عناصر الموضوع

مفهوم الصد عن سبيل الله

الصد عن سبيل الله في الاستعمال القرآني

الألفاظ ذات الصلة

دوافع الصد عن سبيل الله ووسائله

مظاهر الصد عن سبيل الله تعالى

علاج القرآن للصد عن سبيل الله

جزاء الصد عن سبيل الله وآثاره

الصد عن سبيل الله

مفهوم الصد عن سبيل الله

أولًا: المعنى اللغوي:

قال ابن فارس: «صد: الصاد والدال معظم بابه يئول إلى إعراضٍ وعدولٍ، فالصد: الإعراض، يقال: صد يصد، وهو ميلٌ إلى أحد الجانبين، ثم تقول: صددت فلانًا عن الأمر، إذا عدلته عنه»1.

فـ«الصد: هو العدول عن الشيء عن قلى، يستعمل لازمًا بمعنى الانصراف والامتناع ومتعديًا بمعنى الصرف والمنع الذي عنه الانصراف والامتناع»2.

ثانيًا: المعنى الاصطلاحي:

المعنى الاصطلاحي لا يخرج عن معناه اللغوي، فالصد في المعنى الاصطلاحي: المنع بالإغراء الصارف عن الأمر3.

قال الراغب: «يكون انصرافًا عن الشيء وامتناعًا عنه، وقد يكون صرفًا ومنعًا»4.

فالصد عن سبيل الله: الإعراض والعدول والصرف والمنع عن طريق معرفة الله الصحيحة، وعبادته القويمة التي ترضيه.

الصد عن سبيل الله في الاستعمال القرآني

وردت مادة (صدد) في القرآن الكريم (٤٣) مرة، يخص موضوع البحث منها (٣٨) مرة5.

والصيغ التي وردت، هي:

الصيغة

عدد المرات

المثال

الفعل الماضي

١٨

( ﭿ ) [النساء:٥٥]

الفعل المضارع

١٧

( ) [آل عمران:٩٩]

المصدر

٣

( ﭿ) [البقرة:٢١٧]

وجاء الصد في الاستعمال القرآني على وجهين6:

الأول: الإعراض: ومنه قوله تعالى: ( ) [النساء: ٦١] أي: يعرضون.

الثاني: المنع: ومنه قوله تعالى: ( ) [الأعراف: ٤٥] أي: يمنعون الناس من الإيمان.

الألفاظ ذات الصلة

المنع:

المنع لغة:

المنع: أن تحول بين الرجل وبين الشيء الذي يريده7.

المنع اصطلاحًا:

المنع ما لأجله يتعذر الفعل على القادر8.

الصلة بين الصد والمنع:

إن الصد: هو المنع عن قصد الشيء خاصة، والمنع: يكون في ذلك وغيره، ألا ترى أنه يقال: منع الحائط عن الميل، ولا يقال: صده عن الميل؛ لأن الحائط لا قصد له، ويقولون: صدني عن لقائك، يريد عن قصد لقائك9.

الحصر:

الحصر لغة:

هو الجمع والحبس والمنع10.

الحصر اصطلاحًا:

الحبس مع التضييق11.

الصلة بين الصد والحصر:

هما بمعنى المنع، لكن اصطلح الفقهاء بتسمية الممنوع عن الحج بالمرض محصورًا، والممنوع بالعدو مصدودًا12.

الإعراض:

الإعراض لغة:

أعرض عنه إعراضًا: صد، وولاه ظهره13.

الإعراض اصطلاحًا:

الانصراف عن شيءٍ14.

الصلة بين الصد والإعراض:

الصد: الإعراض وفيه صرف ودفع، أما الإعراض فيكون انصرافًا عن الشيء دون صرف ودفع.

دوافع الصد عن سبيل الله ووسائله

للصد عن سبيل الله في القرآن دوافع ووسائل نتناولها بالبيان فيما يأتي:

أولًا: الكفر والمعتقدات الباطلة:

من دوافع الصد عن سبيل الله الكفر، قال تعالى عن بلقيس ملكة سبأ: ( ﯼﯽ ﯿ ) [النمل: ٤٣].

قال ابن عاشور رحمه الله: «أي: صدها معبودها من دون الله، وما كانت تعبده هو الشمس، وفي ذكر فعل الكون (كانت) مرتين في ما كانت تعبد، وإنها كانت من قومٍ كافرين دلالةٌ على تمكنها من عبادة الشمس، وكان ذلك التمكن بسبب الانحدار من سلالة المشركين، فالشرك منطبعٌ في نفسها بالوراثة، فالكفر قد أحاط بها بتغلغله في نفسها، وبنشأتها عليه، وبكونها بين قومٍ كافرين، فمن أين يخلص إليها الهدى والإيمان؟»15.

وقال تعالى: ( ) [غافر: ٣٧].

أي: «من الشرك والتكذيب»16.

قال ابن القيم رحمه الله: «قرأ أهل الكوفة (وصد) على البناء للمفعول، حملًا على (زين)، وقرأه الباقون (وصد) بفتح الصاد، ويحتمل معنيين:

أحدهما: أعرض، فيكون لازمًا.

والثاني: يكون صد ومنع غيره، فيكون متعديًا، والقراءتان كالآيتين لا يتناقضان»17.

ومن دوافع الصد عن سبيل الله: المعتقدات الباطلة، قال تعالى على لسان من صدهم تقليد الآباء في المعتقدات الباطلة عن عبادة الله في ردهم على دعوة الرسل: ( ) [إبراهيم: ١٠].

وهذا الاعتقاد الباطل قاله المعرضون عن دعوة الأنبياء، قالته ثمود لصالح عليه السلام: ( ﰒﰓ ) [هود: ٦٢].

وقال أصحاب مدين لشعيب عليه السلام: ( ) [هود: ٨٧].

وقالت عاد لهود عليه السلام: ( ﭿ ) [الأعراف: ٧٠].

وقد «أخذ بعض أهل العلم من هذه الآيات الكريمات منع التقليد الأعمى»18.

وجاء هذا المعنى في وصف رسالة الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم على لسان أبي سفيان بن حرب في سؤال هرقل له، فيما رواه البخاري بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما: قال هرقل: (فماذا يأمركم به؟ قال: يأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئًا، وينهانا عما كان يعبد آباؤنا)19.

وتلك هي الآفة التي تسلطت على عقول كثير من ذي العقول فأفسدتها، وأضلتها عن سواء السبيل، وهذا من شأنه أن يدعو الإنسان إلى طلب التحرر من موروثات الآباء والأجداد، وأن يعيد بناء عقله -متى بلغ الرشد- على البحث والنظر، فما رآه صالحًا قبله، وما وجده فاسدًا دفعه وتخلى عنه.

ثانيًا: تزيين الشيطان الأعمال السيئة لهم:

قال تعالى محذرًا عباده من الشيطان وعداوته: ( ﭟﭠ ) [الزخرف: ٦٢].

«يقول جل ثناؤه: ولا يعدلنكم الشيطان عن طاعتي فيما آمركم وأنهاكم، فتخالفوه إلى غيره، وتجوروا عن الصراط المستقيم فتضلوا، إن الشيطان لكم عدوٌ يدعوكم إلى ما فيه هلاككم، ويصدكم عن قصد السبيل؛ ليوردكم المهالك، مبينٌ قد أبان لكم عداوته، بامتناعه من السجود لأبيكم آدم، وإدلائه بالغرور حتى أخرجه من الجنة حسدًا وبغيًا»20.

قال سيد قطب رحمه الله: «والقرآن لا يفتأ يذكر البشر بالمعركة الخالدة بينهم وبين الشيطان منذ أبيهم آدم، ومنذ المعركة الأولى في الجنة، وأغفل الغافلين من يعلم أن له عدوًا يقف له بالمرصاد، عن عمد وقصد، وسابق إنذار وإصرار، ثم لا يأخذ حذره، ثم يزيد فيصبح تابعًا لهذا العدو الصريح!

وقد أقام الإسلام الإنسان في هذه المعركة الدائمة بينه وبين الشيطان طوال حياته على هذه الأرض، ورصد له من الغنيمة إذا هو انتصر ما لا يخطر على قلب بشر، ورصد له من الخسران إذا هو اندحر ما لا يخطر كذلك على قلب بشر؛ وبذلك حول طاقة القتال فيه إلى هذه المعركة الدائبة التي تجعل من الإنسان إنسانًا، وتجعل له طابعه الخاص بين أنواع الخلائق المتنوعة الطبائع والطباع! والتي تجعل أكبر هدف للإنسان على الأرض أن ينتصر على عدوه الشيطان، فينتصر على الشر والخبث والرجس، ويثبت في الأرض قوائم الخير والنصح والطهر»21.

وجعل الله للمعرض عن ذكره شيطانًا قرينًا يغويه جزاء على إعراضه.

قال تعالى: ( ) [الزخرف: ٣٦-٣٧].

أي: «وإن الشياطين ليصدون هؤلاء الذين يعشون عن ذكر الله، عن سبيل الحق، فيزينون لهم الضلالة، ويكرهون إليهم الإيمان بالله، والعمل بطاعته ( ) يقول: ويظن المشركون بالله بتحسين الشياطين لهم ما هم عليه من الضلالة، أنهم على الحق والصواب»22.

وهذا أسوأ ما يصنعه قرين بقرين، أن يصده عن السبيل الواحدة القاصدة ثم لا يدعه يفيق، أو يتبين الضلال فيثوب، إنما يوهمه أنه سائر في الطريق القاصد القويم! حتى يصطدم بالمصير الأليم.

ومن صور تزيين الشيطان: الأعمال السيئة:

  1. قطع الطريق على المارة لأخذ الأموال.
  2. والصد عن دين الله.
  3. وطلب جعل سبيل الله المستقيمة معوجة مائلة بالأكاذيب والضلالات، وتشويه الحقائق، والشبهات والشكوك الملقاة منكم.

    والمراد من الآية أن شعيبًا منع القوم من أن يمنعوا الناس من قبول الدين الحق بأحد هذه الطرق الثلاث37.

    ولقد زعم المشركون أن محمدًا صلى الله عليه وسلم ليس أهلًا لإنزال هذا القرآن عليه، لقلة ماله، وأن أحد الرجلين المذكورين أحق أن ينزل عليه القرآن منه صلى الله عليه وسلم: ( ) [الزخرف: ٣١].

    أي: «من إحدى القريتين، وهما مكة والطائف () يعنون بعظمه كثرة ماله وعظم جاهه، وعلو منزلته في قومه، وعظيم مكة الذي يريدون هو الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعبٍ، وفي مرة بن كعبٍ يجتمع نسبه بالنبي صلى الله عليه وسلم، وقيل: هو عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد منافٍ، وعظيم الطائف هو عروة بن مسعودٍ، وقيل: حبيب بن عمرو بن عميرٍ، وقيل: هو كنانة بن عبد ياليل، وقيل غير ذلك، وقد بين تعالى في هذه الآية الكريمة شدة جهلهم، وسخافة عقولهم، بقوله: ( ) [الزخرف: ٣٢]»38.

    هكذا أهل السوء والضلال يحرصون دائمًا على أن يكون الناس جميعًا على شاكلتهم؛ حتى لا يظهر سوؤهم، ولا ينكشف ضلالهم، وهكذا الشر دائمًا موكل بالخير، يريد أن يشوه معالمه، ويفسد طبيعته؛ ليتوازى معه على كفتي ميزان.

    ولكن الله بالغ أمره، فما كان قائمًا على الشر والفساد، مستنبتًا في منابت الضلال، فلا بقاء له، وما كان قائمًا على الحق والخير، مغروسًا في مغارس الهدى والنور، فهو شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، تؤتى أكلها كل حين بإذن ربها ( ﯫﯬ ﯰﯱ ﯸﯹ ) [الرعد: ١٧].

    ثانيًا: السخرية بأهل الإيمان:

    قال تعالى في ذم صفات المنافقين أنهم يسخرون من أهل الإيمان، قال تعالى: ( ﯬﯭ ﯴﯵ ) [التوبة: ٧٩].

    روى البخاري بسنده عن أبي مسعودٍ رضي الله عنه قال: (لما نزلت آية الصدقة كنا نتحامل على ظهورنا، فجاء رجلٌ فتصدق بشيءٍ كثيرٍ، فقالوا: مرائي، وجاء رجلٌ فتصدق بصاعٍ، فقالوا: إن الله لغنيٌ عن صدقة هذا، فنزلت: (ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ)39.

    قال السعدي رحمه الله: «جمعوا في كلامهم هذا بين عدة محاذير:

    منها: تتبعهم لأحوال المؤمنين، وحرصهم على أن يجدوا مقالًا يقولونه فيهم، والله يقول: ( ) [النور: ١٩].

    ومنها: طعنهم بالمؤمنين لأجل إيمانهم، كفرًا بالله تعالى، وبغضًا للدين.

    ومنها: أن اللمز محرم، بل هو من كبائر الذنوب في أمور الدنيا، وأما اللمز في أمر الطاعة، فأقبح وأقبح.

    ومنها: أن من أطاع الله وتطوع بخصلة من خصال الخير فإنه الذي ينبغي إعانته، وتنشيطه على عمله، وهؤلاء قصدوا تثبيطهم بما قالوا فيهم، وعابوهم عليه.

    ومنها: أن حكمهم على من أنفق مالًا كثيرًا بأنه مراء غلط فاحش، وحكم على الغيب، ورجم بالظن، وأي شر أكبر من هذا؟!

    ومنها: أن قولهم لصاحب الصدقة القليلة: «الله غني عن صدقة هذا» كلام مقصوده باطل، فإن الله غني عن صدقة المتصدق بالقليل والكثير، بل وغني عن أهل السماوات والأرض، ولكنه تعالى أمر العباد بما هم مفتقرون إليه، فالله -وإن كان غنيًا عنهم- فهم فقراء إليه ( ﮋﮌ) [الزلزلة: ٧].

    وفي هذا القول من التثبيط عن الخير ما هو ظاهر بين؛ ولهذا كان جزاؤهم أن سخر الله منهم، ولهم عذاب أليم»40.

    ثالثًا: منع إقامة الشعائر:

    قال تعالى في ذكر السبب الموجب لعذاب المشركين: ( ﭝﭞ ) [الأنفال: ٣٤].

    «أي: وكيف لا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام، أي: الذي بمكة، يصدون المؤمنين الذين هم أهله عن الصلاة فيه، والطواف به»41.

    «فقد كانوا يؤذون من طاف أو صلى فيه منهم إذا لم يكن له منهم أو من غيرهم من الأقوياء من يمنعه ويحميه، وقد وضعوا على ظهر الرسول صلى الله عليه وسلم فرث الجزور وهو ساجدٌ، فلم يتجرأ أحدٌ على رميه عنه إلا بنته فاطمة رضي الله عنها، ومنعوا أبا بكرٍ من الصلاة، وقراءة القرآن فيه، فبنى لنفسه مسجدًا كان يصلي فيه، ويجهر بالقرآن، فصدوه عن الصلاة فيه أيضًا؛ لأن النساء والأولاد كانوا يجتمعون لسماع قراءته المؤثرة، فخافوا عليهم أن يهتدوا إلى الإسلام»42.

    قال ابن عاشور رحمه الله: «كان الصد عن المسجد الحرام جريمةً عظيمةً يستحق فاعلوه عذاب الدنيا قبيل عذاب الآخرة؛ لأنه يؤول إلى الصد عن التوحيد؛ لأن ذلك المسجد بناه مؤسسه ليكون علمًا على توحيد الله، ومأوًى للموحدين، فصدهم المسلمين عنه لأنهم آمنوا بإلهٍ واحدٍ، صرفٌ له عن كونه علمًا على التوحيد»43.

    رابعًا: منع الهجرة:

    قال تعالى: ( ﮧﮨ ) [البقرة: ٢٠٧].

    روى ابن أبي حاتم بسنده عن سعيد بن المسيب، (أن صهيبًا أقبل مهاجرًا نحو النبي صلى الله عليه وسلم، فتبعه نفرٌ من قريش مشركون، فنزل وانتثل44 كنانته، فقال: يا معشر قريشٍ، قد علمتم أني أرماكم رجلًا بسهمٍ، وأيم الله لا تصلون إلي حتى أرميكم بكل سهمٍ في كنانتي، ثم أضربكم بسيفي، ما بقي في يدي منه شيءٌ، ثم شأنكم بعد، وقال: إن شئتم دللتكم على مالي بمكة، وتخلون سبيلي؟ قالوا: فدلنا على مالك بمكة ونخلي عنك، فتعاهدوا على ذلك، فدلهم، وأنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن: ( ﮧﮨ ) [البقرة: ٢٠٧].

    فلما رأى رسول الله صهيبًا، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ربح البيع يا أبا يحيى، ربح البيع يا أبا يحيى، ربح البيع يا أبا يحيى)45.

    وذكر ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسيره رواية أخرى عن أبي عثمان النهدي، عن صهيبٍ، قال: (لما أردت الهجرة من مكة إلى النبي صلى الله عليه وسلم قالت لي قريشٌ: يا صهيب قدمت إلينا ولا مال لك، وتخرج أنت ومالك، والله لا يكون ذلك أبدًا، فقلت لهم: أرأيتم إن دفعت إليكم مالي تخلون عني؟ قالوا: نعم، فدفعت إليهم مالي، فخلوا عني، فخرجت حتى قدمت المدينة، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (ربح صهيبٌ، ربح صهيبٌ) مرتين46.

    قال ابن عاشور رحمه الله: «والذي لا يشح بنفسه في نصرة الحق ينبيء خلقه عن إيثار الحق، والخير على الباطل والفساد»47.

    قال صاحب التفسير المنيرحفظه الله: «دل التعبير القرآني الموجز: ( ) [البقرة: ٢٠٧].

    على حقيقة ثابتة، وهي أن وجود فئة المخلصين بين الناس رحمة عامة للعباد، لا خاصة بهم، فكثيرًا ما ينتفع الناس بعمل المصلحين من دونهم؛ إذ تظهر ثمرات إصلاحهم من بعدهم، وعلى من يبذل نفسه ابتغاء مرضاة الله تعالى في نفع عباده ألا يتهور ويلقي بنفسه في التهلكة، بل عليه أن يكون حكيمًا يقدر الأمور بقدرها؛ إذ ليس المقصود بهذا الشراء: ( ) [التوبة: ١١١].

    إهانة النفس ولا إذلالها، وإنما المراد دفع الشر، وفعل الخير العام، رأفة بالعباد، وإيثارًا للمصلحة العامة»48.

    وقال تعالى في ذم المشركين الذين منعوا المسلمين من الهجرة في سبيل الله: ( ﭪﭫ ) [الحج: ٢٥].

    «وذلك بالمنع من الهجرة والجهاد؛ لأنهم كانوا يأبون ذلك»49.

    وقال الخازن رحمه الله: «أي: بالمنع من الهجرة والجهاد والإسلام»50.

    خامسًا: التخويف من الجهاد:

    قال تعالى في ذم صفات المنافقين أنهم يخوفون المؤمنين من الجهاد في سبيل الله: ( ) [النساء: ٧٢].

    عن قتادة رحمه الله: «عن الجهاد والغزو في سبيل الله»51.

    وقال تعالى: ( ﭿﮀ ﮅﮆ ) [التوبة: ٨١].

    وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم استنفرهم إلى غزوة تبوك في حرٍ شديدٍ، فقال المنافقون بعضهم لبعضٍ: لا تنفروا في الحر، فقال الله لنبيه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: قل لهم يا محمد: نار جهنم التي أعدها الله لمن خالف أمره، وعصى رسوله، أشد حرًا من هذا الحر الذي تتواصون بينكم أن لا تنفروا فيه، يقول: الذي هو أشد حرًا أحرى أن يحذر ويتقى من الذي هو أقلهما أذًى52.

    لقد قام المنافقون بصرف الناس عن الجهاد، وخوفوهم بعد الشقة، وحذروهم بأس الروم.

    قال سيد قطب رحمه الله: «وقالوا: ( ﭿ) وهي قولة المسترخي الناعم الذي لا يصلح لشيء مما يصلح له الرجال.

    إن هؤلاء لهم نموذج لضعف الهمة، وطراوة الإرادة، وكثيرون هم الذين يشفقون من المتاعب، وينفرون من الجهد، ويؤثرون الراحة الرخيصة على الكدح الكريم، ويفضلون السلامة الذليلة على الخطر العزيز، وهم يتساقطون إعياء خلف الصفوف الجادة الزاحفة العارفة بتكاليف الدعوات، ولكن هذه الصفوف تظل في طريقها المملوء بالعقبات والأشواك؛ لأنها تدرك بفطرتها أن كفاح العقبات والأشواك فطرة في الإنسان، وأنه ألذ وأجمل من القعود والتخلف، والراحة البليدة التي لا تليق بالرجال»53.

    سادسًا: النهي عن الإنفاق في سبيل الله:

    قال تعالى في ذم صفات المنافقين: ( ﭢ ﭣ ﭩﭪ ﭫ ﭬ ﭿ ﮀ ) [المنافقون: ٥-٧].

    عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما قال: «لا تطعموا محمدًا وأصحابه؛ حتى تصيبهم مجاعةٌ، فيتركوا نبيهم»54.

    فهم يصدون عن سبيل الله بالأمر بالمنكر، والنهي عن المعروف.

    قال تعالى: (ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ) [التوبة: ٦٧].

    «ومن المعروف الذي ينهون عنه الجهاد، وبذل المال في سبيل الله للقتال وغير القتال»55.

    قوله تعالى على لسان المنافقين: (ﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽ) قولة تجلى فيها خبث الطبع، وهي خطة التجويع التي يبدو أن خصوم الحق والإيمان يتواصون بها على اختلاف الزمان والمكان، في حرب العقيدة ومناهضة الأديان؛ ذلك أنهم لخسة مشاعرهم، يحسبون لقمة العيش هي كل شيء في الحياة، كما هي في حسهم فيحاربون بها المؤمنين، إنها خطة قريش، وهي تقاطع بني هاشم في الشعب؛ لينفضوا عن نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويسلموه للمشركين، وهي خطة المنافقين -كما تحكيها هذه الآية- لينفض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه تحت وطأة الضيق والجوع.

    وهي خطة الشيوعيين في حرمان المتدينين في بلادهم من بطاقات التموين؛ ليموتوا جوعًا، أو يكفروا بالله، ويتركوا الصلاة.

    وهي خطة غيرهم ممن يحاربون الدعوة إلى الله، وحركة البعث الإسلامي في بلاد الإسلام، بالحصار والتجويع، ومحاولة سد أسباب العمل والارتزاق.

    وهكذا يتوافى على هذه الوسيلة الخسيسة كل خصوم الإيمان من قديم الزمان إلى هذا الزمان، ناسين الحقيقة اليسيرة التي يذكرهم القرآن بها قبل ختام هذه الآية ( ) [المنافقون: ٧].

    ومن خزائن الله في السموات والأرض يرتزق هؤلاء الذين يحاولون أن يتحكموا في أرزاق المؤمنين، فليسوا هم الذين يخلقون رزق أنفسهم، فما أغباهم وأقل فقههم وهم يحاولون قطع الرزق عن الآخرين!»56.

    وما الحصار المفروض على فلسطين -وكذلك على البلاد المسلمة الفقيرة- إلا تنفيذٌ وتحقيقٌ لهذه الوسيلة الخسيسة، والتي يراد بها تركيع المؤمنين المجاهدين، وصرف الشعب الفلسطيني عن التعاون مع المجاهدين، وتثبيطهم عن مجالدة العدو الصهيوني.

    سابعًا: الصد عن المساجد:

    قال تعالى في ذم صفات المنافقين والتي استخدموها في صد الناس عن طريق الحق: ( ﭟﭠ ﭥﭦ ) [التوبة: ١٠٧].

    عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما قال: «هم أناسٌ من الأنصار ابتنوا مسجدًا، فقال لهم أبو عامرٍ: ابنوا مسجدكم، واستعدوا بما استطعتم من قوةٍ ومن سلاحٍ، فإني ذاهبٌ إلى قيصر ملك الروم فآتي بجندٍ من الروم، فأخرج محمدًا وأصحابه، فلما فرغوا من مسجدهم أتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: قد فرغنا من بناء مسجدنا، فنحب أن تصلي فيه، وتدعو لنا بالبركة، فأنزل الله فيه: ( ﭯﭰ ﭻﭼ ) [التوبة: ١٠٨].

    إلى قوله: ( ) [التوبة: ١٠٩]»57.

    «هذا المسجد -مسجد الضرار- الذي اتخذ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مكيدة للإسلام والمسلمين، لا يراد به إلا الإضرار بالمسلمين، وإلا الكفر بالله، وإلا ستر المتآمرين على الجماعة المسلمة، الكائدين لها في الظلام، وإلا التعاون مع أعداء هذا الدين على الكيد له تحت ستار الدين».

    هذا المسجد ما يزال يتخذ في صور شتى تلائم ارتقاء الوسائل الخبيثة التي يتخذها أعداء هذا الدين تتخذ في صورة نشاط ظاهره للإسلام، وباطنه لسحق الإسلام، أو تشويهه وتمويهه وتمييعه! وتتخذ في صورة أوضاع ترفع لافتة الدين عليها؛ لتتترس وراءها، وهي ترمي هذا الدين! وتتخذ في صورة تشكيلات وتنظيمات وكتب وبحوث تتحدث عن الإسلام لتخدر القلقين الذين يرون الإسلام يذبح ويمحق، فتخدرهم هذه التشكيلات وتلك الكتب إلى أن الإسلام بخير لا خوف عليه ولا قلق! وتتخذ في صور شتى كثيرة.

    ومن أجل مساجد الضرار الكثيرة هذه يتحتم كشفها وإنزال اللافتات الخادعة عنها، وبيان حقيقتها للناس، وما تخفيه وراءها، ولنا أسوة في كشف مسجد الضرار على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم58.

    علاج القرآن للصد عن سبيل الله

    أرشد القرآن الكريم إلى كيفية علاج الصد عن سبيل الله تعالى، وسوف نتناوله بالبيان فيما يأتي:

    أولًا: دحض شبه الصادين عن سبيل الله:

    قال تعالى في دحض شبهة المشركين التي عيروا بها المؤمنين في قتلهم ابن الحضرمي في الأشهر الحرم: ( ﭳﭴ ﭸﭹ ﭿ ﮇﮈ ﮋﮌﮍ ) [البقرة: ٢١٧].

    روى الطبراني بسنده عن جندب بن عبد الله: (عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه بعث رهطًا، وبعث عليهم أبا عبيدة بن الجراح أو عبيدة، فلما ذهب لينطلق بكى صبابة59 إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجلس فبعث عليهم عبد الله بن جحشٍ مكانه، وكتب له كتابًا، وأمره أن لا يقرأ الكتاب حتى يبلغ مكان كذا وكذا، وقال: (لا تكرهن أحدًا من أصحابك على المسير معك). فلما قرأ الكتاب استرجع، ثم قال: سمعٌ وطاعةٌ لله ورسوله، فخبرهم الخبر، وقرأ عليهم الكتاب، فرجع رجلان، ومضى بقيتهم، فلقوا ابن الحضرمي فقتلوه، ولم يدروا أن ذلك اليوم من رجبٍ أو جمادى، فقال المشركون للمسلمين: قتلتم في الشهر الحرام، فأنزل الله عز وجل: (ﭮﭯﭰﭱ) [البقرة: ٢١٧] الآية، فقال بعضهم: إن لم يكونوا أصابوا وزرًا فليس لهم أجرٌ، فأنزل الله عز وجل: ( ﯜﯝ ) [البقرة: ٢١٨]60.

    قال السعدي رحمه الله: «الجمهور على أن تحريم القتال في الأشهر الحرم منسوخ بالأمر بقتال المشركين حيثما وجدوا، وقال بعض المفسرين: إنه لم ينسخ؛ لأن المطلق محمول على المقيد، وهذه الآية مقيدة لعموم الأمر بالقتال مطلقًا؛ ولأن من جملة مزية الأشهر الحرم بل أكبر مزاياها تحريم القتال فيها، وهذا إنما هو في قتال الابتداء، وأما قتال الدفع فإنه يجوز في الأشهر الحرم كما يجوز في البلد الحرام».

    ولما كانت هذه الآية نازلة بسبب ما حصل لسرية عبد الله بن جحش، وقتلهم عمرو بن الحضرمي، وأخذهم أمواله، وكان ذلك -على ما قيل- في شهر رجب عيرهم المشركون بالقتال بالأشهر الحرم، وكانوا في تعييرهم ظالمين؛ إذ فيهم من القبائح ما بعضه أعظم مما عيروا به المسلمين، والتي منها:

    • صد المشركين من يريد الإيمان بالله وبرسوله، وفتنتهم من آمن به، وسعيهم في ردهم عن دينهم، وكفرهم الحاصل في الشهر الحرام، والبلد الحرام الذي هو بمجرده كافٍ في الشر، فكيف وقد كان في شهر حرام وبلد حرام؟!
    • إخراج أهل المسجد الحرام وهم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه؛ لأنهم أحق به من المشركين، وهم عماره على الحقيقة، فأخرجوهم منه ولم يمكنوهم من الوصول إليه، مع أن هذا البيت سواء العاكف فيه والباد، فهذه الأمور كل واحد منها ( ﮋﮌﮍ) في الشهر الحرام، فكيف وقد اجتمعت فيهم؟! فعلم أنهم فسقة ظلمة، في تعييرهم المؤمنين61.

      وقال سيد قطب في وصف هؤلاء -وأمثالهم في كل جيل-: «هؤلاء قوم طغاة بغاة معتدون، لا يقيمون للمقدسات وزنًا، ولا يتحرجون أمام الحرمات، ويدوسون كل ما تواضع المجتمع على احترامه من خلق ودين وعقيدة، يقفون دون الحق فيصدون الناس عنه، ويفتنون المؤمنين، ويؤذونهم أشد الإيذاء، ويخرجونهم من البلد الحرام الذي يأمن فيه كل حي حتى الهوام! ثم بعد ذلك كله يتسترون وراء الشهر الحرام، ويقيمون الدنيا ويقعدونها باسم الحرمات والمقدسات، ويرفعون أصواتهم: انظروا ها هو ذا محمد ومن معه ينتهكون حرمة الشهر الحرام! فكيف يواجههم الإسلام؟ يواجههم بحلول مثالية نظرية طائرة؟

      إنه إن يفعل يجرد المسلمين الأخيار من السلاح، بينما خصومهم البغاة الأشرار يستخدمون كل سلاح، ولا يتورعون عن سلاح! كلا إن الإسلام لا يصنع هذا؛ لأنه يريد مواجهة الواقع لدفعه ورفعه، يريد أن يزيل البغي والشر، وأن يقلم أظافر الباطل والضلال، ويريد أن يسلم الأرض للقوة الخيرة، ويسلم القيادة للجماعة الطيبة، ومن ثم لا يجعل الحرمات متاريس يقف خلفها المفسدون البغاة الطغاة ليرموا الطيبين الصالحين البناة، وهم في مأمن من رد الهجمات ومن نبل الرماة!

      إن الإسلام يرعى حرمات من يرعون الحرمات، ويشدد في هذا المبدأ ويصونه، ولكنه لا يسمح بأن تتخذ الحرمات متاريس لمن ينتهكون الحرمات، ويؤذون الطيبين، ويقتلون الصالحين، ويفتنون المؤمنين، ويرتكبون كل منكر وهم في منجاة من القصاص تحت ستار الحرمات التي يجب أن تصان!»62.

      إن هؤلاء الذين حكى عنهم القرآن نراهم بأعيننا صباحًا ومساءً في وسائل الإعلام المأجورة لمحاربة كل ما هو إسلامي، يسلطون الضوء على بعض الأخطاء من المسلمين، ويغمضون أعينهم عن صدهم عن سبيل الله بكل وسيلة خسيسة.

      ألا فليتعظ هؤلاء مما فعل بأسلافهم، فإنهم ليسوا بمنأى من عقاب الله، وليطمئن المؤمنون المخلصون إلى وعد الله لهم بالنصر، ووعيد الله للمجرمين بالعذاب المهين.

      ثانيًا: التحذير من مكائد الشيطان وتزيينه:

      أخبر سبحانه في كتابه أن الشيطان توعد بني آدم بتزيين المعاصي والشهوات لهم وإضلالهم عن الطريق المستقيم، قال تعالى على لسان الشيطان: ( ﮋﮌ ) [الحجر: ٣٩].

      أي: «بسبب ما أغويتني وأضللتني لأزينن لذرية آدم عليه السلام في الأرض، أي: أحبب إليهم المعاصي، وأرغبهم فيها، وأؤزهم إليها، وأزعجهم إليها إزعاجًا، ولأغوينهم أجمعين، أي: كما أغويتني وقدرت علي ذلك ( ) [الحجر: ٤٠]»63.

      وقال تعالى محذرًا المؤمنين من وساوس الشيطان وعداوته: ( ﭟﭠ ) [الزخرف: ٦٢].

      أي: لا تغتروا بوساوسه وشبه الكفار المجادلين، فإن شرائع الأنبياء لم تختلف في التوحيد، ولا فيما أخبروا به من علم الساعة وغيرها بما تضمنته من جنةٍ أو نارٍ64، إن الشيطان لكم عدو ظاهر العداوة من عهد أبيكم آدم عليه السلام.

      لقد حدد الشيطان مكان المعركة وعدته فيها، فمكان المعركة بين الإنسان والشيطان الأرض، وعدته فيها التزيين، تزيين القبيح وتجميله، والإغراء بزينته المصطنعة على ارتكابه.

      ألا فليفطن الناس إلى عدة الشيطان؛ وليحذروا كلما وجدوا في أمر تزيينًا، وكلما وجدوا من نفوسهم إليه اشتهاء، فقد يكون الشيطان هناك.

      ثم حدد -لعنه الله- الفائزين عليه في هذه المعركة، إنهم المخلصون الذين أخلصهم الله لنفسه، واصطفاهم لطاعته، وأرادهم لجنته.

      ثالثًا: التحذير من النفاق وبيان عوراته:

      قال تعالى محذرًا عباده المؤمنين في سياق الحديث عن المنافقين ووسائلهم في الصد عن سبيل الله: ( ) [المنافقون: ٤].

      «يقول الله جل ثناؤه لنبيه صلى الله عليه وسلم: هم العدو يا محمد فاحذرهم، فإن ألسنتهم إذا لقوكم معكم، وقلوبهم عليكم مع أعدائكم، فهم عينٌ لأعدائكم عليكم»65.

      رابعًا: الاستعداد للموت بالإيمان وإحسان العمل:

      إن الغافل عن الآخرة وحسابها يسعى في الدنيا سعي الوحوش في البرية، فيصرف نفسه عن الطريق المستقيم الآمن من الهلكة في الدنيا والآخرة؛ وكذلك يصرف غيره؛ لأنه لا يحب الخير لنفسه ولا لغيره، أما إذا تمكن حب الآخرة، من القلب كان حريصًا على كل ما يثقل موازينه في الآخرة، ويرفع درجاته في الجنة، فيفعل الخيرات، ويعاون غيره على فعلها.

      ولقد قرن سبحانه بين الصد عن سبيل الله والكفر بالآخرة في مواضع من كتابه؛ لأنه لا يؤمن بالآخرة أحد، ويستيقن أنه راجع إلى ربه ثم يصد عن سبيل الله، ويحيد عن نهجه وشرعه.

      قال تعالى: ( ) [الأعراف: ٤٥].

      وقال تعالى: (ﯿ ) [هود: ١٩].

      وقد تكررت في الآية الثانية (هم) «واختصت هذه الآية على نظيرها في الأعراف بزيادة () في قوله: ( ) وهو توكيدٌ يفيد تقوي الحكم؛ لأن المقام هنا مقام تسجيل إنكارهم البعث وتقريره؛ إشعارًا بما يترقبهم من العقاب المناسب»66.

      فإذا آمن العبد بالآخرة، واستيقن أنه راجع إلى ربه، أعد لذلك العمل الصالح المقبول الذي ينجيه بين يدي مولاه.

      قال تعالى: ( ﰎﰏ ) [الكهف: ١١٠].

      قال ابن القيم رحمه الله في شروط العمل الصالح المقبول: «قال الفضيل بن عياض رحمه الله: هو أخلص العمل وأصوبه، قالوا: يا أبا علي ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يقبل، وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يقبل حتى يكون خالصًا وصوابًا.

      فالخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة، فهذا هو العمل المقبول الذي لا يقبل الله من الأعمال سواه، وهو أن يكون موافقًا لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم مرادًا به وجه الله، ولا يتمكن العامل من الإتيان بعمل يجمع هذين الوصفين إلا بالعلم»67.

      خامسًا: بيان عاقبة الصادين عن سبيل الله:

      قرن سبحانه بين الصد عن سبيل الله والفساد، فكل صاد عن سبيل الله مفسد في الأرض.

      قال تعالى: ( ) [النحل: ٨٨].

      وأمرنا الله عز وجل أن ننظر لنتأمل عاقبة المفسدين -ومنهم الصادين عن سبيل الله- وما حل بهم من الخزي والنكال، وأيضًا وجه أنظار وعقول المفسدين؛ ليعتبروا بما حدث للمفسدين من الأمم السابقة؛ حتى يكون رادعًا لهم عن العصيان والفساد.

      قال تعالى: ( ﯩﯪ ) [الأعراف: ١٠٣].

      وقال تعالى: ( ﭖﭗ ﭚﭛﭜ) [النمل: ١٤].

      ومن سنة الأنبياء: بيان عاقبة المفسدين، قال تعالى على لسان شعيب عليه السلام ناصحًا قومه من عاقبة الفساد، ومنه الصد عن سبيل الله: ( ﮩﮪ ﮯﮰ ﯔﯕ ) [الأعراف: ٨٦].

      أي: «وانظروا ما نزل بمن كان قبلكم من الأمم حين عتوا على ربهم، وعصوا رسله من المثلات والنقمات، وكيف وجدوا عقبى عصيانهم إياه، ألم يهلك بعضهم غرقًا بالطوفان، وبعضهم رجمًا بالحجارة، وبعضهم بالصيحة؟»68؛ «لأنهم إذا عرفوا أن عاقبة المفسدين المتمردين ليست إلا الخزي والنكال احترزوا عن الفساد والعصيان وأطاعوا»69.

      و«المراد بالمفسدين الذين أفسدوا أنفسهم بعقيدة الشرك، وبأعمال الضلال، وأفسدوا المجتمع بمخالفة الشرائع، وأفسدوا الناس بإمدادهم بالضلال، وصدهم عن الهدى»70.

      وبعد أن بين لهم شعيب عاقبة الصادين المفسدين هل ارتدعوا؟

      يحكي لنا القرآن العذاب الذي وقع بقوم شعيب؛ لإعراضهم عن دعوته، وتكذيبهم لرسالته، وصدهم من آمن منهم عن طريقه ومنهجه.

      قال تعالى: ( ﯓﯔ ) [الأعراف: ٩٢].

      وقال تعالى: ( ﭸ ﭹ ﭺ ﭻﭼ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ) [الشعراء: ١٨٩].

      وقال تعالى: ( ﯡﯢ) [هود: ٩٤].

      قال ابن كثير رحمه الله: «وقد اجتمع عليهم ذلك كله: أصابهم عذاب يوم الظلة، وهي سحابةٌ أظلتهم فيها شررٌ من نارٍ ولهب، ووهج عظيمٍ، ثم جاءتهم صيحةٌ من السماء، ورجفةٌ من الأرض شديدةٌ من أسفل منهم، فزهقت الأرواح، وفاضت النفوس، وخمدت الأجساد»71.

      فهؤلاء الصادون عن سبيل الله هلكوا ولم يشعر بهم أحد في أرض ولا سماء، ولم يأسف عليهم أحد في أرض ولا سماء، وذهبوا غير مأسوف عليهم، فهذا الكون يمقتهم لانفصالهم عنه، وهو مؤمن بربه، وهم به كافرون! وهم أرواح خبيثة شريرة منبوذة من هذا الوجود وهي تعيش فيه!

      فما أكثر هؤلاء الذين حكى عنهم القرآن في هذا العصر، وننتظر من الله عز وجل المنتقم -بعد الأخذ بأسباب التدافع- أن ينزل بهم بأسه الذي لا يرد عن القوم المجرمين، ونحن من ذلك على يقين.

      فعلى الدعاة والمصلحين الاستنان بسنة الأنبياء في بيان ما حل بالمفسدين -ومنهم الصادين عن سبيل الله- من الخزي والنكال والهلاك والدمار؛ لعلهم يرتدعون خوفًا مما حل بمن سبقهم، أو يطيعون ربهم ويعودون إليه تائبين.

      جزاء الصد عن سبيل الله وآثاره

      أوضح القرآن الكريم من خلال آياته جزاء الصادين عن سبيل الله تعالى في الدنيا والآخرة، وسوف نتناول ذلك بالبيان فيما يأتي:

      أولًا: الجزاء الدنيوي:

      استحق الصادون عن سبيل الله العذاب، كما حكى الله عنهم في القرآن الكريم، ووصف العذاب بأكثر من وصف، فمرة بالأليم، وأخرى بالعظيم، وثالثة بالمهين، وغيرها من العذاب المضاعف:

      ففي العذاب الأليم: قال تعالى: ( ) [الأنفال: ٣٤].

      وهذا تسجيل للعذاب العام عليهم، وهو عذاب عاجل في الدنيا، وينتظرهم العذاب الآجل يوم القيامة.

      وفي العذاب العظيم: قال تعالى: ( ﭠﭡ ) [النحل: ٩٤] أي: كبير شديد، ونكر لإفادة أنه عظيم أبلغ العظم، لا يعرف مقداره.

      وفي العذاب المهين: قال تعالى: ( ) [المجادلة: ١٦] أي: يهينهم ويخزيهم.

      وأما مضاعفة العذاب: فذلك في قوله تعالى: ( ) [النحل: ٨٨].

      ثم بين تعالى أن هذا العذاب بعد حشرهم إلى جهنم، قال سبحانه: ( ﭿﮀ ﮇﮈ ) [الأنفال: ٣٦].

      وبين سبحانه أن الذهاب إلى جهنم للتسعير في نارها، قال تعالى: ( ﭿ ﮄﮅ ) [النساء: ٥٥].

      ومن أنواع الجزاء الدنيوي التي حكته الآيات:

      ١. المصائب والكوارث.

      قال تعالى: ( ﭓﭔ ﭠﭡ ) [النحل: ٩٤].

      السوء: ما يسوءهم من قتلٍ، ونهبٍ، وأسرٍ، وجلاءٍ، وغير ذلك مما يسوء72.

      وأيضًا السوء: ما يؤلم، والمراد به: ذوق السوء في الدنيا من معاملتهم معاملة الناكثين عن الدين، أو الخائنين عهودهم73.

      قال ابن كثير رحمه الله: «حذر تعالى عباده عن اتخاذ الأيمان دخلًا، أي: خديعةً ومكرًا لئلا تزل قدمٌ بعد ثبوتها، مثلٌ لمن كان على الاستقامة فحاد عنها، وزل عن طريق الهدى بسبب الأيمان الحانثة المشتملة على الصد عن سبيل الله؛ لأن الكافر إذا رأى أن المؤمن قد عاهده، ثم غدر به لم يبق له وثوقٌ بالدين، فانصد بسببه عن الدخول في الإسلام»74.

      «واتخاذ الأيمان غشًا وخداعًا يزعزع العقيدة في الضمير، ويشوه صورتها في ضمائر الآخرين، فالذي يقسم وهو يعلم أنه خادع في قسمه، لا يمكن أن تثبت له عقيدة، ولا أن تثبت له قدم على صراطها، وهو في الوقت ذاته يشوه صورة العقيدة عند من يقسم لهم ثم ينكث، ويعلمون أن أقسامه كانت للغش والدخل، ومن ثم يصدهم عن سبيل الله بهذا المثل السيئ الذي يضربه للمؤمنين بالله.

      ولقد دخلت في الإسلام جماعات وشعوب بسبب ما رأوا من وفاء المسلمين بعهدهم، ومن صدقهم في وعدهم، ومن إخلاصهم في أيمانهم، ومن نظافتهم في معاملاتهم، فكان الكسب أضخم بكثير من الخسارة الوقتية الظاهرية التي نشأت عن تمسكهم بعهودهم.

      ولقد ترك القرآن وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم في نفوس المسلمين أثرًا قويًا، وطابعًا عامًا في هذه الناحية ظل هو طابع التعامل الإسلامي الفردي والدولي المتميز»75.

      روى الترمذي بسنده عن سليم بن عامرٍ، قال: (كان بين معاوية وبين أهل الروم عهدٌ، وكان يسير في بلادهم، حتى إذا انقضى العهد أغار عليهم، فإذا رجلٌ على دابةٍ أو على فرسٍ، وهو يقول: الله أكبر، وفاءٌ لا غدرٌ، وإذا هو عمرو بن عبسة، فسأله معاوية عن ذلك، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من كان بينه وبين قومٍ عهدٌ فلا يحلن عهدًا، ولا يشدنه حتى يمضي أمده، أو ينبذ إليهم على سواءٍ) قال: فرجع معاوية بالناس)76.

      وإنما كره عمرو بن عبسة ذلك لأنه إذا هادنهم إلى مدةٍ وهو مقيمٌ في وطنه، فقد صارت مدة مسيره بعد انقضاء المدة المضروبة كالمشروط مع المدة في أن يغزوهم فيها، فإذا سار إليهم في أيام الهدنة كان إيقاعه قبل الوقت الذي يتوقعونه فعد ذلك عمرٌو غدرًا، وأما إن نقض أهل الهدنة بأن ظهرت منهم خيانةٌ فله أن يسير إليهم على غفلةٍ منهم77.

      ٢. الضلال والبعد عن الحق.

      قرن سبحانه وتعالى بين الكفر وضلال الأعمال في كتابه، فقال: ( ) [محمد: ٨].

      وقرن بين الصد عن سبيله وضلال الأعمال، فقال تعالى: ( ) [محمد: ١].

      قال أبو جعفرٍ رحمه الله: «يقول تعالى ذكره: الذين جحدوا توحيد الله، وعبدوا غيره، وصدوا من أراد عبادته، والإقرار بوحدانيته، وتصديق نبيه محمدٍ صلى الله عليه وسلم عن الذي أراد من الإسلام والإقرار والتصديق جعل الله أعمالهم ضلالًا على غير هدًى وغير رشادٍ؛ لأنها عملت في سبيل الشيطان، وهي على غير استقامةٍ»78.

      وانظر إلى التصوير الفني في الآية كما يصوره سيد قطب رحمه الله قال: «وإضلال الأعمال الذي يواجه به الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله، سواء صدوا هم أم صدوا وصدوا غيرهم، يفيد ضياع هذه الأعمال وبطلانها، ولكن هذا المعنى يتمثل في حركة، فإذا بنا نرى هذه الأعمال شاردة ضالة، ونلمح عاقبة هذا الشرود والضلال، فإذا هي الهلاك والضياع، وهي حركة تخلع ظل الحياة على الأعمال، فكأنما هي شخوص حية أضلت وأهلكت، وتعمق المعنى وتلقي ظلاله، ظلال معركة تشرد فيها الأعمال عن القوم، والقوم عن الأعمال حتى تنتهي إلى الضلال والهلاك! وهذه الأعمال التي أضلت ربما كان المقصود منها بصفة خاصة الأعمال التي يأملون من ورائها الخير، والتي يبدو على ظاهرها الصلاح، فلا قيمة لعمل صالح من غير إيمان، فهذا الصلاح شكلي لا يعبر عن حقيقة وراءه.

      والعبرة بالباعث الذي يصدر عنه العمل لا بشكل العمل، وقد يكون الباعث طيبًا، ولكنه حين لا يقوم على الإيمان يكون فلتة عارضة أو نزوة طارئة، لا يتصل بمنهج ثابت واضح في الضمير، متصل بخط سير الحياة العريض، ولا بناموس الوجود الأصيل، فلابد من الإيمان؛ ليشد النفس إلى أصل تصدر عنه في كل اتجاهاتها، وتتأثر به في كل انفعالاتها، وحينئذٍ يكون للعمل الصالح معناه، ويكون له هدفه، ويكون له اطراده، وتكون له آثاره وفق المنهج الإلهي الذي يربط أجزاء هذا الكون كله في الناموس، ويجعل لكل عمل ولكل حركة وظيفة وأثرًا في كيان هذا الوجود، وفي قيامه بدوره، وانتهائه إلى غايته»79.

      ٣. التضييق في الطيبات والمباحات.

      فبسبب صد اليهود أنفسهم وغيرهم عن دين الله القويم حرم الله عليهم طيبات من المأكل كانت حلالًا لهم.

      قال تعالى: ( ) [النساء: ١٦٠].

      قال ابن كثير رحمه الله: «الجميع من الأطعمة كانت حلالًا لهم من قبل أن تنزل التوراة ما عدا ما كان حرم إسرائيل على نفسه من لحوم الإبل وألبانها.

      ثم إنه تعالى حرم أشياء كثيرةً في التوراة، كما قال تعالى: (ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯺ ﯻ ﯾ ﯿ ) [الأنعام: ١٤٦]»80.

      ٤. إنفاق الأموال هدرًا، وانقلابها حسرة وغلبة.

      إنه لمن دواعي الهم والغم أن ينفق الإنسان ماله لهدف من الأهداف، ثم يكون الفشل بضيـاع المال دون تحقيق الغاية، ومما يزيد الأمر مرارة أن ينقلب هذا الإنفاق حسرة عليهم، ليس ذلك فحسب، بل تكون الهزيمة والغلبة عليهم أيضًا، بالإضافة إلى العذاب الأخروي، وهو الحشر إلى جهنم؛ ليذوقوا العذاب.

      قال تعالى: (ﭷﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ) [الأنفال: ٣٦].

      عن سعيد بن جبيرٍ في قوله: (ﭷﭸﭹﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ) [الأنفال: ٣٦] قال: نزلت في أبي سفيان بن حربٍ استأجر يوم أحدٍ ألفين من الأحابيش81 من بني كنانة، فقاتل بهم النبي صلى الله عليه وسلم 82.

      قال الطبري رحمه الله: «يقول تعالى ذكره: إن الذين كفروا بالله ورسوله ينفقون أموالهم، فيعطونها أمثالهم من المشركين؛ ليتقووا بها على قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به؛ ليصدوا المؤمنين بالله ورسوله عن الإيمان بالله ورسوله، فسينفقون أموالهم في ذلك (ثم تكون) نفقتهم تلك حسرة، يقول: تصير ندامةً عليهم؛ لأن أموالهم تذهب، ولا يظفرون بما يأملون، ويطمعون فيه من إطفاء نور الله، وإعلاء كلمة الكفر على كلمة الله؛ لأن الله معلي كلمته، وجاعلٌ كلمة الكفر السفلى، ثم يغلبهم المؤمنون، ويحشر الله الذين كفروا به وبرسوله إلى جهنم، فيعذبون فيها، فأعظم بها حسرةً وندامةً لمن عاش منهم ومن هلك، أما الحي فحرب ماله83 وذهب باطلًا في غير دركٍ نفعٍ ورجع مغلوبًا مقهورًا محزونًا مسلوبًا، وأما الهالك تاب فقتل وسلب وعجل به إلى نار الله يخلد فيها، نعوذ بالله من غضبه»84.

      «والكفار في هذا الزمان ينفقون القناطير المقنطرة من الأموال للصد عن الإسلام، وفتنة الضعفاء من العوام، بجهادٍ سلميٍ، أعم من الجهاد الحربي، وهو الدعوة إلى أديانهم، والتوسل إلى نشرها بتعليم أولاد المسلمين في مدارسهم، ومعالجة رجالهم ونسائهم في مستشفياتهم، والمسلمون مواتون، يرسلون أولادهم إليهم ولا يبالون ما يعملون»85.

      «إن المعركة لن تكف، وأعداء هذا الدين لن يدعوه في راحة، ولن يتركوا أولياء هذا الدين في أمن، وسبيل هذا الدين هو أن يتحرك ليهاجم الجاهلية، وسبيل أوليائه أن يتحركوا لتحطيم قدرة الجاهلية على العدوان، ثم لإعلاء راية الله حتى لا يجرؤ عليها الطاغوت.

      والله سبحانه ينذر الكفار الذين ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله بأنها ستعود عليهم بالحسرة.

      إنهم سينفقونها لتضيع في النهاية، وليغلبوا هم، وينتصر الحق في هذه الدنيا، وسيحشرون في الآخرة إلى جهنم، فتتم الحسرة الكبرى.

      إن هذا المال الذي ينفق يؤلب الباطل، ويملي له في العدوان فيقابله الحق بالكفاح والجهاد، وبالحركة للقضاء على قدرة الباطل على الحركة، وفي هذا الاحتكاك المرير تنكشف الطباع، ويتميز الحق من الباطل، كما يتميز أهل الحق من أهل الباطل -حتى بين الصفوف التي تقف ابتداء تحت راية الحق قبل التجربة والابتلاء- ويظهر الصامدون الصابرون المثابرون الذين يستحقون نصر الله؛ لأنهم أهل لحمل أماناته، والقيام عليها، وعدم التفريط فيها تحت ضغط الفتنة والمحنة»86.

      ٥. كيد الصادين عن سبيل الله في خسران وهلاك.

      وهذه حقيقة حتمية، قررها رب العالمين بفضله ورحمته للمؤمنين؛ ولولا ذلك لصرف الناس وصدوا عن سبيل الله.

      قال تعالى: ( ﮧﮨ ) [غافر: ٣٧].

      و(التباب): الخسران، ومنه: ( ﮋﮌ) [المسد: ١].

      وبه فسر مجاهد وقتادة رحمهما الله، وتب فرعون ظاهر؛ لأنه خسر ماله في الصرح وغيره، وخسر ملكه، وخسر نفسه وخلد في جهنم87.

      ولتأكيد هذه الحقيقة جاءت أدوات الحصر (ما - إلا) بمعنى: أنه لن يعدو كيد فرعون إلا أن يكون في هلاك وخسارة وضياع، دون تحقيق الهدف والغاية التي أراد من صد المؤمنين عن إيمانهم بربهم ونبيهم موسى عليه السلام.

      وهذه الحقيقة الحتمية تسلية وتسرية للمؤمنين العاملين للتمكين للإسلام في واقع الحياة؛ لأن ما يفعله الطغاة والمستبدون لصرفهم عن طريق الإيمان في خسران وضياع، ولن يتحقق لهؤلاء غاية، ولن ترفع لهم راية، طالما وجد المؤمنون المستحقون لنصر الله.

      ثانيًا: الجزاء الأخروي:

      ١. مضاعفة السيئات ومحق الحسنات.

      قال تعالى: ( ﭒﭓ ) [النحل: ٨٨].

      أي: عذابًا على كفرهم، وعذابًا على صدهم الناس عن اتباع الحق، كقوله تعالى: ( ) [الأنعام: ٢٦].

      أي: ينهون الناس عن اتباعه، ويبتعدون هم منه أيضًا، وهذا دليلٌ على تفاوت الكفار في عذابهم، كما يتفاوت المؤمنون في منازلهم في الجنة ودرجاتهم، كما قال تعالى: ( ) [الأعراف: ٣٨].

      عن عبد الله رضي الله عنه في قول الله: ( ) قال: زيدوا عقارب أنيابها كالنخل الطوال، وعن ابن عباس رضي الله عنهما في الآية أنه قال: ( ) قال: هي خمسة أنهار تحت العرش، يعذبون ببعضها في الليل، وببعضها في النهار88.

      وقد زيد لهم العذاب؛ لأنهم زادوا على كفرهم صد غيرهم عن الإيمان، فهم في الحقيقة ازدادوا كفرًا على كفرٍ، وأيضًا أتباعهم إنما اقتدوا بهم في الكفر، فوجب أن يحصل لهم مثل عقاب أتباعهم؛ لقوله تعالى: ( ) [العنكبوت: ١٣].

      ولقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري بسنده عن جرير بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ومن سن في الإسلام سنةً سيئةً، فعمل بها بعده، كتب عليه مثل وزر من عمل بها، ولا ينقص من أوزارهم شيءٌ)89.

      ٢. عدم المغفرة لهم إذا ماتوا على الكفر.

      قال تعالى: (ﮋﮌ ) [محمد: ٣٤].

      قال السعدي رحمه الله: «هذه الآية والتي في البقرة قوله: ( ) [البقرة: ٢١٧].

      مقيدتان لكل نص مطلق فيه إحباط العمل بالكفر، فإنه مقيد بالموت عليه، فقال هنا: (ﮋﮌ ) بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر () الخلق ( ) بتزهيدهم إياهم بالحق، ودعوتهم إلى الباطل وتزيينه ( ) لم يتوبوا منه ( ) لا بشفاعة ولا بغيرها؛ لأنه قد تحتم عليهم العقاب، وفاتهم الثواب، ووجب عليهم الخلود في النار، وسدت عليهم رحمة الرحيم الغفار.

      ومفهوم الآية الكريمة: أنهم إن تابوا من ذلك قبل موتهم فإن الله يغفر لهم ويرحمهم، ويدخلهم الجنة، ولو كانوا مفنين أعمارهم في الكفر به، والصد عن سبيله، والإقدام على معاصيه، فسبحان من فتح لعباده أبواب الرحمة، ولم يغلقها عن أحد، ما دام حيًا متمكنًا من التوبة»90.

      وما تضمنته الآية الكريمة أن من مات على الكفر لن يغفر الله له؛ لأن النار وجبت له بموته على الكفر، جاء موضحًا في آياتٍ أخر من كتاب الله، كقوله تعالى: ( ﯰﯱ ) [آل عمران: ٩١].

      وقوله تعالى: ( ﯳﯴ ) [البقرة: ١٦١-١٦٢].

      وقوله تعالى: ( ﮢﮣ ) [النساء: ١٨].

      فالفرصة متاحة فقط للمغفرة في هذه الدنيا، وباب التوبة يظل مفتوحًا للكافر حتى يغرغر، فإذا بلغت الروح الحلقوم فلا توبة ولا مغفرة، فقد ذهبت الفرصة التي لا تعود، روى الترمذي بسنده عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر)91.

      ٣. العذاب المهين.

      قال تعالى: ( ) [المجادلة: ١٦].

      قال الرازي رحمه الله: «فيه مسألتان:

      المسألة الأولى: قرأ الحسن: ( ) بكسر الهمزة، قال ابن جني: هذا على حذف المضاف، أي: اتخذوا ظهار إيمانهم جنةً عن ظهور نفاقهم وكيدهم للمسلمين، أو جنةً عن أن يقتلهم المسلمون، فلما أمنوا من القتل اشتغلوا بصد الناس عن الدخول في الإسلام بإلقاء الشبهات في القلوب، وتقبيح حال الإسلام.

      المسألة الثانية: قوله تعالى: ( ) أي: عذاب الآخرة»92.

      وقال الشنقيطي رحمه الله: «ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن المنافقين اتخذوا أيمانهم جنةً، والأيمان جمع يمينٍ، وهي الحلف، والجنة هي الترس الذي يتقي به المقاتل وقع السلاح، والمعنى: أنهم جعلوا الأيمان الكاذبة، وهي حلفهم للمسلمين إنهم معهم، وإنهم مخلصون في باطن الأمر ترسًا لهم يتقون به الشر الذي ينزل بهم لو صرحوا بكفرهم، وقوله تعالى: ( ﮫﮬ) الظاهر أنه من (صد) المتعدية، وأن المفعول محذوفٌ، أي: فصدوا غيرهم ممن أطاعهم؛ لأن صدودهم في أنفسهم دل عليه قوله: ( ) والحمل على التأسيس أولى من الحمل على التأكيد»93.

      فعذاب المهانة جزاء الاستهانة بالأيمان التي اتخذوها على أنفسهم، وجزاء الاستهانة بالمنهج الإلهي وبما جاء به.

      والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.


1 مقاييس اللغة، ابن فارس ٣/٢٨٢.

2 الكليات، الكفوي ١/٢٩.بتصرف.

3 التوقيف على مهمات التعريف ١/٢١٣.

4 المفردات، الراغب ص٢٧٥.بتصرف.

5 انظر: المعجم المفهرس الشامل لألفاظ القرآن الكريم، عبد الله جلغوم، باب الصاد، ص٦٩١-٦٩٢.

6 انظر: الوجوه والنظائر، الدامغاني، ص٣٠٦.

7 لسان العرب، ابن منظور ٨/٣٤٣.

8 الفروق اللغوية، العسكري ص١١٢.

9 الفروق اللغوية، العسكري ص٣١١.

10 مقاييس اللغة، ابن فارس ٢/٧٢.

11 انظر: الفروق اللغوية، العسكري ص١٩٠.

12 انظر: المصدر السابق.

13 انظر: تاج العروس، الزبيدي ١٨/٤٠٩.

14 انظر: التحرير والتنوير، ابن عاشور ٢٥/١٥.

15 التحرير والتنوير ١٩/٢٧٥.

16 فتح القدير، الشوكاني ٤/٥٦٤.

17 التفسير القيم، ابن القيم ص٤٦٣.

18 أضواء البيان، الشنقيطي ٣/١٤٦.

19 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجهاد والسير، باب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم الناس إلى الإسلام والنبوة، ٤/٤٥، رقم ٢٩٤١.

20 جامع البيان، الطبري ٢٠/٦٣٥.

21 في ظلال القرآن ٥/٣١٩٩.

22 جامع البيان، الطبري ٢١/٦٠٥.

23 في ظلال القرآن ٥/٢٧٣٥.

24 معالم التنزيل، البغوي ٣/٣٦٦.

25 المنار، محمد رشيد رضا ١٠/٢٥.

26 طريق الهجرتين، ابن القيم ١/٥٩٦.

27 تفسير القرآن العظيم ٢/٣٤٦.

28 المنار، محمد رشيد رضا ٥/١٨٥.

29 في ظلال القرآن ٢/٦٩٤.

30 فتح القدير، الشوكاني ٥/٢٣٠.

31 جامع البيان، الطبري ١١/٣٦٠.

32 المنار، محمد رشيد رضا ١٠/١٦٨.

33 فتح القدير ١/٦١٨.

34 جامع البيان، الطبري ١٣/٥٩١.

35 في ظلال القرآن ٤/٢٠٨٧.

36 جامع البيان، الطبري ١٠/٣١٣.

37 التفسير المنير، الزحيلي ٨/٢٩٤.

38 أضواء البيان، الشنقيطي ٧/١١١.

39 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الزكاة، باب اتقوا النار ولو بشق تمرة والقليل من الصدقة ، ٢/١٠٩، رقم ١٤١٥.

40 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص٣٤٥.

41 تفسير القرآن العظيم ٤/٤٥.

42 المنار، محمد رشيد رضا ٩/٥٤٦.

43 التحرير والتنوير ٩/٣٣٦.

44 انظر: تفسير ابن أبي حاتم ٢/٣٦٩، رقم ١٩٤٠.

والمرفوع منه أخرجه أيضًا الطبراني في المعجم الكبير ٨/٣١، رقم ٧٢٩٦، والحاكم في المستدرك ٣/٤٥٢، رقم ٥٧٠٦.

45 نثل: يقال: نثلت كنانتي نثلًا إذا استخرجت ما فيها من النبل.

انظر: مجمل اللغة، ابن فارس ص ٨٥٥.

46 تفسير القرآن العظيم ١/٤٢١.

وأخرج نحوه ابن حبان في صحيحه، ١٥/٥٥٧، رقم ٧٠٨٢، وصححه الألباني في تخريج فقه السيرة ص١٦٦.

47 التحرير والتنوير ٢/٢٧٤.

48 التفسير المنير ٢/٢٣١.

49 مفاتيح الغيب، الرازي ٢٣/٢١٦.

50 لباب التأويل، الخازن ٣/٢٥٣.

51 جامع البيان، الطبري ٧/٢٢٠.

52 المصدر السابق ١١/٦٠٣.

53 في ظلال القرآن ٣/١٦٥٤.

54 جامع البيان، الطبري ٢٢/٦٦٠.

55 المنار، محمد رشيد رضا ١٠/٤٦٠.

56 في ظلال القرآن ٦/٣٥٧٩.

57 جامع البيان، الطبري ١١/٦٧٥.

58 في ظلال القرآن ٣/١٧١١.

59 الصبابة: بالفتح رقة الشوق وحرارته، والصبابة بالضم بقية الماء في الإناء.

انظر: مختار الصحاح، الرازي ص ١٧٢.

60 أخرجه البيهقي في السنن الكبرى، كتاب السير، باب ما جاء في نسخ العفو عن المشركين، ونسخ النهي عن القتال حتى يقاتلوا، والنهي عن القتال في الشهر الحرام ٩/٢٠، رقم ١٧٧٤٥، والطبراني في المعجم الكبير، ٢/١٦٢، رقم ١٦٧٠.

61 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص٩٧.

62 في ظلال القرآن ١/٢٢٧.

63 تفسير القرآن العظيم ٤/٤٥٩.

64 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ١٦/١٠٧.

65 جامع البيان، الطبري ٢٢/٦٥٣.

66 التحرير والتنوير ١٢/٣٤.

67 مفتاح دار السعادة، ابن القيم ١/٨٢.

68 جامع البيان، الطبري ١٠/٣١٦.

69 مفاتيح الغيب، الرازي ١٤/٣١٥.

70 التحرير والتنوير ٨/٢٤٩.

71 تفسير القرآن العظيم ٣/٤٤٩.

72 البحر المحيط، أبو حيان ٦/٥٩١.

73 التحرير والتنوير، ابن عاشور ١٤/٢٦٩.

74 تفسير القرآن العظيم ٤/٥١٥.

75 في ظلال القرآن ٤/٢١٩٢.

76 أخرجه أحمد في مسنده، ٢٨/٢٢٩، رقم ١٧٠١٥، وأبو داود في كتاب الجهاد، باب في الإمام يكون بينه وبين العدو عهد فيسير إليه، ٣/٨٣، رقم ٢٧٥٩، والترمذي في سننه، أبواب السير، باب ما جاء في الغدر، ٣/١٩٥، رقم ١٥٨٠.

قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

وصححه الألباني في صحيح أبي داود، رقم ٢٤٦٤.

77 مرقاة المفاتيح، الملا علي القاري ٦/٢٥٦٣.

78 جامع البيان، الطبري ٢١/١٨٠.

79 في ظلال القرآن ٦/٣٢٨١.

80 تفسير القرآن العظيم ٢/٤٦٧.

81 الأحابيش: هم أحياء من القارة انضموا إلى بني ليث في محاربتهم قريشًا، والتحبش: التجمع، وقيل: حالفوا قريشًا تحت جبلٍ يسمى حبشيًا، فسموا بذلك.

انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، ابن الأثير ١/٣٣٠.

82 لباب النقول في أسباب النزول، السيوطي ص٩٩.

83 أي: سلب ماله.

84 جامع البيان، الطبري ١١/١٧٠.

85 المنار، محمد رشيد رضا ٩/٥٥٠.

86 في ظلال القرآن ٣/١٥٠٧.

87 المحرر الوجيز، ابن عطية ٤/٥٦٠.

88 تفسير القرآن العظيم ٤/٥١٠.

89 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الزكاة، باب الحث على الصدقة ولو بشق تمرة، ٢/٧٠٤، رقم ١٠١٧.

90 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص٧٩٠.

91 أخرجه أحمد في مسنده، ١٠/٣٠٠، رقم ٦١٦٠، والترمذي في سننه، أبواب الدعوات، باب في فضل التوبة والاستغفار وما ذكر من رحمة الله بعباده، ٥/٤٣٨، رقم ٣٥٣٧، وابن ماجه في سننه، كتاب الزهد، باب ذكر التوبة، ٢/١٤٢٠، رقم ٤٢٥٣.

قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.

وصححه الألباني في صحيح الجامع ١/٣٨٦، رقم ١٩٠٣.

92 مفاتيح الغيب ٢٩/٤٩٧.

93 أضواء البيان ٧/٥٥٣.