عناصر الموضوع
المداهنة
أولًا: المعنى اللغوي:
قال ابن فارس: « (دهن) الدال والهاء والنون أصلٌ واحدٌ يدل على لينٍ وسهولةٍ وقلةٍ، من ذلك الدهن. ويقال: دهنته دهنًا. والدهان: ما يدهن به. قال الله عز وجل: (ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ) [الرحمن: ٣٧]. قالوا: هو دردي الزيت. ومن الباب الإدهان، من المداهنة، وهي: المصانعة. وتقول: داهنت الرجل، إذا داريته وأظهرت له خلاف ما تضمر له، وهو من الباب، كأنه إذا فعل ذلك فهو يدهنه ويسكن منه»1.
ويمكن إلحاق المداهنة والإدهان بأصل الباب الذي يدل على اللين والسهولة والقلة؛ لأن المداهِن إنما هو في الحقيقة وفي موقفه هذا يواجه صعوبة وصلابة في التعامل مع المداهَن مما يضطره إلى سلوك اللين والسهولة في الكلام معه، حتى يتقي شر من يداهنه، أو تحقيقًا لمصلحة له عنده، والله أعلم.
ثانيًا: المعنى الاصطلاحي:
قال الجرجاني: «المداهنة هي أن ترى منكرًا وتقدر على دفعه ولم تدفعه حفظًا لجانب مرتكبه أو جانب غيره أو لقلة مبالاةٍ في الدين» 2.
ويقول القرطبي: « هي معايشة الفاسق، وإظهار الرضا بما هو فيه من غير إنكارٍ عليه، مع القدرة»3.
ويقول القاضي عياض: « المداهنة: إنما هي إعطاءٌ بالدين ومصانعةٌ بالكذب، والتزيين للقبيح، وتحويب الباطل للوصول إلى أسباب الدنيا وصلاحها»4.
وردت مادة (دهن) في القرآن الكريم (٥) مرات5.
والصيغ التي وردت، هي:
الصيغة |
عدد المرات |
المثال |
الفعل المضارع |
٢ |
(ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ) [القلم:٩] |
الاسم |
١ |
(ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ) [الواقعة:٨١] |
وجاءت المداهنة في الاستعمال القرآني بمعناها اللغوي، وهو: المصانعة والمداراة والملاينة6.
التقية:
التقية لغة:
مصدر تقى. والتقية: الخشية والخوف. وتقية: مصدر اتقى، يتقي، اتقاءً وتقاةً وتقيةً، فهو متقٍ، والمفعول متقًى. واتقى الله: صار تقيًا وخاف منه فتجنب ما نهى عنه وامتثل لأوامره. واتقى الشيء بكذا: حذره وتجنبه. وكان يتقي شره: يتجنب شره، يحذره. واتقى بالشيء: جعله وقاية له وحماية من شيءٍ آخر. والجمع: تقيون و أتقياء. والتقي: من يتقي الله تعالى، و يخاف منه ويمتثل لأوامره والجمع: أتقياء7.
التقية اصطلاحًا:
هي تجنب العدو بإظهار ما يوافقه مع إضمار ما يخالفه من عقيدة ونحوها، وهو واجب في موارد محددة8.
وعرفها السرخسي بقوله: «التقية أن يقي الإنسان نفسه بما يظهره وإن كان يضمر خلافه»9.
وعرفها ابن حجر بقوله: «التقية الحذر من إظهار ما في النفس من معتقدٍ وغيره للغير»10.
والتعريف الأول أشمل؛ لأنه يدخل فيه التقية بالفعل إضافة إلى التقية بالقول والتقية في العمل كما هي في الاعتقاد.
الصلة بين التقية والمداهنة:
التقية لا تحل إلا لدفع الضرر، أما المداهنة فلا تحل أصلًا، لأنها اللين في الدين وهو ممنوع شرعًا11.
والتقية يصاحبها العجز وعدم القدرة على دفع المنكر، من ثم كانت حلالًا. بينما المداهنة تحصل مع القدرة على إنكاره ومن ثم كانت حرامًا.
المداراة:
المداراة لغة:
يقول ابن فارس: « الدال والراء والحرف المعتل (الياء) أصلان: أحدهما: قصد الشيء واعتماده طلبًا، والآخر حدةٌ تكون في الشيء» 12.
قال ابن منظور: « والمداراة في حسن الخلق والمعاشرة مع الناس يكون مهموزًا وغير مهموز، فمن همزه كان معناه الاتقاء لشره، ومن لم يهمزه جعله من داريت الظبي أي: احتلت له، وختلته حتى أصيده» 13.
المدارة اصطلاحًا:
قال الحافظ ابن حجر: المداراة: هو بغير همزٍ بمعنى: المجاملة و الملاينة، وأما بالهمز فمعناه المدافعة14.
والمقصود من المداراة: ملاينة الناس ومعاشرتهم بالحسنى من غير ثلم في الدين من أي جهة من الجهات15.
الصلة بين المداراة والمداهنة:
يوضح القرطبي محل الفرق بين المداهنة والمداراة بقوله: «والفرق بين المداراة والمداهنة، أن المداراة: بذل الدنيا لصلاح الدنيا أو الدين، وهي مباحة ومستحسنة في بعض الأحوال، والمداهنة المذمومة المحرمة: هي بذل الدين لصالح الدنيا» 16.
ظهر لنا فيما سبق أن مصطلح المداهنة يجوز التعبير عنه لغةً بألفاظٍ مرادفةٍ له كالمداراة والمجاملة والتقية.. ونحوها.
ومن هنا درج على ألسنة بعض علماء الإسلام المشهورين استعمال لفظة المداهنة موصوفةً بالحمد وبالذم.
ومنهم الإمام القرافي صاحب أنوار البروق في أنواع الفروق: حيث وضع فيه ترجمةً بعنوان: «الفرق الرابع والستون والمائتان بين قاعدة المداهنة المحرمة وبين قاعدة المداهنة التي لا تحرم، وقد تجب»17.
ومن منظور آخر نجد القران الكريم قد حكى مصطلح المداهنة مذمومًا مطلقًا بينما حكايته عن مفهوم المداهنة جاءت على معانٍ أوسع ودلالاتٍ أبعد من حكايته له كمصطلح، ومن ثم جاء بعضها محمودًا كالتقية، والإكراه مثلًا، وبعضها الآخر مذمومًا كالركون إلى الكفارونحوه.
ويمكن تقسيم المداهنة إلى نوعين:
أولًا: المداهنة المشروعة:
ونقصد بالمداهنة المشروعة هنا المداراة التي هي محل اتفاق بين العلماء على جوازها. والأدلة على مشروعيتها في القران الكريم كثيرة.
قال تعالى: (ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ) [البقرة: ٨٣].
فقوله تعالى: (ﯦ ﯧ ﯨ) جاءت في سياق ما أمر الله به في كل شريعة من الشرائع، من عبادته سبحانه وحده، والإحسان إلى الوالدين والأقارب واليتامى والمساكين. وختمت الآية بالأمر بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة. «وهذه الشرائع من أصول الدين التي أمر الله بها في كل شريعة لاشتمالها على المصالح العامة في كل زمان ومكان فلا يدخلها نسخ، كأصل الدين، ولهذا أمرنا الله بها في قوله: (ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ) 18.
ويقول القرطبي في تفسيره: «ينبغي للإنسان أن يكون قوله للناس لينًا، ووجهه منبسطًا طلقًا مع البر والفاجر، والسيء والمبتدع، من غير مداهنة، ومن غير أن يتكلم معه بكلام يظن أنه يرضي مذهبه، لأن الله تعالى قال لموسى وهارون: (ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ) فالقائل ليس بأفضل من موسى وهارون، والفاجر ليس بأخبث من فرعون، وقد أمرهما الله تعالى باللين معه» 19.
والقول الحسن؛ أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، وتعليمهم العلم، وبذل السلام، والبشاشة، وغير ذلك من كل كلام طيب. ولذلك فإن من أدب الإنسان الذي أدب الله به عباده، أن يكون الإنسان نزيها في أقواله وأفعاله غير فاحشٍ ولا بذيء ولا شاتم، ولا مخاصم، بل يكون حسن الخلق واسع الحلم مجاملًا لكل أحد، صبورًا على ما يناله من أذى الخلق، امتثالًا لأمر ربه ورجاء ثوابه ومغفرته20.
وعن عطاء قال: قوله عز وجل: (ﯦ ﯧ ﯨ) أي: الناس كلهم؛ المشرك وغيره. وعن هشام بن عروة قال: عطس نصراني طبيب عند أبي، فقال له: رحمك الله. فقيل له: إنه نصراني، قال أبي: رحمة الله على العالمين 21.
ولقد اختلف العلماء في وجوب القول الحسن. هل هو مع المؤمنين، أو مع الكفار والفساق؟ وهل هو خاص في الدعوة إلى الله، أو أنه يشمل الناس جميعا، فبقي على عمومه ولا يحتاج إلى التخصيص؟ والصواب أنه باقٍ على ظاهره ولا حاجة إلى التخصيص. والدليل عليه، أن موسى وهارون - عليهما السلام - مع جلال منصبيهما أمرا بالرفق واللين مع فرعون. وكذلك محمد صلى الله عليه وسلم مأمور بالرفق وترك الغلظة.
يقول تعالى: (ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ) [النحل: ١٢٥].
ويقول تعالى أيضًا: (ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ) [الأنعام: ١٠٨]. 22.
وقال أهل التحقيق: كـلام الناس مع الناس إما أن يكون في الأمور الدينية، أو في الأمور الدنيوية، فإن كان في الأمـور الدينية، فإما أن يكـون فـي الدعوة إلى الإيمان، وهو مع الكفار، أوفي الدعوة إلى الطاعة وهو مع الفاسق. والدعوة إلى الإيمان لابد وأن تكون بالقول الحسن، كمـا قال تعالى لموسى وهارون عليهما السلام في دعوتهما لفرعون (ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ) [ طه: ٤٤ ].
مع نهاية كفر فرعون وتمرده وعتوه على الله سبحانه، وكذلك دعوة الفساق فالقول الحسن فيها معتبر كما قال تعالى: (ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ) الآية.
وأما في الأمور الدنيوية؛ فمن المعلوم بالضرورة أنه إذا أمكن التوصل إلى الغرض بالتلطف من القول الحسن لم يحسن سواه. فثبت أن جميع آداب الدين والدنيا داخلة تحت قوله سبحانه وتعالى: (ﯦ ﯧ ﯨ)23.
وقال تعالى في قصة ابراهيم عليه السلام: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ) [الأنعام: ٧٤].
وإبراهيم عليه السلام كان من أكثر المناوئين له أبوه وقومه عند دعوته لهم إلى عبادة الله وحده لا يشركون به شيئًا، وقد لاقى في ذلك عنتًا شديدًا، وحرجًا بليغًا لوقوف أبيه مع المشركين ضد دعوته، حتى قال له أبوه يومًا: (ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰﮱ ﯓ ﯔ ﯕ) [مريم: ٤٦].
فاستوحش إبراهيم عليه السلام من موقف أبيه آزر، ولكنه أبقى على شيء من البر له عندما (ﯖ ﯗ ﯘﯙ ﯚ ﯛ ﯜﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ) [مريم: ٤٧].
غير أن هذا الموقف اللين لم يغير شيئًا من موقف أبيه واستمر في عدائه لدعوته. عندها خشي عليه السلام أن ينقلب موقفه من أبيه وقومه من مفهوم المداراة إلى مفهوم المداهنة.
قال تعالى: (ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ) [التوبة: ١١٤].
تبين له من جهة الوحي أن أباه لن يؤمن، وأنه يموت كافرًا. فانقطع رجاؤه عنه، فقطع استغفاره له. وهكذا يجب أن يكون موقف الداعية المؤمن من المناوئين لدعوته، صبرًا على الأذى، ولينًا في الخطاب، ووضوحًا في البيان، والتذكير، والوعد، والوعيد. حتى إذا سدت المنافذ في وجهه، واستحكم الهوى على عقل عدوه، وأظهر مقاومة شرسة، تركه وما أراد، فقد أعذر إلى الله، وبرئت ذمته، وأقام الحجة على عدوه. 24
وقال تعالى: (ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ) [الأعراف: ١٩٩].
أمر الله سبحانه نبيه بمكارم الأخلاق. فأمر أمته بنحو ما أمره الله به. ومحصلها، الأمر بحسن المعاشرة مع الناس، وبذل الجهد في الإحسان إليهم، والإغضاء عنهم. عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما قال: لما نزلت: (ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ) الآية ما نزلت إلا في أخلاق الناس، وعنه أيضًا «قال: أمر الله نبيه أن يأخذ العفو من أخلاق الناس»25.
فهذه الآية جامعة لحسن الخلق مع الناس، وما ينبغي في معاملتهم، فالذي ينبغي أن يعامل به الناس، هو ما سمحت به نفوسهم، وما سهل عليهم من الأعمال والأخلاق فلا يكلفوا بما لا تسمح به طبائعهم، أو الشاق من الأخلاق، بل يشكر من كل أحد ما قابله به، من قول وفعل جميل، أو ما هو دون ذلك، ويتجاوز عن ضعفهم، ونقصهم وأخطائهم، فلا يتكبر على الصغير لصغره، ولا ناقص العقل لنقصه، ولا الفقير لفقره، بل يعامل الجميع باللطف والمقابلة بما تقتضيه الحال، وتنشرح له صدورهم26.
وفيها دلالة واضحة أيضًا على المداراة وهو قولـه سبحانه: (ﭷ ﭸ) أي: بكل قول حسن وفعل جميل، وخلق كامل للقريب والبعيد، فاجعل ما يأتي إلى الناس منك؛ إما تعليم علم، أو حثًا على خير من صلة رحم، أو بر والدين، أو إصلاح بين الناس، أو نصيحة نافعة، أو زجر عن قبيح ومنكر، أو إرشاد إلى تحصيل مصلحة دينية أو دنيوية 27.
وقال تعالى مخاطبًا رسوله صلى الله عليه وسلم: (ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ) [آل عمران: ١٥٩].
والذي يفهم من هذا الخطاب الكريم، أن الأخلاق الحسنة من الرئيس في الدين، تجذب الناس إلى دين الله، وترغبهم فيه، مع ما لصاحبه من المدح والثواب الخاص، والأخلاق السيئة من الرئيس في الدين تنفر الناس عن الدين، وتبغضهم فيه، مع ما لصاحبها من الذم والعقاب. فإذا كان هذا الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أليس من الواجب علينا الاقتداء بأخلاقه الكريمة، ومعاملة الناس بما يعاملهم به من اللين وحسن الخلق والتأليف، امتثالًا لأمر الله، وجذبًا لعباد الله لدين الله28.
وقال تعالى في قصة يوسف عليه السلام: (ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ) [يوسف: ٧٧].
وموقف يوسف عليه السلام مع إخوته الذين اتهموه بالسرقة واتهموا شقيقه في قولهم: (ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ) كان موقفًا حكيمًا، يتسم صاحبه ببعد النظر وقوة الإرادة من التحكم في النفس ورغباتها، عند أصعب ساعات الإثارة والطغيان. فهو أمام تهمة خطيرة، مخلة بالشرف، ومخالفة للمروءة، ومن أقرب الناس إليه، وكان يستطيع أن ينتقم لنفسه منهم، وأن يوقع بهم أشد العقوبة لمكانته الاجتماعية المتميزة عند ملك مصر، وقبل ذلك ما فعلوا به من إلقائه في الجب، وحرمانه من أبويه، وتصييره رقيقًا، فقد سنحت الفرصة، وقد أصبح وزيرًا للملك، وبيده خزائن الأرض، وجاءه إخوته مع من جاء من الفقراء المعوزين يطلبونه رزقًا بعد أن مسهم وأهلهم الضر.
ولكنه كان نبيًا كريمًا، حكيمًا (ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ). فقد كان عليه السلام واثقًا من ربه، ومتحصنًا بإيمانه، فلو أخذته العزة بالإثم لأمر من يفتك بهم، أو أن يطردهم شر طردة، وكان محقًا. ولكنه أدرك عليه السلام بأن فقدهم سيزيد من ألم أبيه وحزنه، وأساه. وأدرك أيضًا أن للشيطان دورًا فيما وقع بينه وبين إخوته، فلا ينبغي أن يكون عونًا له على ما أراد.
فكظم غيظه، وعفا عنهم، بعد أن عرفهم بخطئهم، وأبر بوالديه، وجمع شمل أسرته. وما كان ذلك ليتحقق لولا مشيئة الله، ثم الصبر والملاينة، وشيء من الحيلة، والحنكة، والختل. فقد كان عليه السلام لطيف الحيلة فتوصل إلى بغيته بالرفق، والسهولة29.
ويقول تعالى في سورة التوبة مخاطبًا رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم كيف يكون تعامله مع أصحابه ليطمئنوا إليه: (ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ) [التوبة: ١٠٣].
أي: أدخل السرور على قلوب المؤمنين بالكلام الطيب اللين، والدعاء لهم ونحو ذلك مما يكون فيه طمأنينتهم وسكون قلوبهم30.
ويقول تعالى لموسى وأخيه هارون عليهما السلام عند ذهابهما لدعوة فرعون: (ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ) [طه: ٤٣ - ٤٤].
وهاتان الآيتان فيهما دلالة واضحة على معنى المداراة وهي: القول اللين اللطيف الذي لا خشونة فيه ولا غلظة،» لأن تليين القول مما يكسر سورة عناد العتاة ويلين قسوة الطغاة»31.
«والقول اللين داعٍ لذلك، والقول الغليظ منفرٌ عن صاحبه»32.
والقول اللين: لا يثير العزة بالإثم، ولا يهيج الكبرياء الزائف الذي يعيش به الطغاة، ومن شأنه أن يوقف القلب فيتذكر ويخشى عاقبة الطغيان33.
فيكون أوقع في النفوس وأبلغ وأنجع، كما قال تعالى: (ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ) [النحل: ١٢٥]34.
ويقول تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ) [العنكبوت: ٤٦].
في هذه الآية أمر الله المؤمنين بمجادلة أهل الكتاب بالتي هي أحسن أي: بحسن خلق، ولطف ولين كلام، ودعوة إلى الحق وتحسينه، ورد على الباطل، والتنفير منه وتقبيحه أو بأي طريق رجاء إجابتهم، واستمالة لقلوبهم، لا على طريق الإغلاظ والمخاشنة كالقدح في شيء من الكتب الإلهية، أو بأحد من الرسل، بل يقارعهم الحجة بالحجة والدليل بالدليل، ليلزمهم الإقرار بالقرآن وبالرسول، وبما يدعو إليه من الإيمان بهذا الدين35.
ويقول تعالى: (ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ) [فصلت: ٣٤].
ومن المداراة، عدم مقابلة المسيء بجنس عمله. فإذا أراد إزالة عداوته، لا بد من الإحسان إليه مع الصبر على ما يكره. ومما جاء في تفسيرها: أي لا يستوي فعل الحسنات والطاعات لأجل رضا الله تعالى، ولا فعل السيئات والمعاصي التي تسخطه ولا ترضيه، ولا يستوي الإحسان إلى الخلق ولا الإساءة إليهم، لا في ذاتها ولا في وضعها، ولا في جزائها. ثم أمر بإحسان خاص، له موقع كبير. وهو الإحسان إلى من أساء إليك فقال: (ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ) فإذا أساء إليك مسيءٌ من الخلق، خصوصًا من له حق كبير عليك كالأقارب، والأصحاب ونحوهم، إساءةً بالقول أو بالفعل، فقابله بالإحسان إليه، فإن قطعك فصله، وإن ظلمك فاعف عنه، وإن تكلم فيك غائبًا أو حاضرًا فلا تقابله، بل اعف عنه، وعامله بالقول اللين.
وإن هجرك وترك خطابك فطيب له الكلام، وابذل له السلام. فإذا قابلت الإساءة بالإحسان حصل فائدة عظيمة وخير عميم، فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم36.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال في قوله تعالى: (ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ) الآية، الرجل يشتمه أخوه، فيقول، إن كنت صادقًا فغفر الله لي. وإن كنت كاذبًا فغفر الله لك.
وكان بكر رضي الله عنه يقول: ما عليك أن تنزل الناس منزلة أهل البيت، فتنزل من كان أكبر منك منزلة أبيك، وتنزل من كان منهم قرينك منزلة أخيك، وتنزل من كان أصغر منك منزلة ولدك فأي هؤلاء تحب أن يهتك ستره؟ 37.
أما عن كونها سنةً عامةً مندوبًا إليها فسيظهر من خلال الأحاديث النبوية الشريفة التي تحث المسلم على فعلها. ومنها ما يلي:
فعن سعيد بن أبي بردة عن أبيه عن جده قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (على كل مسلم صدقة، قالوا: فإن لم يجد؟ قال: فيعمل بيديه فينفع نفسه ويتصدق. قالوا: فإن لم يستطع، أو لم يفعل؟ قال: فيعين ذا الحاجة الملهوف. قالوا: فإن لم يفعل؟ قال: فليأمر بالخير. أو قال بالمعروف. قالوا: فإن لم يفعل؟ قال: فليمسك عن الشر. فإنه له صدقة) 38.
وعن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تحقرن من المعروف شيئًا، ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق)39.
قال ابن بطال في شرحه لهذا الحديث: «كل شيء يفعله المرء أو يقوله من الخير، يكتب له به صدقة. والمعروف: اسم كل فعلٍ يعرف حسنه بالشرع والعقل معًا. وفيه إشارة إلى أن الصدقة لا تنحصر في الأمر المحسوس منه. بل كل واحد قادر على أن يفعلها في أكثر الأحوال بغير مشقة40.
ولحسن الخلق شأن عظيم في الإسلام، فقد عد الرسول صلى الله عليه وسلم صاحب الخلق الحسن من أكمل المؤمنين إيمانًا.
وعن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ألا أخبركم بأكملكم إيمانا؟ أحاسنكم أخلاقًا، الموطؤون أكنافًا، الذين يألفون ويؤلفون)41 والموطئون: من التوطئة، وهي التمهيد والتذليل. والأكناف: الجوانب. يعني الذين جوانبهم وطيئة يتمكن فيها من يصاحبهم ولا يتأذى، وهم الهينون اللينون، الذين يحسنون المعاملة42.
أما عن أدلة حصول المداراة ومشروعيتها في الاسلام؛ فهو ما روي عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بخصوص الرجل الشرير الأحمق، الذي استأذن على الرسول صلى الله عليه وسلم فنعته بقوله: (بئس أخو العشيرة) فلما دخل تلقاه الرسول صلى الله عليه وسلم بطلاقة الوجه والانبساط ثم ألان له الكلام.
فعن عروة بن الزبير أن عائشة أخبرته: (أنه أستأذن رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ائذنوا له بئس أخو العشيرة. أو ابن العشيرة. فلما دخل ألان له الكلام. قلت يا رسول الله: قلت الذي قلت ثم ألنت له الكلام. قال:(أي عائشة. إن شر الناس من تركه الناس، أو ودعه الناس، اتقاء فحشه)43.
يقول ابن حجر عند شرحه للحديث: «هذا الحديث أصل في المداراة» وعلى هذا الرأي الهيثمي والسخاوي وجمهرة كبيرة من علماء الحديث 44.
وقال أيضًا: « اختلف العلماء في الرجل الذي استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم فمنهم من جزم بأنه عيينة بن حصن الفزاري، ولم يكن أسلم حينئذ، وإن كان قد أظهر الإسلام. فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يبين حاله ليعرفه الناس، ولا يغتر به من لم يعرف حاله، وكان منه في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ما دل على ضعف إيمانه. وبعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ارتد مع من ارتد وجيء به أسيرًا إلى أبي بكر رضي الله عنه. قال ابن بطال: وكان يقال له الأحمق المطاع ورجا النبي صلى الله عليه وسلم بإقباله عليه تألفه ليسلم قومه لأنه كان رئيسهم» ومنهم من جزم بأنه مخرمة وقصره عليه، ومنهم من حمل الحديث على التعدد45.
وعلى كلٍ، فإن الحديث يدل على جواز إلانة القول لمن كان هذا حاله، تآلفًا له للدخول في الإسلام، أو ليحسن إسلامه، أو ليسلم قومه، أو لأي أمرٍ يعود بالمصلحة على الأمة الإسلامية.
ومن يقرأ هذا الحديث الذي اعتبره ابن حجر وغيره أصلًا في المداراة، قد يتوهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم حاشاه - قد وقع في غيبة الرجل عندما ذمه بذكر ما يكره لو سمعه صراحة من الرسول صلى الله عليه وسلم أو أنه داهنه عندما هش له وبش، وانبسط له، وألان الكلام معه. فإذا ما وقفنا على الحكم استحضرنا مسوغ فعل الرسول صلى الله عليه وسلم وهو بيان كيفية التعامل مع مثل هؤلاء. ويضاف إلى ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان طيب الكلام، فلم يكن فاحشًا ولا متفحشًا، ولا سبابًا ولا لعانًا، وكان ينهى عن الغيبة والتملق والمداهنة والنفاق.
«وليس في قول النبي صلى الله عليه وسلم في أمته بالأمور التي يسميهم بها، ويضيفها إليهم من المكروه غيبة. وإنما يكون ذلك من بعضهم في بعض. بل الواجب على الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبين ذلك ويفصح به، ويعرف الناس أمره فإن ذلك من باب النصيحة والشفقة على الأمة. فأراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يعلم أمته اتقاء شر من هذا سبيله، ومداراته ليسلموا من شره وغائلته وذلك بأن يظهروا لهم البشاشة، وأن لا يجبهوهم بها»46.
إذن ففعله صلى الله عليه وسلم كان استلطافًا وتطييبًا لخاطر ذلك المنافق الشرير ليتمكن من إيمانه، وينجذب بذلك إلى الإسلام وينجذب قومه معه بالإضافة إلى تعريف الناس بحاله ليتقوه.
ما رواه عدي بن حاتم رضي الله عنه عن إكرام الرسول صلى الله عليه وسلم له كما أكرم أخته قبل إسلامه بعد عودته إلى المدينة المنورة. وكان قد فر منها إلى الشام بعد انتصار المسلمين. قال عدي رضي الله عنه: (ثم مضى بي رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا دخل بي بيته تناول وسادة من أدم محشوة ليفًا فقذفها إلي، فقال: اجلس على هذه. قال: قلت بل أنت فاجلس عليها، فقال: بل أنت. فجلست عليها وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأرض. قال: فقلت في نفسي والله ما هذا بأمر ملك)47.
وتذكر السيرة النبوية أنه دخل في الإسلام، وكان له الأثر الواضح في الدعوة والجهاد.
ولاشك أن الاحترام الظاهري، والتعامل الحسن مع من لا يستحقه - كحال عدي قبل إسلامه - إذا كان لمصلحة شرعية تعود بالنفع على الإسلام وأهله من زيادة عدد المسلمين أو دفع الأذى والضرر عنهم وغير ذلك جائز استنادًا إلى فعله صلى الله عليه وسلم.
ولهذا عندما سئل ابن عباس رضي الله عنهما عن تفسير قوله تعالى: (ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ) [النساء: ٨٦].
قال: « من سلم عليك من خلق الله فاردد عليه وإن كان مجوسيًا»48.
ومن المداهنة المشروعة: التقية.
وقد ذهب جمهور علماء أهل السنة إلى أن الأصل في التقية هو الحظر، وجوازها ضرورة، فتباح بقدر الضرورة.
قال القرطبي: والتقية لا تحل إلا مع خوف القتل أو القطع أو الإيذاء العظيم، ولم ينقل ما يخالف ذلك فيما نعلم إلا ما روي عن معاذ بن جبل من الصحابة، ومجاهد من التابعين، وإنما ذهب الجمهور إلى ذلك لأن الله تعالى نص عليها في كتابه بقوله: (ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱﯲ ﯳ ﯴ ﯵﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ) [آل عمران: ٢٨].
قال ابن عباس في تفسيرها: نهى الله المؤمنين أن يلاطفوا الكفار، أو يتخذوهم وليجةً من دون المؤمنين، إلا أن يكون الكفار عليهم ظاهرين، فيظهرون لهم اللطف ويخالفونهم في الدين49.
ومن الأدلة على مشروعية التقية للضرورة قول الله تعالى: (ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ) [النحل: ١٠٦].
وسبب نزول الآية: (أن المشركين أخذوا عمارًا فلم يتركوه حتى سب النبي صلى الله عليه وسلم وذكر آلهتهم بخير، فتركوه. فلما أتى النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما وراءك؟ قال: شر، ما تركت حتى نلت منك وذكرت آلهتهم بخير. قال: كيف تجد قلبك؟ قال: مطمئن بالإيمان. قال: إن عادوا فعد، فنزلت: (ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ))50.
ومن الأدلة على جواز التقية للضرورة ما أخرجه ابن أبي شيبة عن الحسن: (أن مسيلمة الكذاب أخذ رجلين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لأحدهما: أتشهد أن محمدا رسول الله؟ قال: نعم. نعم. نعم. قال أتشهد أني رسول الله؟ قال: نعم وكان مسيلمة يزعم أنه رسول بني حنيفة وأن محمدًا رسول قريش، ثم دعا بالآخر، فقال: أتشهد أن محمدًا رسول الله ؟ قال: نعم. قال: أفتشهد أني رسول الله؟ قال: إني أصم. قالها ثلاثًا، كل ذلك يجيبه بمثل الأول. فضرب عنقه. فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أما ذلك فقد مضى على صدقه ويقينه، وأخذ بفضله، فهنيئًا له. وأما الآخر فقبل رخصة الله فلا تبعة عليه)51.
وقال الحسن: التقية جائزة للمؤمنين إلى يوم القيامة. وقد نسب القرطبي إنكار التقية إلى معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: « كانت التقية في جدة الإسلام قبل قوة المسلمين فأما اليوم فقد أعز الله أهل الإسلام أن يتقوا عدوهم »52.
ونقل السرخسي عن قوم لم يسمهم أنهم كانوا يأبون التقية، ويقولون: هي من النفاق53.
قال السرخسي: إن هذا النوع - يعني النطق بكلمة الكفر تقية - يجوز لغير الرسل. فأما في حق المرسلين - صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين - فما كان يجوز ذلك فيما يرجع إلى أصل الدعوة إلى الدين الحق، وتجويز ذلك محال - أي ممنوع شرعا - لأنه يؤدي إلى أن لا يقطع القول بما هو شريعة، لاحتمال أن يكون فعل ذلك أو قاله تقية54.
وهو يشير بذلك إلى ما يبينه أهل الأصول من أن حجية السنة النبوية متوقفة على كون كل ما أتى به النبي صلى الله عليه وسلم حقًا، إذ لو تطرق إلى أقواله أو أفعاله احتمال أنه فعل أو قال أشياء من ذلك على سبيل التقية وهي حرام، لكان ذلك تلبيسًا في الدين، ولما حصلت الثقة بأقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله.
وكذلك السكوت منه صلى الله عليه وسلم على ما يراه ويسمعه من أصحابه إقرار تستفاد منه الأحكام الشرعية، فلو كان بعض سكوته يكون تقية لالتبست الأحكام على المسلمين.
وقد قال الله تعالى: (ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ) [الأحزاب: ٣٩].
وقال: (ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ) [المائدة: ٦٧].
قال القرطبي: دلت الآية على رد قول من قال إن النبي صلى الله عليه وسلم كتم شيئًا من أمر الدين تقية، وعلى بطلانه وهم الرافضة55.
وفي فواتح الرحموت: ما من نبي إلا بعث بين أعدائه، فلعله - أي: في حال افتراض عمله بالتقية - كتم شيئًا من الوحي خوفًا منهم، وكذا محمد صلى الله عليه وسلم بعث بين أعدائه، ولم يكن له ولأصحابه قدرةٌ لدفعهم فيلزم على تجويز التقية له احتمال كتمانه شيئًا من الوحي، وأن لا ثقة بالقرآن. فانظر إلى شناعة هذا القول وحماقته على أن امتناع التقية على الأنبياء لا يعني عدم عملهم بالملاطفة واللين والمداراة للناس كما تقدم، أي: من دون إخلال بفريضة أو ارتكاب لمحرم56.
وتقدمت الأدلة على جواز العمل بالتقية. وقد اختلف في حكمها.
فقيل: إذا وجد سببها وتحقق شرطها فهي واجبة، لأن إنقاذ النفس من الهلكة أو الإيذاء العظيم ونحو ذلك لا يحصل إلا بها في تقدير المكلف لقوله تعالى: (ﭹ ﭺ ﭻﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ) [النساء: ٢٩].
والصحيح عند العلماء أن الأولى للإنسان أن يثبت على ما هو عليه من الحق بظاهره، كما هو عليه بباطنه. وقد يكون الثبات أفضل وأعظم أجرًا ومثوبةً ولو كان العذر قائمًا، وثبت هذا بالأدلة الصحيحة في الكتاب والسنة، فمن الكتاب ما في سورة البروج، فقد حكى الله تعالى قصة الذين صبروا على عذاب الحريق في الأخدود، واختاروا ذلك على أن يظهروا الرجوع عن دينهم. وثناء الله تعالى عليهم بذلك الثبات يدل على تفضيل موقفهم على موقف العمل بالتقية في قضية إظهار الكفر. ومنها قوله تعالى: (ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ) [العنكبوت: ٢].
ومما يستدل به على ذلك من السنة قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تشرك بالله شيئًا وإن قتلت وحرقت)57.
وكذلك ما تقدم في مسألة مسيلمة، فقد عذر النبي صلى الله عليه وسلم الصحابي الذي وافق مسيلمة وقال فيه: (لا تبعة عليه) وقال في حق الذي ثبت فقتل: (مضى على صدقه ويقينه، وأخذ بفضله، فهنيئا له) وهذا يدل على التفضيل. واحتج السرخسي أيضا بقصة « خبيب بن عدي لما امتنع من موافقة قريش على الكفر حتى قتلوه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم هو: «أفضل الشهداء» وقال: (هو رفيقي في الجنة)58.
وقد بوب البخاري رحمه الله لهذه المسألة بابًا بعنوان « باب من اختار الضرب والقتل والهوان على الكفر » أورد فيه حديث خباب بن الأرت أنه قال: (شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة في ظل الكعبة، فقلنا: ألا تستنصر لنا ؟ ألا تدعو لنا ؟ فقال: قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل، فيحفر له في الأرض فيجعل فيها، فيجاء بالمنشار فيوضع على مفرق رأسه فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد من دون لحمه وعظمه، فما يصده ذلك عن دينه ثم قال صلى الله عليه وسلم والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون)59. وهو واضح الدلالة على المقصود. وهكذا كل أمر فيه إعزاز للدين وإعلاء لكلمة الله وإظهار لثبات المسلمين وبسالتهم، وتثبيت لعامة المسلمين على الحق، يكون الثبات على الحق وإظهاره أولى من التقية، وهذا بخلاف نحو الإكراه على شرب الخمر وأكل الميتة وحيث لا تظهر المصالح المذكورة60.
ثانيًا: المداهنة المحرمة:
سبق وأن ذكرنا أن المداهنة تقترب كثيرًا من النفاق، وربما كانت كفرًا إذا كانت المداهنة لصاحب الكفر كما في قوله تعالى: (ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ) [القلم:٩].. قال ابن عباس: «ودوا لو تكفر فيكفرون»61.
فالمداهنة خلقٌ قذرٌ، لا ينحط فيه إلا من خف في العلم وزنه، أو من نشأ نشأة صغارٍ ومهانةٍ. وتكمن خطورة هذا الخلق في أنه يتعارض تماما مع أهم المبادئ الإسلامية، وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولذا فإن الدعوات السماوية والوضعية قد جعلت جوهر أهدافها الإصلاح، والإصلاح هو لب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فالقرآن الكريم قد ركز في أغلب سوره على الإصلاح، وقد ظهر واضحًا من خلال تأكيد القرآن الذي أوصى الإنسان بأخيه الإنسان، فحرم الكذب والخيانة والغش والاعتداء بكل صوره المادية والمعنوية، وهذه المبادئ وغيرها تشترك في منع أيٍ منا من أن يساعد على الظلم والفساد، فيما تدفعه للتعاون في جميع أنواع البر ومنه الإصلاح. وأدلة تحريم المداهنة كثيرةٌ.
قال تعالى: (ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ) [الواقعة: ٨١].
وقال تعالى (ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ) [القلم: ٩].
وقال تعالى: (ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ) [هود: ١١٣].
حكى القرطبي في تفسيرها أن معناها: «لا تودوهم ولا تطيعوهم ولا تميلوا إليهم. والركون هنا: الإدهان وذلك ألا ينكر عليهم كفرهم ثم قال: وهذا هو الصحيح في معنى الآية، وأنها دالة على هجران أهل الكفر والمعاصي من أهل البدع وغيرهم ، فإن صحبتهم كفر أو معصية، إذ الصحبة لا تكون إلا عن مودة، فإن كانت الصحبة عن ضرورةٍ وتقية فقد مضى القول فيها في « آل عمران » و « المائدة ». وصحبة الظالم على التقية مستثناة من النهي في حال الاضطرار. والله أعلم»62.
وقال تعالى: (ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ) [المائدة: ٤٩].
قال الرازي في تفسيرها: «قال ابن عباس: يريد به يردوك إلى أهوائهم، فإن كل من صرف من الحق إلى الباطل فقد فتن، ومنه قوله: (ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ) [الإسراء: ٧٣].
والفتنة ههنا في كلامهم التي تميل عن الحق وتلقي في الباطل وكان صلى الله عليه وسلم يقول: «أعوذ بك من فتنة المحيا». قال: هو أن يعدل عن الطريق، قال أهل العلم: هذه الآية تدل على أن الخطأ والنسيان جائزان على الرسول ، لأن الله تعالى قال: (ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ) والتعمد في مثل هذا غير جائز على الرسول، فلم يبق إلا الخطأ والنسيان»63.
وقال تعالى: (ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ) [الأحزاب: ٤٨].
وإذا ثبتت حرمة المداهنة لما تقدم فلا ينبغي للنبي صلى الله عليه وسلم ولا لأمته في كل عصرٍ ومصرٍ أن يطيعوا الكافرين ولا المنافقين إذا أشاروا عليهم بالمداهنة والترخص أو التنازل بدعوى المصلحة، ولا يأبهوا بأي أذىً متوقع ويعتمدوا على الله في ذلك كله، فهو وحده الوكيل وكفى بالله وكيلًا.
قال الشوكاني: ثم نهاه سبحانه عن طاعة أعداء الدين فقال: (ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ) أي: لا تطعهم فيما يشيرون عليك به من المداهنة في الدين وفي الآية تعريض لغيره من أمته لأنه صلى الله عليه وسلم معصوم عن طاعتهم في شيء مما يريدونه ويشيرون به عليه 64.
قال صاحب الظلال: قوله تعالى: (ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ) [الأحزاب: ٤٨].
« توجيه النبي صلى الله عليه وسلم ألا يحفل بأذى الكافرين والمنافقين، ولا يتقيه بطاعتهم في شيء أو الاعتماد عليهم في شيء، فالله وحده هو الوكيل، وكفى بالله وكيلًا65.
وقال تعالى: (ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ) [الأنعام: ٦٨].
قال القرطبي في تفسيرها: وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا بالتكذيب والرد والاستهزاء فأعرض عنهم والخطاب مجرد للنبي صلى الله عليه وسلم. وقيل: إن المؤمنين داخلون في الخطاب معه. وهو صحيح ، فإن العلة سماع الخوض في آيات الله، وذلك يشملهم وإياه. فأدب الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم بهذه الآية ، لأنه كان يقعد إلى قوم من المشركين يعظهم ويدعوهم فيستهزئون بالقرآن ، فأمره الله أن يعرض عنهم إعراض منكر. ودل بهذا على أن الرجل إذا علم من الآخر منكرًا وعلم أنه لا يقبل منه فعليه أن يعرض عنه إعراض منكر ولا يقبل عليه66.
وقال تعالى: (ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ) [الممتحنة:٩].
يقول ابن عاشور في تفسيرها: « فذلكة لما تقدم وحصر لحكم الآية المتقدمة. وهي تؤذن بانتهاء الغرض المسوق له الكلام من أوله. والقصر المستفاد من جملة (ﮐ ﮑ ﮒ) إلى آخرها قصر قلب لرد اعتقاد من ظن أو شك في جواز صلة المشركين على الإطلاق. والذين تحققت فيهم هذه الصفات يوم نزول الآية هم مشركو أهل مكة، و (ﮞ ﮟ) بدل اشتمال من (ﮔ ﮕ) (ﮡ ﮢ) شرط وجيء في جواب الشرط باسم الإشارة لتمييز المشار إليهم زيادة في إيضاح الحكم. والمظاهرة: المعاونة. وذلك لأن أهل مكة فريقان منهم من يأتي بالأسباب التي لا يحتمل المسلمون معها البقاء بمكة، ومنهم من يعين على ذلك ويغري عليه. والقصر المستفاد من قوله: (ﮣ ﮤ ﮥ) قصر ادعائي، أي: أن ظلمهم لشدته ووقوعه بعد النهي الشديد والتنبيه على الأخطاء والعصيان ظلم لا يغفر لأنه اعتداء على حقوق الله وحقوق المسلمين وعلى حق الظالم نفسه» 67.
ولا شك أن الحق سبحانه نهى عن موالاة الكفار بنص صريح، فقال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽﭾ ﭿ ﮀ ﮁﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ) [المجادلة: ٢٢].
وقال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙﭚ ﭛ ﭜ ﭝﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ) [المائدة: ٥١].
وقال تعالى: (ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ) [آل عمران: ١١٨].
وأخبر أنه إذا لم يكن المؤمنون بعضهم أولياء بعض والذين كفروا بعضهم أولياء بعض، ويتميز هؤلاء عن هؤلاء، فإنها تكون فتنة في الأرض وفساد كبير.
ولا ينبغي أبدًا أن يثق المؤمن بغير المؤمن مهما أظهر من المودة وأبدى من النصح؛ فإن الله تعالى يقول عنهم: (ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ) [النساء: ٨٩].
ويقول سبحانه لنبيه: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ) [البقرة: ١٢٠].
والواجب على المؤمن أن يعتمد على الله في تنفيذ شرعه، وأن لا تأخذه فيه لومة لائم، وأن لا يخاف من أعدائه، فقد قال الله تعالى: (ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ) [آل عمران: ١٧٥].
وقد جاء النص الصريح من كتاب الله عز وجل على أن من اتخذ الكفار أولياء من دون المؤمنين أنه: منافق لا يؤمن بالله ولا بالنبي وما أنزل إليه وأنه من جملة الكفار الذين والاهم ونصرهم.
قال تعالى: (ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ) [النساء: ١٣٨ - ١٣٩].
وخلاصة الأمر أن الإنسان إذا أظهر للمشركين الموافقة على دينهم خوفًا منهم ومداراة لهم ومداهنة لدفع شرهم فإنه كافر مثلهم وإن كان يكره دينهم ويبغضهم ويحب الإسلام والمسلمين.
لا شك أن النفوس المطبوعة على المداراة نفوسٌ أدركت أن الناس خلقوا ليكونوا في الائتلاف كجسد واحد، وشأن الأعضاء السليمة أن تكون ملتئمةً متماسكةً على قدر ما فيها من حياة، ولا تنكر عضوًا ركب معها في جسد إلا أن يصاب بعلةٍ يعجز الاطباء أن يصفوا لها دواء 68.
ومن هنا تبرز أهمية الاتحاد والتعاون الاجتماعي. وفي المقابل نجد النفوس الشريرة لا تسعى لتحقيق هذا الخلق النبيل. بل تعمل صباح مساء على إشعال نار الفتنة وتهييج النفوس وشحنها بالبغضاء وحثها على الخراب والقتل والدمار. ولا شك أنه لحصول ذلك كله أسبابٌ ودواعٍ تقتضيه. وهذا ما سنبينه بحول الله وقوته فيما يأتي:
أولًا: أسباب المداهنة المشروعة:
قال ابن حجر: ما ورد فيه صريحًا: أي في جواز المداراة حديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مداراة الناس صدقة)69.
وقال أبو حامد الغزالي « الناس ثلاثة: أحدهم مثل الغذاء لا يستغنى عنه. والأخر مثل الدواء يحتاج اليه في وقت دون وقت. والثالث: مثل الداء لا يحتاج اليه لكن العبد اذا ابتلي به وهو الذي لا أنس فيه ولا نفع فتجب مداراته الى الخلاص منه70.
ومعنى الحديث: أن المداراة واللين والتعطف تكون صدقةً على صاحبها إذا ابتلي الرجل بمخالطة الناس معاملةً ومعاشرةً فألان جانبه معهم وتلطف ولم ينفر منهم71.
لما كانت المداراة رأس العقل صارت بدهيًا من الحكمة والذكاء.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال « رأس العقل بعد الايمان بالله مداراة الناس»72.
والمداراة يبتغى بها رضى الناس وتأليفهم في حدود ما ينبغي أن يكون، فلا يبعدك عنها قضاء بالقسط أو إلقاء نصيحة في رفق. والمداراة ترجع الى ذكاء الشخص وهو الذي يراعي في مقدارها وطريقتها ما ينبغي أن يكون ولأسباب العداوة مدخل في تفاوت مقادير المداراة واختلاف طرقها73.
والمداراة من أخلاق الأنبياء عليهم السلام.
قال شعيب عليه السلام لقومه: (ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ) [هود: ٨٤ - ٨٨].
وقال نوح لقومه: (ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ) [هود: ٢٨ - ٣١].
أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالمداراة وفعله إياها.
فقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنا لنكشر في وجوه القوم وقلوبنا تلعنهم) 74.
وفي رواية أخرى ما يؤيد ذلك، فعن جرير ابن عبد الله قال: (جاء ناسٌ من الأعراب الى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: إن ناسًا من المصدقين يأتونا فيظلمونا، قال فقال: «أرضوا مصدقيكم»، فقالوا: يا رسول الله وإن ظلمونا ؟ قال: «أرضوا مصدقيكم» وزاد عثمان و«إن ظلمتم») 75.
قال تعالى: (ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ) [فصلت: ٣٤].
« يقول ابن عباس رضي الله عنهما في تفسيرها: أمر الله المؤمنين بالصبر عند الغضب والحلم عند الجهل والعفو عند الإساءة فإذا فعلوا ذلك عصمهم الله من الشيطان وخضع لهم عدوهم كأنه ولي حميم » 76.
ثانيًا: صور من المداهنة المشروعة:
الصورة الأولى: المداراة بالكلمة اللينة والقول الحسن، كما في قوله تعالى: (ﯦ ﯧ ﯨ) [البقرة:٨٣].
«فينبغي على الإنسان عند تعامله مع الناس، ودعوتهم إلى الخير أن يخاطبهم بالطيب من الكلام مبتعدًا عن الألفاظ والكلمات النابية، من اللعن والسب والشتم، والإغلاظ في القول، متأسيًا برسول الله صلى الله عليه وسلم في معاملاته مع الناس، وسأكتفي بذكر بعض الأحاديث الدالة على أهمية الكلمة اللينة، والكلام الحسن، وأنهما من أفضل الأعمال عند الله سبحانه، وبهما ترتفع درجة العبد عند ربه عز وجل وينال بهما إذا أضيفا إلى بقية أعماله الصالحة رضوان الله سبحانه والفوز بالجنة.
فعن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا عدوى، ولا طيرة، ويعجبني الفأل، الكلمة الحسنة والكلمة الطيبة) 77.
وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه من حديث طويل رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم لما سأله ربه عز وجل عن الدرجات. قال: (أي: الله سبحانه) وما الدرجات؟ قلت: إطعام الطعام، ولين الكلام، والصلاة والناس نيام)78.
وللكلمة الطيبة في النفوس مفعول أكثر من إعطائها المال، فعن عروة بن الزبير بن العوام قال: مكتوب في الحكمة: لتكن كلمتك طيبة، وليكن وجهك بسطا تكن أحب إلى الناس ممن يعطيهم العطاء79.
وفي المقابل فإن للكلمة السيئة أثرًا في نفوس السامعين، فقد تؤدي إلى الوقوع في أعراض الناس وغيبتهم، ونسبتهم إلى ما هو غير كائن، كما يفهم ذلك من مفهوم الآيات والأحاديث السابقة.
والأحاديث النبوية، وأقوال أهل العلم كثيرة في هذا الموضوع تبين أهمية الكلمة الطيبة وأثرها على الأفراد والجماعات.
الصورة الثانية: المداراة بطلاقة الوجه والبشر: التبسم والضحك والانبساط، ومن ذلك ما روي عن أبي الدرداء أنه قال: (إنا لنكشر في وجوه أقوام، وإن قلوبنا لتلعنهم)80.
ونكشر في وجوه القوم: أي: نبسم في وجوههم. وكاشره: إذا ضحك في وجهه وباسطه81.
وكان عليه الصلاة والسلام كما ثبت في بعض الأحاديث، إذا لقي رجلًا هاشًا باشًا صافحه وأقبل عليه. روى عكرمة قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا لقي الرجل فرأى في وجهه البشر صافحه)82.
ولقد عد الرسول صلى الله عليه وسلم التبسم من الصدقة، فعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(تبسمك في وجه أخيك صدقة)83.
ويلحق بطلاقة الوجه والبشر، الترحيب بالفاجر وإلانة الكلام له.
فعن عبدالرحمن بن جابر بن عتيك عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (سيأتيكم ركيب مبغضون. فإذا جاءوكم فرحبوا بهم، وخلوا بينهم وبين ما يبتغون، فإن عدلوا فلأنفسهم، وإن ظلموا فعليها، وأرضوهم فإن تمام زكاتكم رضاهم وليدعوا لكم)84 .
هذه الأدلة وأمثالها تبين لنا أهمية طلاقة الوجه والبسمة والضحك في إقامة بعض الروابط والعلاقات الاجتماعية بين الناس.
الصورة الثالثة: المداراة بالعطايا والهبات
الإحسان إلى الداخلين في الإسلام حديثا، إنما شرع لتحبيبهم في الإسلام وجذبهم إليه، واستبعادهم عن الشرك، ولذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم يحسن إليهم بالقول والفعل، بالكلمة الطيبة، والملاطفة والانبساط في وجوههم، أو بإعطائهم مالًا، أو عقارًا تأليفًا لقلوبهم، ليحسن إسلامهم والحوادث التي تدل على ذلك من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم كثيرة أذكر طرفًا منها:
بعد غزوتي حنين والطائف حيث حسن إسلام أكثر المؤلفة قلوبهم وانخرطوا في الجهاد يدافعون عن الإسلام ويتمنون الشهادة في سبيل الله، بل وانقلب بغضهم الشديد للرسول صلى الله عليه وسلم إلى حبٍ سيطر على قلوبهم وعقولهم فعن صفوان قال: (والله لقد أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطاني، وإنه لأبغض الناس إلي، ما برح يعطيني حتى إنه لأحب الناس إلي)85.
وتظهر حكمة مداراة الرسول صلى الله عليه وسلم للأنصار عندما غضبوا من طريقة توزيع الغنائم بعد غزوة الطائف. قال لهم: (أما ترضون أن يذهب الناس بالدنيا، وتذهبون أنتم برسول الله تحوزونه إلى بيوتكم؟ قالوا: بلى يا رسول الله رضينا. فقال: لو سلك الناس واديًا وسلكت الأنصار شعبًا لأخذت شعب الأنصار). وفي رواية أخرى: (ألا ترضون أن يذهب الناس بالشاء والإبل وتذهبون برسول الله إلى رحالكم. الأنصار شعار والناس دثار ولولا الهجرة لكنت امرًا من الأنصار)86 .
الصورة الرابعة: المداراة بالنصيحة والدعاء للحكام.
و المقصود هنا، كيف نتعامل مع الحكام سواء أكانوا من الكفار أم من المسلمين، وكيف نتعامل مع الفجار، والفسقة وأضرابهم من الناس، إما لجلبهم للدين، أو ردهم عن الظلم والتجبر وأكل أموال الناس بالباطل، أو اتقاء شرهم وفحشهم، أو إبعادهم عن غيهم وفسادهم.
لا شك أن هذا الأسلوب لا يكون إلا بالطرق الطيبة الحكيمة مثل الكلام اللطيف، والابتسامة الرقيقة، والتنبيه على الأخطاء برفق ولطف، وأسلوب حسن، والدعاء لهم بالهداية والتوفيق، وأن يعينهم الله على ترك الباطل، وإقامة الحق، والتعاون معهم على الخير. وإذا ما تم ذلك فقد يضمحل الشر في نفوسهم، أو يزول، ويكثر الخير، وأيضًا عدم التشهير بعيوبهم، والتشنيع عليهم على رؤوس الأشهاد لما فيه من الفساد والفتنة والاقتتال، وسفك الدماء. ولا يخفى ما فعله الخارجون على الخليفة عثمان رضي الله عنه حينما أنكروا عليه بعض أعماله علنًا، فأدى ذلك إلى الاقتتال، والفتنة بين المسلمين، وتفريق وحدتهم وجماعتهم.
ويفهم أيضًا من قوله تعالى لموسى وهارون - عليهما السلام - عندما أمرهما سبحانه: بالذهاب إلى فرعون، ودعوته للحق قال سبحانه (ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ) [طه: ٤٤].
ويفهم أيضًا من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم في كيفية معاملة الأمراء لمصلحة حقن دماء المسلمين ومنع سفكها بغير حق فعن أم سلمة رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ستكون أمراء فتعرفون وتنكرون، فمن عرف برئ ومن أنكر سلم، ولكن من رضي وتابع. قالوا: أفلا نقاتلهم. قال: لا ما صلوا). وفي رواية: (قلنا: يا رسول الله أفلا ننابذهم عند ذلك، قال: لا ما أقاموا فيكم الصلاة، لا ما أقاموا فيكم الصلاة، إلا من ولي عليه وال فرآه يأتي شيئًا من معصية الله، فليكره ما يأتي من معصية الله، ولا ينزعن يدا من طاعة)87.
قال النووي: «أمرنا الرسول صلى الله عليه وسلم بالصبر عليهم، وإن ظلموا وأكلوا أموال الناس بالباطل، واللين معهم مع كراهة أفعالهم بقلوبنا للبراءة من الإثم إذا لم نستطع أن نغير المنكر باليد واللسان»88.
الصورة الخامسة: المداراة بالصحبة الجميلة والمعاشرة الحسنة.
الأسرة قائمة على المودة والرحمة، والإحسان، والمعروف. حتى في أشد الحالات وأصعبها، كالطلاق مثلًا.
يقول تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦﭧ) [البقرة: ٢٣١].
والعلاقات الأسرية، وبخاصة بين الزوجين ينبغي أن يسودها اللين، والمجاملة، والعطف، والإغضاء عن الهفوات، والصبر على الأذى، للمحافظة على تماسك الأسرة، وصفاء جوها.
يقول تعالى: (ﯢ ﯣﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ) [النساء: ١٩].
والعشرة بين الزوجين، كما هو معلوم تكون بالقول والفعل، والصحبة الجميلة وبذل الإحسان، وحسن المعاملة، والرفق، وكف الأذى، وعدم إظهار الكراهة وغير ذلك. ويفعل ذلك كله بإقبال وبشر وطلاقة وجه.
ولعل الحكمة من مجاهدة النفس والتخلق بالأخلاق الجميلة، هو زوال الكراهة بين الزوجين لتخلفها المحبة بينهما89.
والأدلة من السنة النبوية الكريمة، المؤكدة على حسن معاشرة الرجل لزوجته والوصاة بها كثيرة.
روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (المرأة كالضلع. إن أقمتها كسرتها، وان استمعت بها استمعت بها وفيها عوج)90.
وفي لفظ آخر عنه: (إن المرأة خلقت من ضلع، لن تستقيم لك على طريقة، وإن استمتعت بها استمتعت بها وفيها عوج) 91.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر. فلا يؤذ جاره، واستوصوا بالنساء خيرا. فإنهن خلقن من ضلع، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وان تركته لم يزل أعوج فاستوصوا بالنساء خيرًا)92.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (استوصوا بالنساء خيرًا) كأن فيه رمزًا إلى التقويم برفق بحيث لا يبالغ فيه فيكسر، ولا يتركه فيستمر على عوجه والمراد أن يتركها على اعوجاجها في الأمور المباحة، وأن لا يتركها على الاعوجاج إذا تعدت ما طبعت عليه من النقص، إلى تعاطي المعصية بمباشرتها أو ترك الواجب93.
ففي هذه الأحاديث، الندب إلى المداراة لاستمالة النفوس وتألف القلوب، وفيها: سياسة النساء بأخذ العفو منهن، والصبر على عوجهن. وأن من رام تقويمهن فاته الانتفاع بهن. مع أنه لا غنىً للإنسان عن امرأة يسكن إليها، ويستعين بها على معاشه، فالاستمتاع بها لا يتم إلا بالصبر عليها94.
ومن هديه صلى الله عليه وسلم في المداراة أنه كان يرسل الجواري إلى عائشة - رضي الله عنها - يلاعبنها بالبنات (اللعب) فعن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تلعب بالبنات عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: وكانت تأتيني صواحبي فكن ينقمعن من رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالت: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسربهن إلي)95.
ومن هديه صلى الله عليه وسلم أيضا أنه كان يصلح بينهن حال خصومتهن من غيرة ونحوها. فعن أنس رضي الله عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم عند بعض نسائه فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين بصحفة فيها طعام. فضربت التي النبي صلى الله عليه وسلم في بيتها يد الخادم فسقطت الصحفة فانفلتت، فجمع النبي صلى الله عليه وسلم فلق الصحفة، ثم جعل يجمع فيها الطعام الذي كان في الصحفة ويقول: غارت أمكم. ثم حبس الخادم حتى أتى بصحفة من عند التي هو في بيتها، فدفع الصحفة الصحيحة إلى التي كسرت صحفتها، وأمسك المكسورة في بيت التي كسرت فيه)96.
وقد أباح النبي صلى الله عليه وسلم الكذب بين الزوجين، لمصلحة التآلف.
فعن ابن شهاب أن حميد بن عبدالرحمن أخبره أن أمه أم كلثوم بنت عقبة أخبرته أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس ويقول خيرًا وينمي خيرًا).
قال ابن شهاب: ولم أسمع يرخص في شيء مما يقول الناس كذب إلا في ثلاث: الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته، وحديث المرأة زوجها»97.
ولقد علمنا الرسول صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة كيفية التعامل مع الأبناء والصغار، أذكر منها على سبيل المثال لا الحصر.
ما روته عائشة رضي الله عنها قالت: (قدم ناس من الأعراب على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: أتقبلون صبيانكم؟ فقال: نعم، قالوا: لكنا والله ما نقبل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أو أملك إن كان الله نزع من قلوبكم الرحمة)98.
وأرشدنا الرسول صلى الله عليه وسلم كذلك إلى الإحسان إلى البنات والصبر عليهم فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من رجل تدرك له ابنتان فيحسن إليهما، ما صحبتاه، أو صحبهما إلا أدخلتاه الجنة)99.
وعن عقبة بن عامر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من كان له ثلاث بنات، فصبر عليهن وأطعمهن وسقاهن وكساهن من جدته. كن له حجابًا من النار يوم القيامة) 100.
وفي الباب أحاديث كثيرة تبين كيفية مداراته صلى الله عليه وسلم للصغار من حيث التحبب إليهم وملاينتهم وملاعبتهم، والتجاوز عن هفواتهم وأخطائهم، والدعاء لهم. ومعلوم كيف كان صلى الله عليه وسلم يعامل الأطفال الصغار، وينهي عن زجرهم إذا ما ارتكبوا خطأ ما. وبلغ من مداراته صلى الله عليه وسلم لهم أنه حمل جارية صغيرة على عنقه في الصلاة. فعن أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه قال: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يؤم الناس وأمامة بنت أبي العاص وهي ابنة زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم على عاتقه، فإذا ركع وضعها، وإذا رفع من السجود أعادها)101.
سبق وأن ذكرنا أن المداهنة المحرمة نوع من أنواع الموالاة للكفار؛ لأن المداهن إنما خالف بصنيعه هذا نهج الرسل وأتباعهم وهو بالإضافة إلى تركه واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ معينٌ على إشاعة المنكر في المجتمع لأن الظلمة والفجرة إذا رأوا ذلك زادوا في فجورهم ولعل لهذا وغيره استحق المداهن اللعن في كل ملة؛ لأنه كان - فوق كل ما تقدم - يزين القبيح ويقبح المليح. وهذا كله أدعى لأن نقف على الأسباب المؤدية لهذا التردي المهلك وصورٍ منها من خلال ما يلي:
أولًا: أسباب المداهنة المحرمة:
وقد حكى القران الكريم ذلك في قوله تعالى: (ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ) [النساء: ١١٣].
ولما كانت المداهنة كما تقدم محرمة، عصم الله بفضل منه ورحمة نبيه صلى الله عليه وسلم منها لأنها ضلال وإضلال، وكذلك عصمة غيره إنما هي فضل من الله ورحمة من باب أولى.
قال الرازي في تفسير قوله تعالى: (ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ) «والمعنى: ولولا أن الله خصك بالفضل وهو النبوة، وبالرحمة. وهي: العصمة لهمت طائفةٌ منهم أن يضلوك، وذلك لأن قوم طعمة كانوا قد عرفوا أنه سارق، ثم سألوا النبي عليه السلام أن يدفع ويجادل عنه ويبرئه عن السرقة، وينسب تلك السرقة إلى اليهودي، ومعنى يضلوك أي: يلقوك في الحكم الباطل الخطأ - وهو التواطؤ معهم - ثم قال تعالى: (ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ) بسبب تعاونهم على الإثم والعدوان، وشهادتهم بالزور والبهتان، فهم لما أقدموا على هذه الأعمال فهم الذين يعملون عمل الضالين. ثم قال تعالى: (ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ) أي: وما يضرونك في المستقبل، فوعده الله تعالى في هذه الآية بإدامة العصمة له مما يريدون من إيقاعه في الباطل. أو المعنى أنهم وإن سعوا في إلقائك في الباطل فأنت ما وقعت في الباطل؛ لأنك بنيت الأمر على ظاهر الحال، وأنت ما أمرت إلا ببناء الأحكام على الظواهر»102.
حقًا من لم يعرف الشر يقع فيه. لذا كان حذيفة رضي الله عنه يسأل عن الشر مخافة أن يدركه» 103، وكيما يعرفه فيتقيه ومن ذلك رذائل الأخلاق وأرذلها المداهنة، فيلزم كل أحد أن يعرفها وحدودها وأسبابها وكيفية اجتنابها وطرق علاجها إن وقع في شيء منها قل أو كثر.
يقول صاحب رد المحتار على الدر المختار: « واعلم أن تعلم الإخلاص وتعلم الحذر من العجب والحسد والرياء فرض عين. ومثلها غيرها من آفات النفوس: كالكبر والشح والحقد والغش والغضب والعداوة والبغضاء والطمع والبخل والبطر والخيلاء والخيانة والمداهنة والاستكبار عن الحق والمكر والمخادعة والقسوة وطول الأمل ونحوها مما هو مبين في ربع المهلكات من الإحياء قال فيه: ولا ينفك عنها بشر، فيلزمه أن يتعلم منها ما يرى نفسه محتاجًا إليه، وإزالتها فرض عين ولا يمكن إلا بمعرفة حدودها وأسبابها وعلاماتها وعلاجها، فإن من لا يعرف الشر يقع فيه» 104.
الإمارة حسرة وندامة يوم القيامة، فنعمت المرضعة وبئست الفاطمة؛ لأنه إذا فطم عنها وعزل منها وكان قد ذاق لذة الإمارة بما فيها من جاه ونفاذ الأمر وغير ذلك، ربما لا يصبر الضعيف على ألم الفطام، فيداهن ويترخص، ويبيع من دينه ما يظن أنه سيحفظ عليه ولايته وجاهه وسلطانه، فهذا من الضعيف بمكان، وهذا يمنع من الإمارة ويزجر عنها زجرًا، لأنه أفسد لدينه من الذئب الجائع إذا أرسل في زريبة الغنم.
والأحاديث في النهي عن الحرص على الإمارة كثيرة.
فعن عبد الرحمن بن سمرة قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عبد الرحمن لا تسأل الإمارة، فإنك إن أعطيتها عن مسألة، أكلت إليها، وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها) 105.
وعن أبي ذرٍ رضي الله عنه قال: (قلت: يا رسول الله ألا تستعملني ؟ قال: فضرب بيده على منكبي، ثم قال: (يا أبا ذر إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خذيٌ وندامة، إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها)106.
قال الغزالي: « ومن جرب نفسه فرآها صابرةً على الحق، كافةً عن الشهوات في غير الولايات، ولكن خاف عليها أن تتغير إذا ذاقت لذة الولاية، وأن تستحلي الجاه، وتستلذ نفاذ الأمر، فتكره العزل فيداهن خيفةً من العزل، فهذا قد اختلف العلماء في أنه هل يلزمه الهرب من تقليد الولاية أم لا؟ فقال القائلون: لا يجب؛ لأن هذا خوف أمرٍ في المستقبل، وهو في الحال لم يعهد نفسه إلا قوية في ملازمة الحق، وترك لذات النفس، والصحيح أن عليه الاحتراز؛ لأن النفس خداعة، مدعيةٌ للحق، واعدةٌ للخير، فلو وعدت بالخير جزمًا لكان يخاف عليها أن تتغير عند الولاية، وإذا أظهرت التردد والامتناع عن قبول الولاية؛ لكان أهون من العزل منها بعد الشروع فيها. فالعزل مؤلم، وهو كما قيل «العزل طلاق الرجال» فإذا شرع لا تسمح نفسه بالعزل، وتميل نفسه إلى المداهنة، وإهمال الحق، وتهوي به في قعر جهنم، ولا يستطيع النزوع منه إلى الموت إلا أن يعزل قهرًا107.
أما القضاء فحكمه حكم الإمارة، لا ينبغي أن يتقلده الضعفاء ممن لهم تعلق بالدنيا وله في قلوبهم قيمة ووزن، فإن رأى من نفسه ذلك أو أنه لا يحظى بهذا المنصب أو الاستمرار فيه إلا بمداهنة السلاطين الظلمة، وإهمال وترك بعض حقوق المسلمين لأجلهم، فليس له أن يتقلد القضاء.
قال الغزالي: وأما القضاء فهو وإن كان دون الخلافة والإمارة، فهو في معناها فإن كل ذي ولاية أمير، أي: له أمرٌ نافذ، والإمارة محبوبة بالطبع، والثواب في القضاء عظيم مع اتباع الحق، والعقاب فيه أيضًا عظيم مع العدول عن الحق.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (القضاة ثلاثة: قاضيان في النار، وقاضٍ في الجنة) 108.
وقال عليه السلام: (من استقضى فقد ذبح بغير سكين)109.
فحكمه حكم الإمارة، ينبغي أن يتركه الضعفاء، وكل من كانت الدنيا ولذاتها لها وزن في عينه، وليتقلده الأقوياء الذين لا تأخذهم في الله لومة لائم، ومهما كان السلاطين ظلمة، ولم يقدر القاضي على القضاء إلا بمداهنتهم، وإهمال بعض الحقوق لأجلهم، وأجل المسلمين المتعلقين بهم، إذ يعلم أنه لو حكم عليهم بالحق لعزلوه، أو لم يطيعوه، فليس له أن يتقلد القضاء، وإن تقلده فعليه أن يطالبهم بالحقوق، ولا يكون خوف العزل عذرًا مرخصًا له في الإهمال أصلًا، بل إذا عزل سقطت العهدة، فينبغي أن يفرح بالعزل إن كان يقضي لله، فإن لم تسمح نفسه بذلك، فهو إذن يقضي لاتباع الهوى والشيطان، فكيف يرتقب عليه ثوابًا وهو مع الظلمة في الدرك الأسفل من النار 110 ؟!
الوعظ والفتوى والتدريس حكمه حكم الإمارة والقضاء، فمن لم يكن نيته في ذلك إلا طلب الجاه والشرف والمنزلة في قلوب الناس والأكل بالدين بأي صورة كانت، والتفاخر والتكاثر والتنافس، فينبغي أن يترك ذلك ويخالف هواه في ذلك كله إلى أن يأمن على نفسه من هذه الفتن، ويكون نيته وهمته هداية الخلق، ويقوى على ذلك.
قال الغزالي: وأما المواعظ والفتوى والتدريس ورواية الحديث وجمع الأسانيد، وكل ما يتسع بسبببه الجاه، ويعظم به القدر، فآفته أيضًا مثل آفة الولايات، وقد كان الخائفون من السلف يتدافعون الفتوى ما وجدوا إليه سبيلًا، فمن لا باعث له إلا طلب الجاه والمنزلة، والأكل بالدين والتفاخر والتكاثر، فينبغي أن يتركه، ويخالف الهوى فيه، إلا أن ترتاض نفسه، وتقوى في الدين همته، ويأمن على نفسه الفتنة، فعند ذلك يعود إليه111.
ومعلوم أن السلطة والإمارة لو تعطلت لبطل الدين والدنيا جميعًا، وثار القتال بين الخلق، وزال الأمن، وخربت البلاد، وتعطلت المعايش، فلم نهي عن ذلك؟ وضرب عمر رضي الله عنه أبي بن كعب لما رأى قومًا يتبعونه، وهو في ذلك يقول: أبيٌ سيد المسلمين، وكان يقرأ عليه القرآن، فمنع من أن يتبعوه، وقال ذلك فتنة على المتبوع، ومذلة على التابع. وعمر رضي الله عنه كان بنفسه يخطب ويعظ ولا يمتنع منه112.
قد يظن البعض أن ترك الواجبات والفرائض من أسباب النجاة من الفتن كما ترك المنافقون الغزو مع الرسول بهذه الدعوى قائلين: (ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ) فرد الله دعواهم بقوله: (ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ) [التوبة: ٤٩].
لذلك؛ فإن الرسول هنا يرشد إلى المبادرة بالأعمال الصالحة ويعلل ذلك بقدوم فتن كقطع الليل تدعو الإنسان للمداهنة وبيع دينه بعرض من الدنيا قليل. عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (بادروا بالأعمال الصالحة؛ فستكون فتن كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمنًا، ويمسي كافرًا)113.
ومعنى (ويمسي مؤمنًا، ويصبح كافرًا، يبيع دينه بعرضٍ) أي: متاع وحطام من الدنيا، استئناف بياني أي: أن سبب كفره بيعه، أي: أخذه العرض في مقابلة دينه، بأن يأخذ أو يستحل مال أخيه المسلم، أو يستحل الربا والغش أو نحوه مما أجمع على تحريمه، وعلم من الدين بالضرورة114.
ومن الفتن الحرص على الأولاد، والخوف عليهم من الضياع - كما يلقي الشيطان هذا في روع الإنسان أحيانًا ليحزنه ويضعفه ويجنبه عن قول الحق، والصدع به - لهو من أعظم أسباب المداهنة، لذلك حذر النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك، فعن يعلى العامري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الولد مجبنة مبخلة)115.
حين بين لنا أن الولد مجبنة، فاحذر أن تداهن من أجله، كما قال تعالى: (ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ) [التغابن: ١٤].
ولما كان في الأمر بالمعروف؛ والنهي عن المنكر؛ والجهاد في سبيل الله من الابتلاء والمحن ما يتعرض به المرء للفتنة، صار في الناس من يتعلل لترك ما وجب عليه من ذلك بأنه يطلب السلامة من الفتنة. كما قال الله تعالى عن المنافقين: (ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ) [التوبة: ٤٩].
وقد ذكر أهل التفسير أنها نزلت في الجد بن قيس لما أمره النبي صلى الله عليه وسلم بالتجهز لغزو الروم، فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، إني رجل لا أصبر على النساء، وإني أخاف الفتنة بنساء بني الأصفر، فأذن لي، ولا تفتني116.
وهذا الجد هو الذي تخلف عن بيعة الرضوان تحت الشجرة، واستتر بجمل أحمر. وجاء فيه الحديث: (كلهم مغفور له، إلا صاحب الجمل الأحمر)117.
فأنزل الله تعالى فيه: (ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭﭮ).
يقول: إنه طلب القعود ليسلم من فتنة النساء فلا يفتتن بهن، فيحتاج إلى الاحتراز من المحظور ومجاهدة نفسه عنه. فيتعذب بذلك، أو يواقعه فيأثم. فإن من رأى الصورة الجميلة وأحبها، فإن لم يتمكن منها - إما لتحريم الشارع، وإما للعجز عنها - يعذب قلبه، وإن قدر عليها وفعل المحظور هلك. وفي الحلال من ذلك من معالجة النساء ما فيه بلاء.
فهذا وجه قول: (ﭧ ﭨ)فقال الله تعالى: (ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ) يقول: إن نفس إعراضه عن الجهاد الواجب، ونكوله عنه، وضعف إيمانه، ومرض قلبه. الذي زين له ترك الجهاد: فتنة عظيمة قد سقط فيها فكيف يطلب التخلص من فتنة صغيرة لم تصبه بوقوعه في فتنة عظيمة قد أصابته؟ والله تعالى يقول: (ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ)[البقرة: ١٩٣].
فمن ترك القتال الذي أمر الله به لئلا تكون فتنة، فهو في الفتنة ساقط، لما وقع فيه من ريب قلبه، ومرض فؤاده، وترك ما أمره الله به من الجهاد.
وينقسم الناس أمام الأمر بالمعروف على قسمين كما يوضحهما شيخ الإسلام قائلًا:
فتدبر هذا، فإنه مقام خطر، والناس فيه على قسمين:
قسم يأمرون وينهون ويقاتلون طلبًا لإزالة الفتنة كما زعموا، ويكون فعلهم ذلك أعظم فتنة، كالمقاتلين في الفتن الواقعة بين الأمة مثل الخوارج.
وأقوام ينكلون عن الأمر والنهي والقتال الذي يكون به الدين كله لله، وتكون كلمة الله هي العليا، لئلا يفتنوا، وهم قد سقطوا في الفتنة. وهذه الفتنة المذكورة في سورة «براءة» دخل فيها الافتتان بالصور الجميلة، فإنها سبب نزول الآية. وهذه حال كثيرٍ من المتدينة، يتركون ما يجب عليهم من أمرٍ ونهيٍ، وجهادٍ، يكون به الدين كله لله. وتكون كلمة الله هي العليا، لئلا يفتنوا بجنس الشهوات، وهم قد وقعوا في الفتنة التي هي أعظم مما زعموا أنهم فروا منها. وإنما الواجب عليهم القيام بالواجب من الأمر وترك المحظور. والقيام بالواجب وترك المحظور متلازمان، لكون نفوسهم لا تطاوعهم إلا على فعلهما جميعًا أو تركهما جميعًا 118.
إن الصداقة والصحبة إذا كانت على غير الله وفي غير مرضاته يدخل على دين المرء من الفساد بسببها ما لا يعلمه إلا الله، ذلك لأنهم ما صاحبوه إلا ليعاونهم على أغراضهم وهم يقصدون بذلك إفساد دينه، وإن لم يفعل انقلبوا عليه أعداءً، عداوة تضاعف عداوة أعدائه؛ لأنهم شاهدوا منه ما لم يشاهده أعداؤه، وإن لم يحب مفارقتهم احتاج إلى مداهنتهم ومساعدتهم على ما يريدون وإن كان فيه فساد دينه.
وفيمن يحب صاحب «بدعة» لكونه داعية إلى تلك البدعة يحوجه إلى أن ينصر الباطل الذي يعلم أنه باطل وإلا عاداه، ولهذا صار علماء الكفار وأهل البدع مع علمهم بأنهم على الباطل ينصرون ذلك الباطل: لأجل الأتباع والمحبين ويعادون أهل الحق ويهجنون طريقهم، فمن أحب غير الله ووالى غيره كره محب الله ووليه، ومن أحب أحدًا لغير الله كان ضرر أصدقائه عليه أعظم من ضرر أعدائه: فإن أعداءه غايتهم أن يحولوا بينه وبين هذا المحبوب الدنيوي، والحيلولة بينه وبين رحمة في حقه، وأصدقاؤه يساعدونه على نفي تلك الرحمة وذهابها عنه، فأي صداقة هذه؟! ويحبون بقاء ذلك المحبوب ليستعملوه في أغراضهم وفيما يحبونه وكلاهما ضرر عليه.
قال تعالى: (ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ) [البقرة: ١٦٦]119.
قال الفضيل بن عياض عن ليث عن مجاهد: هي المودات التي كانت لغير الله، والوصلات التي كانت بينهم في الدنيا (ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ) [البقرة: ١٦٧].
فالأعمال التي أراهم الله حسرات عليهم: هي الأعمال التي يفعلها بعضهم مع بعض في الدنيا وكانت لغير الله، ومنها الموالاة والصحبة والمحبة لغير الله. فالخير كله في أن يعبد الله وحده لا يشرك به شيئًا ولا حول ولا قوة إلا بالله120.
اعلم أن من خاف الله تعالى في الناس كان محسنًا إلى الناس وإلى نفسه لأن خوف الله يحمله على أن يعطيهم حقهم ويكفهم عن ظلمهم، ومن خاف الناس ولم يخف الله فهذا ظالم للناس ولنفسه لأنه إذا خافهم دون الله تعالى احتاج إلى أن يدفع شرهم عنه بكل وجه، إما بمداهنتهم ومراءاتهم، وإما بمقابلتهم بشيء من الشر أعظم من شرهم أو مثله.
قال شيخ الإسلام121: «فالتوحيد ضد الشرك فإذا قام العبد بالتوحيد الذي هو حق الله فعبده لا يشرك به شيئًا كان موحدًا، ومن توحيد الله وعبادته؛ التوكل عليه، والرجاء له والخوف منه، فهذا يخلص به العبد من الشرك وإعطاء الناس حقوقهم، وترك العدوان عليهم يخلص به العبد من ظلمهم ومن الشرك بهم، وبطاعة ربه واجتناب معصيته يخلص العبد من ظلم نفسه، وقد قال تعالى في الحديث القدسي: (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين)122.
فالنصفان يعود نفعهما إلى العبد والله يحب النصفين، ويحب أن يعبدوه. وما يعطيه الله العبد من الإعانة والهداية هو من فضله وإحسانه وهو وسيلة إلى ذلك المحبوب وهو إنما يحبه لكونه طريقًا إلى عبادته والعبد يطلب ما يحتاج أولًا وهو محتاج إلى الإعانة على العبادة وإلى الهداية إلى الصراط المستقيم.
ثم إذا طلب العبادة: فإنما يطلبها من حيث هي نافعة له محصلة لسعادته محصنة له من عذاب ربه فلا يطلب العبد قط إلا ما فيه حظ له وإن كان الرب يحب ذلك فهو يطلبه من حيث هو ملائم له فمن عبد الله لا يشرك به شيئًا: أحبه وأثابه فيحصل للعبد ما يحبه من النعم تبعًا لمحبوب الرب. أ.هـ
ثانيًا: صور من المداهنة المحرمة:
اعتبر السلف الصالح الدخول على الظلمة وتوقيرهم والثناء عليهم ومحبتهم، نوعًا من الركون والمداهنة لهم، واستدلوا لذلك بقول الله تعالى: (ﯭ ﯮ ﯯ ﯰﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶﯷ ﯸ ﯹﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ) [المائدة:٢].
وقوله: (ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ) [هود: ١١٣].
وما ثبت في «الصحيحين» عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم لما مر بالحجر قال: (لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم إلا أن تكونوا باكين أن يصيبكم ما أصابهم، ثم قنع رأسه، وأسرع السير، حتى اجتاز الوادي)123.
قال ابن حجر: ووقع عند ابن أبي شيبة من طريق أبي الشعثاء قال: دخل قوم على ابن عمر فوقعوا في يزيد بن معاوية فقال: «أتقولون هذا في وجوههم؟ قالوا: بل نمدحهم ونثني عليهم» وفي رواية عروة بن الزبير عن الحارث بن أبي أسامة والبيهقي قال: «أتيت ابن عمر فقلت: إنا نجلس إلى أئمتنا هؤلاء فيتكلمون في شيء نعلم أن الحق غيره فنصدقهم، فقال: كنا نعد هذا نفاقًا، فلا أدري كيف هو عندكم؟! لفظ البيهقي في رواية الحارث «يا أبا عبدالرحمن، إنا ندخل على الإمام يقضي بالقضاء نراه جورًا فنقول: تقبل الله، فقال: إنا نحن معشر محمد» فذكر نحوه. اهـ 124.
وقد قرر أهل العلم أن الرجل إن كان مستغنيًا عن الدخول على من يضطره الحال إلى الثناء عليه فدخل وأثنى عليه بغير ما يعلم، كان نفاقًا أما إن اضطر إلى الدخول على ذي قوة، لا يخلص من بأسه إلا أن يسمعه شيئًا من الإطراء فهو سعة من يطريه بمقدار ما يخلص من بأسه، ولا تلحقه هذه الحالة الشاذة بزمرة المداهنين ومما يحكى في هذا الإطار ما حصل حين انهزم جيش السلطان فرج بن برقوق أمام جيش الطاغية تيمورلنك، ووقع طائفة من العلماء في أسر الطاغية، ومن هذه الطائفة ابن خلدون، فكان من هذا الفيلسوف أن تقدم إلى تيمورلنك، وقال فيما حادثه به: «إني ألفت كتابًا في تاريخ العالم، وحليته بذكرك، وما أسفي إلا على هذا الكتاب الذي أنفقت عمري فيه، وقد تركته بمصر، وإن عمري الماضي ذهب ضياعًا، حيث لم يكن في خدمتك، وتحت ظل دولتك، والآن أذهب فآتي بهذا الكتاب، وأرجع سريعًا، حتى أموت في خدمتك، فأطلق سبيله، فقدم مصر، ولم يعد إليه»125.
ومن صور المداهنة بل من أسوئها أن يلقى المداهن الرجلين المتعاديين كلًا منهما على حدة فيظهر لكل واحد منهما الرضا عن موقفه من عداوته للآخر، وأنه هو المحق والآخر هو المخطئ، والأمر لا شك على خلاف فأحدهما المخطئ والآخر المصيب، مع ذلك قد صوب مسلك هذا المخطئ وخطأ مسلك المصيب، وهذه مداهنة محرمة.
عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن شر الناس ذو الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه)126.
قال ابن عبد البر: هذا حديث ظاهره كباطنه وباطنه كظاهره في البيان عن ذم من هذه حاله، وقد تأوله قوم على أنه الذي يرائي بعمله ويري للناس خشوعًا واستكانة ويوهمهم أنه يخشى الله حتى يكرموه وليس في الحقيقة كذلك كما يظهر.
وقال النووي في توجيه الحديث: سببه ظاهر؛ لأنه نفاق محض وكذب وخداع وتحيل على اطلاعه على أسرار الطائفتين، وهو الذي يأتي كل طائفة بما يرضيها ويظهر لها أنه منها في خير أو شر وهي مداهنة محرمة ثم ذكر الحديث بعد ذلك وبوب عليه «باب: ذم ذي الوجهين وتحريم فعله» قال: والمراد من يأتي كل طائفة ويظهر أنه منهم ومخالف للآخرين مبغض فإن أتى كل طائفة بالإصلاح ونحوه فمحمود.
قال الأستاذ محمد خضر حسين: « ومن أسوأ ما يفعل المداهن أن يلاقي الرجلين بينهما عداوة، فيظهر لكل واحد منهما الرضا عن معاداته لصاحبه و يوافقه على دعوى أنه الحق، وصاحبه هو المبطل، وفي مثل هذا ورد قوله صلى الله عليه وسلم: (تجد من شرار الناس يوم القيامة عند الله ذا الوجهين، الذي يأتي هؤلاء بوجه، وهؤلاء بوجه)127.
فيتخذ الرجل وجهين متى كان يطمع إلى ما في أيدي الناس من متاع، أو كان يطمع في إرضاء طوائف على تباعد ما بينهم من نزعات، وعلى شدة ما بينهم من اختلاف، والعبور إلى النفع على جسر من المداهنة، يحرم صاحبه من أعز متاع هو الصدق، بعد أن يحرمه من أطيب لذة هي ارتياح الضمير، ومن كان حريصًا على أن يكون صديق الطوائف المتباينة، فإن الطيب منهم يأبى أن يلوث صدره بصداقة من يتملق الخبيث 128.
فائدة:
الجمع بين هذه الصورة وقوله صلى الله عليه وسلم: (بئس أخو العشيرة):
قال العراقي: (فإن قلت): كيف الجمع بين هذا الحديث وبين الحديث الآخر الثابت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها: (أن رجلًا استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ائذنوا له فبئس أخو العشيرة) فلما دخل ألان له القول فقلت: يا رسول الله، قلت له الذي قلت ثم ألنت له القول؟! قال: (يا عائشة إن شر الناس منزلة عند الله يوم القيامة من تركه الناس اتقاء فحشه)129.
قلت: لا منافاة بينهما فإنه عليه الصلاة والسلام لم يثن عليه في وجهه ولا قال كلامًا يضاد ما قال له في حقه في غيبته، إنما تألفه بشيء من الدنيا مع لين الكلام له، وإنما فعل ذلك تألفًا له ولأمثاله على الإسلام ولم يكن أسلم في الباطن حينئذٍ، وإن كان قد أظهر الإسلام فبين عليه الصلاة والسلام ليعرف ولا يغتر به وتألفه رجاء صحة إيمانه وقد كان منه في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وبعده ما دل على ضعف إيمانه وارتد مع المرتدين وجيء به أسيرًا إلى أبي بكر رضي الله عنه 130.
ومن صور المداهنة: إيثار رضا الخلق على رضا الله تعالى، وفي هذا سخط الله وسخط الناس.
وفي حديث عائشة مرفوعًا: (من التمس رضا الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس)131.
لهذا قيل للشافعي في علته التي مات فيها رضي الله عنه إلى من نجلس بعدك يا أبا عبدالله؟ فاستشرف له محمد بن عبد الحكم، وهو عند رأسه ليومئ إليه، فقال الشافعي: سبحان الله! أيشك في هذا؟ أبو يعقوب البويطي، فانكسر لها محمد، ومال أصحابه إلى البويطي، مع أن محمدًا كان قد حمل عنه مذهبه كله، لكن كان البويطي أفضل وأقرب إلى الزهد والورع، فنصح الشافعي لله وللمسلمين، وترك المداهنة، ولم يؤثر رضا الخلق على رضا الله تعالى132.
ومن إيثار رضا الخلق: التنازل عن واجب من واجبات الدين من أجل الوظائف.
ومثال ذلك أن يتقدم شخص ما إلى وظيفة معينة فيشترطون عليه التنازل عن بعض أمور الدين التي لا ينبغي التنازل عنها من أجل العمل، فإن أجاب فهذه مداهنة وترخص، وبذل للدين من أجل عرض دنيوي، وإن ثبته الله بقوله: (ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ) [الذاريات: ٥٨ ].
وبقوله: (ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ) [الطلاق: ٢-٣].
فسوف يرزقه من حيث لا يحتسب، ويربح الدنيا والآخرة، وإلا فسيخسر مع المداهنة الدنيا والآخرة، وذلك هو الخسران المبين.
ومن ذلك أيضًا مداهنة الحكام لأهل الباطل.
وتحدث هذه المداهنة في الواقع في كل نواحي الحياة، في الوظائف والمدارس، وغير ذلك من نواحي الحياة، وكذلك مداهنة الحكام لأهل الباطل والبغي والفساد.
فالحاكم المسلم يجب عليه موالاة أهل الإيمان ونصرتهم، وقمع أهل الباطل والبغي والفساد، وكسر شوكتهم، وقد أخذ بهذا المبدأ عبدالله بن سعود بن عبدالعزيز في رسالته التي بعث بها إلى أمراء بعض الجهات التابعة له قال فيها: (بلغنا خبر أن بعض الأمراء متسلط على أهل الدين بأمورٍ ظاهرها حق وباطنها باطل، ولا يفعل هذا أمير مع أهل الدين، فأدعه يومًا واحدًا في الإمارة، فكل يأخذ حذره، ويبدل ما كان عليه، ومضى ما فيه الكفاية) 133.
قال تعالى: (ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱﯲ ﯳ ﯴ ﯵﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ) [آل عمران: ٢٨].
ومن صور المداهنة أيضًا موالاة الكفار ومباطنتهم سواء بمودة القلب أو بنصره أو بغير ذلك.
قال البغوي: نهى الله المؤمنين عن موالاة الكفار ومداهنتهم ومباطنتهم إلا أن يكون الكفار غالبين ظاهرين، أو يكون المؤمن في قوم كفار يخافهم فيداريهم باللسان، وقلبه مطمئن بالإيمان، رفعًا عن نفسه، من غير أن يستحل دمًا حرامًا، أو مالًا حرامًا، أو يظهر الكفار على عورة المسلمين، والتقية لا تكون إلا مع خوف القتل، وسلامة النية قال تعالى: (ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ) [النحل: ١٠٦].
ثم هذه رخصة فلو صبر حتى قتل فله أجر عظيم 134.
وقال تعالى: (ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ) [المائدة: ٥١].
وفي ظلال القرآن135: « إنه لا يجتمع في قلب واحد حقيقة الإيمان بالله وموالاة أعدائه الذين يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم فيتولون ويعرضون».
ومن ثم جاء هذا التحذير الشديد، وهذا التقرير الحاسم بخروج المسلم من إسلامه إذا هو والى من لا يرتضي أن يحكم كتاب الله في الحياة، سواء كانت الموالاة بمودة القلب، أو بنصره، أو باستنصاره سواء.
قال تعالى: (ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱﯲ ﯳ ﯴ ﯵﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ) [آل عمران: ٢٨].
هكذا ليس من الله في شيء. لا في صلاة ولا نسبة، ولا دين ولا عقيدة، ولا رابطة ولا ولاية فهو بعيد عن الله، منقطع الصلة تمامًا في كل شيء تكون في الصلات.
ويرخص فقط بالتقية لمن خاف في بعض البلدان والأوقات ولكنها تقية اللسان لا ولاء القلب ولا ولاء العمل. قال ابن عباس رضي الله عنهما: «ليس التقية بالعمل إنما التقية باللسان» 136.
فليس من التقية المرخص فيها أن تقوم المودة بين المؤمن وبين الكافر -والكافر هو الذي لا يرضى بتحكيم كتاب الله في الحياة على الإطلاق، كما يدل السياق هنا ضمنًا وفي موضع آخر من السورة تصريحًا - كما أنه ليس من التقية المرخص بها أن يعاون المؤمن الكافر بالعمل في صورة من الصور باسم التقية. فما يجوز هذا الخداع على الله ! ولما كان الأمر في هذه الحالة متروكًا للضمائر ولتقوى القلوب وخشيتها من علام الغيوب، فقد تضمن التهديد تحذير المؤمنين من نقمة الله وغضبه في صورة عجيبة من التعبير حقًا:
(ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱﯲ ﯳ ﯴ ﯵﯶ ﯷ ﯸ ﯹ) ابتغاء حكم الجاهلية مداهنة وباغيه مداهن.
قال تعالى: (ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ) [المائدة: ٤٩].
والمعنى: وأن احكم بينهم بما أنزل الله إليك يا محمد من الكتاب ولا تتبع أهواءهم.
أي: ولا تتبع أهواء اليهود الذين احتكموا إليك في قتيلهم وفاجريهم، وأمر منه له بلزوم العمل بكتابه الذي أنزله إليه. واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك أي: احذر يا محمد هؤلاء اليهود الذين جاءوك محتكمين إليك أن يفتنوك، فيصدوك عن بعض ما أنزل الله إليك من حكم كتابه، فيحملوك على ترك العمل به واتباع أهوائهم. فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم.
أي: فإن تولى هؤلاء اليهود الذين اختصموا إليك عنك، فتركوا العمل بما حكمت به عليهم، وقضيت فيهم، فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم، أي: فاعلم أنهم لم يتولوا عن الرضا بحكمك وقد قضيت بالحق إلا من أجل أن الله يريد أن يتعجل عقوبتهم في عاجل الدنيا ببعض ما قد سلف من ذنوبهم. (ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ )137.
ويتمثل ذلك في حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (مثل القائم على حدود الله والواقع فيها؛ كمثل قومٍ استهموا على سفينةٍ، فأصاب بعضهم أعلاها، وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقًا ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعًا) 138.
وهذا مثلٌ بليغٌ جدًا، فهو يبين أن المصلحة مشتركة بين الجميع، وأن سلامة المؤمنين كلٌ لا يتجزأ، فإذا أخطأ بعضهم انسحب هذا الخطأ على الباقين. والتشبيه التمثيلي في قوله: (مثل القائم على حدود الله) إلخ، تشبيه معقول بمحسوس؛ حيث شبهت فيه الهيئة الحاصلة من قيام المسلمين بواجبهم في تغيير المنكر بالهيئة الحاصلة من قيام أهل السفينة بمنع من يريد خرقها من الإقدام على ما يريد، كما شبهت الهيئة الحاصلة من التقاعس عن تغيير المنكر بحال أهل السفينة إن تركوا من يريد خرقها يفعل ما يشاء. ووجه الشبه هنا صورة منتزعة من متعدد؛ وهي منتزعة في الحالة الأولى من هيئة النجاة المترتبة على قيام قوم بما يجب عليهم، وفي الحالة الثانية من هيئة الهلاك الناجم عن تقصيرهم في ما يجب عليهم؛ فكما أن أهل السفينة سينجون إن أخذوا على يد من يريد خرقها، فإن النجاة ستكون مصير الجميع في مجتمع يأخذ أهله على يد العابثين، وكما أن الغرق سيكون مصير أهل السفينة إن تركوا مريد الخرق يفعل ما يريد فإن مجتمع المداهنين الساكتين عن أهل المنكر سيؤول إلى هلاك محتم139.
كما يبين حال الناس في المجتمع وأنه لا يخلو من وجود بعض صور المنكر والفساد التي يقدم عليها ضعاف الإيمان، وقد يلتمس بعضهم لنفسه مبررًا في ما يفعل كأن يقول هذه حرية شخصية، وأنا حر أصنع في ملكي ما أشاء، فإن قام أهل الرشد بواجبهم في إنكار هذه المنكرات والأخذ على أيدي الظالمين صلح المجتمع ونجا الجميع من غضب الله عز وجل، وأما أن يتقاعسوا عن هذا الواجب وتغلبت كلمة المداهنين فإن العقوبة الإلهية تعم الجميع، وتلك سنة إلهية لا تتغير.
قال الحافظ: «وهكذا إقامة الحدود يحصل بـها النجاة لمن أقامها وأقيمت عليه، وإلا هلك العاصي بالمعصية والساكت بالرضا بها»140.
يقول سبحانه: (ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ) [الأنفال: ٢٥].
وفي حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده)141.
ومتى اتصف الداعية بهذا الوصف فسدت دعوته وسقطت من أعين الناس وجاهته، وظهرت آثار مداهنته من خلال فتاويه وأقواله وأعماله.
وقد ذكر الشيخ عبد الرحمن حبنكه بعض أفعال هؤلاء وأمثالهم ممن يتبعون أهواءهم فذكر من أعمالهم:
وفي كتاب «الدعوة إلى الإصلاح» كتب شيخ الأزهر السابق الشيخ محمد الخضر حسين يذم أخلاق المداهنين وأفعالهم فيقول رحمه الله: «فمن أهل العلم من يرى ذا جاه أو رياسة يهتك ستر الأدب، أو يعيث في الأرض فسادا، فيتغابى عن سفهه أو بغيه، ويطوي دونه التذكرة والموعظة، ابتغاء مرضاته أو حرصا على مكانة أو غنيمة ينالها لديه. ومن البلية (والكلام ما يزال لشيخ الأزهر) أن المترفين ومن ينحو نحوهم في الزيغ والغرور، لا يكتفون ممن يسوقهم الزمن إلى نواديهم أن يسكت عن جهلهم، ويتركهم وشأنهم، وإنما يرضيهم منه أن يزين لهم سوء عملهم، أو يرمقهم بعين مكحولة بتبسم الاستحسان، وهو أقل شيء يستحق به في نظرهم لقب «كيس ظريف»143.
موضوعات ذات صلة: |
السلم، السياسة، العلاقات الدولية، النفاق |
1 مقاييس اللغة، ١/٢٣١.
2 التعريفات، الجرجاني ص٩٠.
3 المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، ٦/٥٧٣.
4 إكمال المعلم شرح صحيح مسلم ٨/٢٧٣
5 انظر: المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، محمد فؤاد عبدالباقي ص ٢٦٤.
6 انظر: مقاييس اللغة، ابن فارس ٢/٣٠٨، بصائر ذوي التمييز، الفيروزآبادي ٢/٦١٢، المفردات، الراغب الأصفهاني ص ٣٢٠، عمدة الحفاظ، السمين الحلبي ٢/٢٩.
7 المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية ٢/١٠٥٢.
8 معجم المصطلحات السياسية في تراث الفقهاء، سامي الصلاحات ص ٧٠
9 المبسوط ٢٤/٤٥.
10 فتح الباري ١٢/٣١٤.
11 انظر: الموسوعة الفقهية الكويتية ١٦/١٨٦.
12 مقاييس اللغة، ابن فارس ١/٢٣١.
13 لسان العرب، ١٤/٢٥٥.
14 فتح الباري ٩ /٢٥.
15 روضة العقلاء، ابن حبان ٥٦.
16 المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، القرطبي ٦/٥٧٣.
17 الفروق، القرافي ٤/٢٣٧.
18 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص ٥٧.
19 الجامع لأحكام القرآن ٢/١٦.
20 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص٥٧، ٥٨.
21 مداراة الناس، ابن أبي الدنيا ص ٩٥.
22 مفاتيح الغيب ٣/١٥٣.
وانظر: المداراة في الاسلام، وليد السعد ص ١١.
23 مفاتيح الغيب، ٣/٨٣.
24 المداراة وأثرها في العلاقات الاجتماعية بين الناس، محمد بن سعد ص ١٠.
25 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، باب (خذ العفو)، ٦/٦٠، رقم ٤٦٤٣.
26 في ظلال القرآن ٣/١٣٦.
27 انظر: تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص ٣١٣، المداراة في الاسلام، وليد السعد ص ١١.
28 المصادر السابقة.
29 المداراة وأثرها في العلاقات الاجتماعية بين الناس، محمد بن سعد ص ١٠.
30 انظر: تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص ٣٥١، المداراة في الاسلام، وليد السعد ص١٢.
31 روح المعاني، الألوسي ١٦/١٩٥.
32 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص ٥٠٦.
33 في ظلال القرآن ٥/٧٦.
وانظر: المداراة في الاسلام، وليد السعد ص ١٦.
34 تفسير القرآن العظيم ٥/٢٩٤.
35 انظر: الجامع لأحكام القرآن ١٣/٣٥٠، تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص ٦٣٢.
36 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص ٧٤٩.
37 انظر: مداراة الناس، ابن أبي الدنياص ٥٣.
38 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الزكاة، باب بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف، رقم ١٠٠٨.
39 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب البر والصلة، باب استحباب طلاقة الوجه عن اللقاء، رقم ٢٦٢٦.
40 شرح صحيح البخاري، ابن بطال ٨/٣٢٨.
41 أخرجه البيهقي في شعب الإيمان، ٦/٢٧٠، رقم ٨١١٨.
وحسنه الألباني في صحيح الجامع، ١/٢٦٦، رقم ١٢٣١.
42 انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، ابن الأثير٤/٢٠٥.
43 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب البر والصلة والأدب، باب مداراة من يتقى فحشه، رقم ٢٥٩١.
44 فتح الباري، ابن حجر ١٠/٤٥٣.
45 المصدر السابق.
وانظر: المداراة في الاسلام، وليد السعد ص ٢١.
46 فتح الباري، ابن حجر ١٠/٤٥٤.
47 انظر: سيرة ابن هشام ٤/٣١٦.
48 انظر: جامع البيان، الطبري ٥/١١٩.
49 المفهم لما أشكل في شرح صحيح مسلم، القرطبي ٦/٣٢٣.
50 انظر: جامع البيان، الطبري ١٤/٣٧٤، التفسير الوسيط، الواحدي ٣/٨٦.
51 انظر: الكافي الشافي في تخريج أحاديث الكشاف، ابن حجر ٢/٦٣٧.
52 انظر: الجامع لأحكام القران، القرطبي ٦/٣٢٤، مفاتيح الغيب، الرازي ٧/١٢٣.
53 المبسوط، السرخسي ٢٤/٤٣.
54 المصدر السابق ٢٤/٤٤.
وانظر الموسوعة الفقهية الكويتية ١٤/١٨٤.
55 الجامع لأحكام القران ٦/٣٢٤.
56 فواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت، اللكنوي ٣/٣٢١.
57 أخرجه ابن ماجه في سننه، كتاب الفتن، باب الصبر على البلاء، رقم ٤٠٣٤.
وصححه في الإرواء، ٧/٨٩، رقم ٢٠٢٦.
58 المبسوط ٤/٤٥.
59 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الإكراه، باب من اختار الضرب والقتل والهوان على الكفر، رقم ٦٩٤٣.
60 فتح الباري، ابن حجر ١٢/١٣٩.
وانظر الموسوعة الفقهية الكويتية ١٤/١٩٠.
61 انظر: جامع البيان، الطبري ٢٩/٥٦.
62 الجامع لأحكام القران ١٢/٧٩.
63 مفاتيح الغيب، الرازي ٦/١٧٧.
64 فتح القدير ٤/٢٨٠.
65 في ظلال القرآن، سيد قطب ٥/٢٨٧٣.
66 الجامع لأحكام القران ٧/٢٣٤.
67 التحرير والتنوير ٢٨/٥٦.
68 رسائل الإصلاح، محمد الخضر حسين ص١٢٩.
69 أخرجه ابن حبان في صحيحه، ١/٣٤٧، وأبو نعيم في الحلية، ٨/٢٤٦.
وضعفه الألباني في ضعيف الجامع، ص٧٥٩، رقم ٥٢٥٥.
70 إحياء علوم الدين ٢/٣١٢.
71 انظر: التقية والمداهنة والمداراة في القران، عبد المنعم إبراهيم ص٤٥.
72 أخرجه ابن أبي الدنيا في مكارم الاخلاق ص ١٣٩.
وضعفه الألباني في ضعيف الجامع، ص٤٥٢، رقم ٣٠٧١.
73 رسائل الإصلاح، محمد الخضر حسين ص ١٣٤.
74 سبق تخريجه.
75 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الزكاة، باب إرضاء السعاة، رقم ٩٨٩.
76 انظر: جامع البيان، الطبري ٢٥ /٢٤.
77 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب السلام، باب الطيرة والفأل، رقم ٢٢٢٤.
78 أخرجه الترمذي في سننه، أبواب التفسير، باب وسورة ص، رقم ٣٢٣٥.
قال الترمذي: حديث حسن صحيح.
79 انظر: مداراة الناس، ابن أبي الدنيا ص٤٩.
80 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأدب، باب المداراة مع الناس معلقًا، ٨/٣١.
81 انظر: لسان العرب، ابن منظور ٣/٢٦١.
82 انظر: مداراة الناس، ابن أبي الدنيا ص٦٣.
83 أخرجه الترمذي في سننه، أبواب البر والصلة، باب صنائع المعروف، رقم ١٩٥٦.
قال الترمذي: حديث حسن.
وصححه الألباني في صحيح الجامع، ١/٥٦١، رقم ٢٩٠٨.
84 أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الزكاة، باب رضا المصدق، ٢/١٠٥، رقم ١٥٨٨.
وضعفه الألباني في ضعيف أبي داود، الأم، ٢/١٠٩، رقم ٢٧٨.
85 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الفضائل، باب ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا قط فقال: لا، ٤/١٨٠٦، رقم ٢٣١٣.
86 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الزكاة، باب إعطاء المؤلفة قلوبهم، رقم ١٠٦١.
87 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإمارة، باب وجوب الإنكار على الأمراء فيما يخالف الشرع وترك قتالهم ما صلوا، رقم ١٨٥٤.
88 شرح النووي على صحيح مسلم ٣/١٤٨.
89 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص ١٧٢.
90 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب النكاح، باب المداراة مع النساء، رقم ٥١٨٤.
91 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب النكاح، باب المداراة مع النساء، رقم ٥١٨٦.
92 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب النكاح، باب الوصاة بالنساء، رقم ٥١٨٥.
93 فتح الباري، ابن حجر ١٠/٢٥٣.
94 المصدر السابق.
95 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، باب في فضل عائشة أم المؤمنين، رقم ٢٤٤٠.
96 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب النكاح، باب الغيرة، رقم ٥٢٢٥.
97 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب البر والصلة، باب تحريم الكذب وبيان ما يباح منه، ٤/٢٠١١، رقم ٢٦٠٥.
98 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الفضائل، باب رحمته صلى الله عليه وسلم الصبيان والعيال، ٤/١٨٠٨، رقم ٢٣١٧.
99 أخرجه أحمد في مسنده، ٤/١٥، رقم ٢١٠٤، وابن ماجه في سننه، كتاب الأدب، باب بر الوالد والإحسان إلى البنات، ٢/١٢١٠، رقم ٣٦٧٠.
وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، ٦/٦٤٤، رقم ٢٧٧٦.
100 أخرجه أحمد في مسنده، ٢٨/٦٢٢، رقم ١٧٤٠٣، وابن ماجه في سننه، كتاب الأدب، باب بر الوالد والإحسان إلى البنات، ٢/١٢١٠، رقم ٣٦٦٩.
وصححه الألباني في صحيح الجامع، ٢/١١٠٦، رقم ٦٤٨٨.
101 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الصلاة، باب إذا حمل جارية صغيرة على عنقه في الصلاة، رقم ٥١٦.
102 مفاتيح الغيب، الرازي ٦/٣٢.
103 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الامارة، باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين، رقم ١٨٤٧.
104 رد المحتار على الدر المختار، ابن عابدين ١/٤٤.
105 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإمارة، باب النهي عن طلب الامارة والحرص عليها، رقم ١٦٥٢.
106 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإمارة، باب كراهة الامارة بغير ضرورة، رقم ١٨٢٥.
107 إحياء علوم الدين ٣/٣١٦.
108 أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الأقضية، باب في القاضي يخطئ، رقم ٣٥٧٣.
وصححه الألباني في صحيح الجامع، ٢/٨١٨، رقم ٤٤٤٦.
109 أخرجه الترمذي في سننه، أبواب الأحكام، باب ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في القاضي، رقم ١٣٢٥.
قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.
وصححه الألباني في صحيح الجامع، ٢/١٠٦٥، رقم ٦١٩٠.
110 إحياء علوم الدين ٤/١٢٠.
111 المصدر السابق ٣/٣١٦.
112 المصدر السابق ٤/١٢١.
113 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب الحث على المبادرة بالأعمال قبل تظاهر الفتن، رقم ١١٨.
114 دليل الفالحين ١/٢٩٢.
115 أخرجه ابن ماجه في سننه، كتاب الأدب، باب بر الوالد والإحسان إلى البنات، رقم ٣٦٦٦.
وصححه الألباني في صحيح الجامع، ١/٤٠٠، رقم ١٩٨٩.
116 عزاه السيوطي في الدر المنثور ٣/٤٤٣ إلى ابن المنذر والطبراني وغيرهما عن ابن عباس.
117 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، رقم ٢٧٨٠.
118 الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ابن تيمية ص٦٧ - ٧٠.
119 المصدر السابق.
120 المصدر السابق.
وانظر: التقية والمداهنة والمداراة في القران الكريم ص ٣٣٢.
121 مجموع فتاوى ابن تيمية ١/٥٣.
122 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الصلاة، باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة، رقم ٣٩٥.
123 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله تعالى: (وإلى ثمود أخاهم صالحًا)، رقم ٣٣٨٠.
124 انظر: فتح الباري ١٣/١٨٢.
125 انظر: رسائل الإصلاح، محمد الخضير حسين ص١٣٥.
126 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأحكام، باب ما يكره من ثناء السلطان، رقم ٧١٧٩، ومسلم في صحيحه، كتاب البر والصلة، باب ذم ذي الوجهين وتحريم فعله، رقم ٢٥٢٦.
127 سبق تخريجه قريبًا.
128 رسائل الإصلاح ص١٣٥.
129 أخرجه البخاري في كتاب الأدب، باب لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم فاحشًا ولا متفحشًا، رقم ٦٠٣٢.
130 تيسير المجيد شرح تقريب الأسانيد، عبدالمنعم إبراهيم ٣/١٧٦.
131 أخرجه الترمذي في سننه، أبواب الزهد، آخر باب، ٤/٦٠٩، رقم ٢٤١٤.
وصححه الألباني في صحيح الجامع، ٢/١٠٥٢، رقم ٦٠٩٧.
132 إحياء علوم الدين ٢/٢٨٠.
133 الموالاة والمعاداة، محماس الجلعود ٢/١١٢.
134 معالم التنزيل، البغوي ١/٤٤٩.
135 في ظلال القرآن ١/٣٨٥.
136 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٢/٣٠.
137 جامع البيان، الطبري ٦/٢٤٣ بتصرف.
138 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الشركة، باب هل يقرع في القسمة والاستهام فيه، رقم ٢٤٩٣.
139 الإيضاح، القزويني ٢/٣٧١.
140 فتح الباري، ابن حجر ٥/٢٤٥.
141 أخرجه الترمذي في سننه، أبواب الفتن، باب ما جاء في نزول العذاب إذا لم يغير المنكر، رقم ٢١٦٨.
قال الترمذي: صحيح.
وصححه الالباني في السلسلة الصحيحة، رقم ١٥٦٤.
142 فقه الدعوة إلى الله، عبدالرحمن حبنكة الميداني ص ٦٣٤.
143 رسائل الإصلاح ص١٣٧.