عناصر الموضوع

مفهوم الضر

الضر في الاستعمال القرآني

الألفاظ ذات الصلة

الأساليب القرآنية في عرض الضر

وسائل دفع الضر

آثار نزول الضر

الضر

مفهوم الضر

أولًا: المعنى اللغوي:

قال ابن فارس: الضاد والراء ثلاثة أصول، الأول: خلاف النفع، والثاني: اجتماع الشيء، والثالث: القوة1، والضر -بالفتح-: مصدر ضررته ضرًا، ضد النفع2، والضر -بالضم-: اسم ما يضر، وهو عدم الخير، وهو كل ما ينال الإنسان من الهزال وسوء الحال، أي: ما كان من سوء الحال والفقر والشدة والبلاء في البدن3.

ثانيًا: المعنى الاصطلاحي:

قال الراغب الأصفهاني: «الضر: سوء الحال، إما في نفس؛ لقلة العلم والفضل والعفة، وإما في بدنه؛ لعدم جارحة ونقص، وإما في حالة ظاهرة من قلة مال وجاه، كما في قوله تعالى: ( ﭱﭲ) [الأنبياء: ٨٤]. فهو محتمل لثلاثتها، وقوله: ( )[يونس: ١٢]، وقوله: ( ) [يونس: ١٢]. يقال: ضَر ضُرًا: جلب إليه ضُرًا.

وقوله: ( ﭻﭼ) [آل عمران: ١١١]. ينبههم على قلة ما ينالهم من جهتهم، ويؤمنهم من ضرر يلحقهم نحو: ( ﯯﯰ) [آل عمران: ١٢٠]، و( ) [المجادلة: ١٠]، (ﭿ ) [البقرة: ١٠٢]، وقال تعالى: ( ﮋﮌ ﮍﮎ) [البقرة: ١٠٢]، وقال: ( ﯝﯞ) [الحج: ١٢]، وقوله: ( ﯩﯪ) [الحج: ١٣].

فالأول يعني به الضر والنفع اللذان بالقصد والارادة؛ تنبيهًا أنه لا يقصد في ذلك ضرًا ولا نفعًا؛ لكونه جمادًا، وفي الثاني يريد ما يتولد من الاستعانة به ومن عبادته، لا ما يكون منه بقصده»4.

الضر في الاستعمال القرآني

ورد الجذر «ض ر ر» في القرآن الكريم (٧٤)، وتكرر لفظ «الضر» (٦٦) مرة 5.

والصيغ التي وردت، هي:

الصيغة

عدد المرات

المثال

الفعل المضارع

٢٢

( ) [التوبة:٣٩]

المصدر

٢٩

( ) [يونس:١٢]

اسم مصدر

٩

( ﭿ) [البقرة:١٧٧]

اسم

١

( ) [النساء:٩٥]

اسم فاعل من الثلاثي

٢

( ﭿ ) [البقرة:١٠٢]

مصدر من الرباعي

٢

( ) [البقرة:٢٣١]

اسم فاعل من الرباعي

١

( ) [النساء:١٢]

وجاء الضر في القرآن بمعناه في اللغة وهو: سوء الحال إما في النفس، أو البدن، أو المال6.

الألفاظ ذات الصلة

البؤس:

البؤس لغة:

الباء والهمزة والسين أصلٌ واحدٌ: وهو الشدة وما ضارعها. فالبأس: الشدة في الحرب. ورجلٌ ذو بأسٍ وبئيسٌ أي: شجاعٌ. والبؤس: الشدة في العيش. والمبتئس: المفتعل من الكراهة والحزن7، قال تعالى: ( ﭿﮀ) [البقرة: ١٧].

والبؤس هو والبأس: الشدة، والقوة، والضرر، والمكروب، لكن البؤس في الفقر والحرب أكثر، والبأس والبأساء في الشكاية والتنكيل أكثر8.

وقيل: البأساء والبؤس والضراء: الزمانة في الجسد9، وقيل: البأساء: الفقر والشدة، والضراء: المرض والزمانة10.

البؤس اصطلاحًا:

لا يخرج عن معناه اللغوي.

الصلة بين البؤس والضر:

قيل: البؤس اسم بمعنى الشدة وهو الفقر والمسكنة، ومنه يقال: فلان في بؤس وشدة، وأما الضراء فالأقرب فيه أنه ورود المضار عليه من الآلام والأوجاع وضروب الخوف، وقيل: البأساء عبارة عن تضييق جهات الخير والمنفعة عليه، والضراء عبارة عن انفتاح جهات الشر والآفة والألم عليه11.

الأذى:

الأذى لغة:

أذي: الهمزة والذال والياء أصلٌ واحدٌ: وهو الشيء تتكرهه ولا تقر عليه12، والأذى قد يكون بالكلام أو بالفعل، قال تعالى: ( ﭻﭼ ﭿ ) [آل عمران: ١١١].

قوله تعالى: ( ) معناه: لن يصيبكم منهم ضرر في الأبدان ولا في الأموال، وإنما هو أذى بالألسنة13.

الأذى اصطلاحًا:

لا يخرج عن معناه اللغوي.

الصلة بين الضر والأذى:

الأذى: هو الألم الخفيف وهو لا يبلغ حد الضر14.

السراء:

السراء لغة:

اليسر، والضراء: العسر، وقيل: كثرة المال وقلته15، وقيل: السراء: الرخاء، والضراء: الشدة، وقيل: السراء في الحياة، والضراء بعد الموت16.

السراء اصطلاحًا:

لا يخرج عن معناه اللغوي.

الصلة بين الضراء والسراء:

علاقة تضاد، فالضراء ضد السراء.

الأساليب القرآنية في عرض الضر

عرض القرآن الكريم الضر في ثلاث صور مختلفة، وهي:

أولًا: نفي إلحاق الضر بالله تعالى:

الله تعالى منزه عن أن يتضرر بكفر كافر وفسق فاسق17.

قال تعالى: ( ﮋﮌﮍ ) [آل عمران: ١٤٤].

وقوله تعالى: ( ﭳﭴ ﭹﭺ ﭿ ﮂﮃ ﮋﮌ ) [آل عمران: ١٧٦-١٧٧].

وقوله: ( ) [محمد: ٣٢] وغيرها.

ومجمل أقوال المفسرين في قوله تعالى: ( ﭹﭺ) أن من يريد ضر الله تعالى، فما ضر إلا نفسه، بفوات الإيمان في الدنيا، وحصول العذاب الأليم في الآخرة، بأن لا يجعل لهم نصيبًا في الآخرة من ثوابه، وخذلهم فلم يوفقهم لما وفق إليه أولياءه18؛ لأن الله تعالى لا يجوز عليه المضار والمنافع19، وأنه غني عنه، وسيقيم دينه، ويعز عباده المؤمنين20. وقيل: هذا تهديد معناه: هم يظنون الشقاق مع الرسول، وهم به يشاقونه، وليس كذلك، بل الشقاق مع الله، فإن محمدًا رسول الله، ما عليه إلا البلاغ، فإن ضروا ضروا الرسل، لكن الله منزه عن أن يتضرر بكفر كافر وفسق فاسق21.

وبعضهم أول الآية ردًا وإنكارًا؛ لظن الخوف22، والكلام على حذف مضاف، والمراد أولياء الله مثلًا؛ للقرينة العقلية عليه، وفي حذف ذلك وتعليق نفي الضرر به تعالى تشريف للمؤمنين، وإيذان بأن مضارتهم بمنزلة مضارته سبحانه وتعالى، وفي ذلك مبالغة في التسلية23، وقوله: ( ﮋﮌ ﮐﮑ) [هود: ٥٧].

يعني: إن لم تؤمنوا به فلا تنقصون من ملكه شيئًا، ويقال: إهلاككم لا ينقصه شيئًا، إن ربي على كل شيء حفيظ24.

وقوله تعالى: ( ﮝﮞ ) [التوبة: ٣٩].

أي: لا تضروا الله بترك امتثال أمره بالنفير شيئًا أو لا تضروا رسول الله صلى الله عليه وسلم بترك نصرته والنفير معه شيئًا، ومن جملة مقدوراته تعذيبكم والاستبدال بكم25.

والكناية -في قول الحسن- راجعة إلى الله تعالى، أي: لا تضروا الله؛ لأنه غني عن العالمين، وفي قول الباقين يعود إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، أي: لا تضروا الرسول؛ لأن الله عصمه من الناس، ولأنه تعالى لا يخذله إن تثاقلتم عنه26.

روى مسلم بسنده عن أبي ذرٍ عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما روى عن الله تبارك وتعالى أنه قال: (يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني)27.

ثانيًا: نفي إلحاق الضرر من المخلوق للمخلوق:

الله تعالى متولٍ أمورنا الدينية والدنيوية، فعلينا الرضا بأقداره وليس في أيدينا من الأمر شيء، قال تعالى: ( ﮋﮌ ﮏﮐ ) [التوبة: ٥١].

وعلى الله وحده فليتوكل المؤمنون، وليعتمدوا عليه وحده في جلب مصالحهم، ودفع المضار عنهم، وليثقوا به في تحصيل مطالبهم، وأما من توكل على غيره، فإنه مخذول، غير مدرك لما أمل28.

وأنه لن يصيبنا خير ولا شر، ولا خوف ولا رجاء، ولا شدة ولا رخاء، إلا ما هو مقدر علينا مكتوب عند الله، وكونه مكتوب عند الله يدل على كونه معلومًا عند الله مقضيًا به عنده، فإن ما سواه ممكن، والممكن لا يترجح إلا بترجيح الواجب، والممكنات بأسرها منتهية إلى قضائه وقدره29.

لذا ورد نفي إلحاق الضر من المخلوق للمخلوق في آيات كثيرة، وبين الله فيها أن النفع والضر لا يحصلان إلا بمشيئته30.

وفي قوله تعالى: ( ﯬﯭ ﯱﯲ) [النساء: ١١٣] دليلٌ على ذلك، لذا قيل: وما يضرك هؤلاء الذين هموا لك أن يزيلوك عن الحق في أمر هذا الخائن من قومه وعشيرته من شيء؛ لأن الله مثبتك ومسددك في أمورك، ومبين لك أمر من سعوا في إضلالك عن الحق في أمره، ففاضحه وإياهم، فأنت يا محمد صلى الله عليه وسلم حفظت الله فحفظك وسددك31.

ومن ذلك قوله تعالى: ( ﯯﯰ ﯲﯳ ﯹﯺ ) [المائدة: ٧٦].

قيل هو: عيسى بن مريم، أي: لا يستطيع أن يضركم بمثل ما يضركم به الله من البلايا والمصائب في الأنفس والأموال، ولا أن ينفعكم بمثل ما ينفعكم به من صحة الأبدان والسعة والخصب، ولأن كل ما يستطيعه البشر من المضار والمنافع فبأقدار الله وتمكينه، فكأنه لا يملك منه شيئًا، وهذا دليل قاطع على أن أمره مناف للربوبية حيث جعله لا يستطيع ضرًا ولا نفعًا، وصفة الرب أن يكون قادرًا على كل شيء لا يخرج مقدر على قدرته32.

وهذا دليل آخر على فساد قول النصارى، وهو يحتمل أنواعًا من الحجة، أن اليهود كانوا يعادونه ويقصدونه بالسوء، فما قدر على الإضرار بهم، وكانوا أنصاره وصحابته يحبونه، فما قدر على إيصال نفع من منافع الدنيا إليهم، والعاجز عن الإضرار والنفع كيف يعقل أن يكون إلهًا؟!33.

فإذا كان هذا عيسى بن مريم الذي وصفه قومه بالألوهية والربوبية وغيرها من الأوصاف، ما استطاع دفع الضرر عن نفسه، ولا عن غيره، فغيره أعجز من أن يلحق ضررًا بغيره، إلا بإذنه تعالى.

وقوله تعالى: ( ﯿ ﰅﰆ ) [يونس: ١٠].

قيل: هذا وصف لكل مخلوق أنه لا ينفع ولا يضر، وإنما النافع والضار هو الحق تعالى 34.

بعد أن تبين لنا نفي إلحاق الضرر من المخلوق للمخلوق إلا بإذن الله، فلابد من الإرشاد إلى السلامة من شر الأشرار وكيد الفجار بالإتيان بالأسباب التي تدفع الضر عن المخلوقين، والتي سيأتي بيانها -إن شاء الله-؛ لأن المنفي عنه هو استطاعة المخلوق للضر، وليس نفي وقوع الضر، فوقوعه ثابت بإذن الله، كما قال تعالى: ( ﯯﯰ ) [آل عمران: ١٢٠]35.

وفي الحديث عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: (كنت خلف النبي صلى الله عليه وسلم يوما، فقال: (يا غلام، إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده تجاهك، وإذا سألت فسال الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك فلن ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعت على أن يضروك فلن يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف)36.

ثالثًا: النهي عن إلحاق الضرر في التعامل:

١. والد المولود ووالدته.

قال تعالى: ( ﯜﯝ ﯢﯣ ﯫﯬ ) [البقرة: ٢٣٣].

قوله: ( ﯜﯝ) أي: وعلى والد الطفل نفقة الوالدات وكسوتهن بالمعروف، أي: بما جرت به عادة أمثالهن في بلدهن من غير إسراف ولا إقتار، بحسب قدرته في يساره، وتوسطه وإقتاره، كما قال تعالى: ( ﭺﭻ ﭿ ﮃﮄ ﮋﮌ ) [الطلاق: ٧].

قال الضحاك: إذا طلق زوجته وله منها ولد، فأرضعت له ولده، وجب على الوالد نفقتها وكسوتها بالمعروف.

وقوله: ( ) أي: بأن تدفعه عنها؛ لتضر أباه بتربيته، ولكن ليس لها دفعه إذا ولدته حتى تسقيه اللبن الذي لا يعيش بدون تناوله غالبا، ثم بعد هذا لها دفعه عنها إذا شاءت، ولكن إن كانت مضارة لأبيه، فلا يحل لها ذلك، كما لا يحل له انتزاعه منها لمجرد الضرار لها، ولهذا قال: ( ﯫﯬ) أي: بأن يريد أن ينتزع الولد منها إضرارا بها.

وقوله تعالى: ( ) قيل: في عدم الضرار لقريبه، قاله مجاهد والشعبي والضحاك، وقيل: عليه مثل ما على والد الطفل من الإنفاق على والدة الطفل والقيام بحقوقها وعدم الإضرار بها، وهو قول الجمهور، وقد استدل بذلك من ذهب من الحنفية والحنابلة إلى وجوب نفقة الأقارب بعضهم على بعض، وهو مروي عن عمر بن الخطاب وجمهور السلف37، ومن هدايات الآية: أنه عبر عن الوالد بالمولود له؛ إيماء إلى أنه الحقيق بهذا الحكم؛ لأن منافع الولد منجزة إليه، وهو لاحق به ومعتز به في القبيلة، حسب مصطلح الأمم، فهو الأجدر بإعاشته، وتقويم وسائلها38، وفي الآية دلالة على: «على وجوب نفقة الأقارب المعسرين، على القريب الوارث الموسر»39.

٢. الكاتب والشهود.

قال تعالى: ( ).

قال الطبري رحمه الله: «معنى ذلك: ولا يضار كاتب ولا شهيد، بمعنى: ولا يضارهما من استكتب هذا أو استشهد هذا بأن يأبى على هذا إلا أن يكتب له، وهو مشغول بأمر نفسه، ويأبى على هذا إلا أن يجيب إلى الشهادة وهو غير فارغ، وإنما قلنا هذا القول؛ لأن الخطاب من الله عز وجل في هذه الآية من مبتدئها إلى انقضائها على وجه افعلوا أو لا تفعلوا، إنما هو خطاب لأهل الحقوق والمكتوب بينهم الكتاب والمشهود لهم أو عليهم بالذي تداينوه بينهم من الديون، فأما ما كان من أمر أو نهي فيها لغيرهم، فإنما هو على وجه الأمر والنهي للغائب غير المخاطب كقوله: ( ) [البقرة: ٢٨٢].

وكقوله: ( ﮤﮥ) [البقرة: ٢٨٢].

وما أشبه ذلك، فالواجب إذا كان المأمورون فيها مخاطبين بقوله: ( ) [البقرة: ٢٨٢].

أشبه منه بأن يكون مردودا على الكاتب والشهيد، ومع ذلك إن الكاتب والشهيد لو كانا هما المنهيين عن الضرار لقيل: وإن يفعلا فإنه فسوق بهما، لأنهما اثنان، وإنما غير مخاطبين بقوله: ( ) بل النهي بقوله: ( ) نهي للغائب غير المخاطب، فتوجيه الكلام إلى ما كان نظيرا لما في سياق الآية، أولى من توجيهه إلى ما كان منعدلا عنه»40.

وقال ابن عاشور رحمه الله: «نهي عن المضارة، وهي تحتمل أن يكون الكاتب والشهيد مصدرًا للإضرار، أو أن يكون المكتوب له والمشهود له مصدرًا للإضرار؛ لأن (يضار) يحتمل البناء للمعلوم وللمجهول، ولعل اختيار هذه المادة هنا مقصود؛ لاحتمالها حكمين؛ ليكون الكلام موجهًا فيحمل على كلا معنييه؛ لعدم تنافيهما، وهذا من وجه الإعجاز.

والمضارة: إدخال الضر بأن يوقع المتعاقدان الشاهدين والكاتب في الحرام والخسارة، أو ما يجر إلى العقوبة، وأن يوقع الشاهدان أحد المتعاقدين في إشاعة حق أو تعب في الإجابة إلى الشهادة. وقد أخذ فقهاؤنا من هذه الآية أحكامًا كثيرة تتفرع عن الإضرار؛ منها ركوب الشاهد من المسافة البعيدة، ومنها ترك استفساره بعد المدة الطويلة التي هي مظنة النسيان، ومنها استفساره استفسارًا يوقعه في الاضطراب، ويؤخذ منها أنه ينبغي لولاة الأمور جعل جانب من مال بيت المال لدفع مصاريف انتقال الشهود وإقامتهم في غير بلدهم وتعويض ما سينالهم من ذلك الانتقال من الخسائر المالية في إضاعة عائلاتهم، إعانة على إقامة العدل بقدر الطاقة والسعة»41 والآية تدل على النهي عن مضارة الكاتب والشهود.

وسائل دفع الضر

هناك عدة وسائل لدفع الضر في القرآن الكريم، منها:

أولًا: الالتجاء إلى الله تعالى:

يخبرنا الله تعالى أنه لا إله إلا هو، وأنه لا ينبغي العبادة إلا له وحده لا شريك له، فإنه مالك كل شيء وخالقه وربه، قال تعالى: ( ﯴﯵ ) [النحل: ٥٢].

قال ابن عباس ومجاهد: أي: دائمًا، وقيل: واجبًا، قيل: خالصًا، أي: له العبادة وحده ممن في السموات والأرض، كقوله تعالى: ( ﮉﮊ ﮋﮌ ﮟﮠ ) [الزمر: ٣ ].

ثم أخبر أنه مالك النفع والضر، قال تعالى: ( ﯿﰀ ) [النحل: ٥٣].

وأن ما بالعباد من رزق ونعمة وعافية ونصر فمن فضله عليهم، وإحسانه إليهم، وعلموا أن كل ما يتقلبون فيه من نعمة منه سبحانه، ثم أخبر سبحانه عن طبيعة الإنسان من حيث هو، إذا مسه الضر، من مرض، أو مصيبة اجتهد في الدعاء، وسأل الله في جميع أحواله؛ قائمًا وقاعدًا ومضجعًا، وفائدة ذكر هذه الأحوال: أن المضرور لا يزال داعيًا، ولا يفتر عن الدعاء حتى يزول عنه الضر، فهو يدعونا في حالاته كلها42، وألح في الدعاء؛ ليكشف عنه ضره، كما قال تعالى: ( ) قال ابن عباس: يريد الأسقام والأمراض والحاجة، ( ) ترفعون أصواتكم إليه بالاستغاثة، يقال: جأر يجأر جئورًا 43، ويقال: جأر الرجل إلى الله، أي: تضرع بالدعاء44، قال الأعشى:45

فطافت ثلاثًا بين يومٍ وليلةٍ وكان النكير أن تضيف وتجأرا

فذكر الله تعالى: أن الإنسان في وقت الكرب، يبتهل إلى ربه بالدعاء في جميع أحواله، فإذا فرج الله كربه، أعرض عن ذكر ربه ونسي ما كان فيه، ومنه قوله تعالى: ( ﯚﯛ ﯟﯠ ) [الزمر: ٨].

وقوله: ( ﭫﭬ ) [الزمر: ٤٩].

وقوله: ( ﭚﭛ ﭠﭡ ) [الإسراء: ٦٧].

وقوله: ( ) [الأنبياء: ٨٣].

وقوله: ( ) [الروم: ٣٣]46.

كل هذه الآيات تشير إلى لجوء الإنسان وقت الضر إلى إله واحد، أحد صمد، ولعلمهم أنه لا يكشف الضر إلا هو. حتى المشركون الذين عبدوا من دون الله أصنامًا، يتوجهون إليها وقت الرخاء، إذا أصابهم الضر نسوا ما كانوا يعبدون من قبل، ورجعوا إلى الفطرة السليمة، وتضرعوا إليه تعالى؛ لعلمهم أنها لا تنفع ولا تضر، حتى فرعون الذي طغى وتجبر حين توسط البحر وعلم أن لا ملجأ من الله إلا إليه كما في قوله تعالى: ( ﭦﭧ ) [يونس: ٩٠].

وكان من قبل يقول: ( ﭿ ﮋﮌ ) [القصص: ٣٨].

وقال تعالى عنه: (ﭿ ﮋﮌﮍ ) [يونس: ٨٣].

فوجب على الإنسان أن يكون مشغولًا بالمنعم وقت النعمة، وملتجئًا إليه في كل أوقاته.

قال القرطبي: «وهذه الحالة التي ذكرها الله تعالى لا تختص بأهل الكفر، بل تتفق لكثير من المسلمين، تلين ألسنتهم بالدعاء وقلوبهم بالخشوع والتذلل، عند نزول ما يكرهون، وتضرعوا لرفع ما نزل بهم من الضر ودفع ما أصابهم من المكروه، ومما يدل على أن الآية تعم المسلم والكافر، كما يشعر به لفظ الناس ولفظ الإنسان»47.

وقوله تعالى: ( ﭚﭛ) [الإسراء: ٦٧].

نموذجًا للالتجاء إلى الله وقت الشدة والضر، أي: ذهب عن قلوبكم كل ما تعبدون غير الله تعالى، كما اتفق لعكرمة بن أبي جهل لما ذهب فارًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم حين فتح مكة، فذهب هاربًا فركب في البحر ليدخل الحبشة، فجاءهم ريح عاصف، فقال القوم بعضهم لبعض: إنه لا يغني منكم إلا أن تدعو الله وحده، فقال عكرمة في نفسه: والله إن كان لا ينفع في البحر غيره، فإنه لا ينفع في البر غيره، اللهم لك علي عهد لئن أخرجتني منه لأذهبن، فلأضعن يدي في يد محمد، فلأجدنه رءوفًا رحيمًا، فخرجوا من البحر، فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم وحسن إسلامه48، وهكذا الإنسان حتى الكافر، إذا ضاقت به الحيل، ولم يجد منفذًا، لجأ إلى المنفذ الحقيقي، الذي لا ينسد.

ثانيًا: اتخاذ الأسباب الواقية:

من وسائل دفع الضر:

١. اتخاذ الأسباب الواقية قبل وقوع الضرر.

فالوقاية خير من العلاج، فكل من رزقه الله تعالى الهداية والسداد والتوفيق والرشاد، فإنه مستثنى من قوله تعالى: ( ﯓﯔ ) [يونس: ١٢].

هذه الآية في وصف حال غير المؤمن، أما فالمؤمن فإنه يعرف الله في السراء والضراء، ولا تنقطع صلته بالله على أي حال كان، كما قال صلى الله عليه وسلم: (عجبًا لأمر المؤمن، لا يقضي الله له قضاء إلا كان خيرًا له، إن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له، وإن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن)49.

فمن كان في وقت النعمة مشغولًا بالمنعم، لزم أن يكون وقت البلاء مشغولًا بالمبتلي. وإذا كان المنعم والمبتلي واحدًا كان نظره أبدًا على مطلوب واحد، وكان مطلوبه منزهًا عن التغيير مقدسًا عن التبدل، ومن كان كذلك وقت البلاء، وفي وقت النعماء، غرقًا في بحر السعادات، واصلًا إلى أقصى الكمالات50.

ومن شأنه أن يكون كثير الدعاء والتضرع في أوقات الراحة والرفاهية، حتى يكون مجاب الدعوة وقت المحنة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من سره أن يستجيب الله له عند الشدائد والكرب، فليكثر الدعاء عند الرخاء)51.

٢. التقوى والصبر والتوكل.

قال تعالى: ( ﯯﯰ ) [آل عمران: ١٢٠].

وقوله تعالى: ( ﭿﮀ ﮃﮄ ) [البقرة: ١٧٧].

في الآية الأولى يرشدهم الله تعالى إلى السلامة من شر الأشرار، وكيد الفجار، باستعمال الصبر والتقوى والتوكل على الله الذي هو محيط بأعدائهم، فلا حول ولا قوة لهم إلا به، وهو الذي ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، ولا يقع في الوجود شيء إلا بتقديره ومشيئته، ومن توكل على الله كفاه، ثم شرع في ذكر قصة غزوة أحد وما كان فيها من الاختبار لعباده المؤمنين، والتميز بين المؤمنين والمنافقين وبيان الصابرين52.

وقيل: فإذا أتيتم بالأسباب التي وعد الله عليها النصر -وهي الصبر والتقوى- فلن يضركم مكرهم، بل يجعل الله مكرهم في نحورهم؛ لأن محيط بهم علمه وقدرته، فلا منفذ لهم، ولا يخفى عليهم منهم شيء53.

٣. الرضا بقضاء الله وقدره.

ومثاله: ( ) [الأنبياء: ٨٣].

وقوله: ( ﭢﭣ ﭦﭧ ﭩﭪ ) [ص: ٤٤].

فجعلوه أسوة وقدوة عندما يصيبهم الضر54.

إلا أن هناك من يرى أن الشكوى تقدح في الصبر، فبين العلماء أن الشكوى مع الرضا بقضاء الله لا تقدح في الصبر، وفي ذلك قيل: أليس أن الشكوى تقدح في كون أيوب صابرًا؛ لأنه قال: ( ) الآية؟.

الجواب: قال سفيان بن عيينه رحمه الله: «من شكا إلى الله تعالى فإنه لا يعد جزعًا إذا كان في شكواه راضيًا بقضاء الله؛ إذ ليس من شرط الصبر استحلاء البلاء، ألم تسمع قول يعقوب عليه السلام ( ﯿ ) [يوسف: ٨٦]»55.

واعلم أن المؤمن إذا ابتلي ببلية ومحنة وجب عليه أن يكون راضيًا بقضاء الله غير معترض بالقلب واللسان عليه، وإنما وجب عليه ذلك؛ لأن الله تعالى مالك على الإطلاق، وملك بالاستحقاق، فله أن يفعل في ملكه ما يشاء، كما يشاء، ولأنه تعالى حكيم على الإطلاق منزه عن فعل الباطل والعبث، فكل ما فعله فهو حكمة وصواب، وإذا كان كذلك فحينئذ يعلم أنه تعالى إن أبقى عليه تلك المحبة فهو عدل، وإن أزالها فهو فضل، فحينئذ عليه الصبر والسكوت وترك الغلق والاضطراب56.

٤. إصلاح النفوس.

بفعل الخيرات ولزوم الشرع بما فيه من جهاد وأمر بمعروف ونهي عن المنكر، والاستقامة على الدين، وطاعة الله وغيرها.

قال تعالى: ( ﭯﭰ ﭶﭷ ﭿ) [المائدة: ١٠٥].

ذكر السمرقندي: من أسباب دفع الضر، ما روي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه: سئل عن هذه الآية فقال: إذا رأيتم شحًا مطاعًا وهوىً متبعًا ودنيا مؤثرةً وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليكم بخويصة أنفسكم. وروى عمر بن جابر اللخمي عن أبي أمية قال: سألت أبا ثعلبة الخشني عن هذه الآية فقال: لقد سألت عنها خبيرًا، سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (يا أبا ثعلبة ائتمروا بالمعروف، وتناهوا عن المنكر، فإذا رأيت دنيا مؤثرة وشحًا مطاعًا وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بنفسك، فإن من بعدكم أياما الصابر المتمسك يومئذ بمثل الذي أنتم عليه له كأجر خمسين عاملًا. قالوا يا رسول الله: كأجر خمسين عاملًا منهم؟ قال: لا بل كأجر خمسين عاملًا منكم)57.

وقيل: حفظ النفس من ملابسة المعاصي والإصرار على الذنوب58.

وقيل: اجتهدوا في إصلاحها وكمالها وإلزامها سلوك الصراط المستقيم، فإنكم إذا أصلحتم لا يضركم من ضل عن الصراط، ولم يهتد إلى الدين القويم، إنما يضر نفسه، ولا يتم هدى الإنسان إلا بالإتيان بما يجب عليه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر59.

وقال ابن زيد: معنى الآية ( ) في الاستقامة على الدين ولا يضركم ضلال الأسلاف إذا اهتديتم60.

وأخرج ابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس في قوله: ( ﭯﭰ) يقول: إذا ما أطاعني العبد فيما أمرته من الحلال والحرام فلا يضره من ضل إذا عمل بما أمرته به. وأخرج ابن جرير من طريق الضحاك عن ابن عباس الآية: ما لم يكن سيفًا أو سوطًا61.

ثالثًا: المصالحة والتفاهم:

وذلك بمصانعة أهل الدنيا لدنياهم، وتحب أهل الأخرة لآخرتهم، وتخفي ذنبك بينك وبين ربك فإنك إن فعلت ذلك فلا يضرك من ضل إذا اهتديت. وذلك بأن تحب من أحب الله من أحمر وأبيض، وأن تجتنب الغيب62.

وقيل: اشتغال الإنسان بخاصة نفسه وتركه العرض لمعائب الناس والبحث عن أحوالهم، فإنهم لا يسألون عن حاله، فلا يسأل عن حالهم، كقوله تعالى: ( ) [المدثر: ٣٨].

وقوله تعالى: ( ﯼﯽ ﯿ ) [الأنعام: ١٦٤].

وقوله تعالى: ( ﯚﯛ ﯠﯡ ﯦﯧ ) [الاسراء: ١٥].

وقوله تعالى: ( ﯣﯤ ﯱﯲ) [فاطر: ١٨]63.

ومن صور المصالحة والتفاهم في الإسلام، والتي كانت سببًا لدفع الضر ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما وصل المدينة بالمصالحة مع اليهود وإبرام العهود، حتى يأمن المسلمين شرهم، واستطاع بذلك دفع ضرهم وأذاهم عن المسلمين.

آثار نزول الضر

لحوق الضرر بالإنسان له آثار ونتائج، منها:

أولًا: الإخلاص لله تعالى عند اشتداد الضر:

عند اشتداد الضر على الإنسان مسلمًا كان أو كافر، فإنه يعود إلى الله وحده كاشف الضر، فينيب ويتضرع إلى الله تعالى، وقد بين الله ذلك في قوله تعالى: ( ﭚﭛ ﭠﭡ ) [الاسراء: ٦٧].

وقوله: ( ﭚﭛ) أي: ذهب عن قلوبكم كل ما تعبدون غير الله، كما اتفق لعكرمة بن أبي جهل لما ذهب فارا من رسول الله صلى الله عليه وسلم حين فتح مكة، فذهب هاربًا، فركب في البحر ليدخل الحبشة، فجاءتهم ريح عاصف، فقال القوم بعضهم لبعض: إنه لا يغني عنكم إلا أن تدعو الله وحده. فقال عكرمة في نفسه: والله لئن كان لا ينفع في البحر غيره، فإنه لا ينفع في البر غيره، اللهم لك علي عهد، لئن أخرجتني منه لأذهبن فأضعن يدي في يديه، فلأجدنه رءوفًا رحيمًا. فخرجوا من البحر، فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم وحسن إسلامه، رضي الله عنه وأرضاه64.

ومعنى الآية: أن الكفار إنما يعتقدون في أصنامهم وسائر معبوداتهم أنها نافعة لهم في غير هذه الحالة، فأما في هذه الحالة فإن كل واحد منهم يعلم بالفطرة علمًا لا يقدر على مدافعته أن الأصنام ونحوها لا فعل لها65.

وفي معنى هذه الآية جاءت آيات كثيرة، منها: ( ﭯﭰ ﭿ ﮇﮈ ﮋﮌ ) [يونس: ٢٢].

( ﮋﮌ ) [الأنعام: ٦٣].

إلى غير ذلك من الآيات66.

وقصة فرعون مع شدة كفره يعترف بالله ساعة الضر والهلاك ويرجع إلى فطرته، فالرجوع إلى الله تعالى من سائر الناس ساعة الكرب والشدة دليل على ما هو كامن في نفوسهم من الفطرة التي فطرهم الله عليها67.

وخص الله الشدة في البحر بالذكر؛ لأن اليأس عند وقوع الشدة فيه أغلب. وهذه الحالة عند اشتداد الضر يستدل بها في إثبات وجود الله تعالى، ونفي الشركاء عنه تعالى، وقد ذكر الإمام الألوسي في تفسيره: «من اللطائف أن بعض الناس قال لبعض الأئمة: أثبت لي وجود الله تعالى ولا تذكر لي الجوهر والعرض. فقال: هل ركبت البحر؟ قال نعم، قال: فهل عصفت الريح؟ قال: نعم، قال: هل أشرفت بك السفينة على الغرق؟ قال: نعم، قال: يئست من نفع من في السفينة ونحوهم من المخلوقين لك وإنجائهم مما أنت فيه إياك، قال: نعم، قال: ذلك هو الله عز وجل فاستحسن ذلك»68.

ثانيًا: بيان عجز الآلهة المزعومة عند اللجوء إليها حال الضر:

إن ما تم ذكره -سابقًا- من أن الكفار حينما يشتد عليهم الضر ينسوا آلهتهم ولا يرجعون إليها بل يرجعون إلى الإله الحق، الذي يملك النفع والضر، دليل واضح في إثبات عجز الآلهة المزعومة عن دفع ضر أو جلب نفع. وقد ورد في القرآن الكريم آيات كثيرة تدل على ذلك:

منها: ما ذكر مقارنة بين القادر الذي يخلق من العدم ثم يعيد الخلق من بعد فنائه، وبين العاجز وهو الآلهة التي يعبدونها، قال تعالى: ( ﭙﭚ ﭠﭡ ) [يونس: ٣٤].

ومنها: ما وضح الله فيه ثلاث احتمالات لإثبات عجز الآلهة.

قال تعالى: ( ﭶﭷ ﭿ ) [الطور: ٣٥-٣٧].

والاحتمال الرابع هو أن يكون هناك خالق غير هذه المخلوقات وأن يتصف هذا الخالق بصفات لا تشبه صفات المخلوق وهو الاحتمال الصحيح.

وكذلك سيدنا إبراهيم عليه السلام استطاع أن يثبت قدرة الله تعالى بإثبات عجز غيره ممن أدعى الألوهية، في ذلك يقول الله تعالى: ( ﭿ ﮃﮄ ﮋﮌ ﮓﮔ ) [البقرة: ٢٥٨].

وغيرها من الآيات الكثيرة التي تدل على عجز الآلهة عند اللجوء إليها في كشف الضر وبيان حقيقتها، وبطلان ألوهيتها69.

فصفات الآلهة الضعف والعجز، وهي غير قادرة على الخلق، ولا تستطيع نصر نفسها ولا عابديها، لا تجيب ولا تستجيب، ولا تضر ولا تنفع، فاقدة كل الحواس، لا تملك من أمر نفسها شيئًا، كما صورها لنا سيدنا إبراهيم عليه السلام.

قال تعالى: ( ) [الصافات: ٩١-٩٣].

وقوله: ( ﭿ ﮋﮌ ﮩﮪ ) [الأنبياء: ٦٣-٧٦].

انظر كيف استطاع سيدنا إبراهيم عليه السلام إثبات عجز الآلهة وإقامة الحجة على عابديها. كما ستتبرأ من عابديها يوم القيامة، ( )[البقرة: ١٦٦].

وقوله: ( ﮘﮙ ﮝﮞ ) [فاطر: ١٤].

فتستحيل الألوهية لمن يتصف بهذه الصفات.

ثالثًا: المشرك يزداد طغيانًا بعد كشف الضر عنه، والمؤمن يزداد إيمانًا:

هذا إخبار عن طبيعة الإنسان، وأنه إذا مسه ضر من مرض أو مصيبة اجتهد في الدعاء، وسأل الله في جميع أحواله، ألح ليكشف الله عنه ضره. فلما كشف الضر عنه استمر في غفلته معرضًا عن ربه وكأنه ما جاءه ضر، فكشفه الله عنه70.

قال تعالى: ( ﯓﯔ ) [يونس: ١٢].

مر طاغيًا على ترك الشكر؛ لنسيانه ما دعا الله فيه وما صنع به، كما زين لهذا الكافر الدعاء عند البلاء والإعراض عند الرخاء71.

ذم الله تعالى من هذه صفته وطريقته فقال: ( ﯓﯔ ).

وهذه صفات الكافر في الغالب، كما ذكر ابن الجوزي: «الكافر يدعو عند البلاء ويعرض عند الرخاء، كذلك المسرفون وهم المجاوزون الحد في الكفر والمعصية في عملهم»72.

وقيل: يراد به المشركون الذين يرون أن للأصنام أفعالًا من الشفاء وجلب الخير ودفع الضر، فهم إذا شفاهم الله عظموا أصنامهم وأضافوا ذلك الشفاء لها73.

إلا أن الله استثنى من هذه الصفات الذميمة من رزقه الله الهداية والسداد والتوفيق والرشاد من عباده المؤمنين بقوله: ( ﯓﯔ ) [هود: ١٠-١١]74.

قال الفراء: هذا استثناء منقطع معناه: لكن الذين صبروا وعملوا الصالحات فإنهم إن نالتهم شدة صبروا، وإن نالوا نعمة شكروا، أولئك لهم مغفرة لذنوبهم وأجر كبير هو الجنة75.

فالمؤمن يزداد إيمانًا بكشف الضر عنه، أما الكافر فيزداد طغيانًا وكفرًا، ومن ذلك حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عجبًا لأمر المؤمن لا يقضي الله له قضاء إلا كان خيرًا له، إن أصابته ضراء فصبر كان خيرًا له، وإن أصابته سراء فشكر كان خيرًا له)76.

قال الألوسي: «فذا فسره الزمخشري بقوله: إلا الذين آمنوا فإن عادتهم إذا أتتهم رحمة أن يشكروا، وإذا زالت عنهم نعمة أن يصبروا، فلذا حسنت الكناية به عن الإيمان. ودلالة «صبروا» على أن العمل الصالح شكر؛ لأنه ورد في الأثر الإيمان نصفان: نصف صبر ونصف شكر، ودلالة «عملوا» على أن الصبر إيمان؛ لأنهما ضميمتان في الأكثر، أي: الإيمان والعمل: آمنوا وعملوا، فغير مطابق لما نحن فيه أن يراد وجه آخر، كأنه قيل: إلا المؤمن الصالح الصابر الشاكر»77.

إلا أن بعض المفسرين يرى أن هذه الحالة التي ذكرها الله للداعي لا تختص بأهل الكفر وحدهم بل تتفق لكثير من المسلمين، كما نرى في أنفسنا، ونرى غيرنا، تلين ألسنتهم بالدعاء وقلوبهم بالخشوع والتذلل عند نزول ما يكرهون بهم، فإذا كشفه الله عنهم غفلوا عن الدعاء والتضرع، وذهلوا عما يجب عليهم من شكر النعمة التي أنعم بها عليهم من إجابة دعائهم ورفع ما نزل بهم من الضر ودفع ما أصابهم من مكروه، وهذا مما يدل على أن الآية تعم المسلم والكافر كما يشعر لفظ الناس ولفظ الإنسان78، وإن لم يغفلوا نهائيًا كما يغفل الكافر، إلا أنهم يقل اجتهادهم بالدعاء، كما ذكر الله تعالى، أن الإنسان وقت الكرب يبتهل بالدعاء في جميع أحواله، فإذا فرج الله كربه، أعرض عن ذكر ربه، ونسي ما كان فيه، كأنه لم يكن قط. وفيه مواضع كثيرة في القرآن منها قوله تعالى: ( ﯓﯔ ) [يونس: ١٢ ].

وقوله تعالى: ( ) [النحل: ٥٤].

وقوله تعالى: ( ) [المؤمنون: ٧٥].

وقوله تعالى: ( ) [الروم: ٣٣].

وقوله تعالى: ( ﯚﯛ ﯟﯠ ) [الزمر: ٨].

فكل هذه الآيات تشير إلى أن فطرة الإنسان مؤمنًا كان أو كافر عند اشتداد الضر يلجأ إلى الله تعالى، وإذا كشف الضر عنه ازداد طغيانًا وكفرًا، إلا من رحم الله من عباده المؤمنين، فإنهم يزدادوا إيمانًا، خير مثال لهم قدوتنا وحبيبنا المصطفى صلى الله عليه وسلم، كان يصلي حتى تتفطر قدماه شكرًا لله تعالى على نعمه79.


1 مقاييس اللغة، ابن فارس ٣/٦٦٣

2 تفسير السمرقندي ٢/١١٩

3 انظر: تهذيب اللغة، الأزهري، ٣/٢١٠٨، الصحاح، الجوهري ٢/٦١٩، المخصص، ابن سيده، ٣/٧٠، لسان العرب، ابن منظور، ٨/٤٤.

4 المفردات، الراغب الأصفهاني ص٥٠٣-٥٠٤.

5 انظر: المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، محمد فؤاد عبد الباقي، ص ٤١٩-٤٢٠.

6 انظر: المفردات، الراغب الأصفهاني، ص ٥٠٣.

7 مقاييس اللغة، اين فارس ١/٣٢٨.

8 الكليات، الكفوي ١/٢٤٩.

9 تفسير الصنعاني، ١/٦٦

10 انظر: الكشاف، الزمخشري، ١/٢٤٥، تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، ٢/٢٣٤، إرشاد العقل السليم، أبو السعود، ١/١٩٤، وفتح القدير: الشوكاني، ١/١٧٣.

11 مفاتيح الغيب، الرازي، ٦/١٧-١٨.

12 مقاييس اللغة، ابن فارس ١/٧٨.

13 المحرر الوجيز، ابن عطية ١/٤٩٠.

14 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٣/١٩٢.

15 البسيط، الواحدي ١/٢٣٢.

16 فتح القدير،: الشوكاني، ١/٣٨١

17 مفاتيح الغيب، الرازي ٢٨/٦٢.

18 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص١٥٨.

19 الكشاف، الزمخشري ١/٤٥٠.

20 انظر: جامع البيان، الطبري، ٧/٢٥٢، وتفسير السمعاني، ١/٣٦٣، الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، ٤/٢٢٦، والبحر المحيط، أبو حيان، ٣/٧٥، تيسير الكريم الرحمن، السعدي، ص١٥٠.

21 مفاتيح الغيب، الرازي ٢٨/٦٢.

22 انظر: المصدر السابق ٩/٨٥.

23 روح المعاني، الألوسي ٤/١٣٣.

24 انظر: تفسير السمرقندي ٢/١٥٦، مفاتيح الغيب، الرازي ١٨/١٢، المحرر الوجيز، ابن عطية، ٣/١٨٢.

25 فتح القدير، الشوكاني ٢/٣٦٢.

26 انظر: جامع البيان، الطبري ١٠/١٣٤، تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، ٢/٣٥٩، روح المعاني، الألوسي، ١٠/٩٦.

27 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم، رقم ٢٥٧٧.

28 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص٣٣٩.

29 مفاتيح الغيب، الرازي ١٦/٦٩.

30 المصدر السابق ١٥/٦٨.

31 جامع البيان، الطبري ٥/٢٧٥.

32 الكشاف، الزمخشري ١/٦٩٨.

33 مفاتيح الغيب، الرازي ١٢/٥٢-٥٣.

34 انظر: مفاتيح الغيب، الرازي، ١٧/١٣٩، تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص٣٧٥.

35 انظر: معالم التنزيل، البغوي، ١/٣٤٦، المحرر الوجيز في الكتاب العزيز، ابن عطية ١/٤٩٨.

36 أخرجه الترمذي في سننه، أبواب صفة القيامة، ٤/٦٦٧، رقم ٢٥١٦.

قال الترمذي: حديث حسن صحيح.

وصححه الألباني في صحيح الجامع، ٢/١٣١٧، رقم ٧٩٥٧.

37 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ١/٤٧٧.

38 التحرير والتنوير ٢/٤١١.

39 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص١٠٤.

40 جامع البيان، الطبري ٥/١١٧.

41 التحرير والتنوير ١/٣١٢.

42 انظر: الكشاف، الزمخشري ٢/٣١٧، مدارك التنزيل، النسفي ٢/١٢٠.

43 انظر: جامع البيان، الطبري ١٤/١٢١، زاد المسير، ابن الجوزي، ٤/٤٥٧.

44 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، ١٠/١١٤.

45 انظر: أدب الكاتب، ابن قتيبة الدينوري، ١/٢١٧.

ومنهم من نسبه للنابغة الجعدي، انظر: شرح أدب الكاتب، الجواليقي ١/٩٩.

46 انظر: تفسير السمرقندي، ٢/١٥٢، تفسير السمعاني ٢/٣٦٩.

47 انظر: الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، ٨/٣٩٧، فتح القدير، الشوكاني ٢/٤٢٩.

48 صححه ابن الملقن في البدر المنير ٩/١٥٣، وعبدالحق الإشبيلي في الأحكام الصغرى ٥٤٩.

49 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الزهد والرقائق، باب المؤمن أمره كله خيرٌ، رقم ٢٩٩٩.

50 مفاتيح الغيب، الرازي ١٧/٤١-٤٣.

51 أخرجه الترمذي في سننه، أبواب الدعوات، باب ما جاء أن دعوة المسلم مستجابة، ٥/٤٦٢، رقم ٣٣٨٢.

قال الترمذي: غريب.

وحسنه الألباني في صحيح الجامع، ٢/١٠٧٨، رقم ٦٢٩٠.

52 انظر: جامع البيان، الطبري، ٤/٦٨، المحرر الوجيز، ١/٤٩٨.

53 انظر: فتح القدير: الشوكاني، ٢/٨٤-٨٥، تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص١٤٥.

54 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص٥٢٩.

55 مفاتيح الغيب، الرازي ١٧/٤١-٤٣.

56 المصدر السابق ٢٢/١٨١.

57 أخرجه أبو داوود في سننه، كتاب الملاحم، باب الأمر والنهي، ٤/١٢٣، رقم ٤٣٤١، والترمذي في سننه، أبواب تفسير القرآن، باب ومن سورة المائدة، ٥/٢٥٧، رقم ٣٠٥٨.

قال الترمذي: حديث حسن غريب.

وضعفه الألباني في ضعيف الجامع، ١٣٤٦، رقم ٢٣٤٤.

وانظر: تفسير السمر قندي، ١/٤٤٥-٤٤٥، معالم التنزيل، البغوي، ٢/٧٢.

58 البسيط، الواحدي ١/٣٣٨-٣٣٩، تفسير الجلالين، ص١٥٨.

59 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص٢٤٦.

60 انظر: المحرر الوجيز، ابن عطية ٢/٢٥٠.

61 انظر: تفسير ابن أبي حاتم ٤/١٢٢٥-١٢٢٨.

62 الدر المنثور، السيوطي ٣/٢١٨.

63 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٦/٣٤٤.

64 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٥/٩٦.

65 فتح القدير، الشوكاني ٣/٢٤٣.

66 أضواء البيان، الشنقيطي٣/١٧١-١٧٢.

67 تفسير السمعاني ٣/٢٦١.

68 روح المعاني، الألوسي ١٥/١١٥.

69 منها: المائدة /٧٦ و الرعد /١٦ و طه /٨٩ و الفرقان /٣ و النمل /٦٤ و المؤمنون ٩١-٩٢ و الحج /٧٣-٧٤ و النحل /٢٠-٢١ و فاطر/١٣-١٤.

70 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص٣٥٩.

71 انظر: البسيط الواحدي، ١/٤٩١، معالم التنزيل، البغوي، ٢/٣٤٦.

72 زاد المسير، ابن الجوزي ٤/١٣.

73 المحرر الوجيز: ابن عطية ٣/٤٠١.

74 أضواء البيان، الشنقيطي، ٢/١٥٢.

75 معالم التنزيل، البغوي ٢/٣٧٥.

76 سبق تخريجه.

77 روح المعاني، الألوسي ١٢/١٦.

78 انظر: الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٧/٣١٧، فتح القدير، الشوكاني ٢/٤٢٩.

79 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب تفسير القرآن، باب قوله: (ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر)، ٦/١٣٥، رقم ٤٨٣٧، ومسلم في صحيحه، كتاب صفة القيامة، باب إكثار الأعمال والاجتهاد في العبادة، ٤/٢١٧١،رقم ٢٨١٩.