عناصر الموضوع

مفهوم الصدق

الصدق في الاستعمال القرآني

الألفاظ ذات الصلة

مكانة الصدق

حقيقة الصدق وميادينه

آثار الصدق وثمراته

الصدق

مفهوم الصدق

أولًا: المعنى اللغوي:

الصدق لغة: أصل الكلمة، الصاد والدال والقاف أصل الكلمة وهي تدل على قوة الشيء في القول وغيره، والصدق: هو خلاف الكذب، وسمي بالصدق لقوته في نفسه، فالصادق يثق بما يقول ويقوى في نفسه؛ لأنه يعلم أنه يتكلم الحق، بعكس الكذب فإنه لا قوة له؛ لأنه باطل، ونفس الكاذب مطربة؛ لأنه يعلم أنه جانب الصواب وترك الحق إلى الباطل، وأصل هذا من قولهم: شيءٌ صدق، أي صلب، ورمح صدق، أي مستو يصيب الهدف من غير أن يخطئه، والصدق هو الكامل من كل شيء، والصدق: مطابقة الحكم للواقع، ومطابقة القول والضمير والمخبر عنه معًا، وصدقني ـ بفتح الصاد والدال المخففة ـ فلان: أي قال لي الصدق، وكل ما ينسب إلى الصلاح والخير يضاف إلى الصدق، لذلك يقال: رجل صدق؛ أي رجل ذو صلاح، وخمار صدق أو ثوب صدق؛ أي ثوب ذو جودة، والصداقة مصدر صدق، أي أنه صدقه المودة والنصيحة.

والصديق: هو الرجل الكثير الصدق، وأطلق هذا اللقب على أبي بكر الصديق؛ لأنه صدق النبي صلى الله عليه وسلم ولم تكن له كبوة في الإسلام1 .

ثانيًا: الصدق اصطلاحًا:

لا يختلف المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغوي.

قال الماوردي: «الصدق هو الإخبار عن الشيء على ما هو عليه، والكذب هو الإخبار عن الشيء بخلاف ما هو عليه، والصدق والكذب يدخلان الأخبار الماضية، كما أن الوفاء والخلف يدخلان المواعيد المستقبلية» 2.

الصدق في الاستعمال القرآني

وردت مادة (صدق) في القرآن الكريم (١٥٥) مرة3، يخص موضوع البحث منها (١٣٠) مرة.

والصيغ التي وردت، هي:

الصيغة

عدد المرات

المثال

الفعل الماضي

٢٢

( ) [يس:٥٢]

الفعل المضارع

٣

( ) [الواقعة:٥٧]

المصدر

١٦

( ) [الإسراء:٨٠]

اسم الفاعل

٨١

( ) [مريم:٥٤]

( ﯿ) [الحديد:١٨]

الصفة المشبهة

٢

( ﯓ ﯔ ) [الشعراء١٠٠-١٠١]

صيغة المبالغة

٦

( ) [يوسف:٤٦]

وجاء الصدق في القرآن بمعناه اللغوي، وهو: مطابقة الخبر للواقع بحسب اعتقاد المتكلم، والإخبار عن الشيء على ما هو به، نقيض الكذب، ويكون في الأقوال والأفعال والأحوال4.

الألفاظ ذات الصلة

الكذب:

الكذب لغة:

مادة كذب: الكاف والذال والباء: أصلٌ صحيحٌ يدل على خلاف الصدق5.

الكذب اصطلاحًا:

قال الجرجاني: «هو الإخبار عن الشيء على خلاف الواقع؛ سواء بالقول، أو بالإشارة، أو بالسكوت»6.

الصلة بين الكذب والصدق:

بينهما علاقة تضاد، فالصدق مطابقة الكلام لواقع الحال، والكذب خلافه.

مكانة الصدق

إن الصدق من أعظم الأخلاق التي أمر بها القرآن الكريم، وهذا الخلق العظيم إذا اتصف به إنسان حسنت أخلاقه؛ لأنه من الصفات التي تقوم عليها كثيرٌ من الأخلاق.

والصدق مطلب أساسٌ في حياة المؤمن، وهو رأس الفضائل والأخلاق، وعنوان الصلاح والفضل، أثنى الله عز وجل على من اتصف به، فصار له خلقًا قال تعالى: ( ﭗﭘ ) [الحديد:١٩].

وبالصدق يتميز أهل النفاق عن أهل الإيمان، وسكان الجنان عن أهل النيران، وهو سيف الله في أرضه الذي ما وضع على شيء إلا قطعه، ولا واجه باطلًا إلا أرداه وصرعه، ومن اعتمده سما قدره، وعلت مكانته، ومن نطق به علت على الخصوم كلمته وظهرت حجته، وهو أساس بناء الدين وعمود فسطاط اليقين، ودرجة تالية لدرجة النبوة التي هي أرفع درجات العالمين7.

إن الإسلام جاء بقواعد وأركان، وحث على فضائل الأعمال، وكان يهدف وراء ذلك إلى إعداد مجتمع إسلامي فاضل، يقوم على حسن الخلق والاحترام والتعايش، من خلال إيجاد الفرد المسلم الرباني الذي يلتزم حدود ما أنزل الله على رسوله، ويعطي كل ذي حق حقه، ويسلم الناس من لسانه ويده.

وصدقًا، فقد أحدث الإسلام في بدايته تغييرًا جذريًا للنفوس والعقول، فأنشأ ذلك الجيل، وبحق كان خير أمة أخرجت للناس، حيث إنهم تربوا على مائدة القرآن وبين يدي معلم وصفه أعداؤه قبل أصدقائه بالصادق الأمين، فأنشأ ذلك الجيل الفريد الذي يملأ الأرض عدلًا ونورًا، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق)8.

لذلك فنحن في أمس الحاجة إلى التسلح بفضيلة الصدق، ونحن تتجاذبنا التيارات الفكرية الهابطة التي تعمل على انحطاط منظومة القيم والأخلاق والمثل العليا التي جاء بها هذا الدين، ليعيد للإنسان كرامته وإنسانيته، ويغرس فينا القيم الفاضلة والأخلاق الحسنة.

قال تعالى: (ﭢﭣ ) [إبراهيم:١].

وهل هناك ظلمة أعظم من ظلمة الكذب والاستبداد والجهل والفساد والرذيلة.

وبذلك تبرز أهمية الصدق؛ لأنه واحد من أهم الفضائل والقيم التي حث عليها الإسلام أتباعه.

قال تعالى: ( ) [التوبة:١١٩].

وجاء في الحديث الشريف عن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله: (عليكم بالصدق، فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقًا، وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابًا) 9.

ومن أبرز فضائل الصدق:

أولًا: إسناد الصدق إلى الله تعالى:

لقد وصف الله تعالى ذاته القدسية بالصدق في آيات كثيرة، وتمثل ذلك في جانبين رئيسيين:

١. قوله صدق.

فكل ما نزل به الوحي، وأخبر به عن الخالق عز وجل من أمور الدنيا والآخرة هو الصدق الذي لا ريب فيه.

قال تعالى: ( ﭕﭖ ﭝﭞ ) [النساء:٨٧].

يقول إمام المفسرين في تفسيره «ومن أصدق من الله حديثًا، يعني بذلك: واعلموا حقيقة ما أخبركم من الخبر؛ فإني جامعكم إلى يوم القيامة للجزاء والعرض والحساب والثواب والعقاب يقينًا، فلا تشكوا في صحته، ولا تمتروا في حقيقته، فإن تولي الصدق الذي لا كذب فيه، ووعدي الصدق الذي لا خلف له، ويقول: وأي ناطق أصدق من الله تعالى حديثًا؟ وذلك أن الكاذب إنما يكذب ليجتلب بكذبه إلى نفسه نفعًا أو يدفع به عنها ضرًا، والله تعالى ذكره خالق الضر والنفع فغير جائز ومحال أن يكون منه كذب»10.

والقرآن الكريم هو كلام الله تعالى ذكره وكل ما جاء في القرآن الكريم هو الحق والصدق، فقد نزل مصدقًا لنفسه ولغيره من الكتب السماوية المنزلة قبله.

قال تعالى: (ﭿ ) [المائدة:٤٨].

وشهد الله سبحانه وتعالى على صدق كلامه، فقال تعالى: ( ) [النساء:١٢٢].

وقال تعالى: ( ﮋﮌ ) [آل عمران:٩٥].

٢. صدقه في الوعد والوعيد.

إن التصديق بوعد الله ووعيده ثابت في الكتاب والسنة النبوية، ومن مستلزمات الإيمان بالله والغيب واليوم الآخر والملائكة والنبيين، وقد أقسم الله تعالى في عدة آيات على تحقيق ما يوعد به الناس.

قال تعالى: ( ﯩﯪ ﯬﯭ ﯳﯴ ) [الذاريات:١-٦].

وأقسم الحق تبارك وتعالى في مطلع سورة المرسلات بأن ما وعد به فهو واقع.

قال تعالى: ( ) [المرسلات:١-٧].

كما أقسم الحق تبارك وتعالى في مطلع سورة الطور فقال: ( ﮟﮠ ﮩﮪ )[الطور:١-٧].

وقد تحقق وعد الله ووعيده في الدنيا في القرون الماضية، فكم من أمة حقق الله لها العز بسبب الطاعة.

قال تعالى: ( ﯿ ) [نوح:١٠-١٢].

وكم من الأمم أهلكها الله بسبب ذنوبهم.

إن كل ما وعد الله به أنبياءه، وعباده الصالحين، كالنصر على الأعداء والغلبة وغيرها قد تحقق، فقد جاء في شأن رسله قوله تعالى: ( ) [غافر:٥١].

وتحقق وعد الله سبحانه وتعالى في نصر المؤمنين يوم بدر، قال تعالى: ( ﭫﭬ ) [الأنفال:١٠].

ومن أمثلة ذلك: صدق وعده عز وجل بفتح مكة ( ﯖﯗ ) [الفتح:٢٧].

ووعد الله بنصر المؤمنين العاملين بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فقال تعالى: ( ) [الروم:٤٧].

وتحقق نصره في غزوات ومعارك كثيرة للمؤمنين.

وجاء عن صدق وعده يوم الأحزاب قوله تعالى: ( ﰍﰎ ) [الأحزاب:٢٢].

وقوله تعالى حكاية عن أهل الجنة: ( ﯶﯷ ) [الزمر:٧٤].

كما أن وعيد الله تحقق عندما أخذ الظالمين أخذ عزيز مقتدر، إما بالريح العقيم، قال تعالى: ( ) [الذاريات:٤١].

وإما بالصاعقة كما حدث لقوم ثمود، حيث قال تعالى: ( ) [الذاريات:٤٣-٤٤].

وكذلك أخذ الله قوم فرعون بكفرهم فتم إغراقهم في اليم وهو مليم.

قال تعالى: ( ) [القمر:٤١-٤٢].

وكذلك أخذ الله سبحانه وتعالى سائر الأقوام التي كذبت المرسلين، فقال تعالى: ( ﯾﯿ ) [الأنعام:١٤٦].

ثانيًا: التزام معية الصادقين:

إن الصدق رأس لكل فضيلة، وهو أجمل خلق حميد إذا اتصف به الإنسان يزداد هيبة ووقارًا، وإن الصدق ضرورة لتحقيق النظام، وكل معاني الخير في هذا العالم، فبه تحفظ الحقوق، وتصان النفوس، ويتم النظام ويعيش الناس آمنين مطمئنين على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم، فهو عنوان الإسلام وميزان الإيمان، وأساس الدين وخصلة حميدة في حق من اتصف بها، وقد أمر الله عباده بلزوم الصدق وصحبة الصادقين، فقال تعالى: ( ) [التوبة:١١٩].

أي: أصدقوا والزموا الصدق تكونوا مع أهله، وتنجوا من المهالك، ويجعل الله لكم فرجًا في أموركم ومخرجًا11.

وعن عبد الله بن عمر: ( ) أي: مع محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وقال الضحاك: «مع أبي بكر وعمر وأصحابهما»، وقال الحسن البصري: «إن أردت أن تكون مع الصادقين، فعليك بالزهد في الدنيا والكف عن أهل الملة غير الصادقة»12.

وقوله تعالى: ( ﭿ ﮇﮈ ) [النساء:٦٩].

قال الشوكاني في تفسيرها: «ومن يطع الله والرسول كلام مستأنف لبيان فضل الطاعة لله والرسول، من أولئك المطيعين، فهم مع الذين أنعم الله عليهم بدخول الجنة والوصول إلى ما أعد الله لهم، والصديق المبالغ في الصدق كما تفيده الصيغة، وقيل هم الفضلاء أتباع الأنبياء، والشهداء: من ثبت لهم الشهادة، والصالحين: هم أصل الأعمال الصالحة»13.

ثم ذيل الآية الكريمة بقوله: ( ) هذا هو الرفيق الذي يجب أن تعض عليه بالنواجذ، هذا الرفيق الذي يجب أن تلازمه؛ لأن أثر تعامل المؤمنين الصادقين يأثر تأثيرًا طيبًا من خلال تعلم البعض من البعض خلال الصدق والورع والزهد والاستقامة والتقوى، فإذا المجتمع مجتمع مؤمن، فاحرص أن تكون علاقاتك ومجالسك وندواتك في أفراحك مع المؤمنين الذين صدقوا الله.

قال تعالى: ( ﯿ ﰂﰃ ﰌﰍ ﰒﰓ ) [المائدة:١١٩].

«أي ينفع الصادقين في الدنيا صدقهم في الآخرة، ولو كذبوا لختم الله على أفواههم، ونطقت به جوارحهم فافتضحوا» 14.

لقد اقتضت حكمة الله في خلقه أن جعل الإنسان ميالًا بطبعه إلى مخالطة الآخرين ومجالستهم ومصاحبتهم، وهذه الصحبة لها أثرها الفعال في مصير الإنسان وسعادته في الدنيا والآخرة، فإن المرء يتأثر بجليسه، ويصطبغ بصبغته فكرًا ومعتقدًا وسلوكًا وعملًا، فقد أخبر الحق تبارك وتعالى عن ندم الظالم يوم القيامة وتأسفه على مصاحبته للمنحرفين؛ لأنهم كانوا سببًا في انحرافه وإضلاله.

قال تعالى: ( ﮰﮱ ) [الفرقان:٢٧-٢٩].

يوم القيامة تشتد حسرات الظالم، وتتصاعد زفراته وهو يقول يا ليتني لم أصاحب هذا الذي أضلني عن الذكر، يعني القرآن أو مواعظ الرسول؛ لأنه أوقعه في الضلال، فهو كالشيطان يعده ويمنيه في الدنيا، ما يسبب له الحسرة في الآخرة15.

وقال عليه السلام: (إنما مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك وإما أن تبتاع منه وإما أن تجد منه ريحًا طيبةً، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد منه ريحًا خبيثة)16.

فأوضح عليه السلام أن الجليس له تأثير على جليسه سلبًا أو إيجابًا بحسب صلاحه وفساده، حيث شبه الجليس الصالح بحامل المسك وهو على أدنى الأحوال أن تجد منه الرائحة الطيبة المؤثرة على نفسك وبدنك وثيابك، أما الجليس السوء فهو إما أن يحرق ثيابك أو تجد منه رائحة منتنة تسبب له غصة وعاهة في رئتيك؛ فيسبب لك الضرر بمجالسته.

وببركة مجالسة الصالحين فإن الله يغفر لهم ولجليسهم وإن لم يكن منهم، حيث جاء في الحديث الشريف عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن لله ملائكةً يطوفون في الطرق يلتمسون أهل الذكر فإذا وجدوا قومًا يذكرون الله تنادوا: هلموا إلى حاجتكم، قال: فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا، قال: فيسألهم ربهم عز وجل وهو أعلم منهم: ما يقول عبادي؟ قال: تقول يعني الملائكة يسبحونك ويكبرونك ويحمدونك ويمجدونك، قال فيقول الله: فأشهدكم أني قد غفرت لهم، قال: فيقول ملكٌ من الملائكة: فيهم فلانٌ ليس منهم إنما جاء لحاجةٍ، وفي لفظ: فيهم فلانٌ عبدٌ خطاءٌ إنما مر فجلس معهم، قال: فيقول: هم الجلساء لا يشقى جليسهم)17.

فلنحرص على مصاحبة من وصفهم الله بقوله تعالى: ( ) [الأحزاب:٣٥].

لقد أعد الله سبحانه وتعالى لهؤلاء الموصوفين بتلك الصفات الحميدة والمناقب الجليلة التي هي ما بين اعتقادات وأعمال قلوب، وأعمال جوارح، وأقوال لسان، وما بين أفعال الخير وترك الشر، الذي من قام بهن، فقد قام بالدين كله، ظاهره وباطنه، وبالإسلام والإيمان والإحسان، فجزاهم على أعمالهم بالمغفرة من الذنوب والأجر العظيم؛ لأن الحسنات يذهبن السيئات، نسأل الله سبحانه أن يجعلنا منهم، إنه سميع مجيب الدعاء 18.

ثالثًا: الصدق صفة الأنبياء والصالحين:

١. الصدق صفة الأنبياء.

إن أعظم صفات الرسل الصدق؛ لأنهم المبلغون عن الله وحيه، والمرسلون بشرعه إلى خلقه، وكيف لا يتصفون بالصدق؟ فلزم أن يكون الصدق ملازمًا لهم في الأفعال والأقوال، وهذا ما حكاه الله سبحانه وتعالى عنهم في عدة مواضع من القرآن الكريم، كقوله جل جلاله: ( ) [يس:٥٢].

وذكر في حق إبراهيم عليه السلام قوله تعالى: ( ﭪﭫ ) [مريم:٤١].

وأيضًا قوله تعالى: ( ) [الشعراء:٨٣-٨٤].

ووصف الحق سبحانه وتعالى إسماعيل عليه السلام بالصدق في الوعد، فقال تعالى: ( ﭤﭥ ) [مريم:٥٤].

وجاء في حق إدريس عليه السلام، قوله تعالى: ( ﭻﭼ ﭿ ) [مريم:٥٦].

ونزل بشأن إسحق ويعقوب عليهما السلام قوله تعالى: ( ﯼﯽ ﯿ ) [مريم:٤٩-٥٠].

ونزلت آيات توضح صدق يوسف عليه السلام، فقال تعالى: ( ) [يوسف:٤٦].

وآية أخرى يؤيد الله نبيه يوسف بدليل يؤكد على صدقه، قال تعالى: ( ) [يوسف:٢٧].

ووصفه بالصدق باعتراف امرأة العزيز، حيث جاء حكاية في قوله تعالى: ( ﯿ ) [يوسف:٥١].

الصدق في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم:

لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مثالًا وقدوة في صفة الصدق، وكان معروفًا بالصدق في قومه قبل البعثة، فلقبوه بالصادق الأمين، واشتهر بهذا اللقب وعرف به بين أقرانه، وبعد البعثة المباركة كان تصديق الوحي له مدعاة؛ لأن يطلق عليه أصحابه «الصادق الأمين» وصدق الله عز وجل إذ قال: ( ﭟﭠ ) [النجم:٢-٤].

وأكبر من هذا كله شهادة رب العالمين على صدقه صلى الله عليه وسلم، فقال تعالى: ( ﭧﭨ ) [الزمر:٣٣].

والذي جاء بالصدق هو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، والذي شهد لما جاء به هو الله سبحانه وتعالى من فوق سبع سموات، وأيد ذلك ابن عاشور في تفسيره شارحًا لهذه الآية: «الذي جاء بالصدق هو محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم والصدق هو القرآن»19 .

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم دائمًا يحث المسلمين على الصدق في أقوالهم وأفعالهم، ويوجه خطابه للمسلمين قائلًا: (اضمنوا لي ستًا من أنفسكم أضمن لكم الجنة، اصدقوا إذا حدثتم، وأوفوا إذا وعدتم، وأدوا إذا اؤتمنتم، واحفظوا فروجكم، وغضوا أبصاركم، وكفوا أيديكم)20 .

وكان صلى الله عليه وسلم يغرس في نفوس أصحابه الصدق ويربيهم عليه، وأكبر دليل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك؛ فإن الصدق طمأنينة، وإن الكذب ريبة)21.

صدق رسول الله في الحرب:

لننظر إلى موقفه قبيل غزوة بدر، التي خرجت فيها قريش لتقضي على المسلمين، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر الصديق رضي الله عنه؛ ليتعرفا على أخبار المشركين، فوقفا على شيخ من العرب، فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قريش، وعن محمد وأصحابه، وما بلغه عنهم، فقال الشيخ: لا أخبركما حتى تخبراني ممن أنتما؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أخبرتنا أخبرناك) قال: ذاك بذاك؟ قال: (نعم)، قال الشيخ: فإنه بلغني أن محمدًا وأصحابه خرجوا يوم كذا وكذا، فإن كان صدق الذي أخبرني، فهم اليوم بمكان كذا وكذا، للمكان الذي به رسول الله صلى الله عليه وسلم وبلغني أن قريشًا خرجوا يوم كذا وكذا، فإن كان الذي أخبرني صدقني فهم اليوم بمكان كذا وكذا، للمكان الذي فيه قريش، فلما فرغ من خبره، قال: ممن أنتما؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نحن من ماء) ثم انصرف عنه، قال يقول الشيخ: من ماءٍ؛ أمن ماء العراق22.

صدق رسول الله في الفكاهة:

لقد اتصف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصدق في كل أفعاله وأقواله، حتى في مزاحه ومفاكهاته صلى الله عليه وسلم، التي يظن البعض أن الكذب فيها مباح، فعن أنس بن مالك، أن رجلًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فاستحمله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنا حاملوك على ولد ناقة)، قال: يا رسول الله ما أصنع بولد ناقة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وهل تلد الإبل إلا النوق)23.

فكانت هذه الفكاهة من النبي صلى الله عليه وسلم مع رجل من عامة المسلمين من باب تقارب النفوس، وزيادة المحبة، لكنه صلى الله عليه وسلم كان صادقًا ولم يستعمل إلا الصدق.

٢. الصدق صفة الصالحين.

إن الله تعالى وصف عباده المؤمنين بصفات عديدة وخصال حميدة، ومن أعظمها: صفة الصدق.

قال تعالى: ( ) [التوبة:١١٩].

وهذا الأمر جاء بعد قصة الثلاثة الذين خلفوا عن غزوة تبوك، وأوضحت الآيات كيف نفعهم صدقهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول القرطبي في تفسيره: «هذا الأمر بالكون مع الصادقين حسن بعد قصة الثلاثة حين نفعهم الصدق، وذهب بهم عن منازل المنافقين، قال مطروف: سمعت مالك بن أنس يقول: قلما كان رجل صادقًا لا يكذب إلا متع بعقله ولم يصبه ما يصيب غيره من الهرم والخرف وقال حق من فهم عن الله وعقل عنه أن يلازم الصدق في الأقوال والإخلاص في الأعمال، والصفاء في الأحوال، فمن كان كذلك لحق بالأبرار ووصل إلى رضا الغفار»24 .

ويقول ابن كثير في تفسيره لقوله تعالى: ( ) [التوبة:١١٩]: «أي: اصدقوا والزموا الصدق تكونوا من الصادقين وتنجوا عن المهالك، ويجعل الله لكم فرجًا من أموركم ومخرجًا»25.

إن للصدق أثرًا كبيرًا على الصادقين، فظهر منهم العجائب في صدقهم، فأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا أصدق الناس إيمانًا وأصدقهم يقينًا، فظهر عليهم الصدق في كل أحوالهم، فهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه صدق النبي في حادثة الإسراء والمعراج، حيث جاء نفرٌ من المشركين إلى أبي بكر رضي الله عنه فقالوا: إن صاحبك يزعم أنه ذهب إلى بيت المقدس وعاد في ليلة واحدة، ونحن نضرب أكباد الأبل شهرًا ذهابًا وإيابًا، فقال: أهو قال ذلك؟ قالوا: نعم، فقال: إن كان قد قال ذلك فقد صدق، إني أصدقه على أعظم من ذلك، إني أصدقه أنه يأتيه خبر السماء، وسمي بالصديق26.

ووصف الله سبحانه وتعالى الصحابة بالصدق، فقال تعالى: ( ﯠﯡ ) [الحشر:٨].

وأوضح صلى الله عليه وسلم أن التاجر عندما يتحلى بالصدق يكون ذلك في أسباب الفلاح، والفوز يوم القيامة، حيث جاء عن رفاعة عن أبيه (أن النبي خرج على المصلى فرأى الناس يتبايعون، فقال: يا معشر التجار! فاستجابوا الرسول الله صلى الله عليه وسلم ورفعوا أعناقهم وأبصارهم إليه، فقال: (إن التجار يبعثون يوم القيامة فجارًا، إلا من اتقى الله وبر وصدق)27.

وقال ابن عباس رضي الله عنه: «أربع من كن فيه فقد ربح: الصدق، والحياء، وحسن الخلق، والشكر»28.

فلنصدق الله في إيماننا، ولنصدق الله في إخلاصنا، ولنصدق الله في سائر أعمالنا، فلا منجى من عذاب الله إلا الصدق الذي نلتزم به، ونخالف المنافقين الذين كذبت ألسنتهم وكذبت قلوبهم، فالمؤمن صادق في قوله وفعله وفي تصرفاته.

رابعًا: دعاء الصالحين يجعلهم من الصادقين:

إن لنا الأسوة الحسنة في خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام في التضرع إلى الله بطلب الدعاء، حيث جاء حكاية عنه قوله تعالى: ( ) [الشعراء:٨٣-٨٥].

ويتضمن دعاؤه في هذه الآيات ما يلي:


1 انظر: لسان العرب، ٣/٤٢٠-٤٢١، تاج العروس، الزبيدي، ٥/٢٦.

2 أدب الدنيا والدين، ص٣٢٢.

3 انظر: المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، محمد فؤاد عبد الباقي، ص ٤٠٤-٤٠٦، المعجم المفهرس الشامل، عبد الله جلغوم، باب الصاد ص٦٩٣-٦٩٦.

4 انظر: الكشف عن وجوه القراءات السبع وعللها وحججها، مكي بن أبي طالب، ٢/٣١٠-٣١١.

5 انظر: مقاييس اللغة، ابن فارس ٥/١٦٨، المصباح المنير، الفيومي ٢/٥٢٨.

6 التعريفات ص٧٤.

7 انظر: مدارج السالكين، ابن القيم ٢/٢٤.

8 أخرجه أحمد في مسنده، ١٤/٥١٢، رقم ٨٩٥٢.

وصححه الألباني في صحيح الجامع، ١/٤٦٤، رقم ٢٣٤٩.

9 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأدب، باب قول الله تعالى: (يا أيها الذين أمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين)، ٨/٢٥، رقم ٦٠٩٤.

10 جامع البيان، الطبري، ٥/٢٢٦-٢٢٧.

11 انظر: تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، ٤/٢٣٠.

12 المصدر السابق ٤/٢٣٤.

13 فتح القدير، الشوكاني، ١/١٧٢.

14 معالم التنزيل، البغوي، ٢/١٢٣.

15 انظر: محاسن التأويل، القاسمي، ١٢/٢٥٨.

16 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب البر والصلة والآداب، باب استحباب مجالسة الصالحين ومجانبة قرناء السوء، ٤/٢٠٢٦، رقم ٢٦٢٨.

17 صحيح البخاري، كتاب الدعوات باب فضل ذكر الله سبحانه وتعالى، ٨/٨٦، رقم ٦٤٠٨.

18 انظر: تفسير تيسير الكريم الرحمن، السعدي، ص٦٦٤.

19 التحرير والتنوير، ابن عاشور، ٢٤/٨٦.

20 أخرجه أحمد في مسنده، ٣٧/٤١٧.

وصححه الألباني في صحيح الجامع، ١/٢٣٤، رقم ١٠١٨.

21 أخرجه الترمذي، كتاب صفة القيامة، الباب باب، ٤/٦٦٨.

وصححه الألباني في صحيح الجامع، ١/٦٣٧، رقم ٣٣٧٨.

22 انظر: السيرة النبوية، ابن هشام، ١/٦١٥، السيرة النبوية، ابن كثير، ٢/٣٩٦.

23 أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الأدب، باب في المزاح، رقم ٤٩٩٨، ٧/٣٤٨.

وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد، رقم ٢٦٨.

24 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، ٨/١٨٣.

25 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، ٢/٥٢٢.

26 انظر: تهذيب سيرة ابن هشام، ص١٠٢، فقه السيرة، البوطي، ص١٤٧.

27 أخرجه الترمذي في سننه، أبواب التجارات، باب التوقي في التجارة، ٣/٥١٧، رقم ١٢١٠.

قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

28 انظر: إحياء علوم الدين، ٤/٣٨٧.

29 انظر: جامع البيان، الطبري، ١٩/٣٦٤، الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، ٧/١٠٥، التفسير الواضح، ١٩/٥٠.

30 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المغازي، باب مرض النبي ووفاته، ٦/١٠، رقم ٤٤٣٧.

31 أخرجه أحمد في مسنده، ٢٤/٢٤٧، رقم ١٥٤٩٢.

وصححه الألباني في صحيحه الأدب المفرد، ١/٢٤٣، رقم ٦٩٩.

32 انظر: معالم التنزيل، البغوي، ٤/٣١٨.

33 التحرير والتنوير، ابن عاشور، ١٩/١٥٦.

34 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإمارة، باب استحباب طلب الشهادة، ٣/١٥١٧، رقم ١٩٠٩.

35 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب البيوع باب ما يمحق الكذب، ٣/٥٩، رقم ٢٠٨٢.

36 أخرجه أحمد في مسنده، ٣٧/٤١٧.

وصححه الألباني في صحيح الجامع، ١/٢٣٤، رقم ١٠١٨.

37 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأدب، باب قول الله تعالى: (يا أيها الذين أمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين)، ٨/٢٥، رقم ٦٠٩٤.

38 انظر: تيسير الكريم الرحمن، السعدي، ص٦٦٤.

39 مدارج السالكين، ٢/٢٤.

40 روح المعاني، الألوسي، ٤/٤٣.

41 المنار، محمد رشيد رضا، ١١/٥٨.

42 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإمارة، باب إنما الأعمال بالنيات، ٣/١٥١٥، رقم ١٥٥.

43 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإمارة، باب من قاتل للرياء، ٣/١٥١٣، رقم ١٩٠٥.

44 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأحكام، باب ما يكره من ثناء السلطان وإذا خرج قال غير ذلك، ٩/٧١، رقم ٧١٧٩.

45 انظر: فتح الباري، ابن حجر، ١٠/٤٧٥.

46 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الشهادات، باب ما قيل في شهادة الزور، ٣/١٧٢، رقم ٢٦٥٤.

47 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الإيمان، باب علامة المنافق، ١/١٦، رقم ٣٣.

48 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجنائز، باب ما يكره من النياحة، ٢/٨٠، رقم ١٢٩١.

49 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الصلح، باب ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس، ٣/١٨٣، رقم ٢٦٩٢.

50 أخرجه الترمذي في سننه، أبواب البر والصلة، باب ما جاء في إصلاح ذات البين، ٤/٣٣١، رقم ١٩٣٩.

وحسنه الألباني في صحيح الجامع، ٢/١٢٨٦، رقم ٧٧٢٣.

51 المعجم الأوسط، ١/٢٧٥، رقم ٨٩٧.

52 خلق المسلم، محمد الغزالي، ص٤٥.

53 انظر: من توجيهات الإسلام، ص١٩١.

54 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب قول البي من غشنا فلس منا، ١/ ٩٩، رقم ١٠٢.

55 انظر: تفسير محاسن التأويل، ٣/٤٦٥.

56 في ظلال القرآن، ١/٤١٨.

57 انظر: أيسر التفاسير، أبو بكر الجزائري، ٤/٤٨٧.

58 انظر: صفوة التفاسير، الصابوني، ١/١١٧، ١١٨.

59 أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الأدب، باب في رفع الحديث من المجلس، ٤/٢٦٥، رقم ٤٨٦٠.

وضعفه الألباني في ضعيف الجامع، رقم ٦٣٢٢.

60 انظر: منهج القرآن في تربية المجتمع، ص٢٢٩.

61 سبق تخرجه.

62 أخرجه أحمد في مسنده، ١١/٢٣٣، رقم ٦٦٥٢.

وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، ٢/٣٦١، رقم ٧٣٣.

63 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب أحاديث الأنبياء، باب حديث الغار، ٤/١٧٤، رقم ٣٤٦٥.

64 انظر: فقه السيرة، البوطي، ص٢٨٠- ٢٨١.

65 سبق تخريجه.

66 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المساقاة، باب بيع الحطب والكلأ، ٣/١١٣، رقم٢٣٧٣.

67 أخرج مسلم في صحيحه، كتاب الإمارة، باب استحباب طلب الشهادة، ٣/١٥١٧، رقم ١٩٠٩.

68 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأدب، باب قول الله تعالى: (يا أيها الذين أمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين)، ٨/٢٥، رقم ٦٠٩٤.

69 سبق تخريجه.