عناصر الموضوع

مفهوم المسابقة

المسابقة في الاستعمال القرآني

الألفاظ ذات الصلة

أنواع المسابقة في القرآن الكريم

صفات السابقين إلى الخيرات

ثواب السابقين في الخيرات

المسابقة

مفهوم المسابقة

أولًا: المعنى اللغوي:

من خلال البحث في معاجم العربية وجدت أن مادة «سبق» تطلق في اللغة على عدة معان:

منها: التقدم والتبكير والمبادرة، وما يوضع بين أهل السباق ليناله السابق منهم.

فمن التقدم قولهم: (سابَقَهُ مُسَابَقَةً وسِباقًا فَسَبَقَهُ، إذا تقدم عليه، والسَّبْقُ: القدمة في الجري وفي كل أمر)1.

ومن التبكير قول صاحب اللسان:(والسَّبَقُ من النخل: الـمبكرة بالحمل) 2.

ومن المبادرة قولهم: (وأسبق القوم إلى الأمر وتسابقوا: بادروا ومنه قوله عز وجل (ﮃ ﮄ) [يوسف:٢٥] ومعناه: ابتدرا الباب، يجتهد كل واحدٍ منهما أن يسبق صاحبه) 3.

وقال ابن منظور: (والسبق بفتح الباء: ما يجعل من المال رهنًا على المسابقة) 4.

وأرى: أن المعنى الأول هو المراد هنا، وهو الأقرب إلى مقصود البحث، وبقية المعاني تؤول إليه، وفي ذلك يقول ابن فارس:(السين والباء والقاف أصلٌ واحدٌ صحيحٌ يدل على التقديم. يقال سَبَقَ يَسْبِقُ سَبقًا)5.

ويؤكد ذلك أيضًا صاحب «المعجم الاشتقاقي» فيبين المعنى المحوري لهذا الفعل، وأنه: تقدم الشيء من بين ما حوله في قوة وجدٍّ6.

ثانيًا: المعنى الاصطلاحي:

المسابقة في الاصطلاح: «التقدم والمبادرة وبذل غاية الجهد والطاقة بين متسابقين أو أكثر في أمر من الأمور الدنيوية أو الأخروية؛ لتحصيل السبق والفوز على الآخر» 7.

المسابقة في الاستعمال القرآني

وردت مادة (سبق) في القرآن الكريم (٣٧) مرة 8.

والصيغ التي وردت، هي:

الصيغة

عدد المرات

المثال

الفعل الماضي

١٨

( ) [الأنفال:٦٨]

الفعل المضارع

٥

( ) [الحجر:٥]

فعل الأمر

٣

( ) [الحديد:٢١]

المصدر

١

( ) [النازعات:٤]

اسم فاعل

٨

( ) [فاطر:٣٢]

اسم مفعول

٢

( ) [الواقعة:٦٠]

وجاءت المسابقة في القرآن على خمسة أوجه9:

أحدها: الوجوب: ومنه قوله تعالى: (ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ) [الصافات:١٧١]. يعني: وجبت.

الثاني: الاصطياد: ومنه قوله تعالى: (ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ) [يوسف: ١٧] يعني: نصطاد.

الثالث: التقدم للهروب: ومنه قوله تعالى: () [يوسف: ٢٥]يعني: تبادرا.

الرابع: الفوت: ومنه قوله تعالى: (ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ)[العنكبوت: ٤] يعني: يفوتونا.

الخامس: الفوز بالجنة: ومنه قوله تعالى: (ﯖ ﯗ) [الواقعة: ١٠]. يعني: السابقون إلى الجنة.

الألفاظ ذات الصلة

المسارعة:

المسارعة لغة:

المسارعة في الأصل تعني التقدم فيما ينبغي أن يتقدم فيه، وهي محمودة 10، وتعني أيضًا المبادرة والمباشرة للشيء بسرعة11، وتقتضي الجد والاجتهاد في أمر من الأمور، يقال: أسرع فلان المشي، وأسرع إلى كذا وكذا، يريدون: أسرع المضي إليه، وسارع بمعنى أسرع12، أي: تقدم وسبق غيره.

المسارعة اصطلاحًا:

«هي المبادرة إلى الطاعات والسبق إليها والاستعجال في أدائها وعدم الإبطاء فيها أو تأخيرها » 13.

الصلة بين المسارعة والمسابقة:

أن المسابقة متقدمة على المسارعة، وسابقة عليها؛ حيث إن (أي سباق مهما كان نوعه ومسافته لا بد له من مرحلتين:الأولى: مرحلة السباق والانطلاق، والثانية: مرحلة الإسراع في السباق، فمثلًا السباق في الجري، عندما يبدأ الشوط الأول يتسابقون، وبعد فترة يسارعون في السباق، بأن يضاعف المتسابقون سرعتهم، ويتحولوا من مجرد مسابقة إلى المسارعة في المسابقة، وسنجد أن بعض المتسابقين قد يسقط في الطريق، ويخرج من السباق، ولا يصل إلى مرحلة المسارعة إلا أصحاب الطاقات والهمم والسرعات والعزائم، أولئك الذين لديهم زاد قوي يعينهم على إكمال أشواط المسارعة) 14.

المسارعة أسمى درجة من المسابقة؛ حيث إن المسابقة تقتضي وجود قرين يسابق، فيجتهد المتسابق لتحصيل السبق، فيكون وجود القرين المسابق المخالف دافعًا لمزيد من بذل الجهد والسبق، أما المسارعة فتتعلق بذات العامل نفسه بقطع النظر عمن ينافسه في ذلك، فهو يجد ويجتهد أبلغ الاجتهاد لذاته،يحركه ما يراه من واجب عليه في ذات الأمر وهذا لا يكون إلا لمن علت همته وسمت اهتماماته15.

كما يلحظ في المسارعة خشية فوات الفرصة، كما يظهر فيها جانب ضيق الوقت خشية عدم إدراكه، فهو يسارع لذلك، وفي المقابل يلحظ في المسابقة ظهور النتيجة، وهي مادية واضحة 16.

يقول البقاعي مفرقًا بين فعلى«سابقوا» و«سارعوا»: (سابقوا: فعل من يسابق شخصًا فهو يسعى ويجتهد غاية الاجتهاد في سبقه، ولكن ربما كان قرينًا بطيئًا فسار هوينًا، أما المسارعة فلا تكون إلا بجهد النفس من الجانبين مع السرعة في العرف) 17.

وبهذا تتضح الصلة بين المصطلحين، وإن كان كل منهما يفيد في مجمله المبادرة، وبذل قصارى الجد والاجتهاد في تحصيل أمر من الأمور، والله أعلم.

المنافسة:

المنافسة لغة:

المنافسة: مأخوذة من الفعل «نافس» يقال: نافَسَ في الشيء مُنافَسَةً إذا رغب فيه على وجه المباراة في الكرم، وتنافسوا فيه، أي: رغبوا 18 أو مشتقة من النفاسة، يقال: شيءٌ نفيسٌ، أي ذو نفاسةٍ وخطر يتنافس به، والتنافس: أن يبرز كل واحدٍ من المتبارزين قوة نفسه19.

المنافسة اصطلاحًا:

يطلق على المنافسة في اصطلاح بعضهم: أنها مجاهدة النفس للتشبه بالأفاضل، واللحوق بهم من غير إدخال ضرر على أحد من الناس، وفيها قال تعالى: (ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ) [المطففين:٢٦]20.

الصلة بين المنافسة والمسابقة:

والمتأمل يجد أن بين المسابقة والمنافسة تشابهًا من وجه، وفرقًا من وجه آخر، حيث يشتبهان في أنَّ كلًّا منهما يتطلب بذل جهد ومشقة لتحصيل شيء ما، وفي كل منهما متسابقون أو متنافسون.

ويفترقان في أن المسابقة عامة تعم كل لون من ألوان التسابق، نافعًا كان أو غير ذلك، أما المنافسة فينبغي أن تكون في المعالي، واكتساب المحاسن، والبعد عن المعايب والمساخط، والله أعلم.

المبادرة:

المبادرة لغةً:

الباء والدال والراء، أصلان:أحدهما كمال الشيء وامتلاؤه، والآخر الإسراع إلى الشيء، أما الأول فهو قولهم لكل شيء تم:بدر، وبدر موضع يذكر ويؤنث، والأصل الآخر:قولهم بدرت إلى الشيء وبادرت، وإنما سمي الخطاء بادرة؛ لأنها تبدر من الإنسان عند حدة وغضب21.

وهذان المعنيان متقاربان؛ حيث إن المبادر إلى شيء ما يسرع إليه، ويسابق فيه حتى يصل إلى درجة الكمال أو يقترب منها، ومن ثم فالمعنى الأول بداية المبادرة والثاني نهايتها.

المبادرة اصطلاحًا:

هي (انطلاقة المؤمن ومسارعته إلى عمل صالح بحافز ذاتي من نفسه، بعد أن يتوافر في نفسه الميزان الأمين ليحدد العمل الصالح من سواه، وليطمئن إلى أنه لا يتجاوز حدوده، ولا يعتدي على غيره، ولا يدخل في فتنة تغضب الله تعالى) 22.

الصلة بين المبادرة والمسابقة:

المسابقة:اندفاع من الشخص اتجاه الشيء ويكون ذلك بدافع المنافسة، أما المبادرة:فقيام الشخص بفعل الشيء ولا يكون إلا بدافع ذاتي.

العجلة:

العجلة لغةً:

العين والجيم واللام أصلان صحيحان، يدل أحدهما على الإسراع، والآخر على بعض الحيوان، والجمع عجل وعجلات، والعجل والعجلة:خلاف البطء 23.

العجلة اصطلاحًا:

«هي طلب الشيء وتحريه قبل أوانه » 24.

وقال المناوي: «العجلة:فعل الشيء قبل وقته اللائق به»25.

قال الراغب: العجلة طلب الشيء وتحريه قبل أوانه، وهي من مقتضى الشهوة، فلذلك كانت مذمومة في عامة القرآن26.

الصلة بين العجلة والمسابقة:

الفرق بين العجلة والمسابقة يتضح من خلال النقاط التالية:

أن المسابقة تقتضي مفاعلة بين متفاعلين أو أكثر، والعجلة لا تقتضي ذلك؛ حيث إنها ذاتية نابعة من ذات الشخص.

أن العجلة مذمومة في أغلب أحوالها لكونها من مقتضيات الشهوة، ويتحرى فيها الشيء قبل أوانه،

أما المسابقة فليست كذلك، بل هي محمودة ممدوحة غالبًا، وبخاصة إذا كانت في أمور الآخرة.

حديث القرآن عن «العجلة» حديث عن ذمها غالبًا، ومدح القرآن للعجلة إنما ورد في موضعين اثنين، أحدهما قوله تعالى (ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ) [طه:٨٤].

وثانيهما قوله تعالى (ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ) [الفتح: ٢٠].

وأرجى الأقوال بالقبول في مرجع الإشارة «هذه» في الآية إلى فتح خيبر27،وإنما جعلت غنائم خيبر تعجيلًا لقرب حصوله من وقت الوعد به28، ويلحظ هنا أنه عبر عما قدم للمؤمنين من غنائم، وفتح سريع بلفظ «التعجيل» لتنبيه المؤمنين أن لا يلتفتوا إلى هذه الأمور الدنيوية لذاتها، فإنها من العاجلة التي لا يحسن بالمؤمنين التطلع إليها لذاتها، إلا أن تكون في ظل الإيمان والطاعة وقصد وجه الله سبحانه، كما ورد أن «التعجل» في المبيت بمنى جاء على وجه الإباحة، والتأخر والإتمام وصف فاعلوه بالتقوى، مما يفيد أن العجلة تصرف ليس بمحمود ابتداءً 29، والله أعلم.

التقدم:

التقدم لغة:

مشتق من الثلاثي «قدم»، وتحت هذه المادة يقول ابن فارس: (القاف والدال والميم أصلٌ صحيحٌ يدل على سبقٍ ثم يفرع منه ما يقاربه، يقولون: القدم: خلاف الحدوث، ويقال: شيءٌ قديمٌ، إذا كان زمانه سالفًا،وقدم الإنسان معروفةٌ، ولعلها سميت بذلك لأنها آلةٌ للتقدم والسبق) 30، أي: هي التي تتقدم وتسبق عند السير، فيرتكز عليها السائر في تحركه إلى الأمام مع هيئته التي تساعد على ذلك.

التقدم اصطلاحًا:

لا يخرج عن معناه اللغوي، وهو يدل على سبق الشيء نافذًا إلى الأمام بقوة31.

الصلة بين التقدم والمسابقة:

المسابقة تجتمع مع التقدم في أن كلًّا منهما فيه سبق.

وتفترق المسابقة عن التقدم بعدة أمور:

أولها: أن المسابقة تقتضي مفاعلة، ووجود متسابقين يشتركون في سباق ما، أو يتنافسون فيه يدفعون الشخص إلى مزيد من بذل الجهد والمشقة للفوز بالسباق، أما التقدم فلا شيء فيه من ذلك.

ثانيها: أن التقدم قد يكون في الزمان، مثل أن تقول: رمضان قدام شوال، أو في المكان، كأن يقول الخارج من مكة: جدة قبل أو قدام مصر، أو في المنزلة، كما تقول: محمد قدام علي، أي: مكانة ومنزلة، أو في الترتيب الصناعي، نحو: تعلم الهجاء قبل أو قدام تعلم الخط32.

ثالثها: أن التقدم قد يكون في الخير والشر، فأما الخير مثل قولهم: فلان يتقدم رفاقه، أي: في الشرف والمنزلة والمكانة، والشر مثل: فرعون اللعين حين قال الله تعالى فيه (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ) [هود:٩٨].

وهذا بخلاف المسابقة، والله أعلم.

أنواع المسابقة في القرآن الكريم

تحدث القرآن الكريم عن التسابق بنوعيه إجمالًا، ومدح منه نوعًا، وبَيَّنَ صفات أهله وأعمالهم، وما ينبغي أن يكون عليه من إرادة اللحوق بركبهم، وذم آخر، وبين ما لأهله من خصال، حتى تجتنب وتحذر، وسيتم الحديث عنها في النقاط الآتية:

أولًا: المسابقة الممدوحة:

المقصود بالمسابقة الممدوحة: الأمور التي أمر الله تعالى بالسبق فيها، وحض القرآن عليها، ورغب فيها، ووعد الممتثلين لذلك خيرًا كثيرًا.

ومن خلال التأمل في كتاب الله تعالى نجد أن ميادين هذا التسابق الممدوح متعددة، وأنواعه القرآنية كثيرة كما يلي:

  1. السبق إلى الخيرات.

    المراد بالخيرات: كلمة جامعة لكل ما يرغب فيه من الأمور والأشياء النافعة، كالعقل والعدل والفضل والشيء النافع عمومًا، وقد يكون الخير مطلقًا، حينما يكون مرغوبًا فيه بكل حال، عند كل أحد33.

    والأمر باستباق الخيرات ورد في القرآن الكريم في أربعة مواطن من كتاب الله تعالى، أذكرها مرتبة تريبًا مصحفيًّا، ثم أقفيها بالتعليق والتحليل على هذا الترتيب؛ حيث إن موضوع البحث لا يتعلق بالأحكام، ومن ثم فليس من المهم أن ترتب الآيات نزوليًّا حسبما يقتضيه البحث في التفسير الموضوعي.

    وأول المواطن قوله تعالى: (ﭯ ﭰ) [البقرة:١٤٨].

    والمفسرون حيال هذه الآية فريقان:

    الأول: يرون أن الآية عامة في كل خير ينبغي أن يستبق إليه، ومن ثم فليس الاستباق قاصرًا على التوجه إلى القبلة في الصلاة، وفي ذلك يقول الطبري: (() أي: بادروا وسارعوا من «الاستباق»، وهو المبادرة والإسراع والمراد: بادروا بالأعمال الصالحة شكرًا لربكم، وتزودوا في دنياكم لأخراكم) 34.

    الثاني: يرون أن الآية خاصة بحادثة تحويل القبلة، وذلك لكون الأمر باستباق الخيرات واردًا في سياقها، وعليه فيكون الأمر باستباق الخيرات خاصًّا بالاتجاه نحو الكعبة في الصلاة، أو الأمر بالاستباق إلى الصلاة في أول وقتها.

    وفي ذلك يقول القرطبي: (أي: بادروا ما أمركم الله عز وجل من استقبال البيت الحرام، وإن كان يتضمن الحث على المبادرة والاستعجال إلى جميع الطاعات بالعموم، فالمراد ما ذكر من الاستقبال لسياق الآي، والمعنى المراد المبادرة بالصلاة أول وقتها، والله تعالى أعلم) 35.

    ويقول الزجاج عند تفسير الآية: (أي: فبادروا إلى القبول من الله عز وجل، وولوا وجوهكم حيث أمركم الله أن تولوا) 36.

    ويعلق الواحدي على قول الزجاج فيقول:(وعلى هذا فــ «الخيرات» على صيغتها من العموم، وهي مخصوصة هنا؛ لأنه أراد الابتدار إلى استقبال الكعبة)37.

    وأُرَجِّحُ من هذين القولين أولهما؛ إذ أنه رأي الأكثرية من المفسرين38.

    فضلًا عن كونه يتناغم مع القاعدة التفسيرية الشهيرة «العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب» فالآيات وإن كانت نازلة في شأن تحويل القبلة إلا أن لفظها عام، لا ينبغي قصره على هذه الحادثة بعينها، وعليه فالأولى حملها على العموم، والله أعلم.

    ثم يأتينا بعد ثاني المواضع، وهو قوله تعالى: (ﮬ ﮭﮮ ﮯ ﮰ ﮱ) [المائدة:٤٨].

    ويدور فيه ما دار في آية البقرة من العموم والخصوص، والعموم أولى، ولا ثمة داع للتكرار.

    وثالثها: قوله تعالى: (ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ) [المؤمنون:٦١].

    وهذا الموضع وإن كان ورد التعبير فيه بالمسارعة والمسابقة معًا، إلا اعتددت به في باب المسابقة لكونه ذكر «الخيرات» أولًا، ثُمَّ أعاد الضمير عليها في قوله: () مع التعبير بالسبق في قوله: (ﭠ ﭡ ﭢ) ومن ثَمَّ اعتبرته من آيات المسابقة إلى الخيرات لهذين الأمرين.

    ويعلق القرطبي على الآية فيقول:(قوله تعالى: (ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ)أي: في الطاعات، كي ينالوا بذلك أعلى الدرجات والغرفات، و() على معنى يسابقون مَنْ سابقهم إليها، فالمفعول محذوف، وقوله: (ﭠ ﭡ ﭢ) أحسن ما قيل فيه:أنهم يسبقون إلى أوقاتها، ودل بهذا أن الصلاة في أول الوقت أفضل)39.

    فالخيرات هنا اسم عام لكل الطاعات والقربات التي يتقرب بها إلى الله تعالى، ولا تتخصص بشيء معين، والمؤمنون الصادقون يستبقون إليها، ويبادرون غيرهم إلى صنيعها، وحالهم دومًا أنهم سابقون.

    وآخر المواطن قوله تعالى: (ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ) [فاطر:٣٢].

    أقول:اختلف المفسرون حول المراد بهذه الآية اختلافًا كثيرًا إلى أقوال عديدة، أَقْتَصُر هنا على ما رَجُحَ لديَّ منها، وهو أن المَعْنِيِّينَ بهذه الآية هم من أمة محمد صلى الله عليه وسلم40، وأن المراد بالميراث:الانتهاء.

    قال مقاتل: «ثم أورثنا الكتاب»:يعني القرآن، والمعنى:ثم جعلنا الكتاب ينتهي إليهم؛ لأن من ورث شيئًا كان ذلك الشيء منتهيًا إليه، والوارثون هم المهاجرون والأنصار والتابعون لهم بإحسان من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ثم قسمهم ورتبهم فقال: (ﭫ ﭬ ﭭ) قال ابن عباس:بدأ بأشرهم فقال: (ﭫ ﭬ ﭭ) وهو الذي مات على كبيرة ولم يتب منها، ثم قال: ( ﭮ ﭯ) وهو والذي لم يصب كبيرة، ( ﭱ ﭲ) وهم:المقربون الذين سبقوا إلى الأعمال الصالحة.

    وقال الحسن:الظالم الذي ترجح سيئاته على حسناته، والمقتصد الذي استوت حسناته وسيئاته، والسابق من رجحت حسناته على سيئاته 41، والله أعلم.

    هذا وإني ألحظ على الآيات هنا عدة أمور:

    أولها: أن الله تعالى عبر عن فعل الطاعات وأدائها بصيغة «الاستباق»، وهذا يشير إلى أنه ينبغي أن يسارع المؤمنون إلى مرضاة ربهم، وأن يستبقوا إليها، فيأتوا الصلاة أول وقتها، ويبادروا بالصوم والزكاة والحج وسائر الطاعات متى حان وقتها، من غير تسويف أو تأخير، وإن استطاعوا أن لا يسبقهم إلى الله تعالى أحد فليفعلوا، فكثيرًا ما تعرض الحاجة، وتضل الراحلة، ويمرض الصحيح، ويهرم الشاب وهكذا.

    ثانيها: أن الفعل «فاستبقوا» في آيتي البقرة والمائدة تعدى إلى المفعول بنفسه من دون حرف، وهذا فيه دلالات:

    • الدلالة على قوة التباري بين المؤمنين والخيرات، وشدة المسابقة والمسارعة، وحدة السباق، فكأن الخيرات صارت شخصًا أُمِرَ المؤمنون أن يسابقوه ويسارعوه حتى لا يسبقهم إلى الله تعالى أحد.
    • الإشارة إلى سرعة المبادرة إلى هذه المسابقة، كأن الخيرات صارت مسابقة سابقة، ولكن مع سبقها فإنهم استبقوها وأدركوها وتحققوا منها42، ولذا قال الألوسي: «والمراد بسبقهم إلى الخيرات ظفرهم بها ونيلهم إياها»43.
    • الدلالة على أن قوله تعالى:(ﮬ ﮭ) بدون حرف الجر يشمل الاستباق إليها، والاستباق فيها، فليس معناه:إذا وصلت إلى الخير فإنك تقف، بل حتى في نفس فعلك الخير كن مسابقًا، وهذا يشبهه قوله تعالى(ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ) [الفاتحة: ٦]؛ فالمطلوب أن يصل الإنسان إلى الصراط، ويستمر فيه، ولهذا قال تعالى: (ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ)44.

      ثالثها: التعبير بحرف الجر« اللام» في قوله تعالى: (ﭠ ﭡ ﭢ) للدلالة على التعليل، فكأنه قال:هم لأجلها، (والمعنى يرغبون في الطاعات والعبادات أشد الرغبة، وهم لأجلها فاعلون السبق، أو لأجلها سابقون الناس إلى الثواب أو إلى الجنة)45.

      رابعها: التعبير بالاسم في قوله تعالى (ﭰ ﭱ ﭲ) دون الفعل، فلم يقل مثلًا:ومنهم من يسبق بالخيرات»ونحوه، وذلك لأن التعبير بالاسم يدل على الدوام والثبوت والاستمرار، دون الفعل، فهو يدل على التجدد والحدوث، فالله سبحانه يريد من عباده أن يكونوا دومًا سباقين إلى الخيرات في جميع الأوقات والأحوال، لا أن يكونوا سباقين في وقت، ثم بعد ذلك يعتريهم الفتور أو الغفلة، فإنَّ أحبَّ العمل إليه تعالى أدومُهُ وإن قلَّ، والله أعلم.

      خامسها: يشير قوله تعالى (ﭳ ﭴ)إلى أن طاعة العبد لربه تعالى، وأي سبق له في الخيرات إنما هو محض فضل من الله تعالى، وأن لا طاقة للعبد على مثل ذلك إلا بعد توفيق الله له، مع صعوبة هذه المنزلة.

      وفي ذلك يقول الألوسي(قوله (ﭳ ﭴ) أي: بتيسيره تعالى وتوفيقه عز وجل، وفيه تنبيه على عزة منال هذه الرتبة وصعوبة مأخذها)46.

      نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من السباقين إلى الخيرات، الوارثين أعلى الجنات.

      سادسها: ورد الترتيب في الآية على خلاف المعتاد؛ حيث قدم الظالم ثم المقتصد، وأخر السابق مع أن حقه التقديم، والسر في ذلك -كما يقول الزمخشري-: «الإيذان بكثرة الفاسقين وغلبتهم، وأن المقتصدين قليل بالإضافة إليهم، والسابقون أقل القليل»47.

      فاللهم اجعلنا من عبادك الأقلين، اللهم آمين.

  2. السبق إلى مغفرة الله تعالى وجنته.

    مغفرة الله منزلة عظيمة لا ينالها إلا من كان أهلًا لها، وسعى في نيلها وطلبها بتعاطي أسبابها، وسلوك سبيلها، ويمنحها الله تعالى لعباده المؤمنين الذين سابقوا إليها، وامتثلوا قوله تعالى: (ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ) [الحديد:٢١].

    ومن المعلوم أن الخير والشر قريبان من الإنسان، فلذا حث الله تعالى الإنسان على المبادرة إلى الخيرات، من فعل الطاعات، وترك المحرمات، التي تكفر عنه الذنوب والزلات، وتحصل له الثواب والدرجات، ولذلك قدمت المغفرة على الجنة هنا في قوله تعالى: (ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ) أي: ما يؤدي إليهما من أداء جميع الواجبات، وترك جميع المنهيات.

    وقوله: (ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ) المراد به:جنس السماء والأرض، أو أنه تمثيل للعباد بما يعقلونه ويقع في نفوسهم، وأكبر ما يقع في نفوسهم مقدار السموات والأرض.

    (ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ) وفيها أعظم رجاء وأقوى أمل؛ إذ ذكر أن الجنة أعدت لمن آمن، ولم يذكر مع الإيمان شيئًا آخر48، وذلك الذي أهلهم الله له هو من فضله ومَنِّهِ عليهم، وإحسانه إليهم.

    ويجدر بالبحث في هذا المقام أن يذكر أن آية أخرى وردت في كتاب الله تعالى في هذا الصدد لكن بلفظ المسارعة لا المسابقة، وهي قوله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ) [آل عمران:١٣٣].

    والناظر في الآيتين الكريمتين يجد بينهما تباينًا وافتراقًا في التعبير والأسلوب لأسرار وحكم بلاغية عظيمة يقف البحث على بعضها فيما يلي:

    • مجيء حرف العطف«الواو» في سورة «آل عمران» ()، بينما حذف من«الحديد» ().

      والسر في ذلك يتضح من خلال النظر في سياق كل منهما، فآية «آل عمران» سبقت بعدة أوامر (ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ) واتقوا الله واتقوا الناروأطيعوا الله والرسول ثم جاء بعدها معطوفًا عليها قوله: ()، فنظم هذا الأمر هو الآخر في سلك المأمورات السابقة، فكان من المناسب أن يعطف عليها بالواو، بينما قطعت سورة«الحديد» عن الإضافة لاختلاف موضوع الآية عن سابقتها؛ فإن الآية السابقة تحذر من الاغترار بالدنيا وزخرفها، وهذه تأمر بالمسابقة في أمور الآخرة، فافترقا في الموضوع فحذف العاطف لذلك49، والله أعلم.

    • التعبير في آية «آل عمران» بالمسارعة و«الحديد» بالمسابقة.

      وذكر الفرق بين مدلول كل من الفعلين فيما سبق، لكن لماذا خصت سورة «آل عمران» بالمسارعة، وسورة «الحديد» بالمسابقة؟

      والجواب:يتضح لنا أيضًا من خلال النظر في سياق الآيتين الكريمتين من وجهين:

      الأول: نجد أن آية سورة «آل عمران» تتحدث عن المتقين المسارعين، بينما تتحدث آية سورة «الحديد» عن المؤمنين المسابقين، ومعلوم أن الصنفين ليسا على درجة واحدة، فالمتقون أعلى وأسمى درجة من المؤمنين؛ لأنهم جمعوا بين الإيمان والتقوى، فكان المناسب أن يأتي التعبير بالمسارعة في «آل عمران» لمكانة المتقين، وبالمسابقة في «الحديد» لمكانة المؤمنين50.

      الثاني: خصت سورة «آل عمران» بالمسارعة لكونها تحدثت عن بدر كنموذج عملي للمسارعة إلى المغفرة والجنة من خلال طلب الجهاد والشهادة، كما حذرت من تضييع حق الله وعدم الاستعداد لليوم الآخر، فجاء النهي عن أكل الربا، بينما خصت «الحديد» بالمسابقة لكونها تحدثت عن صفة الصديقين والشهداء، وبينت لنا حقيقة الدنيا وحذرت منها.

      وبعدها جاء قوله () حتى لا يركن الإنسان إلى الدنيا مهما كان أمرها، صغر أو كبر، ليصرف الكَمْلَةُ من العباد هَمَّهُم عنها لسفولها وحقارتها بالنسبة إلى الآخرة، حيث الكمال والبقاء، ليرغبوا غاية الرغبة فيها، ويشتاقوا كلَّ الاشتياق إليها51، والله أعلم.

    • التعبير بحذف حرف التشبيه في «آل عمران» (ﭘ ﭙ)، وبذكره في «الحديد»(ﮚ ﮛ).

      والسر في ذلك:أنه لما تضمنت آية «آل عمران» ما يدل على المبالغة والتعظيم من وصف من أعدت له الجنة، ووسمهم بالمتقين، وهم الذين وفوا بالإيمان وتوابعه وغير ذلك مما لم تتضمنه آية الحديد ناسب ذلك كله جعل العرض نفس السماوات والأرض من غير إفصاح بالمضاف المقدر الذى لا بد منه عند بيان المعنى على ما تقدم، ولما لم يقصد في آية «الحديد» ذلك أفصح فيها بما يعطى معنى «مثل»، وهي كاف التشبيه، وإنما خصت آية «آل عمران» بما يدل على المبالغة والتعظيم دون آية الحديد لاشتمالها على الحض على الجهاد، وعظيم فضله، وذكر قصة بدر وأحد، ولما لم يكن في آية الحديد شيء من ذلك ناسب ذكر الكاف فيها52، والله أعلم.

    • جمع السماوات في آل عمران وإفرادها في الحديد.

      والسر في ذلك:موافقة كل آية للمقام الذي جاءت بالحديث عنه، فالمقام في «آل عمران» مقام تفصيل أمر الجهاد والشهادة، وحديثٌ عن أعلى مقامات المتقين وصفاتهم، وفيها حثٌّ على التجرد عن النفس والمال، وجميع الحظوظ الدنيوية أصلًا ورأسًا، بينما في سورة الحديد كان الحديث عن هذه المعاني مجملًا، وكان الحث على التجرد عن الدنيا فحسب، فجاء لفظ (السماء) مفردًا بما يناسب كلًّا من التفصيل والإجمال والموضوع53، والله أعلم.

    • اختلاف من أعدت لهم الجنات، ففي آل عمران ذكرت الآية أنهم المتقون، وفي الحديد ذكرت آياتها أنهم الذين آمنوا بالله ورسله، فما السر البياني في ذلك؟

      أرى أن السر في ذلك أنه لما خصت سورة «آل عمران» بالوصف البليغ للجنات، ودل ذلك الوصف على عظمها، وعلو مكانتها، وعظم شأن المسارعين إليها، وأن مسارعتهم إليها مسارعة ذاتية نابعة من بين جوانحهم رغبة منهم فيما عند ربهم سبحانه ناسب ذلك كله أن يبين سبحانه أن هذه الجنات إنما أعدت وخصت بقوم مخصوصين، علت مكانتهم لـمَّا سمت نفوسهم، وهم المتقون الجامعون بين الإيمان والتقوى، ولما خلت سورة «الحديد» من ذلك ختمت بهذا الختام العام(ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ)، والله أعلم.

    • تذييل آية الحديد بأن المذكور فيها من فضل الله، يمنحه من شاء من خلقه، فقال(ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ) بينما لم نجد ذلك في تذييل آية آل عمران فما السر وراء ذلك؟

      لعل حكمة ذلك أن موضوع آية الحديد استدعى ذلك التعقيب، فالمسابقون فيها هم مؤمنون آمنوا بالله ورسله، وسباقهم ما زال في بداياته، وهم بحاجة إلى مزيد من الترغيب والحث والتشجيع، حتى يستمروا في السباق، ويزيدوا من سرعتهم فيه، فأخبرتهم الآية أن هذا السباق فضل من الله، تفضل به عليهم، وهو سبحانه ذو الفضل العظيم، يتفضل به على من يشاء من عباده.

      ولم تذكر آية آل عمران هذا التعقيب؛ لأن المسارعين فيها إلى الجنة هم المتقون، وهم ليسوا بحاجة إلى حضٍّ وتشجيع؛ لأنهم ارتقوا إلى درجة أعلى، استشرفوا فيها الجنة التي يسارعون إليها، فقصدوها بالسير إليها، وضاعفوا سرعتهم نحوها 54.

      وأخيرًا ألحظ على الآيتين معًا أمورًا:

      أولها: أن كلتيهما عدي فعلها بحرف الجر«إلى»، ففي «آل عمران»(ﭒ ﭓ) وفي «الحديد» () والسر البلاغي في ذلك يرجع إلى أن: حرف «إلى» يفيد انتهاء الغاية الزمانية وتارة المكانية55، وورد التعبير به هنا؛ لأن المغفرة والجنة منتهى المسارعة والمسابقة وغايتهما، وهما غاية ما يتطلع إليه كل مؤمن، من الفوز بمغفرة الله ورضوانه وجنته، ففيه الإشارة إلى انتهاء الغاية معنى ورتبة ومكانًا56.

      ثانيها: أن المغفرة فيهما جاءت منكرة، ومضافة إلى الرب، فقال تعالى(ﭔ ﭕ ﭖ)وذلك للدلالة على التعظيم؛ حيث (عظم سبحانه بذلك شأن هذه المغفرة التي ينبغي طلبها بإسراع ومبادرة، بأن جاء بها منكرة، ووصفها بأنها كائنة منه سبحانه، فهو الذي خلق الخلق بقدرته، ورباهم برعايته) 57.

      ثالثها: اختصاص العرض بالذكر في الآيتين دون الطول مع أنه أدل على الاتساع، وذلك ليكون أبلغ في الدلالة على عظم الجنة واتساع طولها؛ لأنه إذا كان عرضها كهذا، فإن العقل يذهب كل مذهب في تصور طولها؛ لأن العرض في العادة أقل من الطول، وذلك كقوله تعالى في صفة فرش الجنة (ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ) [الرحمن:٥٤].

      فإذا كانت بطانة الفرش من الحرير، فكيف يكون ظاهر البطانة مما تراه الأعين؟58.

      رابعها: تقديم المغفرة على الجنة في الآيتين في قوله: (ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ) وسرُّ هذا التقديم:وجوب المسارعة والمسابقة إلى ما به مغفرة الذنوب والتطهر من أدرانها قبل طلب الجنة أو دخولها، من باب قولهم: «التخلية مقدمة على التحلية»، وفي ذلك يقول أبو السعود:

      (وتقديم المغفرة على الجنة لما أن التخلية متقدمة على التحلية والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضمير المخاطبين؛ لإظهار مزيد اللطف بهم) 59.

  3. السبق بالإيمان.

    من أنواع السبق الممدوحة التي ذكرها الله تعالى في كتابه:السبق بالإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم والدخول معه في الدين الجديد، مع نصرته والدفاع عنه، والذب عن حياض شريعته وسنته، ونحو ذلك مما يقتضيه الإيمان بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا ما تكفل ببيانه قوله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ) [الحشر:١٠].

    المتأمل في سياق الآية الكريمة يجد أنها سيقت بعد آيتين، تحدثت أولاهما عن المهاجرين، ومدحت صنيعهم وهجرتهم إلى الله تعالى في قوله: (ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ) [الحشر:٨].

    وأخراهما تحدثت عن الأنصار وحسن استقبالهم للنبي صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام، وكريم ضيافتهم لإخوانهم المهاجرين مع ما بهم من حاجة وفاقة، ثم جاءت هذه الآية الكريمة، وفيها يخبر تعالى أن الذين جاءوا من بعد المهاجرين والأنصار، وهم:التابعون إلى يوم القيامة (يدعون لأنفسهم، ولمن سبقهم بالإيمان بالمغفرة، بقوله:(ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ) أي:غشًّا وحسدًا وبغضًا، فكل من لم يترحم على جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان في قلبه غلٌّ على أحد منهم. فإنه ليس ممن عناه الله بهذه الآية؛ لأن الله تعالى رتب المؤمنين على ثلاث منازل:المهاجرين، والأنصار، والتابعين الموصوفين بما ذكر.

    ولنعلم أن هذه الآيات قد استوعبت جميع المؤمنين؛ لأنهم إما المهاجرون أو الأنصار أو الذين جاءوا من بعدهم، وبين الله فيها أن من شأن من جاء من بعد المهاجرين والأنصار أن يذكر السابقين، وهم المهاجرون والأنصار بالدعاء والرحمة، فمن لم يكن كذلك بل ذكرهم بسوء كان خارجًا من جملة أقسام المؤمنين بحسب نص هذه الآية) 60.

    ودلت الآية الكريمة على أن من فضائل الإيمان أن المؤمنين ينتفع بعضهم ببعض، ويدعو بعضهم لبعض، بسبب المشاركة في الإيمان المقتضي لعقد الأخوة بين المؤمنين التي من فروعها أن يدعو بعضهم لبعض، وأن يحب بعضهم بعضًا.

    ولهذا ذكر الله في الدعاء نفي الغل عن القلب، الشامل لقليل الغلِّ وكثيره، الذي إذا انتفى ثبت ضده، وهو المحبة بين المؤمنين والموالاة والنصح، ونحو ذلك مما هو من حقوق المؤمنين.

    كما دلت الآية الكريمة على أن الدعاء يعد من جملة حقوق المؤمنين بعضهم لبعض61.

    ودلت أيضًا على أنَّ حقًّا على المسلمين أن يذكروا سلفهم بخير، وأن حقًا عليهم محبة المهاجرين والأنصار وتعظيمهم62، والله أعلم.

  4. سبق الملائكة الكرام.

    ذكر الله تعالى هذا النوع من التسابق، وهو «سبق الملائكة الكرام» في آية واحدة من كتابه، هي قوله تعالى: (ﮫ ﮬ ﮭ) [النازعات:٤].

    والمفسرون اختلفوا في بيان المراد بالسابقات هنا اختلافًا كثيرًا، والبحث بدوره يكتفي فقط بما عليه أكثر المفسرين-رحمهم الله تعالى رحمة واسعة-فجلهم على أن المعنيين بهذه الآية هم:الملائكة الكرام، لكنهم اختلفوا أيضًا فيما بينهم على بيان معنى السبق الملائكي على هذا الوجه:

    فمن قائل: إنها سبقت ابن آدم بالخير والعمل الصالح والإيمان والتصديق.

    ومن قائل: إنها تسبق الشياطين بالوحي إلى الأنبياء،؛ إذ كانت الشياطين تسترق السمع.

    ومن قائل: إن الملائكة تقبض الأرواح فتسبق بأرواح المؤمنين إلى الجنة، وبأرواح الكفار إلى النار63.

    وأرى: ترجيح القول بأن المراد بالسابقات الملائكة الكرام؛ لأن السياق في السابق واللاحق يرجح ذلك، كما أرى أنه لا مانع من الجمع بين آراء المفسرين في بيان سبق الملائكة الكرام؛ لأن الله تعالى حينما يأمرهم بأمر من الأمور يبادرون ويسابقون إلى تطبيقه وتنفيذه، فهم (ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ) [التحريم:٦].

    فسواء أمرهم بطاعة من الطاعات، أو بالوحي إلى أحد أنبيائه، أو قبض أرواح أحد من البشرفإنهم لا يتوانون في ذلك أبدًا، ولا شك أن مثل هذا السبق ممدوح دومًا غير مذموم، ومطلوب ومرغوب.

    وهم مع ذلك لا يبادرونه بالقول ولا يسبقونه تعالى به، مهابة منه وإجلالًا له، فهم كما وصفهم تعالى في قوله(ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ) [الأنبياء:٢٧].

    يعلق الإمام الرازي على ذلك ويقول: (ويحتمل أن يكون المراد أنه تعالى وصفهم فقال: (ﭬ ﭭ ﭮ)[الأنبياء:٢٧].

    يعني: قبل الإذن لا يتحركون ولا ينطقون تعظيمًا لجلال الله تعالى وخوفًا من هيبته، وهاهنا وصفهم بالسبق، يعني: إذا جاءهم الأمر، فإنهم يتسارعون إلى امتثاله ويتبادرون إلى إظهار طاعته، فهذا المراد من قوله(ﮫ ﮬ ﮭ)[النازعات:٤])64، والله أعلم.

  5. السبق المطلق.

    ذكر القرآن الكريم نوعًا خامسًا من أنواع السبق ومدحه، ورغب فيه، وأطلقه عن التقييد، فلم يقيده بنوع ما من أنواع الخير، وساقه في معرض المدح والثناء على قوم اتصفوا به من بين المؤمنين، وهذا النوع وإن كان من الممكن أن يندرج تحت النوع الأول(السبق إلى الخيرات) إلا أن القرآن أطلقه عن التقييد، وأفرده بآيات مستقلة؛ فأحببت أن أستن بهذه السنة القرآنية فأفردته في نوع مستقل، وورد الحديث عن هذا النوع في موضعين من كتاب الله تعالى:

    الأول: قوله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ) [التوبة: ١٠٠].

    يخبر تعالى هنا عن رضاه عن السابقين من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان، ورضاهم عنه بما أعد لهم من جنات النعيم، والنعيم المقيم، وأشادت الآية بهؤلاء السابقين ،الذين سبقوا أقوامهم إلى الإيمان بالله تعالى) 65.

    وقسمتهم الآية إلى ثلاث طوائف:

    الطائفة الأولى: المهاجرون، واختلف في بيان المراد بهم اختلافًا كثيرًا، ولعل من أرجحها:أنهم الذين هاجروا قبل صلح الحديبية؛ لأن المشركين كانوا إلى ذلك الوقت يضطهدون المؤمنين في بلادهم، ويقاتلونهم في دار الهجرة وما حولها، ولا منجاة للمؤمنين من شرهم إلا بالفرار أو الجوار، فالذين هاجروا قبل صلح الحديبية وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم كانوا كلهم من المؤمنين السابقين الصادقين، ليس فيهم منافق66.

    ويؤكد هذا القول رجحانًا أن الله تعالى منع التسوية بين الفريقين في قوله: (ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ) [الحديد:١٠].

    الطائفة الثانية: الأنصار، وهم الذين بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم عند العقبة الأولى سنة إحدى عشرة من البعثة، وكانوا سبعة، وفي العقبة الثانية، وكانوا سبعين رجلًا وامرأتين67.

    والطائفة الثالثة: الذين اتبعوا هؤلاء السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار في الهجرة والنصرة اتباعًا بإحسان، أو محسنين في الأفعال والأقوال، وخرج به من اتبعوهم في ظاهر الإسلام مسيئين غير محسنين في هذا الاتباع وهم المنافقون، ومن اتبعوهم محسنين في بعض الأعمال ومسيئين في بعض، وهم المذنبون.

    وهؤلاء الطبقات الثلاث رضي الله عنـهم في إيمانهم وإسلامهم وإحسانهم وهجرتهم وجهادهم، ونصرتهم للدين والشريعة، فقبل منهم طاعاتهم، وغفر سيئاتهم، وتجاوز عن زلاتهم، إذ بهم أعز الإسلام، ونكل بأعدائه من المشركين وأهل الكتاب68.

    ولقد أعجبني قول بعض العلماء حين جعل حكم الآية عامًّا يشمل كل سبق لأي أحد في أي عصر أو مصر، حيث يقول:(وهذه الآية الكريمة تضمنت تفضيل السابقين إلى كل منقبة من مناقب الشريعة، في علم أو دين أو شجاعة أو غير ذلك، من العطاء في المال والرتبة في الإكرام)69.

    هذا وإن المتأمل للآية الكريمة يلحظ أمورًا منها:

    • التقييد للتبعية بإحسان في قوله تعالى(ﭖ ﭗ ﭘ) يفيد الشهادة للسابقين بكمال الإحسان؛ لأنهم صاروا فيه أئمة متبوعين70.
    • التصريح برضى الله تعالى عن هؤلاء السابقين، ورضاهم عنه سبحانه، وذلك دال على تمام توفيق الله لهم وجزيل ما أسبغ عليهم من نعمه الظاهرة والباطنة71.
    • التعبير بالإعداد في قوله ()، وإفادة الاختصاص بتقديم الجار والمجرور()، وتنكير جنات..كل ذلك يفيد تفخيم وتعظيم شأن أولئك السابقين، وعظم مكانتهم عند ربهم سبحانه وتعالى.
    • حذف حرف الجر «من» في قوله تعالى(ﭡ ﭢ ﭣ) وسر هذا الحذف يظهر من عدة أوجه من أهمها:

      أ. كونه أبلغ في بيان هذا النعيم الموعود به هؤلاء السابقون، ففي سائر القرآن(ﭿ ﭢ ﭣ) إلا هذا الموضع، قال البقاعي: «ونبه على عموم ريها وكثرة مائها بنزع الجار على قراءة الجماعة، ولعل تخصيص هذا الموضع بالخلاف؛ لأنه يخص هذه الطائفة، فلعلها تخص بجنة هي أعظم الجنان رِيًّا وحُسْنًا 72».

      ب. يذكر ابن عاشور أن «من» حذفت لوجود ما يغني مما يفيد التوكيد، فيقول:(وقد خالفت هذه الآية عند معظم القراء أخواتها فلم تذكر فيها «من» مع «تحتها» في غالب المصاحف، وفي رواية جمهور القراء، فتكون خالية من التأكيد؛ إذ ليس لحرف «من» معنى مع أسماء الظروف إلا التأكيد، ويكون خلو الجملة من التأكيد لحصول ما يغني عنه من إفادة التقوي بتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي، ومن فعل «أعد» المؤذن بكمال العناية فلا يكون الـمعد إلا أكمل نوعه) 73. والذي يفهم من كلامه أن «من» حذفت لوجود ما يغني عنها من تقديم المسند إليه (ﭑ ﭒ) على الخبر الفعلي(ﭙ ﭚ ) ومعلوم أن تقديم ما حقه التأخير لون بلاغي مشهور، فضلًا عما يفيده الفعل «أعد» من كمال العناية بهؤلاء السابقين، وعظم شأن المعد لهم، والله أعلم.

    • يلحظ من الأية أيضًا عظم مكانة هذه الأمة-وبخاصة أوائلها-عند الله تعالى لكونها سابقة لغيرها من الأمم إلى رضوان الله تعالى، فمن المعلوم أن (السبق يكون بالصفات والزمان والمكان، وأفضل هذه الوجوه سبق الصفات، والدليل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، ثم هذا يومهم الذي فرض عليهم، فاختلفوا فيه، فهدانا الله، فالناس لنا فيه تبع، اليهود غدًا، والنصارى بعد غد)74، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن من سبقنا من الأمم بالزمان جئنا بعدهم فسبقناهم بالإيمان، والامتثال لأمر الله، والانقياد إليه، والاستسلام لأمره، والرضا بتكليفه، والاحتمال لوظائفه، لا نعترض عليه، ولا نختار معه، ولا نبدل بالرأي شريعته، كما فعل أهل الكتاب، وذلك بتوفيق الله لما قضاه، وبتيسيره لما يرضاه، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله) 75.

      والموطن الثاني: قوله تعالى (ﯖ ﯗ ﯘ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ) [الواقعة:١٠-١٢].

      والآيات في هذا الموضع تتحدث عن صنف من الأصناف الثلاثة التي ذكرتهم السورة الكريمة، وهم السابقون الذين سبقوا إلى الإيمان بالله تعالى ورسوله، وهم المبادرون إلى فعل الخيرات كما أمروا، وقيل:هم الذين سبقوا إلى الإيمان والطاعة عند ظهور الحق من غير تلعثم وتوانٍ، وقيل:هم الذين سبقوا في حيازة الفضائل والكمالات، وأيما كان فهولاء حازوا قصب السبق من الطاعات والقربات من رب الأرض والسماوات، فمن سابق إلى هذه الدنيا، وسبق إلى الخير كان في الآخرة من السابقين إلى الكرامة، فإن الجزاء من جنس العمل، وكما تدين تدان، ولهذا قال تعالى:(ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ)76.

      هذا وإنه لِيُلْحَظُ على هذه الآيات الكريمة أمورٌ:

      أولها: تأخر ذكر هذا القسم الثالث من الأزواج الثلاثة في سورة «الواقعة»، ولعل تأخير ذكرهم مع كونهم أسبق الأقسام وأقدمهم في الفضل؛ ليقترن ذكرهم ببيان محاسن أحوالهم وما أعده الله تعالى لهم في الآخرة، على أن إيرادهم بعنوان السبق مطلقًا معرب عن إحرازهم لقصب السبق من جميع الوجوه77، أو أخرهم لتشويق السامعين إلى معرفة صنفهم78.

      ثانيها: تكرار لفظ «السابقون» في قوله (ﯖ ﯗ) وهذا التكرار للدلالة على أن حالهم بلغت منتهى الفضل والرفعة، بحيث لا يجد المتكلم خبرًا يخبر به عنهم أدل على مرتبتهم من اسم «السابقون» فهذا الخبر أبلغ في الدلالة على شرف قدرهم من الإخبار بما سواه، مع ما في اشتقاق لقبهم من «السبق» من الدلالة على بلوغهم أقصى ما يطلبه الطالبون79.

      ثالثها: التعبير باسم الإشارة للبعيد «أولئك» إيذانًا ببعد مكانتهم، وعلو منزلتهم عند ربهم سبحانه، ولا أدل على ذلك من مرتبة القرب منه تعالى التي منحهم إياها، نسأله تعالى أن نكون منهم أجمعين، فضلًا عما يفيده هذا التعبير (ﯙ ﯚ)من الحصر والقصر، والذي (يقتضي أن لا يكون غيرهم مقربًا)80.

      رابعها: وصف السابقين هنا بأنهم المقربون من ربهم، حيث قال:(ﯙ ﯚ)، وهذه أعظم نعمة يسعى إليها العاملون المؤمنون، الذين يقول في حقهم سبحانه في آخر هذه السورة: (ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ) [الواقعة:٨٨-٨٩]81.

      خامسها: الإفادة بأن لهم جنات النعيم: (ﯜ ﯝ ﯞ)، والملاحظ أنه كلما ذكر أجر السابقين، وذكر أن ثوابهم الجنة يأتي ذكر الجنة بصيغة الجمع () أو ببيان ما يدل على عظمها.

      ولعل في ذكر الجنات بصيغة الجمع لفت نظر إلى أن الجنة منازل ومراتب، وفي كل منزلة من النعيم العظيم ما فيها، وهؤلاء السابقون قد فازوا بما اختصت به كل منزلة من نعيم وعطاء، فجمعوا كل خير وثواب وعطاء، أو (لكون الجنان سبعًا:جنة الفردوس، وعدن، والنعيم، ودار الخلد، وجنة المأوى، ودار السلام، وعليين، أو الجمع إشارة إلى سعتها، وكثرة أشجارها وتنوعها)82، والله أعلم.

      سادسها: وصف الجنات بأنها (ﯝ ﯞ) وهذا يفيد كثرة النعيم وتنوعه؛ لأن النعيم -كما يقول الراغب-:هو النعمة الكثيرة، وتنعم:تناول ما فيه النعمة وطيب العيش83.

      أو للإشارة إلى أن الجنة في الدنيا قد تكون للنعيم، وقد تكون للاشتغال والتعيش بأثمان ثمارها، بخلاف الجنة في الآخرة فإنها للنعيم لا غير، وفي هذا مزيد عناية بما أعد الله للمؤمنين السابقين84.

      وهذا وإن دل فإنما يدل على مدى عظيم فضل الله تعالى وإكرامه لأهل السبق في طاعته، وأنواع القربات والزلفى إليه سبحانه، نسأل الله تعالى بمنه وكرمه أن يجعلنا منهم، ويلحقنا بركبهم، اللهم آمين.

  6. سبق القضاء والقدر.

    من المعلوم بداهة أن كل الأمور والمقادير قدرها الله تعالى على خلقه في الأزل، تصديقًا لقوله تعالى: (ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ) [القمر:٤٩].

    وجعل ذلك في اللوح المحفوظ، ثم يبديه لخلقه في حينه، في أمور يبديها ولا يبتديها، ولولا سبق القضاء بالمقادير كلها لأنزل الله تعالى بعباده ما يستأهلونه في حينه.

    وورد الحديث عن هذا النوع الخامس في عشرة مواطن من كتاب الله تعالى، وجميعها تفيد هذا المعنى «سبق القضاء والقدر له سبحانه وتعالى»، وعبارات المفسرين وإن اختلفت في التعبير عن ذلك إلا أنها تؤول إليه، وسبق للبحث أن تعرض للإشارة إلى هذا النوع في مبحث«الدلالات القرآنية» لمادة «سبق»، ومَثَّلَ له هناك بآيتين، وسيعرض للبقية هنا.

    فمن هذه المواضع قوله تعالى: (ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ) [هود:٤٠].

    وهذا أمر من الله تعالى لسيدنا نوح السلام أن يحمل في سفينته من كل شيء زوجين، (ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ) أي: (من قضي عليه بالعذاب فهو مستثنى من أهله، والمراد بذلك ابنه الكافر وامرأته، وأمثالهما) 85، ومثل هذا يقال في موضع سورة «المؤمنون»، ومن المواضع أيضًا قوله تعالى (ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ) [هود:١١٠].

    فـ(الكلمة) هاهنا عبارة عن الحكم والقضاء86، والمعنى: ولولا قضاء الله وحكمه بتأخير العذاب عن هؤلاء إلى الآخرة لفصل بين المؤمن والكافر في الدنيا.

    ومثله قوله تعالى: (ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ) [طه:١٢٩].

    والكلمة هنا تعني:القضاء السابق، والمعنى: لولا قضاء الله بتأخير العذاب عنهم لكان العذاب لزامًا:أي واقعًا بهم 87.

    وكذلك المعنى في بقية المواطن المشابهة.

    أما السبق في قوله تعالى: (ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ) [الأنبياء:١٠١].

    (ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ) [الصافات:١٧١].

    فيحتمل معنى التقدم88، ومعنى القضاء والحكم، وأرجح الأخير؛ لكونه قول عامة المفسرين89، ومعنى الآية الأولى عليه:

    إن الذين قضيت لهم السعادة في الأزل من خلقه تعالى فهو عن النار مبعد، فإن السعادة سبقت لأهلها من الله، وسبق الشقاء لأهله من الله 90، ولا شك أن هذا السبق سبق قضاء وقدر ليس إلا، والله أعلم.

    ومعنى الآية الثانية عليه:أنه تعالى قد حكم في كتابه بنصر أنبيائه، فليس ينقضه أحد91.

    هذا وإني ألحظ على الآيات في هذا الصدد أمورًا:

    أولها: الدلالة على عظم مكانة السابقين الذين سبقت لهم من الله الحسنى والسعادة، حيث عبر عنهم بالاشتهاء لعظم ما هم فيه في قوله: (ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ) [الأنبياء:١٠٢].

    وفي ذلك يقول البقاعي:(لما كانت الشهوة-وهي طلب اللذة-لا تكون إلا بليغة، عبر بالافتعال دلالة على عظيم ما هم فيه من اللذة فقال: (ﭖ ﭗ ﭘ )في الجنة () أي دائمًا أبدًا) 92.

    ثانيها: ورد التعبير في أكثر من آية بقوله (ﭼ ﭽ ﭾ) وهي ليست كلمة واحدة بل كلمات، (إنما سماها كلمة وهي كلمات عدة؛ لأنها لما انتظمت في معنى واحد كانت في حكم كلمة مفردة)93.

    ثالثها: ورد في بعض الآيات تعدية الفعل «سبق» بحرف الجر «على» مثل قوله (ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ) [هود:٤٠].

    وفي بعضها تعدى باللام، مثل قوله (ﯤ ﯥ ﯦ) [الأنبياء:١٠١].

    وقوله (ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ) [الصافات:١٧١].

    وبعضها بـ(من) مثل قوله: (ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ) [طه:١٢٩].

    وما شاكلها، وأرى أن السِّرَّ في ذلك:أن مضمون الآية إذا كان يتعلق بالمخلوقين، وكان شيئًا نافعًا جاءت التعدية باللام، وإذا كان شيئًا ضارًّا جيء بعلى94، وإذا كان الأمر يتعلق بالخالق سبحانه، مع الدلالة على الابتداء جاء التعبير بـ«من» الابتدائية المفيدة لذلك، والله أعلم.

    ثانيًا: السبق المذموم:

    إذا كان القرآن قد رصد أنواعًا عديدة من أنواع السبق الممدوح، وقفنا عليها فيما سبق، فإنه قد رصد أيضًا بعضًا من أنواع السبق المذموم، سيجليها البحث فيما يلي:

  1. سبق قوم لوط عليه السلام إلى الفاحشة.

    ابتلي قوم لوط عليه السلام بإتيان الذكران بعضهم بعضًا، وترك ما أحل الله لهم من أزواجهم، فضلًا عن مجاهرتهم بفعلهم هذا وعدم استحيائهم من الله تعالى، أو من بعضهم البعض، مما يجرئ غيرهم على المعصية، سابقين في ذلك العالمين أجمعين، فقام سيدنا لوط عليه السلام بواجب الدعوة نحوهم، ناعيًا عليهم هذا السبق المذموم، وجاء الحديث عن ذلك في موضعين من كتابه تعالى.

    أولهما: قوله تعالى: (ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ)الآيات[الأعراف: ٨٠].

    وثانيهما: قوله تعالى: (ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ) [العنكبوت:٢٨-٢٩].

    وهناك مواضع أخرى تحدث فيها القرآن عن فعل قوم لوط عليه السلام، إلا أنها لم يرد فيها التعبير بالسبق، لذا لا يتعرض لها البحث هنا.

    وحقيقة السبق: وصول الماشي إلى مكان مطلوب له ولغيره قبل وصول غيره، ويستعمل مجازًا في التقدم في الزمان، أي: الأولية والابتداء، وهو المراد هنا، والمقصود أنهم سبقوا الناس بهذه الفاحشة95.

    والفاحشة في الأصل: ما عظم قبحه من الأفعال والأقوال.

    قال تعالى: ( ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ) [الأعراف:٢٨].

    وفحش فلان: صار فاحشًا، والمتفحش: الذي يأتي بالفحش96.

    والمراد بالفاحشة هنا: إتيان الذكران بعضهم بعضًا في الأدبار، في قول جميع المفسرين97.

    وفي هذا السبق لقوم لوط يقول الزجاج معلقًا على آية الأعراف:(هذا دليل على أن فاحشة اللواط لم يفعلها أحد قبل قوم لوط)98.

    وقال المفسرون:(ما نزا ذكر على ذكر حتى كان قوم لوط)99.

    وألحظ على الآيات الكريمة أمورًا:

    أولها: تعظيم جرم فعل قوم لوط، حيث إنه تعالى (خص بالذِّكْرِ من مرتكباتهم أقبحها مما استوجبوا به العذاب، وخاطبهم لوط عليه السلام:إن هؤلاء المكذبين من قبلكم على سوء مرتكباتهم لم يسبقوكم إلى ما أنتم عليه وقد سمعتم بهم وخلت من قبلكم المثلات) 100.

    ثانيها: وصفهم الله بالمفسدين كما ورد في دعاء نبيهم عليهم (ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ) [العنكبوت:٣٠].

    لأنهم يفسدون أنفسهم بشناعات أعمالهم ويفسدون الناس بحملهم على الفواحش وتعويدهم عليها، وفي هذا الوصف تمهيد للإجابة بالنصر عليهم؛ لأن الله لا يحب المفسدين101.

    ثالثها: التعبير بالشهوة في قوله تعالى: (ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ)[الأعراف:٨١].

    للمبالغة عليهم في الإنكار والتوبيخ، ووصفهم بالبهيمية الصرفة، وفيه تنبيه على أن العاقل ينبغي أن يكون الداعي له إلى المباشرة طلب الولد وبقاء النوع، لا قضاء الوطر102.

    رابعها: التعبير بـ(من) في قوله تعالى: (ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ)، وذلك لتأكيد العموم المستفاد من وقوع النكرة () في سياق النفي ()، وفائدتها:تأكيد أنه لم يسبقهم إلى هذه الجريمة النكراء أحد من العالمين على الإطلاق.

    هذا وإن الآيات الكريمة تشتمل على معانٍ وأسرار عظيمة لكل متأمل، ولعل ما ذكر فيه الغنية ليجول البحث بنا الآن في نوع آخر من أنواع السبق المذموم فيما يلي:

  2. السبق إلى الكفر.

    سبق الكافرين إلى الكفر وسائر المعاصي إنما أوقعهم فيه الشيطان، ونفوسهم العصية، والقرآن الكريم أشار إلى هذا السبق إشارة سريعة في آية واحدة، وهي قوله تعالى: (ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ) [الأنفال:٥٩].

    والمعنى: لا يحسبن الذين كفروا سبقونا ففاتونا بأنفسهم، فهم لا يعجزون ربهم، إذا طلبهم وأراد تعذيبهم وإهلاكهم103.

    أو المراد:بيان أن أولئك الذين انهزموا يوم بدر، أشفقوا من هلكة تنزل بهم، فلما لم تنزل طغوا وبغوا.

    فقال الله: لا تحسبن أنهم سبقوا بسلامتهم الآن، فإنهم لا يعجزوننا فيما يستقبل من الأوقات104.

    وأيما كان المراد، كفار بدر أو غيرهم فإن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب؛ حيث إن لفظ الآية عام يتناول كفار كل عصر ومصر، وإن كانت كلمة المفسرين تكاد تجتمع على معنى السبق هاهنا، وأنه «الفوت وعدم الإفلات» -كما مر - فإن الآية تشير من طرف خفي إلى سبق الكافرين إلى الكفر، وهو يشمل كل ما دونه من المعاصي والذنوب.

    هذا وإن القرآن قد صرح بمسارعة الكفار في الكفر، ولكن بلفظ المسارعة دون المسابقة.

    وذلك في قوله تعالى: (ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ) [آل عمران:١٧٦].

    وقوله تعالى: (ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ) [المائدة:٤١].

    وكلتا الآيتين ورد التعبير فيهما بلفظ المسارعة في الكفر، وفي الأولى يطلب الله من نبيه صلى الله عليه وسلم أن لا يحزنه الذين يسارعون في الكفر، وذلك من شدة حرصه على الناس، وكان يحزنه مبادرة الكفار إلى المخالفة والعناد والشقاق، فطلب منه تعالى أن لا يحزنه ذلك، فإنهم لن يضروا الله شيئًا، ومن حكمته فيهم أنه يريد بمشيئته وقدرته ألا يجعل لهم نصيبًا في الآخرة، ولهم عذاب عظيم105.

    وفي الثانية أيضًا يطلب تعالى منه صلى الله عليه وسلم أن لا يحزنه مسارعة المنافقين وغيرهم في الكفر، وتعاونهم ضد الإسلام ورسوله صلى الله عليه وسلم، والمراد بالذين يسارعون في الكفر:المنافقين، وقريظة والنضير-في قول ابن عباس-ومعنى مسارعتهم في الكفر:مظاهرتهم الكفار على محمد صلى الله عليه وسلم، وإنما نهى النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كان يفرط ويسرف في الحزن على كفر قومه، حتى كان يؤدي ذلك إلى أن يضر به، فنهي عن الإسراف فيه؛ ألا ترى إلى قوله تعالى (ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ) [فاطر: ٨]106.

    ومن خلال التأمل في الآيات هنا يتبين لنا أن الحق سبحانه عبر عن مسابقة الكفار في الكفر بفعل المسارعة؛ للدلالة على أنهم يتوغلون فيه، ويعجلون إلى إظهاره وتأييده، والعمل به عند سنوح الفرص، ويحرصون على إلقائه في نفوس الناس.

    ومعنى المسارعة في الكفر إظهار آثاره عند أدنى مناسبة، وفي كل فرصة107، وإيثار حرف الظرفية «في» بدلًا من «إلى» يدل على أمرين:

    • الإشعار باستقرارهم في الكفر ودوام ملابستهم له في مبدأ المسارعة ومنتهاها، والدلالة على شدة مسارعة الكفار إلى الكفر، وتمكنهم منه، وتغلغله في أعماقهم108.
    • إفادتها معنى التوكيد109.

      [انظر: المسارعة: المسارعة إلى الكفر]

      صفات السابقين إلى الخيرات

      من الأهمية بمكان أن يقف البحث بالقارئ الكريم على أهم الصفات التي يتحلى بها السابقون إلى الخيرات، لعل في ذلك الهدى والرشاد لمن أراد أن يترسم خطاهم، ويقتفي آثارهم.

      أولًا: الإيمان بالله تعالى:

      الإيمان بالله تعالى أصل العقيدة الصحيحة، ومهوى الفطر المستقيمة، وأول ما ينبغي أن يتصف به السابقون إلى الخيرات خصوصًا والمؤمنون عمومًا، وهذه الصفة أصل لما سواها؛ إذ بدونها لا يعتد بغيرها.

      واتصاف السابقين بهذه الصفة ورد في قوله تعالى: (ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ) [الحديد:٢١].

      وهنا يأمر الله تعالى عباده المؤمنين بالمسابقة إلى المغفرة والجنة التي هي عظيمة الاتساع، والتي أعدت لمن اتصف بهذه الصفة العظيمة، رأس وأول صفات الخير كلها، ألا وهي «الإيمان بالله تعالى ورسله».

      والإيمان في أبسط تعاريفه يعني: نطق واعتراف باللسان، وإقرار وتصديق بالقلب والجنان، وعمل بالحوارح والأركان.

      وتصديق ذلك قوله تعالى: (ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ) [الأنفال:٢-٤].

      وغيره الكثير والكثير.

      وقوله صلى الله عليه وسلم في تعريف الإيمان: (الإيمان أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره)110.

      إذن فمسمى الإيمان يشمل العقيدة الحقة في الإقرار بواحدانية الله تعالى وألوهيته، وإخلاص العبادة له، مع الإقرار بملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر، وإذعان القلب بذلك، والتصديق العملي لهذا الإقرار من فعل الواجبات وترك المحرمات111.

      ولا شك أن السابقين إلى الخيرات حازوا أعلى الدرجات في ذلك، وإلا ما امتدحهم القرآن الكريم.

      ثانيًا: الخشية من الله تعالى:

      وصف الله تعالى عباده السابقين بهذه الصفة في قوله تعالى: (ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ) [المؤمنون:٥٧].

      والخشية: خوف يشوبه تعظيم وتوقير، وأكثر ما يكون ذلك عن علم بما يخشى منه، ولذلك خص العلماء بها في قوله تعالى (ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ) [فاطر:٢٨]112.

      وهي أيضًا صفة المبلغين عن الله تعالى رسالاته (ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ) [الأحزاب:٣٩].

      والخشية أعلى درجة، وأسمى مقامًا وأخص من الخوف؛ إذ (الخوف تألم النفس من العقاب المتوقع بسبب ارتكاب المنهيات، والتقصير في الطاعات، وهو يحصل لأكثر الخلق وإن كانت مراتبه متفاوتة جدًّا، والمرتبة العليا منه لا تحصل إلا للقليل.

      والخشية: حالة تحصل عند الشعور بعظمة الخالق وهيبته وخوف الحجب عنه، وهذه حالة لا تحصل إلا لمن اطلع على حال الكبرياء، وذاق لذة القرب، ولذا قال تعالى (ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ) [فاطر:٢٨])113.

      ويفرق الألوسي بين الخشية والخوف فيقول: (الخشية تكون من عظم المخشي وإن كان الخاشي قويًّا، والخوف يكون من ضعف الخائف وإن كان المخوف أمرًا يسيرًا) 114.

      إذن فالخشية مهابة وتعظيم المخشي مصحوبة بعلم ومعرفة، وهذا مقامٌ سامٍ لا يتحصل عليه إلا من أهله من العلماء، والسابقين ونحوهم ممن خصهم الله تعالى بذلك.

      وبناءً على ذلك فمعنى الآية: إن الذين هم من خشية ربهم وتعظيمه مشفقون، فهم من خشيتهم من ذلك دائبون في طاعته جادون في طلب مرضاته115.

      ثالثًا: الإشفاق:

      الشفقة: ضرب من الرقة، وضعف القلب، ينال الإنسان، ومن ثم يقال للأم: إنها تشفق على ولدها، أي: ترق له، ومن هذا الأصل قولهم: ثوب شفقٌ، إذا كان رقيقًا، وقولك: أشفقت من كذا، معناه: ضعف قلبي عن احتماله116.

      أو هي: عناية مختلطة بخوف، لأن المشفق يحب المشفق عليه، ويخاف ما يلحقه، فإذا عدي بـ «من» فمعنى الخوف فيه أظهر، وإذا عدي بـ «في» فمعنى العناية فيه أظهر117.

      وليست هي من الخشية والخوف في شيء، والشاهد آيتنا قوله تعالى (ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ) [المؤمنون:٥٧].

      ولو كانت الخشية هي الشفقة لما حسن أن يقول ذلك، كما لا يحسن أن يقول: يخشون من خشية ربهم.

      والمراد هنا وصف السابقين بهذه الصفة المباركة، والتي تقتضي الخوف من الله تعالى، مع العلم به سبحانه، وشدة الرقة في القلب وكثرة الخوف من عقابه.

      فالمؤمنون مع إحسانهم وإيمانهم وعملهم الصالح مشفقون من الله، خائفون منه، وجلون من مكره بهم.

      كما قال الحسن البصري: «إن المؤمن جمع إحسانًا وشفقة، وإن الكافر جمع إساءة وأمنًا» 118.

      رابعًا: الإيمان بآيات الله تعالى:

      ورد مدح المؤمنين السابقين بهذه الصفة في قوله تعالى: (ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ) [المؤمنون:٥٨].

      وآيات الله: تعم القرآن، وتعم العبر والمصنوعات التي لله وغير ذلك مما فيه نظر واعتبار، وفي كل شيء له آية تدل على أنه الخالق، فالمخلوقات دالة على وجوده تعالى، والإيمان بها هو التصديق بكونها آيات ودلائل على وجود الصانع، وذلك مما لا يتوصل إليه إلا بالنظر والفكر، وصاحبه لا بد وأن يصير عارفًا بوجود الصانع وصفاته، وإذا حصلت المعرفة بالقلب حصل الإقرار باللسان ظاهرًا، وذلك هو الإيمان119.

      ومن هنا كانت جهة مدحهم، وزيد في مدحهم بالتعبير بالمضارع في قوله: () للدلالة على أنه (لا يزال إيمانهم بها يتجدد شكرًا له تعالى لإحسانه إليهم)120.

      خامسًا: عدم الإشراك بالله تعالى:

      وردت الإشارة إلى وصف المؤمنين السابقين بهذه الصفة في قوله تعالى: (ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ) [المؤمنون:٥٩].

      والمؤمن قد يعرض له في إيمانه شرك جَليٌّ أو خَفيٌّ، فأثبت لهم هنا الإيمان الخالص، فقال: والذين هم بربهم الذي لا محسن إليهم غيره وحده، لا يشركون شيئًا من أي أنواع الشرك في وقت من الأوقات، كما لم يشركه في إحسانه إليهم أحد على الإطلاق121.

      وليس المراد منه الإيمان بالتوحيد ونفي الشريك لله تعالى؛ لأن ذلك داخل في قوله فيما سبق (ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ) بل المراد منه نفي الشرك الخفي، وهو أن يكون مخلصًا في العبادة، لا يقدم عليها إلا لوجه الله تعالى، وطلب رضوانه، والله أعلم122.

      سادسًا: القيام بالعمل الصالح:

      وردت الإشارة إلى اتصاف القوم بهذه الصفة في قوله تعالى (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ) [المؤمنون:٦٠].

      فالآية تدل على قيامهم بالعمل على وفق مراد الله تعالى؛ فقد ظهر أثر الإيمان فيهم جليًّا، وأفادت قيامهم بالعمل الصالح مطلقًا، ومنها الصدقات والزكوات، وفي قوله (ﭓ ﭔ) لفت نظر إلى أنهم لم يجعلوا لأعمالهم الصالحة أو لصدقاتهم حدًّا تنتهي إليه، وهذا مستفاد من التعبير بـ«ما» في قوله (ﭓ ﭔ) الدالة على العموم، والتعبير بالمضارع في () للدلالة على الاستمرار في العطاء، وبالماضى في: (ﭓ ﭔ) للدلالة على تحققه123.

      سابعًا: الوجل:

      الوجل: استشعار الخوف، يقال: وجل يُوجَلُ وَجَلًا، فهو وَجِلٌ.

      قال تعالى: (ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ) [الأنفال:٢].

      ولقد وصف الله تعالى المؤمنين السابقين بهذه الصفة في قوله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ) [المؤمنون:٦٠].

      وفيها يصف الله تعالى السابقين إلى الخيرات بأنهم يؤدون الواجبات، ويعملون صالح الأعمال، باذلين قصارى جهدهم في ذلك، ولكن مع الخوف من الله تعالى، فهم يفعلون ما فعلوا، مع وجود الخوف ألا يتقبل الله منهم أعمالهم، إنهم يصلون، ويصومون، ويتصدقون، ولكنهم من الله عز وجل يخافون، خائفون ألا يقبل منهم، أو لا يقع العمل على غير الوجه اللائق، لتقصيرٍ في الوفاء بحق الإعطاء أو غير ذلك.

      وقوله: (ﭓ ﭔ) لا يقتصر على العطاء المادي من زكاة أو صدقة، وإنما يشمل كل حق يلزم إيتاؤه، سواء أكان من حقوق الله تعالى كالعبادات، أم من حقوق بني آدم كالودائع والعدل بين الناس وغيرها124.

      ورد عن عائشة رضى الله تعالى عنها قالت: (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ) [المؤمنون:٦٠].

      قالت عائشة: أهم الذين يشربون الخمر ويسرقون؟ قال: (لا يا بنت الصديق، ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون، وهم يخافون أن لا تقبل منهم)125.

      وأختم هذه الصفات المباركة لأهل الإيمان والسبق - أسأل الله تعالى أن نكون جميعًا منهم- بهذه التذييل الرائع للإمام الرازي حيث يقول126معلقًا على ترتيب الصفات الأربع حسبما وردت في الآيات:

      «اعلم أن ترتيب هذه الصفات في نهاية الحسن.

      فالصفة الأولى دلت على حصول الخوف الشديد الموجب للاحتراز عما لا ينبغي.

      والثانية: دلت على التصديق بوحدانية الله.

      والثالثة: دلت على ترك الرياء في الطاعات.

      والرابعة: دلت على أن المستجمع لتلك الصفات يأتي بالطاعات مع الوجل والخوف من التقصير، وذلك هو نهاية مقامات الصديقين»، اللهم اجعلنا منهم أجمعين، بفضلك وكرمك يا أكرم الأكرمين، يارب العالمين.

      ثواب السابقين في الخيرات

      جبل بنو البشر وغيرهم على كثير من الأمور النفسية كالدوافع والانفعالات، وما تتحرك الخلائق لفعل شيء ما إلا إذا كانت هناك دوافع تدفعهم نحوه، وترغبهم فيه، وتيسر عليهم بعض ما يجدونه في طريقهم نحو أهدافهم على اختلافها وتنوعها، ومما لا شك فيه أن السابقين بالخيرات وقفوا على الجوائز والمنح التي رصدها الله تعالى لهم في الدنيا والآخرة، فدفعهم ذلك إلى السبق والتنافس.

      وسيتم الحديث عن بعض ما أكرم الله تعالى به السابقين إلى مغفرته ورضوانه من جزاء وثواب في الدنيا ثم الآخرة، في النقاط الآتية:

      أولًا: ثواب السابقين في الخيرات في الدنيا:

      عدد الله تعالى الجوائز والمنح لأوليائه من المؤمنين السباقين إلى الخيرات في الدنيا، وذكر ذلك في كتابه، إما تصريحًا أو تلميحًا، والمتأمل يجد الشيء الكثير من ذلك، وسيعدد البحث هذه المنح الدنيوية فيما يلي:

    1. الفوز برضوان الله تعالى.

      قد يظن الظان لأول وهلة أن هذا الثواب يكون للسابقين في الآخرة لا الدنيا، لكن ما الدليل على هذا التخصيص، وقد جاءت الآيات مطلقة؟ مثل قوله تعالى (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ) [التوبة:١٠٠].

      بل أرى أن الآية قد تفيد أن هذا الرضى إنما هو دنيوي في المقام الأول، وذلك لقوله تعالى (ﭙ ﭚ ﭛ) ثم مجيء قوله تعالى بعده:(ﭞ ﭟ ﭠ) مما يقتضي سبق الرضا على الإعداد، لكن لا مانع أن يكون هذا الرضا لهم من الله تعالى منحة دنيوية وأخروية كذلك، ولا حرج على فضل الله تعالى وكرمه.

    2. مدح الله لهم، وتعظيمه لشأنهم.

      حيث إنه سبحانه وصفهم بما يدل على ذلك في قوله تعالى (ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ) [الواقعة:١٠-١٤].

      فعبر بما يشير إلى تميزهم بأمرين:

      أولهما: التعبير باسم الإشارة للبعيد ()، وذلك لبعد مكانتهم، وعلو منزلتهم، وعظم شأنهم عند ربهم جل وعز.

      ثانيهما: التعبير بالقلة في جانبهم حيث قال:(ﯤ ﯥ ﯦ) وهذا يدل على تميزهم، وفضلهم على من سواهم، وفي ذلك يقول السعدي: (وهذا يدل على فضل صدر هذه الأمة في الجملة على متأخريها، لكون المقربين من الأولين أكثر من المتأخرين، والمقربون هم خواص الخلق)127.

    3. الهداية لعمل الصالحات.

      فالسابقون طائفة خاصة من أهل الإيمان، وأهل الإيمان وعدهم الله تعالى بعدة أمور، منها: هدايته تعالى إياهم لعمل الصالحات، ودليله قوله تعالى (ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ) [يونس:٩].

      والمراد: (يهديهم ربهم في الدنيا، حتى يثبتهم على الإيمان ويدخلهم في الآخرة الجنة بإيمانهم)128، ولو لم تكن لهم منحة من الله تعالى إلا هذه لكفتهم، اللهم اجعلنا منهم أجمعين.

    4. إلقاء المحبة والمودة لهم في القلوب.

      يكفي السابقين أنهم مشمولون بكل وعد حسن وعد الله تعالى إياه عباده المؤمنين، ومن أعظم هذه الوعود قوله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ) [مريم:٩٦].

      ومقصود الآية الكريمة: أن الذين آمنوا بالله ورسله، وصدقوا بما جاءهم من عند ربهم، وعملوا به، فأحلوا حلاله، وحرموا حرامه، سيجعل لهم الرحمن محبة ومودة في صدور عباده المؤمنين، لإيمانهم وعملهم الصالح، يقال: وَدَّ فلانٌ فلانًا، إذا أحبه وأخلص له المودة129.

      ويسبق ذلك محبة الله تعالى لهم، ثم ملائكته الكرام، ثم توضع لهم المحبة في السماء والأرض، يؤكد لنا هذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم (إن الله تبارك وتعالى إذا أحب عبدًا نادى جبريل: إن الله قد أحب فلانًا فأحبه، فيحبه جبريل، ثم ينادي جبريل في السماء: إن الله قد أحب فلانًا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ويوضع له القبول في أهل الأرض)130.

      فاللهم اجعلنا جميعًا من أهل وُدِّكَ ومحبتك يارب العالمين.

    5. التطهر والتزكية.

      وهذا أيضًا من عطاء الله تعالى لأهل الإيمان المنفقين، ولا شك أن السابقين حازوا قصب السبق في ذلك مع وجل قلوبهم وخوفهم أن لا تقبل منهم صدقاتهم وغيرها، تصديقًا لقوله تعالى في وصفهم: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ) [المؤمنون:٦٠].

      والتطهرُ والتزكيةُ وَعْدٌ مِنَ الله للمنفقين كما ورد في قوله (ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ) [التوبة:١٠٣].

      ومن حسن المناسبة أن ترد هذه الآية في سورة «التوبة» بعد آية ()بآيتين اثنتين ليدل ذلك على أن للسابقين النصيب الأوفى في هذه التزكية والتطهر، والله أعلم.

    6. الحياة الطيبة السعيدة في الدنيا.

      من موعود الله تعالى لأهل الإيمان أنه يحييهم حياة طيبة في الدنيا جزاء لأعمالهم الطيبة، ولا شك أن السابقين ما نالوا السبق إلا بتوفيق الله تعالى لهم في عمل هذه الأعمال الطيبة.

      قال تعالى: (ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ) [النحل:٩٧].

      وفيها يخبر الله تعالى أن (من عمل بطاعته، وأوفى بعهود الله إذا عاهد من ذكر أو أنثى من بني آدم وهو مؤمن ومصدق بثواب الله الذي وعد أهل طاعته على الطاعة، وبوعيد أهل معصيته على المعصية فسيحييهم الله في الدنيا ما عاشوا فيها بالرزق الحلال أو القناعة أو السعادة ونحوها) 131.

    7. سعة الرزق وبركته.

      وعد الله عز وجل فريقًا من الناس أنهم إن آمنوا به واتقوه لأغدق عليهم بركاته السماوية والأرضية في قوله تعالى (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ) [الأعراف:٩٦].

      والمعنى: ولو أن أهل القرى وحدوا الله، واتقوا الشرك، وما صمموا عليه من الكفر، ولم يصروا على ما فعلوا من القبائح، ليسرنا لهم خيرات السماء والأرض، كما يحصل التيسير للأبواب المغلقة بفتح أبوابها، والمطر، والنبات، وكثرة المواشي والأنعام ونحوها132.

      ولعل القارئ الكريم يتساءل: وما علاقة الآية بالسابقين وجزائهم الدنيوي؟

      والجواب: إذا كان الله جل وعز قد وعد هؤلاء بالإغداق عليهم من بركات السماء والأرض عند توحيدهم وتقاهم، فإنه سبحانه وتعالى يحقق هذه الموعود لمن يحقق شرطه من الخلق، ولا شك أن السابقين حازوا قصب السبق في ذلك، ولا أحد أوفى بعهده من الله تعالى.

    8. الإمامة في الدين وهداية الخلق.

      وهذه منحة عظمى من الله تعالى طلبها عباد الرحمن من ربهم سبحانه في دعائهم إياه (ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ) [الفرقان:٧٤].

      أي: اجعلنا بحيث يقتدون بنا في إقامة مراسم الدين، بإفاضة العلم والتوفيق للعمل الصالح133.

      ولعل هذا هو لسان حال السابقين؛ لأن علو الهمة دأبهم، وطلب معالي الأمور شيمتهم، والسبق في الدين والطاعة سمتهم، ومن ثم فليس غريبًا عنهم هذا الطلب والرجاء، ولا نبعد كثيرًا حين نقول: إن السابقين من عباد الرحمن، والله أعلم.

    9. دعاء واستغفار الملائكة لهم.

      من غاية عطاء الله تعالى وكرمه لعباده المؤمنين أن ألهم ملائكته الدعاء والاستغفار لهم، وتصديق ذلك قوله تعالى: (ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ) [غافر:٧].

      وفيه: يخبر تعالى بخبر يتضمن تشريف المؤمنين، ويعظم الرجاء لهم، وهو أن الملائكة الحاملين للعرش والذين حول العرش - وهؤلاء أفضل الملائكة- يستغفرون للمؤمنين، ويسألون الله لهم الرحمة والجنة، وهذا معنى قوله تعالى في غير هذه الآية: (ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ) [الفرقان: ١٦].

      أي: سألته الملائكة134.

      وأهل السبق لهم النصيب الأوفى من هذه الدعوات؛ حيث إنهم لم يكونوا من المؤمنين وفقط، بل سبقوا غيرهم طاعة وعبادة وفضلًا.

    10. التمكين والنصر.

      وعد الله عباده المؤمنين بالتمكين بمثل قوله تعالى: (ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ) [النور:٥٥].

      وبالنصر على الأعداء في مثل قوله تعالى: (ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ) [غافر:٥١].

      فإذا لم يكن السابقون إلى الخيرات مشمولين بهذين الوعدين الكريمين فَمَنْ؟ وإذا لم يُمْكِّنْ أمثالهم في الأرض لإعمارها، وإصلاح شؤونها وشؤون أهلها فَمَنْ؟ فهم أهل لكل تمكين ونصر وخير وبر وبركة.

      والناظر في كتاب الله يجد من هذا الصدد الكثير والكثير، لست مبالغًا حين أقول: إن جميع موعود الله تعالى لعباده المؤمنين، وكذلك المتقين أيضًا يشمل السابقين؛ لأنهم بلا شك آمنوا واتقوا، بل وسبقوا غيرهم في الطاعات وسائر القربات، ولو استرسل البحث في ذلك لطال به المقام، وما وفَّى السابقين حقهم، وهم قد بلغوا ما بلغوه بالصبر والمثابرة، والصابرون يُوَفَّوْنَ أجورهم بغير حساب، ولا شك أن واجبنا نحوهم يتلخص في اقتفاء أثرهم، والسير على منهجهم،، وتقديرهم وإجلالهم، والذب عنهم، ودعوة الناس إلى سلوك طريقهم، والسير في ركابهم، ومحبتهم، والإقبال عليهم، ومن أحب قومًا حشر معهم..

      والآن إلى جولة للبحث أخيرة مع بيان جزاء السابقين في الآخرة، وذلك فيما يلي:

      ثانيًا: ثواب السابقين إلى الخيرات في الآخرة:

      قد وقف البحث بنا فيما مضى على بعض منح الله تعالى وعطاياه للسابقين إلى الخيرات في الدنيا، والآن يجول بنا جولة أخيرة للوقوف على بعض عطاياه سبحانه لهم في الآخرة، ولا شك أنها خير وأعظم أجرًا، وأبقى أثرًا، وأعظم نفعًا (ﮚ ﮛ ﮜﮝ ﮞ ﮟ ﮠ) [النحل:٣٠].

      وسيقف البحث عليها من خلال التأمل في المواطن الثلاثة الواردة في سور (التوبة وفاطر والواقعة)، وسيذكرها البحث -كما هو منهجه- مرتبة مصحفيًّا حسب سورها فيما يلي:

    11. فوزهم برضوان الله تعالى.

      أشار القرآن الكريم إلى هذه النعمة الكبرى في قوله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ) [التوبة:١٠٠].

      والمعنى: ومعنى الكلام- كما يقول الطبري135-: رضي الله عن جميعهم لما أطاعوه، وأجابوا نبيه إلى ما دعاهم إليه من أمره ونهيه، ورضي عنه السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان، لما أجزل لهم من الثواب على طاعتهم إياه، وإيمانهم به وبنبيه عليه السلام.

      وأكرم وأنعم بهذه النعمة من منزلة ومكانة لا تدانيها منزلة مثلها، وأعجبني في هذا الصدد قول أحد العلماء: لا تعبدوا الله تعالى ليعطي، بل اعبدوه ليرضى؛ فإنه إن رضي أدهشكم بعطائه، فاللهم اجعلنا جميعًا ممن تغدق عليهم بعظيم عطائك.

    12. فوزهم بالروح والريحان عند قبض أرواحهم.

      ذكر الله تعالى في نهاية سورة «الواقعة» أحوال عباده عند الموت، وصنفهم ثلاثة أقسام، وجعل أول هذه الثلاثة:المقربين، وكما مر بنا أن المقربين هم السابقون، وهؤلاء السابقون لهم مكانة عظيمة وكرامة عند ربهم حتى عند قبض أرواحهم، وهذا يوضحه قوله تعالى: (ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ) [الواقعة:٨٨-٨٩].

      وفي هاتين الآيتين يوضح الله ما يلاقيه السابقون المقربون عند موتهم، فعن أبي العالية قال:لم يكن أحد من المقربين يفارق الدنيا-والمقربون السابقون-حتى يؤتى بغصن من ريحان الجنة فيشمه، ثم يقبض.

      والمعنى: فأما إن كان الميت من المقربين الذين قربهم الله من جواره في جنانه (ﮏ ﮐ) أي:فله الرحمة والراحة والمغفرة، والرزق الطيب الهنيء، أو المراد:أن أرواح المقربين تخرج من أبدانهم عند الموت بريحان تشمه136.

      وأيما كان تفسير الروح والريحان فإن المراد بيان كرامة المقربين أهل السبق عند ربهم سبحانه، وأنهم يبشرون بالراحة والرحمة والمغفرة، والروائح الطيبة عند خروج أرواحهم؛ وذلك لطيب أقوالهم وأعمالهم ومعيشتهم كلها، فاللهم اجعلنا منهم بفضلك وكرمك يا أكرم الأكرمين.

    13. الفوز بدخول الجنة.

      الحديث عن هذه النعمة في آيات القرآن كثير، لكن أكتفي بما وردت الإشارة به إلى جزاء السابقين من قوله تعالى (ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ) [التوبة:١٠٠].

      والآية أوضح من أن يعلق عليها، حيث إنها تبين عظيم امتنان الله على هؤلاء السابقين بسبق إعداد الجنات لهم، جزاء وفاقًا لأعمالهم، وهذا فيه مزيد تشريف وتكريم لهم، فاللهم اجعلنا منهم أجمعين.

    14. تنوع صنوف النعيم لهم في الجنة.

      نَوَّعَ الله تعالى لأهل الجنة عمومًا ولأهل السبق خصوصًا صنوفًا شتى من النعيم في الجنات، حتى تسعد نفوسهم، وتهنأ قلوبهم، ولا تمل أجسادهم، تقديرًا لسبقهم، ومكافأة على أعمالهم - وإن كان مبدأ دخولهم الجنة محض فضل من ربهم الكريم سبحانه- وسنرى الآن كيف نوع الله هذا النعيم من خلال المواطن الثلاثة - كما سبق- فيما يلي:

      • تعدد الجنات.

        أشار الله تعالى إلى أنها جنات وليست جنة واحدة، في قوله: (ﭞ ﭟ ﭠ) [التوبة:١٠٠].

        والجمع فيه إشارة إلى تنوعها وتعددها، باعتبار أن لكل واحد منهم جنات جنة الفردوس، وعدن، والنعيم، ودار الخلد، أو الجمع باعتبار أنهم جمع، وفيه لفت نظر إلى أن الجنة منازل ومراتب، وفي كل منزلة من النعيم العظيم ما فيها، أو الجمع إشارة إلى سعتها، وكثرة أشجارها وتنوعها137، والله أعلم.

      • تجري تحتها الأنهار.

        ورد هذا الوصف في الموطن الوحيد في القرآن، وهو قوله: (ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ) [التوبة:١٠٠].

        وسبقت الإشارة إلى سر حذف «من» وهو التنبيه على عموم ريها وكثرة مائها، ولعل تخصيص هذا الموضع بالخلاف؛ لأنه يخص هذه الطائفة، فلعلها تخص بجنة هي أعظم الجنان رِيَّا وُحْسنًا138.

      • الخلود الأبدي فيها.

        إن مما ينغص على أهل النعيم نعيمهم معرفتهم بأنهم سيفارقون هذا النعيم، أو النعيم قد يفارقهم، كحال أهل الدنيا، ومن ثم امتن الله تعالى على أهل السبق إلى الخير بطمأنتهم من هذه الناحية، وإخبارهم أنهم مخلدون في الجنات، لا يفارقهم النعيم ولا هم يفارقونه بقوله تعالى (ﭥ ﭦﭧ ﭨ ﭩ ﭪ) [التوبة: ١٠٠].

        مع الإشارة إلى أن ذلك فوز عظيم لا فوز بعده.

      • وصفها بجنات عدن.

        ورد هذا الوصف في سورة فاطر في قوله تعالى: (ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭻ ﭼ ﭽ) [فاطر:٣٢-٣٣].

        وعدن أي: استقرار وثبات، وعدن بمكان كذا: استقر، ومنه المعدن: لمستقر الجواهر139، والمراد:وصف هذه الجنان بأنها مكان استقرار وإقامة وثبات، لا هم يتحولون عنها، ولا هي تتحول عنهم، بهدم أو انتقال لغيرهم ونحو ذلك ممايعرض لمنازل الدنيا.

      • تنوع الحلية واللباس فيها.

        وهذه المنحة منحهم إياها الجليل أيضًا في الجنات، ودليلها قوله تعالى: (ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄﮅ ﮆ ﮇ ﮈ) [فاطر:٣٣].

        والأساور جمع أسورة، والأسورة زينة تلبس في اليد، وهي من زينة الملوك تسور في اليد، وتتوج على الرأس، ويكون السوار من الذهب والفضة، وكلاهما من لباس أهل الجنة، أحلنا الله فيها برحمته140، وهم يحلون فيها بالأساور الذهبية المرصعة باللؤلؤ زيادة في تقديرهم وإكرامهم.

        ويلحظ هنا أمرين:

        أولهما: أن الله تعالى عبر في جانب الحلية بالفعل () للدلالة على تجدد تزينهم بها، وأنها تتغير من حين إلى حين، بينما عبر في جانب اللباس بالاسم () للدلالة على الدوام والثبوت، وأن أحوالهم لا تنفك عن شيء من اللباس أبدًا، فهم مستورون في الدنيا والآخرة.

        ثانيهما: الاقتصار هنا وفي أغلب آي القرآن على التحلي بالأساور فقط دون غيرها للإشارة إلى إظهار كون المتحلي غير مبتذل أو مهان في الأشغال؛ فالتحلي لا يكون حالة الطبخ والغسل، وفيه إشارة أيضًا إلى إظهار استغنائهم عن الأشياء، لأن التحلي بالذهب والفضة يدل على أن صاحبهما غير محتاج، وإلا لصرف الذهب والفضة إلى دفع حاجته141، وكيف يحتاجون وهم في ضيافة أكرم الأكرمين، رب العالمين سبحانه؟!

        إلهامهم الحمد والشكر فيها.

        وهذه نعمة عظيمة، ومنحة جليلة أيضًا، بها يحمدون ربهم، وتلهج ألسنتهم بتسبيحه وشكره على جليل نعمائه التي أفاء عليهم بها، ولا أدل على ذلك من قول السابقين في الجنة يقرون بحمد ربهم، والثناء عليه بما هو أهله (ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ) [فاطر:٣٤].

        وورد أن النبي صلى الله عليه وسلم تحدث عن أهل الجنة فقال: (إن أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون، ولا يتفلون ولا يبولون ولا يتغوطون ولا يمتخطون) قالوا: فما بال الطعام؟ قال: (جشاء ورشح كرشح المسك، يلهمون التسبيح والتحميد، كما تلهمون النفس)142، فاللهم لا تحرمنا فضل ما عندك بسوء ما عندنا يا أكرم الأكرمين.

      • ذهاب الحزن.

        تعددت أقوال المفسرين في بيان الحزن الذي حمد أهل الجنة ربهم على إذهابه عنهم لما أدخلهم الجنة بقولهم: (ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ) [فاطر:٣٤].

        وخلاصة أقوالهم تفيد أن المراد بالحزن هنا: حزن الخبز، أو حزن الذنوب والسيئات وخوف رد الطاعات، أو حزن الموت.

        وقيل: حزن الجنة والنار لا يدري إلى أيهما يصير.

        وقيل: حزن إبليس ووسوسته، أو حزن القطيعة، وقيل: حزن أهوال الدنيا وأوجاعها، وقيل: حزن زوال النعم، وتقليب القلب، وخوف العاقبة.

        وقيل: ما كان حزنهم إلا تدبير أحوالهم وسياسة أنفسهم، فلما نجوا منها حمدوا (ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ)143.

        وأرى أنه لا مانع من الجمع بين هذه الأقوال كلها، وبخاصة أنهم عاشوا في الدنيا، وقاسوا آلامها، وعانوا كثيرًا من عيشها وكدرها، ثم قاسوا الآم الموت وسكراته، وعاينوا النار وعذاب أهلها فيها، وهذه كلها أحزان تستأهل حمد الله تعالى وشكره على النجاة منها، نسأل الله تعالى أن نكون منهم أجمعين.

      • إحلالهم دار المقامة.

        يعد من أجل النعم التي تستأهل الحمد على الدوام إحلال السابقين دار المقامة، التي وردت الإشارة إليها على لسانهم في قوله تعالى: (ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ) [فاطر:٣٥].

        ودار المقامة هي دار الإقامة، أي: الجنة، والتعبير بقوله: (ﮙ ﮚ) دون غيره من أسماء الجنة فيه إشارة إلى أن الدنيا منزلة ينزلها المكلف ويرتحل عنها إلى منزلة القبور، ومنها إلى منزلة العرصات التي فيها الجمع، ومنها التفريق إلى الجنة أو النار، كما أن قولهم: (ﮛ ﮜ) يشير إلى أن دخولهم الجنة بحكم وعده لا بإيجاب من عنده144، وإنما هو محض فضل منه تعالى، نسأل الله تعالى أن يجعلنا من أهل فضله وكرمه، اللهم آمين.

      • نفي النصب واللغوب عنها.

        من تمام التمتع بنعيم دار المقامة أن لا يجد أهلها شيئًا من النصب أو غيره، وهذا ما صرح به أهل المقامة في قولهم: (ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ) [فاطر: ٣٥].

        والمس: الإصابة في ابتداء أمرها، والنصب: التعب من نحو عمل أو شدة حر أو شدة برد، واللغوب: الإعياء والأثر الناتج عن التعب، والفرق بينهما أن النصب نفس المشقة والكلفة، واللغوب ما يحدث منه من الكلال والفتور، والتصريح بنفي اللغوب مع استلزام نفي النصب له، وتكرار الفعل المنفي «لا يمسنا» للمبالغة والتأكيد في بيان انتفاء كل منهما145.

      • فوزهم بالقرب من ربهم سبحانه.

        منزلة القرب من العلي العظيم سبحانه منزلة علية، ومقام سام لا يناله إلا أهل القرب من السابقين ونحوهم، وهذا ما صرح به القرآن الكريم في قوله تعالى: (ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ) [الواقعة:١٠-١١].

        والمقربون هم: أولئك الذين يقربهم الله منه يوم القيامة إذا أدخلهم الجنة146.

        ويلحظ علو منزلة المقربين، وعظم منزلتهم عند ربهم سبحانه من التعبير عنهم باسم الإشارة للبعيد () مع تعريفهم (). وهذا الأسلوب عند البيانيين يسمى بـ«أسلوب القصر» وطريقه تعريف الطرفين.

        وفائدته: بيان أنهم وحدهم المقربون دون أحد سواهم، فأعظم بهذا المقام من منزلة كريمة!

      • وصف الجنات بالنعيم.

        لا ينعم السابقون المقربون بالجنات التي منحهم الكريم إياها إلا إذا كانت ذات نعمة لا شقاء فيها ولا بؤس، وهي بالفعل كذلك على حد وصف الله تعالى لها بقوله (ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ) [الواقعة:١١-١٢].

        وفائدة هذا الوصف: بيان تنعيم جسمهم، وكرامة نفسهم فهم مقربون عند الله، فهم في غاية اللذة وفي جنات، فجسمهم في غاية النعيم، بخلاف المقربين عند الملوك، فإنهم يلتذون بالقرب، لكن لا يكون لجسمهم راحة، بل يكونون في تعب من الوقوف وقضاء الأشغال147، والله أعلم.

      • كونهم على سرر موضونة.

        سواء أكان المراد بالموضونة المشار إليها بقوله تعالى ( ﯩ ﯪ ﯫ) [الواقعة: ١٥].

        المصفوفة، أم الموصول بعضها ببعض، أم المنسوجة بالذهب، أم الـمشبكة بالدر والياقوت، أم محكمة النسج، ونحو ذلك مما ذكره المفسرون148.

        فإن المراد بيان تمتع أهل السبق بهذا اللون من النعيم العظيم الذي ادخره الله لهم، وأنه زيادة في تنعمهم وإكرام وفادتهم على الله تعالى.

      • متكئين عليها متقابلين.

        لم تكتف الآيات المباركات بإفادة أن أهل السبق على سرر موضونة وفقط، بل أفادت أنهم عليها متكئون ومتقابلون، كما أشار إليه قوله تعالى: (ﯭ ﯮ ﯯ) [الواقعة:١٦].

        وفائدة الوصف الأول (): التأكيد على أن لا يظن أنهم كائنون على سرر متكئون على غيرها، كما يكون حال من يكون على كرسي صغير لا يسعه للاتكاء، فيوضع تحته شيء آخر للاتكاء عليه، فلما قال: (ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ) دل هذا على أن استقرارهم واتكاءهم جميعًا بتمكن واقتدار على سرر، وفائدة الوصف الثاني (): بيان أن الواحد منهم لا ينظر إلى قفا صاحبه، وأن وجه كل منهم إلى وجه صاحبه، من صفاء قلوبهم، وحسن أدبهم، وتقابل قلوبهم149، والله أعلم.

      • يطوف عليهم ولدان مخلدون.

        من صنوف النعيم أيضًا: أنه يدور حولهم للخدمة وقضاء حوائجهم ولدان صغار الأسنان، في غاية الحسن والبهاء، لا يهرمون ولا يتغيرون، ولا يزيدون على أسنانهم، بل شكلهم شكل الولدان دائمًا، ولا يموتون، ولا يسقمون150.

        وهذا ما وردت الإشارة إليه في قوله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ) [الواقعة:١٧].

      • بأكواب وأباريق وكأس من معين.

        يدور الغلمان على أهل السبق بأكواب، وهي الأقداح المستديرة الأفواه التي لا آذان لها ولا عرى، والأباريق: هي الآنية ذات العرا والخراطيم التي تحمل فيها الخمر ليصب منها في الأكواب، واحدها إبريق، وسمي بذلك لأنه يبرق لونه من شدة صفائه151، وهذا ما وردت الإشارة إليه في قوله تعالى: (ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ) [الواقعة:١٨].

        أما () فقد اختلف العلماء في بيان المراد بها، وسبب التسمية إلى أقوال أهمها ما يلي:

      • أنه الشراب الظاهر للعيون، وصف بما يوصف به الماء؛ لأنه يجري في الجنة في أنهار كما يجري الماء 152.
      • أنه الجاري شديد الجري، ومنه قولهم: أمعن في السير إذا اشتد فيه 153.
      • أنه ما مدته العيون فاتصل ولم ينقطع؛ لأنه ليس من عمل البشر 154.
      • أنه الكثير، مأخوذ من « المعين »، وهو الشيء الكثير155.
      • أنه المنتفع به، مأخوذ من الماعون 156.

        وأرجح من هاتيك الآراء أولها وثانيها لأمرين:

        الأول: أن جمهور المفسرين عليهما، حتى استنبط أحدهم قاعدة كلية في ذلك فقال: كل () في القرآن فهو جارٍ، غير الذي في (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ) [الملك:١] يعني به: ما كان ظاهرًا تناله الدلاء 157، مع إمكان اجتماع الصفات المذكورة بعد لهذا الماء.

        الثاني: أن المتفضل بهذا الشراب هو الله تعالى، ولا حرج علي فضل الله الكريم في أن يجمع هذين الوصفين وأكثر في شراب واحد، والله أعلم.

        ويلحظ هنا: أن وصف () ورد وصفًا للكأس المملوءة بخمر الجنة، ووصف الخمر بذلك إما لظهوره للعين أو لشدة جريه 158، فسبحان من أجرى لأهل الجنة أنهارًا متنوعة من لبن وخمر وعسل، ظاهرة للعيون غير خافية، فاللهم اجعلنا منهم أجمعين.

      • لا يصدعون عنها ولا ينزفون.

        ورد هذا الوصف للخمر في قوله تعالى: ( ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ) [الواقعة:١٩].

        فمن صفة هذه الخمر أنها لذة كلها، لا ألم معها ولا خمار، فهم لا يصدعون عنها، أي: لا يصدر عنها صداعهم لأجل الخمار، كخمور الدنيا.

        والصداع: وجع الرأس، وهم لا ينزفون بكسر الزاي وفتحها، أي: لا تذهب عقولهم بسكرها أبدًا159.

      • وفاكهة مما يتخيرون.

        من صور نعيمهم أيضًا ما ورد في قوله تعالى: (ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ) [الواقعة: ٢٠].

        والفاكهة: الثمار والبقول كاللوز والفستق، والمراد: ويطوف عليهم الولدان بفاكهة، وذلك أدخل في الدعة، وألذ من التناول بأيديهم، على أنهم إن اشتهوا اقتطافها بالأيدي دنت لهم الأغصان؛ فإن المرء قد يشتهي تناول الثمرة من أغصانها.

        وقوله: () الجنس الذي يختارونه ويشتهونه، وأصله أخذ الخيار والخير، أي: يطوفون عليهم بفاكهة من الأنواع التي يختارونها، ففعل () يفيد قوة الاختيار160.

        قال ابن كثير161: وهذه الآية دليل على جواز أكل الفاكهة على صفة التخير لها، ثم استشهد له.

      • ولحم طير مما يشتهون.

        مما لا شك فيه أن اللحم من أطيب ألوان الطعام، ومن متع الله تعالى به أهل السبق في قوله تعالى: (ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ) [الواقعة:٢١].

        وليس هذا اللحم لحمًا عاديًّا، بل هو أرفع اللحوم وأشهاها وأعزها.

        والاشتهاء: افتعال من الشهوة التي هي محبة نيل شيء مرغوب فيه من محسوسات ومعنويات، والافتعال فيه للمبالغة162.

        وتقديم ذكر الفاكهة على ذكر اللحم لوجوه:

        أولها: العادة في الدنيا غالبًا تقديم الفواكه في الأكل، والجنة وضعت بما علم في الدنيا من الأوصاف والأحوال.

        ثانيها: الحكمة في الدنيا تقتضي أكل الفاكهة أولًا؛ لأنها ألطف، وأسرع انحدارًا، وأقل حاجة إلى المكث الطويل في المعدة للهضم، ولأن الفاكهة تحرك الشهوة للأكل واللحم يدفعها.

        ثالثها: لما بين تعالى أن الفاكهة دائمة الحضور والوجود، واللحم يشتهى ويحضر عند الاشتهاء دلَّ هذا على عدم الجوع؛ لأن الجائع حاجته إلى اللحم أكثر من اختياره اللحم فقال: () لأن الحال في الجنة يشبه حال الشبعان في الدنيا، فيميل إلى الفاكهة أكثر فقدمها163، والله أعلم، وأعز وأكرم.

      • وحور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون.

        مما متع الله تعالى به أهل السبق أيضًا: إكرامهم بالحور العين المشار إليهن بقوله تعالى: (ﭫ ﭬ ﭭ ﭯ ﭰ ﭱ) [الواقعة:٢٢- ٢٣].

        أي: ويطوف عليهم أيضًا نساء عيونهن شديدة البياض والسواد في سعة وجمال، وفي عيونهن كحل وملاحة، وحسن وبهاء، وحسن العين في الأنثى من أعظم الأدلة على حسنها وجمالها.

        وقوله: (ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ) أي:وهؤلاء الحور العين كأنهن اللؤلؤ الأبيض الرطب الصافي البهي، المستور عن الأعين والريح والشمس، الذي يكون لونه من أحسن الألوان، الذي لا عيب فيه بوجه من الوجوه، فكذلك الحور العين، لا عيب فيهن، بل هن كاملات الأوصاف، جميلات النعوت، فكل ما تأملته منها لم تجد فيه إلا ما يسر الخاطر، ويروق الناظر164.

      • لا يسمعون فيها لغوًا ولا تأثيمًا.

        مع كل هذه المتع السابقة من المناسب أن يمتعوا كذلك بطهارة الجنة من التلوث السمعي، وعدم سماع ما يكره سماعه، وهذا من تأكد خلو الجنة وتنزهها عنه بقوله تعالى: (ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ) [الواقعة:٢٥-٢٦].

        والمراد: لا يسمعون في جنات النعيم كلام لغو لا فائدة فيه، ولا كلامًا يؤثم صاحبه، وهذه نعمة روحية؛ فإن سلامة النفس من سماع ما يكره سماعه من الأذى نعمة عظيمة.

        واللغو: الكلام الذي لا يعتد به كالهذيان، والكلام الذي لا محصل له، ولا فائدة فيه.

        والتأثيم: اللوم والإنكار، وهو مصدر أَثَّمَ، إذا نسب غيره إلى الإثم.

        وأتبع ذكر هذه النعمة بذكر نعمة أخرى من الإنعام بالمسموع الذي يفيد الكرامة؛ لأن الإكرام لذة روحية يكسب النفس عزة وإكرامًا بقوله: (ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ) أي: إلا كلامًا طيبًا، وذلك لأنها دار الطيبين، ولا يكون فيها إلا كل طيب، وهذا دليل على حسن أدب أهل الجنة في خطابهم فيما بينهم، وأنه أطيب كلام، وأسره للنفوس وأسلمه من كل لغو وإثم، والتكرار لإفادة التعاقب، أي سلامًا إثر سلام، كقولهم:قرأت النحو بابًا بابًا، أو أشير به إلى كثرة الـمسلمين، فهو مؤذن مع الكرامة بأنهم معظمون مبجلون165.

        إلى غير ذلك من صور النعيم والتكريم التي جعلها الله لعباده السابقين، نسأل الله تعالى من فضله وكرمه.


1 انظر: تهذيب اللغة، الأزهري ٨/٣١٧، لسان العرب، ابن منظور ١٠/١٥١.

2 لسان العرب ١٠/١٥١.

3 انظر: لسان العرب ١٠/١٥١، تاج العروس، الزبيدي ٢٥/٤٣٢.

4 لسان العرب ١٠/١٥١.

5 مقاييس ابن فارس٣/١٢٩.

6 المعجم الاشتقاقي المؤصل، محمد حسن جبل ٢/٩٥١.

7 انظر: المسارعة والمسابقة إلى الخيرات في القرآن الكريم، محمد الزغول ومحمد حوى ص٦.

8 انظر: المعجم المفهرس الشامل لألفاظ القرآن الكريم، عبد الله إبراهيم جلغوم، ص ٦١٣.

9 انظر: بصائر ذوي التمييز، الفيروزآبادى، ٣/١٨٣.

10 انظر: الفروق اللغوية، العسكري ص٢٧٦.

11 تهذيب اللغة، الأزهري ٢/٥٤.

12 المصدر السابق.

13 نضرة النعيم، مجموعة مؤلفين ٨/٣٣٨٧.

14 السعي إلى الجنة بين المسابقة والمسارعة، صلاح الخالدي.

15 انظر: المسارعة والمسابقة إلى الخيرات في القرآن الكريم، محمد الزغول ومحمد حوى ص٦.

16 انظر: المصدر السابق ص ٧.

17 نظم الدرر، البقاعي ١٩/٢٩٢.

18 مختار الصحاح، الرازي ص٣١٦.

19 مقاييس اللغة، ابن فارس ٥/٤٦١.

20 المفردات، الراغب الأصفاني ص٨١٨.

21 انظر: مقاييس اللغة، ابن فارس ١/٢٠٨، شمس العلوم، نشوان الحميرى، ١/٤٥٣، تاج العروس، الزبيدي ١٠/١٣٧.

22 انظر: الحوافز الإيمانية بين المبادرة والالتزام، عدنان علي النحوي، ص١٥.

23 انظر: مجمل اللغة، ابن فارس ١/٦٤٩.

24 المفردات، الراغب الأصفهاني ص٥٤٨.

25 التوقيف على مهمات التعاريف، المناوي ص٢٣٧.

26 المفردات، الراغب ص٥٤٨.

وانظر: مقاييس اللغة، ابن فارس ٤/٢٣٧، تاج العروس، الزبيدي ٢٩/٤٣١.

27 انظر: جامع البيان، الطبري ٢٢/٢٣٠.

28 انظر: التحرير والتنوير، ابن عاشور٢٦/١٧٧.

29 المسارعة والمسابقة إلى الخيرات في القرآن الكريم، الزغول ص ١٠.

30 مقاييس اللغة، ابن فارس ٥/٦٥.

31 المعجم الاشتقاقي المؤصل، محمد حسن جبل ٤/١٧٤٨.

32 انظر: المفردات، الراغب ص ٦٥٣.

33 المصدر السابق ص ٤٣.

34 جامع البيان، الطبري٣/١٩٦ بتصرف.

35 الجامع لأحكام القرآن ٢/١٦٥.

36 معاني القرآن وإعرابه ١/٢٢٦ بتصرف.

37 التفسير البسيط ٣/٤٠٤.

38 انظر: معالم التنزيل، البغوي ٣/٦٦، أنوار التنزيل، البيضاوي ١/١١٣، البحر المحيط، أبو حيان ٢/٣٨.

39 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ١٢/١٣٣.

40 انظر: التسهيل لعلوم التأويل، ابن جري ٢/١٧٥.

41 انظر: التفسير البسيط الواحدي ١٨/٤٢٣.

42 انظر: المسارعة والمسابقة إلى الخيرات في القرآن الكريم، الزغول وحوى ص٢٦.

43 روح المعاني، الألوسي ٩/٢٤٥.

44 انظر: تفسير القرآن الكريم، ابن عثيمين، سورتي الفاتحة والبقرة ٢/١٤٨.

45 انظر: إرشاد العقل السليم، أبو السعود ٦/١٤٠، روح المعاني، الألوسي ٩/٢٤٥.

46 روح المعاني، الألوسي ١١/٣٦٨.

47 الكشاف، الزمخشري٣/٦١٣.

48 انظر: تفسير القرآن العظيم، ابن كثير٨/٢٥، التفسير البسيط، الواحدي ٢١/٣٠٣.

49 انظر: السعي إلى الجنة بين المسابقة والمسارعة، صلاح الخالدي، ص٣.

50 المصدر السابق.

51 انظر: نظم الدرر، البقاعي ١٩/٢٩١، المسارعة والمسابقة إلى الخيرات في القرآن الكريم ص٢٩.

52 انظر: ملاك التأويل، ابن الزبير الغرناطي ١/٩٢.

53 انظر: نظم الدرر، البقاعي ١٩/٢٩٣، المسارعة والمسابقة إلى الخيرات في القرآن الكريم ص٢٤.

54 انظر السعي إلى الجنة بين المسابقة والمسارعة، صلاح الخالدي ص٥.

55 مغني اللبيب عن كتب الأعاريب، ابن هشام النحوي ص ١٠٤.

56 انظر: إرشاد العقل السليم، أبو السعود ٢/١١٥، المسارعة والمسابقة إلى الخيرات في القرآن الكريم ص٢٧.

57 التفسير الوسيط، سيد طنطاوي٢/٢٦١.

58 انظر: المحرر الوجيز، ابن عطية ١/٥٠٩، البحر المحيط، أبو حيان ٣/٣٤٦، فتح القدير، الشوكاني ١/٤٣٧.

59 إرشاد العقل السليم، أبو السعود٢/٨٥.

60 انظر: جامع البيان، الطبري ٢٣/٢٨٧، الكشف والبيان، الثعلبي ٩/٢٨١، التفسير الوسيط، الواحدي ٤/٢٧٥، معالم التنزيل، البغوي ٨/٧٩، مفاتيح الغيب، الرازي ٢٩/٥٠٩.

61 انظر: تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص٨٥١.

62 التحرير والتنوير، ابن عاشور٢٨/٩٧.

63 انظر: جامع البيان، الطبري ٢٤/١٨٩، الكشف والبيان، الثعلبي ١٠/١٢٤، التفسير البسيط، الواحدي ٢٣/١٦٥، معالم التنزيل، البغوي ٨/٣٢٥.

64 مفاتيح الغيب، الرازي٣١/٢٩.

65 انظر: التحرير والتنوير١١/١٧.

66 انظر: جامع البيان، الطبري١٤/٤٣٦، زاد المسير، ابن الجوزي٢/٣٩٥، تفسير القرآن العظيم، ابن كثير٤/٢٠٣.

67 السيرة النبوية، ابن هشام ١/٤٣٣.

68 انظر: تفسير المنار، محمد رشيد رضا ١١/١٣.

69 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٨/٢٣٨ بتصرف.

70 تفسير المنار، محمد رشيد رضا ١١/١٣.

71 المسارعة والمسابقة إلى الخيرات في القرآن الكريم ص١٧.

72 نظم الدرر، البقاعي ٩/٨ بتصرف.

73 التحرير والتنوير ١١/١٩ بتصرف.

74 أخرجه البخاري في صحيحه، واللفظ له، كتاب الجمعة، باب فرض الجمعة، رقم ٨٧٦، ومسلم في صحيحه، كتاب الجمعة، باب هداية هذه الأمة ليوم الجمعة، رقم ٨٥٥.

75 أحكام القرآن، ابن العربي٢/٥٧٣ بتصرف.

76 انظر: تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٧/٥١٧، إرشاد العقل السليم، أبو السعود٨/١٨٩.

77 انظر: إرشاد العقل السليم، أبو السعود ٨/١٨٩.

78 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٢٧/٢٨٨.

79 انظر: التحرير والتنوير، ابن عاشور٢٩/٢٨٧.

80 انظر: مفاتيح الغيب، الرازي٢٩/٣٩٠.

81 المسارعة والمسابقة إلى الخيرات في ضوء القرآن الكريم ص٥٥.

82 انظر: المفردات، الراغب ص٢٠٤، مفاتيح الغيب، الرازي ٢٩/٣٩١، المسارعة والمسابقة إلى الخيرات في ضوء القرآن الكريم ص٥٦.

83 المفردات، الراغب ص٨١٤» بتصرف.

84 انظر: مفاتيح الغيب، الرازي ٢٩/٣٩١.

85 التسهيل لعلوم التنزيل، ابن جزي ١/٣٧٠.

86 انظر: المحرر الوجيز، ابن عطية٣/٢١٠.

87 انظر: جامع البيان، الطبري ١٨/٣٩٩، التسهيل لعلوم التنزيل، ابن جزي ٢/١٦، المحرر الوجيز، ابن عطية ٥/٣٠.

88 انظر: التفسير الوسيط، الواحدي٣/٥٣٥، لباب التأويل، الخازن ٤/٣٠.

89 انظر: جامع البيان، الطبري ١٩/٦٥٧، المحرر الوجيز، ابن عطية ٤/٤٨٩.

90 انظر: جامع البيان، الطبري ١٨/٥٣٨، التسهيل لعلوم التنزيل، ابن جزي ٢/٣٠.

91 التفسير البسيط، الواحدي ٨/١٠٥.

92 نظم الدرر، البقاعي ١٢/٤٨٦.

93 الكشاف، الزمخشري٤/٦٧.

94 أنوار التنزيل، البيضاوي٤/٨٦.

95 انظر: التحرير والتنوير، ابن عاشور ٨/٢٣٠.

96 المفردات، الراغب ص٦٢٦.

97 انظر: جامع البيان، الطبري ١٢/٥٤٧، الكشف والبيان، الثعلبي ٤/٢٥٨، التفسير البسيط، الواحدي ٩/٢١٨.

98 معاني القرآن، الزجاج ٢/٣٥٢.

99 التفسير البسيط، الواحدي ٩/٢١٨.

100 ملاك التأويل، ابن الزبير الغرناطي ١/٢٠٧ بتصرف.

101 انظر: التحرير والتنوير، ابن عاشور ٢٠/٢٤١.

102 انظر: أنوار التنزيل، البيضاوي ٣/٢٢ .

103 انظر: جامع البيان، الطبري ١٤/٢٨.

104 التفسير الوسيط، الواحدي ٢/٤٦٨.

105 انظر: تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٢/١٧٣.

106 التفسير البسيط، الواحدي ٦/١٩٣.

107 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٤/١٧٢.

108 انظر: الجنى الداني في حروف المعاني، المرادي ص٢٥٠، إرشاد العقل السليم، أبو السعود ٢/١١٥.

109 المسارعة والمسابقة إلى الخيرات ص٤١.

110 أخرجه البخاري في صحيحه، واللفظ له، كتاب الإيمان، باب سؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان، رقم ٥٠، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب الإيمان ما هو وبيان خصاله، رقم ٨.

111 انظر: الإيمان ومعالمه، وسننه، واستكماله، ودرجاته، القاسم بن سلام ص ٢٥، الإيمان، ابن تيمية ص١٥.

112 المفردات، الراغب ص٢٨٣.

113 الفروق اللغوية، العسكري ص٢١٨.

114 روح المعاني، الألوسي ٧/١٣٤.

115 جامع البيان، الطبري ١٩/٤٤.

116 الفروق اللغوية، العسكري ص٣٠٠.

117 المفردات، الراغب ص٢٨٣.

118 انظر: تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٥/٤٨٠، التفسير الوسيط طنطاوي ١٠/٤٣.

119 المحرر الوجيز، ابن عطية ٤/١٤٧.

120 نظم الدرر، البقاعي ١٣/١٥٩.

121 المصدر السابق بتصرف.

122 مفاتيح الغيب، الرازي ٢٣/٢٨٣.

123 انظر: روح المعاني الألوسي ٩/٢٤٤.

124 انظر: المفردات، الراغب ص٨٥٥، روح المعاني، الألوسي ٩/٢٤٤.

125 أخرجه الترمذي في سننه، كتاب تفسير القرآن، باب ومن سورة المؤمنون، رقم ٣١٧٥، ٥/٣٢٧، وابن ماجه في سننه، كتاب الزهد، باب التوقي على العمل، رقم ٤١٩٨، ٢/١٤٠٤.

وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، ١/٣٠٤، رقم ١٦٢.

126 مفاتيح الغيب ٢٣/٢٨٣.

127 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص٨٣٣.

128 تفسير السمرقندي ٢/١٠٥.

129 جامع البيان، الطبري ١٨/٢٦١.

130 أخرجه البخاري في صحيحه، واللفظ له، كتاب التوحيد، باب كلام الرب مع جبريل، رقم ٤٧٨٥، ومسلم في صحيحه، كتاب البر والصلة، باب إذا الله أحبَّ عبدًا حببه لعباده، رقم ٢٦٣٧.

131 جامع البيان، الطبري ١٧/٢٨٩.

132 انظر: التفسير الوسيط، الواحدي ٢/٣٨٩، فتح القدير، الشوكاني ٢/٢٥٩.

133 إرشاد العقل السليم، أبو السعود ٦/٢٣١.

134 المحرر الوجيز، ابن عطية ٤/٤٥٧.

135 جامع البيان ١٤/٤٣٩.

136 المصدر السابق ٢٣/١٦٠.

137 انظر: المفردات، الراغب ص٢٠٤، مفاتيح الغيب، الرازي ٢٩/٣٩١.

138

139 المفردات، الراغب ص٥٥٣.

140 انظر: التفسير البسيط الواحدي١٣/٦١٣.

141 مفاتيح الغيب، الرازي ٢٦/٢٤١.

142 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب في صفات أهل الجنة وتسبيحهم، رقم ٢٨٣٥.

143 الكشف والبيان، الثعلبي ٨/١١٢.

144 مفاتيح الغيب، الرازي ٢٦/٢٤٠.

145 انظر: المفردات، الراغب ص٨٠٧، مفاتيح الغيب، الرازي ٢٦/٢٤١، أنوار التنزيل، البيضاوي ٤/٢٦٠، إرشاد العقل السليم، أبو السعود ٧/١٥٤، التحرير والتنوير، ابن عاشور٢٢/٣١٧.

146 جامع البيان، الطبري ٢٣/٩٨.

147 مفاتيح الغيب، الرازي ٢٩/٣٩١.

148 انظر: جامع البيان، الطبري ٢٣/٩٨، الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ١٧/٢٠١.

149 انظر: مفاتيح الغيب، الرازي ٢٩/٣٩٢.

150 انظر: فتح القدير، الشوكاني٥/١٧٩، تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص ٨٣٣.

151 انظر: فتح القدير، الشوكاني٥/١٧٩، التحرير والتنوير، ابن عاشور ٢٧/٢٩٤.

152 انظر: الكشاف، الزمخشري ٤/٤٢، مفاتيح الغيب، الرازي ٢٦/٣٣٢.

153 انظر: النكت والعيون، الماوردي ٥/٤٦.

154 انظر: مفاتيح الغيب، الرازي ٢٦/٣٣٢، النكت والعيون، الماوردي ٥/٤٦.

155 النكت والعيون، الماوردي ٥/٤٦.

156 معاني القرآن، الفراء ٢/٢٣٢.

157 انظر: تفسير مقاتل بن سليمان ٤/٢١٧.

158 إيجاز البيان عن معاني القرآن، أبو القاسم النيسابوري ص٦٩٨.

159 انظر: محاسن التأويل، القاسمي ٩/١٢١.

160 انظر: محاسن التأويل، القاسمي ٩/١٢١، التحرير والتنوير، ابن عاشور ٢٧/٢٩٥.

161 تفسير القرآن العظيم ٧/٥٢٠.

162 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٢٧/٢٩٥.

163 مفاتيح الغيب، الرازي ٢٩/٣٩٦.

164 انظر: تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص٨٣٣، التفسير الوسيط، طنطاوي ١٤/١٦٥.

165 انظر: التحرير والتنوير، ابن عاشور ٢٧/٢٧٩.