وهذه الأقوال، رغم كونها متعددة، فليس بينها تعارض، فرفع ذكره في الأذان والصلاة والتشهد ونحوها لا ينافي رفع ذكره بأخذ الميثاق على الأنبياء من قبل أو عند الملائكة أو غيرها.
وفي مقابل رفع ذكره صلى الله عليه وسلم، جعل الله مبغضه منقطع الذكر لا يذكر إلا بسوء (ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ) [الكوثر:٣].
و«الشانئ: هو المبغض، وهو الشنآن بمعنى: العداوة، ونزلت هذه الآية في العاصي بن وائل، وقيل: في أبي جهل على وجه الرد عليه إذ قال: إن محمدا أبتر أي: لا ولد له ذكر، فإذا مات استرحنا منه وانقطع أمره بموته، فأخبر الله أن هذا الكافر هو الأبتر وإن كان له أولاد لأنه مبتور من رحمة الله أي: مقطوع عنها، ولأنه لا يذكر إذا ذكر إلا باللعنة بخلاف النبي صلى الله عليه وسلم فإن ذكره خالد إلى آخر الدهر، مرفوع على المنابر والصوامع مقرون بذكر الله، والمؤمنون من زمانه إلى يوم القيامة أتباعه فهو كوالدهم»170.
ولرفعة قدره صلى الله عليه وسلم ما كان يسمى في القرآن إلا بأوصاف المدح وعلى رأسها النبي والرسول، قال القاضي عياض: «ومما ذكر من خصائصه وبر الله تعالى به أن الله تعالى خاطب جميع الأنبياء بأسمائهم، فقال: يا آدم، يا نوح، يا إبراهيم، يا موسى، يا داود، يا عيسى، يا زكريا، يا يحيى، ولم يخاطب هو إلا: يا أيها الرسول، يا أيها النبي، يا أيها المزمل، يا أيها المدثر»171.
ثم إن القرآن الكريم نهى المؤمنين عن أن ينادوه بالصفة التي ينادي بعضهم بها بعضا، وصورته أن ينادوه باسمه أو بالصفة التي يدعو بها الرجل مثله، فقال تعالى: (ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ) [النور:٦٣]: أي: «لا تسموه إذا دعوتموه: يا محمد، ولا تقولوا: يا ابن عبد الله، ولكن شرفوه فقولوا: يا نبي الله، يا رسول الله»172. وهو المعنى ذاته المنصوص عليه في قوله سبحانه: (ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ) [الحجرات:٢].
بمعنى: « ولا تنادوه كما ينادي بعضكم بعضا: يا محمد، يا محمد، يا نبي الله، يا نبي الله، يا رسول الله»173، وعلة النهي عن ذلك ما يتضمن من « عدم المبالاة وقلة الاحترام»174.
وقد تضمنت الآية شيئًا آخر، وهو نهيهم عن أن يرفعوا أصواتهم في حضرته فتعلو على صوته ولو بغير قصد تعظيما واحتراما؛ فالنهي الأول عن رفع الأصوات والجهر بها في حضرته صلى الله عليه وسلم حتى لا تعلو على صوته، «وقوله:(ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ) نهي عن جهر آخر وهو الجهر بالصوت عند خطابهم الرسول صلى الله عليه وسلم لوجوب التغاير بين مقتضى قوله:(ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ) ومقتضى (ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ). واللام في له لتعدية «تجهروا» لأن «تجهروا» في معنى: تقولوا، فدلت اللام على أن هذا الجهر يتعلق بمخاطبته، وزاده وضوحا التشبيه في قوله:(ﮭ ﮮ ﮯ)»175.
ثم أكدت الآية على عظم إتيان هذين المنهيين بالنص على أن عاقبة ذلك حبوط العمل:(ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ)، «والحبط: تمثيل لعدم الانتفاع بالأعمال الصالحة بسبب ما يطرأ عليها من الكفر، مأخوذ من حبطت الإبل إذا أكلت الخضر فنفخ بطونها وتعتل وربما هلكت»176.
وقد وقع النهيان السابقان على جهة تعريف المؤمنين بقدره صلى الله عليه وسلم ومنزلته عند الله التي توجب له التوقير والتقدير « ولم يكن الرفع والجهر إلا ما كان في طباعهم، لا أنه مقصود بذلك الاستخفاف والاستعلاء، لأنه كان يكون فعلهم ذلك كفرا»177.
ولقد أعلن القرآن الكريم أن المتأدبين في حضرته صلى الله عليه وسلم هم المتقون: (ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ) [الحجرات:٣].
وهم الذين « يخفضون أصواتهم عنده إذا تكلموا إجلالا له، أو كلموا غيره بين يديه إجلالا له والامتحان افتعال من محنت الأديم محنا حتى أوسعته. فمعنى (ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ): وسعها وشرحها للتقوى»178.
ونص على أن الموقرين له هم المفلحون.
قال تعالى: (ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ) [الأعراف:١٥٧].
ومعنى (ﮖ): «وقروه وعظموه، وأصل التعزير: المنع والنصرة وتعزير النبي صلى الله عليه وسلم تعظيمه وإجلاله ودفع الأعداء عنه وهو قوله:(ﮗ): يعني على أعدائه (ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ): يعني: القرآن؛ سمي القرآن نورا لأن به يستنير قلب المؤمن فيخرج به من ظلمات الشك والجهالة إلى ضياء اليقين والعلم (ﮞ ﮟ ﮠ) يعني: هم الناجون الفائزون بالهداية»179.
ولقد أقسم الله سبحانه وتعالى بنبيه صلى الله عليه وسلم إعلاء لقدره فقال: (ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ) [الحجر:٧٢].
«و«العَمْر» و«العُمْر» بفتح العين وضمها واحد، وهما مدة الحياة، ولا يستعمل في القسم إلا بالفتح، وفي هذه الآية شرف لمحمد عليه السلام لأن الله تعالى أقسم بحياته ولم يفعل ذلك مع بشر سواه»180.
قال القاضي عياض: « اتفق أهل التفسير في هذا أنه قسم من الله جل جلاله بمدة حياة محمد صلى الله عليه وسلم، وأصله ضم العين من العمر ولكنها فتحت لكثرة الاستعمال، ومعناه: وبقائك يا محمد، وقيل وعيشك، وقيل: وحياتك، وهذه نهاية التعظيم وغاية البر والتشريف. قال ابن عباس رضي الله عنهما: ما خلق الله تعالى وما ذرأ وما برأ نفسا أكرم عليه من محمد صلى الله عليه وسلم، وما سمعت الله تعالى أقسم بحياة أحد غيره، وقال أبو الجوزاء: ما أقسم الله تعالى بحياة أحد غير محمد صلى الله عليه وسلم لأنه أكرم البرية عنده»181.
وحين استطاب بعض الغافلين المكوث في بيته صلى الله عليه وسلم نزل القرآن ينبههم على أنه قد استحيى منهم ويأمرهم بالفطنة في التعامل معه حتى لا يصيبه منهم أذى وهم لا يشعرون -كما تقدم-، ونزل في ذلك قوله جل وعلا: (ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ) [الأحزاب:٥٣-٥٤].
ومن العجيب أن القرآن الكريم قد منع عن المؤمنين كل ما من شأنه أن يصيبه صلى الله عليه وسلم بأذى مهما قل ولو كان مجرد التفكير في تزوج نسائه من بعده، وهو مدلول قوله سبحانه: (ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ).
ومن شواهد رفعة منزلته عند الله عز وجل أنه إذا اجتهد عليه الصلاة والسلام في شيء فجانب فيه الصواب، صحح القرآن الكريم ذلك بأرق أسلوب على نفسه؛ فلما اعتذر إليه المنافقون مرجعه من غزوة العسرة وقبل أعذارهم من غير تشديد عليهم أو تمحيص نزل عليه قوله تعالى: (ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ) [التوبة:٤٣].
ولعل أحدًا يظن « أن النبي صلى الله عليه وسلم معاتب بهذه الآية، وحاشاه من ذلك، بل كان مخيرا، فلما أذن لهم أعلمه الله تعالى أنه لو لم يأذن لهم لقعدوا لنفاقهم، وأنه لا حرج عليه في الإذن لهم»182.
والآية ملأى بإشارات الإكرام والرفعة له عليه الصلاة والسلام، فـ «افتتاح العتاب بالإعلام بالعفو إكرام عظيم، ولطافة شريفة، فأخبره بالعفو قبل أن يباشره بالعتاب. وفي هذا الافتتاح كناية عن خفة موجب العتاب لأنه بمنزلة أن يقال: ما كان ينبغي، وتسمية الصفح عن ذلك عفوا ناظر إلى مغزى قول أهل الحقيقة: حسنات الأبرار سيئات المقربين. وألقي إليه العتاب بصيغة الاستفهام عن العلة إيماء إلى أنه ما أذن لهم إلا لسبب تأوله، ورجا منه الصلاح على الجملة بحيث يسأل عن مثله في استعمال السؤال من سائل يطلب العلم؛ وهذا من صيغ التلطف في الإنكار أو اللوم، بأن يظهر المنكر نفسه كالسائل عن العلة التي خفيت عليه، ثم أعقبه بأن ترك الإذن كان أجدر بتبيين حالهم، وهو غرض آخر لم يتعلق به قصد النبيء صلى الله عليه وسلم»183.
قال عياض: «وفي هذا من عظيم منزلته عند الله ما لا يخفى على ذي لب، ومن إكرامه إياه وبره به ما ينقطع دون معرفة غايته نياط القلب»184.
ومن هذا الباب عتابه بضمير الغائب في قوله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ) [عبس:١-٢].
فإن ذلك أخف وقعا في النفس من الخطاب المباشر، وصورته قول العبد الصالح لنبي الله موسى عليه السلام: (ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ) [الكهف:٧٢].
بصيغة ما لم يسم فاعله أولًا، ثم شدد عليه بعد ذلك لما تكرر منه السؤال فـ (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ) [الكهف:٧٥].
بصيغة الخطاب المباشر.
ومن هذا الباب قوله تعالى كذلك: (ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ) [الإسراء:٧٤].
جاء في الشفا: « قال بعض المتكلمين: عاتب الله الأنبياء صلوات اللهم عليهم بعد الزلات، وعاتب نبينا صلى الله عليه وسلم قبل وقوعه، ليكون بذلك أشد انتهاء ومحافظة لشرائط المحبة، وهذه غاية العناية، ثم انظر كيف بدأ بثباته وسلامته قبل ذكر ما عتبه عليه وخيف أن يركن إليه. ففي أثناء عتبه براءته، وفي طي تخويفه تأمينه وكرامته»185.
ومن ذلك صلاته سبحانه عليه وأمره المؤمنين بذلك: (ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ) [الأحزاب:٥٦].
وصلاة الله تعالى إما رحمته، أو مغفرته، أو ثناؤه، أو كرامته، أو بركته. وأما صلاة الملائكة فهي إما دعاؤهم، أو استغفارهم186.
ومن ذلك أيضا أخذه سبحانه العهد على الأنبياء أن يؤمنوا به، كما قال تعالى: (ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕﯖ ﯗ ﯘﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ) [آل عمران:٨١-٨٣].
فـ«معنى الآية أن الله أخذ العهد والميثاق، على كل نبي أن يؤمن بمحمد صلى الله عليه واله وسلم، وينصره إن أدركه، وتضمن ذلك أخذ هذا الميثاق على أمم الأنبياء»187.
ومع رفعة منزلته صلى الله عليه وسلم في الحياة الدنيا، فقد جعل الله له الوسيلة والمقام المحمود والكوثر يوم القيامة.
ثانيًا: منزلته يوم القيامة:
نص القرآن الكريم على أنه سبحانه وتعالى قد أعطى محمدا صلى الله عليه وسلم الكوثر وأنه عسى أن يبعثه مقامًا محمودًا.
فأما الكوثر فقد ورد في قوله تعالى: (ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ) [الكوثر:١-٣].
والكوثر مشتق من الكثرة، قال القرطبي: «الكوثر: فوعل من الكثرة، مثل النوفل من النفل، والجوهر من الجهر. والعرب تسمي كل شي كثير في العدد والقدر والخطر كوثرا. قال سفيان: قيل لعجوز رجع ابنها من السفر: بم آب ابنك؟ قالت بكوثر، أي بمال كثير. والكوثر من الرجال: السيد الكثير الخير»188.
وقد ذكر في مدلوله معنيان أحدهما أعم من الآخر، فأما المعنى الأخص فهو أن الكوثر: حوض النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة؛ وهو حوض ماؤه أبيض من اللبن وأحلى من العسل من شرب منه شربة لم يظمأ حتى يدخل الجنة، حافتاه من الذهب وقباب الدر المجوف، وطينته المسك، ومجراه على اللؤلؤ والزبرجد، وعليه آنية بعدد نجوم السماء، ويطعم وارده من طير أعناقها كأعناق الإبل.
قال البخاري في كتاب الرقاق: «باب في الحوض وقول الله تعالى:(ﮆ ﮇ ﮈ)، وقال عبد الله بن زيد: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اصبروا حتى تلقوني على الحوض)»189. وترجمة الباب هذه تدل على أن البخاري رحمه الله يعتبر الحوض هو الكوثر أو من الكوثر.
ثم روى عن أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(بينما أنا أسير في الجنة، إذا أنا بنهر، حافتاه قباب الدر المجوف، قلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر، الذي أعطاك ربك، فإذا طينه - أو طيبه - مسك أذفر)190.
ومن حديث عبد الله بن عمرو قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم:(حوضي مسيرة شهر، ماؤه أبيض من اللبن، وريحه أطيب من المسك، وكيزانه كنجوم السماء، من شرب منها فلا يظمأ أبدا)191.
وأما مسلم فإنه أخرج من رواية أنس ما يدل على اقتران تفسير النبي صلى الله عليه وسلم للحوض بالكوثر عند نزول السورة، قال: «عن أنس، قال: (بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم بين أظهرنا إذ أغفى إغفاءة ثم رفع رأسه متبسما، فقلنا: ما أضحكك يا رسول الله قال: (أنزلت علي آنفا سورة) فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم (ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ)، ثم قال: (أتدرون ما الكوثر؟) فقلنا: الله ورسوله أعلم، قال: (فإنه نهر وعدنيه ربي عز وجل، عليه خير كثير، هو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة، آنيته عدد النجوم، فيختلج العبد منهم، فأقول: رب، إنه من أمتي فيقول: ما تدري ما أحدثت بعدك)192. وفي هذه الرواية دلالة على سبب تسميته بالكوثر وهو قوله صلى الله عليه وسلم:(عليه خير كثير).
وأما أكثر الروايات تفصيلا في وصف الحوض فقد رواها الترمذي عن عبد الله بن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(الكوثر نهر في الجنة، حافتاه من ذهب، ومجراه على الدر والياقوت، تربته أطيب من المسك، وماؤه أحلى من العسل، وأبيض من الثلج)193.
وعند أحمد زيادة وهي أن عليه طيورا أعناقها كأعناق الإبل، وهو ما روى بسنده عن أنس:(أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما الكوثر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:) هو نهر أعطانيه الله في الجنة، أبيض من اللبن، وأحلى من العسل، فيه طيور أعناقها كأعناق الجزر)، فقال عمر بن الخطاب: إنها لناعمة يا رسول الله، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (آكلوها أنعم منها)194.
فهذه الروايات كلها تنص على أن الحوض هو الكوثر، غير أن ابن عباس رضي الله عنهما قد جعله من الكوثر، غير قاصر لمعنى الكوثر على الحوض فقط. روى البخاري من طريق أبي بشر، وعطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنه، قال: « الكوثر: الخير الكثير الذي أعطاه الله إياه ». قال أبو بشر: قلت لسعيد: إن أناسا يزعمون أنه نهر في الجنة؟ فقال سعيد: «النهر الذي في الجنة من الخير الذي أعطاه الله إياه»195. فعلى هذا فحوض النبي صلى الله عليه وسلم من الكوثر، وليس هو كل الكوثر.
وقد أوصل القرطبي مجموع الأقوال في معنى الكوثر إلى ستة عشر قولًا196:
أولها: أنه نهر في الجنة.
والثاني: الحوض.
والثالث: أن الكوثر النبوة والكتاب.
والرابع: القرآن.
والخامس: الإسلام.
والسادس: تيسير القرآن وتخفيف الشرائع.
والسابع: كثرة الأصحاب والأمة والأشياع.
والثامن: الإيثار.
والتاسع: رفعة الذكر.
والعاشر: أنه نور في قلبه صلى الله عليه وسلم دله على ربه، وقطعه عما سواه.
الحادي عشر: الشفاعة.
الثاني عشر: معجزات الرب هدي بها أهل الإجابة لدعوتك.
الثالث عشر: لا إله إلا الله محمد رسول الله.
الرابع عشر: الفقه في الدين.
الخامس عشر: الصلوات الخمس.
السادس عشر: هو العظيم من الأمر.
ثم قال القرطبي: « قلت: أصح هذه الأقوال الأول والثاني، لأنه ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم نص في الكوثر. وسمع أنس قوما يتذاكرون الحوض فقال: ما كنت أرى أن أعيش حتى أرى أمثالكم يتمارون في الحوض، لقد تركت عجائز خلفي، ما تصلي امرأة منهن إلا سألت الله أن يسقيها من حوض النبي صلى الله عليه وسلم»197.
وأما المنزلة العالية الأخرى التي ذكرها القرآن الكريم للنبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة فهي المقام المحمود.
قال تعالى: (ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ) [الإسراء:٧٨-٧٩].
وقد وقع المقام المحمود في الآية مبهما، وجاء بيانه في السنة، فمن ذلك ما روى البخاري عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آت محمدا الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته، حلت له شفاعتي يوم القيامة)198.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: « إن الناس يصيرون يوم القيامة جثا، كل أمة تتبع نبيها يقولون: يا فلان اشفع، يا فلان اشفع، حتى تنتهي الشفاعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فذلك يوم يبعثه الله المقام المحمود»199.
فالحديثان يدلان على ارتباط هذا «المقام المحمود» بالشفاعة، وإن كانا لا ينصان نصا صريحا على أنه هو الشفاعة، وقد وقع النص على ذلك بصفة صريحة في ما روى الترمذي عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله:(ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ) وسئل عنها، قال: (هي: الشفاعة)200.
وعن أبي سعيد، قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وبيدي لواء الحمد ولا فخر، وما من نبي يومئذ آدم فمن سواه إلا تحت لوائي، وأنا أول من تنشق عنه الأرض ولا فخر)، قال: (فيفزع الناس ثلاث فزعات، فيأتون آدم، فيقولون: أنت أبونا آدم فاشفع لنا إلى ربك، فيقول: إني أذنبت ذنبا أهبطت منه إلى الأرض ولكن ائتوا نوحا، فيأتون نوحا، فيقول: إني دعوت على أهل الأرض دعوة فأهلكوا، ولكن اذهبوا إلى إبراهيم، فيأتون إبراهيم فيقول: إني كذبت ثلاث كذبات)، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما منها كذبة إلا ما حل بها عن دين الله. ولكن ائتوا موسى، فيأتون موسى، فيقول: إني قد قتلت نفسا، ولكن ائتوا عيسى، فيأتون عيسى، فيقول: إني عبدت من دون الله، ولكن ائتوا محمدا)، قال: (فيأتونني فأنطلق معهم) - قال ابن جدعان: قال أنس: فكأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال: (فآخذ بحلقة باب الجنة فأقعقعها فيقال: من هذا؟ فيقال: محمد فيفتحون لي، ويرحبون بي، فيقولون: مرحبا، فأخر ساجدا، فيلهمني الله من الثناء والحمد، فيقال لي: ارفع رأسك وسل تعط، واشفع تشفع، وقل يسمع لقولك، وهو المقام المحمود الذي قال الله: (ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ))201.
قال ابن جرير: « قال أكثر أهل العلم: ذلك هو المقام الذي هو يقومه صلى الله عليه وسلم يوم القيامة للشفاعة للناس ليريحهم ربهم من عظيم ما هم فيه من شدة ذلك اليوم»202.
وقد ذكر القرطبي قولا آخر وهو: أن المقام المحمود: إعطاؤه لواء الحمد يوم القيامة، وشاهده حديث الترمذي السابق، ثم قال: « وهذا القول لا تنافر بينه وبين الأول، فإنه يكون بيده لواء الحمد ويشفع»203.
وللنبي صلى الله عليه وسلم تشريفات أخرى وقد تكون داخلة ضمن عموم الكوثر والمقام المحمود، قال ابن كثير: « لرسول الله صلى الله عليه وسلم تسليما تشريفات يوم القيامة لا يشركه فيها أحد، وتشريفات لا يساويه فيها أحد؛ فهو أول من تنشق عنه الأرض، ويبعث راكبا إلى المحشر، وله اللواء الذي آدم فمن دونه تحت لوائه، وله الحوض الذي ليس في الموقف أكثر واردا منه، وله الشفاعة العظمى عند الله ليأتي لفصل القضاء بين الخلائق، وذلك بعدما يسأل الناس آدم ثم نوحا ثم إبراهيم ثم موسى ثم عيسى، فكل يقول: «لست لها» حتى يأتوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم فيقول: «أنا لها، أنا لها» ومن ذلك أنه يشفع في أقوام قد أمر بهم إلى النار، فيردون عنها. وهو أول الأنبياء يقضى بين أمته، وأولهم إجازة على الصراط بأمته. وهو أول شفيع في الجنة، كما ثبت في صحيح مسلم. وفي حديث الصور: إن المؤمنين كلهم لا يدخلون الجنة إلا بشفاعته وهو أول داخل إليها وأمته قبل الأمم كلهم. ويشفع في رفع درجات أقوام لا تبلغها أعمالهم. وهو صاحب الوسيلة التي هي أعلى منزلة في الجنة، لا تليق إلا له. وإذا أذن الله تعالى في الشفاعة للعصاة شفع الملائكة والنبيون والمؤمنون، فيشفع هو في خلائق لا يعلم عدتهم إلا الله، ولا يشفع أحد مثله ولا يساويه في ذلك»204.
فصلى الله وسلم على نبيه ورسوله محمد الأمين وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وجعلنا من المشمولين بشفاعته يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
موضوعات ذات صلة: |
آدم عليه السلام، إبراهيم عليه السلام، الإسلام، الصحابة، القرآن، النبوة |
1 انظر: السيرة النبوية، ابن هشام ١/٢.
2 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ١٨ /٨٣.
3 المصدر السابق.
4 معالم التنزيل، البغوي ٨ /١٠٩.
5 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ١٨ /٨٤.
6 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المناقب، باب ما جاء في أسماء رسول الله صلى الله عليه وسلم، ٤/١٨٥، رقم ٣٥٣٢، ومسلم في صحيحه، كتاب الفضائل، باب في أسمائه صلى الله عليه وسلم، رقم ٢٣٥٤.
7 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الفضائل، باب في أسمائه صلى الله عليه وسلم، رقم ٢٣٥٥.
8 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الفضائل، باب فضل نسب النبي صلى الله عليه وسلم، رقم.
9 انظر: دلائل النبوة، البيهقي ١/١٨٣.
10 انظر: إمتاع الأسماع، المقريزي ١/ ٩.
11 انظر: السيرة النبوية، ابن كثير ١/١٩٩.
12 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٢٩ /٢٣٨.
13 بصائر ذوي التمييز، الفيروزآبادي ١ /١٤٤٩.
14 المصدر السابق.
15 التحرير والتنوير، ابن عاشور١٧/٢١٥.
16 المصدر السابق.
17 زاد المسير، ابن الجوزي ٦ /٨٥.
18 المصدر السابق ٦ /٩٠.
19 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، باب (ودًا ولا سواعًا ولا يغوث ويعوق)، ٦/١٦١، رقم ٤٩٢٢.
20 انظر: جامع البيان، الطبري ٢٣/٦٧٨-٦٧٩، زاد المسير، ابن الجوزي ٦/٨٥، الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ١٩/٣٢-٣٣، تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٨/٢٤٩.
21 زاد المسير، ابن الجوزي ٦ /٨٥.
22 أحكام القرآن، ابن العربي ٧ /٤٤٩.
23 المصدر السابق.
24 زاد المسير، ابن الجوزي ٦ /٨٥.
25 الجامع لأحكام القرآن ١٩ /٣٣.
26 التحرير والتنوير، ابن عاشور ١٤ /١١.
27 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ١٠ /٢٠٥.
28 روح المعاني، الألوسي ٨ /٦.
29 المصدر السابق.
30 أخرجه الحاكم في المستدرك، ٢/٦٥٦، رقم ٤١٧٤.
قال الحاكم: «خالد بن معدان من خيار التابعين، صحب معاذ بن جبل فمن بعده من الصحابة فإذا أسند حديثا إلى الصحابة فإنه صحيح الإسناد ولم يخرجاه».وصححه الذهبي.
31 أضواء البيان، الشنقيطي ١/٤٤.
32 البحر المحيط، أبو حيان ٢ /٣٣.
33 المحرر الوجيز، ابن عطية ٢ /٣٩١.
34 المصدر السابق.
35 البحر المحيط، أبو حيان ٢ /٣٤.
36 التحرير والتنوير، ابن عاشور٦ /٥٠.
37 الجواب الصحيح، ابن تيمية ٥ /١٦٠.
38 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب تفسير القرآن، باب (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم)، ٦/٣٥، رقم ٤٥٥٣.
39 أخرجه أحمد في مسنده، ٣٨/٤٧٦، رقم ٢٣٤٩٢.
قال ابن كثير في تفسيره ٣/٤٨٣: هذا حديث جيد قوي، له شاهد في الصحيح عن أنس.
40 أخرجه البيهقي في دلائل النبوة ١/٣٨٦.
قال ابن كثير في تفسيره ٤/٤٨٤: إسناده لا بأس به.
41 أخرجه الطبراني في المعجم الكبير، ٢/١٢٥، رقم ١٥٣٧.
42 أخرجه أبو داود في سننه، كتاب السنة، باب في الخلفاء، ٤/٢١٣، رقم ٤٦٥٦.
43 جامع البيان، الطبري ١٣ /١٦٤.
44 تاريخ دمشق، ابن عساكر ٣/٣٨٩.
45 دلائل النبوة ١/٣٨٠.
46 الجواب الصحيح ٥ /١٥٥.
47 مفاتيح الغيب، الرازي ٢٩ /٥٢٨.
48 بذل المجهود في إفحام اليهود ص١١٣-١١٨.
49 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٢٢/٥٥.
50 الكشف والبيان، الثعلبي ٤ /٢٩٢.
51 روح المعاني، الألوسي ٥ /٧٧.
52 الجواب الصحيح ١ /٦٩-٧٠.
53 روح المعاني، الألوسي ٥ /٧٧.
54 المصدر السابق ٥/٧٧.
55 أضواء البيان، الشنقيطي ٨ /١١٥.
56 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٢٨ /١٨٦.
57 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ١٦ /٢٩٢.
58 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٢٦/٢٠٢.
59 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص٧٩٥.
60 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٢٦/٢٠٤.
61 المصدر السابق ٢٦/٢٠٤.
62 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص ٧٩٥.
63 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٢٦/٢٠٤.
64 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص٧٩٥.
65 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٢٦/٢٠٥.
66 زاد المسير ٤/١٣٩.
67 جامع البيان، الطبري ٢٢/٢٦٥.
68 المصدر السابق.
69 جامع البيان، الطبري ٢٣/٣٥٩.
70 أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق، ٣/٣٢.
71 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ١٨/٨٤.
72 تاريخ دمشق ٣/٣٨٩.
73 بذل المجهود في إفحام اليهود، السموأل المغربي ص١١٦.
74 روح المعاني ١٤ /٢٨٠.
75 روح المعاني ١٤ /٢٨١.
76 الصحاح، الجوهري ١/٧٤.
77 المفردات، الراغب الأصفهاني ص٧٨٨.
78 بصائر ذوي التمييز، الفيروزآبادي ٥/١٥.
79 المصدر السابق.
80 المفردات، الراغب الأصفهاني ص٣٥٢.
81 المصدر السابق ص٣٥٣.
82 أحكام القرآن، ابن العربي ٣/٥٨١.
83 المفردات، الراغب الأصفهاني ص٣٥٣.
84 مفاتيح الغيب، الرازي ٢٣/٢٣٦.
85 الشفا بتعريف حقوق المصطفى، القاضي عياض ١/٤٨٨.
86 المصدر السابق ١/٤٨٩.
87 مفاتيح الغيب، الرازي ٢٣/٢٣٦.
88 المصدر السابق.
89 النبوات، ابن تيمية ٢/٧١٤.
90 المحرر الوجيز، ابن عطية ٤/٣٨٨.
91 المصدر السابق ٢/٢٧٣.
92 أحكام القرآن، ابن العربي ٣/٥٨٢.
93 المحرر الوجيز، ابن عطية ٢/٣٦٩.
94 المصدر السابق ٢/٢٧٣.
95 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٧/١٥٩.
96 ملاك التأويل، ابن الزبير الغرناطي ١/١٧٤.
97 التحرير والتنوير، ابن عاشور ١٧/١٦٦.
98 المصدر السابق ١٧/١٦٥.
99 أحكام القرآن، ابن العربي ٣/٥٨٣.
100 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار، ٤/٢١٩٧.
101 التحرير والتنوير، ابن عاشور ١٧/١٦٤.
102 المصدر السابق.
103 بصائر ذوي التمييز، الفيروزآبادي ٣/٣٥٠.
104 المصدر السابق ٣/٣٥١.
105 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٢٢/٥٢.
106 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، باب قوله تعالى: (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا)، ٦/٢١، رقم ٤٤٨٧.
107 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ١/٤٥٤.
108 جامع البيان، الطبري ٣/١٤٢.
109 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ١/٤٥٤.
110 جامع البيان، الطبري ٣/١٤٦.
111 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٢٢/٥٢.
112 إرشاد العقل السليم، أبو السعود ٧/١٠٧.
113 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٢٢/٥٢.
114 المفردات، الراغب الأصفهاني ص١٢٥.
115 المصدر السابق.
116 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٢٢/٥٣.
117 جامع البيان، الطبري ٢٠/٢٨٢.
118 المحرر الوجيز، ابن عطية ٤/٣٨٩.
119 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٢٢/٥٣.
120 أخرجه الطبراني في المعجم الكبير، ١١/٣١٢، رقم ١١٨٤١.
121 لسان العرب، ابن منظور ٥/٢٠١.
122 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٢٢/٥٣.
123 المصدر السابق.
124 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الرقاق، باب الانتهاء عن المعاصي، ٨/١٠١، رقم ٦٤٨٢.
125 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٢٢/٥٣.
126 انظر المفردات، الراغب الأصفهاني ص٣١٥.
127 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٢٢/٥٣.
128 لسان العرب، ابن منظور ٢/٢٩٧.
129 العين، الفراهيدي ٦/٥٣.
130 لسان العرب ٢/٢٩٧.
131 المصدر السابق ٢/٩٨.
132 جامع البيان، الطبري ٢٠/٢٨٢.
133 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٦/٤٣٩.
134 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٢٢/٥٣.
135 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص٥٦٨.
136 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٦/٦٠.
137 أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه، ٥/٢١٧، رقم ٢٥٣٨٩.
138 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الإيمان، باب حب الرسول من الإيمان، ١/١٢، رقم ١٤.
139 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٢٩/٦٤.
140 أخرجه البزار في مسند، ١٧/٢١.
قال البزار: وهذا الحديث لا نعلمه يروى من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، إلا من هذا الوجه، ولا نعلم أخرجه عن سليمان التيمي إلا صالح.
قال ابن كثير في تفسيره ٤/٦١٤: وهذا إسناد فيه ضعف؛ لأن صالحا، هو ابن بشير المري، ضعيف عند الأئمة، وقال البخاري: هو منكر الحديث.
141 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص ٤٥٢.
142 الجواهر الحسان، الثعالبي ٣/٤٤٨.
143 لباب التأويل، الخازن ٤/١٣٧.
144 زاد المسير، ابن الجوزي ٤/١١٤.
145 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٢٦/٦٧.
146 المحرر الوجيز، ابن عطية ٣/٤٩٦.
147 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المناقب، باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم، ٤/١٩٠، رقم ٣٥٦٢.
148 فتح الباري، ابن حجر ٦/٥٧٧.
149 الأسكفة: خشبة الباب التي يوطأ عليها.
انظر: القاموس المحيط، الفيروزآبادي ص ٨٢٠.
150 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، باب قوله تعالى: (لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم)، ٦/١١٩، رقم ٤٧٩٣.
151 لباب التأويل، الخازن ٣/٤٣٤.
152 جامع البيان، الطبري ٧/٣٤١.
153 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب تفسير القرآن، باب قوله: (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم) ٦/٦٧، رقم ٤٦٧٠.
154 لباب التأويل، الخازن ٢/٣٧٧.
155 أنوار التنزيل، البيضاوي ٣/١٠٣.
156 المحرر الوجيز، ابن عطية ٣/١٠٠.
157 أنوار التنزيل، البيضاوي ٣/١٠٣.
158 التحرير والتنوير، ابن عاشور ١١/٧٠.
159 المصدر السابق.
160 تفسير ابن أبي حاتم ٦/١٨٢٦.
161 جامع البيان، الطبري ١٤/٣٢٤.
162 البحر المحيط، أبو حيان ٥/٤٤٨.
163 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٤/١٧٠.
164 روح المعاني، الألوسي ٥/٣١٦.
165 لباب التأويل، الخازن ٢/٣٧٧.
166 روح المعاني، الألوسي ٥/٣١٦.
167 المصدرالسابق.
168 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٨/٤٢٩.
169 زاد المسير، ابن الجوزي ٤/٤٦١.
170 التسهيل لعلوم التنزيل، ابن جزي ٢/٥١٧.
171 الشفا بتعريف حقوق المصطفى، القاضي عياض ١/٣١.
172 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٦/٨٩.
173 جامع البيان، الطبري ٢٢/٢٧٧.
174 البحر المحيط، أبو حيان ٩/٥٠٨.
175 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٢٦/٢٢٠ .
176 المصدر السابق.
177 البحر المحيط، أبو حيان ٩/٥٠٨.
178 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ١٦/٣٠٨.
179 لباب التأويل، الخازن ٢/٢٥٨.
180 المحرر الوجيز، ابن عطية ٣/٣٦٩ .
181 الشفا بتعريف حقوق المصطفى، القاضي عياض ١/٣٢ .
182 المصدر السابق ١/٢٩.
183 التحرير والتنوير، ابن عاشور ١٠/٢١٠.
184 الشفا بتعريف حقوق المصطفى، القاضي عياض ١/٢٨.
185 الشفا بتعريف حقوق المصطفى، القاضي عياض ١/٣٠.
186 زاد المسير ٣/٤٧٠.
187 التسهيل لعلوم التنزيل، ابن جزي ١/١٥٧.
188 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٢٠/٢١٦.
189 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الرقاق، ٨/١١٩.
190 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الرقاق، باب في الحوض، ٨/١٢٠، رقم ٦٥٨١.
191 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الرقاق، باب في الحوض، ٨/١١٩، رقم ٦٥٧٩.
192 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الصلاة، ١/٣٠٠، رقم ٤٠٠.
193 أخرجه الترمذي في سننه، أبواب تفسير القرآن، باب ومن سورة الكوثر، ٥/٤٤٩، رقم ٣٣٦١.
قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
وصححه الألباني في صحيح الجامع، ٢/٨٤٦، رقم ٤٦١٥.
194 أخرجه أحمد في مسنده، ٢١/١٣٦، رقم ١٣٤٨٠.
195 أخرجه البخاري في صحيحه، كتابر الرقاق، باب في الحوض، ٨/١١٩، رقم ٦٥٧٨.
196 انظر: الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٢٠/٢١٦.
197 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٢٠/٢١٨.
198 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، باب قوله: (عسى أن يبعثك ربك مقامًا محمودًا)، ٦/٨٦، رقم ٤٧١٩.
199 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، باب قوله: (عسى أن يبعثك ربك مقامًا محمودًا)، ٦/٨٦، رقم ٤٧١٨.
200 أخرجه الترمذي في سننه، أبواب التفسير، باب ومن سورة بني إسرائيل، ٥/٣٠٣، رقم ٣١٣٧.
قال الترمذي: حديث حسن.
201 أخرجه الترمذي في سننه، أبواب التفسير، باب ومن سورة بني إسرائيل، ٥/٣٠٨، رقم ٣١٤٨.
قال الترمذي: حديث حسن.
202 جامع البيان، الطبري ١٧/٥٢٦.
203 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ١٠/٣١١.
204 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٥/١٠٤.