عناصر الموضوع
السياسة
أولًا: المعنى اللغوي:
أصل كلمة سياسة مشتقة من الفعل ساس يسوس بمعنى: دبر أمور الناس، يقال: سست الرعية سياسة: أمرتهم ونهيتهم، وساس الأمر سياسة: قام به1.
وسوسه القوم: جعلوه يسوسهم، وسوس الرجل أمور الناس: إذا ملك أمرهم.
والسياسة: القيام على الشيء بما يصلحه، وهي فعل السائس، يقال: يسوس الدواب إذا قام عليها وراضها، والوالي يسوس رعيته، وسوس له أمرًا ، أي : روضه وذلله2.
وكلمة السياسة لم ترد في القرآن الكريم مطلقًا، وإنما ورد ما يدل عليها، كالملك، والتمكين والاستخلاف، حيث وردت هذه المفردات في سور المائدة والأعراف ويوسف والقصص وغيرها.
ثانيًا: المعنى الاصطلاحي:
قال ابن نجيم رحمه الله: السياسة هي القانون الموضوع لرعاية الآداب، والمصالح، وانتظام الأحوال3.
وقيل: السياسة هي: استصلاح الخلق بإرشادهم إلى الطريق المنجي في العاجل والآجل4.
وقيل هي: حياطة الرعية بما يصلحها لطفًا أو عنفًا5.
وقال البجيرمي: السياسة هي: إصلاح أمور الرعية، وتدبير أمورهم6.
وقال النبهاني: السياسة: رعاية شؤون الناس داخليًا وخارجيًا، وتعني نظام الحكم وجهاز الدولة، وتعني علاقة الناس وعلاقة الأمة بغيرها من الأمم، وهو ما اصطلح على تسميته بالسياسة الداخلية والخارجية7.
ويقول عبدالوهاب خلاف: إن علم السياسة الشرعية يبحث فيه عما تدبر به شؤون الدولة الإسلامية من القوانين والنظم التي تتفق مع أصول الإسلام8.
وقد اختلفت التعريفات المعاصرة للسياسة، فعرفها المعجم القانوني بأنها: أصول أو فن إدارة الشئون العامة9.
وعرفها معجم اللغة العربية المعاصرة بعدة تعريفات بناء على المقصود منها، أشهرها التعريف لها بالمعنى العام أنها: (سلوك الحكومات والدول ومواقفها تجاه القضايا الداخلية والقضايا المتعلقة بالدول الأخرى)10.
الملك:
الملك لغة:
الميم واللام والكاف أصلٌ صحيح يدل على قوةٍ في الشيء وصحة. يقال: أملك عجينه، أي: قوى عجنه وشده. وملكت الشيء: قويته11.
وملك وأملك، وملك ملكًا وإملاكًا وتمليكًا: اشتقاق ذلك من الملك ، وهو القوة والشدة. والمَلِك: هو المتصرف بالأمر والنهي في الجمهور، وذلك يختص بسياسة الناطقين، ولهذا يقال: ملك الناس، ولا يقال: ملك الأشياء12.
والمَلِك: اسم لكل من يملك السياسة ، إما في نفسه، وذلك وبالتمكين من زمام قواه وصرفها عن هواها، وإما في غيره، سواء تولى ذلك أو لم يتول، على ما تقدم13.
الملك اصطلاحًا:
هو حكم الناس وأمرهم ونهيهم وقيادتهم في أمورهم.
الصلة بين الملك والسياسة:
الملك فيه معنى السيطرة، والسياسة جزء منه لا تنفك عنه، بل إن الملك لا بد أن يتسم بالسياسة الحكيمة في أمور البلاد وشؤونها، ولو أن الملك لم يكن ملمًا بجوانب السياسة لم يكن موفقًا ولا مسددًا في ملكه، فالسياسة جزء من الملك، وكل ملك لا بد لقيامه من السياسة الشرعية.
الحكم:
الحكم لغة:
مشتق من الفعل: حكم يحكم حكمًا، بمعنى قضى وفصل، والحكم: القضاء في الشيء بأنه كذا أو ليس بكذا سواءٌ لزم ذلك غيره أم لا14.
الحكم اصطلاحًا:
لا يختلف عن المعنى اللغوي؛ إذ الحكم في الاصطلاح: «القضاء بالشيء بأنه كذا أو ليس بكذا، سواء ألزمت ذلك غيرك أو لم تلزمه»15.
الصلة بين الحُكم والسياسة:
الحكم يشمل عموم شؤون البلاد سواءً كان قضاءً أو غيره، فالحاكم يسوس أمور الناس وهو مسؤول عنهم، إلا أن العلاقة بين الحكم والسياسة، أن الحكم أخص من السياسة، والسياسة تشمله وغيره، ويمكن القول: إن كل حكم من السياسة، وليست كل سياسة حكمًا. والله أعلم.
الإمامة:
الإمامة لغة:
مصدر: أم القوم وأم بهم بمعنى: تقدمهم، والإمام ما ائتم به من رئيسٍ وغيره، والجمع أيمةٌ16.
الإمامة اصطلاحًا:
«رياسة عامة تتضمن حفظ مصالح العباد في الدارين»17. والإمامة ترادف مصطلح الخلافة، ويقال لولي أمر المسلمين العام: خليفة أو إمام، قال النووي: «يجوز أن يقال للإمام: الخليفة والإمام وأمير المؤمنين»18.
الصلة بين الإمامة والسياسة:
لا شك أن الخلافة والولاية من أسس السياسة الشرعية، والخليفة والوالي لا بد أن يكون على دراية بالسياسة الشرعية ؛ لتوقف أمور البلاد ومصالح العباد عليها. وعلى ذلك فالخلافة والولاية أعم من السياسة.
ذكر الله تعالى في كتابه قواعد السياسة الشرعية ومقوماتها، كالتشريع والعدل والشورى والأمانة والحرية والطاعة، ونتناول في هذا المبحث قواعد السياسة في النقاط الآتية:
أولًا: التشريع حق لله تعالى:
لما كان هذا الكون مخلوقًا مملوكًا لله تعالى، والملك الحقيقي يستلزم حق الانفراد بالتصرف، والبشر جزء من هذا الملك، لما كان الأمر كذلك: فإنه ليس من حق أي أحد غير الله أن يتصرف في ملك الله بشيء مهما يكن ذلك الشيء، إلا أن يأذن الله له بذلك التصرف19.
وحيث إن الله هو خالقنا ورازقنا والمنعم علينا بجلائل النعم ودقائقها، فليس لنا أن نحكم لأنفسنا بالإباحة أو التحريم، إلا أن نعلم أن الله حكم لنا بها، وإلا كنا مشرعين على الله بغير علم ولا إذن منه20.
قال الله تعالى في حكاية قول يوسف عليه السلام: (ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ) [يوسف: ٤٠].
والمراد بالتشريع: هو ما شرعه الله لعباده من العقائد والعبادات والأخلاق والمعاملات ونظم الحياة في شعبها المختلفة، لتنظيم علاقة الناس بربهم، وعلاقاتهم بعضهم ببعض، وتحقيق سعادتهم في الدنيا والآخرة21.
قال تعالى: (ﭺ ﭻ ﭼ ﭽﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊﮋ) [الشورى: ١٣].
وأصل لفظة (ﭺ) أي: جعل طريقًا واسعة، وكثر إطلاقه على سن القوانين والأديان، فسمي الدين شريعة، فـ(شرع) هنا مستعار للتبيين22.
المقصود من ذلك أصول الديانة وأسس التشريع التي لا تختلف فيها الشرائع23.
فتبين هذه الآية أن الله أرسل الرسل، وأنزل الكتب لبيان الحق من الباطل، وبيان ما اختلف فيه الناس، وأن الواجب على الناس اتباع ما أنزل إليهم من ربهم، ورد ما تنازعوا فيه إلى الكتاب والسنة، وأن من لم يتبع ذلك كان منافقًا، وأن من اتبع الهدى الذي جاءت به الرسل فلا يضل ولا يشقى، ومن أعرض عن ذلك حشر أعمى ضالًا شقيًا معذبًا، وأن الذين فرقوا دينهم قد برئ الله ورسوله منهم24.
وقال تعالى: (ﮞ ﮟ ﮠ ﮡﮢ) [الأعراف: ٥٤].
أي: يتصرف في خلقه بما يشاء من أمره، لا يشركه أحد كما لا يشركه أحد في خلقه25؛ لأن الخلق والأمر لله لا لغيره، وفي هذا تذكير من شأنه إيصالهم إلى إفراد الله تعالى بالعبادة26.
وقال تعالى: (ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ) [النساء: ٥٩].
وقال سبحانه: (ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶﯷ) [الشورى: ١٠].
ويفهم من هاتين الآيتين الكريمتين أنه لا يجوز التحاكم إلى غير كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وقد أوضح تعالى هذا المفهوم موبخًا للمتحاكمين إلى غير كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم مبينًا أن الشيطان أضلهم ضلالًا بعيدًا عن الحق27، بقوله: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ) [النساء: ٦٠].
وأشار إلى أنه لا يؤمن أحد حتى يكفر بالطاغوت28.
وقال تعالى: (ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙﯚ) [الشورى: ٢١].
قال ابن كثير: أي : هم لا يتبعون ما شرع الله لك من الدين القويم، بل يتبعون ما شرع لهم شياطينهم من الجن والإنس، من تحريم ما حرموا عليهم، من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، وتحليل الميتة والدم والقمار، إلى نحو ذلك من الضلالات والجهالة الباطلة، التي كانوا قد اخترعوها في جاهليتهم، من التحليل والتحريم، والعبادات الباطلة، والأقوال الفاسدة29.
وقال تعالى: (ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ) [النساء: ٦٥].
قال مجاهد وغيره: نزلت فيمن أراد التحاكم إلى الطاغوت30. ورجحه الطبري، لأنه أشبه بنسق الآيات31.
وهذا نص في تكفير من لم يرض بحكم الرسول صلى الله عليه وسلم 32.
وقال تعالى: (ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽﭾ) [النساء: ٦١].
هذا إنكار من الله عز وجل، على من يدعي الإيمان بما أنزل الله على رسوله وعلى الأنبياء الأقدمين، وهو مع ذلك يريد التحاكم في فصل الخصومات إلى غير كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، كما ذكر في سبب نزول هذه الآية: أنها في رجل من الأنصار ورجل من اليهود تخاصما، فجعل اليهودي يقول: بيني وبينك محمد. وذاك يقول: بيني وبينك كعب بن الأشرف. وقيل: في جماعة من المنافقين، ممن أظهروا الإسلام، أرادوا أن يتحاكموا إلى حكام الجاهلية. وقيل: غير ذلك، والآية أعم من ذلك كله، فإنها ذامة لمن عدل عن الكتاب والسنة، وتحاكموا إلى ما سواهما من الباطل، وهو المراد بالطاغوت هاهنا33.
وقال تعالى: (ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖﮗ ﮘ ﮙﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ) [الحجرات: ١].
أي: لا تقدموا خلاف الكتاب والسنة34.
وهذه الآية أصل في ترك التعرض لأقوال النبي صلى الله عليه وسلم، وإيجاب اتباعه والاقتداء به35.
ولا يخفى أن في ارتضاء حكم غير الله، رفض شريعة الله والتحاكم إليه، وقد سمى الله كل حكم يخالف حكمه بأنه حكم الجاهلية.
قال تعالى: (ﯾ ﯿ ﰀﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ) [المائدة: ٥٠].
ويحسن هنا الإشارة إلى سن القوانين الوضعية والأحكام العرفية والتحاكم إليها دون شرع الله، وهي مسألة الحكم بغير ما أنزل الله تعالى، وهناك فرق بين حق التشريع وبين مخالفة تشريع الله أو حكم الله.
فأما الأول (والذي له تعلق بتوحيد الربوبية) فإن الشرك في الربوبية إما أن يكون شركًا أكبر، أو شركًا أصغر، فإن كان الأمر راجعًا إلى الجحود والاستحلال (أي: الاعتقاد) فإن صاحبه مشرك شركًا أكبر ولو وافق حكمه حكم الله، وأما ما كان دون الاعتقاد فيكون دون ذلك.
وأما مخالفة حكم الله المتعلق بتوحيد الألوهية فلا يكون شركًا36، وإنما هو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، أو آثم بصغيرته.
والفرق بين استحلال القلب والفعل، أن الاستحلال القلبي يكون صاحبه كافرًا، وأما الاستحلال العملي فيكون صاحبه فاسقًا.
والله تعالى ذكر أن الحكم بغير ما أنزل سبحانه منه ما يكون كفرًا، ومنه ما يكون ظلمًا، ومنه ما يكون فسقًا. والله أعلم.
ثانيًا: العدل:
العدل في اللغة: القصد في الأمور، وهو خلاف الجور، وهو أيضًا: ما قام في النفوس أنه مستقيم37.
والمقصود فيه: المساواة بين الناس أو بين أفراد أمة، في تعيين الأشياء لمستحقها، وفي تمكين كل ذي حق من حقه، بدون تأخير، فهو مساواة في استحقاق الأشياء، وفي وسائل تمكينها بأيدي أربابها، فالأول هو العدل في تعيين الحقوق، والثاني هو العدل في التنفيذ.
فالعدل وسط بين طرفين هما: الإفراط في تخويل ذي الحق حقه، أي : بإعطائه أكثر من حقه، والتفريط في ذلك، أي: بالإجحاف له من حقه، وكلا الطرفين يسمى جورًا.
ويطلق لفظ العدل الذي هو التسوية، على تسوية نافعة يحصل بها الصلاح والأمن، ثم توسعوا في هذا الإطلاق حتى صار يطلق على إبلاغ الحق إلى ربه، ولو لم يحصل اعتداء ولا نزاع38.
والعدل أشرف أوصاف الملك وأقوم لدولته ؛ لأنه يبعث على الطاعة ويدعو إلى الألفة ، وبه تصلح الأعمال وتنمو الأموال، وتنتعش الرعية وتكمل المزية، وقد أمر الله عز وجل به الخلق وحثهم عليه39.
والعدل يدخل في جميع المعاملات، وهو حسن في الفطرة، لأنه كما يصد المعتدي عن اعتدائه، كذلك يصد غيره عن الاعتداء عليه، كما قال تعالى: (ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ) [البقرة: ٢٧٩].
وإذ قد كان العدل بهذه الاعتبارات تجول في تحديده أفهام مخطئة، تعين أن تسن الشرائع لضبطه على حسب مدارك المشرعين ومصطلحات المشرع لهم، على أنها معظمها لم يسلم من تحريف لحقيقة العدل في بعض الأحوال، فإن بعض القوانين أسست بدافع الغضب والأنانية، فتضمنت أخطاء فاحشة ، مثل القوانين التي يمليها الثوار بدافع الغضب على من كانوا متولين الأمور قبلهم، وبعض القوانين المتفرعة عن تخيلات وأوهام، كقوانين أهل الجاهلية والأمم العريقة في الوثنية40.
وقد نصت آيات القرآن الكريم في غير موضع على بيان مكانة العدل وأهميته وآثاره على الفرد والمجتمع، وما يحققه من منافع دنيوية وأخروية، ومن ذلك ما يلي:
١. العدل أساس الحكم بين الناس.
قال تعالى: (ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ) [النساء: ٥٨].
هذا وقد ذكر بعض المفسرين أنه ما قامت السموات والأرض إلا بالعدل، فالعدل قوام الأمور وروحها، وبفقده تفسد الأمور كلها ويختل الميزان لكل شيء.
والحكم بالعدل من لازمه معرفة العدل في كل أمر من الأمور، فإن فهمت الأمة حقيقة العدل وعرفت حدوده وضعت كل شيء في موضعه، وكان المتولون للولايات هم الكمل من الرجال والأكفاء للأعمال، فجرت تدابيرهم وأفعالهم على العدل والسداد، متجنبين للظلم والفساد، ترقت الأمة وصلحت أحوالها، وتمام ذلك في الآية الأخرى التي أمر الله فيها بطاعة ولاة الأمور، بقوله: (ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾﯿ) [النساء: ٥٩]41.
ومعنى (ﯥ ﯦ ﯧ): أي تحكموا بالإنصاف والسوية، إذا قضيتم بين من ينفذ عليه أمركم، أو يرضى بحكمكم، ولأن الحكم وظيفة الولاة، قيل: الخطاب لهم. (ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ)ﯮ أي : نعم شيئًا يعظكم به، أو نعم الشيء الذي يعظكم به. والمخصوص بالمدح محذوف، وهو المأمور به من أداء الأمانات، والعدل في الحكومات42.
وقد اختلف أهل التأويل فيمن عني بهذه الآية على أقوال.
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب في ذلك عندي، قول من قال: هو خطاب من الله لولاة أمور المسلمين بأداء الأمانة إلى من ولوا أمره في فيئهم وحقوقهم، وما ائتمنوا عليه من أمورهم، بالعدل بينهم في القضية، والقسم بينهم بالسوية. يدل على ذلك ما وعظ به الرعية في: (ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾﯿ) [النساء: ٥٩].
فأمرهم بطاعتهم، وأوصى الراعي بالرعية، وأوصى الرعية بالطاعة43.
وقد أجمع العلماء على أنه يجب على الحاكم أن يحكم بالعدل لهذه الآية، وقوله تعالى: (ﭨ ﭩ ﭪ) [الأنعام: ١٥٢].
وقوله تعالى: (ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇﰈ)44 [ص: ٢٦].
وقد جمع في هذه الآية ما يتصل بالتكاليف فرضًا ونفلًا، وما يتصل بالأخلاق والآداب: عمومًا وخصوصًا45.
قال ابن مسعود رضي الله عنه: إن أجمع آية في القرآن في سورة النحل (ﭻ ﭼ ﭽﭾ ﭿ) رواه ابن جرير46.
٢. العدل قرين الصفات الحسنة.
ورد في القرآن ما يؤكد على ارتباط العدل بغيره من الصفات الحسنة ، كالإحسان إلى الخلق والعطف عليهم.
قال سبحانه: (ﭺﭻ ﭼ ﭽﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇﮈ ﮉ ﮊ ﮋ) [النحل: ٩٠].
العدل: هو الإنصاف، والإحسان إلى الناس. وعن ابن عباس: العدل: التوحيد، والإحسان: أداء الفرائض. وقيل غير ذلك47.
والإحسان: هو معاملة بالحسنى ممن لا يلزمه إلى من هو أهلها. والحسن: ما كان محبوبًا عند المعامل به، ولم يكن لازمًا لفاعله، وأعلاه ما كان في جانب الله تعالى48.
وهو فوق العدل، وذاك أن العدل: هو أن يعطي ما عليه، ويأخذ ماله. والإحسان: أن يعطي أكثر مما عليه، ويأخذ أقل مما له. فالإحسان زائد على العدل، فتحرى العدل واجب، وتحرى الإحسان ندب وتطوع.
وعلى هذا قوله تعالى: (ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ) [النساء: ١٢٥].
ولذلك عظم الله تعالى ثواب المحسنين، فقال تعالى: (ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ) [العنكبوت: ٦٩].
وقال: (ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ) [البقرة: ١٩٥].
وقال: (ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧﮨ) [التوبة: ٩١]49.
٣. ضرورة الصلح بين المتخاصمين بالعدل.
قال تعالى: (ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ) [الحجرات: ٩].
فجعل الفيء إلى أمر الله غاية للمقاتلة، أي: يستمر قتال الطائفة الباغية إلى غاية رجوعها إلى أمر الله، وأمر الله هو ما في الشريعة من العدل والكف عن الظلم، أي: حتى تقلع عن بغيها. وأتبع مفهوم الغاية ببيان ما تعامل به الطائفتان بعد أن تفي الباغية بقوله: (ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ) والباء للملابسة، والمجرور حال من ضمير (ﮞ). والعدل: هو ما يقع التصالح عليه بالتراضي والإنصاف، وأن لا يضر بإحدى الطائفتين، فإن المتالف التي تلحق كلتا الطائفتين، قد تتفاوت تفاوتًا شديدًا فتجب مراعاة التعديل.
فيجب العدل في صورة الإصلاح، فلا يضيعوا بصورة الصلح منافع عن كلا الفريقين، إلا بقدر ما تقتضيه حقيقة الصلح من نزول عن بعض الحق بالمعروف. ثم أمر المسلمين بالعدل بقوله: (ﯕ) أمرًا عامًا، تذييلًا للأمر بالعدل الخاص في الصلح بين الفريقين، فشمل ذلك هذا الأمر العام أن يعدلوا في صورة ما إذا قاتلوا التي تبغي50.
٤. العدل مطلوب مع العدو والصديق.
أمر الله تعالى المرء بالعدل في جميع أحواله، مع عدوه وصديقه، وأن لا يحمله البغض على الحيف والظلم.
قال تعالى: (ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝﯞ ﯟ ﯠﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ) [المائدة: ٨].
قال الأمين الشنقيطي رحمه الله: فانظر: ما في هذه الآيات من مكارم الأخلاق، والأمر بأن تعامل من عصى الله فيك بأن تطيعه فيه51.
ومرجع تفاصيل العدل إلى أدلة الشريعة، فالعدل هنا كلمة مجملة جامعة، وهي بإجمالها مناسبة إلى أحوال المسلمين حين كانوا بمكة، فيصار فيها إلى ما هو مقرر بين الناس في أصول الشرائع، وإلى ما رسمته الشريعة من البيان في مواضع الخفاء، فحقوق المسلمين بعضهم على بعض من الأخوة والتناصح، قد أصبحت من العدل بوضع الشريعة الإسلامية52.
فنهاهم أولًا أن تحملهم البغضاء على ترك العدل، ثم استأنف فصرح لهم بالأمر بالعدل تأكيدًا وتشديدًا، ثم استأنف، فذكر لهم وجه الأمر بالعدل، وهو قوله: (ﯛ ﯜ ﯝ) أي: العدل أقرب إلى التقوى، وأدخل في مناسبتها، أو أقرب إلى التقوى لكونه لطفًا فيها. وفيه تنبيه عظيم على أن وجود العدل مع الكفار الذين هم أعداء الله، إذا كان بهذه الصفة من القوة، فما الظن بوجوبه مع المؤمنين، الذين هم أولياؤه وأحباؤه؟53.
٥. العدل صفة الأنبياء والمرسلين.
قال تعالى: (ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷﯸ ﯹ ﯺ ﯻﯼ) [الشورى: ١٥].
أمر الله نبيه أن يؤمن بجميع الكتب المنزلة، وأن يعدل بين الناس كلهم، فيعطي كل ذي حق حقه، ويمنع كل مبطل عن باطله؛ فإن القسط والعدل في جميع أمور الدين والدنيا فيما جاء به، وهو المقصود بإرسال الرسل، وإنزال الكتب، كما قال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛﭜ) [الحديد: ٢٥]54.
هذا ولو نظرنا إلى القوانين التي تحكم حياة الناس لوجدنا أن (أعلى القوانين هي الشرائع الإلهية، لمناسبتها لحال من شرعت لأجلهم، وأعظمها شريعة الإسلام، لابتنائها على أساس المصالح الخالصة أو الراجحة، وإعراضها عن أهواء الأمم والعوائد الضالة، فإنها لا تعبأ بالأنانية والهوى، ولا بعوائد الفساد، ولأنها لا تبنى على مصالح قبيلة خاصة، أو بلد خاص، بل تبنى على مصالح النوع البشري وتقويمه وهديه إلى سواء السبيل، ومن أجل هذا لم يزل الصالحون من القادة يدونون بيان الحقوق ؛ حفظًا للعدل بقدر الإمكان وخاصة الشرائع الإلهية، قال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛﭜ) [الحديد: ٢٥]. أي: العدل.
فمنها المنصوص عليه على لسان رسول البشرية، ومنها ما استنبطه علماء تلك الشريعة ، فهو مدرج فيها وملحق بها55.
ثالثًا: الشورى:
الشورى من أسمى مبادئ الإسلام، حيث أمر به القرآن والسنة، وذلك نظرًا لما يحققه من عدالة وتوازن في أمور الحكم والسياسة وغيرهما، وقد عرفها الراغب الأصفهاني بأنها: استخراج الرأي بمراجعة البعض إلى البعض56.
وقال ابن العربي أنها: الاجتماع على أمرٍ ليستشير كل واحد منهم صاحبه، ويستخرج ما عنده57.
وعرفها بعض المعاصرين بأنها: تبادل الآراء في أمر من الأمور لمعرفة أصوبها وأصلحها، لأجل اعتماده والعمل به58.
والمشترك في هذه التعريفات وغيرها، هو دورانها حول معنى تقليب وجهة النظر واستنباط الرأي لتحقيق غايات نافعة للأمة.
وخلاصة القول : إنها استطلاع للرأي من أهل الخبرة فيه، بهدف الوصول لأقرب الأمور للحق.
والشورى مشروعة في الشريعة الإسلامية على جهة الإجمال، في حق الحاكم، وفي حق عامة المسلمين، وهي أصل من أصول الحكم في الشريعة الإسلامية، وركن هام من أركان قيام الدولة الإسلامية، حيث اتفق العلماء على مشروعيتها، استنادًا إلى الأدلة القرآنية، وأدلة السنة النبوية القولية والفعلية، الدالة على مشروعيتها والدائرة بين الوجوب والاستحباب.
وأهم ما يجب على الإمام المشاورة في كل مالا نص فيه عن الله ورسوله، ولا إجماعًا صحيحًا يحتج به، أو ما فيه نص اجتهادي غير قطعي، ولا سيما أمور السياسة والحرب المبنية على أساس المصلحة العامة، وكذا طرق تنفيذ النصوص في هذه الأمور، إذ هي تختلف باختلاف الزمان والمكان. فهو ليس حاكماً مطلقاً كما يتوهم الكثيرون، بل مقيد بأدلة الكتاب والسنة وسيرة الخلفاء الراشدين العامة وبالمشاورة.
ولو لم يرد في الشورى إلا وصف للمؤمنين بقوله تعالى: (ﮞ ﮟ ﮠ) [الشورى: ٣٨].
وقوله لرسوله: (ﭭ ﭮ ﭯﭰ) [آل عمران: ١٥٩] لكفى، فكيف وقد ثبتت في الأخبار والآثار قولًا وعملًا59.
قال ابن عطية: والشورى من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام، من لا يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب. هذا ما لا خلاف فيه60.
وفي قوله تعالى: (ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯﭰ) [آل عمران: ١٥٩].
قال القرطبي في هذه الآية: أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بهذه الأوامر التي هي بتدريجٍ بليغٍ؛ وذلك أنه أمره بأن يعفو عنهم ما له في خاصته عليهم من تبعة؛ فلما صاروا في هذه الدرجة أمره أن يستغفر فيما لله عليهم من تبعة أيضًا، فإذا صاروا في هذه الدرجة صاروا أهلًا للاستشارة في الأمور61.
وقال تعالى: (ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ) [الشورى: ٣٨].
والمشاورة هنا في شؤون الأمة ومصالحها، وقد ذكرها الله تعالى في معرض المدح والثناء، واشترطها في أمر العائلة فقال: (ﮩ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻﯼ) [البقرة: ٢٣٣].
فشرع بهاته الآيات المشاورة في مراتب المصالح كلها: وهي مصالح العائلة، ومصالح القبيلة أو البلد، ومصالح الأمة. وتدل هذه الآية على جلالة موقع المشورة، لذكرها مع الإيمان وإقامة الصلاة، كما تدل على أننا مأمورون بها62.
والمشاورة من الأمر القديم وخاصة في الحرب، فهذه بلقيس امرأة جاهلية كانت تعبد الشمس: (ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ) [النمل: ٣٢].
لتختبر عزمهم على مقاومة عدوهم، وحزمهم فيما يقيم أمرهم، وإمضائهم على الطاعة لها، بعلمها أنهم إن لم يبذلوا أنفسهم وأموالهم ودماءهم دونها، لم يكن لها طاقة بمقاومة عدوها، وإن لم يجتمع أمرهم وحزمهم وجدهم، كان ذلك عونًا لعدوهم عليهم، وإن لم تختبر ما عندهم، وتعلم قدر عزمهم لم تكن على بصيرة من أمرهم، وربما كان في استبدادها برأيها وهن في طاعتها، ودخيلة في تقدير أمرهم، وكان في مشاورتهم وأخذ رأيهم عون على ما تريده من قوة شوكتهم، وشدة مدافعتهم63.
وهذه الآية مكية، وقد نزلت قبل قيام الدولة المسلمة في المدينة، مما يوحي بأن وضع الشورى أعمق في حياة المسلمين من مجرد أن تكون نظامًا سياسيًا للدولة، فهو طابع أساسي للأمة كلها64.
أسباب الشورى:
يمكن إجمال أسباب الشورى ودوافعها في ما يلي:
وأشير هنا إلى مسألتين من أهم مسائل الشورى بإيجاز:
١. حكم الشورى في حق الحاكم.
اختلف العلماء في حكم الشورى في حق الحاكم، هل هي واجبة عليه أم سنة؟ على قولين:
القول الأول: أن الشورى في حق الحاكم واجبة عليه وجوبًا عينيًا، وقد كانت واجبة على النبي صلى الله عليه وسلم على الرغم من استغنائه عنها بالوحي.
وهو قول جمهور الفقهاء والأصوليين والمفسرين وغيرهم، ونصوصهم وافرة في هذا الصدد65.
القول الثاني: أن الشورى في حق النبي فقط صلى الله عليه وسلم واجبة دون غيره من الحكام.
وهو مروي عن الحسن البصري وسفيان الثوري، وعللا ذلك بأنه إنما أمر بها ليقتدي به غيره وتشيع في أمته ، وذلك فيما لا وحي فيه66.
٢. حكم الشورى في حق عامة الناس.
لا تخلو أمور الناس من أن تكون أمورًا ذات أهمية كبيرة ، أو أمورًا دونها في الأهمية، وعلى كلٍ فقد ذكر الإمام النووي أن التشاور في الامور المهمة مستحب في حق الأمة بإجماع العلماء67.
وتختلف أمور الناس حسب درجاتها وأهميتها من شخص لآخر، فقد يستشير المرء في أمور الزواج من حيث الإقدام على التزوج بامرأة معينة، أو تزويج ابنته لشخص معين، ومن ذلك الاستشارة في الإقدام على بعض الأعمال والوظائف، والتجارات ونحوها من أمور الناس.
وهنا يفرق بين أمرين: أولهما: أن طلب المشورة من الغير مستحبة، والثاني: أن تقديم المشورة ممن طلبت منه واجبة، وذلك في تقديري جريًا على أن إلقاء السلام على الغير سنة، ورده فرض، وجريًا على استحباب طلب النصيحة من الغير، ووجوب تقديمها ممن طلبت منه.
ويؤيد هذا ما روي عن جابر بن عبد الله مرفوعًا قال: (إذا استشار أحدكم أخاه فليشر عليه)68.
رابعًا: الأمانة:
عن أبي هريرة قال: (بينما النبي صلى الله عليه وسلم في مجلسٍ يحدث القوم، جاءه أعرابيٌ فقال: متى الساعة؟ فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث، فقال بعض القوم: سمع ما قال، فكره ما قال، وقال بعضهم: بل لم يسمع، حتى إذا قضى حديثه قال: أين أراه السائل عن الساعة؟ قال: ها أنا يا رسول الله، قال: (فإذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة، قال: كيف إضاعتها؟ قال: إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة)69.
قال ابن الجوزي: «(إذا وسد الأمر إلى غير أهله) أي: أسندت الولاية والإمارة»70.
فيجب على الإمام من النصح لرعيته كالذي يجب عليهم له، فعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (كلكم راعٍ فمسئولٌ عن رعيته، فالأمير الذي على الناس راعٍ وهو مسئولٌ عنهم)71.
وعن معقل بن يسارٍ رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من أميرٍ يلي أمر المسلمين ثم لا يجهد لهم وينصح إلا لم يدخل معهم الجنة)72.
ولا شك أن أمانة الحكم والسياسة من أعظم الأمانات وأهمها، لتعلقها بقيام الدين، وتحكيم شرع الله تعالى وتنفيذه وحراسته، ورفع المظالم ورد الحقوق.
قال تعالى: (ﯘﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ) [النساء: ٥٨].
وقد جمع لفظ الأمانة ليعم به كل ما يمكن أن يؤتمن الإنسان عليه73. باعتبار تعدد أنواعها وتعدد القائمين بالحفظ تنصيصا على العموم74.
والأمانة: هي الشيء المؤتمن عليه، ومراعاتها القيام عليها لحفظها إلى أن تؤدى. والأمانة أيضًا المصدر، والمؤدى هو العين المؤتمن عليه، أو القول إن كان المؤتمن عليه لا المصدر75.
«والأداء: الدفع والتوفية، ورد الشيء أو رد مثله فيما لا تقصد أعيانه، ومنه أداء الأمانة وأداء الدين ، أي : عدم جحده»76.
والأمانات يدخل فيها أشياء كثيرة، من أجلها: الولايات الكبيرة والصغيرة والمتوسطة، الدينية والدنيوية. فقد أمر الله أن تؤدى الأمانات إلى أهلها بأن يجعل فيها الأكفاء لها، وكل ولاية لها أكفاء مخصوصون. فهذا الطريق الذي أمر الله به في الولايات من أصلح الطرق لصلاح جميع الأحوال، فإن صلاح الأمور بصلاح المتولين والرؤساء فيها، والمدبرين لها والعاملين عليها، فيجب تولية الأمثل فالأمثل : ( ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ) [القصص: ٢٦].
فصلاح المتولين للولايات الكبرى والصغرى عنوان صلاح الأمة وضده بضده77.
وقال تعالى: (ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ) [الأحزاب: ٧٢].
«ذكر الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه عرض الأمانة، وهي التكاليف مع ما يتبعها من ثواب وعقاب على السماوات والأرض والجبال، وأنهن أبين أن يحملنها وأشفقن منها، أي: خفن من عواقب حملها أن ينشأ لهن من ذلك عذاب الله وسخطه، وهذا العرض والإباء، والإشفاق كله حق، وقد خلق الله للسماوات والأرض والجبال إدراكًا يعلمه هو جل وعلا، ونحن لا نعلمه، وبذلك الإدراك أدركت عرض الأمانة عليها، وأبت وأشفقت، أي: خافت»78.
وقال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ) [الأعراف: ٦٨].
فالنصح والأمانة متلازمان، والنصح دليل على الأمانة، ولذلك قرنا في أكثر من موضع، منها قوله تعالى: (ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ) [يوسف: ١١]79.
خامسًا: الحرية:
الحرية في نظر الإسلام ضرورة من الضرورات الإنسانية، وتكليف شرعي واجب، سواء كانت هذه الحرية متعلقة برق العبودية، أو الاعتقاد والدين، أو غير ذلك. وهذا المبدأ الإسلامي ظاهر في كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، إلا أن الإسلام قد وضع له ضوابطَ وشروطًا.
والناظر في مفهوم الحرية في الإسلام يجد له وضوحًا وتكاملًا وسماحة، لا تصل إليها مفاهيم الفلسفات التي تصدت للحرية، فالحرية في الإسلام هي: التحرر من قيود الوثنية، واستعباد الإنسان للإنسان، وحرية الكلمة، وحرية الضمير، وهو ما جمعته هذه الآية من القرآن: (ﯿ ﰀ ﰁ ﰂﰃ) فهي حرية الاعتقاد والقول والتفكير. وكما دعا الإسلام إلى تحرير الفكر دعا إلى تحرير الجسم، وذلك بمحاربة الرق80.
والإسلام قد ضمن جميع الحريات للإنسان، ففي بقاء اليهود في الدولة الإسلامية إقرار لمبدأ حرية الاعتقاد والدين. والنبي صلى الله عليه وسلم قد جاور اليهود في المدينة وساكنهم وخالطهم وعاملهم ، والأدلة على ذلك كثيرة.
وفي قوله تعالى: (ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ) [المائدة: ٥] دليل على جواز نكاح الكتابية بالشروط المعتبرة، فإن ذلك يتضمن إقرارًا لمبدأ الحرية الدينية.
والإسلام لا يكره أحدًا على عقيدة، قال تعالى: (ﯿ ﰀ ﰁ ﰂﰃ) [البقرة: ٢٥٦].
قال ابن عاشور: «وتعقيب آية الكرسي بهذه الآية، بمناسبة أن ما اشتملت عليه الآية السابقة من دلائل الوحدانية وعظمة الخالق وتنزيهه عن الشوائب ما كفرت به الأمم، من شأنه أن يسوق ذوي العقول إلى قبول هذا الدين الواضح العقيدة، المستقيم الشريعة، باختيارهم دون جبر ولا إكراه، ومن شأنه أن يجعل دوامهم على الشرك بمحل السؤال: أيتركون عليه أم يكرهون على الإسلام، فكانت الجملة استئنافًا بيانيًا».
«ونفي الإكراه خبر في معنى النهي، والمراد : نفي أسباب الإكراه في حكم الإسلام، أي: لا تكرهوا أحدًا على اتباع الإسلام قسرًا، وجيء بنفي الجنس لقصد العموم نصًا، وهو دليل واضح على إبطال الإكراه على الدين بسائر أنواعه، لأن أمر الإيمان يجري على الاستدلال، والتمكين من النظر، وبالاختيار»81.
كما أن اجتهاد العلماء واختلافهم على مر العصور، وفي جميع الفنون، ونبذهم للتقليد إقرار لمبدأ الحرية العلمية والفكرية.
والحرية السياسية واحدة من حريات الإسلام، وتقوم على الشورى، غير أن الإسلام يعطي للحرية ضوابطها وتحفظاتها التي تضمن حرية الغير. وحرية العقيدة حيث لا إكراه في الدين، تعني كفالة الإسلام لحرية عقائد أهل الكتاب، وهو بهذا يدعو إلى الحرية من قيود العبودية الفكرية والجسدية.
ويكفل الإسلام لأتباعه الحرية الاقتصادية كحرية التملك، وحرية التنقل (التبادل التجاري أو التجارة الدولية)، وحرية التعاقد، ولكن شريطة أن لايكون ذلك في شيء محرم ، كالربا أو الاحتكار أو بيع الخمور ونحو ذلك.
سادسًا :الطاعة:
قال الراغب الأصفهاني: الطوع: الانقياد، ويضاده الكره، قال تعالى: (ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ) [فصلت: ١١]. (ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ) [آل عمران: ٨٣]. والطاعة مثله، لكن أكثر ما تقال في الائتمار لما أمر، والارتسام فيما رسم، قال: (ﭟ ﭠ) [النساء: ٨١]. (ﭰ ﭱ ﭲﭳ) [محمد: ٢١] أي: أطيعوا، وقد طاع له يطوع وأطاعه يطيعه، قال: (ﮙ ﮚ) [النور: ٥٦].وقوله في صفة جبريل عليه السلام: (ﮥ ﮦ ﮧ) [التكوير: ٢١]82.
كما وردت لفظة «الطاعة» مقرونةً بلفظة أخرى هي: «السمع» فيقال: السمع والطاعة، وسمعنا وأطعنا، كقوله تعالى: (ﮭ ﮮ ﮯﮰ) [البقرة: ٢٨٥]83.
والمراد بالطاعة هنا: الاستجابة والانقياد لما يأمر به وينهى عنه ولي الأمر، وذلك بامتثال الأمر والنهي دون منازعة ومعارضة، سواء أمر بما يوافق الطبع، أو لم يوافقه بشرط أن لا يأمر بمعصية84.
وقد وردت الآيات الآمرة بطاعة الله ورسوله في أربعة عشر موضعًا، منها ما يلي:
قال تعالى: (ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ) [آل عمران: ١٣٢].
وقوله: (ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾﯿ) [النساء: ٥٩].
«ولا شك عند أحد من أهل العلم أن طاعة الله ورسوله المذكورة في هذه الآيات ونحوها من نصوص الوحي، محصورة في العمل بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم»85.
قال الإمام الطبري: فإذا كان معلوما أنه لا طاعة واجبة لأحد غير الله أو رسوله أو إمام عادل، وكان الله قد أمر بقوله: (ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾﯿ) [النساء: ٥٩]86.
ومن ضوابط الطاعة: الطاعة بالمعروف، قال الإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: «باب من أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرم الله فقد اتخذهم أربابا من دون الله» ، وقال ابن عباس: يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقولون : قال أبو بكر وعمر، وقال الإمام أحمد: عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته ويذهبون إلى رأي سفيان، والله يقول: (ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ) [النور: ٦٣]، أتدري ما الفتنة؟ الفتنة: الشرك، لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك.
وعن عدي بن حاتمٍ أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه الآية: (ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬﯭ ﯮ ﯯ ﯰ) [التوبة: ٣١]. فقلت له: (إنا لسنا نعبدهم، قال: أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه، ويحلون ما حرم الله فتحلونه؟ فقلت: بلى، قال: فتلك عبادتهم) 8788.
ذكر الله عز وجل في كتابه المقاصد العامة للسياسة الشرعية، والتي حرص على إيضاحها والعناية بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ عليها قوام الشرع والدين، وهي المقاصد التي بعث من أجلها الرسل وأنزلت الكتب، وشرعت الشرائع، ونبين هذه المقاصد في النقاط الآتية:
أولًا: حراسة الدين:
وحراسة الدين تتم بأمرين89:
الأول: حفظ الدين.
الثاني: تنفيذ أحكام الدين، وإقامة حدوده.
وذلك بغرض قطع الخصام بين المتنازعين، وصون محارم الله تعالى عن الانتهاك، وحفظ حقوق عباده من الإتلافِ والاستهلاك حتى تعم النصفة، فلا يتعدى ظالمٌ، ولا يضعف مظلومٌ.
وأزيد الأمر إيضاحا فأقول: إن الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا كما ذكره الماوردي90.
«وحفظ الدين يعني : إبقاء حقائقه ومعانيه ونشرها بين الناس كما بلغها رسول الله صلى الله عليه وسلم وسار عليها صحابته الكرام، ونقلوها إلى الناس من بعده، وعلى هذا لا يجوز أي تبديل أو تحريف في هذه الحقائق والمعاني ، لأن التحريف والتبديل يدخلان في نطاق الابتداع المذموم في دين الله، ولا يجوز التردد أبدًا في منع التبديل والتحريف بجحة حق الفرد في إبداء الرأي وحرية الفكر والاجتهاد»91.
وقد أجمع سلف الأمة على وجوب حفظ الدين على أصوله المستقرة، فإن نجم مبتدعٌ، أو زاغ ذو شبهة عنه، أوضح له الحجة، وبين له الصواب، وأخذه بما يلزمه من الحقوق والحدود، ليكون الدين محروسًا من خللٍ، والأمة ممنوعة من زلل92.
ومن أعظم أصول الشريعة وقواعد الملة: حفظ الدين وصيانته والذب عنه، وسنة الله تعالى الصراع بين الحق والباطل، والإسلام والكفر، والمعروف والمنكر، وقد قيض الله في كل زمان بقايا من أهل العلم، يحيون كتاب الله، ويحمون دينه. وقوام الدين يكون بالعلم والجهاد في سبيل الله.
قال الله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ) [التوبة: ٤١].
ونزلت هذه الآية في الحث على غزوة تبوك، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رجع من الطائف وغزوة حنين، أمر بالجهاد لغزو الروم، وذلك في زمان عسرة من البأس، وجدب من البلاد، وشدة من الحر، حين أخرقت النخل، وطابت الثمار، فعظم على الناس غزو الروم، وأحبوا الظلال والمقام في المساكن والمال، وشق عليهم الخروج إلى القتال، فلما كان ذلك من تثاقل الناس، أنزل هذه الآية93.
«ولايخفى ما في هذه الآية الكريمة من التشديد في الخروج إلى الجهاد على كل حال»94، «فالضمير في (ﭑ) عام للذين استنفروا فتثاقلوا، وإنما استنفر القادرون، وكان الاستنفار على قدر حاجة الغزو، فلا يقتضي هذا الأمر توجه وجوب النفير على كل مسلم في كل غزوة، ولا على المسلم العاجز لعمى أو زمانة أو مرض، وإنما يجري العمل في كل غزوة على حسب ما يقتضيه حالها وما يصدر إليهم من نفير»95.
وقال تعالى: (ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦﮧ) [الحج: ٧٨].
ووجه الإضافة في قوله: (ﮥ ﮦﮧ) وكان القياس: حق الجهاد فيه، أو حق جهادكم فيه، كما قال: (ﮢ ﮣ ﮤ): أن الإضافة تكون بأدنى ملابسة واختصاص، فلما كان الجهاد مختصًا بالله، من حيث إنه مفعول لوجهه ومن أجله، صحت إضافته إليه96.
والآيات النازلة في القتال على ثلاثة أنواع:
أحدها: آيات أمرت بقتال الدفاع، كقوله تعالى: (ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ)[التوبة: ٣٦].
وقوله: (ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ) [البقرة: ١٩٤].
وهذا قتال ليس للإكراه على الإسلام، بل هو لدفع غائلة المشركين.
الثاني: آيات أمرت بقتال المشركين والكفار ولم تغي بغاية، فيجوز أن يكون إطلاقها مقيدًا بغاية آية: (ﮓ ﮔ ﮕ) [التوبة: ٢٩]. وحينئذ فلا تعارضه آية: (ﯿ ﰀ ﰁ ﰂﰃ) [البقرة: ٢٥٦].
الثالث: ما غيي بغاية ، كقوله تعالى: (ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ) [البقرة: ١٩٣].
والله أعلم97.
وقال ابن عباس ومجاهد وغيره في قوله تعالى: (ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ) [البقرة: ١٩٠].
معنى الآية: قاتلوا الذين هم بحالة من يقاتلكم، ولا تعتدوا في قتل النساء والصبيان والرهبان وشبهه، وقال قوم: المعنى: لا تعتدوا في القتال لغير وجه الله، كالحمية وكسب الذكر98.
وقال تعالى: (ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛﯜ ﯝ ﯞ ﯟ) [الحجرات: ١٥].
وقال تعالى: (ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘﯙ) [المائدة: ٥٤].
أخبر تعالى المؤمنين في هذه الآية الكريمة، أنهم إن ارتد بعضهم فإن الله يأتي عوضًا عن ذلك المرتد بقوم من صفاتهم الذل للمؤمنين، والتواضع لهم ولين الجانب، والقسوة والشدة على الكافرين، وهذا من كمال صفات المؤمنين، وبهذا أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم، فأمره بلين الجانب للمؤمنين، بقوله: (ﯱ ﯲ ﯳ) [الحجر: ٨٨].
وأثنى تعالى على نبيه باللين للمؤمنين في قوله: (ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧﭨ) [آل عمران: ١٥٩]99.
وفي الآية تحذير للمؤمنين من أعدائهم في الدين، وتجنيبهم أسباب الضعف فيه، فأقبل على تنبيههم إلى أن ذلك حرص على صلاحهم في ملازمة الدين والذب عنه، وأن الله لا يناله نفع من ذلك، وأنهم لو ارتد منهم فريق أو نفر، لم يضر الله شيئًا، وسيكون لهذا الدين أتباع وأنصار وإن صد عنه من صد، وهذا كقوله تعالى: (ﭺ ﭻ ﭼ ﭽﭾ ﭿﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄﮅ) [الزمر: ٧]100.
وقوله تعالى: (ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥﮦ ﮧ ﮨ ﮩﮪ ﮫ ﮬ ﮭ) [البقرة: ٢١٧].
«والمقصد منه التحذير، لأنه لما ذكر حرص المشركين على رد المسلمين عن الإسلام، وعقبه باستبعاد أن يصدر ذلك من المسلمين، أعقبه بالتحذير منه، وجيء بصيغة (ﮙ) وهي صيغة مطاوعة، إشارة إلى أن رجوعهم عن الإسلام إن قدر حصوله، لا يكون إلا عن محاولة من المشركين، فإن من ذاق حلاوة الإيمان لا يسهل عليه رجوعه عنه، ومن عرف الحق لا يرجع عنه إلا بعناء، ولم يلاحظ المفعول الثاني هنا؛ إذ لا اعتبار بالدين المرجوع إليه، وإنما نيط الحكم بالارتداد عن الإسلام إلى أي دين، ومن يومئذ صار اسم الردة لقبًا شرعيًا على الخروج من دين الإسلام، وإن لم يكن في هذا الخروج رجوع إلى دين كان عليه هذا الخارج»101.
والثاني مما تتم به حراسة الدين: تنفيذ أحكام الدين.
وذلك بتنفيذ الأحكام بين المتشاجرين، وقطع الخصام بين المتنازعين، حتى تعم النصفة، فلا يتعدى ظالمٌ، ولا يضعف مظلومٌ102.
وإقامة الحدود لتصان محارم الله تعالى عن الانتهاك، وتحفظ حقوق عباده من إتلافٍ واستهلاك103.
ثانيًا: إصلاح حياة الناس:
من أسمى الغايات التي جاء بها القرآن الكريم إصلاح الأمة على جميع المستويات، سواءً كان إصلاحًا للكفار بدعوتهم إلى الإسلام والهدى، أو إصلاحًا للمؤمنين بتزكية نفوسهم وتقويم أخلاقهم. بل إن المهمة الأولى التي جاء بها الأنبياء هي إصلاح حياة الناس في جميع مناحي الحياة.
ولا شك أن القرآن قد جمع جوانب الإصلاح في حياة الناس على أكمل الوجوه، فمن ذلك:
١. الاستخلاف على الناس.
في قوله تعالى: (ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ) [الأعراف: ١٤٢].
قاله موسى لأخيه عند العزم على الصعود إلى الجبل للمناجاة، ومعنى (ﮦ) أي: كن خلفًا عني وخليفة، وهو الذي يتولى عمل غيره عند فقده، فتنتهي تلك الخلافة عند حضور المستخلف، فالخلافة وكالة، وفعل (خلف) مشتق من الخلف بسكون اللام وهو ضد الأمام، لأن الخليفة يقوم بعمل من خلفه عند مغيبه، والغائب يجعل مكانه وراءه.
٢. إصلاح حياة الناس والبعد عن المفسدين.
قد جمع موسى عليه السلام وصيته ملاك السياسة بقوله: (ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ) فإن سياسة الأمة تدور حول محور الإصلاح، وهو جعل الشيء صالحًا، فجميع تصرفات الأمة وأحوالها يجب أن تكون صالحة، وذلك بأن تكون الأعمال عائدة بالخير والصلاح لفاعلها ولغيره، فإن عادت بالصلاح عليه وبضده على غيره لم تعتبر صلاحًا، ولا تلبث أن تؤول فسادًا على من لاحت عنده صلاحًا، ثم إذا تردد فعل بين كونه خيرًا من جهة، وشرًا من جهة أخرى، وجب اعتبار أقوى حالتيه، فاعتبر بها إن تعذر العدول عنه إلى غيره مما هو أوفر صلاحًا، وإن استوى جهتاه ألغي إن أمكن إلغاؤه وإلا تخير، وهذا أمر لهارون جامع لما يتعين عليه عمله من أعماله في سياسة الأمة.
وقوله: (ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ) تحذير من الفساد بأبلغ صيغة، لأنها جامعة بين النهي والنهي عن فعل تنصرف صيغته أول وهلة إلى فساد المنهي عنه، وبين تعليق النهي با تباع سبيل المفسدين.
والاتباع أصله المشي على خلف ماش، وهو هنا مستعار للمشاركة في عمل المفسد، فإن الطريق مستعار للعمل المؤدي إلى الفساد، والمفسد من كان الفساد صفته، فلما تعلق النهي بسلوك طريق المفسدين، كان تحذيرًا من كل ما يستروح منه مآل إلى فساد، لأن المفسدين قد يعملون عملًا لا فساد فيه، فنهي عن المشاركة في عمل من عرف بالفساد، لأن صدوره عن المعروف بالفساد كاف في توقع إفضائه إلى فساد ، ففي هذا النهي سد ذريعة الفساد، وسد ذرائع الفساد من أصول الاسلام، وقد عني بها مالك بن أنس وكررها في كتابه واشتهرت هذه القاعدة في أصول مذهبه.
فلا جرم أن كان قوله تعالى: (ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ) جامعًا للنهي عن ثلاث مراتب من مراتب الإفضاء إلى الفساد: وهو العمل المعروف بالانتساب إلى المفسد، وعمل المفسد وإن لم يكن مما اعتاده، وتجنب الاقتراب من المفسد ومخالطته.
وقد أجرى الله على لسان رسوله موسى، أو أعلمه، ما يقتضي أن في رعية هارون مفسدين، وأنه يوشك إن سلكوا سبيل الفساد أن يسايرهم عليه، لما يعلم في نفس هارون من اللين في سياسته، والاحتياط من حدوث العصيان في قومه، كما حكى الله عنه في قوله: (ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ) [الأعراف: ١٥٠].
وقوله: (ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ) [طه: ٩٤].
فليست جملة (ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ) مجرد تأكيد لمضمون جملة (ﮩ) تأكيدًا للشيء بنفي ضده مثل قوله: (ﮊ ﮋ ﮌﮍ) [النحل: ٢١].
لأنها لو كان ذلك هو المقصد منها لجردت من حرف العطف، ولاقتصر على النهي عن الإفساد فقيل: وأصلح لا تفسد، نعم يحصل من معانيها ما فيه تأكيد لمضمون جملة (ﮩ) 104.
٣. المهمة الأولى للرسل إصلاح حياة الناس.
قال تعالى: (ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ) [الأنعام: ٤٨].
ومعنى (ﮍ): أي فعل الصلاح، وهو الطاعة لله فيما أمر ونهى، لأن الله ما أراد بشرعه إلا إصلاح الناس، كما حكى عن شعيب: (ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷﯸ)[هود: ٨٨].
ولما بين شعيب عليه السلام لقومه حقيقة عمله، وكان في بيانه ما يجر الثناء على نفسه، أعقبه بإرجاع الفضل في ذلك إلى الله فقال: (ﯹ ﯺ ﯻ ﯼﯽ) [هود: ٨٨].
فسمى إرادته الإصلاح توفيقًا، وجعله من الله لا يحصل في وقت إلا بالله، أي: بإرادته وهديه، فجملة (ﯹ ﯺ ﯻ ﯼﯽ) في موضع الحال من ضمير (ﯳ).
والتوفيق: جعل الشيء وفقا لآخر، أي: طبقًا له، ولذلك عرفوه بأنه خلق القدرة والداعية إلى الطاعة105.
وفي قول الملائكة: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ) [البقرة: ٣٠].
يحتمل أنهم علموا ذلك من تسميته خليفة، لأن الخلافة تقتضي الإصلاح وقهر المستخلف عليه، وهو يستلزم أن يصدر منه فساد، إما في ذاته بمقتضى الشهوة، أو في غيره من السفك، أو لأنها مجلي الجلال كما أنها مجلي الجمال، ولكل آثار، والإفساد والسفك من آثار الجلال، وسكتوا عن آثار الجمال، إذ لا غرابة فيها، وهم على كل تقدير ما قدروا الله تعالى حق قدره، ولا يخل ذلك بهم ففوق كل ذي علم عليم106.
وقال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ) [البقرة: ١٨٢].
«في هذه الآية دليل على الحكم بالظن، لأنه إذا ظن قصد الفساد وجب السعي في الصلاح، وإذا تحقق الفساد لم يكن صلحًا، إنما يكون حكمًا بالدفع، وإبطالًا للفساد وحسمًا له»107.
وقال تعالى: (ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ) [الحجرات: ٩].
وقوله: (ﮱ) ( يدل على وجوب الاصلاح عند التنازع بين المسلمين )108. ومحمل الإصلاح العدل كما في قوله تعالى: (ﮱ ﯓ ﯔ) 109.
وقوله تعالى: (ﭑﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡﭢ) [النساء: ١١٤].
لم يبين هنا هل المراد بالناس المسلمون دون الكفار أو لا؟ لكنه أشار في مواضع أخر أن المراد بالناس المرغب في الإصلاح بينهم هنا، المسلمون خاصة، كقوله تعالى: (ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ) [الحجرات: ١٠].
وقوله: (ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ) فتخصيصه المؤمنين بالذكر يدل على أن غيرهم ليس كذلك كما هو ظاهر، وكقوله تعالى: (ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞﭟ) [الأنفال: ١]110.
قال ابن كثير رحمه الله نقلًا عن الرازي: النميمة على قسمين: تارة تكون على وجه التحريش بين الناس، وتفريق قلوب المؤمنين، فهذا حرام متفق عليه. فأما إن كانت على وجه الإصلاح بين الناس، وائتلاف كلمة المسلمين، كما جاء في الحديث: (ليس الكذاب من ينم خيرًا)111، أو يكون على وجه التخذيل والتفريق بين جموع الكفرة، فهذا أمر مطلوب كما جاء في الحديث: (الحرب خدعةٌ)112، وكما فعل نعيم بن مسعود في تفريقه بين كلمة الأحزاب وبين قريظة، جاء إلى هؤلاء ونمى إليهم عن هؤلاء، ونقل من هؤلاء إلى أولئك شيئًا آخر، ثم لأم بين ذلك ، فتناكرت النفوس وافترقت113.
وفي قوله: (ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ) [الحجرات: ١٠].
هذا تقرير لما ألزمه من تولى الإصلاح بين من وقعت بينهم المشاقة من المؤمنين، وبيان أن الإيمان قد عقد بين أهله من السبب القريب والنسب اللاصق، ما إن لم يفضل الأخوة ولم يبرز عليها، لم ينقص عنها ولم يتقاصر عن غايتها، والمعنى: ليس المؤمنون إلا إخوة، وأنهم خلص لذلك متمحضون، قد انزاحت عنهم شبهات الأجنبية، وأبى لطف حالهم في التمازج والاتحاد أن يقدموا على ما يتولد منه التقاطع، فبادروا قطع ما يقع من ذلك إن وقع واحسموه 114.
٤. النهي عن الإفساد في الأرض.
نهى الله تعالى عن الإفساد في الأرض فقال: (ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ) [الأعراف: ٥٦].
أي: لا تفسدوا فيها بعدما أصلح فيها الصالحون من الأنبياء وأتباعهم العاملين بشرائعهم، أو بعد إصلاح أهلها115.
وقوله: (ﯓ ﯔ) لفظ عام يشمل دقيق الفساد وجليله، وكذلك الإصلاح عام، والمفسرون نصوا على أن الإشارة إلى الكفر بالفساد، وإلى النبوءات والشرائع بالإصلاح116.
«والفساد: خروج الشيء عن الحالة اللائقة به والصلاح مقابله، والفساد في الأرض هيج الحروب، والفتن المستتبعة لزوال الاستقامة عن أحوال العباد، واختلال أمر المعاش والمعاد، والمراد بما نهوا عنه: ما يؤدي إلى ذلك من إفشاء أسرار المؤمنين إلى الكفار، وإغرائهم عليهم، وغير ذلك من فنون الشرور»117.
ومعنى الإفساد: هو ما ينبغي تركه مما هو مضرة، وأن الإصلاح ضده: وهو ما ينبغي فعله مما فعله منفعة، وإن جهل المعاني التي جعلها الله إفسادًا، والمعاني التي جعلها الله إصلاحًا118.
وفي قوله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟﭠ ﭡ ﭢﭣ) [النساء: ١٢٨].
يحتمل أن تكون صيغة: (ﭙ ﭚ) مستعملة في التحريض على الصلح، أي: إصلاح أمرهما بالصلح وحسن المعاشرة، فنفي الجناح من الاستعارة التمليحية، فالمراد الصلح بمعنى: إصلاح ذات البين، والأشهر فيه أن يقال: الإصلاح. والمقصود الأمر بأسباب الصلح، وهي: الإغضاء عن الهفوات، ومقابلة الغلظة باللين، وهذا أنسب وأليق بما يرد بعده من قوله: (ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑﮒ) [النساء: ١٣٠].
والتعريف في قوله: (ﭡ ﭢﭣ) تعريف الجنس وليس تعريف العهد، لأن المقصود إثبات أن ماهية الصلح خير للناس، فهو تذييل للأمر بالصلح والترغيب فيه119.
٥. مقاصد الإصلاح التي جاء بها القرآن.
المقاصد الأصلية التي جاء بها القرآن وبينها، والتي لها تعلق بالإصلاح، تبلغ بالاستقراء ثمانية أمور ، كما ذكرها ابن عاشور رحمه الله120:
الأول: إصلاح الاعتقاد وتعليم العقيدة الصحيح.
وهذا أعظم سبب لإصلاح الخلق، لأنه يزيل عن النفس عادة الإذعان لغير ما قام عليه الدليل، ويطهر القلب من الأوهام الناشئة عن الإشراك والدهرية وما بينهما، وقد أشار إلى هذا المعنى قوله تعالى: (ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ) [هود: ١٠١] فأسند لآلهتهم زيادة تتبيبهم، وليس هو من فعل الآلهة، ولكنه من آثار الاعتقاد بالآلهة.
الثاني: تهذيب الأخلاق.
قال تعالى: (ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ) [القلم: ٤].
ولما سئلت عائشة رضي الله تعالى عنها عن خلقه صلى الله عليه وسلم قالت: كان خلقه القرآن121.
وفي الحديث الذي رواه مالك في الموطأ بلاغًا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (بعثت لأتمم حسن الأخلاق)122.
وهذا المقصد قد فهمه عامة العرب، بله خاصة الصحابة.
الثالث: التشريع وهو الأحكام خاصة وعامة.
قال تعالى: (ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰﯱ) [النساء: ١٠٥](ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐﮑ) [المائدة: ٤٨].
ولقد جمع القرآن جميع الأحكام جمعًا كليًا في الغالب، وجزئيًا في المهم. قال الشاطبي: لأنه على اختصاره جامع، والشريعة تمت بتمامه، ولا يكون جامعًا لتمام الدين إلا والمجموع فيه أمور كلية123.
الرابع: سياسة الأمة.
وهو باب عظيم في القرآن، القصد منه صلاح الأمة وحفظ نظامها، كالإرشاد إلى تكوين الجامعة بقوله: (ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ) [آل عمران: ١٠٣].
وقوله: (ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂﮃ) [الأنعام: ١٥٩] وقوله: ( ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ) [الأنفال:٤٦] وقوله: (ﮞ ﮟ ﮠ) [الشورى: ٣٨].
الخامس: القصص وأخبار الأمم السالفة للتأسي بصالح أحوالهم.
قال تعالى: (ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ) [يوسف: ٣].
وقال تعالى: (ﯬ ﯭ ﯮ ﯯﯰ ﯱ ﯲﯳ) [الأنعام: ٩٠]
السادس: التعليم بما يناسب حالة عصر المخاطبين.
وما يؤهلهم إلى تلقي الشريعة ونشرها، وذلك علم الشرائع وعلم الأخبار.
السابع: المواعظ والإنذار والتحذير والتبشير.
وهذا يجمع جميع آيات الوعد والوعيد، وكذلك المحاجة والمجادلة للمعاندين، وهذا باب الترغيب والترهيب.
الثامن: الإعجاز بالقرآن ليكون آية دالة على صدق الرسول.
إذ التصديق يتوقف على دلالة المعجزة بعد التحدي، والقرآن جمع كونه معجزة بلفظه، ومتحدي لأجله بمعناه.
كما أن من أهم ما يقوم به الإمام لتحقيق الإصلاح في حياة الناس ما يلي:
ثالثًا: حفظ وحدة الأمة:
إن من أعظم مقاصد السياسة التي جاء بها القرآن الكريم وحدة الأمة، ونبذ الفرقة والاختلاف، والنصوص القرآنية كثيرة في تجذير مفهوم الأمة في نفوس المسلمين، الذي لا تقف دونه الحدود والتضاريس، ومعيار وحدة الأمة هو الاعتصام بحبل الله تعالى، والتمسك بشرعه ودينه.
ويمكن إجمال عوامل وحدة الأمة التي أرشد إليها الكتاب العزيز فيما يلي: الاعتصام بدين الله تعالى ونبذ الفرقة، وطاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وذم الاختلاف والتفرق. كما سيأتي إن شاء الله.
قال الله تعالى: (ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ) [آل عمران: ١٠٣].
حيث أمر الله في هذه الآية بما فيه صلاح حال الناس في دنياهم، وذلك بالاجتماع على هذا الدين وعدم التفرق ليكتسبوا باتحادهم قوة ونماء. والاعتصام افتعال من عصم، وهو طلب ما يعصم ، أي : يمنع.
والحبل: ما يشد به للارتقاء، أو التدلي، أو للنجاة من غرق، أو نحوه، والكلام تمثيل لهيئة اجتماعهم والتفاتهم على دين الله ووصاياه وعهوده، بهيئة استمساك جماعة بحبل ألقي إليهم، منقذ لهم من غرق أو سقوط، وإضافة الحبل إلى الله قرينة هذا التمثيل125.
والله تعالى يأمر بالألفة، وينهى عن الفرقة، فإن الفرقة هلكة، والجماعة نجاة.
وقوله: (ﭵ ﭶﭷ) يعني: في دينكم كما افترقت اليهود والنصارى في أديانهم. ويجوز أن يكون معناه: ولا تفرقوا متابعين للهوى والأغراض المختلفة، وكونوا في دين الله إخوانًا؛ فيكون ذلك منعا لهم عن التقاطع والتدابر126.
وقوله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘﭙ ﭚﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ) [الأنفال: ٤٦].
نهى الله جل وعلا المؤمنين في هذه الآية الكريمة عن التنازع، مبينًا أنه سبب الفشل، وذهاب القوة، (ﭗ ﭘ) أي: قوتكم127.
وقوله تعالى: (ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ) [المؤمنون: ٥٢].
أي: «إن هذه شريعتكم شريعة واحدة، ودينكم دين واحد، وربكم واحد، فلا تتفرقوا في الدين»128. «وقديمًا كان التحزب مسببًا لسقوط الأديان والأمم، وهو من دعوة الشيطان التي يلبس فيها الباطل في صورة الحق»129.
وقد ذم الله سبحانه أهل التفرق والاختلاف في الكتاب، الذين يؤمن كل منهم ببعضه دون بعض، كما قال تعالى: (ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ) [البقرة: ٢١٣].
وقال تعالى: (ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂﮃ) [الأنعام: ١٥٩].
وقال تعالى: (ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ) [آل عمران: ١٠٣].
وقال تعالى: (ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ) [آل عمران: ١٠٥].
وقال تعالى: (ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ) [الروم: ٣١-٣٢]130.
ووحدة الأمة تكون باجتماع الكلمة على الألفة والتناصر ؛ ليكون للمسلمين يد على من سواهم131.
رابعًا: تحقيق مقاصد الشريعة:
مقاصد الشريعة الإسلامية تنقسم إلى: عامة وخاصة، فالمقاصد العامة يقصد بها: المعاني والحكم الملحوظة للشارع في جميع أحوال التشريع أو معظمها؛ بحيث لا تختص ملاحظاتها في الكون في نوع خاص من أحكام الشريعة132.
والمقاصد الخاصة: المراد بها الكيفيات المقصودة للشارع لتحقيق مقاصد الناس النافعة، أو لحفظ مصالحهم العامة في تصرفاتهم الخاصة، كي لا يعود سعيهم في مصالحهم الخاصة بإبطال ما أسس لهم من تحصيل مصالحهم العامة إبطالًا عن غفلة، أو استنزال هوى، أو شهوة 133.
والمقاصد ذات تقسيمات متعددة لا يتسع المقام لذكرها، ويمكن الإشارة إليها بإيجاز، فأقول: إن المقاصد من حيث الحاجة إليها تشتمل على ثلاث أشياء: الضروريات، والحاجيات، والتحسينيات.
ومن حيث المحل تجدها قسمين: مقاصد الشارع، ومقاصد المكلف، ومن حيث تعلقها بعموم الأمة وخصوصها تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
ولا جرم أن الله تعالى خص الشريعة الإسلامية بوصف الرحمة الكاملة، وقد أشار إلى ذلك قوله تعالى فيما حكاه خطابًا منه لموسى عليه السلام: (ﭥ ﭦ ﭧ ﭨﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲﭳﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ) [الأعراف: ١٥٦-١٥٧].
ففي قوله: (ﭦ ﭧ ﭨ) إشارة إلى أن المراد رحمة هي عامة، فامتازت شريعة الإسلام بأن الرحمة ملازمة للناس في سائر أحوالهم، وأنها حاصلة بها لجميع الناس لا لأمة خاصة.
فأقيمت شريعة الإسلام على دعائم الرحمة والرفق واليسر، قال تعالى: (ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰﮱ) [الحج: ٧٨].
وقال تعالى: (ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ) [البقرة: ١٨٥].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (بعثت بالحنيفية السمحة)135.
وما يتخيل من شدة في نحو القصاص والحدود، فإنما هو لمراعاة تعارض الرحمة والمشقة، كما أشار إليه قوله تعالى: (ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ) فالقصاص والحدود شدة على الجناة ورحمة ببقية الناس.
وأما رحمة الإسلام بالأمم غير المسلمين فإنما نعني به رحمته بالأمم الداخلة تحت سلطانه وهم أهل الذمة، ورحمته بهم عدم إكراههم على مفارقة أديانهم، وإجراء العدل بينهم في الأحكام، بحيث لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم في الحقوق العامة.
هذا وإن أريد بلفظة: (ﮔ) في قوله تعالى: (ﮒ ﮓ ﮔ) [الأنبياء: ١٠٧] النوع من أنواع المخلوقات ذات الحياة، فإن الشريعة تتعلق بأحوال الحيوان في معاملة الإنسان إياه وانتفاعه به، إذ هو مخلوق لأجل الإنسان.
قال تعالى: (ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ) [البقرة: ٢٩].
وقال تعالى: (ﯙ ﯚﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ) [النحل: ٦-٧].
وكل ما سبق ذكره من تقسيمات مقاصد وتفريعاتها المختلفة، تخدم جوانب الحياة المختلفة، سواء في مجال الضروريات أو الحاجيات أو التحسينات.
وأكتفي هنا بالإشارة إلى الضروريات الخمس، وما جاء في القرآن الكريم بشأنها من النصوص على هذا النحو:
الأول: حفظ الدين.
حيث شرع الله لإقامته العبادات، وشرع لحفظه الجهاد وعقوبة المرتد، وزجر من يفسد على الناس عقيدتهم136.
الثاني: حفظ النفس.
شرع الله لإيجادها النكاح، وشرع لحفظها القصاص على من يعتدي عليها، وتحريم إلقاء النفس في التهلكة، ولزوم دفع الضرر عنها137.
قال تعالى: (ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐﮑ) [البقرة: ١٧٨].
وقال سبحانه: (ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧﮨ ﮩ ﮪ ﮫ) [الإسراء: ٣٣].
وقال الله تعالى: (ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ) [البقرة: ١٧٩].
في هذه الآية تنبيه على الحكمة في شرع القصاص، وإبانة الغرض منه، وخص أولي الألباب مع وجود المعنى في غيرهم ؛ لأنهم المنتفعون به138.
ومن علم أنه يقتل إذا قتل، يكون ذلك رادعًا له وزاجرًا عن القتل، ولو كان الاثنان لا يقتص منهما للواحد، لكان كل من أحب أن يقتل مسلمًا، أخذ واحدًا من أعوانه فقتله معه، فلم يكن هناك رادع عن القتل، وبذلك تضيع حكمة القصاص من أصلها، مع أن المتمالئين على القتل، يصدق على كل واحد منهم أنه قاتل فيقتل، ويدل له أن الجماعة لو قذفوا واحدًا لوجب حد القذف على جميعهم139.
ولا شك أن هذا من أعدل الطرق وأقومها، ولذلك يشاهد في أقطار الدنيا قديمًا وحديثًا، قلة وقوع القتل في البلاد التي تحكم كتاب الله، لأن القصاص رادع عن جريمة القتل، كما ذكره الله في الآية140.
وفيه ارتداع الناس عن قتل النفوس، فلو أهمل حكم القصاص لما ارتدع الناس؛ لأن أشد ما تتوقاه نفوس البشر من الحوادث هو الموت141.
الثالث: حفظ العقل.
حيث شرع الله لحفظه تحريم الخمر وعقوبة شاربها، قال الله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ) [المائدة: ٩٠].
في هذه الآية دليل على وجوب اجتناب الخمر، وقد أخذ بعض العلماء منها أن الخمر نجسة العين، لأن الله تعالى قال: إنها (ﭙ)، والرجس في كلام العرب: كل مستقذر تعافه النفس.
قالوا: ويدل لهذا مفهوم المخالفة في قوله تعالى في شراب أهل الجنة: (ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ) [الإنسان: ٢١]؛ لأن وصفه لشراب أهل الجنة بأنه طهور يفهم منه، أن خمر الدنيا ليست كذلك، والنزاع الفقهي في هذه المسألة شهير142.
وقد بينت السنة حد شرب الخمر، وهو ثمانون جلدة مع الحرية وأربعون مع الرق143.
الرابع: حفظ النسب.
شرع الله لإيجاده الزواج، وشرع لحفظه عقوبة الزنى، وحرمة إجهاض المرأة الحامل إلا لضرورة144.
قال تعالى: (ﮊ ﮋ ﮌﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ) [الإسراء: ٣٢].
وقال سبحانه: (ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢﭣ) [النور: ٢].
كما أوجب الله سبحانه العدة صيانة وحفظًا للأنساب.
قال الله تعالى: (ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼﭽ) [البقرة: ٢٢٨].
وقال سبحانه: (ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯﯰ) [الطلاق: ٤].
الخامس: حفظ العرض.
حيث شرع الله لحفظه عقوبة الزنى والقذف، قال تعالى: (ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ) [النور: ٢٣].
السادس: حفظ المال.
شرع الله لتحصيله أنواع المعاملات من بيع وشراء وشركة ونحو ذلك، وشرع لحفظه حرمة أكل مال الناس بالباطل، أو إتلافه والحجر على السفيه وتحريم الربا، وعقوبة السرقة145.
قال تعالى: (ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨﭩ ﭪ ﭫ ﭬ) [المائدة: ٣٨].
وقال سبحانه: (ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ) [البقرة: ١٨٨].
وقال تعالى: (ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷﭸ) [النساء: ٢٩].
كما شرع الله تعالى حد الحرابة، وهو حد قطاع الطريق: (ﭻ ﭼ ﭽﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ) [المائدة: ٣٣].
وما تقدم ذكره من ضروريات الشريعة وكلياتها يصب في مصلحة الأمة من النواحي المختلفة، وخصوصًا الناحية السياسية، إذ إن ضبط هذه المصالح والحفاظ عليها هو تحقيق واضح لمقاصد الشريعة بتقسيماتها المختلفة، وأساس من أسس تماسك الأمة ووحدتها، وسلامة أفرادها ومجتمعاتها من العبث والإتلاف، واستبقاء لصورة الأمة قوية قلبًا وقالبًا أمام نفسها وأمام أعدائها.
خامسًا: دفع العدوان:
من أعظم المهام المنوطة بالإمام رعاية الأمة ودفع العدوان عنها، سواء كان العدوان على ثغور المسلمين، أو كف عدوان بعض المسلمين على المسلمين، ويكون ذلك بما يلي:
والعدوان مصدر عدا، بمعنى: اعتدى، وهو نفي عام، أي: لا يؤخذ فرد فرد من أنواعه البتة إلا على من ظلم، ويراد بالعدوان الذي هو الظلم الجزاء148.
ومن واجبات السياسة في الإسلام دفع العدوان، سواء كان هذا العدوان على بلاد المسلمين، والذي هو جهاد الدفع، أو كان عدونًا من المسلمين بعضهم على بعض.
ومن أمثلة الأول قوله تعالى: (ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ) [البقرة: ١٩٣].
أي: فإن انتهوا عما هم فيه من الشرك، وقتال المؤمنين، فكفوا عنهم، فإن من قاتلهم بعد ذلك فهو ظالم، ولا عدوان إلا على الظالمين، وهذا معنى قول مجاهد: لا يقاتل إلا من قاتل. أو يكون تقديره : فإن انتهوا فقد تخلصوا من الظلم، وهو الشرك، فلا عدوان عليهم بعد ذلك.
والمراد بالعدوان هاهنا: المعاقبة والمقاتلة، كقوله: (ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖﮗ) [البقرة: ١٩٤].
وقوله: (ﮬ ﮭ ﮮ ﮯﮰ) [الشورى: ٤٠].
وقوله: (ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧﯨ) [النحل: ١٢٦]149.
وقوله: (ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ) إنما ذلك على وجه المجازاة، والمعنى: افعلوا بهم مثل الذي فعلوا بكم، ولا تقاتلوا إلا من قاتلكم150.
وقوله: (ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ) [البقرة: ١٩٠].
في هذه الآية نهي عن الاعتداء، وقد ذكر بعض المفسرين أن الاعتداء على ثلاثة أقوال: الأول: قتال من لم يقاتل. والثاني: أنه قتل النساء والولدان. والثالث: أنه القتال على غير الدين151. ولا يمنع أن يكون اللفظ شاملًا للأقوال الثلاثة.
وقد يكون الاعتداء بتعدي حدود الله تعالى، فيجب على الإمام حمايتها ورعايتها، والشريعة جاءت بحماية حقوق الناس، ورعايتها لشؤونهم، أيًا كان هذا الاعتداء حتى بين الزوجين.
ومن ذلك قوله تعالى: (ﭜ ﭝ ﭞ ﭟﭠ) [البقرة: ٢٣١].
صرح تعالى في هذه الآية الكريمة بالنهي عن إمساك المرأة مضارة لها؛ لأجل الاعتداء عليها بأخذه ما أعطاها؛ لأنها إذا طال عليها الإضرار افتدت منه؛ ابتغاء السلامة من ضرره152.
وقال تعالى: (ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ) [النساء: ١٤].
والتعدي هو: مجاوزة الحد الذي حده الله فيها، وقد جاء ذلك بعد أحكام المواريث، وذكر أنصباء الوارث، والنظر في أموال الأيتام، وبيان عدد ما يحل من الزوجات، فناسب أن يذكر عقيب هذا كله التعدي، الذي هو مجاوزة ما شرعه الله من هذه الأحكام إلى ما لم يشرعه، وجاء قوله: (ﯭ ﯮ ﯯ) عقيب قوله: (ﮭ ﮮ ﮯﮰ) [النساء: ١٢].
ثم وعد من أطاع بالجنة، وأوعد من عصا وتعدى حدوده بالنار153، وقال تعالى: (ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱﯲ) [البقرة: ٢٢٩].
في هذه الآية نهي عن استحلال المحرمات، وذلك بالاعتداء على حقوق الناس، وهو أشد الاعتداء، أو على حقوق الله تعالى في أمره ونهيه دون حق الناس، كتناول الخنزير أو الميتة. ويعم الاعتداء في سياق النهي جميع جنسه مما كانت عليه الجاهلية من العدوان، وأعظمه الاعتداء على الضعفاء كالوأد، وأكل مال اليتيم، وعضل الأيامى، وغير ذلك154.
وقال تعالى: (ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ) [البقرة: ١٧٨].
«أي: من تجاوز شرع الله بعد القود، وأخذ الدية بقتل القاتل، بعد سقوط الدم، أو بقتل غير القاتل، وكانوا في الجاهلية يفعلون ذلك، ويقتلون بالواحد الاثنين والثلاثة والعشرة، وقيل: المعنى: من قتل بعد أخذ الدية، وقيل: بعد العفو، وقيل: من أخذ الدية بعد العفو عنها.
والأظهر القول الأول لتقدم العفو، وأخذ المال، والاعتداء وهو: تجاوز الحد، يشمل ذلك كله»155.
«وهذا تفريع عن حكم العفو ؛ لأن العفو يقتضي شكر الله على أن أنجاه بشرع جواز العفو، وبأن سخر الولي للعفو، ومن الشكر ألا يعود إلى الجناية مرة أخرى، فإن عاد فله عذاب أليم، وقد فسر الجمهور العذاب الأليم بعذاب الآخرة»156.
وقال تعالى: (ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶﯷ) [المائدة: ٢].
والعدوان هنا إما أن يكون أعم من الإثم، وإما أن يكون نوعًا آخر، وإما أن يكون العدوان فى مجاوزة حدود المأمورات، واجبها ومستحبها، ومجاوزة حد المباح، وإما أن يكون فى ذلك مجاوزة حد التحريم أيضًا؛ فإنها ثلاثة أمور: مأمور به، ومنهى عنه، ومباح157.
وقال تعالى: (ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊﮋ) [النساء: ٣٠].
في هذه الآية نهي عن أن يقتل الرجل غيره، فالضميران فيه على التوزيع، إذ قد علم أن أحدًا لا يقتل نفسه فينهى عن ذلك، وقتل الرجل نفسه داخل في النهي، لأن الله لم يبح للإنسان إتلاف نفسه كما أباح له صرف ماله158.
يتسم النظام السياسي في القرآن الكريم بسمات عامة، تجعله في منزلة لا يصل إليها أي نظام سياسي آخر في الشرق أو الغرب، ومن أبرز هذه السمات ما يلي:
١. رباني.
مصدر الشريعة الإسلامية هو الله تعالى، فهي وحيه إلى رسوله صلى الله عليه وسلم باللفظ والمعنى وهو القرآن، أو بالمعنى دون اللفظ وهو السنة، فهي بهذا الاعتبار تختلف اختلافًا جوهريًا عن جميع الشرائع الوضعية، لأن مصدر هذه الشرائع البشر، ومصدر الشريعة الإسلامية رب البشر.
وينبني على ذلك أن أحكام النظام السياسي في الإسلام معصومة من التناقض، فهي خالية من معاني الجور والنقص والهوى، لأن صانعها هو الله، والله له الكمال المطلق الذي هو لوازم ذاته، بخلاف القوانين الوضعية التي لا تنفك عن هذه المعاني؛ لأنها صادرة عن الإنسان، والإنسان لا يخلو من معاني الجهل والجور والنقص والهوى وما إلى ذلك.
وكذلك مما ينبني عليها أيضًا أن لأحكام النظام السياسي الإسلامي هيبة واحترامًا في نفوس المؤمنين بها حكامًا كانوا أو محكومين، لأنها صادرة عن الله، ومن ثم فلها صفة الدين. وما له هذه الصفة من حقه أن يحترم ويطاع طاعة اختيارية تنبعث من النفس وتقوم على الإيمان، ولا يقسر عليها الإنسان قسرًا. وفي هذا أعظم ضمان لحسن تطبيق القانون الإسلامي من الجميع، وعدم الخروج عليه ، ولو مع القدرة على هذا الخروج159.
والثوابت في هذه الشريعة من أظهر الأدلة على ربانيتها، وأنها من عند الله عز وجل، حيث إنها لا تقبل التعديل أو التبديل أو التغيير أو التعارض والاختلاف، قال تعالى: (ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ) [النساء: ٨٢].
فالقرآن لا يشتمل على كلام يوجب الريبة في أنه من عند الحق رب العالمين، من كلام يناقض بعضه بعضًا، أو كلام يجافي الحقيقة والفضيلة، أو يأمر بارتكاب الشر والفساد، أو يصرف عن الأخلاق الفاضلة، وانتفاء ذلك عنه يقتضي أن ما يشتمل عليه القرآن إذا تدبر فيه المتدبر، وجده مفيدًا اليقين بأنه من عند الله160.
وقال الفراء: أظن أن القرآن سمي من القرائن، وذلك أن الآيات يصدق بعضها بعضًا161.
وحيث خلا هذا الكتاب عن التناقض علمنا أنه من عند الله162.
وقال القرطبي: «إنه ليس من متكلم يتكلم كلامًا كثيرًا إلا وجد في كلامه اختلاف كثير؛ إما في الوصف واللفظ؛ وإما في جودة المعنى، وإما في التناقض، وإما في الكذب. فأنزل الله عز وجل القرآن وأمرهم بتدبره؛ لأنهم لا يجدون فيه اختلافًا في وصف ولا ردًا له في معنى، ولا تناقضًا ولا كذبًا فيما يخبرون به من الغيوب وما يسرون»163.
وقال سبحانه: (ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ) [النحل: ١١٦].
أوضحت هذه الآية أن المشرعين غير ما شرعه الله إنما تصف ألسنتهم الكذب، لأجل أن يفتروه على الله، وأنهم لا يفلحون، وأنهم يمتعون قليلًا ثم يعذبون العذاب الأليم، وذلك واضح في بعد صفاتهم من صفات من له أن يحلل ويحرم164.
٢. أخلاقي.
أمر الله تعالى في كتابه بجملة من مكارم الأخلاق والفضائل والمحاسن، منها: العدل، والإحسان، وإيتاء ذي القربى، والنهي عن الفحشاء والمنكر والبغي، والتفضل بالإحسان، والصفح والعفو، والوفاء بالعهد، وعدم نقض الميثاق، والصبر، والأمر بالعمل الصالح، والنهي عن الظلم، والآيات في ذلك أكثر من أن يستوعبها هذا المجال.
ونصوص القرآن العديدة في شأن اليتيم، زادت على العشرين موضعًا165.
قال تعالى: (ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ) [الأعراف: ١٩٩].
في هذه الآية أمر بمراعاة مكارم الأخلاق ومداراة الناس، والمعنى: استعمال العفو، وقبول ما سهل من أخلاق الناس، وترك الاستقصاء عليهم في المعاملات، وقبول العذر ونحوه166. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أثقل شيءٍ في ميزان المؤمن خلقٌ حسنٌ)167. وروى ابن عمر أن رجلًا سأل النبي صلى الله عليه وسلم: أي المؤمنين أفضل؟ فقال: (أحسنهم خُلُقًا)168.
وقد جمعت هذه الآية مكارم الأخلاق، لأن فضائل الأخلاق لا تعدو أن تكون عفوًا عن اعتداء ، فتدخل في: (ﭵ ﭶ)، أو إغضاء عما لا يلائم فتدخل في: (ﭹ ﭺ ﭻ)، أو فعل خير واتسامًا بفضيلة فتدخل في: (ﭷ ﭸ).
وهذا معنى قول جعفر بن محمد: في هذه الآية أمر الله نبيه بمكارم الأخلاق، وليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق منها، وهي صالحة لأن يبين بعضها بعضًا، فان الأمر بأخذ العفو يتقيد بوجوب الأمر بالعرف، وذلك في كل ما لا يقبل العفو والمسامحة من الحقوق، وكذلك الأمر بالعرف يتقيد بأخذ العفو ، وذلك بأن يدعو الناس إلى الخير بلين ورفق169.
فجعل الله تعالى أصل شريعته إكمال ما يحتاجه البشر من مكارم الأخلاق في نفوسهم، ولا شك أن الرسول صلى الله عليه وسلم أكبر مظهر لما في شرعه، قال تعالى: (ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ) [الجاثية: ١٨]. وأمره أن يقول: (ﯣ ﯤ ﯥ) [الأنعام: ١٦٣].
فكما جعل الله رسوله صلى الله عليه وسلم على خلق عظيم، جعل شريعته لحمل الناس على التخلق بالخلق العظيم بمنتهى الاستطاعة. وبهذا يزداد وضوحًا معنى التمكن الذي أفاده حرف الاستعلاء في قوله: (ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ) [القلم: ٤].
فهو متمكن منه الخلق العظيم في نفسه، ومتمكن منه في دعوته الدينية170.
قال القرطبي: تضمنت هذه الآية قواعد الشريعة في المأمورات والمنهيات، فقوله: (ﭵ ﭶ) دخل فيه صلة القاطعين، والعفو عن المذنبين، والرفق بالمؤمنين، وغير ذلك من أخلاق المطيعين. ودخل في قوله: (ﭷ ﭸ) صلة الأرحام، وتقوى الله في الحلال والحرام، وغض الأبصار، والاستعداد لدار القرار. وفي قوله: (ﭹ ﭺ ﭻ) الحض على التعلق بالعلم، والإعراض عن أهل الظلم، والتنزه عن منازعة السفهاء، ومساواة الجهلة الأغبياء، وغير ذلك من الأخلاق الحميدة والأفعال الرشيدة171.
وقال سبحانه: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫﭬ ﭭ ﭮﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ) [الحجرات: ١٢].
وقال سبحانه: (ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ) [فصلت: ٣٤].
«لبيان ما في ذلك الأمر من الصلاح ترويضًا على التخلق بذلك الخلق الكريم، وهو أن تكون النفس مصدرًا للإحسان، ولما كانت الآثار الصالحة تدل على صلاح مثارها. وأمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالدفع بالتي هي أحسن، أردفه بذكر بعض محاسنه، وهو: أن يصير العدو كالصديق، وحسن ذلك ظاهر مقبول، فلا جرم أن يدل حسنه على حسن سببه»172.
وهذا من جملة حسن الأدب في الخدمة في حق صحبتك مع الله؛ تحلم مع عباده لأجله، ومن جملة حسن الخلق في الصحبة مع الخلق ألا تنتقم لنفسك، وأن تعفو عن خصمك173.
وقال سبحانه: (ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ) [البقرة: ٨٣].
وهذه الشرائع من أصول الدين، التي أمر الله بها في كل شريعة، لاشتمالها على المصالح العامة، في كل زمان ومكان، فلا يدخلها نسخ، كأصل الدين174.
وقد أمر الله بالإحسان في آيات كثيرة منها: قوله تعالى: (ﮪﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ) [البقرة: ١٩٥].
وقوله: (ﮞ ﮟ) [النساء: ٣٦].
وقال سبحانه: (ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ) [القصص: ٧٧].
وحض الله في كتابه على العفو ، فقال تعالى: (ﯵ ﯶ ﯷ ﯸﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ) [البقرة: ٢٣٧].
قال الأمين الشنقيطي: «فانظر: ما في هذه الآية من الحض على مكارم الأخلاق من الأمر بالعفو والنهي عن نسيان الفضل»175.
«والعفو أقرب إلى صفة التقوى من التمسك بالحق؛ لأن التمسك بالحق لا ينافي التقوى ، لكنه يؤذن بتصلب صاحبه وشدته، والعفو يؤذن بسماحة صاحبه ورحمته، والقلب المطبوع على السماحة والرحمة، أقرب إلى التقوى من القلب الصلب الشديد، لأن التقوى تقرب بمقدار قوة الوازع، والوازع شرعي وطبيعي، وفي القلب المفطور على الرأفة والسماحة لين يزعه عن المظالم والقساوة، فتكون التقوى أقرب إليه لكثرة أسبابها فيه»176.
وقال سبحانه: (ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ) [التغابن: ١٤].
وفي الحقوق العامة أوامر ونواهي، عبادات ومعاملات، جاءت آيات الوصايا العشر، التي قال عنها ابن مسعود رضي الله عنه: من أراد أن ينظر إلى وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم التي عليها خاتمة فليقرأ: (ﮰﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝﯞ ﯟ ﯠﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦﯧ ﯨ ﯩ ﯪﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ) [الأنعام: ١٥١].
فهذه الآية تعرف بالوصايا العشر، والتي هي جامعة لأبواب الخير، وموصدة لأبواب الشر، فصارت هذه السورة بحق جامعة لأصول الرسالة177، حيث ذكر الله تعالى فيها مبادئ الأخلاق العامة التي يصلح بها المجتمع الإسلامي، والذي يبين أن النظام السياسي في الإسلام اهتم بجانب الأخلاق وحفظ الحقوق ورعايتها اهتمامًا ظاهرًا.
ومن ذلك: بر الوالدين، ورعاية حق الأولاد والإحسان إليهم، والنهي عن قتلهم خشية الفقر، والنهي عن الفواحش، والنهي عن قتل النفس المحرمة إلا بالحق.
٣. كامل وشامل.
تناول كتاب الله عز وجل قضايا الناس والمجتمعات، سواء كانت المتعلقة بالعبادات أو المعاملات أو المناكحات أو العلاقات السياسية أو القضايا الاجتماعية أو محاسن الاخلاق ونحو ذلك.
قال تعالى: (ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ) [النحل: ٨٩].
وبين ذلك في غير هذا الموضع، كقوله: (ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ) [الأنعام: ٣٨].
فلا شك أن القرآن فيه بيان كل شيء، والسنة كلها تدخل في آية واحدة منه، وهي قوله تعالى: (ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ)178 [الحشر: ٧].
والسنة والإجماع والقياس والاجتهاد مستندة إلى تبيين الكتاب، فمن ثم كان تبيانًا لكل شيء179.
والقرآن أنزله الله تعالى كتابًا لصلاح أمر الناس كافة، رحمة لهم لتبليغهم مراد الله منهم.
قال الله تعالى: (ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ) فكان المقصد الأعلى منه صلاح الأحوال الفردية، والجماعية، والعمرانية.
فالصلاح الفردي يعتمد تهذيب النفس وتزكيتها، ورأس الأمر فيه صلاح الاعتقاد، لأن الاعتقاد مصدر الآداب والتفكير، ثم صلاح السريرة الخاصة، وهي العبادات الظاهرة كالصلاة، والباطنة كالتخلق بترك الحسد والحقد والكبر.
وأما الصلاح الجماعي فيحصل أولًا من الصلاح الفردي، إذ الأفراد أجزاء المجتمع، ولا يصلح الكل إلا بصلاح أجزائه، وهناك شيء زائد على ذلك وهو ضبط تصرف الناس بعضهم مع بعض، على وجه يعصمهم من مزاحمة الشهوات ومواثبة القوى النفسانية، وهذا هو علم المعاملات، ويعبر عنه عند الحكماء بالسياسة المدنية.
وأما الصلاح العمراني فهو أوسع من ذلك إذ هو حفظ نظام العالم الإسلامي، وضبط تصرف الجماعات والأقاليم بعضهم مع بعض على وجه يحفظ مصالح الجميع، ورعي المصالح الكلية الإسلامية، وحفظ المصلحة الجامعة عند معارضة المصلحة القاصرة لها، ويسمى هذا بعلم العمران وعلم الاجتماع.
وصار مجموع التشريع الحاصل بالقرآن والسنة، كافيًا في هدي الأمة في عبادتها، ومعاملتها، وسياستها، في سائر عصورها، بحسب ما تدعو إليه حاجاتها، فقد كان الدين وافيًا في كل وقت بما يحتاجه المسلمون180.
والله عز وجل نص على بعض الأحكام، وأجمل القول في بعضها، وأحال على الأدلة في سائرها بقوله: (ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ) [النساء: ٨٣].
فبين النبي صلى الله عليه وسلم ما أجمله الله في كتابه، كما أمره، حيث يقول: (ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ) [النحل: ٤٤].
فما أحل صلى الله عليه وسلم، أو حرم، ولم يوجد في القرآن نصًا، فهو مما بين من مجمل القرآن، أو علمه بما نصب من الأدلة فيه181.
فما ترك القرآن شيئًا من أمر الدين إلا وقد دلنا عليه؛ إما دلالة مبينة مشروحة، وإما مجملة، يتلقى بيانها من الرسول صلى الله عليه وسلم، أو من الإجماع، أو من القياس الذي ثبت بنص الكتاب.
فصدق خبر الله بأنه ما فرط في الكتاب من شيء إلا ذكره، إما تفصيلًا وإما تأصيلًا.
وقال: (ﭻ ﭼ ﭽﭾ)182 [المائدة: ٣].
وقوله: (ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ) أي : من تحليل وتحريم، ومحبوب ومكروه، وغير ذلك من الأمر بالطاعات والواجبات والمستحبات، والنهي عن المحرمات، وما شاكلها من المكروهات، والإخبار عن الأمور على الجلية، وعن الغيوب المستقبلة المجملة والتفصيلية، والإخبار عن الرب تبارك وتعالى بالأسماء والصفات، وتنزيهه عن مماثلة المخلوقات، فلهذا كان: (ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ) [يوسف: ١١١].
تهتدي به قلوبهم من الغي إلى الرشاد، ومن الضلالة إلى السداد، ويبتغون به الرحمة من رب العباد، في هذه الحياة الدنيا ويوم المعاد183.
(ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ) [النحل: ٤٤].
(ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ) [النحل: ٦٤].
وهذا الكمال والشمول للشريعة الإسلامية، يفيد الأمة في مجالات السياسة المختلفة من وجوه:
أولها: أن الشمول ينسحب أثره على مناحي الحياة السياسية في جميع مراحلها، بدءًا من ضوابط اختيار الحاكم، ومرورًا بمنهجه في الحكم، وانتهاء بحالات عزله أو انعزاله.
وثانيها: أن الشمول ينفي عن الشريعة تهمة النقص والقصور التي يحاول أعداء الإسلام اتهام الشريعة بها، أو الترويج لها، لا سيما إذا استطاع المسلمون أن يبينوا أوجه الكمال والشمول هذه.
وثالثها: أن الشمول والكمال ينبئ عن ربانية مصادر الشريعة، وخلوصها من تهمة استفادتها من أي نظام آخر، سواء كان قانونيًا أو اقتصاديًا أو سياسيًا، فلم تتأثر الشريعة الإسلامية بشريعة فارس ولا الروم، ولا بحكم الصين أو الهند أو غير ذلك من الدول المحيطة بالدولة الإسلامية إبان نزول الوحي، أو إقامة الدولة في المدينة النبوية.
٤. محقق للمساواة.
جاءت الشريعة بمبدأ المساواة بين الناس بغض النظر عن اختلافهم في اللون أو الجنس أو اللغة، وجعلت أساس التفاضل بينهم العمل الصالح.
قال تعالى: (ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽﭾ ﭿﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ) [الحجرات: ١٣].
وهذا المبدأ جاءت به الشريعة في وقت كانت العصبية للجنس والقبيلة هي الأساس في المجتمع، وفي تمايز الناس وتفاضلهم.
والحكمة في جعله بني آدم شعوبًا وقبائل، هي التعارف فيما بينهم، فالتعارف هو العلة المشتملة على الحكمة، لقوله: (ﭼ ﭽﭾ ﭿﮀ).
فيعرف بعضهم بعضًا، ويتميز بعضهم عن بعض لا لأجل أن يفتخر بعضهم على بعض ويتطاول عليه، فاتضح من هذا أن الفضل والكرم إنما هو بتقوى الله لا بغيره من الانتساب إلى القبائل184.
والله تعالى قد علق محبته لخلقه على وصف التقوى والإيمان والإحسان، كقوله: (ﮪﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ) [البقرة: ١٩٥].
وقوله: (ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ) [البقرة: ٢٠٥].
وقوله: (ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ) [البقرة: ٢٢٢].
وقوله: (ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ) [آل عمران: ٧٦].
وقوله: (ﯡ ﯢ ﯣ) [آل عمران: ١٤٦].
إلى غير ذلك من الآيات.
ونفى محبته من وصف الاعتداء والكفر والظلم، كقوله: (ﯵ ﯶﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ) [البقرة: ١٩٠].
وقوله: (ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ) [البقرة: ٢٧٦].
وقوله: (ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ) [آل عمران: ٣٢].
وقوله: (ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ) [آل عمران: ٥٧].
وقوله: (ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ) [الأنفال: ٥٨].
إلى غير ذلك من الآيات.
٥. العالمية.
الشريعة الإسلامية عامة لجميع البشر في كل زمان ومكان.
قال تعالى: (ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ) [الأعراف: ١٥٨].
وقال سبحانه: (ﮥﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ) [سبأ: ٢٨].
وهي باقية لا يلحقها نسخ ولا تغيير ؛ لأن الناسخ يجب أن يكون بقوة المنسوخ أو أقوى منه، فلا ينسخ الشريعة وهي تشريع من الله إلا تشريع آخر من الله سبحانه، وحيث إن الشريعة الإسلامية خاتمة الشرائع ومحمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، لقوله تعالى: (ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲﯳ) [الأحزاب: ٤٠].
فلا يتصور أن ينسخها أو يغيرها شيء.
وعموم الشريعة وبقاؤها وعدم قابليتها للنسخ والتبديل كل ذلك يستلزم عقلًا أن تكون قواعدها وأحكامها على نحو يحقق مصالح الناس في كل عصر ومكان، ويفي بحاجاتهم ولا يضيق بها ولا يتخلف عن أي مستوى عال يبلغه المجتمع، وهذا كله متوفر في الشريعة الإسلامية ؛ لأن الله تعالى وهو العليم ؛ إذ جعلها عامة في المكان والزمان وخاتمة لجميع الشرائع، جعل الله قواعدها وأحكامها على نحو يجعلها صالحة لكل زمان ومكان، وهذا ما يدل عليه واقع الشريعة ومصادرها وطبيعة مبادئها وأحكامها وما ابتنت عليه هذه الأحكام، قال تعالى: (ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ) [الأنبياء: ١٠٧].
والرحمة تتضمن رعاية مصالح العباد ودرء المفاسد عنهم185.
وفي قوله تعالى: (ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ) هذه الآية الكريمة فيها التصريح بأنه صلى الله عليه وسلم رسول إلى جميع الناس، وصرح بذلك في آيات كثيرة ، كقوله: (ﮥﮦ ﮧ ﮨ ﮩ).
وقوله: (ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ) [الفرقان: ١].
وقوله: (ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ) [هود: ١٧].
وقيد في موضع آخر: عموم رسالته ببلوغ هذا القرآن، وهو قوله تعالى: (ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ) [الأنعام: ١٩].
وصرح بشمول رسالته لأهل الكتاب مع العرب بقوله: (ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ) [آل عمران: ٢٠].
إلى غير ذلك من الآيات186.
وهذه الآيات وأمثالها من أصرح الدلالات على عموم بعثته، صلوات الله وسلامه عليه إلى جميع الخلق، كما هو معلوم من دينه ضرورة، وكما دل عليه الكتاب والسنة في غير ما آية وحديث187.
وما بعث نبيًا في أمة إلا أن يكون بلغتهم، فاختص كل نبي بإبلاغ رسالته إلى أمته دون غيرهم، واختص محمد بن عبد الله رسول الله بعموم الرسالة إلى سائر الناس188، كما ثبت في الصحيحين عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أعطيت خمسًا لم يعطهن أحدٌ من الأنبياء قبلي وذكر منها: (وكان النبي يبعث إلى قومه خاصةً وبعثت إلى الناس كافةً)189.
وهو ما يفيده العموم في كلمة (للناس) في قوله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖﭗ ﭘ ﭙ ﭚﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ) [الزمر: ٤١].
وقوله: (ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ) [الجاثية: ٢٠].
وقوله سبحانه: (ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ) [الفرقان: ١].
هذه الآية الكريمة تدل على عموم رسالته صلى الله عليه وسلم للأسود والأحمر والجن والإنس، لدخول الجميع في قوله تعالى: (ﯛ ﯜ)190.
قال الطيبي: مدار هذه السورة على كونه صلى الله عليه وسلم مبعوثًا إلى الناس كافة، ينذرهم ما بين أيديهم وما خلفهم، ولهذا جعل براعة استهلالها (ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ)، وذكر بدائع من صنعه تعالى، جمعًا بين الاستدلال والتذكير، وأعقب ذلك بتثبيت الرسول صلى الله عليه وسلم على دعوته ومقاومته الكافرين191.
ويظهر في رسالة النبي صلى الله عليه وسلم شمول البعثة في قوله: (ﯛ ﯜ)، وعموم الرحمة في قوله: (ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ)192.
وقال سبحانه: (ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ) [التكوير: ٢٧].
هذا وعالمية الشريعة الإسلامية تمثل ثراء كبيرًا في مجال السياسة الداخلية والخارجية، وأبرز مظاهر هذا الثراء في تقديري ما يلي:
أولًا: أن عالمية الإسلام أعون للحاكم على تنفيذ تعاليم الشرع وتحكيم شرع الله عز وجل في دولته، مما لا يتأتى معه مجال للنقد أو الاعتراض من الدول غير الإسلامية.
ثانيًا: أن هذه السمة (العالمية) تفتح آفاقًا للتعاون المثمر بين الدول الإسلامية المختلفة، حيث يكون الهدف والتشريع واحدًا.
جعل الله عز وجل كتابه العظيم دليلًا للسالكين وهداية للراغبين، قال سبحانه: (ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ) [الأنعام: ٣٨].
فمن تأمله وتدبره وعمل بما فيه وجد بغيته وضالته. وقد ذكر الله تعالى في كتابه نماذج سياسية من أنبياء الله تعالى وغيرهم، حتى تكون قصصهم عبرة لأولي الألباب، ومن هذه النماذج قصة نبي الله داود وسليمان ويوسف عليهم الصلاة والسلام، وكذلك قصة ذي القرنين، وملكة سبأ، وهو ما سأتناوله في النقاط الآتية:
أولًا: دواد وسليمان عليهما السلام:
جمع الله تعالى النبوة والحكم في بيت واحد لداود وسليمان عليهما السلام، وهذه نعمة كبيرة غير مسبوقة في بني إسرائيل، قال تعالى: (ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ) [سبأ: ١٠].
فذكر الله عز وجل في هذه الآية الكريمة أنه آتى داود منه فضلًا تفضل به عليه، وبين هذا الفضل الذي تفضل به على داود في آيات أخر، كقوله: (ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ) [البقرة: ٢٥١].
آتى الله داود الملك الذي كان بيد طالوت والحكمة، أي: النبوة، (ﮬ ﮭ ﮮ) أي: مما يشاء الله من العلم الذي اختصه به صلى الله عليه وسلم 193.
وقوله: (ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ) [ص: ٢٠].
وقوله: (ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ) [النمل: ١٥].
وقوله: (ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ) [ص: ٢٦].
إلى غير ذلك من الآيات.
قال الله تعالى: (ﭯ ﭰ ﭱﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼﭽﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ) [النمل: ١٦].
بين الله سبحانه في هذه الآية وراثة سليمان لدواد وتميزه بالنعم الأخرى واتساع ملكه، فورث من داود نبوته وعلمه وملكه دون سائر أولاده، وكان لداود عليه السلام تسعة عشر ابنًا، ولذا قال تعالى: (ﭯ ﭰ ﭱ) [النمل: ١٦]194.
وقد اتصف ملك داود وسليمان عليهما السلام بالقوة والعدل والحكمة، قال تعالى: (ﭭ ﭮ) عبارة عامة لجميع ما وهبه الله تعالى من قوة وجند ونعمة، (ﭱ ﭲ) قال ابن عباس وغيره: هو فصل القضاء بين الناس بالحق وإصابته وفهمه195.
وذكر الله عز وجل أنه أعطى داود ملكًا وسلطانًا لم يكن لآبائه، وفي ذلك إيماء إلى أن شأن محمد صلى الله عليه وسلم سيصير إلى العزة والسلطان، ولم يكن له سلف ولا جند، فقد كان حال النبي صلى الله عليه وسلم أشبه بحال داود عليه السلام.
وفي ذلك الإيماء إلى التحذير من الضجر في ذات الله تعالى، واتقاء مراعاة حظوظ النفس في سياسة الأمة، إبعاده لرسوله صلى الله عليه وسلم عن مهاوي الخطأ والزلل، وتأديبًا له في أول أمره وآخره، مما أن يتلقى بالعذل. وكان داود أيضًا قد صبر على ما لقيه من حسد «طالوت» ملك إسرائيل إياه على انتصاره على جالوت ملك فلسطين196.
وقد حصلت بعض الوقائع في بني إسرائيل أبرزت ذكاء سليمان عليه السلام وحكمته، ومن ذلك ما يلي:
أولًا: واقعة الغنم التي نفشت في الحرث: قوله تعالى: (ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤﮥ ﮦ ﮧﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔﯕ ﯖ ﯗ) [الأنبياء: ٧٨-٧٩].
وكان داود ملكًا نبيًا يحكم بين الناس فوقعت هذه النازلة، وكان ابنه إذ ذاك قد كبر وكان يجلس على الباب الذي يخرج منه الخصوم، وكانوا يدخلون إلى داود من باب آخر، فتخاصم إليه رجل له زرع، دخلت حرثه غنم رجل فأفسدت عليه، فرأى داود دفعها إلى صاحب الحرث، فخرجا على سليمان، فشكى صاحب الغنم فجاء سليمان فقال: يا نبي الله، إني أرى ما هو أرفق بالجميع، أن يأخذ صاحب الغنم الحرث يقوم عليه ويصلحه حتى يعود كما كان، ويأخذ صاحب الحرث الغنم في تلك المدة ينتفع بمرافقها من لبن وصوف ونسل، فإذا عاد الحرث إلى حاله، صرف كل مال صاحبه إليه، فرجعت الغنم إلى ربها والحرث إلى ربه، فقال داود: وفقت يا بني وقضى بينهما بذلك197.
وفي الآية قرينتان على أن حكمهما كان باجتهاد لا بوحي، وأن سليمان أصاب، فاستحق الثناء باجتهاده وإصابته، وأن داود لم يصب فاستحق الثناء باجتهاده، ولم يستوجب لومًا ولا ذمًا بعدم إصابته. كما أثنى على سليمان بالإصابة في قوله: (ﮦ ﮧ) وأثنى عليهما في قوله: (ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ) فدل قوله: (ﮩ ﮪ) على أنهما حكما فيها معًا، كل منهما بحكم مخالف لحكم الآخر، ولو كان وحيًا لما ساغ الخلاف.
ثم قال: (ﮦ ﮧ) فدل ذلك على أنه لم يفهمها داود، ولو كان حكمه فيها بوحي لكان مفهمًا إياها كما ترى، فقوله: (ﮩ ﮪ) مع قوله: (ﮦ ﮧ) قرينة على أن الحكم لم يكن بوحي بل باجتهاد، وأصاب فيه سليمان دون داود بتفهيم الله إياه ذلك.
والقرينة الثانية: هي أن قوله تعالى: (ﮦ) يدل على أنه فهمه إياها من نصوص ما كان عندهم من الشرع، لا أنه أنزل عليه فيها وحيًا جديدًا ناسخًا؛ لأن قوله تعالى: (ﮦ) أليق بالأول من الثاني، كما ترى198.
وقدم سليمان في الذكر على داود لتوفر علمه، وتأخر ذكر داود لتشريفه بذكر كتابه، وإبرازه في جملة مستقلة له بالذكر ولكتابه، فما فاته من التقديم اللفظي حصل به التضعيف من التشريف المعنوي199.
وقد أوتي سليمان الحكمة، وسخر له أهل الصنائع والإبداع ، فاستكملت دولة إسرائيل في زمانه عظمة النظام والثروة والحكمة والتجارة فكان في قصتهما مثل.
وكانت تلك القصة منتظمة في هذا السلك الشريف، سلك إيتاء الفرقان والهدى والرشد والإرشاد إلى الخير والحكم والعلم.
وكان في قصة داود وسليمان تنبيه على أصل الاجتهاد وعلى فقه القضاء، فلذلك خص داود وسليمان بشيء من تفصيل أخبارهما، أي: وآتينا داود وسليمان حكما وعلما إذ يحكمان إلى آخره، فـ (ﮙ ﮚ) متعلق بـ (ﮪ) المحذوف، أي: كان وقت حكمهما في قضية الحرث مظهرًا من مظاهر حكمهما وعملهما.
وهذه الآية أصل في اختلاف الاجتهاد، وفي العمل بالراجح، وفي مراتب الترجيح، وفي عذر المجتهد إذا أخطأ الاجتهاد، أو لم يهتد إلى المعارض؛ لقوله تعالى: (ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ) في معرض الثناء عليهما200.
ثانيًا: واقعة المائة نعجة:
إذ تسور على داود محرابه رجلان متخاصمان، (ﮁ ﮂ ﮄ ﮅ ﮆﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ) [ص: ٢٢].
فقال أحدهما: إن هذا أخي له تسع وتسعون من النعاج، وليس عندي إلا نعجة واحدة، فطمع فيها وقال: أعطنيها، وغلبني بحجته.
وسأله أن يعطيه نعجته، ولما رأى منه تمنعًا اشتد عليه بالكلام وهدده، فأظهر الخصم المشتكي أنه يحافظ على أواصر القرابة، فشكاه إلى الملك. وبهذا يتبين أن موضع هذا التحاكم طلب الإنصاف في معاملة القرابة؛ لئلا يفضي الخلاف بينهم إلى التواثب، فتنقطع أواصر المبرة والرحمة بينهم.
وقد علم داود من تساوقها للخصومة، ومن سكوت أحد الخصمين، أنهما متقاربان على ما وصفه الحاكي منهما، أو كان المدعى عليه قد اعترف، فحكم داود بأن سؤال الأخ أخاه نعجته ظلم؛ لأن السائل في غنى عنها، والمسؤول ليس له غيرها، فرغبة السائل فيما بيد أخيه من فرط الحرص على المال، واجتلاب النفع للنفس بدون اكتراث بنفع الآخر. وهذا ليس من شأن التحاب بين الأخوين، والإنصاف منهما فهو ظلم، وما كان من الحق أن يسأله ذلك، أعطاه أو منعه، ولأنه تطاول عليه في الخطاب، ولامه على عدم سماح نفسه بالنعجة، وهذا ظلم أيضًا201.
فقال داود: (ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ) [ص: ٢٤].
قال ابن كثير رحمه الله: قد ذكر المفسرون هاهنا قصة أكثرها مأخوذ من الإسرائيليات، ولم يثبت فيها عن المعصوم حديث يجب اتباعه، ولكن روى ابن أبي حاتم هنا حديثا لا يصح سنده؛ لأنه من رواية يزيد الرقاشي عن أنس - ويزيد وإن كان من الصالحين - لكنه ضعيف الحديث عند الأئمة، فالأولى أن يقتصر على مجرد تلاوة هذه القصة، وأن يرد علمها إلى الله عز وجل، فإن القرآن حق، وما تضمن فهو حق أيضًا202.
وفي قول الهدهد لسليمان عليه السلام: (ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ) [النمل: ٢٢].
تنبيه لسليمان بأن في مخلوقات الله ممالك وملوكًا تداني ملكه، أو تفوقه في بعض أحوال الملك، جعله الله مثلًا له، كما جعل علم الخضر مثلًا لموسى عليه السلام، لئلا يغتر بانتهاء الأمر إلى ما بلغه هو.
وفيه استدعاء لإقباله على ما سيلقى إليه، لأهمية هذا المطلع في الكلام، فإن معرفة أحوال الممالك والأمم من أهم ما يعنى به ملوك الصلاح، ليكونوا على استعداد بما يفاجئهم من تلقائها، ولتكون من دواعي الازدياد من العمل النافع للمملكة، بالاقتداء بالنافع من أحوال غيرها، والانقباض عما في أحوال المملكة من الخلل، بمشاهدة آثار مثله في غيرها203.
وكان من منهج سليمان عليه السلام في حكمه فيما يتعلق بشأن ملكة سبأ مايلي:
ولا يدل قوله: (ﭔ) على جواز أن تكون المرأة ملكة ؛ لأن ذلك كان من فعل قوم بلقيس، وهم كفار، فلا حجة في ذلك208.
وفي صحيح البخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بلغه أن أهل فارس قد ملكوا بنت كسرى قال: (لن يفلح قومٌ ولوا أمرهم امرأةً)209.
وكذلك كان، فإنهم لم يستقم لهم أمر، والفلاح الفوز بالمطلوب والتدبير يحتاج إلى كمال الرأي، ونقص المرأة مانع، وفي الحديث دليل على أن المرأة لا تلي الإمارة ولا القضاء ولا عقد النكاح210.
ثانيًا: يوسف عليه السلام:
اصطفى الله تعالى نبيه يوسف للنبوة، وتعرض عليه السلام لمحن وابتلاءات عدة منذ صغره، وكان لهذه المحن أثرها في تكوين شخصيته وحنكته السياسية والإدارية، مما صار به بعد ذلك إلى تولي مقاليد الأمور في مصر ، فسار فيها على أطيب وجه وأحسنه.
وقد قال الله تعالى عن يوسف عليه السلام مبينًا صفاته التي اتصف بها: (ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺﯻ ﯼ ﯽ ﯾ) [يوسف: ٢٢].
هذا إخبار عن اصطفاء يوسف عليه السلام للنبوة، ذكر هنا في ذكر مبدأ حلوله بمصر لمناسبة ذكر منة الله عليه بتمكينه في الأرض، وتعليمه تأويل الأحاديث.
والأشد: القوة. وفسر ببلوغه ما بين خمس وثلاثين سنة إلى أربعين.
وإنما جعل بلوغ الأشد علة، لأنه أقوى أطوار الإنسان وأجلى مظاهر مواهبه في الجسم والعقل، وهو الجانب الأهم، فجعل «الأشد» كأنه الغاية المقصودة من تطويره، والأشد: سن الفتوة واستجماع القوى.
والحكم والحكمة مترادفان، وهو: علم حقائق الأشياء والعمل بالصالح واجتناب ضده. وأريد به هنا النبوة ، كما في قوله تعالى في ذكر داود وسليمان عليهما السلام: (ﮩ ﮪ ﮫ ﮬﮭ) والمراد بالعلم علم زائد على النبوة.
وتنكير (ﮬﮭ) للنوعية، أو للتعظيم. والمراد: علم تعبير الرؤيا، كما سيأتي في قوله تعالى عنه: (ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ)211 [يوسف: ٣٧].
وقال سبحانه: (ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ) [يوسف: ٥٦].
ويكنى بالتمكين عن الإقدار وإطلاق التصرف، لأن صاحب المكان يتصرف في مكانه وبيته، ثم يطلق على التثبيت والتقوية والاستقلال بالأمر. ويقال: هو مكين بمعنى ممكن، فعيل بمعنى مفعول. قال تعالى: (ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ) [يوسف: ٥٤].
فهو كناية، أو هو مجاز مرسل مرتب على المعنى الكنائي. والتمكين في الأرض تقوية التصرف في منافع الأرض والاستظهار بأسباب الدنيا، بأن يكون في منعة من العدو، وفي سعة في الرزق وفي حسن حال، قال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ) [الكهف: ٨٤].
وقال: (ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ) [الحج: ٤١].
فمعنى مكنه: جعله متمكنًا، ومعنى مكن له: جعله متمكنًا لأجله، أي : رعيًا له، مثل حمده وحمد له212.
ولما تبينت له براءة يوسف وتحقق في القصة أمانته، وفهم أيضًا صبره وعلو همته، عظمت عنده منزلته، وتيقن حسن خلاله213.
قال ابن العربي في أحكامه: قوله: (ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ): أي: متمكن مما أردت، أمين على ما ائتمنت عليه من شيء؛ أما أمانته فلظهور براءته، وأما مكانته فلثبوت عفته ونزاهته214.
ولما فهم يوسف عليه السلام من الملك أنه عزم على تصريفه والاستعانة بنظره، قال: (ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ) [يوسف: ٥٥].
لما في ذلك من مصالح العباد، وطلب يوسف للعمل إنما هي حسبة منه عليه السلام في رغبته في أن يقع العدل، وجائز أيضًا للمرء أن يثني على نفسه بالحق، إذا جهل أمره، و (ﭷ): لفظ عام لجميع ما تختزنه المملكة من طعام ومال وغيره215.
فدلت الآية على جواز أن يطلب الإنسان عملًا يكون له أهلًا216.
وفي هذه الآية ما يبيح للرجل الفاضل أن يعمل للرجل الفاجر، والسلطان الكافر، بشرط أن يعلم أنه يفوض إليه في فعل لا يعارضه فيه، فيصلح منه ما شاء؛ وأما إذا كان عمله بحسب اختيار الفاجر وشهواته وفجوره، فلا يجوز ذلك.
قال الماوردي: فإن كان المولي ظالما فقد اختلف الناس في جواز الولاية من قبله على قولين: أحدهما: جوازها إذا عمل بالحق فيما تقلده؛ لأن يوسف ولي من قبل فرعون، ولأن الاعتبار في حقه بفعله لا بفعل غيره. الثاني: أنه لا يجوز ذلك؛ لما فيه من تولي الظالمين بالمعونة لهم، وتزكيتهم بتقلد أعمالهم.
قال الماوردي: والأصح من إطلاق هذين القولين أن يفصل ما يتولاه من جهة الظالم على ثلاثة أقسام:
أحدها: ما يجوز لأهله فعله من غير اجتهاد في تنفيذه، كالصدقات والزكوات، فيجوز توليه من جهة الظالم، لأن النص على مستحقه قد أغنى عن الاجتهاد فيه، وجواز تفرد أربابه به قد أغنى عن التقليد.
والقسم الثاني: ما لا يجوز أن يتفردوا به ويلزم الاجتهاد في مصرفه، كأموال الفيء، فلا يجوز توليه من جهة الظالم؛ لأنه يتصرف بغير حق، ويجتهد فيما لا يستحق.
والقسم الثالث: ما يجوز أن يتولاه لأهله، وللاجتهاد فيه مدخل كالقضايا والأحكام، فعقد التقليد محلول، فإن كان النظر تنفيذًا للحكم بين متراضيين، وتوسطًا بين مجبورين جاز، وإن كان إلزام إجبار لم يجز217.
ومن مقومات الحكم والسياسة التي يمكن أن نستخلصها من قصة نبي الله يوسف عليه السلام ما يلي:
أولًا: طلبه للإمارة حين وجد نفسه كفئًا لها، ولم يكن في عصره من هو مثله. وذلك أن الملك لما تبينت له براءة يوسف مما نسب إليه، وتحقق في القصة أمانته، وفهم أيضًا صبره وجلده، عظمت منزلته عنده وتيقن حسن خلاله، فقال: (ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ)218 [يوسف: ٥٤]، فقال يوسف عليه السلام: (ﭵ ﭶ ﭷ ﭸﭹ ﭺ ﭻ ﭼ) [يوسف: ٥٥].
أي: أمين أحفظ ما تستحفظنيه، عالم بوجوه التصرف، وصفا لنفسه بالأمانة والكفاية اللتين هما طلبة الملوك ممن يولونه، وإنما قال ذلك؛ ليتوصل إلى إمضاء أحكام الله تعالى، وإقامة الحق وبسط العدل، والتمكن مما لأجله تبعث الأنبياء إلى العباد، ولعلمه أن أحدًا غيره لا يقوم مقامه في ذلك، فطلب التولية ابتغاء وجه الله ، لا لحب الملك والدنيا219.
ثانيًا: أدار شؤون البلاد في المراحل الحرجة، وذلك بالادخار من الرخاء للشدة والعسر لليسر.
قال تعالى: (ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ) [يوسف: ٤٧ -٤٩].
وذلك أن أرض مصر لا يبقى فيها الطعام عامين، فعلمهم حيلة يبقى بها من السنين المخصبة إلى السنين المجدبة، وهي أن يتركوه في سنبله غير مدروس، فإن الحبة إذا بقيت في غشائها انحفظت (ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ) أي: لا تدرسوا منه إلا ما يحتاج إلى الأكل خاصة220.
وفي هذا دليل على أنه ينبغي للحاكم مراعاة الحالة الاقتصادية للناس والبلاد، والادخار في أيام الرخاء لأيام الشدة.
ثالثًا: تعامله في قضية الصواع بحكمة وذكاء في قوله تعالى: (ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ) [يوسف: ٧٢].
إلى قوله تعالى: (ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞﮟ ﮠ ﮡ ﮢﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ) [يوسف: ٧٦].
وصواع الملك: إناء كان يشرب به ويكال به، ويقال له: الصاع، ويذكر ويؤنث221.
وتعد هذه الآية أصل في الجعالة، وذلك أن يوسف عليه السلام أمر عماله أن يخبئوا الصاع في متاع أخيه، وفي ذلك أيضًا دليل على جواز الحيل المشروعة.
رابعًا: عفوه وصفحه في قضيته مع إخوته مع قدرته ومكانته، وتعامله معهم بالحكمة واللين والكياسة. قال تعالى: (ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓﯔ ﯕ ﯖ ﯗﯘ ﯙ ﯚ ﯛ) [يوسف: ٩٢].
رابعًا: ذو القرنين:
وهو رجل آتاه الله من القوة والملك ما جعله يجوب أقطار الأرض ويصل إلى مواقع غريبة، وقد اختلف المفسرون في شخصيته، فذهب بعضهم إلى أنه الإسكندر222.
وقد بلغ ملكه إلى أقصى المغرب وإلى أقصى المشرق وإلى أقصى الشمال، بدليل أن يأجوج ومأجوج قوم من الترك يسكنون في أقصى الشمال، وهذا الذي بلغه ملك هذا الرجل هو نهاية المعمور من الأرض، ومن بلغ ملكه إلى هذا الحد ليس إلا الإسكندر، فوجب القطع أن المراد بذي القرنين هو الإسكندر بن فيلفوس اليوناني المقدوني223.
ولم يتجاوز القرآن ذكر هذا الرجل بأكثر من لقبه المشتهر به، إلى تعيين اسمه وبلاده وقومه ؛ لأن ذلك من شؤون أهل التاريخ والقصص، وليس من أغراض القرآن، فكان منه الاقتصار على ما يفيد الأمة من هذه القصة عبرة حكمية أو خلقية224.
قال الله تعالى عن ذي القرنين: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ) [الكهف: ٨٤].
وقد آتاه الله من كل شيء يحتاج إليه في الوصول إلى أغراضه (ﭚ) أي: طريقًا موصلًا إليه، والسبب ما يتوصل به إلى المقصود، من علم أو قدرة أو آلة، فأراد بلوغ المغرب (ﭜ ﭝ) [الكهف: ٨٥].
يوصله إليه حتى بلغ، وكذلك أراد المشرق (ﭜ ﭝ) وأراد بلوغ السدين (ﭜ ﭝ) وأصل السبب الحبل، ثم توسع فيه حتى صار يطلق على ما يتوصل به إلى المقصود225.
وسياسة ذي القرنين تتمثل لنا من خلال قصته في سورة الكهف في الآتي:
أولًا: كان مثالًا للحاكم المجتهد والقائم بالعمل بنفسه لما يتطلبه الأمر، في الانتقال من موضع لآخر، بحثًا عن إسعاد الآخرين، وتتبعًا لأحوال الناس، واستثمارًا للقوة التي منحه الله تعالى إياها. وذلك في قوله تعالى: (ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ) [الكهف: ٨٥-٨٦].
وقوله: (ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ) [الكهف: ٨٩-٩٠].
وقوله: (ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ) [الكهف: ٩٢-٩٣].
ثانيًا: حرص على إنصاف المظلوم من الظالم، ومنع الفساد في الأرض، وذلك ببناء السد ليحجز يأجوج ومأجوج عن الناس، ولا يجعل لهم طريقًا إليهم.
قال تعالى: (ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ) [الكهف: ٩٤].
ثالثًا: أراد من قومه أن يكونوا متعاونين معه، وأشركهم في العمل واستعان بهم، فلم يجعلهم شعبًا متواكلًا يعتمد على قوة غيره، وذلك في قوله: (ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ) [الكهف: ٩٥].
رابعًا: اعترافه بنعمة الله عليه، وثناؤه عليه، بقوله: (ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ) [الكهف: ٩٥].
خامسًا: أنه بين معالم سياسته بوضوح في هؤلاء القوم ، وذلك في قوله: (ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ) [الكهف: ٨٦].
فكان الرد(ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ) [الكهف: ٨٧].
فالله تعالى مَكَّنَه منهم وحَكَّمَه فيهم، وأظفره بهم، وخَيَّرَه: إن شاء قتل وسبى، وإن شاء مَنَّ أو فدى، فعرف عدله وإيمانه في قوله: (ﭺ ﭻ ﭼ) أي: من استمر على كفره وشركه بربه (ﭽﭾ) قيل: بالقتل، وقيل: غير ذلك. وقوله: (ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ) أي: شديدًا بليغًا وجيعًا أليمًا. وفيه إثبات المعاد والجزاء.
وقوله: (ﮇ ﮈ ﮉ) أي: تابعنا على ما ندعوه إليه من عبادة الله وحده لا شريك له (ﮌ ﮍ ﮎﮏ) أي: في الدار الآخرة عند الله عز وجل، (ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ) قال مجاهد: معروفًا226.
فبين معالم سياسته في حكمهم أن من يستحق العقوبة يعاقب عقابًا دنيويًا، ولا يغنيه ذلك عن عقاب الآخرة.
خامسًا: ملكة سبأ:
ويظهر السياق القرآني أبرز ملامح السياسة عند ملكة سبأ في ما يلي:
وسبأ: هم حمير، وهم ملوك اليمن227.
واسم ملكة سبأ: بلقيس بنت الشيرح، وقيل: شراحيل بن ذي حدن بن اليشرج بن الحرث بن قيس بن صفى بن سبأ بن يشخب بن يعرب بن قحطان. وكان أبو بلقيس الذي يسمى الشيرج، ويلقب بالهدهاد، ملكًا عظيم الشأن، وكان يملك أرض اليمن كلها228.
(ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ) من متاع الدنيا ما يحتاج إليه الملك المتمكن، (ﭙ ﭚ ﭛ) أي: سرير تجلس عليه، عظيم هائل مزخرف بالذهب، وأنواع الجواهر واللآلئ229.
وكان لها قصر عظيم، قد وضع بناؤه على أن تدخل الشمس كل يوم من طاقة، وتغرب من مقابلتها، فيسجدون لها صباحًا ومساءً؛ ولهذا قال تعالى: (ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ) [النمل: ٢٤].
ويمكننا استنباط معالم السياسة الرشيدة في النماذج القرآنية من خلال ما سبق فيما يلي:
العلاقة السياسية بين الدول لها أهمية كبيرة في الإسلام، حيث أولاها عناية واضحة من خلال نصوص الكتاب والسنة، وقد اهتم الرسول صلى الله عليه وسلم بها في حياته، وسار على نهجه الخلفاء الراشدون من بعده.
وأشير هنا إلى هذه العلاقة على النحو الآتي:
أولًا: الدول الإسلامية:
بالنظر إلى العلاقة السياسية بين الدول الإسلامية نجد أنها تتمثل في بعض آيات الكتاب العزيز، منها:
قوله تعالى: (ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ) [الحجرات: ١٠].
وقوله تعالى: (ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ) [التوبة: ٧١].
هذه الموالاة: هي المؤازرة، والمعاونة، واتصال الأيدي230.
والولاء والتوالي: أن يحصل شيئان فصاعدًا حصولًا ليس بينهما ما ليس منهما، ويستعار ذلك للقرب من حيث المكان، ومن حيث النسبة، ومن حيث الدين، ومن حيث الصداقة والنصرة والاعتقاد، والولاية النصرة، والولاية تولي الأمر231.
ومقتضى هذه الولاية بين الدول الإسلامية، التعاون والتناصر على جميع المستويات، وفي شتى المجالات، سواء كان تعاونًا اقتصاديًا أو علميًا أو طبيًا أو غير ذلك.
وقوله تعالى: (ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ) [الأنفال: ٧٢].
كما أن من مقتضى الولاية بين الدول الإسلامية، التناصر فيما بينهم، والتعاون العسكري والدفاعي عن بلدان المسلمين، فالمسلمون كالجسد الواحد، والجهاد إنما يجب -إذا داهم العدو المسلمين- على أهل تلك البلدة، فإن عجزوا فمن حولهم، وهكذا قال ابن قدامة: (ومن حضر الصف من أهل فرض الجهاد، أو حضر العدو بلده، تعين عليه)232.
فالجهاد فرض عين في موضعين:
أحدهما: إذا التقى الزحفان وهو حاضر.
والثاني: إذا نزل الكفار بلد المسلمين، تعين على أهله النفير إليهم.
هذا في أهل الناحية ومن بقربهم، أما البعيد على مسافة القصر، فلا يجب عليه، إلا إذا لم يكن دونهم كفاية من المسلمين. فمفهوم قوله: (أو حضر العدو بلده) أنه لا يلزم البعيد. وهو صحيح، إلا أن تدعو حاجة لحضوره، كعدم كفاية الحاضرين للعدو، فيتعين أيضًا على البعيد233.
وفي روضة الطالبين: الجهاد الذي هو فرض عين، إذا وطىء الكفار بلدة للمسلمين، أو أطلوا عليها ونزلوا بابها قاصدين ولم يدخلوا، صار الجهاد فرض عين، وعن ابن أبي هريرة وغيره أنه يبقى فرض كفاية، والصحيح الأول، فيتعين على أهل تلك البلدة الدفع بما أمكنهم234.
وبهذا يتبين لنا أن علاقة المسلمين بعضهم ببعض تقوم على الولاء والنصرة والمعاونة، ومن صور التعاون المعاصرة التي حرصت عليها الدول الإسلامية: الدفاع المشترك، والتعاون السياسي والحربي، ونحو ذلك.
ثانيًا: الدول غير الإسلامية:
يمكن استتنباط جوانب العلاقة السياسية بين الدول غير الإسلامية من خلال الآيات الآتية:
قال الله تعالى: (ﮎﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ) [الفتح: ١٨].
وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم أسس المعاهدات والمواثيق للدولة الإسلامية في علاقاتها سواء مع الدول الإسلامية الأخرى أو الدول غير الإسلامية، والمسلمون عاهدوا الله في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم عدة عهود:
أولها: عهد الإسلام.
ومنها: عهد المسلمين عندما يلاقون الرسول صلى الله عليه وسلم وهو البيعة، أن لا يشركوا بالله شيئًا، ولا يسرقوا، ولا يزنوا، ولا يقتلوا أولادهم، ولا يأتوا ببهتان يفترونه بين أيديهم وأرجلهم، ولا يعصونه في معروف، وهو عين العهد الذي ذكره القرآن في سورة الممتحنة عند ذكر بيعة النساء المؤمنات، كما ورد في الصحيح أنه كان يبايع المؤمنين على مثل ذلك.
ومنها: بيعة الأنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم في موسم الحج سنة ثلاث عشرة من البعثة قبل الهجرة، وكانوا ثلاثة وسبعين رجلًا التقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الموسم في العقبة، ومعهم العباس بن عبد المطلب، فبايعوا على أن يمنعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يمنعون نساءهم وأبناءهم، وعلى أنهم يأوونه إذا هاجر إليهم.
وقد تقدم هذه البيعة بيعتان:
إحداهما: سنة إحدى عشرة من البعثة، بايعه نفر من الخزرج في موسم الحج.
والثانية: سنة اثنتي عشرة من البعثة، بايع اثنا عشر رجلًا من الخزرج في موسم الحج بالعقبة ليبلغوا الإسلام إلى قومهم.
ومن المواثيق: ميثاق بيعة الرضوان في الحديبية تحت الشجرة سنة ست من الهجرة، وفي كل ذلك واثقوا على السمع والطاعة في المنشط والمكره235.
وقال تعالى: (ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ) [الممتحنة: ٨-٩].
فيه دليل على جواز التصدق على أهل الذمة دون أهل الحرب، ووجوب النفقة للأب الكافر الذمي، وأما الحربي فيجب قتله236.
وفيه نص صريح على عدم النهي المذكور في خصوص من لم يعادوهم في الدين237.
وقوله تعالى: (ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ) [البقرة: ١٩٠].
فقال الربيع بن أنس: أول آية نزلت في الإذن بالقتال في المدينة، وقال آخرون: نزلت هذه الآية في صلح الحديبية، فإنه صلى الله عليه وسلم لما انصرف من صلح الحديبية إلى المدينة، حين صده المشركون عن البيت، صالحهم على أن يرجع عامه القابل، ويخلو له مكة ثلاثة أيام، فلما كان في العام القابل، تجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه لعمرة القضاء، وخافوا أن لا تفي لهم قريش، وأن يصدوهم عن البيت ويقاتلونهم، وكره أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قتالهم في الشهر الحرام في الحرم، فأنزل الله تعالى: (ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ) يعني: قريشًا الذين صالحوهم، (ﯵ ﯶ) فنبذوا في الحرم بالقتال238.
وقال تعالى: (ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ) [الأنفال: ٤٧].
جيء في نهيهم عن البطر والرئاء بطريقة النهي عن التشبه بالمشركين، إدماجًا للتشنيع بالمشركين وأحوالهم، وتكريهًا للمسلمين تلك الأحوال ؛ لأن الأحوال الذميمة تتضح مذمتها، وتنكشف مزيد الانكشاف إذا كانت من أحوال قوم مذمومين عند آخرين، وذلك أبلغ في النهي، وأكشف لقبح المنهي عنه. فنهوا عن أن يشبهوا حال المشركين في خروجهم لبدر إذ خرجوا بطرًا ورئاء الناس، لأن حق كل مسلم أن يريد بكل قول وعمل وجه الله، والجهاد من أعظم الأعمال الدينية239.
وقال تعالى: (ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ) [الأنفال: ٥٦].
والمعاهدة في هذه الآية المسالمة وترك الحرب، وأجمع المتأولون أن الآية نزلت في بني قريظة، وهي بعد تعم كل من اتصف بهذه الصفة إلى يوم القيامة240. والقاعدة: أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
وقال تعالى: (ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ) [الأنفال: ٥٨].
أباح الله لرسوله صلى الله عليه وسلم إذا توقع من أعدائه غائلة من مكر، أن ينبذ إليهم على سواء، حتى لا يقول المبطل: إنك نقضت العهد بنصب الحرب، ولم ينبذ إلى أهل مكة عهودهم، بل غزاهم نبذًا، لأنهم كانوا نقضوا العهد، لمعاونة هذيل على خزاعة حلفاء النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك جاء أبو سفيان إلى المدينة يسأل تجديد العهد بينه وبين قريش، فلم يجبه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ذلك، فلأجل ذلك لم يحتج إلى النبذ إليهم، إذ كانوا أظهروا نقض العهد بنصب الحرب لحلفاء الرسول صلى الله عليه وسلم241.
قال ابن كثير: أذن الله لنبيه صلى الله عليه وسلم بقوله: (ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ) قد عاهدتهم (ﮡ) أي: نقضًا لما بينك وبينهم من المواثيق والعهود، (ﮢ ﮣ) أي: عهدهم، (ﮤ ﮥ) أي: أعلمهم بأنك قد نقضت عهدهم، حتى يبقى علمك وعلمهم بأنك حرب لهم، وهم حرب لك، وأنه لا عهد بينك وبينهم على السواء، أي: تستوي أنت وهم في ذلك242.
وقال تعالى: (ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ) [الأنفال: ٦١].
أمر الله المسلمين بأن لا يأنفوا من السلم، وأن يوافقوا من سأله منهم. والجنوح: الميل، وهو مشتق من جناح الطائر: لأن الطائر إذا أراد النزول مال بأحد جناحيه، وهو جناح جانبه الذي ينزل منه243.
وقال تعالى: (ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ) [التوبة: ٤].
قال ابن عباس: إن المشركين أخذوا في نقض عهودهم التي بينهم وبينه صلى الله عليه وسلم، فأمر الله تعالى نبيه فيمن كان عهده أربعة أشهر، أن يقره إلى مضي هذه المدة، وذلك من يوم النحر إلى عشر من شهر ربيع الآخر، ومن كان له من العهد أكثر، أمر أن يحط إلى ذلك، ومن كان أقل، أمر أن يرجع به إلى هذا القدر، ومن لم يكن له عهد، أمر أن يجعل له خمسين ليلة من يوم النحر إلى انسلاخ المحرم، إلا حي من بني كنانة، كان قد بقي من عهدهم تسعة أشهر، فأمر الله تعالى أن يتم عهدهم إلى مدتهم، وهو معنى قوله: (ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ)244.
لما كان طلب السلم والهدنة من العدو قد يكون خديعة حربية، ليغروا المسلمين بالمصالحة، ثم يأخذوهم على غرة، أيقظ الله رسوله لهذا الاحتمال، فأمره بأن يأخذ الأعداء على ظاهر حالهم، ويحملهم على الصدق، لأنه الخلق الإسلامي، وشأن أهل المروءة، ولا تكون الخديعة بمثل نكث العهد. فإذا بعث العدو كفرهم على ارتكاب مثل هذا التسفل، فإن الله تكفل للوفي بعهده، أن يقيه شر خيانة الخائنين. وهذا الأصل، وهو أخذ الناس بظواهرهم، شعبة من شعب دين الإسلام، قال تعالى: (ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ) ومن أحكام الجهاد عن المسلمين أن لا يخفر للعدو بعهد245.
وفي الكلام تنويه بمعالي أخلاق المسلمين، وغض من أخلاق أهل الشرك، وأن سبب ذلك الغض الإشراك الذي يفسد الأخلاق، ولذلك قال تعالى: (ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ) [التوبة: ٦] جعلوا قوما لا يعلمون دون أن يقال بأنهم لا يعلمون: للإشارة إلى أن نفي العلم مطرد فيهم، فيشير إلى أن سبب اطراده فيهم، هو نشأته عن الفكرة الجامعة لأشتاتهم، وهي عقيدة الإشراك.
والعلم في كلام العرب، بمعنى: العقل وأصالة الرأي، وأن عقيدة الشرك مضادة لذلك، أي: كيف يعبد ذو الرأي حجرًا صنعه وهو يعلم أنه لا يغني عنه-1.
وقال سبحانه: (ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ) [الإنسان: ٨].
والأسير في دار الإسلام لا يكون إلا مشركًا-1.
فإذا كان الإحسان إلى العدو الحربي الأسير حث عليه القرآن، وشرعه الإسلام، فإن غير الحربي من باب أولى وأحرى.
موضوعات ذات صلة: |
الاقتصاد، التمكين، الجهاد، الحضارة، الحرية، الخلافة، الشورى، العدل |
1 لسان العرب، ابن منظور ٦/١٠٧.
2 انظر: المصدر السابق ٦/٤٢٩-٤٣٠.
3 انظر: البحر الرائق ٥/٧٦.
4 انظر: الكليات، الكفوي ص٥١٠، حاشية ابن عابدين ٤/١٥.
5 انظر: طلبة الطلبة ص٣٠٢.
6 انظر: حاشية البجيرمي على شرح منهج الطلاب ٢/١٧٨.
7 انظر: مفاهيم سياسية لحزب التحرير ص٥.
8 انظر: النظم الإسلامية، حسين الحاج ص٤٤.
9 انظر: موقع المعجم القانوني.
10 معجم اللغة العربية المعاصرة، أحمد مختار ٢/١١٣٤.
11 انظر: مقاييس اللغة، ابن فارس ٥/٢٨١.
12 انظر: المفردات، الراغب الأصفهاني ص٤٧٢، عمدة الحفاظ، السمين الحلبي ٤/١٢٥.
13 انظر: المفردات، الراغب الأصفهاني ص٤٧٢.
14 انظر: مختار الصحاح، الرازي ص١٦٧، تاج العروس، الزبيدي ٣١/٥١٠.
15 المفردات، الراغب الأصفهاني ص١٢٦.
16 انظر: المحكم والمحيط الأعظم، ابن سيده ١٠/٥٧٢.
17 الكليات، الكفوي ص٢٦٧.
18 روضة الطالبين، النووي ١٠/ ٤٩.
19 انظر: العقيدة الإسلامية وأسسها ص٢٥٣.
20 انظر: المصدر السابق ص٢٥٤.
21 انظر: تاريخ التشريع الإسلامي، مناع القطان ص١٣-١٤.
22 انظر: التحرير والتنوير ٢٥/١١٨.
23 انظر: التحرير والتنوير ٦/٢٠٧، فتح القدير ٤/٧٥٤.
24 انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية ٥/٣٠٧.
25 انظر: أضواء البيان، الشنقيطي ٨/٤٥٢.
26 انظر: التحرير والتنوير، ابن عاشور ٨/١٥٨.
27 انظر: أضواء البيان، الشنقيطي ١/٢٤٤.
28 انظر: المصدر السابق.
29 انظر: تفسير القرآن العظيم ٧/١٩٨.
30 انظر: البحر المحيط ٣/٢٩٦.
31 انظر: جامع البيان ٨/٥٢٤.
32 انظر: مفاتيح الغيب ١/١٤٨٢.
33 انظر: تفسير القرآن العظيم ٢/٣٤٦.
34 انظر: الوجيز، الواحدي ٢/١٠١٥.
35 انظر: الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ١٦/١٩٩.
36 هناك فرق بين صرف العبادة لغير الله، وبين مخالفة حكم الله وشرعه، فالأول يكون مشركًا شركًا أكبر، والثاني يأثم بفعله ويفسق، ولو عد شركًا للزم من ذلك التكفير بالذنوب والمعاصي، وهو أشد من قول الخوارج: في التكفير بالكبيرة، والله أعلم.
37 انظر: القاموس المحيط، الفيروزآبادي ص١٠٣٠، المصباح المنير، الفيومي ص٢٠٦.
38 انظر: التحرير والتنوير، ابن عاشور ٤/١٦٢-١٦٣.
39 انظر: المنهج المسلوك في سياسة الملوك ١/٢٤٢.
40 انظر: التحرير والتنوير ٤/١٦٣.
41 انظر: القواعد الحسان في تفسير القرآن ص١٠٧-١٠٨.
42 انظر: أنوار التنزيل، البيضاوي ١/٢٠٥.
43 جامع البيان ٨/٤٩٢.
44 انظر: اللباب في علوم الكتاب ٦/٤٣٩.
45 انظر: المصدر السابق ١٢/١٤١.
46 انظر: جامع البيان ١٧/٢٨٠.
47 انظر: الكشف والبيان، الثعلبي ٦/٣٧.
48 انظر: التحرير والتنوير ١٣/٢٠٥.
49 انظر: المفردات، الراغب الأصفهاني ص١١٩.
50 انظر: التحرير والتنوير، ابن عاشور ٢٦/٢٠١-٢٠٢.
51 انظر: أضواء البيان ٣/٥٠.
52 انظر: التحرير والتنوير، ابن عاشور ١٣/٢٠٥.
53 انظر: الكشاف، الزمخشري ١/٦٤٧.
54 مجموع فتاوى ابن تيمية ١/٢٩٤.
55 التحرير والتنوير ٤/١٦٣.
56 المفردات، الراغب الأصفهاني ص٢٧٠.
57 أحكام القرآن، ابن العربي ١/٣٨٩.
58 انظر: مناهج الشريعة الإسلامية ص٢/١٢٨.
59 الخلافة ص٣٨.
60 انظر: المحرر الوجير ١/٥٦٥.
61 الجامع لأحكام القرآن ٤/٢٤٩.
62 انظر: التحرير والتنوير، ابن عاشور ٣/٢٦٨-٢٦٩.
63 الجامع لأحكام القرآن ١٣/١٢٩-١٣٠.
64 انظر: في ظلال القرآن، سيد قطب ٥/٣١٦٠.
65 انظر: المحرر الوجيز، ابن عطية ١/٥٦٥، الجامع لأحكام القرآن ٤/١٦١، أحكام القرآن، الجصاص ٥/٢٦٣.
66 انظر: التحرير والتنوير ٤/١٤٩.
67 شرح صحيح مسلم ٤/٦٧.
68 أخرجه ابن ماجه في سننه، كتاب الأدب، باب المستشار مؤتمن، ٢/١٢٣٣، رقم٣٧٤٧.
وصحح إسناده الحافظ في تغليق التعليق ٣/٢٥٣.
69 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب العلم، باب من سئل علمًا وهو مشتغل في حديثه فأتم حديثه ثم أجاب السائل، ١/٣٣، رقم ٥٩.
70 انظر: كشف المشكل من حديث الصحيحين ١/١٠٠٩.
71 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب العتق، باب كراهية التطاول على الرقيق ، وقوله : عبدي وأمتي، ٢/٩٠١، رقم ٢٤١٦.
72 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب استحقاق الوالي الغاش لرعيته النار، ١/٨٨، رقم ٣٨٣.
73 انظر: أضواء البيان، الشنقيطي ٨/٤٥٧.
74 انظر: التحرير والتنوير، ابن عاشور ١٨/١٤.
75 انظر: البحر المحيط، أبو حيان ٦/٣٦٧.
76 التحرير والتنوير ٢/٥٨٦.
77 القواعد الحسان في تفسير القرآن ص١٠٧.
78 أضواء البيان ٦/٢٥٨.
79 انظر: البحر المحيط ٥/٢٨٥.
80 انظر: قضايا العصر ومشكلات الفكر تحت ضوء الإسلام، أنور الجندي ص١٧٦-١٧٧.
81 التحرير والتنوير ٢/٤٩٩.
82 انظر: المفردات، الراغب الأصفهاني ١/٣١٠.
83 انظر: من قواعد النظام السياسي في القرآن ص٦.
84 انظر: الجامع لأحكام القرآن ٥/٢٦١، مرقاة المفاتيح، الملا علي القاري ٧/٢٢٥.
85 أضواء البيان ٧/٣٠٤.
86 انظر: جامع البيان ٨/٥٠٣.
87 أخرجه الترمذي في سننه، أبواب تفسير القرآن، ١٠ ٥/٢٧٨، رقم ٣٠٩٥.
قال الترمذي: حسن غريب.
وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، ٧/٨٦١، رقم ٣٢٩٣.
88 انظر: فتح المجيد شرح كتاب التوحيد، ابن حسن ص١٣٤.
89 انظر: الفقه الإسلامي وأدلته ٨/٤٦٦.
90 انظر: الأحكام السلطانية ص٣.
91 انظر: أصول الدعوة ص٢٢١.
92 انظر: الأحكام السلطانية ص٢٢.
93 انظر: أسباب النزول، الواحدي ص٢٥١.
94 أضواء البيان، الشنقيطي ٢/١٤٥.
95 التحرير والتنوير، ابن عاشور ١٠/١٠٣.
96 انظر: الكشاف، الزمخشري ٣/١٧٥.
97 انظر: التحرير والتنوير ٣/٥٠٠-٥٠١.
98 انظر: المحرر الوجيز، ابن عطية ١/٢٤٨، معالم التنزيل، البغوي ١/٢١٣.
99 انظر: أضواء البيان، الشنقيطي ١/٤١٥.
100 انظر: التحرير والتنوير، ابن عاشور ٥/١٣٤.
101 التحرير والتنوير ٢/٣١٤-٣١٥.
102 انظر: الأحكام السلطانية، الماوردي ص٢٢.
103 انظر: الأحكام السلطانية ص٢٢، غياث الأمم، الجويني ص١٦١.
104 انظر: التحرير والتنوير ٨/٢٧٢.
105 انظر: المصدر السابق ٦/١٠٨، ١١/٣١٦.
106 انظر: روح المعاني، الألوسي ١/٢٢٢.
107 الجامع أحكام القرآن، القرطبي ٢/١٨٢.
108 أحكام القرآن، الكيا الهراسي ٢/٣٨٢.
109 انظر: الكشاف، الزمخشري ٤/٣٦٨.
110 انظر: أضواء البيان، الشنقيطي ١/٣٠٧.
111 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الصلح، باب ليس الكاذب الذي يصلح بين الناس، ٢/٩٥٨، رقم ٢٥٤٦، ومسلم في صحيحه، كتاب البر والصلة والأدب، باب تحريم الكذب وبيان ما يباح منه، ٤/٢٠١١، رقم ٢٦٠٥.
112 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الجهاد والسير ، باب جواز الخداع في الحرب، ٣/١٣٦١، رقم ١٧٣٩.
113 انظر: مصنف عبدالرزاق، رقم ٩٧٣٧، ٥/٣٦٧، الفتاوى الكبرى، ابن تيمية ٦/١٠٦، إعلام الموقعين، ابن القيم ٣/٢٤٠.
114 انظر: الكشاف، الزمخشري ٤/٣٦٩.
115 انظر: المصدر السابق ٢/١٢١.
116 انظر: المحرر الوجيز، ابن عطية ٢/٤٩٣.
117 إرشاد العقل السليم، أبو السعود ١/٤٣.
118 انظر: جامع البيان، الطبري ١/٧٥.
119 انظر: التحرير والتنوير، ابن عاشور ٤/٢٦٧.
120 انظر: المصدر السابق ١/٣٧.
121 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب صلاة المسافرين، باب جامع صلاة الليل، ١/٥١٢، رقم ٧٤٦.
122 أخرجه مالك في الموطأ من رواية يحيى الليثي رقم ١٦٠٩، ٢/٩٠٤.
وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة ١/١١٢.
123 انظر: الموافقات ٤/١٨١.
124 انظر: التحرير والتنوير، ابن عاشور ٣/١٧٤.
125 انظر: المصدر السابق.
126 انظر: الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٤/١٠٣.
127 انظر: أضواء البيان، الشنقيطي ٢/١٠٢.
128 المصدر السابق ٧/٦١.
129 التحرير والتنوير ١٨/٦٠.
130 انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية ١/٢٩٣.
131 انظر: الأحكام السلطانية ص٤٥.
132 انظر: مقاصد الشريعة، ابن عاشور ص٥١.
133 انظر: المصدر السابق ص٥١، ١٤٦.
134 انظر: مقاصد الشريعة، ابن عاشور ص ٥١، مقاصد التشريع الإسلامي، نور الدين الخادمي مجلة العدل، عدد ٦ ربيع الآخر ١٤٢١هـ.
135 أخرجه أحمد في مسنده، ٥/٢٦٦، رقم ٢٢٣٤٥.
وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة ٧/١٢٥.
136 انظر: المدخل لدراسة الشريعة الإسلامية، عبدالكريم زيدان ص٤٢.
137 انظر: المصدر السابق.
138 انظر: أحكام القرآن، الكيا الهراسي ١/٥٦.
139 انظر: أضواء البيان ، الشنقيطي ١/٤١٠.
140 انظر: أضواء البيان ٣/٣٢.
141 انظر: التحرير والتنوير ٢/١٤٣.
142 انظر: أضواء البيان ١/٤٢٦.
143 انظر: زاد المستقنع، الحجاوي ص١٩٥.
144 انظر: المدخل لدراسة الشريعة الإسلامية، عبدالكريم زيدان ص٤٢.
145 انظر: المصدر السابق.
146 انظر: الأحكام السلطانية، الماوردي ص٢٢، غياث الأمم، الجويني ص١٢٩.
147 انظر: الأحكام السلطانية ص٢٢.
148 انظر: البحر المحيط، أبو حيان ٢/٧٦.
149 انظر: تفسير القرآن العظيم ١/٥٢٦.
150 انظر: جامع البيان ٣/٥٧٣-٥٧٤.
151 انظر: النكت والعيون، الماوردي ١/٢٥١.
152 انظر: أضواء البيان ١/١٤٩.
153 انظر: البحر المحيط ٢/٦١.
154 انظر: التحرير والتنوير ٥/١٩٢.
155 البحر المحيط ٢/١٧.
156 التحرير والتنوير ٢/١٤٢.
157 انظر: مجموع فتاوى، ابن تيمية ٣/١٩١.
158 انظر: التحرير والتنوير ٤/١٠١.
159 انظر: المدخل لدراسة الشريعة الإسلامية، عبدالكريم زيدان ص٣٥.
160 انظر: التحرير والتنوير ١/٢٢١.
161 انظر: اللباب في علوم الكتاب، ابن عادل ٥/٢٧٨.
162 انظر: المصدر السابق ١٠/٣٣٢.
163 الجامع لأحكام القرآن ٥/١٨٧.
164 انظر: أضواء البيان، الشنقيطي ٧/٥٣.
165 انظر: المصدر السابق ٨/٥٦٤.
166 انظر: أحكام القرآن، الكيا الهراسي ٢/١٤١.
167 أخرجه البيهقي في السنن الكبرى، كتاب الشهادات، باب بيان مكارم الأخلاق ومعاليها التي من كان متخلقا بها كان من أهل المروءة التي هي شرط في قبول الشهادة على طريق الاختصار، ١٠/١٩٣، رقم ٢٠٥٧٨.
وصححه الألباني في صحيح الجامع ١/١٤.
168 أخرجه ابن ماجه في سننه، كتاب الزهد، باب ذكر الموت والاستعداد له، ٢/١٤٢٣، رقم ٤٢٥٩.
وحسنه الألباني في صحيح وضعيف الترغيب والترهيب ٣/١٦٤.
169 انظر: التحرير والتنوير ٨/٤٠١.
170 انظر: المصدر السابق ٢٩/٦١.
171 انظر: الجامع لأحكام القرآن ٧/٢١٩.
172 التحرير والتنوير ٢٥/٥٨.
173 انظر: لطائف الإشارات، القشيري ٧/١٤٣.
174 انظر: تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص٥٧.
175 انظر: أضواء البيان ٣/٥٠.
176 التحرير والتنوير ٢/٤٤٣.
177 انظر: أضواء البيان ٩/٩٦.
178 انظر: أضواء البيان ٢/٤٢٨.
179 انظر: الكشاف ٢/٥٨٦.
180 انظر: التحرير والتنوير ١/٣٦ ٥/٣١.
181 انظر: الجواهر الحسان، الثعالبي ١/٤٤٣.
182 انظر: الجامع لأحكام القرآن ٦/٢٧٠-٢٧١.
183 انظر: تفسير القرآن العظيم ٤/٤٢٧.
184 انظر: أضواء البيان ٣/٤٥ ٧/٤١٧.
185 انظر: المدخل لدراسة الشريعة الإسلامية، عبدالكريم زيدان ص٣٩-٤٠.
186 انظر: أضواء البيان ٢/٤١.
187 انظر: تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٢/٢٦.
188 انظر: المصدر السابق ٤/٤٧٧.
189 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التيمم، ١/١٢٨، رقم ٣٢٨، ومسلم في صحيحه، كتاب المساجد، ٢/٦٣، رقم ١١٩١.
190 انظر: أضواء البيان ٦/٣.
191 انظر: التحرير والتنوير ١٩/٦.
192 انظر: روح المعاني ١/٥٤.
193 انظر: تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ١/٦٦٩.
194 انظر: الكشف والبيان، الثعلبي ٧/١٩٣.
195 انظر: الجواهر الحسان، الثعالبي ٤/٣٤.
196 انظر: التحرير والتنوير، ابن عاشور ٢٣/١٢٧.
197 انظر: البحر المحيط، أبو حيان ٦/٣٠٦.
198 انظر: أضواء البيان، الشنقيطي ٤/١٧٠.
199 انظر: البحر المحيط ٣/٤١٣.
200 انظر: التحرير والتنوير ١٧/٨٥، ١٧/٨٧.
201 المصدر السابق ٢٣/١٣٥.
202 انظر: تفسير القرآن العظيم ٧/٦٠.
203 انظر: التحرير والتنوير ١٩/٢٤٨.
204 انظر: الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ١٣/١٢٦.
205 انظر: المصدر السابق ١٣/١٢٧.
206 انظر: روح المعاني، الألوسي ١٩/١٩٥.
207 الجامع لأحكام القرآن ١٣/١٢٧.
208 انظر: البحر المحيط ٧/٦٤.
209 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المغازي ، باب كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إى كسرى وقيصر ٤/١٦١٠، رقم ٤١٦٣.
210 انظر: كشف المشكل من حديث الصحيحين، ابن الجوزي ١/٣٢٥.
211 انظر: التحرير والتنوير ١٢/٤٤، ١٧/١٤٦.
212 انظر: المصدر السابق ٦/٢٠.
213 انظر: الجواهر الحسان ٢/٢٤٣.
214 انظر: أحكام القرآن، ابن العربي ٣/٥٨.
215 انظر: الجواهر الحسان ٢/٢٤٣.
216 انظر: الجامع لأحكام القرآن ٩/١٤١.
217 انظر: النكت والعيون، الماوردي ٣/٥٠.
218 انظر: المحرر الوجيز ٣/٢٦٤.
219 انظر: الكشاف ٢/٤٥٥.
220 انظر: التسهيل لعلوم التنزيل، ابن جزي ١/٧٣٧.
221 انظر: المفردات، الراغب الأصفهاني ص٢٩٠.
222 انظر: جامع البيان، الطبري ١٨/١٠٥، مفاتيح الغيب، الرازي ٢١/١٣٩، الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ١١/٣١.
223 انظر: المصادر السابقة.
224 انظر: التحرير والتنوير ١٥/١٢١.
225 انظر: البحر المحيط ٦/١٥١.
226 انظر: تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٥/١٩٣.
227 انظر: الكشف والبيان ، الثعلبي ٧/٢٠١.
228 انظر: تفسيرالقرآن العظيم ، ابن كثير ٦/١٨٦.
229 انظر: تفسير القرآن العظيم ٦/١٨٦-١٨٧.
230 انظر: المحرر الوجيز، ابن عطية ٢/٦٣٦، الجواهر الحسان، الثعالبي ٢/١١٢.
231 انظر: المفردات، الراغب الأصفهاني ص٥٣٣.
232 المقنع ص ٨٦.
233 انظر: الإنصاف، المرداوي ١٠/١٥.
234 انظر: روضة الطالبين، النووي ١٠/٢١٤.
235 انظر: التحرير والتنوير ٥/٥٤.
236 انظر: أحكام القرآن، الكيا الهراسي ٢/٤٠٩.
237 انظر: أضواء البيان ٨/٨١.
238 انظر: أحكام القرآن، الكيا الهراسي ١/٨٠.
239 انظر: التحرير والتنوير ٩/١٢٥.
240 انظر: المحرر الوجيز ٢/٦٢١.
241 انظر: أحكام القرآن، الكيا الهراسي ٢/١٦٢.
242 انظر: تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٤/٧٩.
243 انظر: التحرير والتنوير ٩/١٤٧.
244 انظر: أحكام القرآن، الكيا الهراسي ٢/١٧٢.
245 انظر: التحرير والتنوير ٩/١٥٠.
-1 انظر: التحرير والتنوير ١٠/٢٧.
-1 انظر: أحكام القرآن، الكيا الهراسي ٢/٤٢٨.