عناصر الموضوع
الصحابة
أولًا:المعنى اللغوي:
الصحابي مشتق من الصحبة، والصحابة مصدر قولك:صاحبك الله وأحسن صحابتك. ومادة (صحب) تأتي لمعان، منها:
ثانيًا: المعنى الاصطلاحي:
يعرف المحدثون الصحابي بأنه: «من لقي النبي مؤمنًا به، ومات على الإسلام، ولو تخللت ردة، في الأصح»5.
قال ابن كثير: «هذا قول جمهور العلماء خلفًا وسلفًا، وقد نص على أن مجرد الرؤية كاف في إطلاق الصحبة:البخاري وأبو زرعة، وغير واحد ممن صنف في أسماء الصحابة، كابن عبد البر، وابن مندة وأبي موسى المديني، وابن الأثير»6.
ويرى الفقهاء والأصوليون أنه «اسم لمن اختص بالنبي عليه السلام، وطالت صحبته معه على طريق التتبع له والأخذ منه»7.
قال الشوكاني: «والحق ما ذهب إليه الجمهور، وإن كانت اللغة تقتضي أن الصاحب هو من كثرت ملازمته؛ فقد ورد ما يدل على إثبات الفضيلة لمن لم يحصل له منه إلا مجرد اللقاء القليل أو الرؤية ولو مرة»8. يضاف لذلك:
١. شرف منزلة النبي صلى الله عليه وسلم، وعلو قدره، وأن لصحبته عليه الصلاة والسلام مزية عن صحبة غيره.
٢. أن المحدثين حين عرفوا الصحابي بالمعنى الاصطلاحي اعتمادًا على المعنى اللغوي، أخذوا المعنى اللغوي بمعناه العام الشامل لطول الصحبة وقصرها، ولم يقصروه على بعض أفراده، وهو طول الصحبة دون قصرها، كما فعل أهل الأصول الذين راعوا بعض أفراد التعريف، وهو طول الصحبة، ولا شك أن مراعاة المعنى اللغوي بجميع أفراده أولى من قصره على بعضها.
٣. إن كثيرًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لم تطل صحبتهم للنبي صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك فقد اتفق أهل الحديث الذين ترجموا للصحابة على عدهم فيهم إلى غير ذلك9.
٤. أما ما يتعلق بما ماذكره أنس رضي الله عنه، فإنه إنما نفى الصحبة الخاصة، وهذا لا ينافي ما اصطلح عليه الجمهور من الاكتفاء باللقاء؛ لما مر من شرف هذا اللقاء ومزيته، ولذا ورد في الحديث عن أبى سعيد الخدرى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يأتى على الناس زمانٌ يغزو فئامٌ من الناس فيقال لهم: فيكم من رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: نعم فيفتح لهم، ثم يغزو فئامٌ من الناس فيقال لهم:فيكم من رأى من صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فيقولون نعم. فيفتح لهم، ثم يغزو فئامٌ من الناس فيقال لهم: هل فيكم من رأى من صحب من صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فيقولون نعم. فيفتح لهم)10.
ويدل على رجحان الأول قصة الأشعث ابن قيس؛ فإنه كان ممن ارتد، وأتي به إلى أبي بكرٍ الصديق أسيرًا، فعاد إلى الإسلام، فقبل منه ذلك، وزوجه أخته، ولم يتخلف أحد عن ذكره في الصحابة، ولا عن تخريج أحاديثه في المسانيد وغيرها11.
أولًا: ذكر أوصافهم في الكتب السماوية السابقة:
ذكر الله سبحانه وتعالى صفة الصحابة رضي الله عنهم في قوله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ) [الفتح:٢٩].
يقول الإمام الطبري:«(ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ) يقول: هذه الصفة التي وصفت لكم من صفة أتباع محمد صلى الله عليه وسلم الذين معه صفتهم في التوراة (ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ) وصفتهم في إنجيل عيسى صفة زرع أخرج شطأه، وهو فراخه وإنما مثلهم بالزرع المشطئ؛ لأنهم ابتدءوا في الدخول في الإسلام، وهم عدد قليلون، ثم جعلوا يتزايدون، ويدخل فيه الجماعة بعدهم، ثم الجماعة بعد الجماعة، حتى كثر عددهم، كما يحدث في أصل الزرع الفرخ منه، ثم الفرخ بعده حتى يكثر وينمي»12.
وقال ابن كثير: «وقد نوه الله تبارك وتعالى بذكرهم في الكتب المنزلة والأخبار المتداولة، ولهذا قال سبحانه وتعالى ههنا: (ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ) ثم قال: (ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ) أي: فراخه (ﭸ) أي: شده (ﭹ) أي: شب وطال (ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ) أي: فكذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم آزروه وأيدوه ونصروه، فهم معه كالشطء مع الزرع»13.
وليس بنا حاجة -بعد خبر الله تعالى- أن نرجع إلى التوراة أو الإنجيل لمعرفة تفاصيل ذلك، وقد أخبرنا الله تعالى أنهم قد حرفوا كتبهم14.
ثانيًا: الشهادة لهم بحقيقة الإيمان:
لقد شهد القرآن الكريم للصحابة رضي الله عنهم بالإيمان في مواضع كثيرة، بل إننا لنجزم أن كل آية صدرت بـ (ﭑ ﭒ ﭓ) فهم أول المخاطبين بها، وقد ناهزت هذه الآيات ثمانين موضعًا، وإننا لنلحظ هذا الوصف العظيم حتى في باب العتاب وتصحيح الأخطاء، من مثل قوله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ) [الممتحنة:١].
وقوله تعالى: (ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ) [الحجرات:١].
فضلًا عن تلك الآيات التي تثني عليهم، وتأخذ بأيديهم في مدارج الطاعات؛ ليرتقوا إلى أعلى الدرجات، فتوجههم آمرة ناهية، وهي كثيرة..
من الآيات التي نصت على إيمانهم:
قوله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ) [الأنفال:٦٢].
في الآية ثناء عظيم على الصحابة رضي الله عنهم من وجهين:
الأول: وصفهم بالإيمان.
والآخر: امتنان الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم بأنه أيده بهم.
وقال تعالى: (ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ) [الأنفال:٦٤].
وقال تعالى: (ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ) [الأنفال:٧٤-٧٥].
يبين الله تعالى ما للصحابة رضي الله عنهم من الجزاء يوم القيامة، فبين أولًا أنهم هم المؤمنون حقًا، ثم ذكر أنه سيجازيهم بالمغفرة والصفح عن ذنوبهم إن كانت، ووعدهم بالرزق الكريم، وهو الحسن الكثير الطيب الشريف، وأن من يسير على نهجهم فهو معهم في الآخرة15.
وقال تعالى: (ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ) [التوبة:٢٠].
يقول الطبري: «وهذا قضاء من الله بين فرق المفتخرين الذين افتخر أحدهم بالسقاية، والآخر بالسدانة، والآخر بالإيمان بالله والجهاد في سبيله. يقول تعالى ذكره: (ﯯ ﯰ) بالله، وصدقوا بتوحيده من المشركين (ﯱ) دور قومهم (ﯲ) المشركين في دين الله (ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ)، وأرفع منزلة عنده، من سقاة الحاج وعمار المسجد الحرام، وهم بالله مشركون (ﯽ)، يقول: وهؤلاء الذين وصفنا صفتهم، أنهم آمنوا وهاجروا وجاهدوا (ﯾ ﯿ)، بالجنة، الناجون من النار»16.
وقال تعالى: (ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ) [الحشر:٩].
وإذا كانت الآية السابقة في مدح المهاجرين، فإن هذه الآية في الثناء على الأنصار، أي:«سكنوا دار الهجرة من قبل المهاجرين وآمنوا قبل كثير منهم»17.
وقال تعالى: (ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ) [التحريم:٨].
قال ابن عاشور: «وفي صلة (ﭪ ﭫ ﭬ) إيذان بأن سبب انتفاء الخزي عنهم هو إيمانهم، ومعية المؤمنين مع النبي صلى الله عليه وسلم صحبتهم النبي صلى الله عليه وسلم»18.
مما يلفت الانتباه أن أغلب الآيات التي مرت تصف جميع الصحابة بالإيمان، فقوله تعالى:(ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ)[الأنفال:٦٢] في شأن من شارك في بدر19.
وإذا كان لا بد من وقفة عند الآيات التي مرت، فلتكن عند قوله تعالى: (ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ) [الفتح:١٨-١٩] يقول ابن كثير: «يخبر تعالى عن رضاه عن المؤمنين الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، تحت الشجرة، وقد تقدم ذكر عدتهم وأنهم كانوا ألفًا وأربعمائة20.
ولا يخفى على المتأمل سبب اختيار هذه الآية، وذلك:
وهذا أمر خفي لا يطلع عليه إلا الله تعالى، وهي منقبة أظهرها الله تعالى لهؤلاء الكرام؛ تدل على صدقهم وإخلاصهم، يقول الطبري: «فعلم ربك يا محمد ما في قلوب المؤمنين من أصحابك إذ يبايعونك تحت الشجرة، من صدق النية، والوفاء بما يبايعونك عليه، والصبر معك»22.
يقول الألوسي عن تلك المبايعة: «استوجبت رضا الله تعالى الذي لا يعادله شيء، ويستتبع ما لا يكاد يخطر على بال، وصح برواية الشيخين وغيرهما في أولئك المؤمنين من حديث جابر أنه صلى الله عليه وسلم قال لهم: (أنتم خير أهل الأرض)»23.
ويقول السعدي: «يخبر تعالى بفضله ورحمته، برضاه عن المؤمنين إذ يبايعون الرسول صلى الله عليه وسلم تلك المبايعة التي بيضت وجوههم، واكتسبوا بها سعادة الدنيا والآخرة»24.
والآيات في هذا المقام كثيرة.
وقبل أن أختم هذا المطلب أود أن أبين أن الآيات الكريمة قد أكدت هذا المعنى في مناسبات شتى،-أعني: الشهادة لهم بحقيقة الإيمان-ولولا خشية التكرار لذكرتها في مواضعها، ولكني سأشير إلى طرف منها:
ففيما ما يتعلق بغزوة بدر:
يقول تعالى: (ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷﭹﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ) [آل عمران:١٢٤-١٢٥].
وقال تعالى: (ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ) [الأنفال:١١-١٢].
وقال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ) [الأنفال:١٧].
تأمل قوله تعالى: (ﭫ ﭬ ﭭ)، و(ﮐ ﮑ ﮒ)، و(ﭟ ﭠ) تدرك عظم منزلة هؤلاء الصحب الكرام رضي الله عنهم.
وفيما يتعلق بغزوة أحد، يقول الله تعالى: (ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ) [آل عمران:١٢١].
ويقول سبحانه: (ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞﮟ ﮠ ﮡ ﮢﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ) [آل عمران:١٥٢].
«وقد قال فيهم الله تعالى بعدما ندبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لتعقب المشركين بعد انتهاء معركة أحد: (ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ) [آل عمران:١٧٢-١٧٤]25.
أما في غزوة الأحزاب فقد صدرت الآيات بالنداء لأهل الإيمان (ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ) [الأحزاب:٩].
ووصفهم بالإيمان، بل بكماله، (ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ) [الأحزاب:١١].
وقال تعالى: (ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ) [الأحزاب:٢٢].
ثالثًا: صادقون متقون:
كان للتربية التي تلقاها الصحابة رضي الله عنهم من النبي صلى الله عليه وسلم الأثر الكبير في غرس القيم والأخلاق في نفوسهم، فلقد كان صلى الله عليه وسلم يغذوهم بإرشاداته وبسلوكه، فلا غرو أن تأثروا به عليه الصلاة والسلام،
ولا نعني بالصدق ما يتعلق بالأقوال فقط، وإنما صدق القوم في أعمالهم، وفي نياتهم، فلما أسلموا، أسلموا قيادهم لله رب العالمين، فصدقوا في ذلك، فإذا ما دعوا لأمر سارعوا إلى تنفيذه، فقدموا أنفسهم رخيصة في سبيل الثبات على الدين يوم كانوا بمكة، يعذبون أشد العذاب، ثم تركوا مكة، موطنهم، وتركوا أهاليهم، والغالي والنفيس يوم دعا داعي الهجرة، ولم يلتفتوا إلى أي حظ من حظوظ الدنيا، ولا يكاد ينقضي العجب حينما يتأمل المرء في ترك قرشي مكة المكرمة، وما تعني له وللعرب، ثم يمضي إلى الحبشة، يحمل معه دينه، إن هذا بحق عين الصدق في المواقف، ثم صدقوا في جهادهم، فبذلوا أنفسهم وأموالهم في سبيل الله تعالى، وفي هذا يقول تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ) [الأحزاب:٢٣].
قال الطبري: «أوفوا بما عاهدوه عليه من الصبر على البأساء والضراء، وحين البأس»26.
ويقول سبحانه وتعالى: (ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ) [الحشر:٨].
«هؤلاء الذين صدقوا قولهم بفعلهم، وهؤلاء هم سادات المهاجرين»27.
ولنضرب مثلًا يبين صدق الصحابة رضي الله عنهم:
أخرج الإمام البخاري عن أنس رضي الله عنه قال: (غاب عمي أنس بن النضر عن قتال بدر، فقال:يا رسول الله غبت عن أول قتال قاتلت المشركين، لئن الله أشهدني قتال المشركين ليرين الله ما أصنع، فلما كان يوم أحد وانكشف المسلمون، قال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء، يعني: أصحابه، وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء، يعني: المشركين، ثم تقدم، فاستقبله سعد بن معاذ، فقال: يا سعد بن معاذ الجنة ورب النضر، إني أجد ريحها من دون أحد، قال سعد: فما استطعت يا رسول الله ما صنع، قال أنس: فوجدنا به بضعًا وثمانين ضربة بالسيف أو طعنة برمح أو رمية بسهم، ووجدناه قد قتل وقد مثل به المشركون، فما عرفه أحد إلا أخته ببنانه، قال أنس: كنا نرى أو نظن أن هذه الآية نزلت فيه وفي أشباهه (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ) إلى آخر الآية)28.
قال ابن حجر: «وفيه فضيلة ظاهرة لأنس بن النضر، وما كان عليه من صحة الإيمان، وكثرة التوقي والتورع وقوة اليقين»29.
رابعًا: نفي الخزي عنهم يوم القيامة وإثبات الكرامة لهم:
لما كان للصحابة الكرام هذا الشرف العظيم، وهو صحبة النبي صلى الله عليه وسلم ونصرته، وما قاموا به من جهد عظيم في سبيل الله تعالى، فقد وعدهم الله تعالى على ذلك أحسن الوعد.
يقول تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ) [التحريم:٨].
يقول ابن عاشور: «انتفاء الخزي يومئذ، يستلزم الكرامة إذ لا واسطة بينهما، وفي صلة (ﭪ ﭫ ﭬ) إيذان بأن سبب انتفاء الخزي عنهم هو: إيمانهم وفي هذه الآية دليل على المغفرة لجميع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم»30.
وقال البقاعي في قوله تعالى:(ﭪ ﭫ ﭬ): «وهم الصحابة رضي الله عنهم إن كان المراد المعية في مطلق الزمان، وسابقوهم إن كان المراد بالوصف أو زمان مخصوص كبدر وبيعة الرضوان»31.
والحقيقة أن الكرامة الحقيقية في اصطفاء الله تعالى هذا الجيل ليكون في صحبة سيد ولد آدم، رسول الله صلى الله عليه وسلم وخاتم النبيين، ولعلنا نلحظ هذا الأمر في قوله تعالى: (ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ) [الحجرات:٧].
وما يوحي به التقديم؛ فيكم لا في غيركم، ويا له من شرف عظيم؛ إذ اختارهم رب العالمين ليقوموا بهذا الأمر العظيم: مشاركة الرسول صلى الله عليه وسلم في حمل عبء نشر الرسالة، ولقد قاموا بها خير قيام، حتى استحقوا وصف: (ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ) [آل عمران:١١٠].
قال ابن كثير بعد أن ذكر الأقوال في المراد بهذه الآية: «الصحيح أن هذه الآية عامة في جميع الأمة، كل قرن بحسبه، وخير قرونهم الذين بعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، كما قال في الآية الأخرى:(ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ) أي:خيارًا (ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ) [البقرة:١٤٣]».
وإنما حازت هذه الأمة قصب السبق إلى الخيرات بنبيها محمد صلى الله عليه وسلم؛ فإنه أشرف خلق الله وأكرم الرسل على الله، وبعثه الله بشرع كامل عظيم، لم يعطه نبيًا قبله ولا رسولًا من الرسل؛ فالعمل على منهاجه وسبيله، يقوم القليل منه ما لا يقوم العمل الكثير من أعمال غيرهم مقامه»32.
خامسًا: الوعد لهم جميعًا بالحسنى:
لاشك أن الصحابة رضي الله عنهم يتفاوتون في الفضل، فهم ليسوا على درجة واحدة، وهذا مما دل عليه القرآن الكريم والسنة المطهرة.
فمن ذلك قوله تعالى: (ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ) [الحديد:١٠].
وقول الرسول صلى الله عليه وسلم فيما رواه عنه أبو سعيد الخدري: (لا تسبوا أصحابي، فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبًا، ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه)33.
والذي نود تأكيده، أن الجميع قد وعدوا الجنة بنص الآية التي قررت تفاضلهم، يقول تعالى في الآية نفسها: (ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ) قال القرطبي مبينًا المراد من الآية:«المتقدمون المتناهون السابقون، والمتأخرون اللاحقون، وعدهم الله جميعًا الجنة مع تفاوت الدرجات34.
والنص على أن الجميع وعدوا الحسنى؛ «لئلا يهدر جانب الآخر بمدح الأول دون الآخر، فيتوهم متوهم ذمه، فلهذا عطف بمدح الآخر والثناء عليه مع تفضيل الأول عليه»35.
يقول ابن عاشور: «وقوله:(ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ) احتراس من أن يتوهم متوهم أن اسم التفضيل مسلوب المفاضلة للمبالغة، مثل ما في قول: (ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ) [يوسف:٣٣].
أي: حبيب إلي دون ما يدعونني إليه من المعصية، وعبر بـ(ﰊ)؛ لبيان أن الدرجة هي درجة الحسنى؛ ليكون للاحتراس معنى زائد على التأكيد وهو ما فيه من البيان، والحسنى: لقب قرآني إسلامي يدل على خيرات الآخرة.
قال تعالى: (ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ) [يونس:٢٦].
وهذه الآية أصل في تفاضل أهل الفضل فيما فضلوا فيه، وأن الفضل ثابت للذين أسلموا بعد الفتح من أهل مكة وغيرهم. وبئس ما يقوله بعض المؤرخين من عبارات تؤذن بتنقيص من أسلموا بعد الفتح من قريش مثل كلمة «الطلقاء»، وإنما ذلك من أجل حزازات في النفوس قبلية أو حزبية، والله يقول: (ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ)[الحجرات:١١]»36.
والذي يعنينا هنا أن الصحابة الكرام رضي الله عنهم جميعًا قد وعدوا بالجنة.
سادسًا: الرضوان من الله تعالى:
إن غاية ما يرجوه المسلم: رضا الله سبحانه وتعالى، ولقد بشر الله تعالى الصحابة رضي الله عنهم بذلك، وحازوا هذا الفضل وهم في دار الدنيا.
قال تعالى: (ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ) [الفتح:١٨].
ولبيان من هم، وكم عددهم؟ أذكر ما أخرجه الإمام البخاري بسنده (عن البراء رضي الله عنه قال: تعدون أنتم الفتح فتح مكة، وقد كان فتح مكة فتحًا، ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية، كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم أربع عشرة مائة، والحديبية: بئر فنزحناها، فلم نترك فيها قطرة، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأتاها فجلس على شفيرها، ثم دعا بإناء من ماء، فتوضأ، ثم مضمض ودعا، ثم صبه فيها، فتركناها غير بعيد، ثم إنها أصدرتنا ما شئنا نحن وركابنا)37.
يقول ابن كثير عن هذه الآية الكريمة: «يخبر تعالى عن رضاه عن المؤمنين الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة، وقوله تعالى:(ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ) من الصدق والوفاء والسمع والطاعة»38.
وقل مثل ذلك في قوله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ) [التوبة:١٠٠].
يقول الطبري: «والذين سبقوا الناس أولًا إلى الإيمان بالله ورسوله (ﭓ ﭔ)، الذين هاجروا قومهم وعشيرتهم، وفارقوا منازلهم وأوطانهم (ﭕ)، الذين نصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أعدائه، من أهل الكفر بالله ورسوله (ﭖ ﭗ ﭘ)، يقول: والذين سلكوا سبيلهم في الإيمان بالله ورسوله، والهجرة من دار الحرب إلى دار الإسلام، طلب رضا الله (ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ)»39.
ويقول ابن كثير: «يخبر تعالى عن رضاه عن السابقين من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان، ورضاهم عنه بما أعد لهم من جنات النعيم والنعيم المقيم، قال الشعبي: السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار: من أدرك بيعة الرضوان عام الحديبية».
ثم يعقب على هذا بقوله: «فيا ويل من أبغضهم أو سبهم، أو أبغض أو سب بعضهم، ولا سيما سيد الصحابة بعد الرسول وخيرهم وأفضلهم أعني الصديق الأكبر والخليفة الأعظم أبا بكر بن أبي قحافة رضي الله عنه»40.
فهذه الآيات، ومثلها كثير، تدل على رفعة شأن الصحابة، وأنهم نالوا أعلى ما يمكن أن يتطلع إليه بشر، وهو رضى رب العالمين.
إذا كان الصحابة الكرام قد نالوا شرف الصحبة بالتقائهم بالرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، فإنهم ولا شك يتفاوتون في الفضل، فهناك من بادر وأسلم يوم كان الإسلام غريبًا، والناس يكذبون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويؤذونه، وهناك من تأخر إسلامه، وبين هذين مراتب لا يعلمها إلا الله تعالى، وهذا ما صرحت به الآية الكريمة: (ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ) [الحديد:١٠].
قال ابن حجر: «لا خفاء برجحان رتبة من لازمه صلى الله عليه وسلم، وقاتل معه، أو قتل تحت رايته، على من لم يلازمه، أو لم يحضر معه مشهدًا، وعلى من كلمه يسيرًا، أو ماشاه قليلًا، أو رآه على بعد، أو في حال الطفولية، وإن كان شرف الصحبة حاصلًا للجميع»41.
وسنتناول هذا الأمر في النقاط الآتية:
أولًا: السابقون من المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم:
خص الله تعالى المهاجرين والأنصار بشرف عظيم.
يقول سبحانه: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ) [التوبة:١٠٠].
وقد اختلف العلماء في المراد بالسابقين على أقوال،42 من أهمها:
الأول: قال ابن عباس رضي الله عنهما:هم الذين صلوا إلى القبلتين وشهدوا بدرًا.
الثاني: عن الشعبي: أنهم الذين بايعوا بيعة الرضوان.
قال الرازي: «والصحيح عندي أنهم السابقون في الهجرة، وفي النصرة، والذي يدل عليه أنه ذكر كونهم سابقين ولم يبين أنهم سابقون في ماذا فبقي اللفظ مجملًا، إلا أنه وصفهم بكونهم مهاجرين وأنصارًا، فوجب صرف ذلك اللفظ إلى ما به صاروا مهاجرين وأنصارًا وهو الهجرة والنصرة، فوجب أن يكون المراد منه السابقون الأولون في الهجرة والنصرة إزالة للإجمال عن اللفظ، وأيضًا فالسبق إلى الهجرة طاعة عظيمة من حيث إن الهجرة فعل شاق على النفس، ومخالف للطبع، فمن أقدم عليه أولًا صار قدوة لغيره من هذه الطاعة، وكان ذلك مقويًا لقلب الرسول عليه الصلاة والسلام، وسببًا لزوال الوحشة عن خاطره، وكذلك السبق في النصرة، فإن الرسول عليه الصلاة والسلام لما قدم المدينة، فلا شك أن الذين سبقوا إلى النصرة والخدمة، فازوا بمنصب عظيم»43.
الثالث: يتناول جميع الصحابة؛ لأن جملة الصحابة موصوفون بكونهم سابقين أولين بالنسبة إلى سائر المسلمين، وكلمة «من» في قوله:(ﭓ ﭔ ﭕ) ليست للتبعيض، بل للتبيين، كقوله: (ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ) [الحج:٣٠].
وذهب إلى هذا كثير من الناس44.
وفي أمر المهاجرين يقول ابن كثير: «فأما المهاجرون فلم يكن فيهم أحد نافق؛ لأنه لم يكن أحد يهاجر مكرهًا، بل يهاجر فيترك ماله وولده وأرضه رغبة فيما عند الله في الدار الآخرة»45.
ونلحظ في هذه الآية الآتي: الإتيان بالفعل الماضي في (ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ..) ولا شك أن هذا يقتضي تحقق هذا الأمر فيهم، وأنه لن يتغير، ولأنه غير مقيد بزمن، ولارتباطه بعلة قد ثبتت، وهي الهجرة والنصرة، يقول الرازي -مناقشًا من يتناول إمامة أبي بكر الصديق رضي الله عنه بالطعن-: «قوله: لم قلتم: إنه بقي موصوفًا بهذه الصفة بعد إقدامه على طلب الإمامة؟
قلنا: قوله تعالى: (ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ) يتناول جميع الأحوال والأوقات، بدليل أنه لا وقت ولا حال إلا ويصح استثناؤه منه؛ فيقال رضي الله عنهم إلا في وقت طلب الإمامة، ومقتضى الاستثناء إخراج ما لولاه لدخل تحت اللفظ.
أو نقول: إنا بينا أنه تعالى وصفهم بكونهم سابقين مهاجرين، وذلك يقتضي أن المراد كونهم سابقين في الهجرة، ثم لما وصفهم بهذا الوصف أثبت لهم ما يوجب التعظيم، وهو قوله: (ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ) والسبق في الهجرة وصف مناسب للتعظيم، وذكر الحكم عقيب الوصف المناسب، يدل على كون ذلك الحكم معللًا بذلك الوصف، فدل هذا على أن التعظيم الحاصل من قوله: (ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ) معلل بكونهم سابقين في الهجرة، والعلة ما دامت موجودة، وجب ترتب المعلول عليها، وكونهم سابقين في الهجرة وصف دائم في جميع مدة وجودهم، فوجب أن يكون ذلك الرضوان حاصلًا في جميع مدة وجودهم.
أو نقول: إنه تعالى قال: (ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ)، وذلك يقتضي أنه تعالى قد أعد تلك الجنات، وعينها لهم، وذلك يقتضي بقاءهم على تلك الصفة التي لأجلها صاروا مستحقين لتلك الجنات، وليس لأحد أن يقول: المراد أنه تعالى أعدها لهم لو بقوا على صفة الإيمان، لأنا نقول: هذا زيادة إضمار، وهو خلاف الظاهر. وأيضًا فعلى هذا التقدير: لا يبقى بين هؤلاء المذكورين في هذا المدح، وبين سائر الفرق فرق؛ لأنه تعالى أعد لهم جناتٍ تجري تحتها الأنهار ولفرعون وهامان وأبي جهل وأبي لهب، لو صاروا مؤمنين.
ومعلوم أنه تعالى إنما ذكر هذا الكلام في معرض المدح العظيم والثناء الكامل، وحمله على ما ذكروه يوجب بطلان هذا المدح والثناء، فسقط هذا السؤال. فظهر أن هذه الآية دالة على فضل أبي بكر، وعلى صحة القول بإمامته قطعًا»46.
قوله تعالى: (ﭖ ﭗ ﭘ) قيد هذا الوصف بكونهم محسنين، في حين خلا وصف المهاجرين والأنصار من ذلك، وفي هذا يقول ابن عاشور: «وإنما قيد هذا الفريق خاصة؛ لأن السابقين الأولين ما بعثهم على الإيمان إلا الإخلاص، فهم محسنون، وأما الذين اتبعوهم فمن بينهم من آمن اعتزازًا بالمسلمين حين صاروا أكثر أهل المدينة، فمنهم من آمن وفي إيمانه ضعف وتردد، مثل المؤلفة قلوبهم، فربما نزل بهم إلى النفاق، وربما ارتقى بهم إلى الإيمان الكامل»47.
وقال البخاري: «باب مناقب المهاجرين وفضلهم، ثم أورد هذه الآية: (ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ) [الحشر:٨].
وقال: (ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ) إلى قوله: (ﯚ ﯛ ﯜ) [التوبة:٤٠].
قالت عائشة وأبو سعيد وابن عباس رضي الله عنهم: وكان أبو بكر مع النبي صلى الله عليه وسلم في الغار»48.
ثم أورد حديثًا بسنده عن أبي بكر رضي الله عنه قال: (قلت للنبي صلى الله عليه وسلم وأنا في الغار: لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا، فقال: (ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما)49.
ثم قال: «باب مناقب الأنصار، وأورد هذه الآية: (ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ) [الحشر:٩].
ثم أورد حديثًا بسنده «عن غيلان بن جرير قال:(قلت لأنس:أرأيت اسم الأنصار كنتم تسمون به، أم سماكم الله؟ قال:بل سمانا الله)50.
ثم أورد تحت باب حب الأنصار من الإيمان، حديث البراء رضي الله عنه قال:(سمعت النبي صلى الله عليه وسلم أو قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم (الأنصار لا يحبهم إلا مؤمن، ولا يبغضهم إلا منافق، فمن أحبهم أحبه الله ومن أبغضهم أبغضه الله)51.
وحديث أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(آية الإيمان حب الأنصار وآية النفاق بغض الأنصار)52.
ثانيًا: المؤمنون من أهل الكتاب رضي الله عنهم:
أهل الكتاب يراد بهم اليهود والنصارى، وقد أكثر القرآن الكريم من ذكرهم، وميزهم عن المشركين، وهذا من العدل الرباني، ولعل في إطلاق هذا اللقب عليهم، ما يبين السبب في ذلك، وفيه لوم لهم، على عدم المسارعة إلى الإيمان، فقد عادى أكثرهم الإسلام ونبيه صلى الله عليه وسلم وكادوا له، ومع ذلك فقد أسلم منهم نفر قليل، كان للقرآن إشادة بهم، من ذلك:
قوله تعالى: (ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ) [آل عمران: ١١٣ - ١١٥]
قال ابن العربي: «وقد اتفق المفسرون أنها نزلت فيمن أسلم من أهل الكتاب، وعليه يدل ظاهر القرآن ومفتتح الكلام نفي المساواة بين من أسلم منهم وبين من بقي منهم على الكفر، إلا أنه روي عن ابن مسعود أن معناه نفي المساواة بين أهل الكتاب وأمة محمد صلى الله عليه وسلم. وقد روي عن ابن عباس أنها نزلت في عبد الله بن سلام ومن أسلم معه من أهل الكتاب»53.
وقال ابن كثير: «والمشهور عند كثير من المفسرين كما ذكره محمد بن إسحاق وغيره، ورواه العوفي عن ابن عباس أن هذه الآيات نزلت فيمن آمن من أحبار أهل الكتاب، كعبد الله بن سلام، وأسد بن عبيد، وثعلبة بن سعية، وأسيد بن سعية، وغيرهم، أي: لا يستوي من تقدم ذكرهم بالذم من أهل الكتاب، وهؤلاء الذين أسلموا، ولهذا قال تعالى: (ﮬ ﮭ) أي: ليسوا كلهم على حد سواء، بل منهم المؤمن ومنهم المجرم.
ولهذا قال تعالى: (ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ) أي: قائمة بأمر الله مطيعة لشرعه، متبعة نبي الله، فهي قائمة، يعني: مستقيمة (ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ) أي: يقومون الليل ويكثرون التهجد، ويتلون القرآن في صلواتهم (ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ) وهؤلاء هم المذكورون في آخر السورة (ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ) [آل عمران:١٩٩].
ولهذا قال تعالى ههنا: (ﯬﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ) أي: لا يضيع عند الله، بل يجزيهم به أوفر الجزاء (ﯴ ﯵ ﯶ) أي: «لا يخفى عليه عمل عامل، ولا يضيع لديه أجر من أحسن عملًا»54.
وقال تعالى: (ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ) [القصص:٥٢-٥٥].
قال ابن كثير: «يخبر تعالى عن العلماء الأولياء من أهل الكتاب أنهم يؤمنون بالقرآن، كما قال تعالى: (ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ) [البقرة:١٢١].
وقال تعالى: (ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ) [آل عمران:١٩٩].
وقال تعالى: (ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ) [الإسراء:١٠٧-١٠٨].
وقال تعالى: (ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ) إلى قوله: (ﭤ ﭥ ﭦ) [المائدة:٨٢-٨٣].
(ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ) من قبل هذا القرآن، كنا مسلمين، أي: موحدين مخلصين لله مستجيبين له.
قال الله تعالى: (ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ) هؤلاء المتصفون بهذه الصفة الذين آمنوا بالكتاب الأول ثم الثاني، ولهذا قال: (ﭶ ﭷ) على اتباع الحق، فإن تجشم مثل هذا شديد على النفوس.
وقد ورد في الصحيح عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه ثم آمن بي، وعبد مملوك أدى حق الله وحق مواليه، ورجل كانت له أمة، فأدبها فأحسن تأديبها، ثم أعتقها فتزوجها)55.
وقال تعالى: (ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ) [المائدة:٨٢-٨٥].
يقول الطبري: «إن الله تعالى ذكره أخبر عن النفر الذين أثنى عليهم من النصارى بقرب مودتهم لأهل الإيمان بالله ورسوله، أن ذلك إنما كان منهم لأن منهم أهل اجتهاد في العبادة، وترهب في الديارات والصوامع، وأن منهم علماء بكتبهم وأهل تلاوة لها، فهم لا يبعدون من المؤمنين لتواضعهم للحق إذا عرفوه، ولا يستكبرون عن قبوله إذا تبينوه؛ لأنهم أهل دين واجتهاد فيه، ونصيحة لأنفسهم في ذات الله، وليسوا كاليهود الذين قد دربوا بقتل الأنبياء والرسل، ومعاندة الله في أمره ونهيه، وتحريف تنزيله الذي أنزله في كتبه»56.
(ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ) وفيض العين من الدمع: امتلاؤها منه، ثم سيلانه منها، كفيض النهر من الماء، وفيض الإناء، وذلك سيلانه عن شدة امتلائه (ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ) لمعرفتهم بأن الذي يتلى عليهم من كتاب الله الذي أنزله إلى رسول الله حقٌ، (ﭡ ﭢ ﭣ) صدقنا لما سمعنا ما أنزلته إلى نبيك محمد صلى الله عليه وسلم من كتابك، وأقررنا به أنه من عندك، وأنه الحق لا شك فيه. (ﭤ ﭥ ﭦ) وهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم، الذين يشهدون لأنبيائك يوم القيامة، أنهم قد بلغوا أممهم رسالاتك57.
إلى غير ذلك من الآيات.
نستخلص من الآيات التي تحدثت عن مؤمني أهل الكتاب الآتي:
ثم وعدهم الله عز وجل بأمور كثيرة، منها:
ولقد سبقت الإشارة إلى ذكر أسماء بعض من أسلم، كعبد الله بن سلام، وأسد بن عبيد، وثعلبة بن سعية، وأسيد بن سعية رضي الله عنهم.
ضرب الصحابة رضي الله عنهم أروع المواقف في الالتزام بأوامر الله تعالى وأوامر رسوله صلى الله عليه وسلم، والأمثلة كثيرة، سنقتصر على بعضها:
أولًا: الإذعان والتسليم:
إن من حقائق هذا الدين ومسلماته، أن الداخل فيه لا بد أن يسلم وجهه لله سبحانه وتعالى، وقد أرشد القرآن الكريم لذلك.
قال تعالى: (ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ) [النساء:١٢٥].
يقول الشنقيطي: «معنى إسلام وجهه لله: إطاعته وإذعانه، وانقياده لله تعالى بامتثال أمره، واجتناب نهيه»59.
والآيات في هذا المعنى كثيرة، ولقد كان للصحابة رضي الله عنهم فضل السبق في هذا الأمر، كما هو الشأن في كل خير، ولنضرب بعض الأمثلة:
ما وقع من امتثال أمر الله تعالى في يوم حمراء الأسد:
يقول سبحانه وتعالى: (ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ) [آل عمران:١٧٢-١٧٥].
يقول ابن كثير: «هذا كان يوم حمراء الأسد، وذلك أن المشركين لما أصابوا ما أصابوا من المسلمين، كروا راجعين إلى بلادهم، فلما استمروا في سيرهم، ندموا، لم لا تمموا على أهل المدينة وجعلوها الفيصلة، فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ندب المسلمين إلى الذهاب وراءهم؛ ليرعبهم ويريهم أن بهم قوة وجلدًا، ولم يأذن لأحد سوى من حضر الوقعة يوم أحد، فانتدب المسلمون على ما بهم من الجراح والإثخان طاعة لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم»60.
ولذلك امتدحهم الله عز وجل، فقال: (ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫﮬ ﮭ ﮮ ﮯﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ) [البقرة:٢٨٥].
أخرج مسلم عن أبى هريرة قال: (لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم (ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ)[البقرة:٢٨٤].
(قال:فاشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم بركوا على الركب فقالوا: أي رسول الله كلفنا من الأعمال ما نطيق: الصلاة والصيام والجهاد والصدقة، وقد أنزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: سمعنا وعصينا، بل قولوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير). قالوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير. فلما اقترأها القوم، ذلت بها ألسنتهم، فأنزل الله فى إثرها (ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫﮬ ﮭ ﮮ ﮯﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ)، فلما فعلوا ذلك، نسخها الله تعالى، فأنزل الله عز وجل: (ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ) قال: نعم، (ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ) قال: نعم، (ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ) قال: نعم (ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ) قال: نعم)61.
فأنت ترى حسن امتثال الصحابة لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أمرهم بأن يقولوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير، وقد استجاب الله تعالى لهم لصدقهم.
هذا فيما يتعلق بأمر جماعتهم، أما أفرادهم، فأذكر هذه الحادثة فقط؛ لئلا يطول المقام، أخرج الإمام البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه: (كان أبو طلحة أكثر الأنصار بالمدينة مالًا من نخلٍ، وكان أحب أمواله إليه بيرحاء، وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماءٍ فيها طيبٍ، قال أنس: فلما أنزلت هذه الآية (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ) [آل عمران:٩٢].
قام أبو طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن الله تبارك وتعالى يقول: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ) وإن أحب أموالي إلي بيرحاء، وإنها صدقةٌ لله أرجو برها وذخرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بخٍ، ذلك مالٌ رابحٌ، ذلك مالٌ رابحٌ، وقد سمعت ما قلت، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين). فقال أبو طلحة: أفعل يا رسول الله. فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه62.
ثانيًا: الهجرة:
لقد كانت الهجرة برهانًا واضحًا على صدق إيمان الصحابة رضي الله عنهم، فهي ترك للأوطان والأهل وللمال، إلى مستقبل - في عرف الناس - مجهول، ولكن الإيمان بالله تعالى والتوكل عليه يهون كل عسير، ويجعل من رضاه عز وجل غاية تستحق بذل كل غال ونفيس، وهذا ما فعله الصحابة في الهجرتين: إلى الحبشة، وإلى المدينة، لقد كان أمر هذا الدين أعظم في أنفسهم من كل شيء.
قال تعالى: (ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ) [آل عمران:١٩٥].
يقول ابن كثير: «(ﭣ ﭤ) أي: تركوا دار الشرك وأتوا إلى دار الإيمان، وفارقوا الأحباب والخلان والإخوان والجيران، (ﭥ ﭦ ﭧ) أي: ضايقهم المشركون بالأذى حتى ألجؤوهم إلى الخروج من بين أظهرهم؛ ولهذا قال: (ﭨ ﭩ ﭪ) أي: إنما كان ذنبهم إلى الناس أنهم آمنوا بالله وحده، كما قال تعالى: (ﭢ ﭣ ﭤﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ) [الممتحنة:١].
وقال تعالى: (ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ) [البروج:٨]»63.
آيات في هجرة الصحابة
قال تعالى: (ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ) [البقرة:٢١٨].
يقول الطبري: «والذين تحولوا من سلطان أهل الشرك هجرةً لهم، وخوف فتنتهم على أديانهم، وحاربوهم في دين الله ليدخلوهم فيه وفيما يرضي الله (ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ)، أي: يطمعون أن يرحمهم الله فيدخلهم جنته بفضل رحمته إياهم. (ﯞ ﯟ)، أي: ساتر ذنوب عباده بعفوه عنها، متفضل عليهم بالرحمة»64.
وقال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝﭞ ﭟ ﭠ ﭡﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ) [آل عمران:١٩٥].
(ﭣ ﭤ) قومهم من أهل الكفر وعشيرتهم في الله، إلى إخوانهم من أهل الإيمان بالله، والتصديق برسوله، (ﭥ ﭦ ﭧ) وهم المهاجرون الذين أخرجهم مشركو قريش من ديارهم بمكة، (ﭨ ﭩ ﭪ)، يعني: وأوذوا في طاعتهم ربهم، وعبادتهم إياه مخلصين له الدين، وذلك هو«سبيل الله» التي آذى فيها المشركون من أهل مكة المؤمنين برسول الله صلى الله عليه وسلم من أهلها»65.
وعدهم الله تعالى على ذلك، العفو والمغفرة، وأن يدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار، والآية تشمل من هاجر إلى الحبشة، ومن هاجر إلى المدينة.
وقال تعالى: (ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ) [النساء:١٠٠].
هذا تحريض على الهجرة، ووعد بالأجر العظيم عليها: الأجر الدنيوي والأخروي.
ولذا استجاب الصحابة لنداء ربهم، فتركوا كل شيء لنيل رضاه، فاستحقوا بذلك ثناءه عز وجل، يقول تعالى: (ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ) [البقرة:٢١٨].
تزكية لقلوبهم، ووعد لهم بالمغفرة، وبيان لسبب خروجهم، ووصفهم بالصدق، فقال: (ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ) [الحشر:٨].
وأنهم ما أخرجوا إلا لإيمانهم بالله عز وجل: (ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ) [الحج:٤٠].
وذكر جزاءهم، في آيات كثيرة، منها قوله تعالى: (ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ) [النحل:٤١-٤٢].
وما في قوله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ) [آل عمران:١٩٥] التي مر ذكرها قريبًا.
هذا فيما يتعلق بمجموعهم، أما إذا تحدثنا عن أفرادهم، فلا ريب أن سيدهم في ذلك الصديق رضي الله عنه، الذي سجل القرآن الكريم موقفه العظيم من رسول الله تعالى، يقول تعالى: (ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ) [التوبة:٤٠].
يقول الطبري: «وإنما عنى جل ثناؤه بقوله:(ﮮ ﮯ)، رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبا بكر رضي الله عنه، لأنهما كانا اللذين خرجا هاربين من قريش إذ هموا بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، واختفيا في الغار»66.
قال الإمام البخاري: «باب مناقب المهاجرين وفضلهم، منهم أبو بكرٍ عبد الله بن أبي قحافة التيمي رضي الله عنه، وقول الله تعالى: (ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ) [الحشر:٨].
وقال الله:(ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ) إلى قوله: (ﯚ ﯛ ﯜ) [التوبة:٤٠].
قالت عائشة وأبو سعيد وابن عباسٍ رضي الله عنهم: وكان أبو بكرٍ مع النبي صلى الله عليه وسلم في الغار»67.
ثم أورد بسنده عن البراء قال: (اشترى أبو بكرٍ رضي الله عنه من عازبٍ رحلًا بثلاثة عشر درهمًا، فقال أبو بكر لعازبٍ: مر البراء فليحمل إلي رحلي، فقال عازبٌ: لا، حتى تحدثنا كيف صنعت أنت ورسول الله صلى الله عليه وسلم، حين خرجتما من مكة والمشركون يطلبونكم، قال: ارتحلنا من مكة فأحيينا أو سرينا ليلتنا ويومنا حتى أظهرنا وقام قائم الظهيرة، فرميت ببصري هل أرى من ظلٍ فآوي إليه، فإذا صخرةٌ أتيتها، فنظرت بقية ظلٍ لها، فسويته ثم فرشت للنبي صلى الله عليه وسلم فيه، ثم قلت له: اضطجع يا نبي الله، فاضطجع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم انطلقت أنظر ما حولي هل أرى من الطلب أحدًا، فإذا أنا براعي غنمٍ يسوق غنمه إلى الصخرة يريد منها الذي أردنا، فسألته فقلت له: لمن أنت يا غلام؟ قال: لرجلٍ من قريش سماه، فعرفته، فقلت: هل في غنمك من لبنٍ؟ قال: نعم، قلت: فهل أنت حالبٌ لنا؟ قال: نعم، فأمرته فاعتقل شاة من غنمه، ثم أمرته أن ينفض ضرعها من الغبار، ثم أمرته أن ينفض كفيه، فقال هكذا ضرب إحدى كفيه بالأخرى، فحلب لي كثبةً من لبن، وقد جعلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم إداوةً على فمها خرقةٌ فصببت على اللبن حتى برد أسفله، فانطلقت به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فوافقته قد استيقظ، فقلت: اشرب يا رسول الله، فشرب حتى رضيت، ثم قلت: قد آن الرحيل يا رسول الله، قال: بلى، فارتحلنا والقوم يطلبوننا، فلم يدركنا أحدٌ منهم غير سراقة بن مالك بن جعشمٍ على فرس له، فقلت: هذا الطلب قد لحقنا يا رسول الله فقال: (ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ))68.
ثم أورد حديثًا آخر بسنده عن أبي بكرٍ رضي الله عنه، قال: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم وأنا في الغار: لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا فقال: (ما ظنك يا أبا بكرٍ باثنين الله ثالثهما)69.
ثالثًا: غزوة بدر:
ارتباط غزوة بدر بالصحابة وثيق، ذلك أنها من المعالم البارزة في حياتهم التي نالوا بها شرفًا عظيمًا، حتى إنه لينسب إليها من اشترك فيها فيقال:بدريٌ، ولم تحظ غزوة أخرى بهذا الشرف. وثمة مقام آخر، أخرج الإمام البخاري بسنده عن معاذ بن رفاعة بن رافعٍ الزرقي عن أبيه، وكان أبوه من أهل بدر، قال: (جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:ما تعدون أهل بدرٍ فيكم؟ قال: من أفضل المسلمين) أو كلمةً نحوها، قال: وكذلك من شهد بدرًا من الملائكة)70.
ولقد وثق القرآن الكريم أحداث هذه الغزوة في سورة الأنفال، حتى لقد سماها ابن عباس رضي الله عنهما سورة بدر.
وذكر طرفًا منها في سورة آل عمران، ويظهر فضل الله تعالى على الصحابة في هذه الغزوة، في أمور متعددة، نذكر منها:
قال تعالى: (ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ) [آل عمران:١٢٣].
قال ابن كثير: «أي: يوم بدر، وكان في جمعة وافق السابع عشر من رمضان، من سنة اثنتين من الهجرة، وهو يوم الفرقان الذي أعز الله فيه الإسلام وأهله، ودمغ فيه الشرك وخرب محله، هذا مع قلة عدد المسلمين يومئذ، فإنهم كانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلًا، فيهم فرسان وسبعون بعيرًا، والباقون مشاة، ليس معهم من العدد جميع ما يحتاجون إليه، وكان العدو يومئذ ما بين التسعمائة إلى الألف في سوابغ الحديد والبيض، والعدة الكاملة والخيول المسومة والحلي الزائد، فأعز الله رسوله، وأظهر وحيه وتنزيله، وبيض وجه النبي وقبيله، وأخزى الشيطان وجيله.
ولهذا قال تعالى ممتنًا على عباده المؤمنين وحزبه المتقين: (ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ) أي: قليل عددكم؛ ليعلموا أن النصر إنما هو من عند الله، لا بكثرة العدد والعدد»71.
قال عز وجل وجل: (ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸﭹﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ) [آل عمران:١٢٤-١٢٥].
ولمعرفة منزلة الصحابة رضي الله عنهم تأمل قوله تعالى: (ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ) [آل عمران:١٢٦].
أي: «وما أنزل الله الملائكة وأعلمكم بإنزالها إلا بشارة لكم وتطييبًا لقلوبكم وتطمينًا، وإلا فإنما النصر من عند الله، الذي لو شاء لانتصر من أعدائه بدونكم، ومن غير احتياج إلى قتالكم لهم»72.
قال تعالى: (ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ) [الأنفال:١١].
«يذكرهم الله تعالى بما أنعم به عليهم من إلقائه النعاس عليهم أمانًا أمنهم به من خوفهم الذي حصل لهم من كثرة عدوهم وقلة عددهم»73.
قال تعالى: (ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ) [الأنفال:١١].
وهذه منة أخرى، أنعمها الله تعالى عليهم وهم محتاجون إليها، وهي أنه تعالى أنزل عليهم المطر، وإسناده هذا الإنزال إليه عز وجل؛ للتنبيه على أنه أكرمهم به، ليثبت أقدامهم، ويذهب عنهم وساوس الشيطان، فطهرهم بالمطر ظاهرًا وباطنًا74.
قال الله تعالى: (ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ) [الأنفال:١٢].
«وهذه نعمة خفية أظهرها الله تعالى لهم ليشكروه عليها، وهو أنه تعالى وتقدس وتبارك وتمجد أوحى إلى الملائكة الذين أنزلهم لنصر نبيه ودينه وحزبه المؤمنين يوحي إليهم فيما بينه وبينهم أن يثبتوا الذين آمنوا»75.
وهذا الشرف يدرك من النقطة السابقة.
قال تعالى: (ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ). أي: «سأرعب قلوب الذين كفروا بي، أيها المؤمنون منكم، وأملؤها فرقًا حتى ينهزموا عنكم»76.
ولا شك أن في إسناد إلقاء الرعب إلى الله تعالى ما فيه، من تكريم للمؤمنين، ومن بيان عظم الرعب الذي ألقاه الله جل جلاله.
أما مواقف الصحابة في هذه الغزوة، فنتحدث عنها على قسمين:
الأول: فيما يتعلق بمجموع الصحابة، فيكفي أن الله تعالى وصفهم بالإيمان في معرض امتنانه عليهم-وقد ذكرنا قبل قليل الآيات الدالة على ذلك-ولا شك أن هذه أعظم تزكية من رب العالمين، ولذا استحقوا أن ينصرهم الله عز وجل مع قلتهم، ولنتأمل هذا الحوار بين النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، أخرج مسلم في صحيحه عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، شاور حين بلغه إقبال أبى سفيان، قال: (فتكلم أبو بكر، فأعرض عنه، ثم تكلم عمر، فأعرض عنه، فقام سعد بن عبادة فقال: إيانا تريد يا رسول الله، والذى نفسي بيده، لو أمرتنا أن نخيضها البحر لأخضناها، ولو أمرتنا أن نضرب أكبادها إلى برك الغماد لفعلنا-قال-فندب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس فانطلقوا حتى نزلوا بدرًا) 77.
أما كراهية فريق من الصحابة للقتال، فهذا راجع لأمور، وقبل بيانها، لنتأمل قوله تعالى:(ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ)[الأنفال:٥-٦].
بالتأمل يظهر الآتي:
أما لماذا كره بعضهم؛ فلأنهم ما خرجوا ابتداء للقتال، وإنما للتعرض لقافلة قريش، وكان حراسها أربعين شخصًا، فاستعدادهم النفسي والمادي كان لمثل هذا العدد، أما النفير، فالأمر يختلف، فهم أمام ألف فارس، خرجوا للقتال لا لحراسة قافلة.
يقول السعدي: «كثير من المؤمنين لم يجر منهم من هذه المجادلة شيء، ولا كرهوا لقاء عدوهم.
وكذلك الذين عاتبهم الله، انقادوا للجهاد أشد الانقياد، وثبتهم الله، وقيض لهم من الأسباب ما تطمئن به قلوبهم»78.
الثاني: وأما على المستوى الفردي، فالأمثلة على إخلاصهم وشجاعتهم وحبهم للرسول صلى الله عليه وسلم كثيرة جدًا، نذكر منها:
أخرج مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك قال: (فقال:رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض). قال: يقول عمير بن الحمام الأنصارى: يا رسول الله جنة عرضها السموات والأرض؟ قال: (نعم). قال: بخٍ بخٍ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما يحملك على قولك بخٍ بخٍ؟). قال: لا والله يا رسول الله إلا رجاءة أن أكون من أهلها. قال: (فإنك من أهلها). فأخرج تمرات من قرنه فجعل يأكل منهن، ثم قال: لئن أنا حييت حتى آكل تمراتى هذه إنها لحياة طويلة. قال: فرمى بما كان معه من التمر. ثم قاتلهم حتى قتل79.
قال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: (إني لفي الصف يوم بدر إذ التفت، فإذا عن يميني وعن يساري فتيان حديثا السن فكأني لم آمن بمكانهما إذ قال لي أحدهما سرًا من صاحبه: يا عم! أرني أبا جهل. فقلت: يا ابن أخي وما تصنع به؟ قال: عاهدت الله إن رأيته أن أقتله أو أموت دونه، فقال لي الآخر سرًا من صاحبه مثله، قال: فما سرني أني بين رجلين مكانهما، فأشرت لهما، اليه فشدا عليه مثل الصقرين حتى ضرباه. وهما ابنا عفراء).80
أخرج البخاري عن ابن مسعود رضي الله عنه: (شهدت من المقداد الأسود مشهدًا لأن أكون صاحبه أحب إلي مما عدل به، أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يدعو على المشركين، فقال: لا نقول كما قال قوم موسى:(ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ)[المائدة:٢٤]، ولكنا نقاتل عن يمينك وعن شمالك وبين يديك وخلفك؛ فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم أشرق وجهه وسره، يعني قوله81.
رابعًا: غزوة أحد:
تميز حديث القرآن الكريم عن غزوة أحد بالآتي82:
قال تعالى: (ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ) [آل عمران:١٣٧].
هذه تسلية من الله تعالى للمؤمنين، والمعنى:«قد جرى نحو هذا على الأمم الذين كانوا من قبلكم من أتباع الأنبياء، ثم كانت العاقبة لهم، والدائرة على الكافرين.
ولهذا قال تعالى:(ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ)83.
وفيه بشرى أن العاقبة ستكون لهم، وما عليهم ليتأكدوا سوى السير في الأرض.
يقول تعالى: (ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ) [آل عمران:١٣٩].
في هذه الآية الكريمة رفع لهمة الصحابة، وإعلاء لشأنهم، وتأمل الخطاب الرباني: (ﮯ ﮰ)، ومن كان هذا شأنه، لا يمكن أن يضعف أو يحزن، ثم يهيجهم لذلك (ﮱ ﯓ ﯔ).
قال ابن عاشور: «التعليق بالشرط في قوله: (ﮱ ﯓ ﯔ) قصد به تهييج غيرتهم على الإيمان، إذ قد علم الله أنهم مؤمنون، ولكنهم لما لاح عليهم الوهن والحزن من الغلبة، كانوا بمنزلة من ضعف يقينه فقيل لهم: إن علمتم من أنفسكم الإيمان. وجيء بإن الشرطية التي من شأنها عدم تحقيق شرطها، إتمامًا لهذا المقصد»84.
قال القرطبي في قوله تعالى:(ﮯ ﮰ): «وفي هذه الآية بيان فضل هذه الأمة؛ لأنه خاطبهم بما خاطب به أنبياءه؛ لأنه قال لموسى: (ﭴ ﭵ ﭶ) [طه:٦٨].
وقال لهذه الأمة:(ﮯ ﮰ).
وهذه اللفظة مشتقة من اسمه الأعلى، فهو سبحانه العلي، وقال للمؤمنين:(ﮯ ﮰ)»85.
يلاحظ في هذه الغزوة أن الله تعالى قد ترفق في عتابهم.
يقول تعالى: (ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ) [آل عمران:١٥٢].
وتأمل (ﮠ ﮡ ﮢ)، ثم لم يقل عز وجل: والله ذو فضل عليكم، وإنما على المؤمنين، ليعلم أن وصف الإيمان ثابت لهم، بل حازوا كماله رضي الله عنهم. والله أعلم.
قال تعالى: (ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ) [آل عمران:١٤٦-١٤٨].
قال أبو حيان: «لما كان من المؤمنين ما كان يوم أحد، وعتب عليهم الله ما صدر منهم في الآيات التي تقدمت، أخبرهم بأن الأمم السالفة قتلت أنبياء لهم كثيرون، أو قتل ربيون كثير معهم، فلم يلحقهم ما لحقكم من الوهن والضعف، ولا ثناهم عن القتال فجعهم بقتل أنبيائهم، أو قتل ربييهم، بل مضوا قدمًا في نصرة دينهم، صابرين على ما حل بهم. وقتل نبي أو أتباعه من أعظم المصاب، فكذلك كان ينبغي لكم التأسي بمن مضى من صالحي الأمم السابقة، هذا وأنتم خير الأمم، ونبيكم خير الأنبياء. وفي هذه الجملة من العتب لمن فر عن النبي صلى الله عليه وسلم ما لا يخفى»86.
يقول تعالى: (ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞﮟ ﮠ ﮡ ﮢﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ) [آل عمران:١٥٢].
«(ﮄ ﮅ ﮆ) حتى إذا جبنتم وضعفتم (ﮇ ﮈ ﮉ) يقول: واختلفتم في أمر الله، يقول: وعصيتم وخالفتم نبيكم، فتركتم أمره وما عهد إليكم. وإنما يعني بذلك الرماة الذين كان أمرهم صلى الله عليه وسلم بلزوم مركزهم ومقعدهم من فم الشعب بأحد»87.
هذه المعصية من بعض الصحابة، -وكانت اجتهادًا منهم رضي الله عنهم وظنًا أن المعركة قد حسم أمرها-، كان لها أثر عظيم في الهزيمة، مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم فيهم، ولكنه درس عملي لهم، ولكل من يأتي بعدهم ينبههم إلى خطر المعاصي.
يقول تعالى: (ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ) [آل عمران:١٥٢].
عاتبهم ربهم، وهو يرقى بهم نحو الكمال. ولقد حدد موطن الخطأ، وخصص ولم يعمم، (ﮒ)، وهذا التخصيص لم يكن بذكر أسماء من يريد الدنيا، ثم تأمل بعدها (ﮠ ﮡ ﮢ)؛ ليعلم أن القصد من ذكرها أن تتلافى مستقبلًا.
غير الإسلام كثيرًا من المفاهيم التي كانت سائدة آنذاك، فلئن كان القتل يعد خسارة عند قوم، فهو عند الله تعالى اصطفاء، (ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ) [آل عمران:١٤٠].
ويعزز هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لما أصيب إخوانكم بأحد، جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر، ترد أنهار الجنة، تأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش، فلما وجدوا طيب مشربهم ومأكلهم وحسن منقلبهم، قالوا:يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله لنا؛ لئلا يزهدوا في الجهاد ولا ينكلوا عن الحرب، فقال عز وجل: أنا أبلغهم عنكم، فأنزل الله عز وجل هؤلاء الآيات على رسوله: (ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛﮜ ﮝ ﮞ) [آل عمران:١٦٩])88.
مواقف بطولية للصحابة رضي الله عنهم في هذه الغزوة:
قال خباب بن الأرت رضي الله عنه: (هاجرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نبتغي وجه الله، فوجب أجرنا على الله، ومنا من مضى أو ذهب لم يأكل من أجره شيئًا، كان منهم مصعب بن عمير، قتل يوم أحد، لم يترك إلا نمرة، كنا إذا غطينا بها رأسه خرجت رجلاه، وإذا غطي بها رجلاه خرج رأسه، فقال لنا النبي صلى الله عليه وسلم: (غطوا بها رأسه، واجعلوا على رجله الإذخر-أو قال: ألقوا على رجليه من الإذخر)، ومنا من أينعت له ثمرته فهو يهدبها)89.
وللصحابيات دورهن، ففي صحيح البخاري: (أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قسم مروطًا بين نساء من نساء أهل المدينة، فبقي منها مرط جيد، فقال له بعض من عنده: يا أمير المؤمنين أعط هذا بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم التي عندك، يريدون أم كلثوم بنت علي، فقال عمر: أم سليط أحق به. وأم سليط من نساء الأنصار ممن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال عمر: فإنها كانت تزفر لنا القرب يوم أحد)90.
خامسًا: غزوة الأحزاب:
حدثت غزوة الأحزاب في السنة الخامسة للهجرة، وقد نزلت سورة تحمل اسمها، ويكفي في وصف ماحدث فيها للصحابة الكرام، قوله تعالى: (ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ) [الأحزاب:١٠-١١].
ولم يحصل اقتتال يذكر، لكن هذه الغزوة كانت ممحصة للصف المؤمن، فنجم النفاق، وأظهر المنافقون ما كانوا يخفون، وقد قص الله من أنبائهم.
يقول تعالى: (ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ) [الأحزاب:١٢-١٥].
وهذا من ثمار هذه الغزوة، ويستحسن أن لا تترك هذه السانحة لنبين باختصار قضية النفاق:
النفاق يعني: تمكن الحق وغلبة أهله، وأن المنافقين من الذلة لدرجة العجز عن إعلان ما يعتقدون.
إن الله تعالى وعد المؤمنين أن يكشف لهم حقيقة المنافقين، فقال تعالى: (ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ) [آل عمران:١٧٩].
وقال عز وجل: (ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ) [محمد:٢٩].
وقد كشفت غزوة الأحزاب أمرهم، فتباينت المواقف، موقف المؤمنين: (ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ) [الأحزاب:٢٢].
وموقف المنافقين: (ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ) [الأحزاب:١٢].
ولنتأمل هذه الآيات: (ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ) [الأحزاب:١٣-٢٠].
إن هذا الإطناب في الحديث عنهم له مغزى عظيم، وهكذا صارت المحن تفضح المنافقين شيئًا فشيئًا، حتى قال تعالى: (ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ) [التوبة:١٢٦]91.
إذن فأمر الصحابة معروف، وأمر المنافقين مكشوف، ولا يقع اللبس إلا لمن في قلبه مرض يمنعه من التمييز.
يتلخص حديث القرآن الكريم عن هذه الغزوة في الآتي:
قال تعالى: (ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ) [الأحزاب:٩].
قال تعالى: (ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ) [الأحزاب:١٠].
وقد مر قبل قليل ذكر كثير من الآيات الدالة على ذلك.
قال تعالى: (ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ) [الأحزاب:٢٢].
قال تعالى: (ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ) [الأحزاب:٢١].
قال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ) [الأحزاب:٢٣].
قال تعالى: (ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ) [الأحزاب:٢٥].
حيث ألقى سبحانه الرعب في قلوبهم فنزلوا على حكم الله ورسوله.
قال تعالى: (ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ) [الأحزاب:٢٦-٢٧]92.
من مواقف الصحابة رضي الله عنهم:
تعددت مواقف الصحابة، ففيما يتعلق بمجموعهم، فالكل يشارك في حفر الخندق، والكل أصابه من الجوع ما أصابه، والكل مستعد لتنفيذ ما يوجه إليه من أوامر، وهم كما وصفهم الله تعالى: (ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ) [الأحزاب:١٠].
ولنستعرض بعض النصوص التي توضح هذا:
أخرج الإمام البخاري عن أنس رضي الله عنه قال: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الخندق، فإذا المهاجرون والأنصار يحفرون في غداة باردة، فلم يكن لهم عبيد يعملون ذلك لهم، فلما رأى ما بهم من النصب والجوع قال: (اللهم إن العيش عيش الآخرة. فاغفر للأنصار والمهاجرة). فقالوا مجيبين له:
نحن الذين بايعوا محمدًا
على الجهاد ما بقينا أبدًا)93.
وفي رواية عنه رضي الله عنه: (قال: يؤتون بملء كفي من الشعير، فيصنع لهم بإهالة سنخةٍ، توضع بين يدي القوم، والقوم جياعٌ، وهي بشعةٌ في الحلق ولها رييٌ منتنٌ)94 .
أخرج البخاري بسنده عن جابر رضي الله عنه قال: (لما حفر الخندق رأيت بالنبي صلى الله عليه وسلم خمصًا شديدًا، فانكفأت إلى امرأتي فقلت: هل عندك شيءٌ؟ فإني رأيت برسول الله صلى الله عليه وسلم خمصًا شديدًا، فأخرجت إلي جرابًا فيه صاعٌ من شعيرٍ، ولنا بهيمةٌ داجنٌ، فذبحتها وطحنت الشعير، ففرغت إلى فراغي وقطعتها في برمتها، ثم وليت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: لا تفضحني برسول الله صلى الله عليه وسلم وبمن معه، فجئته فساررته فقلت: يا رسول الله ذبحنا بهيمةً لنا وطحنا صاعًا من شعيرٍ كان عندنا، فتعال أنت ونفر معك. فصاح النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا أهل الخندق إن جابرًا قد صنع سؤرًا فحي هلًا بكم) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تنزلن برمتكم ولا تخبزن عجينكم حتى أجيء)، فجئت وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقدم الناس، حتى جئت امرأتي، فقالت: بك وبك، فقلت: قد فعلت الذي قلت. فأخرجت له عجينًا، فبصق فيه، وبارك، ثم عمد إلى برمتنا فبصق وبارك، ثم قال: ادع خابزةً فلتخبز معي، واقدحي من برمتكم ولا تنزلوها وهم ألف، فأقسم بالله لقد أكلوا حت تركوه، وانحرفوا وإن برمتنا لتغط كما هي، وإن عجننا ليخبز كما هو)95.
أما الآن، فلستعرض المواقف الفردية للصحابة، ونكتفي بواحد منها96.
موقف للزبير بن العوام:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب: (من يأتينا بخبر القوم؟). فقال الزبير:أنا. ثم قال: (من يأتينا بخبر القوم؟). فقال الزبير:أنا. ثم قال: (من يأتينا بخبر القوم؟). فقال الزبير:أنا. ثم قال: (إن لكل نبي حواريًا، وأن حواري الزبير)97.
سادسًا: بيعة الرضوان:
يقول تعالى: (ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ) [الفتح:١٨-١٩].
يقول الطبري: «لقد رضي الله يا محمد عن المؤمنين (ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ) يعني: بيعة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله بالحديبية، حين بايعوه على مناجزة قريش الحرب، وعلى أن لا يفروا..، وكانت بيعتهم إياه هنالك فيما ذكر تحت شجرة. وكان سبب هذه البيعة ما قيل: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان أرسل عثمان بن عفان رضي الله عنه برسالته إلى الملإ من قريش، فأبطأ عثمان عليه بعض الإبطاء، فظن أنه قد قتل، فدعا أصحابه إلى تجديد البيعة على حربهم على ما وصفت، فبايعوه على ذلك، وهذه البيعة التي تسمى بيعة الرضوان، وكان الذين بايعوه هذه البيعة فيما ذكر في قول بعضهم: ألفًا وأربع مئة، وفي قول بعضهم: ألفًا وخمس مئة، وفي قول بعضهم: ألفًا وثلاث مئة»98.
كيف تلقى الصحابة رضي الله عنهم هذه الآية، وهم يعلمون أنهم المقصودون، لقد رضي الله تعالى عنهم، وقد أكد هذا الرضا بثلاثة مؤكدات، ثم عبر عنه بالماضي، دلالة على تحقق الأمر، ثم وصفهم بالمؤمنين، ثم بين علمه تعالى بما في قلوبهم من الصدق.واستحقوا مع هذه البشرى من الله تعالى، بشارة من الرسول صلى الله عليه وسلم حيث يقول: (لا يدخل النار-إن شاء الله-من أصحاب الشجرة أحد الذين بايعوا تحتها)99.
وقد أخرج البخاري بسنده عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية: (أنتم خير أهل الأرض)، وكنا ألفًا وأربع مائةٍ، ولو كنت أبصر اليوم، لأريتكم مكان الشجرة100.
وهل هناك شرف أعظم من أن يجعل الله تعالى مبايعة هؤلاء الكرام رضي الله عنهم للرسول، صلى الله عليه وسلم مبايعة له عز وجل: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ) [الفتح:١٠].
أما قوله تعالى: (ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ) فهو تحذير من نكث هذه البيعة وتفظيع له؛ لأن الشرط يتعلق بالمستقبل، ولم ينكث أحد ممن بايع؛ لأن سبب المبايعة قد انعدم بالصلح الواقع بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين أهل مكة وأن هذه الآية نزلت فيما بين ساعة البيعة وبين انعقاد الهدنة وحصل أجر الإيفاء بالنية عدمه لو نزل ما عاهدوا الله علي101.
قال جابر رضي الله عنه: (بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة على الموت، وعلى ألا نفر، فما نكث أحد منا البيعة، إلا جد بن قيس المنافق، اختبأ تحت إبط بعيره، ولم يسر مع قومه)102.
سابعًا: غزوة حنين:
هذه الغزوة كانت بعد فتح مكة، في السنة الثامنة للهجرة، قوامها اثنا عشر ألفًا، ولقد صدرت الآيات التي تتحدث عن هذه الغزوة بقوله تعالى: (ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ) [التوبة:٢٥].
تذكيرًا بما سلف من نصر الله تعالى لهم، ومنها ما حصل في غزوة بدر، (ﮥ ﮦ)، وهو واد بين مكة والطائف، قاتل عليه نبي الله عليه السلام هوازن وثقيفًا بعد فتح مكة (ﮨ ﮩ ﮪ) وذلك أنهم قالوا: لن نغلب اليوم من قلة وكانوا اثني عشر ألفًا (ﮫ ﮬ) لم تدفع عنكم شيئًا (ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ) برحبها وسعتها ضاقت عليكم، فلم تجدوا فيها موضعًا يصلح لفراركم، وهو قوله: (ﯕ ﯖ ﯗ) انهزمتم، أعلمهم الله تعالى أنهم ليسوا يغلبون بكثرتهم إنما يغلبون بنصر الله (ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ) يعني الأمنة والطمأنينة (ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ) الملائكة (ﯥ ﯦ ﯧ) بالقتل والأسر وسبي الأولاد (ﯩ ﯪ ﯫ ﯬﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ) فيهديه إلى الإسلام ولا يؤاخذه بما سلف(ﭛ ﭜ ﭝ) بمن آمن103.
يتضح من حديث القرآن الكريم عن هذه الغزوة الآتي:
(ﮨ ﮩ ﮪ)، ولم يقل الله تعالى: فلم تغن من عدوكم شيئًا، وإنما من الله، وهنا ربط القلوب بما يرضي الله، فالنصر من عنده وحده.
قال ابن كثير: «نبههم على أن النصر من عنده، سواء قل الجمع أو كثر، فإن يوم حنين أعجبتهم كثرتهم، ومع هذا ما أجدى ذلك عنهم شيئًا، فولوا مدبرين إلا القليل منهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم»104.
قال تعالى: (ﯙ ﯚ ﯛ ﯜﯝ ﯞ ﯟ ﯠ)، أنزلها الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم وعلى المؤمنين.
قال الشوكاني:«هم الذين لم ينهزموا، وقيل:الذين انهزموا، والظاهر جميع من حضر منهم؛ لأنهم ثبتوا بعد ذلك وقاتلوا وانتصروا»105.
مواقف للصحابة في هذه الغزوة:
في صحيح مسلم بسنده عن العباس، قال: (شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنينٍ، فلزمت أنا وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم نفارقه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلة له بيضاء أهداها له فروة بن نفاثة الجذامي، فلما التقى المسلمون والكفار ولى المسلمون مدبرين، فطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم يركض بغلته قبل الكفار، قال عباس: وأنا آخذ بلجام بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم أكفها إرادة أن لا تسرع، وأبو سفيان آخذ بركاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أي عباس! ناد أصحاب السمرة). فقال عباس-وكان رجلًا صيتًا-فقلت بأعلى صوتى: أين أصحاب السمرة؟ قال: فوالله لكأن عطفتهم حين سمعوا صوتى عطفة البقر على أولادها. فقالوا: يا لبيك يا لبيك، قال: فاقتتلوا والكفار، والدعوة فى الأنصار يقولون: يا معشر الأنصار! يا معشر الأنصار! قال: ثم قصرت الدعوة على بني الحارث بن الخزرج فقالوا: يا بني الحارث بن الخزرج! يا بني الحارث بن الخزرج! فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على بغلته كالمتطاول عليها إلى قتالهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هذا حين حمى الوطيس). قال: ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حصياتٍ فرمى بهن وجوه الكفار. ثم قال: (انهزموا ورب محمدٍ). قال: فذهبت أنظر، فإذا القتال على هيئته فيما أرى، قال: فوالله ما هو إلا أن رماهم بحصياته، فما زلت أرى حدهم كليلًا وأمرهم مدبرًا)107.
ثامنًا: غزوة تبوك:
نزل معظم سورة التوبة في شأن هذه الغزوة، ولذا فإنه من المناسب أن نذكر اختصارًا لها، يقول ابن كثير: «ولما أنزل الله عز وجل على رسوله (ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ) [التوبة:٢٩].
ندب رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل المدينة ومن حولهم من الأعراب إلى الجهاد، وأعلمهم بغزو الروم، وذلك في رجب من سنة تسع، وكان لا يريد غزوة إلا ورى بغيرها، إلا غزوته هذه، فإنه صرح لهم بها؛ ليتأهبوا لشدة عدوهم وكثرته، وذلك حين طابت الثمار، وكان ذلك في سنة مجدبة، فتأهب المسلمون لذلك، وأنفق عثمان بن عفان رضي الله عنه على هذا الجيش-وهو جيش العسرة-مالًا جزيلًا، فقيل: ألف دينار، وقال بعضهم: إنه حمل على ألف بعير ومائة فرس وجهزها أتم جهاز، حتى لم يفقدوا عقالًا ولا خطامًا رضي الله عنه.
ونهض صلى الله عليه وسلم في نحو من ثلاثين ألفًا، واستخلف على المدينة محمد بن مسلمة، وقيل: سباع بن عرفطة، وقيل: علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، والصحيح أن عليًا كان خليفة له على النساء والذرية، وقد خرج معه عبد الله بن أبي رأس النفاق، ثم رجع في أثناء الطريق.
وتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم النساء والذرية ومن عذره الله من الرجال، ممن لا يجد ظهرًا يركبه، أو نفقة تكفيه، فمنهم البكاؤون وكانوا سبعة وتخلف منافقون كفرًا وعنادًا، وكانوا نحو الثمانين رجلًا، وتخلف عصاة، مثل مرارة بن الربيع، وكعب بن مالك، وهلال بن أمية، ثم تاب الله عليهم بعد قدومه صلى الله عليه وسلم بخمسين ليلة.
فسار صلى الله عليه وسلم فمر في طريقه بالحجر، فأمرهم أن لا يدخلوا عليهم بيوتهم إلا أن يكونوا بكائين، وأن لا يشربوا إلا من بئر الناقة، وما كانوا عجنوا به من غيره فليطعموه للإبل، وجازها صلى الله عليه وسلم مقنعًا، فبلغ صلى الله عليه وسلم تبوك وفيها عين تبض بشيء من ماء قليل، فكثرت ببركته مع ما شوهد من بركة دعائه في هذه الغزوة، من تكثير الطعام الذي كان حاصل الجيش جميعه منه مقدار العنز الباركة، فدعا الله عز وجل، فأكلوا منه وملؤوا كل وعاء كان في ذلك الجيش، وكذا لما عطشوا دعا الله تعالى فجاءت سحابة فأمطرت فشربوا حتى رووا واحتملوا.
ولما انتهى إلى هناك، لم يلق غزوًا، ورأى أن دخولهم إلى أرض الشام بهذه السنة يشق عليهم، فعزم على الرجوع وصالح صلى الله عليه وسلم يحنة بن رؤبة صاحب أيلة، وبعث خالدًا إلى أكيدر دومة، فجيء به فصالحه أيضًا ورده. ثم رجع صلى الله عليه وسلم، وكان رجوعه من هذه الغزاة في رمضان من سنة تسع، وأنزل فيها عامة سورة التوبة، وعاتب الله عز وجل من تخلف عنه صلى الله عليه وسلم، فقال عز وجل: (ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ) [التوبة:١٢٠]»108.
نتسطيع أن نستخلص بعض الدروس مما سبق:
لا تزال الفتن تميز الخبيث من الطيب، فهذه الغزوة، التي سميت بالعسرة، بكل ما تحمله من معان، وقد وقعت في وقت طابت فيه الثمار، والحر شديد، والشقة بعيدة، فلن يثبت أمام هذا كله إلا المؤمنون، وهذا ما حدث، فلقد انقسم الناس إلى ثلاثة أصناف:
فيما يتعلق بالمؤمنين يكفي أن يشار إلى قوله تعالى: (ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤﭥ ﭦ ﭧ ﭨﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ) [التوبة:٨٨-٨٩].
ويتأكد هنا ما سبق بيانه أن وصف الإيمان قد لازم الصحابة رضي الله عنهم، فما غيروا وما بدلوا تبديلًا رضي الله عنهم. وتأمل كيف يقرنهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم، وينص على أنهم معه، ثم وعدهم الله تعالى بالخيرات، وهي تتناول منافع الدارين؛ لإطلاق اللفظ، ووصفهم بالفلاح، بل هم الكاملون فيه، ثم وعدهم الجنة، مبينًا أن ذلك الأمر العالي المكانة، هو الفوز العظيم، الذي لا فوز مثله109.
شهد الله تعالى للصحابة رضي الله عنهم باتباع رسوله صلى الله عليه وسلم في ساعة العسرة، والتقييد بالعسرة يدل على أنهم كانوا صادقين في إيمانهم وحبهم لله ورسوله صلى الله عليه وسلم. يقول تعالى: (ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ) [التوبة:١١٧]، وافتتاح الآية بمؤكدات ثلاثة، والإتيان بالفعل الماضي، دلالة على تحقق هذه التوبة، وذكر النبي صلى الله عليه وسلم، وتقديمه ههنا، لبيان عظم منزلتها.110
أما المنافقون، فقد فضحتهم سورة التوبة، حتى سميت بالفاضحة، ومن الآيات التي أشارت إلى بعض أفعالهم الذميمة:
قوله تعالى: (ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ) [التوبة:٤٢].
قال الطبري: «وكانت جماعة من أصحابه قد استأذنوه في التخلف عنه حين خرج إلى تبوك، فأذن لهم: لو كان ما تدعو إليه المتخلفين عنك، والمستأذنيك في ترك الخروج معك إلى مغزاك الذي استنفرتهم إليه، (ﭤ ﭥ) يقول: غنيمة حاضرة (ﭦ ﭧ)، يقول: وموضعًا قريبًا سهلًا (ﭨ)، ونفروا معك إليهما، ولكنك استنفرتهم إلى موضع بعيد، وكلفتهم سفرًا شاقًا عليهم، لأنك استنهضتهم في وقت الحر، وزمان القيظ وحين الحاجة إلى الكن.
(ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ) يقول تعالى ذكره: وسيحلف لك، يا محمد، هؤلاء المستأذنون في ترك الخروج معك، اعتذارًا منهم إليك بالباطل، لتقبل منهم عذرهم، وتأذن لهم في التخلف عنك، بالله كاذبين (ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ)، يقول: لو أطقنا الخروج معكم بوجود السعة والمراكب والظهور وما لا بد للمسافر والغازي منه، وصحة البدن والقوى، لخرجنا معكم إلى عدوكم (ﭴ ﭵ) يقول: يوجبون لأنفسهم، بحلفهم بالله كاذبين، الهلاك والعطب؛ لأنهم يورثونها سخط الله، ويكسبونها أليم عقابه (ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ)، في حلفهم بالله»111.
ومنها قوله تعالى: (ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ) [التوبة:٤٩].
وقوله جل جلاله: (ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ) [التوبة:٥٨].
إلى غير ذلك من الآيات.
وأما العصاة، فسنذكر حديث كعب بن مالك رضي الله عنه 112، ولطوله سنختصره في الآتي:
تخلف كعب بن مالك رضي الله عنه عن غزوة تبوك من غير عذر، ولقد حاول اللحاق بالرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه، لكنه لم (يفعل، قال كعب: (وهممت أن أرتحل فأدركهم وليتني فعلت فلم يقدر لي ذلك»، ثم عند عودة الرسول صلى الله عليه وسلم أجمع على أن يقول الصدق، وطفق المخلفون يعتذرون ويحلفون، فقبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم علانيتهم وبايعهم واستغفر لهم ووكل سرائرهم إلى الله، أما كعب فيصف حاله: (فجئته فلما سلمت عليه تبسم تبسم المغضب، ثم قال: (تعالى) فجئت أمشي حتى جلست بين يديه، فقال لي:(ما خلفك، ألم تكن قد ابتعت ظهرك) فقلت: بلى إني والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أن سأخرج من سخطه بعذرٍ ولقد أعطيت جدلًا، ولكني والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به عني ليوشكن الله أن يسخطك علي، ولئن حدثتك حديث صدقٍ تجد علي فيه، إني لأرجو فيه عفو الله لا والله ما كان لي من عذر، والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أما هذا فقد صدق، فقم حتى يقضي الله فيك)، وقد (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف عنه، فاجتنبا الناس، وتغيروا لنا، حتى تنكرت في نفسي الأرض فما هي التي أعرف، فلبثنا على ذلك خمسين ليلةً). وأن ملك غسان دعاه بقوله: (أما بعد، فإنه قد بلغني أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار هوانٍ ولا مضيعةٍ، فالحق بنا نواسك). يقول كعب: (فقلت لما قرأتها:وهذا أيضًا من البلاء، فتيممت بها التنور فسجرته بها) ثم لما مضت أربعون، طلب منهم أن يعتزلوا نساءهم، يقول كعب: «فقلت:أطلقها أم ماذا أفعل؟ قال: لا بل اعتزلها ولا تقربها. وأرسل إلى صاحبي مثل ذلك، فقلت لامرأتي: الحقي بأهلك فتكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر».ثم نزلت توبتهم بعد مضي خمسين ليلة.
في هذه الحادثة دروس كثيرة، منها:
ونكتفي بحديث كعب بن مالك رضي الله عنه في بيان مواقف الصحابة رضي الله عنهم.
أولًا: زوجات النبي صلى الله عليه وسلم:
نزلت آيات كريمة تبين فضل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، ولو لم ينزل إلا قوله تعالى: (ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜﯝ ﯞ ﯟ) [الأحزاب:٦].
لكفاهن فخرًا، كيف وقد قرنهن الله تعالى بالنبي صلى الله عليه وسلم، وأضافهن إليه، قال القرطبي: «شرف الله تعالى أزواج نبيه صلى الله عليه وسلم بأن جعلهن أمهات المؤمنين، أي: في وجوب التعظيم والمبرة والإجلال وحرمة النكاح على الرجال، وحجبهن رضي الله تعالى عنهن بخلاف الأمهات»114.
وقال تعالى: (ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ) [الأحزاب:٢٨-٣٤].
تتحدث هذه الآيات في بدايتها عن التخيير، وقد ورد في صحيح البخاري ما يوضحه، (قالت عائشة: فأنزلت آية التخيير، فبدأ بي أول امرأةٍ فقال: (إني ذاكرٌ لك أمرًا، ولا عليك أن لا تعجلي، حتى تستأمري أبويك). قالت: قد أعلم أن أبوي لم يكونا يأمراني بفراقك. ثم قال: (إن الله قال: (ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ) إلى قوله: (ﯩ)) قلت: أفي هذا أستأمر أبوي؟ فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة. ثم خير نساءه. فقلن مثل ما قالت عائشة)115.
قال ابن كثير: «هذا أمر من الله تبارك وتعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم بأن يخير نساءه بين أن يفارقهن فيذهبن إلى غيره، ممن يحصل لهن عنده الحياة الدنيا وزينتها، وبين الصبر على ما عنده من ضيق الحال، ولهن عند الله تعالى في ذلك الثواب الجزيل، فاخترن رضي الله عنهن وأرضاهن الله ورسوله والدار الآخرة، فجمع الله تعالى لهن بعد ذلك بين خير الدنيا وسعادة الآخرة.
قال تعالى: (ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ) [الأحزاب:٣٠-٣١].
يقول الله تعالى واعظًا نساء النبي صلى الله عليه وسلم اللاتي اخترن الله ورسوله والدار الآخر، واستقر أمرهن تحت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فناسب أن يخبرهن بحكمهن وتخصيصهن دون سائر النساء بأن من يأت منهن بفاحشة مبينة.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: وهي النشوز وسوء الخلق، وعلى كل تقدير فهو شرط، والشرط لا يقتضي الوقوع، كقوله تعالى: (ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ) [الزمر:٦٥].
فلما كانت محلتهن رفيعة، ناسب أن يجعل الذنب لو وقع منهن مغلظًا؛ صيانة لجنابهن وحجابهن الرفيع، ولهذا قال تعالى: (ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ).
قال مالك عن زيد بن أسلم: (ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ) قال: في الدنيا والآخرة، (ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ) سهلًا هينًا، ثم ذكر عدله وفضله في قوله: (ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ) ويستجب (ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ) في الجنة، فإنهن في منازل رسول الله صلى الله عليه وسلم في أعلى العليين، فوق منازل جميع الخلائق في الوسيلة التي هي أقرب منازل الجنة إلى العرش.
وقال تعالى: (ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ) [الأحزاب:٣٢-٣٤].
هذه آداب أمر الله تعالى بها نساء النبي صلى الله عليه وسلم، ونساء الأمة تبع لهن في ذلك، فقال تعالى مخاطبًا لنساء النبي صلى الله عليه وسلم بأنهن إذا اتقين الله عز وجل كما أمرهن، فإنه لا يشبههن أحد من النساء، ولا يلحقهن في الفضيلة والمنزلة.
ثم قال تعالى: (ﭪ ﭫ ﭬ) قال السدي وغيره: يعني بذلك ترقيق الكلام إذا خاطبن الرجال، ولهذا قال تعالى: (ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ) دغل (ﭲ ﭳ ﭴ) قال ابن زيد: قولًا حسنًا جميلًا معروفًا في الخير، ومعنى هذا أنها تخاطب الأجانب بكلام ليس فيه ترخيم.
(ﭶ ﭷ ﭸ) الزمن بيوتكن فلا تخرجن لغير حاجة، ومن الحوائج الشرعية الصلاة في المسجد بشرطه، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله، ولكن ليخرجن وهن تفلات)116. وفي رواية (وبيوتهن خير لهن)117.
(ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ) قال مجاهد: كانت المرأة تخرج تمشي بين يدي الرجال، فذلك تبرج الجاهلية. وقال قتادة: إذا خرجتن من بيوتكن، وكانت لهن مشية وتكسر وتغنج، فنهى الله تعالى عن ذلك.
وقال مقاتل بن حيان: (ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ) والتبرج: أنها تلقي الخمار على رأسها ولا تشده، فيواري قلائدها وقرطها وعنقها، ويبدو ذلك كله منها، وذلك التبرج، ثم عمت نساء المؤمنين في التبرج.
(ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ) نهاهن أولًا عن الشر، ثم أمرهن بالخير من إقامة الصلاة، وهي: عبادة الله وحده لا شريك له، وإيتاء الزكاة وهي: الإحسان إلى المخلوقين (ﮃ ﮄ ﮅ) وهذا من باب عطف العام على الخاص.
وقوله تعالى: (ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ) وهذا نص في دخول أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في أهل البيت ههنا؛ لأنهن سبب نزول هذه الآية، وسبب النزول داخل فيه قولًا واحدًا، إما وحده على قول، أو مع غيره على الصحيح.
وروى ابن جرير عن عكرمة أنه كان ينادي في السوق: (ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ) نزلت في نساء النبي صلى الله عليه وسلم خاصة. وقال عكرمة: من شاء باهلته أنها نزلت في شأن نساء النبي صلى الله عليه وسلم، فإن كان المراد أنهن كن سبب النزول دون غيرهن، فصحيح، وإن أريد أنهن المراد فقط دون غيرهن ففيه نظر؛ فإنه قد وردت أحاديث تدل على أن المراد أعم من ذلك».
ثم قال ابن كثير: «ثم الذي لا يشك فيه من تدبر القرآن أن نساء النبي صلى الله عليه وسلم داخلات في قوله تعالى: (ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ)؛ فإن سياق الكلام معهن، ولهذا قال تعالى بعد هذا كله: (ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ) أي: واعملن بما ينزل الله تبارك وتعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم في بيوتكن من الكتاب والسنة، قاله قتادة وغير واحد، واذكرن هذه النعمة التي خصصتن بها من بين الناس، أن الوحي ينزل في بيوتكن دون سائر الناس، وعائشة الصديقة بنت الصديق رضي الله عنهما أولاهن بهذه النعمة، وأحظاهن بهذه الغنيمة، وأخصهن من هذه الرحمة العميمة؛ فإنه لم ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي في فراش امرأة سواها، كما نص على ذلك صلوات الله وسلامه عليه.»118.
وقال ابن العربي في قوله تعالى: (ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ) «يعني: في الفضل والشرف، فإنهن وإن كن من الآدميات، فلسن كإحداهن، كما أن النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان من البشر جبلة، فليس منهم فضيلة ومنزلة، وشرف المنزلة لا يحتمل العثرات، فإن من يقتدى به، وترفع منزلته على المنازل جدير بأن يرتفع فعله على الأفعال، ويربو حاله على الأحوال»119.
ولنذكر شيئًا مما ورد في فضل بعضهن:
أخرج الإمام البخاري عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خير نسائها مريم، وخير نسائها خديجة). 120 قال ابن حجر: «خير نسائها، أي: نساء زمانها»121.
يكفي في فضلها حديث رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: (أتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله هذه خديجة قد أتت معها إناءٌ فيه إدامٌ أو طعامٌ أو شرابٌ، فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها ومني وبشرها ببيتٍ في الجنة من قصبٍ، لا صخب فيه ولا نصب)122.
لقد أنزل الله تعالى في شأن عائشة رضي الله عنها قرآنًا يتلى، يظهر براءتها مما رماها به أهل الإفك، ولنترك عائشة الصديقة تحكي ذلك، تقول في حديث طويل نجتزئ منه الآتي: (وأنا أرجو أن يبرئني الله، ولكن والله ما ظننت أن ينزل في شأني وحيًا، ولأنا أحقر في نفسي من أن يتكلم بالقرآن في أمري، ولكني كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم رؤيا يبرئني الله، فوالله ما رام مجلسه، ولا خرج أحدٌ من أهل البيت، حتى أنزل عليه الوحي، فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء، حتى إنه ليتحدر منه مثل الجمان من العرق في يوم شاتٍ، فلما سري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يضحك، فكان أول كلمةٍ تكلم بها أن قال لي: (يا عائشة احمدي الله؛ فقد برأك الله). فقالت لي أمي: قومي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: لا والله لا أقوم إليه، ولا أحمد إلا الله. فأنزل الله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ)[النور:١١] الآيات)123.
يقول الزمخشري: «ومعنى كونه خيرًا لهم: أنهم اكتسبوا فيه الثواب العظيم؛ لأنه كان بلاء مبينًا ومحنة ظاهرة، وأنه نزلت فيه ثماني عشرة آية، كل واحدة منها مستقلة، بما هو تعظيم لشأن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتسلية له، وتنزيه لأم المؤمنين رضوان الله عليها، وتطهير لأهل البيت، وتهويل لمن تكلم في ذلك أو سمع به فلم تمجه أذناه، وعدة ألطاف للسامعين والتالين إلى يوم القيامة، وفوائد دينية، وأحكام وآداب لا تخفى على متأمليها»124.
وقال ابن كثير: «(ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ) أي: في الدنيا والآخرة، لسان صدق في الدنيا ورفعة منازل في الآخرة، وإظهار شرف لهم، باعتناء الله تعالى بعائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، حيث أنزل الله براءتها في القرآن العظيم (ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ) [فصلت:٤٢]»125.
وللزمخشري كلام نفيس حول هذا، يقول:«ولو فليت القرآن كله، وفتشت عما أوعد به من العصاة، لم تر الله تعالى قد غلظ في شيء تغليظه في إفك عائشة رضوان الله عليها، ولا أنزل من الآيات القوارع، المشحونة بالوعيد الشديد والعتاب البليغ والزجر العنيف، واستعظام ما ركب من ذلك، واستفظاع ما أقدم عليه، ما أنزل فيه على طرق مختلفة وأساليب مفتنة. كل واحد منها كاف في بابه، ولو لم ينزل إلا هذه الثلاث لكفى بها، حيث جعل القذفة ملعونين في الدارين جميعًا، وتوعدهم بالعذاب العظيم في الآخرة، وبأن ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم تشهد عليهم بما أفكوا وبهتوا، وأنه يوفيهم جزاءهم الحق الواجب الذي هم أهله، حتى يعلموا عند ذلك (ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ)[النور:٢٥].
فأوجز في ذلك وأشبع، وفصل وأجمل، وأكد وكرر، وجاء بما لم يقع في وعيد المشركين عبدة الأوثان إلا ما هو دونه في الفظاعة، وما ذاك إلا لأمر»126.
يقول تعالى: (ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ) [الأحزاب:٣٧]
ولن نطيل في شرح هذه الآية، لأن المراد ذكر فضلها رضي الله عنها، والشاهد من الآية الكريمة، قوله تعالى: (ﮊ)، وأن آية الحجاب نزلت بسببها، ففي صحيح البخاري عن أنس رضي الله عنه: نزلت آية الحجاب في زينب بنت جحش، وأطعم عليها يومئذ خبزًا ولحمًا، وكانت تفخر على نساء النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت تقول: (إن الله أنكحني في السماء)127. وفي رواية: (زوجكن أهاليكن، وزوجني الله تعالى من فوق سبع سموات)128.
ومما له صلة بهذا الحديث مما يدل على فضلها، قول أنس رضي الله عنه: (ما أولم رسول الله صلى الله عليه وسلم على امرأةٍ من نسائه أكثر أو أفضل مما أولم على زينب. فقال ثابتٌ البنانى: بما أولم قال: أطعمهم خبزًا ولحمًا حتى تركوه)129.
آيات العتاب في حق أزواج النبي صلى الله عليه وسلم:
قال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘﭙ ﭚ ﭛ ﭜﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧﭨ ﭩ ﭪﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ) [التحريم:١-٥].
قبل البدء في تناول هذه الآيات لا بد أن نعلم أن الصحابة رضي الله عنهم غير معصومين، وأنهم بشر، يقع منهم الذنب، ولكنهم يسارعون إلى التوبة، وفي الآيات التي معنا حصل ما يحصل بين الضرائر من الغيرة، والله تعالى يريد للصحابة أرفع المقامات، وبخاصة أن الأمر يتعلق بزوجات النبي الكريم صلى الله عليه وسلم.
ومن أفضل من تناول بيان هذه الآيات مع الإيجاز: الشيخ السعدي رحمه الله تعالى، يقول: «هذا عتاب من الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، حين حرم على نفسه سريته «مارية» أو شرب العسل130، مراعاة لخاطر بعض زوجاته، في قصة معروفة، فأنزل الله تعالى هذه الآيات (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ) الآيات (ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ).
قال كثير من المفسرين: هي حفصة أم المؤمنين رضي الله عنها، أسر لها النبي صلى الله عليه وسلم حديثًا، وأمر أن لا تخبر به أحدًا، فحدثت به عائشة رضي الله عنهما، وأخبره الله بذلك الخبر الذي أذاعته، فعرفها صلى الله عليه وسلم ببعض ما قالت، وأعرض عن بعضه، كرمًا منه صلى الله عليه وسلم، وحلمًا، فــ (ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ) الخبر الذي لم يخرج منا؟
(ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ) الخطاب للزوجتين الكريمتين من أزواجه صلى الله عليه وسلم: عائشة وحفصة رضي الله عنهما، كانتا سببًا لتحريم النبي صلى الله عليه وسلم على نفسه ما يحبه، فعرض الله عليهما التوبة، وعاتبهما على ذلك، وأخبرهما أن قلوبهما قد صغت، أي: مالت وانحرفت عما ينبغي لهن، من الورع والأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم واحترامه، وأن لا يشققن عليه.
(ﮘ ﮙ ﮚ) تعاونا على ما يشق عليه، ويستمر هذا الأمر منكن، (ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ) الجميع أعوان للرسول، مظاهرون، ومن كان هؤلاء أعوانه فهو المنصور، وغيره ممن يناوئه مخذول، وفي هذا أكبر فضيلة وشرف لسيد المرسلين؛ حيث جعل الباري نفسه الكريمة، وخواص خلقه، أعوانًا لهذا الرسول الكريم.
وهذا فيه من التحذير للزوجتين الكريمتين ما لا يخفى، ثم خوفهما أيضًا، بحالة تشق على النساء غاية المشقة، وهو الطلاق، الذي هو أكبر شيء عليهن، فقال: (ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ) فلا ترفعن عليه، فإنه لو طلقكن، لم يضق عليه الأمر، ولم يكن مضطرًا إليكن، فإنه سيلقى ويبدله الله أزواجًا خيرًا منكن، دينًا وجمالًا، وهذا من باب التعليق الذي لم يوجد، ولا يلزم وجوده، فإنه ما طلقهن، ولو طلقهن، لكان ما ذكره الله من هذه الأزواج الفاضلات، الجامعات بين الإسلام، وهو القيام بالشرائع الظاهرة، والإيمان، وهو: القيام بالشرائع الباطنة، من العقائد وأعمال القلوب.القنوت هو: دوام الطاعة واستمرارها.
(ﯕ) عما يكرهه الله، فوصفهن بالقيام بما يحبه الله، والتوبة عما يكرهه الله، (ﯘ ﯙ) بعضهن ثيب، وبعضهن أبكار، ليتنوع صلى الله عليه وسلم، فيما يحب.
فلما سمعن رضي الله عنهن هذا التخويف والتأديب، بادرن إلى رضا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان هذا الوصف منطبقًا عليهن، فصرن أفضل نساء المؤمنين، وفي هذا دليل على أن الله لا يختار لرسوله صلى الله عليه وسلم إلا أكمل الأحوال وأعلى الأمور، فلما اختار الله لرسوله بقاء نسائه المذكورات معه، دل على أنهن خير النساء وأكملهن131.
وما أروع الاستنباط الأخير، الذي يغني عن كل تعليق.
ثانيًا: قرابة النبي صلى الله عليه وسلم:
قال الإمام البخاري: «باب مناقب قرابة رسول صلى الله عليه وسلم، ومنقبة فاطمة عليها السلام بنت النبي صلى الله عليه وسلم. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (فاطمة سيدة نساء أهل الجنة).
ثم أورد أثرًا عن أبي بكرٍ رضي الله عنه قال: (ارقبوا محمدًا صلى الله عليه وسلم في أهل بيته)132.
وأردفه بحديث للنبي صلى الله عليه وسلم (فاطمة بضعةٌ مني، فمن أغضبها أغضبني)133.
ولما كان هذا الموضوع من المواضيع المتشعبة التي كثر فيها الكلام، وكان من الحكمة أن يبدأ الباحث بما انتهى إليه الآخرون، فإني سأعتمد في هذه النقطة على ما كتبه الأستاذ منصور بن حمد العيدي في رسالته (آيات آل البيت في القرآن الكريم)، وقد توصل إلى نتائج طيبة، أقتصر منها على ما يتعلق بالبحث:
نستخلص مما سبق أن الآية الوحيدة التي تخص آل البيت - إذا استثنينا أمهات المؤمنين رضي الله عنهن ، هي قوله تعالى: (ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ) [آل عمران:٦١].
هذا ما قاله د. العيدي، ولكننا نضيف إليها قوله تعالى: (ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ) [الحج:١٩].
وهي وإن لم تكن واردة بخصوص آل البيت، لكنها تتضمن فضلًا لعلي رضي الله عنه.
فيما يتعلق بآية المباهلة، فعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: (لما نزلت هذه الآية (ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ) دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليًا وفاطمة وحسنًا وحسينًا فقال: (اللهم هؤلاء أهلى)135.
وفي صحيح البخاري عن حذيفة قال: (جاء العاقب والسيد - صاحبا نجران - إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدان أن يلاعناه، قال: فقال أحدهما لصاحبه: لا تفعل، فوالله لئن كان نبيًا فلاعنا لا نفلح نحن ولا عقبنا من بعدنا، قالا: إنا نعطيك ما سألتنا، وابعث معنا رجلًا أمينًا ولا تبعث معنا إلا أمينًا. فقال: (لأبعثن معكم رجلًا أمينًا حق أمينٍ). فاستشرف له أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (قم يا أبا عبيدة بن الجراح)، فلما قام، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هذا أمين هذه الأمة)136.
قال الزمخشري: «وخص الأبناء والنساء؛ لأنهم أعز الأهل وألصقهم بالقلوب، وربما فداهم الرجل بنفسه وحارب دونهم حتى يقتل، ومن ثمة كانوا يسوقون مع أنفسهم الظعائن في الحروب؛ لتمنعهم من الهرب، ويسمون الذادة عنها بأرواحهم: حماة الحقائق.
وقدمهم في الذكر على الأنفس؛ لينبه على لطف مكانهم وقرب منزلتهم، وليؤذن بأنهم مقدمون على الأنفس مفدون بها، وفيه دليل لا شيء أقوى منه على فضل أصحاب الكساء عليهم السلام، وفيه برهان واضح على صحة نبوة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لم يرو أحد من موافق ولا مخالف أنهم أجابوا إلى ذلك»137.
قال تعالى: (ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ) [الحج:١٩].
في صحيح البخاري: (عن علي رضي الله عنه قال: فينا نزلت هذه الآية: (ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ)138. وكان أبو ذرٍ رضي الله عنه يقسم قسمًا أن هذه الآية (ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ) نزلت في الذين برزوا في يوم بدرٍ: حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث وعتبة وشيبة ابني ربيعة والوليد بن عتبة)139.
قال ابن كثير بعد أن ذكر الأقوال فيمن نزلت هذه الآية: «وقول مجاهد وعطاء: إن المراد بهذه الكافرون والمؤمنون يشمل الأقوال كلها، وينتظم فيه قصة يوم بدر وغيرها، فإن المؤمنين يريدون نصرة دين الله عز وجل، الكافرون يريدون إطفاء نور الإيمان وخذلان الحق وظهور الباطل، وهذا اختيار ابن جرير، وهو حسن»140.
وقال تعالى: (ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ) [الأحزاب:٣٣].
قد مر أن هذه الآيات نزلت في زوجات النبي صلى الله عليه وسلم، وهي تشمل آل النبي صلى الله عليه وسلم كلهم، قال ابن كثير - بعد أن ذكر قول من قال: إنها في زوجات النبي صلى الله عليه وسلم خاصة: «فإن كان المراد أنهن كن سبب النزول دون غيرهن، فصحيح، وإن أريد أنهن المراد فقط دون غيرهن، ففيه نظر، فإنه قد وردت أحاديث تدل على أن المراد أعم من ذلك».
ثم أورد عدة أحاديث، ومن جملتها حديث الكساء، وفيه: «قالت عائشة رضي الله عنها: خرج النبي صلى الله عليه وسلم ذات غداة وعليه مرطٌ مرحل من شعر أسود، فجاء الحسن رضي الله عنه فأدخله معه، ثم جاء الحسين فأدخله معه ثم جاءت فاطمة فأدخلها معه، ثم جاء علي رضي الله عنه فأدخله معه، ثم قال صلى الله عليه وسلم: (ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ)141.
وقال الشنقيطي: «الصواب شمول الآية الكريمة لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم، ولعلي وفاطمة والحسن والحسين، رضي الله عنهم كلهم»142.
ولا شك أن فيها فضيلة عظيمة لأهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم.
واجب المؤمنين تجاه الصحابة الكرام
بعد أن بينا مكانة الصحابة رضي الله عنهم من حيث قوة إيمانهم وصبرهم على الأذى، وهجرتهم، وما تعنيه من ترك للأهل والوطن، والأموال، ثم جهادهم بالنفس والمال، بذلوا كل ذلك وأكثر؛ لينصروا دين الله عز وجل، فما واجبنا نحن الذين جئنا من بعدهم، ووجدنا أمر الدين ميسرًا، ما موقفنا من هؤلاء النفر الذين اصطفاهم الله تعالى لصحبة خيرة خلقه، وأفضل رسله عليه وعليهم الصلاة والسلام، ما موقفنا منهم، نوجز هذا الأمر في نقاط:
الأولى: «اعتقاد إمامتهم في الدين»143، وأنهم خير القرون، مصداقًا، لقول الله تعالى: (ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ) [آل عمران:١١٠].
قال ابن كثير بعد أن ذكر قول ابن عباس رضي الله عنهما: «هم الذين هاجروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة «والصحيح أن هذه الآية عامة في جميع الأمة، كل قرن بحسبه، وخير قرونهم الذين بعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم»144، والآيات في خيريتهم كثيرة، ومنها: (ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ) ولا شك أن الصحابة أول الداخلين في ذلك.
أما الأحاديث فمنها: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (خيركم قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم)145.
وفي اعتقاد إمامتهم يعقد الآجري بابًا فيقول: «باب الحث على التمسك بكتإب الله عز وجل، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وسنة أصحابه رضي الله عنهم، وترك البدع، وترك النظر والجدال فيما يخالف فيه الكتاب والسنة، وقول الصحابة رضي الله عنهم»146.
الثانية: «اتباعهم بإحسان:
فقد أثنى الله عز وجل على السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، وعلى كل من اتبعهم بإحسان، فجعل اتباعهم بإحسان سبيلًا إلى مرضاته، قال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ) [التوبة:١٠٠]، وتوعد بالنار وسوء المصر من اتبع سبيلًا غير سبيلهم، فقال تعالى: (ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿﮀ ﮁ ﮂ ﮃ) [النساء:١١٥]
الثالثة: الثناء والترضي عليهم والاستغفار لهم، والإمساك عما شجر بينهم:
قال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ) [الحشر:١٠]
الرابعة: عدم اعتقاد العصمة لأحد منهم:
لا عصمة لأحد بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك لا يقدح في إمامتهم، والشهادة لهم بحقيقة الإيمان»147.
وأود أن أنبه هنا إلى أننا ينبغي أن نقف من الصحابة موقف الاعتدال، فبعض الناس يتوقع عصمتهم من الخطأ، فلا يقبل فكرة أن الصحابة قد يذنبون، وهذا خطأ، وفريق آخر يتلمس أخطاءهم، ويبرزها، ويضخمها، والمنهج الحق، أنهم - مع ما لهم من مكانة قد سبق بيانها - بشر، غير معصومين، قد يقعون في الخطأ، ولكنهم لا يصرون عليه، بل يبادرون للتوبة منه.
وسنورد بعض النصوص حول واجبنا نحوهم:
قال صلى الله عليه وسلم: (لا تسبوا أصحابي، لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحدٍ ذهبًا، ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه)148.
وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (حب الأنصار آية الإيمان، وبغضهم آية النفاق)149.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يبغض الأنصار رجلٌ يؤمن بالله واليوم الآخر)150.
قال أبو زرعة: (إذا رأيت الرجل ينتقص أحدًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلم أنه زنديق، وإنما أدى إلينا هذا القرآن والسنة أصحاب رسول الله، وإنما يريدون أن يجرحوا شهودنا؛ ليبطلوا الكتاب والسنة، والجرح بهم أولى، وهم زنادقة»151.
وقال المزني: «ويقال: بفضل خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فهو أفضل الخلق وأخيرهم بعد النبي صلى الله عليه وسلم، ونثني بعده بالفاروق، وهو عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فهما وزيرا رسول الله صلى الله عليه وسلم وضجيعاه في قبره، ونثلث بذي النورين عثمان بن عفان رضي الله عنه، ثم بذي الفضل والتقى علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين، ثم الباقين من العشرة الذين أوجب لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الجنة، ونخلص لكل رجل منهم من المحبة بقدر الذي أوجب لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من التفضيل، ثم لسائر أصحابه من بعدهم رضي الله عنهم أجمعين، ويقال بفضلهم، ويذكرون بمحاسن أفعالهم، ونمسك عن الخوض فيما شجر بينهم، فهم خيار أهل الأرض بعد نبيهم، ارتضاهم الله عز وجل لنبيه، وخلقهم أنصارًا لدينه، فهم أئمة الدين، وأعلام المسلمين، رضي الله عنهم أجمعين»152.
وقال ابن بطة تحت عنوان فضائل الصحابة: «ويشهد لجميع المهاجرين والأنصار بالجنة والرضوان والتوبة والرحمة من الله، ويستقر علمك، وتوقن بقلبك، أن رجلًا رأى النبي صلى الله عليه وسلم، وشاهده وآمن به واتبعه ولو ساعة من نهارٍ، أفضل ممن لم يره ولم يشاهده، ولو أتى بأعمال الجنة أجمعين، ثم الترحم على جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم صغيرهم وكبيرهم وأولهم وآخرهم، وذكر محاسنهم ونشر فضائلهم، والاقتداء بهديهم والاقتفاء لآثارهم، وأن الحق في كل ما قالوه والصواب فيما فعلوه»153.
ثم قال تحت عنوان: النهي عن الخوض في أحداث الفتنة الكبرى: «فقد شهدوا المشاهد معه، وسبقوا الناس بالفضل، فقد غفر الله لهم، وأمرك بالاستغفار لهم والتقرب إليه بمحبتهم، وفرض ذلك على لسان نبيه، وهو يعلم ما سيكون منهم، وأنهم سيقتتلون، وأنما فضلوا على سائر الخلق؛ لأن الخطأ والعمد قد وضع عنهم، وكل ما شجر بينهم مغفور لهم، ولا ينظر في كتاب صفين، والجمل، ووقعة الدار، وسائر المنازعات التي جرت بينهم، ولا تكتبه لنفسك ولا لغيرك، ولا تروه عن أحدٍ، ولا تقرأه على غيرك، ولا تسمعه ممن يرويه. فعلى ذلك اتفق سادات علماء هذه الأمة من النهي عما وصفناه»154.
وقال الطحاوي تحت عنوان: حب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: «ونحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نفرط في حب أحد منهم، ولا نتبرأ من أحد منهم، ونبغض من يبغضهم وبغير الخير يذكرهم، ولا نذكرهم إلا بخير، وحبهم دين وإيمان وإحسان وبغضهم كفر ونفاق وطغيان.
ونثبت الخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أولًا لأبي بكر الصديق رضي الله عنه تفضيلًا له وتقديمًا على جميع الأمة، ثم لعمر بن الخطاب رضي الله عنه، ثم لعثمان رضي الله عنه، ثم لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهم الخلفاء الراشدون والأئمة المهتدون. وأن العشرة الذين سماهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وبشرهم بالجنة نشهد لهم بالجنة على ما شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقوله الحق وهم: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد وسعيد وعبد الرحمن بن عوف وأبو عبيدة بن الجراح وهو أمين هذه الأمة رضي الله عنهم أجمعين.
ومن أحسن القول في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأزواجه الطاهرات من كل دنس وذرياته المقدسين من كل رجس، فقد برئ من النفاق155.
وقال الخطيب البغدادي: «عدالة الصحابة ثابتة معلومة بتعديل الله لهم وإخباره عن طهارتهم واختياره لهم في نص القرآن».
ثم ذكر الآيات والأحاديث الدالة على ذلك، ثم قال: «وجميع ذلك يقتضي طهارة الصحابة، والقطع على تعديلهم ونزاهتهم، فلا يحتاج أحد منهم مع تعديل الله تعالى لهم المطلع على بواطنهم إلى تعديل أحد من الخلق له، فهو على هذه الصفة إلا أن يثبت على أحد ارتكاب ما لا يحتمل إلا قصد المعصية والخروج من باب التأويل، فيحكم بسقوط العدالة، وقد برأهم الله من ذلك ورفع أقدارهم عنده، على أنه لو لم يرد من الله عز وجل ورسوله فيهم شيء مما ذكرناه، لأوجبت الحال التي كانوا عليها من الهجرة والجهاد والنصرة، وبذل المهج والأموال، وقتل الآباء والأولاد، والمناصحة في الدين، وقوة الإيمان واليقين، القطع على عدالتهم، والاعتقاد لنزاهتهم، وأنهم أفضل من جميع المعدلين والمزكين الذين يجيئون من بعدهم أبد الآبدين.
هذا مذهب كافة العلماء ومن يعتد بقوله من الفقهاء.
وذهبت طائفة من أهل البدع إلى أن حال الصحابة كانت مرضية إلى وقت الحروب التي ظهرت بينهم وسفك بعضهم دماء بعض، فصار أهل تلك الحروب ساقطي العدالة، ولما اختلطوا بأهل النزاهة وجب البحث عن أمور الرواة منهم، وليس في أهل الدين والمتحققين بالعلم من يصرف إليهم جرمًا لا يحتمل نوعًا من التأويل وضربًا من الاجتهاد، فهم بمثابة المخالفين من الفقهاء المجتهدين في تأويل الأحكام لإشكال الأمر والتباسه، ويجب أن يكونوا على الأصل الذي قدمناه من حال العدالة والرضا إذ لم يثبت ما يزيل ذلك عنهم»156.
فهذه بعض النصوص الواردة في واجب المسلمين نحو صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم.
موضوعات ذات صلة: |
الاتباع، الأخوة، الصحبة، القدوة |
الصحبة
1 تهذيباللغة، الأزهري ٤/١٥٣.
2 الصحاح، الجوهري ١/١٦١.
3 لسان العرب ١/٥١٩.
4 تهذيب اللغة، الأزهري ٤/١٥٣.
5 انظر: اختصار علوم الحديث، ابن كثير ص١٧٤، نزهة النظر، ابن حجر ص ١٤٠..
6 اختصار علوم الحديث ص١٧٤.
7 كشف الأسرار ٣/٣٨٤.
8 إرشاد الفحول، ص٣٤٢.
9 انظر: صحابة رسول الله في الكتاب والسنة ص٧١-٧٤.
10 اختصار علوم الحديث، ابن كثير ص١٧٥.
والحديث أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، باب فضل الصحابة ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، رقم ٢٥٣٢.
11 نزهة النظر، ابن حجر ص١٤٠-١٤١.
12 جامع البيان ١١/٣٧٢ بتصرف يسير.
13 تفسير القرآن العظيم٤/٢٦٣٦-٢٦٣٧.
14 ذكر ابن عاشور ما وصفه مما يصلح لتطبيق هذه الآية، فقال: «والذي وقفنا عليه في التوراة مما يصلح لتطبيق هذه الآية هو البشارة الرمزية التي في الإصحاح الثالث والثلاثين من سفر التثنية من قول موسى عليه السلام : جاء الرب من سينا، وأشرق لهم من سعير، وتلألأ من جبل فاران، وأتى من ربوات القدس، وعن يمينه نار شريعة لهم، فأحب الشعب جميع قديسيه، وهم جالسون عند قدمك يتقبلون من أقوالك. فإن جبل فاران هو حيال الحجاز. وقوله: فأحب الشعب جميع قديسيه يشير إليه قوله: (رحماء بينهم)، وقوله: (قديسيه) يفيد معنى (تراهم ركعًا سجدًا)، ومعنى (سيماهم في وجوههم من أثر السجود). وقوله في التوراة: (جالسون عند قدمك) يفيد معنى قوله تعالى: (يبتغون فضلاً من الله ورضوانًا)، ويكون قوله تعالى: (ذلك) إشارة إلى ما ذكر من الوصف، (ومثلهم في الأنجيل كزرعٍ أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع) ابتداء كلام مبتدأ. ويكون الوقف على قوله: (في التوراة)، والتشبيه في قوله: (كزرع) خبره، وهو المثل. وهذا هو الظاهر من سياق الآية، فيكون مشيرًا إلى نحو قوله في إنجيل متى الإصحاح ١٣ فقرة ٣: (هو ذا الزارع قد خرج ليزرع (يعني عيسى عليه السلام) وفيما هو يزرع، سقط بعض على الطريق، فجاءت الطيور وأكلته. إلى أن قال: وسقط الآخر على الأرض الجيدة فأعطى ثمره بعض مائة وآخر ستين وآخر ثلاثين. قال فقرة، ثم قال: وأما المزروع على الأرض الجيدة، فهو الذي يسمع الكلمة ويفهم، وهو الذي يأتي بثمر فيصنع بعض مائة وبعض ستين وآخر ثلاثين وهذا يتضمن نماء الإيمان في قلوبهم، وبأنهم يدعون الناس إلى الدين حتى يكثر المؤمنون، كما تنبت الحبة مائة سنبلة، وكما تنبت من النواة الشجرة العظيمة». التحرير والتنوير٢٦/٢٠٧.
15 انظر تفسير القرآن العظيم٢/٢٦٥.
16 جامع البيان٦/٣٣٨.
17 تفسير القرآن العظيم٤/٢١٠.
18 التحرير والتنوير٢٨/٣٧٠.
19 انظر منزلة الصحابة في القرآن ص١١.
20 تفسير القرآن العظيم ٢/١٣٣.
21 انظر: نظم الدرر، البقاعي ٧/٢٠٣.
22 جامع البيان١١/٣٥٠.
23 روح المعاني١٣/٢٦١.
والحديث أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المغازي، باب غزوة الحديبية، رقم٤١٥٤، ومسلم في صحيحه، كتاب الإمارة، باب استحباب مبايعة الإمام الجيش عند إرادة القتال، رقم١٨٥٦.
24 تيسير الكريم الرحمن ص٩٤٤.
25 منزلة الصحابة في القرآن ص١٤.
26 جامع البيان ١٠/٢٧٩.
27 تفسير القرآن العظيم٤/٢٨٠.
28 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجهاد والسير، باب قول الله عز وجل: (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه) رقم٢٨٠٥.
29 فتح الباري ٦/١٠٠.
30 التحرير والتنوير ٢٨/٣٧٠ بحذف يسير.
31 نظم الدرر ٨/٥٤.
32 تفسير القرآن العظيم ١/٥٣٦، بحذف يسير.
33 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: لو كنت متخذًا خليلًا، رقم ٣٦٧٣.
34 الجامع لأحكام القرآن ١٧/٢٤١.
35 تفسير القرآن العظيم ٤/٢٧٧١.
36 التحرير والتنوير٢٧/٣٧٥-٣٧٦، بحذف يسير.
37 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المغازي، باب غزوة الحديبية، رقم٤١٥٠.
38 تفسير القرآن العظيم٤/٢٦١، بحذف يسير.
39 جامع البيان٦/٤٥٣.
40 تفسير القرآن العظيم٢/١٣٣.
41 نزهة النظر ص١٤٢.
42 انظر: زاد المسير، ابن الجوزي ٣/٣٧٠ - ٣٧١.
43 مفاتيح الغيب١٦/١٦٨-١٦٩.
44 اللباب في علوم الكتاب، ابن عادل١٠/١٨٦.
45 تفسير القرآن العظيم ١/٨١.
46 مفاتيح الغيب ١٦/١٧١.
47 التحرير والتنوير١٠/١٨.
48 علقه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، باب مناقب المهاجرين وفضلهم.
49 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، باب مناقب المهاجرين وفضلهم، رقم٣٦٥٣.
50 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب مناقب الأنصار، باب مناقب الأنصار، رقم ٣٧٧٦.
51 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب مناقب الأنصار، باب مناقب الأنصار، رقم٣٧٨٣.
52 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب مناقب الأنصار، باب مناقب الأنصار، رقم٣٧٨٤،.
53 أحكام القرآن١/٣٨٦.
54 تفسير القرآن العظيم١/٥٤٤-٥٤٥.
55 تفسير القرآن العظيم٣/٢١٢٨-٢١٢٩، بحذف يسير.
والحديث في أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجهاد، باب فضل من أسلم من أهل الكتاب، رقم٣٠١١.
56 جامع البيان٥/٦.
57 جامع البيان٥/٦-٨ بتصرف يسير.
58 فضائل الصحابة في القرآن الكريم ص١٨٤، بتصرف يسير.
59 أضواء البيان١/٣٣٢.
60 تفسير القرآن العظيم١/٥٨٦.
61 صحيح مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب بيان أنه سبحانه وتعالى لم يكلف إلا ما يطاق، رقم١٩٩.
62 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الزكاة، باب الزكاة على الأقارب، رقم ١٤٦١.
63 تفسير القرآن العظيم١/٦٠٤-٦٠٥.
64 جامع البيان٢/٣٦٨.
65 المصدر السابق ٣/٥٥٦.
66 المصدر السابق ٦/٣٧٤.
67 علقه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، باب مناقب المهاجرين وفضلهم.
68 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، باب مناقب المهاجرين.وفضلهم، رقم٣٦٥٢.
69 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، باب مناقب المهاجرين.وفضلهم، رقم٣٦٥٣.
70 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المغازي، باب شهود الملائكة بدرًا، رقم٣٩٩٢.
71 تفسير القرآن العظيم ١/٥٤٨-٥٤٩.
72 المصدر السابق ١/٥٥١.
73 المصدر السابق ٢/١١٣.
74 انظر المصدر السابق، ٢/٢١٤، التحرير والتنوير ٩/٢٧٩.
75 تفسير القرآن العظيم ٢/١٢١٥.
76 جامع البيان٦/١٩٦.
77 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الجهاد والسير، باب غزوة بدر، رقم١٧٧٩.
78 تيسير الكريم الرحمن ص٣٤٧.
79 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإمارة، باب ثبوت الجنة للشهيد، رقم ١٩٠١.
80 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المغازي، رقم٣٩٨٨.
81 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المغازي، باب قول الله تعالى: (إذ تستغيثون ربكم)، رقم ٣٩٥٢.
82 انظر السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث، علي الصلابي ٢/٨٢٤-٨٤٣.
83 تفسير القرآن العظيم ١/٥٥٩.
84 التحرير والتنوير٤/٩٩.
85 الجامع لأحكام القرآن٤/٢١٧.
86 البحر المحيط٣/٧٧.
87 جامع البيان ٣/٤٧١.
88 أخرجه أحمد في مسنده، رقم ٢٣٨٨، ٤/١٢٣-١٢٤.
89 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المغازي، باب غزوة أحد، رقم ٤٠٤٧.
90 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المغازي، باب ذكر أم سليط، رقم٤٠٧١.
91 انظر الصحابة في القرآن ص٣١ -٣٤.
92 انظر السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث علي الصلابي٢/٩٦٢-٩٦٣.
93 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المغازي، باب غزوة الخندق، وهي الأحزاب، رقم ٤٠٩٩.
94 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المغازي، باب غزوة الخندق، وهي الأحزاب، رقم٤١٠٠.
95 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المغازي، باب غزوة الخندق، وهي الأحزاب، رقم ٤١٠٢.
96 مواقف الصحابة في هذه الغزوة وفي غيرها كثيرة، منها: موقف علي رضي الله عنه وقتله لعمرو بن عبد ودٍ، وموقف حذيقة بن اليمان رضي الله عنه، وإنما اقتصرت على ما ذكر، للحفاظ على قرآنية الموضوع، ولأنه في صحيح البخاري.
97 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المغازي، باب غزوة الخندق، وهي الأحزاب، رقم ٤١١٣.
98 جامع البيان١١/٣٤٧.بحذف يسير.
قال ابن حجر في فتح الباري ٨/٢٠: والجمع بين هذا الاختلاف أنهم كانوا أكثر من ألف وأربعمائة.
99 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل أصحاب الشجرة، رقم ٢٤٩٦.
100 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المغازي، باب غزوة الحديبية، رقم٤١٥٤.
101 انظر التحرير والتنوير ٢٦/١٦٠.
102 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإمارة، باب استحباب مبايعة الإمام الجيش، رقم١٨٥٦.
103 انظر الوسيط، الواحدي ١/٤٨٧-٤٨٨.
104 تفسير القرآن العظيم٢/١٨١، وفيه تفصيل لهذه الغزوة.
105 فتح القدير٢/٣٥٠.
106 المصدر السابق.
107 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الجهاد والسير، باب في غزوة حنين، رقم١٧٧٥.
108 الفصول في سيرة الرسول، ابن كثير ص٢١٠-٢١٣ بحذف يسير.
109 انظر فضائل الصحابة في القرآن الكريم ص١٥٠-١٥١.
110 انظر التحرير والتنوير١١/٤٨.
111 جامع البيان٦/٣٧٩-٣٨٠.
112 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المغازي، باب حديث كعب بن مالك، رقم٤٤١٨، ومسلم في صحيحه، كتاب التوبة، باب حديث توبة كعب ابن مالك وصاحبيه، رقم٢٧٦٩.
113 فتح الباري ٨/٤٦٢.
114 الجامع لأحكام القرآن١٤/١٢٣.
115 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المظالم، باب الغرفة والعلية المشرفة وغير المشرفة في السطوح وغيرها، رقم ٢٤٦٨.
116 أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الصلاة، باب ما جاء في خروج النساء ١/٢١٠، رقم ٥٦٥.
وصححه الألباني في صحيح الجامع، ٢/١٢٤٢، رقم ٧٤٥٧.
117 أخرجه أحمد في مسنده، ٩/٣٣٧، رقم ٥٤٦٨، وأبو داود في سننه، كتاب الصلاة، باب ما جاء في خروج النساء، ١/١٥٥، رقم ٥٦٧.
وصححه الألباني في صحيح الجامع، ٢/١٢٤٢، رقم ٧٤٥٨.
118 انظر تفسير القرآن العظيم٣/٢٢١.
119 أحكام القرآن/٥٦٨.
120 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب مناقب الأنصار، باب تزويج النبي صلى الله عليه وسلم خديجة وفضلها رضي الله عنها، رقم٣٨١٥.
121 فتح الباري ٧/٥١٤.
122 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب مناقب الأنصار، باب تزويج النبي صلى الله عليه وسلم خديجة وفضلها رضي الله عنها، رقم ٣٨٢٠.
123 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الشهادات، باب تعديل النساء بعضهن بعضًا، رقم٢٦٦١.
124 الكشاف ٣/٢٢٢.
125 تفسير القرآن العظيم ١/١٧٠.
126 الكشاف ٣/٢٢٧-٢٢٨ بحذف يسير.
127 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التوحيد، باب وكان عرشه على الماء ، رقم٧٤٢١.
128 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التوحيد، باب وكان عرشه على الماء، رقم٧٤٢٠ .
129 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب النكاح، باب زواج زينب بنت جحش، رقم١٤٢٨.
130 اختلف المفسرون في سبب نزول هذه الآيات، وقد رجح د.خالد المزيني، بعد مناقشة مستفيضة، أنها في تحريم الرسول صلى الله عليه وسلم جاريته، لصحة سنده، وتصريحه بالنزول، وموافقته لسياق القرآن، واختيار جمهور السلف من المفسرين له.
انظر: المحرر في أسباب نزول القرآن ٢/١٠٣٩.
131 تيسير الكريم الرحمن ص١٠٣٥ بحذف يسير.
132 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، باب مناقب قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، رقم٣٧١١.
133 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، باب مناقب قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، رقم ٣٧١٢.
134 آيات آل البيت في القرآن الكريم، ص٤٩٧-٤٩٨.
135 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل علي بن أبي طالب رضي الله عنه، رقم٢٤٠٤.
136 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المغازي، باب قصة أهل نجران، رقم٤٣٨٠.
137 الكشاف١/٣٩٧.
138 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المغازي، باب قتل أبي جهل، رقم٣٩٦٧.
139 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المغازي، باب قتل أبي جهل، رقم ٣٩٦٩.
140 تفسير القرآن العظيم ٣/١٩١.
141 تفسير القرآن العظيم ٣/٢٤٥.
والحديث أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، رقم٢٤٢٤.
142 أضواء البيان ٦/٣٧٩.
143 منزلة الصحابة في القرآن ص٤٧.
144 تفسير القرآن العظيم١/٥٣٦.
145 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الشهادات، باب لا يشهد على شهادة جور إذا أشهد، رقم٢٦٥١، ومسلم في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، باب فضل الصحابة ثم الذين يلونهم، رقم٢٥٣٣.
146 الشريعة ص١٧٠.
147 منزلة الصحابة في القرآن ص٤٨-٤٩.
148 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لو كنت متخذًا خليلًا)، رقم ٣٦٧٣، ومسلم في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، باب تحريم سب الصحابة، رقم٢٥٤٠.
149 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب الدليل على أن حب الأنصار وعلي رضي الله عنه من الإيمان وعلاماته، وبغضهم من علامات النفاق، رقم١٢٨.
150 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب الدليل على أن حب الأنصار وعلي رضي الله عنه من الإيمان وعلاماته، وبغضهم من علامات النفاق، رقم١٣٠.
151 الكفاية في علم الرواية، الخطيب البغدادي ١/١٨٨.
152 إسماعيل بن يحيى المزني، ورسالته شرح السنة، ص٨٦-٨٧.
153 الشرح والإبانة ص٢٩٠- ٢٩٢.
154 الشرح والإبانة ص٢٩٤-٢٩٦.
155 شرح العقيدة الطحاوية ص٢٩-٣٠.
156 الكفاية في علم الرواية ١/١٨٠-١٨٧.