عناصر الموضوع

مفهوم السير

السير في الاستعمال القرآني

الألفاظ ذات الصلة بالسير

مجالات السير

مقاصد السير

أساليب الحث على السير للتأمل

المخاطبون بالسير للتأمل

السير

مفهوم السير

أولًا: المعنى اللغوي:

أصل مادة (س ي ر) تدل على مضي وجريان1.

سير: السين والياء والراء أصلٌ يدل على مضيٍ وجريانٍ، يقال سار يسير سيرًا ومسيرًا وتسيارًا ومسيرةً وسيرورةً، وذلك يكون ليلًا ونهارًا، أما السرى فلا يكون إلا ليلًا. والسير الذهاب، وسار القوم يسيرون سيرًا، إذا امتد بهم السير في وجهةٍ توجهوا إليها. والسيرة: الضرب من السير، والسَيرة بالفتح: الكثير السير، والسِيرة بالكسر: السنة والطريقة2.

ثانيًا: المعنى الاصطلاحي :

لا يختلف معناه الاصطلاحي عن معناه اللغوي، لذلك عرفه المناوي بقوله: «السير: المضي في الأرض»3.

السير في الاستعمال القرآني

وردت مادة (سير) في القرآن الكريم (٢٧) مرة، يخص موضوع البحث منها (٢٦) موضعًا 4.

والصيغ التي وردت، هي:

الصيغة

عدد المرات

المثال

الفعل الماضي

٤

( ) [القصص:٢٩]

الفعل المضارع

١٠

( ) [الحج:٤٦]

الفعل الأمر

٧

( ) [العنكبوت:٢٠]

المصدر

٢

( ) [سبأ:١٨]

صيغة المبالغة

٣

( ) [يوسف:١٩]

وجاء السير في الاستعمال القرآني على وجهين5:

الأول: المضي في الأرض، ويشمل السفر، ومنه قوله تعالى: (ﭖ ﭗ) [القصص: ٢٩] أي: مضى بهم وسافر من مدين إلى مصر.

الثاني: المقيت والمبيت ، ومنه قوله تعالى: (ﮍ ﮎ ﮏ) [سبأ: ١٨] أي: المقيت والمبيت، بمعنى: أنهم كانوا يقيلون ويبيتون ولا يخافون.

الألفاظ ذات الصلة بالسير

السعي:

السعي لغة:

وهو لفظ مشترك، يقال: سعى يسعى سعيًا: قصد ومشى وعدا ونم (من النميمة) وكسب6.

السعي اصطلاحًا:

السعي: «عدوٌ دون الشد، سعى إذا عدا، وسعى إذا مشى» 7.

الصلة بين السعي والسير:

كلاهما يدلان على المشي والحركة، إلا أن السعي في سرعة وقصد، والسير أوسع من ذلك.

المشي:

المشي لغة:

أصل مادة (م ش ي) تدل على الحركة والنماء والزيادة8، وجاء في اللسان: «المشي: معروف، مشى يمشي مشيًا، والاسم المشية» 9 .

المشي اصطلاحًا:

لا يختلف عن معناه اللغوي، لذا عرفه الراغب بقوله: «المشي: الانتقال من مكان إلى مكان بإرادة»10.

السعي لغة:

المشي والسير مترادفان.

الضرب:

الضرب لغة:

قال ابن فارس: «الضاد والراء والباء أصل واحد، ثم يستعار ويحمل عليه. من ذلك ضربت ضربًا، إذا أوقعت بغيرك ضربًا، ويستعار منه ويشبه به الضرب في الأرض تجارة وغيرها من السفر، قال الله تعالى: (ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ) [النساء: ١٠١]. ويقولون : إن الإسراع إلى السير ضربٌ» 11.

الضرب اصطلاحًا:

لا يختلف عن معناه اللغوي. قال الراغب: «الضرب في الأرض الذهاب فيها، هو ضربها بالأرجل»12.

الصلة بين الضرب والسير:

من معاني الضرب: السير، ومنه قوله تعالى: (ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ) [النساء: ٩٤] يعني: إذا سرتم. وقوله في المزمل: ( ﭻ ﭼ ﭽ) [المزمل: ٢٠]. أي: يسيرون في الأرض13. فالضرب في الأرض مرادفٌ للسير فيها.

السياحة:

السياحة لغة:

تدل مادة (س ي ح) على معنى الذهاب في الأرض، جاء في القاموس المحيط: «ساح الماء يسيح سيحًا وسيحانًا: جرى على وجه الأرض، والسيح: الماء الجاري الظاهر، والسياحة بالكسر والسيوح والسيحان والسيح: الذهاب في الأرض» 14.

السياحة اصطلاحًا:

لا يختلف معناها الاصطلاحي عن معناها اللغوي الدال على الذهاب في الأرض، والسير فيها.

الصلة بين السياحة والسير:

السياحة والسير مترادفان، وقد عبر القرآن الكريم عن الذهاب في الأرض بلفظ (السياحة) وبلفظ (السير)، فقال تعالى: (ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ) [التوبة: ٢].

وقال تعالى: ( ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰﯱ) [الحج:٤٦] .

مجالات السير

باستقراء الآيات الكريمة المتضمنة للسير في الأرض، نجد على أن آيات القرآن ركزت على مجالين حثت فيهما على السير في الأرض:

الأول: يشمل الجانب المادي من هذا الكون، وهو -بلا شك- الأوسع نطاقًا، ويعرف بالسنن الكونية؛ وتعني : نواميس الله سبحانه وتعالى في تسيير هذا الكون وعمارته.

الثاني: خاص بالإنسان؛ وهي السنن أو القواعد الاجتماعية التي تحكم الإنسان في علاقته بهذا الكون وخالقه، وتسمى السنن الاجتماعية.

وسيتم الحديث عنهما في النقاط الآتية:

أولًا: السنن الكونية:

وقد وردت الدعوة إلى السير في الأرض والنظر في السنن الكونية صريحة في موضع واحد، في قوله جل ذكره: (ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ) [العنكبوت: ١٩-٢٠].

فالآيتان جاءتا اعتراضا في سياق قصة إبراهيم عليه السلام مع قومه15؛ لتخاطب مشركي قريش وكل منكر لليوم الآخر مع وضوح دليله وسنوح سبيله، وفيهما دعوة إلى تأمل سنة الله في بدء الخلق ثم إعادته، وهو أمر مشهود مكرور يتجلى في «كيف يبدئ الله الثمار فتحيًا، ثم تفنى، ثم يعيدها أبدا، وكذلك يبدأ خلق الإنسان ثم يهلكه بعد أن خلق منه ولدا، وخلق من الولد ولدا، وكذلك سائر الحيوان ، أي: فإذا رأيتم قدرته على الإبداء والإيجاد فهو القادر على الإعادة»16.

وقد بدأ الخطاب بالاستفهام الإنكاري عن عدم الرؤية؛ «والرؤية يجوز أن تكون بصرية، والاستدلال بما هو مشاهد من تجدد المخلوقات في كل حين بالولادة ، وبروز النبات دليل واضح لكل ذي بصر ، ويجوز أن تكون الرؤية علمية متعدية إلى مفعولين: أنكر عليهم تركهم النظر والاستدلال الموصل إلى علم كيف يبدئ الله الخلق ثم يعيده ؛ لأن أدلة بدء الخلق تفضي بالناظر إلى العلم بأن الله يعيد الخلق»17.

«وجيء () بصيغة المضارع لإفادة تجدد بدء الخلق كلما وجه الناظر بصره في المخلوقات، والجملة انتهت بقوله: (ﮗ ﮘ)، وأما جملة (ﮚ ﮛ) فهي مسـتأنفة ابتدائية، فليست معمولة لفعل ()؛ لأن إعادة الخلق بعد انعدامه ليست مرئية لهم ولا هم يظنونها ،فتعين أن تكون جملة (ﮚ ﮛ) مستقلة معترضة بين جملة (ﮔ ﮕ) وجملة (ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ). و(ثم) للتراخي الرتبي؛ لأن أمر إعادة الخلق أهم وأرفع من بدئه ؛ لأنه غير مشاهد ، ولأنهم ينكرونه ولا ينكرون بدء الخلق»18.

فالآية الأولى إشارة إلى العلم الحدسي الذي يتم من غير طلب، والاستفهام بـ(كيف) مستعمل في التنبيه ولفت النظر لا في طلب الإخبار، فمظاهر بدء الخلق وإعادته بادية في مشاهد الكون، لا تحتاج إلى تفكير عميق لاكتشافها، ولكن الألفة والعادة تبلد الحس وتصرف العقل عن التأمل، وإذ لم يحصل لهم ذلك العلم الحدسي، فقد دعوا إلى العلم الفكري في الآية الثانية بقوله تعالى: (ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ)، بمعنى «إن لم يحصل لكم هذا العلم فتفكروا في أقطار الأرض لتعلموا بالعلم الفكري ، فسيروا في الأرض، أي : سيروا فكركم في الأرض وأجيلوا ذهنكم في الحوادث الخارجة عن أنفسكم لتعلموا بدء الخلق»19.

وفي الآية انتقال من الإنكار على جاحدي البعث من الاستدلال بما هو بمرأى منهم وفي أنفسهم، إلى الاستدلال بالنظر في كيفية بدء الخلق، «على كثرتهم وتفاوت هيآتهم واختلاف ألسنتهم وألوانهم وطبائعهم، ومساكن القرون الماضية وديارهم وآثارهم»20.

وهذا الاستدلال لا يتم إلا بالسير في الأرض الذي «يفتح العين والقلب على المشاهد الجديدة التي لم تألفها العين ولم يملها القلب ، وإن الإنسان ليعيش في المكان الذي ألفه فلا يكاد ينتبه إلى شيء من مشاهده أو عجائبه؛ حتى إذا سافر وتنقل وساح استيقظ حسه وقلبه إلى كل مظهر في الأرض الجديدة، مما كان يمر على مثله أو أروع منه في موطنه دون التفات أو انتباه. وربما عاد إلى موطنه بحس جديد وروح جديد ليبحث ويتأمل ويعجب بما لم يهتم به قبل سفره وغيبته. وعادت مشاهد موطنه وعجائبها تنطق له بعد ما كان غافلا عن حديثها؛ أو كانت لا تفصح له بشيء ولا تناجيه»21.

تلك حكمة الأمر بالسير في الأرض، وذلك أثرها في الكشف عن سنة الله في بدء الخلق؛ فالسير في الأرض وسيلةٌ جامعة لمختلف الدلائل ينسجم فيها الحس والعقل، وتتناغم فيها المشاهدة والتأمل، وبها يزول تبلد الحس، فيدرك المتأمل ألا خالق إلا الله سبحانه وتعالى، ولا مبتدئا بالخلق سواه، وأن البعث حق ووقوعه لا ريب فيه.

هذا بعض ما ورد في تفسير هاتين الآيتين الكريمتين، ولنا وقفة أخرى نستجلي من خلالها ما تضمنتا من دلائل التفكر في الخلق كمقصد من مقاصد السير في المبحث القادم.

ثانيًا: السنن الاجتماعية:

هذا المجال هو الأوفر حظًا في حديث القرآن الكريم عن السير في الأرض ؛ إذ ورد في اثنتي عشرة آية، ولا عجب فإن صيغة: (ﮩ ﮪ) في القرآن الكريم تأتي في سياق السنن الاجتماعية واقترنت بذكر الأمم السابقة، دون السنن الكونية، وهذا ما أشار إليه ابن تيمية بعد استعراضه للآيات التي ورد فيها لفظ «سنة» بقوله: «وهذه السنن كلها سنن تتعلق بدينه وأمره ونهيه ووعده ووعيده، وليست هي السنن المتعلقة بالأمور الطبيعية ، كسنته في الشمس والقمر والكواكب وغير ذلك من العادات»22.

والسنن الاجتماعية مجالها الكتاب المنزل وما تضمن من أحكام وتشريعات وآيات ونذر، وخاصة تلك الخلاصة المركزة من القصص القرآني الذي يمثل أخبار الأمم السالفة وكيف كانت عاقبتها، ثم ما طلب من هذه الأمة أن تتعلمه من سير الذين خلوا من قبل ، فتتجنب الأخطاء التي وقعوا فيها. أما منهج التعرف على السنن الاجتماعية فهو المنهج الاستقرائي المبني على النظر والتأمل، وقد أشارت إليه آيات كثيرة في القرآن الكريم ، بلغت اثنتي عشرة آية23.

وهو منهج مبني على السير في الأرض والنظر (بمعنى الاعتبار) كيف كانت عاقبة الذين خلوا من قبل، وقد جاءت هذه الدعوة بصيغة الاستفهام التوبيخي والتعجيبي في سبعة مواضع، أربعة منها بعبارة: (ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ)، وثلاثة بعبارة: (ﮃ ﮄ ﮅ)، وبصيغة الأمر: (ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ) في بقية الآيات.

وقد تضمنت تلك الآيات الكريمة دعوة صريحة إلى السير في الأرض، سواء أكان السير على حقيقته لما فيه من العون على الوقوف على آثار المتقدمين ومعاينتها ، كما ذهب إلى ذلك رشيد رضا بقوله: «والسير في الأرض والبحث عن أحوال الماضين وتعرف ما حل بهم هو الذي يوصل إلى معرفة تلك السنن والاعتبار بها كما ينبغي»24، أو كان عن طريق مطالعة كتب التاريخ أو الاستماع إلى أخبار الذين خلوا من قبل.

كما أشار إلى ذلك ابن عاشور حين قال: «في الآية دلالة على أهمية علم التـاريخ، لأن فيه فائدة السير في الأرض، وهي معرفة أخبار الأوائل، وأسباب صلاح الأمم وفسادها» 25.

ثم نقل عن ابن عرفة قوله: «السير في الأرض حسي ومعنوي، والمعنوي هو النظر في كتب التاريخ بحيث يحصل للناظر العلم بأحوال الأمم، وما يقرب من العلم، وقد يحصل به من العلم ما لا يحصل بالسير في الأرض لعجز الإنسان وقصوره»26.

وقد حددت آيات السير نطاق النظر في السنن الاجتماعية وهو الأرض، والسبب أنها مسرح الحياة البشرية عليها عاشوا وعليها بنوا وشيدوا، وعليها تركوا آثارهم، فهي مستودع السنن الاجتماعية، وبالسير فيها والنظر إلى آثار الذين خلوا من قبل تحصل العبرة وتتقى أسباب مصارعهم.

ولما كان القصد من السير في الأرض هو النظر نظرة تأمل واعتبار بمصائر القرى الظالمة، وكيف كان عاقبتها حين عتت عن أمر ربها وكذبت رسله؛ فقد ناسب أن تساق كسنن اجتماعية تاريخية ثابتة ومطردة ، لا تحابي أمة من الأمم، ولا يستثنى منها أحد، ولذلك جاء الوعيد شديدا لكل من سلك سبيل المكذبين والمجرمين، فتكررت الدعوة إلى النظر والاعتبار بالعاقبة في كل آيات السير -عدا آيتي العنكبوت والحج كما مر بنا -فجاءت على النحو الآتي: تكررت جملة: (ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ) في ستة مواضع هي: [يوسف: ١٠٩]، [الروم: ٤٢]، [فاطر: ٤٤]، [غافر: ٢١ ، ٨٢]، [محمد: ١٠].

وعبارة: (ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ) في موضعين هما: [آل عمران: ١٣٧]، [النحل: ٣٦].

وجملة: (ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ) [النمل: ٦٩]. مرة واحدة.

وجاءت عبارة: (ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ)[الروم: ٤٢]. في موضع واحد.

فالسنة الاجتماعية العامة التي تدعو آيات السير للتبصر بها هي: الاعتبار بالمصير المشؤوم الذي آلت إليه الأمم الغابرة، والمعبر عنه بالعاقبة، وتعني آخر الشيء ومآله، فقد كان مآلها التدمير وقطع الدابر حتى تكون آية وعبرة، ولم يبق منها سوى الآثار؛ من بيوت خاوية وبئر معطلة وقصر مشيد، ثم طلب من المخاطبين بتلك الآيات أن يتأملوا ويتفكروا ليعتبروا ويتعظوا بعاقبة أولئك الهالكين، فإن السعيد من اعتبر بغيره، والشقي من جعله الله عبرة لغيره، وتلك سنة الله في أخذ القرى وهي ظالمة، فما أغنت عنهم قوة أبدانهم ولا شدة حصونهم لما جاءهم بأس الله الذي لا يرد عن القوم المجرمين، فأصبحوا أثرا بعد عين.

اقتران السير في الأرض بالنظر:

لا ينتفع الإنسان بالسير في الأرض إلا بالنظر في سنن الله في الآفاق والأنفس، وهذا الارتباط بين السير والنظر يدركه كل من يستقرئ الآيات الكريمة التي ورد فيها لفظ السير، قد ذكر مقترنا بالنظر في كل المواضع بصيغ مختلفة.

فما حقيقة النظر الوارد في آيات السير في القرآن الكريم ؟ وما سر ارتباطه به ؟ هذا ما سيبينه هذا المطلب.

لمعرفة حقيقة النظر يحسن بنا بداية الوقوف على معناه اللغوي، فمادة: (ن ظ ر) أصلٌ صحيح يرجع فروعه إلى معنى واحد، هو تأمل الشيء ومعاينته، يقال: نظر إليه ينظر نظرًا، نظرت إلى كذا ، وكذا من نظر العين ونظر القلب، ويقال: نظرت إلى كذا، إذا مددت نظرك إليه، رأيته أو لم تره، ونظرت إذا رأيته وتدبرته، ونظرت في كذا: تأملته. والنظر حس العين، وتأمل الشيء بالعين، والفكر في شيء تقدره وتقيسه، والنظر تقليب البصيرة لإدراك الشيء ورؤيته، وقد يراد به التأمل والفحص، وقد يراد به المعرفة الحاصلة بعد الفحص، وقوله تعالى: (ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍﮎ) [يونس: ١٠١].

أي: تأملوا، واستعمال النظر في البصر أكثر استعمالا عند العامة ، وفي البصيرة عند الخاصة27.

فالمعنى اللغوي للفظ النظر يدل على نظر حسي يتم بالعين وهو المشاهدة، ونظر معنوي يتم بالقلب وهو التأمل، ومن أئمة اللغة من جمع بين المعاينة والتأمل، وذلك هو النظر المقصود في آيات السير.

أما المعنى الاصطلاحي للنظر، فقد عرفه الراغب بقوله: « النظر تقليب البصر والبصيرة لإدراك الشيء ورؤيته، وقد يراد به التأمل والفحص، وقد يراد به المعرفة الحاصلة بعد الفحص ، وهو الروية»28.

وبين العسكري مدلول النظر بقوله: «النظر بالعين الإقبال بها حيال المرئي، ونظر القلب الإقبال إلى أحوال ما تطلب معرفته ، والنظر بالقلب نظر العلم من جهة الفكر والتأمل لأحوال الأشياء، ألا ترى أن الناظر على هذا الوجه لا بد أن يكون مفكرا؛ إذ المفكر على هذا الوجه سمي ناظرا، وهو معنى غير الناظر والمنظور إليه ، النظر لا يكون إلا مع فقد العلم، ومعلوم أنه لا يصح النظر في الشيء ليعلم إلا وهو مجهول»29.

فما ذكر في القولين كتعريفٍ اصطلاحي للنظر لم يختلف كثيرًا عما ذكره أصحاب المعاجم اللغوية، وبذلك يتفق معنى النظر لغة واصطلاحًا.

أما معنى النظر -المرتبط بالسير- في استعمال القرآن الكريم، فله عدة وجوه، حددها بعضهم في ثلاثة هي: النظر بالعين، والإمهال والتأخير، والرحمة30.

ويهمنا الأول منها، وأوصلها آخرون إلى أربعة أوجه هي ما ذكر آنفا، يضاف إليها معنى: التفكر والاعتبار31، وهي إضافة مهمة جدًا، وسعت من دائرة النظر لتشمل المعنيين الحسي والمعنوي.

فمعنى النظر المرتبط بالسير لم يتغير لغة واصطلاحا وفي استعمال القرآن الكريم، فقد بقي يدور حول معنيين متكاملين هما: الرؤية والمشاهدة بالعين، والتأمل والاعتبار بالقلب.

أما عن سر اقتران السير بالنظر، فإن المتأمل في سياق الآيات الكريمة يستطيع إدراك ذلك بوضوح، فقد جعل الله جل وعلا «النظر سببا عن السير في قوله: ()، فكأنه قيل: سيروا من أجل النظر، ولا تسيروا سير الغافلين»32.

فالدعوة إلى السير ليست مقصودة لذاتها، بل هي مقرونة بهدف هو النظر والتأمل للعظة والاعتبار كما ذكرنا مرارًا، فمن سار في الأرض ومر على آثار الذين خلوا من قبل، ولم يقلب بصره فيها، ويتأمل ببصيرته ما فيها من آيات وعبر، فإنه لم يحقق الهدف من السير، وهذا ما حصل مع المشركين بمكة، إذ كان منهم تجار يجوبون الأرض بقوافلهم خاصة في رحلتي الشتاء والصيف، فكانوا يمرون في أسفارهم إلى الشام على ديار ثمود وقوم لوط، وفي أسفارهم إلى اليمن على ديار عاد، يمرون عليها وهم عن آياتها غافلون، فكانوا كما وصفهم الله عز وجل بقوله: (ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆﮇ ﮈ ﮉﮊ) [الصافات: ١٣٧-١٣٨].

فقوله: () إشارة إلى أن القوم رأوا تلك الآثار بأعينهم، وحين لم يروها رؤية اعتبار، عدوا ممن لم يرها ؛ إذ المقصود بالنظر الاعتبار وليس مجرد رؤية الآثار.

وقد أحسن مجاهد التعبير عن هذه الحقيقة حين قال: «لكل إنسان أربع أعين عينان في رأسه لدنياه وعينان في قلبه لآخرته، فإن عميت عينا رأسه وأبصرت عينا قلبه لم يضره عماه شيئا، ومن أبصرت عينا رأسه، وعميت عينا قلبه لم ينفعه نظره شيئا»33.

فلا بد للنظر المرتبط بالسير أن يستند بداية إلى المشاهدة بحس العين، بشرط أن تكون رؤية تأمل واعتبار، أما الاستناد إلى مجرد سماع الأخبار - والتي لا تكون إلا ممن سار وعاين - أو التأمل العقلي الذي يعتمد على القراءة في كتب التاريخ التي دونها من شاهد الآثار، فكلاهما لا يحقق المعنى الدقيق للنظر، «فالمشاهدة تفيد من لم يقرأ علما وتقوي علم من قرأ التاريخ أو قص عليه»34.

فلا النظر مع الغفلة يجدي، ولا سماع الأخبار وحده يكفي، ولا التأمل العقلي دون سيرٍ يغني، فإذا سار المرء في الأرض ووقف على الآثار، وتأمل ما كان قد سمع من أخبار، وأصبح ما قرأه في كتب التاريخ حقيقة ماثلة للأبصار، يكون قد أخذ بالوجه الأكمل للاعتبار.

قد يقال: يمكن الاستغناء عن السير والسفر إذا توفرت الوسيلة التي تنقل المشاهد والآثار كأنها ماثلة للعيان، شأن البرامج العلمية التي تستخدم كاميرات متطورة جدا في التصوير، فتنقل مشاهد وصورا أكثر دقة، تصحبها تعليقات دقيقة وهادفة، فهذا قد يحقق الغرض من السير نسبيا، ومع ذلك يبقى للسير أهميته، إذ به يتحقق المقصود أكثر من غيره من الوسائل، وقد أشار ابن عاشور إلى ذلك حين بين الحكمة من أمر الله جل ثناؤه بالسير فقال: «وإنما أمر بالسير في الأرض لأن السير يدني إلى الرائي مشاهدات جمة من مختلف الأرضين بجبالها وأنهارها ومحوياتها ، ويمر به على منازل الأمم حاضرها وبائدها ، فيرى كثيرا من أشياء وأحوال لم يعتد رؤية أمثالها، فإذا شاهد ذلك جال نظر فكره في تكوينها بعد العدم جولانا لم يكن يخطر له ببال حينما كان يشاهد أمثال تلك المخلوقات في ديار قومه، لأنه لما نشأ فيها من زمن الطفولة فما بعده قبل حدوث التفكير في عقله اعتاد أن يمر ببصره عليها دون استنتاج من دلائلها حتى إذا شاهد أمثالها مما كان غائبا عن بصره جالت في نفسه فكرة الاستدلال، فالسير في الأرض وسيلة جامعة لمختلف الدلائل ، فلذلك كان الأمر به لهذا الغرض من جوامع الحكمة»35.

تلك هي حقيقة النظر الوارد في آيات السير؛ إذ ليس مجرد رؤية بالبصر، بل هو نظر فكر واستدلال، وذلك هو سر ارتباطه به، إذ يمثل الهدف والمقصود، وإلا كان نظر غفلة وإهمال.

مقاصد السير

ليس السير مجرد مرور أو وقوف على الآثار، ولكن السير المعتبر ما كان ذا قصد، فما مقاصد السير في الأرض كما ورددت في كتاب الله تعالى؟

سنتحدث عنها في النقاط الآتية:

أولًا: الاعتبار بمآل المؤمنين ومآل المكذبين:

١. الاعتبار بمآل المؤمنين.

وقد ورد الاعتبار بمآل المؤمنين في قول الله جل ذكره: (ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ) [آل عمران: ١٣٧].

قال الطبري: «يعني بقوله تعالى ذكره: (ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ): قد مضت وسلفت مني في من كان قبلكم -يا معشر أصحاب محمد وأهل الإيمان به- من نحو قوم عاد وثمود وقوم إبراهيم وقوم لوط وغيرهم من سلاف الأمم قبلكم () يعني: مثلًا وسيرًا سرتها فيهم وفيمن كذبوا به من أنبيائهم الذين أرسلوا إليهم، بإمهالي أهل التكذيب بهم، واستدراجي إياهم، حتى بلغ الكتاب فيهم أجلي الذي أجلته لإدالة أنبيائهم وأهل الإيمان بهم عليهم، ثم أحللت بهم عقوبتي، وأنزلت بساحتهم نقمتي، فتركتهم لمن بعدهم أمثالا وعبرا»36.

فالسنة الربانية الثابتة في قوله جل ذكره: (ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ)، هي ألا يمكن للمكذبين بالله ورسله، ولا يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلا، نعم قد ينتصرون في جولة من الجولات ، كما وقع في غزوة أحد، بسبب تخلي المؤمنين عن شرط من شروط النصر، أو لحكمة أرادها الله تعالى، ولكنه انتصار مؤقت، إذ سرعان ما تدور عليهم الدائرة، وتعود سنة الله إلى اطرادها، من أجل ذلك طلب من المؤمنين السير في الأرض والنظر في مآل المكذبين من الأمم السابقة وكيف دمر الله عليهم، فعفت منهم الديار ولم يبق منها سوى الآثار، وقد بدأت الآية بـ() الدالة على تأكيد الخبر، وجيء بالفاء السببية في قوله: () ، وقيل : شرطية ، بمعنى إن شككتم فسيروا 37.

والتعبير بلفظ () للاستفهام الدال على تصوير الحال في صورة تدعو إلى العجب والاستغراب، أي: أن عاقبتهم التي انتهوا إليها من تدمير ديارهم، وتعفية آثارهم بعد أن طغوا وبغوا، تثير العجب، وفي إضمار تلك العاقبة تهويل لمصيرهم المشؤوم، وإظهار لبطش الله الشديد.

فمعنى الآية: «قد مضت من قبلكم أحوال للأمم، جارية على طريقة واحدة، هي عادة الله في الخلق، وهي أن قوة الظالمين وعتوهم على الضعفاء أمر زائل، والعاقبة للمتقين المحقين، ولذلك قال: (ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ)؛ «أي: المكذبين برسل ربهم وأريد النظر في آثارهم ليحصل منه تحقق ما بلغ من أخبارهم، أو السؤال عن أسباب هلاكهم، وكيف كانوا أولي قوة، وكيف طغوا على المستضعفين، فاستأصلهم الله أو لتطمئن نفوس المؤمنين بمشاهدة المخبر عنهم مشاهدة عيان، فإن للعيان بديع معنى ؛ لأن المؤمنين بلغتهم أخبار المكذبين عاد وثمود وأصحاب الأيكة وأصحاب الرس، وكلهم في بلاد العرب يستطيعون مشاهدة آثارهم، وقد شهدها كثير منهم في أسفارهم»38.

فالسير في الأرض والوقوف على الديار والآثار، والتأمل في عاقبة المكذبين، يسكب في قلوب المؤمنين برد اليقين بصدق وعد الله تعالى ذكره بنصرهم والتمكين لهم، كما مكن للذين من قبلهم، ويذهب ما ظهر عليهم من انكسار نفسي من جراء نكسة أحد. وقد استغني بذكر عاقبة المكذبين عن ذكر مآل المؤمنين من الأمم السابقة، لأن التأمل في حال أحد الفريقين يكفي في معرفة حال الفريق الآخر39، فالمؤمنون - بلا شك - قد انتصروا ومكنوا في الأرض.

٢. الاعتبار بمآل المكذبين.

وقد ورد في ذلك آيات كثيرة، منها ما جاء صريحا، ومنها ما جاء تلميحا، فقد ورد الاعتبار بعاقبة المكذبين في قوله سبحانه وتعالى: (ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ) في ثلاثة مواضع هي: [آل عمران: ١٣٧]، [الأنعام: ١١]، [النحل: ٣٦].

اثنان منهما خطاب للكفار، وواحد خطاب للمؤمنين في آية آل عمران كما أسلفنا، «ولكن العمل بموجبه عام»، كما قال أبو السعود 40.

أما ما جاء تلميحًا، فقد ورد بصيغتين متقاربتين:

الأولى: (ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ)، وقد وردت هذه الصيغة في: [يوسف: ١٠٩]، [الروم: ٩]، [فاطر: ٤٤]، [غافر: ٢١، ٨٢]، [محمد: ١٠].

والثانية: (ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ) [الروم: ٤٢].

وواضح أن الضمير في تلك الآيات عائد على الكفار والمشركين، سواء ضمير الغائب في قوله: (ﮋ ﮌ) في الآيات الست، أو ضمير المخاطب في آية سورة الروم، والمقصود واحد؛ هو دعوتهم إلى السير في الأرض والنظر في عاقبة كفار ومشركي الأمم السابقة، والاعتبار بما آل إليه كفرهم بالله تعالى وتكذيبهم لرسله.

وقد ذكر الله جل وعلا نماذج من جرائم تلك الأمم الهالكة، وما أصابها بسبب ذلك، ليكون عبرة لكفار قريش وغيرهم، وزاجرا لهم ، لعلهم يثوبون إلى رشدهم، ويتوبون إلى ربهم، وأعظم جريمة وظلم اقترفته تلك الأمم الغابرة؛ الشرك بالله عز وجل واتخاذ طواغيت يعبدونها من دونه، نقرأ ذلك في قوله سبحانه وتعالى: (ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ) [النحل: ٣٦].

قال الطبري في تفسير قوله تعالى: (ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ). يقول تعالى ذكره لمشركي قريش: إن كنتم أيها الناس غير مصدقي رسولنا فيما يخبركم به عن هؤلاء الأمم، الذين حل بهم ما حل من بأسنا، بكفرهم بالله وتكذيبهم رسوله، فسيروا في الأرض التي كانوا يسكنونها، والبلاد التي كانوا يعمرونها، فانظروا إلى آثار الله فيهم، وآثار سخطه النازل بهم، كيف أعقبهم تكذيبهم رسل الله ما أعقبهم، فإنكم ترون حقيقة ذلك، وتعلمون به صحة الخبر الذي يخبركم به محمد صلى الله عليه وسلم »41.

فقد ساق الله تعالى للكفار دليل العقل الذي يدركه كل ذي بصيرة، ولما لم يتبصروا به بسبب قسوة قلوبهم، أحالهم على الدليل المحسوس للبصر، فدعاهم إلى السير في الأرض للوقوف على مصارع الذين حقت عليهم الضلالة، عساهم يعتبرون أو يرعوون حين يرون آثارهم وديارهم وهي خاوية على عروشها، وإلا سيكون ذلك مصيرهم.

ومن نماذج الاعتبار بعاقبة المكذبين ما ورد في سورة الأنعام في قوله جل ذكره: (ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ) [الأنعام: ١٠ - ١١].

فقد أشارت الآية الأولى إلى ما كان يلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم من استهزاء وسخرية كفار قريش، ثم ذكرت أن ذلك دأب كفار الأمم السابقة مع أنبيائهم، تثبيتا وتسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، وختمت بما حل بأولئك المستهزئين، وفي الآية الثانية تهديد ووعيد للمستهزئين من كفار قريش، إن لم يعتبروا بمآل من كان قبلهم، فقيل لهم: «جولوا في بلاد المكذبين رسلهم، الجاحدين آياتي من قبلهم، من ضربائهم وأشكالهم من الناس، (ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ) يقول: ثم انظروا كيف أعقبهم تكذيبهم ذلك الهلاك والعطب، وخزي الدنيا وعارها، وما حل بهم من سخط الله عليهم بالبوار، وخراب الديار، وعفو الآثار، فاعتبروا به إن لم تنهكم حلومكم، ولم تزجركم حجج الله عليكم عما أنتم عليه مقيمون من التكذيب، فاحذروا مثل مصارعهم، واتقوا أن يحل بكم مثل الذي حل بهم»42.

وقد وصفت الآيتان القوم بخلقين ذميمين هما: الاستهزاء والتكذيب، والواحد من هذين الخلقين كافٍ في استحقاق تلك العاقبة.

ثانيًا: النظر في عاقبة المجرمين:

ومن مقاصد السير في القرآن الكريم النظر في عاقبة المجرمين، قد ورد في آية سورة النمل.

وقد جاءت في سياق ذكر إنكار المشركين للبعث، فقال الله تعالى ذكره: (ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ) [النمل: ٦٧ - ٦٩].

فالآية الكريمة تدعو منكري البعث إلى الاتعاظ بحال المجرمين من الأمم السابقة، وتتوعدهم بأن يصيبهم مثل ما أصابهم، وقد جاء العطف في الأمر بالسير بالفاء التعقيبية، لأن المقام مقام استرشاد للاعتقاد والرجوع عن الغي والعناد وليس مجرد تهديد، وعظم المأمور بنظره بجعله أهلا للعناية به، والسؤال عنه فقال: (ﮤ ﮥ)، فإنكم إن نظرتم ديارهم، وتأملتم أخبارهم حق التأمل أسرع بكم ذلك إلى التصديق ، فنجوتم وإلا هلكتم43.

هذا مجمل ما ورد صريحا في دعوة كفار قريش ومن شاكلهم للسير في الأرض للاعتبار بعاقبة المكذبين والمجرمين من الأمم الغابرة، خوطبوا به ليعلموا ما حل بالكفرة قبلهم، وليكون لهم رادعا وزاجرا عن التمادي في غيهم وطغيانهم، قبل أن يصيبهم ما أصاب أسلافهم.

بقيت الإشارة إلى ما ورد من نصوص قرآنية تأمر بالسير في الأرض والاعتبار بالذين خلوا، دون وصفهم بالتكذيب أو الإجرام -وإن كانوا كذلك -، وإنما وصفوا بـ: (ﯸ ﯹ ﯺﯻ) و(ﭙ ﭚ ﭛ)، ففي سورة محمد صلى الله عليه وسلم وبخ الله جل ذكره الكافرين الذين سافروا وارتحلوا في بقاع شتى ورأوا ما حل بأقوام مثل عاد وثمود وسبأ وغيرهم، ولم يتعظوا ويعتبروا بعاقبتهم ، فقال تعالى: (ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺﯻ ﯼ ﯽ ﯾﯿ ﰀ ﰁ ﰂ) [محمد: ١٠].

فالآية الكريمة نزلت بالمدينة في أجواء قتال بين المسلمين والكافرين -بدليل تسمية السورة بسورة القتال- وكما دلت الآيات السابقة لهذه الآية، وفيها تحفيز وتحريض للمؤمنين وتوهين الكافرين، ثم أشارت إلى العذاب الذي سلطه على الذين كانوا من قبلهم، وقد عبر عما حل بهم بقوله: (ﯼ ﯽ ﯾ)، «والمعنى: دمر الله عليهم ما اختص بهم من أنفسهم وأموالهم وأولادهم وكل ما كان لهم»44.

وقد عدي فعل ( دمر) بحرف الاستعلاء للمبالغة في قوة التدمير45.

ثم توعد الله تعالى كفار مكة -وأمثالهم في كل مكان وزمان- السالكين لسيرة الهالكين بمثل تلك العواقب الوخيمة والعقوبات الأليمة، فقال: ().

«قال ابن عباس: يعني : لكفار قومك يا محمد صلى الله عليه وسلم، مثل ما دمرت به القرى فأهلكوا بالسيف» 46.

وقد دمر الله على الكافرين مرات حتى انتصر الإسلام، «فاستأصل صناديدهم يوم بدر بالسيف، وسلط عليهم الريح يوم الخندق فهزمهم، وسلط عليهم الرعب والمذلة يوم فتح مكة، وكل ذلك مماثل لما سلطه على الأمم في الغاية منه وهو نصر الرسول صلى الله عليه وسلم ودينه، وقد جعل الله ما نصر به رسوله صلى الله عليه وسلم أعلى قيمة بكونه بيده وأيدي المؤمنين مباشرة بسيوفهم وذلك أنكى للعدو»47.

وفي سور أخرى ذكر الله جل ثناؤه الاعتبار بعاقبة الذين من قبل، وبين أنهم أوتوا قوة وشدة وأثاروا الأرض وعمروها، ولكن ذلك لم يغن عنهم من الله شيئا، حين نزل بهم بأسه الذي لا يرد عن القوم المجرمين، ليعلم كفار قريش أنهم أهون وأضعف من أولئك الجبارين، وسأسوق أمثلة توضح ما ذكرت.

ففي سورة فاطر ورد قوله جل وعلا: (ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖﰗ ﰘ ﰙ ﰚ ﰛ ﰜ) [فاطر: ٤٤].

فقد جاءت هذه الآية بعد أن توعد الله تبارك وتعالى كفار قريش ومن شاكلهم أن يحل بهم عذابه وفق سنته التي لا تتبدل ولا تتحول، بسبب ما ادعوه، ثم أخلفوا الله ما وعدوه، فدعتهم إلى السير في الأرض والنظر في عاقبة الذين من قبلهم كعاد وثمود وقوم لوط وأهل مدين، إذ كانوا يمرون بديارهم في أسفارهم، فقد كانوا أشد منهم قوة، وأطول أعمارا وأكثر أموالا وأقوى أبدانا، فلم يغن عنهم من الله شيئا حين كفروا بالله وكذبوا رسله، فليعتبر مشركو قريش بمآل أسلافهم، فإن الله جلت قدرته الذي أهلك أولئك - على قوتهم وبطشهم - لا يعجزه أن يهلك هؤلاء.

وإذا كانت سورة فاطر لم تصرح بطبيعة القوة التي أوتي الذين خلوا من قبل، فإن سورتي الروم وغافر بينتا ذلك، فقال تعالى في سورة الروم: (ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ [الروم: ٩].

وقال عز وجل في سورة غافر: (ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ) [غافر: ٢١].

ففي الآيتين إنذار للكفار بعواقب الأمم الذين كذبوا رسلهم من قبل كعاد وثمود وقوم لوط وغيرهم ممن كانوا يمرون على ديارهم في أسفارهم إلى اليمن والشام في رحلتي الشتاء والصيف، فقد أضحت مساكنهم خرابا يبابا، رغم ما أوتوا من صلابة في الأجسام أمكنتهم من قلب الأرض بالحرث لزرع البذور وغيرها، أو حفرها لاستنباط المياه واستخراج المعادن48.

وعمروها بفنون العمارات بتشييد المباني والحصون، وعلى الجملة فقد كانوا أقوى أجسامًا وأكثر تحصيلًا لأسباب العيش من كفار قريش الذين كانوا يسكنون واديًا غير ذي زرع، فما أثاروا الأرض ولا عمروها.

قال ابن كثير: «أي : كانت الأمم الماضية والقرون السالفة أشد منكم -أيها المبعوث إليهم محمد صلوات الله وسلامه عليه- وأكثر أموالًا وأولادًا، وما أوتيتم معشار ما أوتوا، ومكنوا في الدنيا تمكينا لم تبلغوا إليه، وعمروا فيها أعمارًا طوالًا، فعمروها أكثر منكم، واستغلوها أكثر من استغلالكم، ومع هذا لما جاءتهم رسلهم بالبينات وفرحوا بما أوتوا، أخذهم الله بذنوبهم، وما كان لهم من الله من واق، ولا حالت أموالهم ولا أولادهم بينهم وبين بأس الله، ولا دفعوا عنهم مثقال ذرة، وما كان الله ليظلمهم فيما أحل بهم من العذاب والنكال»49.

وأختم حديثي عن الاعتبار بعاقبة الذين من قبل بما ورد في موضع آخر من سورة الروم في قوله جل جلاله: (ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ) [الروم: ٤١- ٤٢].

ففي الآية الأولى بيان لشؤم الذنوب والمعاصي وما أحدثت من فساد في البر والبحر، وقد ذكر المفسرون أقوالا في بيان طبيعة ذلك الفساد، وهي في الجملة آفات وعقوبات يبتلى بها الناس، «كالجدب، والقحط، وقلة الريع في الزراعات والربح في التجارات، ووقوع الموتان في الناس والدواب، وكثرة الحرق والغرق، وإخفاق الصيادين والغاصة، ومحق البركات في كل شيء، وقلة المنافع في الجملة وكثرة المضار»50.

وكل ذلك بكسب أيديهم، وتلك الآفات جزء يسير مما يستحق الناس، ولو أذاقهم كل سوء عملوه ما ترك على ظهرها من دابة، فهو يصيبهم ببعض أعمالهم لعلهم ينيبوا إلى الحق ويرجعوا إلى التوبة ويتركوا معاصي الله، أما إذا لم يتعظوا بما أصابهم من فساد بما كسبت أيديهم، فإنه سيصيبهم فساد أعظم وأشد، كالذي أصاب الأمم التي أشركت، فجاءت الآية الأخيرة تحث على السير في الأرض للاعتبار بعاقبة الذين من قبل من الأمم التي يعرفها المخاطبون ووقفوا على آثارها وديارها، فقد أهلكها الله جلت قدرته ودمرها وتركها أثرا بعد عين، وسبب تلك العاقبة المفجعة هو شرك الأكثرين منهم، وفي ذلك تعريض بمشركي قريش وتحذير لهم أن يصيبهم ما أصاب الذين من قبل.

ثالثًا: التفكر في الخلق:

حث القرآن الكريم على التفكر في الخلق في آيات كثيرة، وتعددت أساليب الدعوة إليه، فتكون أحيانًا من خلال التذكير بنعم الله وآلائه، وفي أحيان أخرى يأتي الحض على التفكر في معرض بيان الغاية التي من أجلها يضرب الله للناس الأمثال ويقص القصص ويلفت النظر إلى آيات الله المبثوثة في الآفاق والأنفس، وتارة أخرى يكون الأسلوب القرآني في الدعوة إلى التفكير عنيفا شديدا مقرونا في بعض الأحيان بالتهديد والوعيد، وهذه هي الآيات الموجهة لذوي القلوب القاسية الكافرة التي تحتاج لمثل هذا الأسلوب الصارم وفي مثل هذه الآيات تأتي الدعوة إلى التفكر بأسلوب الاستفهام الاستنكاري51.

وفي معنى التفكر لغة قال ابن فارس: «فكر: الفاء والكاف والراء، تردد القلب في الشيء، يقال: تفكر إذا ردد قلبه معتبرا»52.

وفي اللسان: «الفكر بالفتح والفكر بالكسر: إعمال الخاطر في الشيء»53.

وفي القاموس: « الفكر بالكسر ويفتح: إعمال النظر في الشيء»54.

أما اصطلاحًا فقد عرفه الراغب بقوله: «الفكرة قوة مطرقة للعلم إلى المعلوم، والتفكر جولان تلك القوة بحسب نظر العقل ، وذلك للإنسان دون الحيوان»55.

وقال عنه الفراهي: «الفكر: هو النظر فيما وراء الشيء، وربما يسمى اعتبارا»56.

وعرفه أحد الباحثين بقوله: «التفكير في أبسط تعريف له عبارة عن سلسلة من النشاطات العقلية التي يقوم بها الدماغ عندما يتعرض لمثير يتم استقباله عن طريق واحدة أو أكثر من الحواس الخمس»57.

أما أهميته، فيكفي فيه أنه الملكة التي كرم الله تعالى بها بني آدم وفضلهم على كثير ممن خلق.

قال الغزالي: «إن الله تعالى خلق العقول، وكمل هداها بالوحي، وأمر أربابها بالنظر في مخلوقاته، والتفكر والاعتبار بما أودعه من العجائب في مصنوعاته»58.

ولابن القيم كلام نفيس في التفكر وأهميته، ومما جاء فيه قوله: «فالخير والسعادة في خزانة مفتاحها التفكر، فإنه لابد من تفكر وعلم يكون نتيجةً للتفكر، وحال يحدث للقلب من ذلك العلم ، فالفكر هو الذي ينقل من موت الغفلة إلى حياة اليقظة، ومن المكاره إلى المحاب ومن ضيق الجهل إلى سعة العلم ورحبه، ومن مصيبة العمى والصمم والبكم إلى نعمة البصر والسمع والفهم عن الله والعقل عليه، ومن أمراض الشبهات إلى برد اليقين وثلج الصدور.

وبالجملة فأصل كل طاعة إنما هو الفكر، وكذلك أصل كل معصية إنما يحدث من جانب التفكر، فإن الشيطان يصادف أرض القلب خالية فارغة، فيبذر فيها حب الأفكار الردية، فيتولد منها الإرادات والعزوم فيتولد منها العمل، فإذا صادف أرض القلب مشغولة ببذر الأفكار النافعة فيما خلق له وفيما أمر به وفيما هيئ له وأعد له من النعيم المقيم أو العذاب الأليم لم يجد لبذره موضعًا»59.

وقد جاءت نصوص القرآن الكريم تأمر بالتفكر وتثني على المتفكرين ؛ لأن «التفكر هو مفتاح الأنوار ومبدأ الاستبصار، وهو شبكة العلوم ومصيدة المعارف والفهوم»60.

ومجال التفكر واسع يشمل الآيات المشهودة، فكل ما خلق الله عز وجل في السماوات؛ من شمس وقمر وكواكب، وفي الأرض؛ من بحار وأنهار وجبال وحيوان ونبات، وظواهر طبيعية كالسحاب والأمطار والرياح وغيرها.

أما عن ارتباط التفكر في الخلق بالسير كمقصد من مقاصده -وهو ما يعنينا في هذا البحث- فقد ذكر في موضعين:

أحدهما: في سورة العنكبوت في قوله تبارك وتعالى: (ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ) [العنكبوت: ١٩-٢٠].

والآيتان من الأدلة القاطعة والبراهين الساطعة التي ساقها القرآن الكريم لإقامة الحجة على منكري البعث، رغم أن كل ما في الوجود علويه وسفليه يشهد على قدرة الله جل ذكره على الإحياء بعد الموت، فجاءت الآية الأولى كلاما مستأنفا للإنكار على المكذبين بالبعث رغم وضوح دلائله، فلفتت أنظار أولئك الجاحدين إلى ما يرون من مظاهر البدء في الخلق وإعادته في الإنسان والحيوان والنبات بأسلوب محكم رصين، ففي الاستفهام الإنكاري عن عدم الرؤية تعجيب من أمرهم وتوبيخ لهم على بلادة حسهم، وفي الاستفهام بـ() تنبيه ولفت نظر وليس طلب إخبار، بمعنى: ألم يتأملوا في هذا السؤال؟ أي: في الجواب عنه61.

وفي مجيء الفعلين () و() بصيغة المضارع إفادة لتجدد بدء الخلق وإعادته حيثما وجه الناظر بصره في المخلوقات؛ ففي عالم الإنسان يرون «كيف يستأنف الله خلق الأشياء طفلًا صغيرًا، ثم غلامًا يافعًا، ثم رجلًا مجتمعًا، ثم كهلًا، ثم هو يعيده من بعد فنائه وبلاه، كما بدأه أول مرة خلقًا جديدًا، لا يتعذر عليه ذلك»62.

واعتبر ذلك في عالمي الحيوان والنبات، وعلى الجملة فقد « أرشدهم إلى الاعتبار بما في الآفاق من الآيات المشاهدة من خلق الله الأشياء: السماوات وما فيها من الكواكب النيرة؛ الثوابت والسيارات، والأرضين وما فيها من مهاد وجبال، وأودية وبراري وقفار، وأشجار وأنهار، وثمار وبحار، كل ذلك دال على حدوثها في نفسها، وعلى وجود صانعها الفاعل المختار، الذي يقول للشيء: كن، فيكون»63.

فهذا مما يستدل به على صحة البعث ووقوعه بلا ريب، فإذا كانت تلك قدرة الله تبارك وتعالى على الإبداء والإيجاد، فإن قدرته على الإعادة أيسر، ولذلك ناسب أن يأتي التعقيب بقوله تعالى: (ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ)، أي: «سهل كما كان يسيرا عليه إبداؤه»64.

وهذا كقوله عز وجل: (ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵﭶ) [الروم: ٢٧].

ثم جاءت الآية الثانية لتنقل المنكرين للبعث من عالم الأنفس إلى عالم الآفاق، لتقول لهم: إن كنتم في شك من قدرة الله جل وعلا على بدء الخلق وإعادته، ولم يكفكم الاستدلال بما هو بمرأى منكم، فدونكم الاستدلال بما هو بعيد عنكم من أحوال إيجاد المخلوقات وتعاقب الأمم، فأمر نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يحثهم على السير في الأرض للنظر كيف بدأ الخلق، فقال عز من قائل: (ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ) .

«أي: كيف خلقهم ابتداء على أطوار مختلفة، وطبائع متغايرة، وأخلاق شتى، فإن ترتيب النظر على السير في الأرض مؤذن بتتبع أحوال أصناف الخلق القاطنين في أقطارها، (ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ) بعد النشأة الأولى التي شاهدتموها، والتعبير عن الإعادة التي هي محل النزاع بالنشأة الآخرة المشعرة بكون البدء نشأة أولى للتنبيه على أنهما شأن واحد من شئون الله تعالى حقيقة واسما من حيث إن كلًا منهما اختراع وإخراج من العدم إلى الوجود، ولا فرق بينهما إلا بالأولية والآخرية»65.

ثم ختمت الآية ببيان كمال قدرة الخالق تبارك وتعالى بقوله: (ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ)، أي «إن الله على إنشاء جميع خلقه بعد إفنائه، كهيئته قبل فنائه، وعلى غير ذلك مما يشاء فعله، قادر، لا يعجزه شيء أراده»66.

الأنموذج الثاني الذي ذكر فيه التفكر في الخلق مقترنًا بالسير ورد في سورة الروم - وقد سبقت الإشارة إلى الآية الثانية منه - في قوله تباركت أسماؤه: (ﭩ ﭪ ﭫ ﭬﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣﮤ) [الروم: ٨-٩].

فالآية الأولى دعوة للمكذبين بالبعث إلى التفكر في أنفسهم، وقد ذكر المفسرون في المراد بـ: (ﭫ ﭬ) قولين، فذهب الطبري إلى أنها ذواتهم، فقال: «أولم يتفكر هؤلاء المكذبون بالبعث يا محمد من قومك، في خلق الله إياهم، وأنه خلقهم ولم يكونوا شيئا، ثم صرفهم أحوالا وتارات، حتى صاروا رجالا؛ فيعلموا أن الذي فعل ذلك قادر أن يعيدهم بعد فنائهم خلقا جديدا»67، وذكر غيره أن العبارة تحتمل معنيين؛ أحدهما: أن تكون الفكرة في ذواتهم وحواسهم وخلقهم ليستدلوا بذلك على الخالق المخترع، وهو ما ذكره الطبري، والثاني: أن تكون ظرفا للفكرة في خلق السموات والأرض، كأنه قيل: أولم يحدثوا التفكر في أنفسهم، أي: في قلوبهم الفارغة من الفكر68.

ولا تعارض بين القولين، وأيًا ما كان المعنى، فالمنكرون للبعث لم يفكروا في ذواتهم ولا فيما حولهم، لم يفكروا في أنفسهم وهي أقرب شيء إليهم، ليروا عجائب قدرة الله عز وجل في خلقهم، كما في قوله جل جلاله: ( ﮣﮤ ﮥ ﮦ ﮧ) [الذاريات: ٢١].

وعلى هذا التفسير تكون جملة (ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ) «بدل اشتمال من قوله: () إذ الكلام على حذف مضاف، تقديره: في دلالة أنفسهم، فإن دلالة () تشتمل على دلالة خلق السموات والأرض وما بينهما بالحق؛ لأن () مشمولة لما في الأرض من الخلق ودالة على ما في الأرض، وكذلك خلق ما في الأرض دال على خلق أنفسهم»69.

فمعنى الآية الكريمة: «أولم يتفكروا في أنفسهم التي هي أقرب إليهم من غيرها من المخلوقات، وهم أعلم وأخبر بأحوالها منهم بأحوال ما عداها، فتدبروا ما أودعها الله ظاهرا وباطنا من غرائب الحكم الدالة على التدبير دون الإهمال وأنه لا بد لها من انتهاء إلى وقت يجازيها فيه الحكم الذي دبر أمرها على الإحسان إحسانا وعلى الإساءة مثلها، حتى يعلموا عند ذلك أن سائر الخلائق كذلك أمرها جار على الحكمة والتدبير، وأنه لا بد لها من الانتهاء إلى ذلك الوقت»70.

هذا بعض ما ذكره المفسرون في معنى الآية الكريمة إذا قصد بالتفكر في أنفسهم ذواتهم، أما إذا أريد به أن يحدثوا في أنفسهم التفكر في خلق السموات والأرض وما بينهما، فيكون معنى الآية ما ذكر ابن كثير: «يقول الله تعالى منبها على التفكر في مخلوقاته، الدالة على وجوده وانفراده بخلقها، وأنه لا إله غيره ولا رب سواه، فقال: (ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ) يعني به: النظر والتدبر والتأمل لخلق الله الأشياء من العالم العلوي والسفلي، وما بينهما من المخلوقات المتنوعة، والأجناس المختلفة، فيعلموا أنها ما خلقت سدى ولا باطلًا، بل بالحق، وأنها مؤجلة إلى أجل مسمى، وهو يوم القيامة»71.

وحين لم يتفكر المنكرون للبعث في آيات الله في الأنفس والآفاق، بسبب تبلد عقولهم وضيق أفقهم، نقلهم السياق إلى حوادث الزمان وعبر التاريخ لعلهم يتأملون سنة الله في إهلاك الظالمين، ويعتبرون بمصارع الغابرين، فقال الله تبارك وتعالى: (ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ) [الروم: ٩].

فقد دعي منكرو البعث في هذا المقام إلى السير، وهو مالم يطلب منهم في الآية السابقة ؛ إذ لا حاجة إلى السير بحضور النفس والسماء والأرض، ولذلك جاء الاستفهام تعجيبيًا من غفلتهم وعدم تفكرهم، وأريد به التقريع والتوبيخ.

أما الاستفهام في هذه الآية فلتقرير النفي، والواو للعطف على مقدر يقتضيه المقام، أي: أقعدوا في أماكنهم ، ولم يسيروا في الأرض، والمعنى : أنهم ساروا في أقطار الأرض72، وشاهدوا في أسفارهم آثار وديار أقوام قد خلوا مثل: عاد وثمود وقوم لوط وأهل مدين، وهي أمم كانت ذات قوة وسطوة، لا تدانيها قوة قريش، أثاروا الأرض بالحرث واستخرجوا خيراتها ومدخراتها، وعمروها بالمباني والحصون والقصور المشيدة، أكثر مما عمرها المشركون في مكة، فقد كان السابقون أطول أعمارا وأقوى أجساما وأكثر تحصيلا لأسباب العيش، ومع ذلك لم تغن عنهم قوتهم من الله شيئا حين نزل بهم عذاب الله وبأسه الذي لا يرد عن القوم المجرمين.

رابعًا: ابتغاء الرزق:

من مقاصد السير كما حددته نصوص القرآن الكريم هو: ابتغاء الرزق، ومعنى الرزق لغة: العطاء وما ينتفع به مما يؤكل أو يلبس، وما يصل إلى الجوف ويتغذى به، وقد يسمى المطر رزقا؛ لأنه سبب الرزق73.

«والأرزاق نوعان: ظاهرةٌ للأبدان كالأقوات، وباطنةٌ للقلوب والنفوس كالمعارف والعلوم»74.

قال الراغب في بيان معنى الرزق: «الرزق يقال للعطاء الجاري تارة دنيويًا كان أم أخرويًا، وللنصيب تارة، ولما يصل إلى الجوف ويتغذى به تارة، يقال: أعطى السلطان رزق الجند، ورزقت علمًا، والرازق يقال لخالق الرزق ومعطيه والمسبب له ، وهو الله تعالى»75.

فالله جل وعلا هو الرازق والرزاق، وقد وصف سبحانه وتعالى ذاته بذلك في كتابه العزيز بقوله: (ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ) [الذاريات: ٥٨].

وبين جل ثناؤه أنه وحده رازق كل دابة على وجه الأرض فقال: (ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ) [هود: ٦].

وأكد جل جلاله أن جميع المخلوقات تفتقر إليه في رزقها ولا تستطيع تحمل ذلك، ولولاه ما رزقت، فقال جل ذكره: (ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ) [العنكبوت: ٦٠].

والله تبارك وتعالى مالك خزائن الرزق، فمنه وحده يطلب لا من غيره، كما قال الخليل عليه السلام لقومه: (ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀﮁ ﮂ ﮃ ﮄ) [العنكبوت: ١٧].

وقد اقتضت حكمة الله تعالى أن يكون اكتساب الرزق وفق سنة اتخاذ الأسباب، فألهم الحيوانات والطيور أن تتحرك وتتنقل من مكان إلى آخر، وزودها بغرائز وخلق لها أعضاء تمكنها من كسب قوتها، فإذا كانت تلك سنته تعالى في رزق البهائم والعجموات وهي مخلوقات ضعيفة، فإنها في حق الإنسان المكرم أولى، فقد اقتضت سنته في رزق العباد أن يصلهم بأسباب يباشرونها باختيارهم، ويسر لهم تلك الأسباب، ودلهم على مفاتيح الرزق.

منها: «السعي والضرب في الأرض ابتغاء الرزق».

وقد وردت آيات كريمة تحث على السعي في الأرض ابتغاء الرزق، منها قوله جل وعلا: (ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯﭰ ﭱ ﭲ ﭳ) [الملك: ١٥].

فالآية الكريمة تشير إلى نعمة الله عز وجل على خلقه في تسخير الأرض لهم، فعبر عن ذلك بلفظ: (، ثم أمرهم بالمشي في مناكبها، والمعنى: «سافروا حيث شئتم من أقطارها، وترددوا في أقاليمها وأرجائها في أنواع المكاسب والتجارات»76.

وقوله: (ﭭ ﭮ ﭯ) يعني: وكلوا من رزق الله الذي أخرج لكم من مناكب الأرض، (ﭱ ﭲ) يعني: وإلى الله نشركم من قبوركم77.

هذا عن معنى الآية، أما الرزق الذي تمنحه الأرض الذلول وينتفع به الإنسان ويناله بالمشي في مناكبها، فيشمل كل ما أودع الله عز وجل فيها من خيرات ومدخرات وثروات على ظهرها وفي باطنها، فهي منحٌ وعطاءاتٌ سخرها الخالق سبحانه وتعالى للإنسان منةً منه وفضلًا.

ومن الآيات التي تحض على السعي في الأرض ابتغاء الرزق، ما ورد في ختام سورة المزمل في قوله تبارك وتعالى: (ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ) [المزمل: ٢٠].

فقد ذكرت الآية الكريمة أصحاب الأعذار الذين يشق عليهم قيام ثلثي الليل أو نصفه أو ثلثه ، وهم: المرضى، والضاربون في الأرض، والمجاهدون، فخفف الله عنهم، وكلفهم ما يطيقون، ليقرأوا في صلاة الليل ما تيسر من القرآن، فكانوا سببًا للتخفيف عن الأمة، ونسخ فرض قيام الليل، ويهمنا من هذه الفئات الثلاث؛ الفئة الثانية المذكورة في قوله جل ثناؤه: (ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ)، فهؤلاء يسافرون ويضربون في الأرض للتجارة وطلب المعاش، أو ابتغاء الرزق المعبر عنه بفضل الله، فهم لا يطيقون قيام الليل لما يعانون من المشقة في سعيهم وأسفارهم، وربما كان الليل فرصتهم لأخذ قسط من الراحة والنوم، والاستعداد للغد. والسفر والضرب في الأرض لكسب الرزق ليس مجرد تجارة وكسب، بل هو فضيلة وطاعة اقترن ذكرها في الآية الآنفة بالجهاد في سبيل الله وهو ذروة سنام الإسلام.

فقد «سوى الله تعالى في هذه الآية بين درجة المجاهدين والمكتسبين المال الحلال للنفقة على نفسه وعياله، والإحسان والإفضال، فكان هذا دليلا على أن كسب المال بمنزلة الجهاد؛ لأنه جمعه مع الجهاد في سبيل الله»78.

وقد بلغ من أهمية الضرب في الأرض للكسب ونفع الناس، أن أضحت مهنة شريفة تحظى بالتقدير، لذلك حض عليها النبي صلى الله عليه وسلم، فعن الزبير بن العوام رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لأن يأخذ أحدكم حبله، فيأتي بحزمة حطب على ظهره فيبيعها، فيكف الله بها وجهه، خير له من يسأل الناس، أعطوه أو منعوه)79.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله، أو القائم الليل الصائم النهار)80.

ومن النماذج التي تحث على السير في الأرض ابتغاء الرزق، ما ورد في سورة الجمعة في قوله تعالى ذكره: (ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ) [الجمعة: ١٠].

قال القرطبي: «يقول: إذا فرغتم من الصلاة فانتشروا في الأرض للتجارة والتصرف في حوائجكم. (ﭮ ﭯ) أي: من رزقه»81.

وقال ابن كثير: «لما حجر عليهم في التصرف بعد النداء وأمرهم بالاجتماع، أذن لهم بعد الفراغ بالانتشار في الأرض والابتغاء من فضل الله ، وقوله: (ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ)؛ أي: في حال بيعكم وشرائكم، وأخذكم وعطائكم، اذكروا الله ذكرا كثيرا، ولا تشغلكم الدنيا عن الذي ينفعكم في الدار الآخرة»82.

هذا هو المنهج المتوازن الذي يقيمه القرآن الكريم حين يلبي مقتضيات الإنسان في الحياة الدنيا دون أن ينسى نصيبه من الآخرة، ففور انقضاء صلاة الجمعة، يأتي الإذن بالانتشار في الأرض لابتغاء الرزق، فلا رهبانية في الإسلام، ولا مجال للمكث في المساجد بدعوى الانقطاع للعبادة، فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رأى قوما جلوسا في المسجد في غير وقت الصلاة، فكره منهم ذلك وقال: «لا يقعد أحدكم عن طلب الرزق ويقول: اللهم ارزقني! فقد علمتم أن السماء لا تمطر ذهبا ولا فضة»83.

وقد فقه عراك بن مالك رضي الله عنه هذا المعنى، فكان إذا صلى الجمعة انصرف فوقف على باب المسجد، فقال: «اللهم، أجبت دعوتك، وصليت فريضتك، وانتشرت كما أمرتني، فارزقني من فضلك، وأنت خير الرازقين»84.

أساليب الحث على السير للتأمل

تعددت وتنوعت أساليب القرآن الكريم في الحث على السير، ولم تكن نمطية، وسبب هذا التنوع تأكيد أهمية موضوع السير، وإثارة انتباه القارئ والسامع.

وسنحاول في هذا المبحث أن نبرز بعض تلك الأساليب في النقاط الآتية:

أولًا: الأمر بالسير:

الأسلوب الأول من أساليب القرآن الكريم في الحث على السير للتأمل هو: الأمر به، وقد تكرر ست مرات بصيغتين:

الأولى: بقوله جل ذكره: ( ﮄ ﮅ) في موضعين85.

والثانية: بقوله جل ثناؤه: (ﭩ ﭪ ﮄ ﮅ) في أربعة مواضع86.

فآية آل عمران خطاب مباشر للمؤمنين تأمرهم بالسير، والفاء سببية، وقيل : شرطية، أي: إن شككتم فسيروا87.

فقد طلب منهم أن يسيروا في الأرض ليروا نهاية المكذبين، فتطمئن قلوبهم لصدق وعد الله تعالى بنصر المؤمنين وإهلاك الكافرين، وليدركوا أن ما حصل في معركة أحد لم يكن سوى امتحان وتمحيص للصف لتمييز الخبيث من الطيب، وأن العاقبة للمتقين، أما بقية الآيات فخطاب للكفار والمشركين.

وقد اختلف المفسرون في الأمر بالسير؛ هل هو على سبيل الوجوب أم الإباحة؟

فذهب أكثرهم إلى أن الأمر للندب88، إذ المقصود الاعتبار لا السفر بحد ذاته، فإذا حصل بغير المسير في الأرض بسماع الأخبار أو قراءة كتب التاريخ، فقد تم المقصود، وإن كان في الوقوف على الآثار ومشاهدة الديار مزيد اعتبار، وذهب الزمخشري إلى التفريق بين الأمر بالسير والنظر : فقال: «معناه: إباحة السير في الأرض للتجارة وغيرها من المنافع، وإيجاب النظر في آثار الهالكين، ونبه على ذلك بثم، لتباعد ما بين الواجب والمباح»89.

فالأمر الواجب -في تقدير الزمخشري- هو النظر وليس السير، فإذا حصل السفر لأي غرض، وجب النظر، والحق أن الأمر بالسير لا يقتضي الوجوب، لأن العبرة بالمقصود لا بالسير ذاته، فالمراد بالآيات؛ إن كنتم في شك مما قيل لكم، فسيروا في الأرض لتقفوا على الحقيقة ماثلة أمامكم ترونها رأي العين، ثم إن في المخاطبين من سار وعاين، وحين لم يتعظ كان كمن لم ير، كل ذلك يرجح أن يكون الأمر بالسير للندب لا الوجوب.

وليس بين ما ذكرنا والأحاديث النبوية الواردة في النهي عن دخول ديار الذين ظلموا أنفسهم تعارض، كما في الحديث الصحيح، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين، فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوها عليهم أن يصيبكم ما أصابهم)90.

وروى البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: لما مر النبي صلى الله عليه وسلم على الحجر قال: (لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم أن يصيبكم ما أصابهم، إلا أن تكونوا باكين)، ثم قنع رأسه وأسرع السير حتى أجاز الوادي ، وهو على الرحل91.

وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس عام تبوك، نزل بهم الحجر، عند بيوت ثمود، فاستقى الناس من الآبار التي كان يشرب منها ثمود، فعجنوا منها، ونصبوا القدور باللحم، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهراقوا القدور، وعلفوا العجين الإبل، ثم ارتحل حتى نزل بهم على البئر التي كانت تشرب منها الناقة، ونهاهم أن يدخلوا على القوم الذين عذبوا، قال: (إني أخشى أن يصيبكم مثل ما أصابهم، فلا تدخلوا عليهم)92.

فاشتراط النبي صلى الله عليه وسلم البكاء عند دخول ديار الذين ظلموا أنفسهم؛ يعني : أن يدخل المسلم تلك الديار متفكرا ومتأملا، مما يهيجه على البكاء خشية أن يصيبه ما أصابهم، وذلك هو معنى الاعتبار، أما أن تتحول مساكن الذين ظلموا إلى مواقع للهو والترفيه، بله الإعجاب والتقديس، فهذا منهي عنه.

ثانيًا: الاستفهام الإنكاري والتقريري:

من أساليب الحث على السير للتأمل؛ الاستفهام ؛ ويعرف بأنه: طلب المتكلم من مخاطبه أن يحصل في الذهن ما لم يكن حاصلًا عنده مما سأله عنه93، وهو ضربان:

أحدهما: نفي.

والثاني: إثبات.

فالوارد للنفي يسمى استفهام إنكار، والوارد للإثبات يسمى استفهام تقرير، لأنه يطلب بالأول إنكار المخاطب، وبالثاني إقراره به94.

وأدوات الاستفهام كثيرة على رأسها الهمزة، وهي الحرف الذي لا يزول عنه إلى غيره، وليس للاستفهام في الأصل غيره، كما ذكر سيبويه95.

وتمتاز همزة الاستفهام بتقديمها على حروف العطف كالواو والفاء وثم، وكان القياس تأخيرها عن العاطف، إذ لا يجوز أن يؤخر العاطف عن شيء من هذه الأدوات؛ لأن أدوات الاستفهام جزء من جملة الاستفهام، والعاطف لا يقدم عليه جزء من المعطوف، وإنما خولف هذا في الهمزة؛ لأنها أصل أدوات الاستفهام، فأرادوا تقديمها تنبيها على أنها الأصل في الاستفهام، لأن الاستفهام له صدر الكلام96.

ومما تمتاز به الهمزة عن بقية الأدوات إفادتها معاني بلاغية كثيرة؛ كالإنكار والتقرير والتحقير والتعظيم والتعجيب والتحضيض، ويأتي إفادتها معنيي الإنكار والتقرير في الصدارة.

وحين نستقرئ آيات السير نلاحظ أن أكثرها جاء بأسلوب الاستفهام، فمن مجموع ثلاث عشرة آية في السير نجد سبعًا منها مفتتحة بالاستفهام بالهمزة، يليها الفعل كما هو الأصل في حروف الاستفهام، وجاءت بصيغتين متقاربتين:

الأولى: (ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ)97.

والثانية: (ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ)98.

وقد أفادت كلها المعنيين الأكثر ورودا وهما: الإنكار والتقرير، وإنكار الشيء يعني كراهته والنفور عن وقوعه، ويأتي الإنكار « لتنبيه السامع حتى يرجع إلى نفسه فيخجل ويرتدع ويعيا بالجواب، إما لأنه قد ادعى القدرة على فعل لايقدر عليه ، وإما لأنه هم بأن يفعل ما لا يستصوب فعله ، فإذا روجع فيه تنبه وعرف الخطأ، وإما لأنه جوز وجود أمر لا يوجد مثله ، فإذا ثبت على تجويزه وبخ على تعنته» 99.

ويكون الاستفهام الإنكاري بدخول همزة الاستفهام على أداة نفي، و«يقتضي أن ما بعده واقع، وأن صاحبه ملوم» 100.

أما الاستفهام التقريري فهو: «حملك المخاطب على الإقرار والاعتراف بأمر قد استقر عنده ، وحقيقة استفهام التقرير أنه استفهام إنكار، والإنكار نفي، وقد دخل على المنفي، ونفي النفي إثبات»101.

وسأذكر ثلاثة نماذج مما جاء من أسلوب الاستفهام الإنكاري والتقريري على سبيل التمثيل لا الحصر.

الأنموذج الأول: في قوله جل وعلا: (ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰﮱ ﯓ ﯔ ﯕ [يوسف: ١٠٩].

فالاستفهام في الآية إنكاري102، والغرض منه التوبيخ والتقريع103، ثم جاء العطف بالواو والفاء على مقدر يقتضيه المقام والسياق، تلاها لم، وهي حرف نفي وقلب وجزم، ويسيروا: فعل مضارع مجزوم بلم، والواو فاعل عائد على الكفار الذين عاندوا النبي صلى الله عليه وسلم واعترضوا على نبوته، فدعوا إلى السير في الأرض للاعتبار بعاقبة المكذبين للرسل، مع أن في المخاطبين من سار ورأى آثار الذين كانوا من قبل، وكيف خلت منهم الديار، وطواهم الزمان، ومن لم يسافر منهم سمع ممن رأى، فتواترت الأخبار عن أقوام كعاد وثمود وأهل مدين وقوم لوط، وكيف كانت نهايتهم، ولما كان مرورهم بتلك الديار أو سماعهم للأخبار لم يهز قلوبهم القاسية ، ولم يحدث فيها أي تأثير، استحقوا ذلك التوبيخ والتقريع.

الأنموذج الثاني: في قوله جل ثناؤه: ( ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ) [الروم: ٩].

فقد افتتحت الآية بالاستفهام التقريري104، وجاء التقرير على النفي، «وأصلها: إما الإنكار بتنزيل المقر منزلة المنكر ليكون إقراره أشد لزوما له، وإما أن تكون للاستفهام فلما دخلت على النفي أفادت التقرير ؛ لأن إنكار النفي إثبات للمنفي»105.

والمعنى: ونظروا إلى ما حل بمن كان قبلهم من المكذبين، وأن ذلك لم ينفعهم إذ لم يعتبروا ويتعظوا بما رأوا، ولا يعترض بأن في المخاطبين من لم يسر ؛ «لأن كافة من سار من الناس قد نقلت معارفهم إلى من لم يسر، فاستوت المعرفة وحصل اليقين للكل، وقامت الحجة»106.

الأنموذج الثالث: ما جاء في سورة غافر في موضعين:

الأول: في قول الحق تبارك وتعالى: (ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ) [غافر: ٢١].

والثاني: في قوله تعالى ذكره: (ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ) [غافر: ٨٢].

فالاستفهام في الآية الأولى تقريري، وفي الثانية إنكاري ، على ما هو شائع في مثله من الاستفهام الداخل على نفي الماضي بحرف (لم)، والتقرير موجه للذين ساروا من قريش ونظروا آثار الأمم الذين أبادهم الله107.

وفي تكرير الدعوة إلى السير في هذه السورة إنكار على القوم تركهم السير الذي يتوصل به الاعتبار بمصير الأمم الظالمة، وكيف استأصلها الله جلت قدرته رغم ما كانت تتمتع به من قوة وتمكين، يفتقر إليها المخاطبون في الآيتين.

وقد جاءت الدعوة في الآية الأولى عقب آيات التهديد والوعيد، وفي الآية الثانية عقب آيات الامتنان والاستدلال، وفي كلا الموضعين تذكير وتهديد ووعيد، وفي ذلك إشارة إلى أنهم إن لم يكونوا ممن تزعهم النعم عن كفران مسديها كشأن أهل النفوس الكريمة، فليكونوا ممن يردعهم الخوف من البطش كشأن أهل النفوس اللئيمة، فليضعوا أنفسهم حيث يختارون من الخطتين108.

ثالثًا: أسلوب التلقين:

الأسلوب الثالث من أساليب الحث على السير هو التلقين، وهو لغة: من الفهم، لقنت الكلام بالكسر: فهمته وتلقنته: أخذته، والتلقين: كالتفهيم، وغلامٌ لقنٌ: سريع الفهم109.

والمراد من أسلوب التلقين في آيات السير ما ورد مفتتحا بفعل () موجها للنبي صلى الله عليه وسلم يلقنه ربه تعالى حجته على خصومه، ويعلمه كيف يرد على تعنتهم وجحودهم، وقد تكرر هذا الأسلوب في أربعة مواضع بصيغة: (ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ) في: [الأنعام: ١١]، [النمل: ٦٩]، [العنكبوت: ٢٠]، [الروم: ٤٢].

وفيه دليل على أنه لا دخل للنبي صلى الله عليه وسلم في صياغة اللفظ القرآني ، بل هو متبع للوحي يبلغه كما أمره به ربه جل ذكره، «ولتصدير الآيات السابقة بعبارة (قل) مغزى لطيف يفهمه العربي بالسليقة ، وهو توجيه الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم وتعليمه ما ينبغي أن يقول، فهو لا ينطق عن هواه بل يتبع ما يوحى إليه، ولذلك تكررت عبارة (قل) أكثر من ثلاثمائة مرة في القرآن؛ ليكون القارئ على ذكر من أن محمدًا صلى الله عليه وسلم لا دخل له في الوحي فلا يصوغه بلفظه، ولا يلقيه بكلامه، وإنما يلقى إليه الخطاب إلقاء فهو مخاطب لا متكلم، حاكٍ ما يسمعه، لا معبر عن شي يجول في نفسه»110.

وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذه المسألة فيما روى البخاري عن زر بن حبيشٍ قال: سألت أبي بن كعبٍ عن المعوذتين فقال: (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: قيل لي فقلت، قال أبي: فنحن نقول كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم)111.

وقد ذكر بعض المفسرين أن الخطاب في الآيات الأربع موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر آخرون أن الخطاب في آية العنكبوت موجه إلى إبراهيم عليه السلام ؛ لأن الآية جاءت في سياق محاججته لقومه112.

والراجح أنها اعتراض بين كلامين، وأنها أمر لمحمد صلى الله عليه وسلم ، كما ذكر ابن عطية113.

وقد جاءت أقوال المفسرين متشابهة، فقال الطبري في تفسير آية الأنعام: «قل يا محمد لهؤلاء العادلين بي الأوثان والأنداد، المكذبين بك، الجاحدين حقيقة ما جئتهم به من عندي »114.

وقال القرطبي: «قل يا محمد لهؤلاء المستهزئين المستسخرين المكذبين»115.

وقال ابن كثير في تفسير آية النمل: «قل يا محمد لهؤلاء المكذبين بالرسل وما جاؤوهم به من أمر المعاد»116.

وعلى هذا النحو سار أكثر المفسرين واكتفوا ببيان المخاطب بفعل (قل)، دون الإشارة إلى الحكمة من أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتلقين المكذبين ذلك القول، وقلة منهم أشار إلى ذلك؛ مثل أبي السعود الذي ذكر أنه تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم117، وابن عاشور الذي أشار إلى الحكمة بقوله: «وافتتاحها بالأمر بالقول لأنها واردة مورد المحاورة»118، وأبو زهرة الذي بين تلك الحكمة بقوله: « إن الله أمر نبيه أن يخاطبهم هو؛ لأنهم يستهزئون منه صلى الله عليه وسلم ، فكانت المجاوبة منه لهم»119.

وأضيف إلى ذلك أنها إعراض عن للمشركين، فخطاب الله جل جلاله المباشر تشريفٌ لا يستحقونه، ورفعٌ لمقام النبي صلى الله عليه وسلم وتوكيدٌ لصدق نبوته ردًا على تكذيب المشركين له، وهي في مجملها تلقينٌ له صلى الله عليه وسلم ليأمر كفار قريش بالسير في الأرض والاعتبار بمصير المكذبين من الأمم الهالكة، وإقامةٌ للحجة عليهم قبل أن يصيبهم ما أصاب الذين من قبل.

رابعًا: الثناء على المتأملين:

فقد ورد الثناء على المتأملين في قوله جل وعلا: (ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ) [آل عمران: ١٣٧ - ١٣٨].

وقد سبقت الإشارة إلى أن آية السير في سورة آل عمران خطاب للمؤمنين عقب غزوة أحد، وأنها جاءت لتشد من عزائمهم بعد الذي ألم بهم، ولتبشرهم بسوء عاقبة عدوهم، جريا على سنة الله تعالى في إهلاك المكذبين.

ثم جاءت الآية الثانية تثني عليهم حين خصتهم دون الناس بالتبصر والاهتداء بسنن الله جل ذكره في قوله: (ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ)، فسنن الله عز وجل بيان، أي: دلالة وحجة لإزالة الشبهة، وإيضاح وكشف للحقائق للناس كافة؛ مؤمنهم وكافرهم، تقيهم وفاجرهم، ولكن لا يستفيد ويعتبر منها إلا المتقون، فهي لهم هدًى، أي: دلالة على سبيل الحق، وموعظةٌ، أي: تذكرة للصواب والرشاد120، قال صاحب الكشاف: «هذا بيان للناس وإيضاح لسوء عاقبة ما هم عليه من التكذيب، يعني: حثهم على النظر في سوء عواقب المكذبين قبلهم ، والاعتبار بما يعاينون من آثار هلاكهم ، وهو زيادة تثبيت وموعظة للذين اتقوا من المؤمنين»121.

ففي الآية الكريمة مدح وثناء للمتقين؛ فهم وحدهم من يهتدي ويتعظ بسنن الله تعالى في أخذ المكذبين، حين يسيرون في الأرض، ويتأملون آثار القرى المدمرة، وكيف كان عاقبة الظالمين، فيتقون أسباب هلاكهم، «فالكلمة الهادية لا يستشرفها إلا القلب المؤمن المفتوح للهدى. والعظة البالغة لا ينتفع بها إلا القلب التقي الذي يخفق لها ويتحرك بها ، فالإيمان والتقوى هما اللذان يشرحان القلب للهدى والنور والموعظة والعبرة. وهما اللذان يزينان للقلب اختيار الهدى والنور والانتفاع بالموعظة والعبرة »122.

هذا عن الثناء على المؤمنين المتأملين في سنن الله تعالى، المهتدين والمتعظين بما فيها من أسباب الهلاك أو التمكين.

خامسًا: ذم غير المتأملين:

وقد ورد ذلك في قوله جل ثناؤه: (ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ) [الحج: ٤٦].

فهذه طائفة الغافلين غير المتأملين من الكفار والمشركين الذين ذكرتهم هذه الآية وذمتهم أشد الذم، والسبب أنهم ساروا في الأرض ورأوا آثار وديار الأمم الهالكة كعاد وثمود وأهل مدين وقوم لوط، رأوا ذلك في أسفارهم، ومروا بهم بالليل والنهار، فما حرك فيهم ساكنا، ولا أحدث في قلوبهم هزة، ولا في عقولهم فكرة، فكانوا كالأنعام، بل أضل، فوبخهم الله عز وجل في الآية التي ذكرنا آنفًا.

فقوله تعالى: (ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ)، يحتمل معنيين: إما أنهم لم يسافروا، فحثوا على السفر ليروا مصارع من أهلكهم الله بكفرهم، ويشاهدوا آثارهم فيعتبروا، أو أنهم سافروا ورأوا ذلك ولم يعتبروا فجعلوا كأن لم يسافروا ولم يروا، وكلا المعنيين صحيح، فالاستفهام تعجيبي بمن سافروا ورأوا وبمن لم يسافروا؛ وهؤلاء -بلا شك- سمعوا ما حكى من رأوا، وقد ذمت الآية الفريقين، فأنكرت على الذين سافروا ورأوا ولم يتعظوا، فنعت عليهم قلوبهم القاسية بقوله جل وعلا: (ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ)، «وأطلقت القلوب على تقاسيم العقل على وجه المجاز المرسل ؛ لأن القلب هو مفيض الدم- وهو مادة الحياة - على الأعضاء الرئيسة وأهمها الدماغ الذي هو عضو العقل. ولذلك قال: (ﯫ ﯬ) وإنما آلة العقل هي الدماغ ، ولكن الكلام جرى أوله على متعارف أهل اللغة ، ثم أجري عقب ذلك على الحقيقة العلمية ، فقال : «يعقلون بها ، فأشار إلى أن القلوب هي العقل»123.

ومعنى الجملة أن القوم حين لم يعملوا عقولهم فيما رأوا أنزلوا منزلة من لا عقل له، وأما الذين لم يسافروا وسمعوا الأخبار ، ثم لم يتعظوا فنعت عليهم آذانهم الصماء في قوله جل ثناؤه: (ﯭﯮ ﯯ ﯰ)، فهؤلاء أيضا نالهم الذم ؛ لأنهم لم يستفيدوا من آلة السمع، ولم يردعهم تواتر أخبار الأمم الهالكة، فلم يغن عنهم سمعهم شيئا حين عطلوا مهمتها وهي إدراك المسموعات، لكن حظ من سافر ورأى وسمع الأخبار من الذم أوفر، فليس من رأى كمن سمع.

ثم ختمت الآية الكريمة ببيان حقيقة العمى عند هؤلاء الغافلين، فقال الله تبارك وتعالى: (ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ)، «أي: ليس العمى عمى البصر، وإنما العمى عمى البصيرة، وإن كانت القوة الباصرة سليمة فإنها لا تنفذ إلى العبر، ولا تدري ما الخبر»124.

فليس الخلل في جوارحهم وإنما هو في عقولهم، فما عميت عيونهم عن الإبصار، بل قلوبهم عن الاعتبار.

المخاطبون بالسير للتأمل

أشرنا في المباحث السابقة إلى أهمية السير في القرآن، سواء من حيث مجالاته أو مقاصده أو أساليب الحث عليه، وبقي علينا أن نشير إلى الطوائف المعنية بخطاب السير للتأمل، لتكتمل عناصر الموضوع، وتتضح أهميته أكثر. فباستقراء الآيات الواردة في موضوع السير، نجد أنها خاطبت طائفتين: المؤمنون، والمكذبون، وسنحاول تتبع كل طائفة على حدة من خلال مطلبين.

أولًا: مخاطبة المؤمنين:

خوطب المؤمنون ودعوا إلى السير في الأرض في موضعين؛ الأول خطاب خاص بهم في قول الله سبحانه وتعالى: (ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ) [آل عمران: ١٣٧].

والثاني خطاب عام، والمؤمنون أولى به، في قوله تبارك وتعالى: (ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ) [العنكبوت: ٢٠].

فآية سورة آل عمران خطاب صريح للمؤمنين نزلت تواسيهم بعدما أصابهم القرح يوم أحدٍ، وقد جاءت كالتوطئة لما سيأتي من عتاب وذكر لأسباب النكسة التي مني بها المؤمنون في تلك الغزوة، حين ظنوا أنهم ينتصرون لمجرد كونهم على حق وعدوهم على باطل، فأرشدهم الله جل وعلا أن للنصر والهزيمة سننًا ثابتة لا تتبدل ولا تتحول، ولا تحابي أحدا، فقد كانت النكسة بسبب تخليهم عن أسباب النصر، حين خالفوا أوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانشغلوا بالغنائم، وقد وصف الله جل ذكره ذلك بقوله: (ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞﮟ ﮠ ﮡ ﮢﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ) [آل عمران: ١٥٢].

فقد كانت الهزيمة مفاجأةً غير منتظرةٍ لدى كثير من المؤمنين الذين ظنوا أنهم منتصرون لا محالة، وحين وقعت، دهشوا لما صارت إليه الأمور، واستغربوا ما وقع، كل ذلك لأنهم لم يفقهوا بعد طبيعة السنن وجديتها وعدم محاباتها، وقد صور القرآن الكريم موقف الاستغراب في قوله جل ثناؤه: (ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ) [آل عمران: ١٦٥].

إن تساؤل المؤمنين بقـــولهم: (ﰄ ﰅ) يكشف عن أن أكثرهم كان يظن أن كونهم على دين الحق سببٌ كافٍ لغلبتهم أينما غزوا وظهورهم على الباطل كيفما كانوا، وربما دفعهم إلى هذا الظن ما شاهدوه يوم بدر من ظهورهم على عدوهم، ونزول الملائكة مددا لهم، وهو ظن يؤدي إلى إفساد أساس الدين القائم على السنن الجارية لا على خوارق العادة، وتعطيل سنة الله في النصر والهزيمة القائمة على أسبابها العادية.

كان جواب القرآن الكريم حاسمًا: (ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ)، فقد انطبقت عليهم سنة الله تعالى في العمل والجزاء، فكانت النتيجة أثرا طبيعيا للعمل، فأنفسهم هي التي أخلت بشروط النصر حين عصت أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، وهي التي دفعتهم إلى الطمع في الغنيمة، وبالجملة فقد عرضوا أنفسهم لسنة الله تعالى التي لا تعرف محاباة ولا استثناءات، فانطبقت عليهم.

وبعد ذلك العتاب الشديد، جاء التوجيه السديد، فطمأن الله جل ثناؤه عباده المؤمنين بأن العاقبة لهم، وأن الدائرة على الكافرين المكذبين، ولكنه لم يسق ذلك في قالب وعظي مباشر، بل أرشدهم إلى عالم السنن التي تحكم أسباب النصر والهزيمة، وردهم إلى الأصول التي تجري وفقها الأمور، فهم ليسوا بدعا في الحياة، فإذا هم درسوها، وأدركوا مغازيها، تكشفت لهم الحكمة من وراء الأحداث، وتبينت لهم الأهداف من وراء الوقائع، واطمأنوا إلى ثبات النظام الذي تتبعه الأحداث125.

وتلك هي النقلة التي رفع القرآن الكريم المؤمنين إلى مستواها، فأصبحوا وحدهم قادرين على الاهتداء والاتعاظ بسنن الله تعالى، وهو المقصود بقوله جل وعلا: (ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ )، فالإشارة بقوله: () عائدة إلى ما سبق من قوله جل ثناؤه: (ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ) وهو ما اختاره الطبري126.

أما آية سورة العنكبوت، وإن جاءت في سياق محاججة منكري البعث، فإن ما دعت إليه من السير في الأرض للوقوف على دلائل قدرة الله تعالى في بدء الخلق وإعادته، مما يدعى إليه المؤمنون أيضًا ليزدادوا إيمانًا، ولتطمئن قلوبهم ، كما قال الخليل إبراهيم عليه السلام، ثم إن هذه الآية الكريمة من الآيات التي تدعو إلى اكتشاف سنن الله في الآفاق والأنفس، ويتعين على المؤمنين فقهها والعمل بمقتضاها، إذا أرادوا أن يمكن لهم في الأرض.

إنها دعوة مفتوحة لكل من يريد أن يكتشف أسرار بدء الخلق؛ ومن إعجاز هذا النص أنه خطاب متجدد يستجيب لكل عصر، ويساير الاكتشافات العلمية، «ذلك أن المخاطبين بهذه الآية أول مرة لم يكونوا مؤهلين لمثل هذا البحث العلمي الذي نشأ حديثا، فلم يكونوا بمستطيعين يومئذ أن يصلوا من ورائه إلى الحقيقة المقصودة به -لو كان ذلك هو المقصود- فلا بد أن القرآن كان يطلب منهم أمرا آخر داخلا في مقدورهم، يحصلون منه على ما ييسر لهم تصور النشأة الآخرة. ويكون المطلوب حينئذ أن ينظروا كيف تبدأ الحياة في النبات والحيوان والإنسان في كل مكان. ويكون السير في الأرض لتنبيه الحواس والمشاعر برؤية المشاهد الجديدة، ودعوتها إلى التأمل والتدبر في آثار قدرة الله على إنشاء الحياة التي تبرز في كل لحظة من لحظات الليل والنهار»127.

واليوم استطاع العلم الحديث أن يؤكد الكثير من معاني تلك الآية الكريمة، بما أتيح للإنسان من إمكانات علمية، جعلته يرتاد الآفاق برًا وبحرًا وجوًا؛ ليقف في رحلاته تلك على دلائل بدء الخلق في كثير من مظاهر الكون.

وهناك ملمح علمي آخر نستشفه من التعبير بالفعل الماضي في قول الله جل وعلا: (ﮨ ﮩ ﮪ)، وهو إشارة إلى إمكانية السير في الأرض والبحث للكشف عن كيفية بدء الخليقة على كوكب الأرض عبر الحفريات.

لقد تفاعل سلف هذه الأمة بإيجابية مع هذه الآية ومثيلاتها، ففقهوا معناها وعملوا بمقتضاها، فساروا في الأرض وضربوا في مناكبها متأملين ومكتشفين سنن الله في الآفاق والأنفس، فأبدعوا واخترعوا ونبغ منهم علماء في مختلف العلوم والفنون، وقدموا للبشرية أنموذجا راقيا من الحضارة شهد بتألقها الأعداء قبل الأصدقاء.

واليوم لا يخفى ما في واقع المسلمين من تقصير في تطبيق هذه الآية ومثيلاتها، حين ركنوا إلى الكسل والأماني، وقعدوا عن السير في الأرض والتأمل في سنن الآفاق والأنفس، وتركوا الساحة لغيرهم يكتشفون مكنونات الكون ويسخرون مدخراته في حياتهم، مما منحهم تفوقًا هائلًا في مجال التكنولوجيا والمعلوماتية، يقف المسلمون إزاءها مشدوهين، لا يسهمون فيها بشيء سوى الاستهلاك بطعم المذلة والمهانة أمام طغيان وجبروت العالم الغربي.

لقد كان المسلمون أحق بهذه الإنجازات انطلاقا من تعاليم كتابهم الذي فتح لهم آفاق السير في الأرض لاكتشاف سنن الله تعالى في الخلق، وتوجيهها الوجهة الإيمانية التي تسعد البشرية وتمنحها الحياة الطيبة.

ثانيًا: مخاطبة المكذبين:

يمثل خطاب المكذبين من الكفار والمشركين أغلب آيات السير، ويأتي إما مباشرا، أو غير مباشر -وهو الغالب- ويكون بضمير الغيبة مع الاستفهام الإنكاري،أو الخطاب بواسطة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد كشف الله جل شأنه في تلك الآيات مخازي أولئك المكذبين، وهي تدور في مجملها حول جريمتين هما: تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم، وإنكار البعث، وسأذكر كل جريمة على حدة.

أولًا: تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ورد في أربعة مواضع هي: [الأنعام: ١٠-١١]، [يوسف: ١٠٩]، [النحل: ٣٥-٣٦]، [الحج: ٤٢ - ٤٦].

خوطب فيها المكذبون خطابًا شديدًا فيه تهديد ووعيد بمصير مشؤوم ، كالذي طال المكذبين بالرسل من قبل، ولا يتسع المقام لذكرها جميعا، لذلك سأكتفي بعرض أنموذجين فقط.

الأنموذج الأول: نقرؤه في قول الله جلت قدرته: (ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ) [الحج: ٤٢ - ٤٦].

فالمقطع تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عما ناله من أذى المشركين، وحض له على الصبر على ما يلحقه منهم من السب والتكذيب، يقال له: «لست بأوحديٍ في التكذيب، فقد كذب الرسل قبلك أقوامهم، وكفاك بهم أسوة » 128.

ثم ذكر ما أصاب أولئك المكذبين بعد الإملاء والاستدراج، فقد أحل الله تعالى بهم عقابه، فأبدلهم بالنعمة محنة، وبالحياة هلاكا، وبالعمارة خرابًا، وقد عرض المقطع مصارع الأقوام في مشهد شاخص مؤثر؛ قرًى مدمرةٌ خاويةٌ، وآبارٌ معطلةٌ مهجورةٌ، وقصورٌ مشيدةٌ خاليةٌ وموحشةٌ، وهي مشاهد تتحدث بالعبر وتنطق بالعظات، رآها وسمع عنها كفار قريش، ولكن لا عبرة ولا موعظة، ومن ثم يأتي السؤال في استنكار وتعجيب من عدم تأثير تلك المشاهد في نفوس أولئك المكذبين، ولكن إذا عرف السبب بطل العجب، فالقوم نزلوا إلى درك من البهيمية، فتعطلت آلات المعرفة لديهم، فلا القلوب تعي ولا الآذان تسمع، ولذلك يرون ولا يدركون، ويسمعون ولا يعتبرون.

الأنموذج الثاني: من خطاب المكذبين بنبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم يستوقفنا في سورة يوسف في قول الحق تبارك وتعالى: ( ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰﮱ ﯓ ﯔ ﯕ) [يوسف: ١٠٩].

فالآية الكريمة رد على اعتراض المشركين على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، واستغرابهم أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم بشرًا، كما في قوله تعالى: (ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ) [الإسراء: ٩٤].

فبين الله جل ذكره أن إرسال الرسل عليهم الصلاة والسلام من البشر سنة إلهية قديمة، فهل كان الرسل السابقون أمثال: إبراهيم وإسماعيل وموسى وعيسى عليهم السلام، ممن يقر المشركون بنبوتهم إلا بشرًا؟ فلماذا الاستغراب من بشرية خاتمهم صلى الله عليه وسلم؟

ثم توعدهم سبحانه وتعالى بالمصير المشئوم والعاقبة السيئة التي صار إليها الهالكون السابقون الذين اعترضوا على أنبيائهم، وقد رأوا بأعينهم آثارهم وبقايا ديارهم في رحلاتهم وأسفارهم، وهو المقصود بقوله سبحانه وتعالى: (ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ).

فقد ساروا ورأوا ولكنهم لم يتعظوا ولم يعتبروا، إذ كان همهم الدنيا؛ بها شغفوا وعليها تهالكوا وفي ملذاتها انغمسوا، ونسوا حظهم من الآخرة، ولذلك جاءهم الوعيد في قوله جل ذكره: (ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰﮱ ﯓ ﯔ)، وفيها أيضا وعدٌ للمؤمنين الذين اتقوا ربهم بأداء فرائضه واجتناب معاصيه، وفي الالتفات إلى المشركين بالخطاب بقوله: (ﯓ ﯔ) زيادة توبيخ وتقريع، يقول: «أفلا يعقل هؤلاء المشركون بالله حقيقة ما نقول لهم، ونخبرهم به من سوء عاقبة الكفر، وغب ما يصير إليه حال أهله، مع ما قد عاينوا ورأوا وسمعوا مما حل بمن قبلهم من الأمم الكافرة المكذبة رسل ربها»129.

ثانيًا: إنكار البعث: وقد ورد فيه ثلاثة نماذج هي:

الأنموذج الأول: في قول الله جل وعلا: (ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ) [النمل: ٦٧ - ٦٩].

قال ابن كثير: « يقول الله تعالى مخبرا عن منكري البعث من المشركين: أنهم استبعدوا إعادة الأجساد بعد صيرورتها عظاما ورفاتًا وترابا، ثم قال: (ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ) أي: ما زلنا نسمع بهذا نحن وآباؤنا، وما نرى له حقيقة ولا وقوعًا. وقولهم: (ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ): يعنون: ما هذا الوعد بإعادة الأبدان، (ﮛ ﮜ ﮝ) أي: أخذه قوم عمن قبلهم، من قبلهم يتلقاه بعض عن بعض، وليس له حقيقة. قال الله تعالى مجيبا لهم عما ظنوه من الكفر وعدم المعاد: () يا محمد لهؤلاء: (ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ) أي: المكذبين بالرسل وما جاؤوهم به من أمر المعاد وغيره، كيف حلت بهم نقم الله وعذابه ونكاله، ونجى الله من بينهم الرسل ومن اتبعهم من المؤمنين، فدل ذلك على صدق ما جاءت به الرسل وصحته»130.

فإنكار هؤلاء المجرمين للبعث وصل حد التبجح، فما يخبرهم به النبي صلى الله عليه وسلم عن البعث والنشور - في اعتقادهم- حديث خرافة حكاه الأولون وسطروه وتلقفه من جاء بعدهم، ولم يقع منه شيء، ولما أمعن الذين كفروا في إنكارهم وعاندوا، أمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم أن يحذرهم من عواقب إنكارهم؛ بأن يسيروا في الأرض ويعتبروا بمن كان قبلهم من المكذبين رسل الله، وكيف دمر الله عليهم، فخلت منهم الديار، وتعفت منهم الآثار، وتلك سنة الله في كل مجرم لايؤمن بالله واليوم الآخر.

الأنموذج الثاني: ورد في قول المولى تبارك وتعالى: (ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ) [الروم: ٧ - ٩].

وقد سبق ذكر معاني التفكر في الخلق الواردة في هذه الآيات، فلا حاجة لتكراره، ويهمنا في هذا المقام الإشارة إلى أن المخاطبين بالسير في الأرض منكرون للبعث، بدليل قوله تعالى: (ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ)، (ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ)، وقد أنكر الله جل وعلا عليهم غفلتهم، ووبخهم كما يتضح من الاستفهام الإنكاري الذي تكرر مرتين، ونعى عليهم تعاميهم عن أدلة قدرته على إعادة الخلق المبثوثة في آيات الآفاق والأنفس، أو سنته في أخذ الظالمين الذين رأوا آثارهم وديارهم، فلا هم تبصروا بالأولى، ولا هم اتعظوا بالثانية، فلم يعد ينتظرهم إلا المصير المشؤوم الذي طال أمما ظالمة قبلهم، كانت أقوى وأشد منهم، فما أغنى عنهم ذلك من الله شيئًا.

الأنموذج الثالث: ورد في قول الله جلت قدرته: (ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ) [غافر: ١٨ - ٢١].

وليس المقصود بيان معاني هذا المقطع، وإنما سقته لبيان العلاقة بين الأمر بالسير وما سبقه من إنذار بيوم الأزفة، وتعني: يوم القيامة، وسميت بذلك لقربها وضيق وقتها131.

فالآيات الثلاث الأولى تصوير لمشهد المكذبين يوم القيامة، وما يحيط بهم من كرب شديد حين تبلغ القلوب الحناجر، وقد يئسوا من شفيع يسعى لهم بعدم المؤاخذة بذنوبهم، ويئسوا أيضًا من استطاعة إخفاء شيء من نواياهم أو أدنى حركات أعمالهم على ربهم132، يعرض عليهم هذا المشهد من يوم الحشر الذي يكذب به المشركون كأنه رأي العين.

ولما علم الله جل وعلا جحودهم وعنادهم، نقلهم من إنذارهم بعذاب الآخرة إلى موعظتهم وتحذيرهم من عذاب الدنيا كما حل بأمم أمثالهم، فخاطبهم في الآية الرابعة منكرًا وموبخًا: أولم يسر هؤلاء المقيمون على شركهم بالله، المكذبون رسوله من قريش، في البلاد، فيروا ما الذي كان خاتمة الأمم الذين كانوا من قبلهم، كانوا أشد منهم بطشًا، وأبقى في الأرض آثارًا، فلم تنفعهم شدة قواهم، وعظم أجسامهم، إذ جاءهم أمر الله، وأخذهم بما أجرموا من معاصيه واكتسبوا من الآثام، ولكنه أباد جمعهم، وصارت مساكنهم خاويةً منهم بما ظلموا، وما كان لهم من عذاب الله إذ جاءهم، من واقٍ يقيهم، فيدفعه عنهم133.

تلك أهم النماذج من آيات السير في القرآن الكريم التي خوطب بها المكذبون للنبي صلى الله عليه وسلم والمنكرون للبعث، حاولت أن أقف عند دلالاتها ومعانيها، وما تحمل من النذر لكل من يسلك هذا السبيل، فيحل عليه العذاب ، كما حل بالأمم التي كذبت رسلها، فجعلها الله عبرة لمن يعتبر.


1 مقاييس اللغة، ابن فارس، ١/٥٨٠.

2 انظر: الصحاح، الجوهري، ص ٥٢٧، لسان العرب، ابن منظور، ٤/٣٨٩- ٣٩٠، القاموس المحيط، الفيروزآبادي، ص ٤١٢، المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية، ص ٤٩٧.

3 التوقيف على مهمات التعاريف، المناوي، ص ٤٢٠.

4 ١ انظر: المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، محمد فؤاد عبد الباقي، ص٣٧٤، المعجم المفهرس الشامل، عبد الله جلغوم، باب السين ص٦٥٥-٦٥٦.

5 ٢ انظر: الوجوه والنظائر، الدامغاني ص ٢٧٨-٢٧٩، عمدة الحفاظ، السمين الحلبي، ٢/٢٤٤-٢٤٥.

6 القاموس المحيط، الفيروزآبادي، ص ١٢٩٥.

7 لسان العرب، ابن منظور، ١٤/٣٨٥.

8 مقاييس اللغة، ابن فارس،٢/٥١١.

9 لسان العرب، ابن منظور، ١٥/٢٨١.

10 المفردات، الراغب، ص ٤٨٩.

11 مقاييس اللغة، ابن فارس، ٢/٦٦.

12 المفردات، ص ٣٠٣.

13 انظر: الوجوه والنظائر في القرآن العظيم، مقاتل بن سليمان، ص ٢٢٢.

14 القاموس المحيط، الفيروزآبادي، ص ٢٢٥.

15 انظر: الكشاف، الزمخشري، ٤/٥٤٢، المحرر الوجيز، ابن عطية، ٦/٦٣٤.

16 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، ١٦/٣٥١.

17 التحرير والتنوير، ابن عاشور، ٢٠/٢٢٨- ٢٢٩.

18 المصدر السابق ٢٠/٢٢٨.

19 مفاتيح الغيب، الرازي، ٢٥/٤٨.

20 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، ١٦/٣٥٢.

21 في ظلال القرآن، سيد قطب، ٥/٢٧٣٠.

22 جامع الرسائل، رسالة: لفظ السنة في القرآن، المجموعة الأولى، ابن تيمية، ص ٥٢.

23 انظر: المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، فؤاد عبد الباقي، مادة نظر، ص ٨٧٧.

24 المنار، محمد رشيد رضا،، ٤/١٤٢.

25 التحرير والتنوير ، ابن عاشور، ٤/٩٧.

26 المصدر السابق.

27 انظر: العين، الفراهيدي، ٤/٢٣٧، الصحاح، الجوهري، ٢/١١٤٨، مقاييس اللغة، ابن فارس، ٢/٥٦٧، لسان العرب، ابن منظور، ٥/٢١٥ ، تاج العروس، الزبيدي، ١٤/٢٤٥.

28 المفردات، الأصفهاني، ص ٥١٨-٥١٩.

29 الأشباه والنظائر، العسكري، ص ٤٨٠.

30 المصدر السابق، ص ٤٨٠-٤٨١.

31 نزهة الأعين النواظر، ابن الجوزي، ص ٥٨٧، قاموس القرآن، الدامغاني، ص ٤٥٩.

32 الكشاف، الزمخشري، ٢/٣٢٧.

33 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، ١٤/٤١٩- ٤٢٠.

34 التحرير والتنوير، ابن عاشور، ٤/٩٧.

35 التحرير والتنوير، ابن عاشور، ٢٠/٢٣٠.

36 جامع البيان، الطبري، ٦/٧٠.

37 انظر: إرشاد العقل السليم، أبو السعود، ١/٢٦٠، فتح القدير، الشوكاني، ص ٢٤٥.

38 التحرير والتنوير، ابن عاشور، ٤/٩٧.

39 انظر: مفاتيح الغيب، الرازي، ٩/١٢.

40 إرشاد العقل السليم، أبو السعود، ١/٥٦٠.

41 جامع البيان، الطبري، ١٤/٢١٦-٢١٧.

42 المصدر السابق، ٩/١٦٦-١٦٧.

43 انظر: نظم الدرر، البقاعي، ١٤/٢٠٧.

44 الكشاف، الزمخشري،٥/٥١٩.

45 انظر: التحرير والتنوير، ابن عاشور، ٢٦/٨٨.

46 فتح البيان، القنوجي، ١٣/٥٦.

47 التحرير والتنوير، ابن عاشور، ٢٦/٨٨.

48 انظر: أنوار التنزيل، البيضاوي،٤/٢٠٠.

49 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، ٦/٣٠٥.

50 الكشاف، الزمخشري، ٤/٥٨٢.

وانظر: المحرر الوجيز، ابن عطية، ٧/٣١، تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، ٦/٣٢٠

51 انظر: التفكر من المشاهدة إلى الشهود، مالك بدري، ص ٦٣-٦٤.

52 مقاييس اللغة، ابن فارس، ٢/٣٢٨.

53 لسان العرب، ابن منظور، ٥/٦٥.

54 القاموس المحيط، الفيروزآبادي، ص ٤٥٨.

55 المفردات، الراغب، ص ٣٩٨.

56 مفردات القرآن، عبد الحميد الفراهي، ص ٣٠٢.

57 تعليم التفكير، فتحي عبد الرحمن جروان، ص ٣٣.

58 الحكمة في مخلوقات الله، أبو حامد الغزالي، ص ١٤.

59 مفتاح دار السعادة، ابن القيم، ١/٥٤٥-٥٤٦.

60 إحياء علوم الدين، الغزالي، ٤/٣٨٨.

61 انظر: التحرير والتنوير، ابن عاشور، ٢٠/٢٢٩.

62 جامع البيان، الطبري، ١٨/٣٧٦.

63 تفسير القرآ العظيم، ابن كثير، ٦/٢٧٠.

64 جامع البيان، الطبري، ١٨/٣٧٦.

65 إرشاد العقل السليم، أبو السعود، ٤/٣٣٢.

66 جامع البيان، الطبري، ١٨/٣٧٨.

67 جامع البيان، الطبري، ١٨/٤٦٤.

68 انظر: المحرر الوجير، ابن عطية، ٧/١١، الكشاف، الزمخشري، ٤/٥٦٦، إرشاد العقل السليم، أبو السعود، ٤/٣٥٥، أنوار التنزيل، البيضاوي، ٤/٢٠٠، فتح البيان، القنوجي، ١٠/٢٢٩

69 التحرير والتنوير، ابن عاشور، ٢١/٥٢.

70 الكشاف، الزمخشري، ٤/٥٦٦-٥٦٧.

71 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، ٦/٣٠٥.

72 انظر: إرشاد العقل السليم، أبو السعود، ٤/٣٥٢.

73 انظر: الصحاح، الجوهري، ١/٤٠٤، القاموس المحيط، الفيروزآبادي، ص ٨٨٦، المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية ص ٣٧٢.

74 لسان العرب، ابن منظور، ١٠/١١٥.

75 المفردات، الراغب، ص ١٩٩.

76 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، ٨/١٧٦.

77 انظر: جامع البيان، الطبري، ٢٣/١٢٩.

78 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، ٢١/٣٤٩، وانظر: الكشاف، الزمخشري، ٦/٢٤٩، مفاتيح الغيب، الرازي، ٣٠/١٨٧.

79 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الزكاة، باب الاستعفاف عن المسألة، رقم ١٤٧١.

80 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب النفقات، باب فضل النفقة على الأهل، رقم ٥٣٥٣، ومسلم في صحيحه، كتاب الزهد، باب فضل الإحسان إلى الأرملة والمسكين واليتيم، رقم ٢٩٨٢.

81 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، ٢٠/٤٧٦.

82 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، ٨/١٢٢-١٢٣.

83 إحياء علوم الدين، الغزالي، ٢/٦٤.

84 انظر: تفسير القرآن العظيم، ابن أبي حاتم ، رقم ١٨٨٩٧، ١٠/٣٣٥٦.

85 ورد ذلك في: آل عمران: ١٣٧، والنحل: ٣٦.

86 ورد ذلك في: الأنعام: ١١، والنمل: ٦٩، والعنكبوت: ٢٠، والروم: ٤٢.

87 انظر: إرشاد العقل السليم، أبو السعود ١/٥٦٠، فتح القدير، الشوكاني، ١/ ٢٤٥.

88 انظر: الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، ٨/٣٢٩، المحرر الوجيز، ابن عطية، ٢/٣٦٢، مفاتيح الغيب، الرازي، ٩/١٣، البحر المحيط، أبو حيان، ٣/٦٦.

89 الكشاف، الزمخشري، ٢/٣٢٨.

90 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الصلاة، باب الصلاة في مواضع الخسف والعذاب، رقم ٤٣٣، ومسلم في صحيحه، كتاب الزهد، باب النهي عن الدخول على أهل الحجر إلا من يدخل باكيا، رقم ٢٩٨٠.

91 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المغازي، باب نزول النبي صلى الله عليه وسلم الحجر، رقم ٤٤١٩.

92 أخرجه أحمد في مسنده، رقم ٥٩٨٤، ١٠/١٩١-١٩٢.

93 الأشباه والنظائر في النحو، السيوطي، ٧/٤٣.

94 انظر: البرهان في علوم القرآن، الزركشي، ٢/٣٢٨.

95 الكتاب، سيبويه، ١/٩٩.

96 انظر: البرهان في علوم القرآن، الزركشي، ٢/٣٥٠، الإتقان في علوم القرآن، السيوطي، ٣/١٤١-١٤٢.

97 ورد ذلك في: الروم: ٩، وفاطر: ٤٤، وغافر: ٢١.

98 ورد ذلك في: يوسف: ١٠٩، والحج: ٤٦، وغافر: ٨٢، ومحمد: ١٠.

99 دلائل الإعجاز، الجرجاني، ص ١٥٢.

100 دراسات لأسلوب القرآن الكريم، محمد عبدالخالق عضيمة، ٢/٦١٠.

101 انظر: البرهان في علوم القرآن، الزركشي، ٢/٣٣١-٣٣٣، الإتقان في علوم القرآن، السيوطي، ٣/٢٣٦-٢٣٧.

102 انظر: التحرير والتنوير، ابن عاشور، ١٣/٦٨.

103 انظر: البحر المحيط، أبو حيان، ٥/٣٤٦.

104 انظر: الكشاف، الزمخشري، ٤/٥٦٦، البحر المحيط، أبوحيان، ٧/١٥٩، إرشاد العقل السليم، أبو السعود، ٤/٣٥٣.

105 التحرير والتنوير، ابن عاشور، ٢١/٣٦.

106 المحرر الوجيز، ابن عطية، ٧/١١.

107 انظر: التحرير والتنوير، ابن عاشور، ٢٤/١١٩، ٢١٩.

108 انظر: المصدر السابق، ٢٤/٢١٩.

109 انظر: الصحاح، الجوهري، ٢/٩٥٤، مقاييس اللغة، ابن فارس، ٢/٤٨٢، القاموس المحيط، الفيروزآبادي، ص ١٢٣١.

110 مباحث في علوم القرآن، صبحي الصالح، ص ٣٠.

111 أخرجه البخاري، كتاب التفسير، سورة {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِ الْفَلَق}، رقم ٤٩٧٦.

112 انظر: إرشاد العقل السليم، أبو السعود، ٧/٣٤، الكشاف، الزمخسري، ٤/٥٤٢.

113 انظر: المحرر الوجيز، ابن عطية، ٤/٦٣٤.

114 جامع البيان، الطبري، ٩/١٦٦.

115 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، ٨/٣٢٩.

116 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، ٦/٢٠٨.

117 انظر: إرشاد العقل السليم، أبو السعود، ٢/١٧٧.

118 التحرير والتنوير، ابن عاشور، ٧/١٤٩.

119 زهرة التفاسير، محمد أبو زهرة، ٥/٢٤٤٧.

120 انظر: جامع البيان، الطبري، ٦/٧٥.

121 الكشاف، الزمخشري، ١/٦٣١.

122 سيد قطب، في ظلال القرآن، ١/٤٨٠.

123 التحرير والتنوير، ابن عاشور، ١٧/٢٨٨.

124 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، ٥/٤٣٨.

125 انظر: في ظلال القرآن، سيد قطب، ١/٤٧٨.

126 انظر: جامع البيان، الطبري، ٦/٧٥.

127 في ظلال القرآن، سيد قطب، ٥/٢٧٣٠.

128 الكشاف، الزمخشري،٤/٢٠٠.

129 جامع البيان، الطبري،١٣/٣٨٢.

130 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، ٦/٢٠٨.

131 انظر: المفردات، الراغب، ص ١٣.

132 انظر: التحرير والتبوير، ابن عاشور، ٢٤/١١٥.

133 انظر: جامع البيان، الطبري، ٢٠/٣٠٥.