عناصر الموضوع
السمع
أولًا: المعنى اللغوي:
السمع: مصدر سمع، والسمع: حِسّ الأذن1، يقول الله تعالى: (ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ) [الأعراف: ١٩٥].
يقال: «سمعته وسمعت به، واستمعوه وتسامعوا به، واستمع إلى حديثه، وألقى إليه سمعه، وملأ مسمعيه ومسامعه وسامعته، وهو منّي بمرأى ومسمع. وسمّع به: نوّه به. وفعل كذا رياء وسمعة، وإنما يفعل هذا تسمعة وترئية، وذهب سمعه في الناس: صيته»2.
والاستماع: الإصغاء بقصد الفهم، يقول الله تعالى: (ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ) [الأعراف: ٢٠٤]3، ومنه التسمّع: الإصغاء خفية؛ وهو مصدر تسمّع؛ أي: أصغى إليه خفيةً4.
ويعتبر أحد الحواس الخمس المعروفة: السمع، البصر، الذوق، اللمس، الشم.
ثانيًا: المعنى الاصطلاحي:
وقد جاء تعريفه في كتب الاصطلاح أنه: «قوة في الكائن الحي تدرك بها الأصوات بواسطة الأذن»5.
وهذا على عمومه في الكائنات الحية، أما باعتبار تخصيص الإنسان فيمكن تعريفه بأنه: الحاسة التي وهبها الله للإنسان؛ ليتمكن بها من إدراك الكلام والأصوات.
وردت مادة (سمع) في القرآن الكريم (١٨٥) مرة 6.
والصيغ التي وردت، هي:
الصيغة |
عدد المرات |
المثال |
الفعل الماضي |
٣٤ |
(ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ) [الملك:٧] |
الفعل المضارع |
٦١ |
(ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ) [الزخرف:٨٠] |
الفعل الأمر |
١٣ |
(ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ) [يس:٢٥] |
المصدر |
٢٢ |
(ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ) [السجدة:٩] |
اسم الفاعل |
٣ |
(ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ) [فاطر:٢٢] |
اسم المفعول |
١ |
(ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ) [النساء:٤٦] |
الصفة المشبهة |
٤٧ |
(ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ) [الشورى:١١] |
صيغة المبالغة |
٤ |
(ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ) [المائدة:٤٢] |
وجاء السمع في القرآن على ثلاثة أوجه 7:
الأول: سمع الصوت: ومنه قوله تعالى: (ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ) [الفرقان: ١٢].
الثاني: سمع القلب وفهمه: ومنه قوله تعالى: (ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ) [الكهف: ١٠١]يعني: لا يستطيعون سمعًا بقلوبهم وفهمًا للحق.
الثالث: الإجابة والقبول: ومنه قوله: (ﭟ ﭠ ﭡ) [آل عمران: ٣٨] يعني: مجيب الدعاء.
البصر:
البصر لغة:
قوة في الكائن الحي تدرك المرئيات بواسطة العين8.
البصر اصطلاحًا:
هو تلك القوة الربانية التي أوجدها الله في عيني الإنسان ليدرك بها ما حوله، وأودعها في قلبه وعقله ليميز بين الخبيث والطيب، ويختار لنفسه الطريق الصحيح.
الصلة بين السمع والبصر:
هناك فرقان بارزان بين السمع والبصر:
الأول: فرق في الآلة فهي في السمع: الأذن، وفي البصر: العين، وكلاهما يحتاج إلى العقل المدرك؛ ليدلا على الاصطلاح القرآني لهما، وبدونه تكون الدلالة فيهما على المعنى اللغوي فقط.
الثاني: في المدركات بهما؛ فالمدركات بالسمع الكلام والأصوات، والمدركات بالبصر الصور الهيئات.
الاستماع:
الاستماع لغة:
سماع الكلام بقصد، والإقبال عليه؛ للاستفادة منه9.
الاستماع اصطلاحًا:
الإقبال بالسمع؛ للتفهم والاعتبار10.
الصلة بين السمع والاستماع:
في اللغة السمع يكون بدون قصد، بينما الاستماع مصحوبًا بقصد.
وقيل: السمع هو صفة موهوبة، والاستماع فعل مكتسب11.
الإنصات:
الإنصات لغة:
يدل على السكوت والاستماع للحديث، يقال أنصت: إذا سكت سكوت مستمعٍ12.
الإنصات اصطلاحًا:
هو سماع للكلام المؤدي إلى النظر والاستدلال، والاهتداء بما جاء في القرآن13.
الصلة بين السمع والإنصات:
يزيد الإنصات عن السمع؛ بكونه مصحوبًا بالنظر والاستدلال، زيادة على الفهم الأوليّ، فقد يفهم المرء الكلام فهمًا نافعًا بعد سماعه، لكنه إذا تأمله ونظر فيه؛ خرج منه بفوائد وأحكام زائدة.
الإصغاء:
الإصغاء لغة:
والإصغاء: الإمالة14، وكل شيء مال إلى شيء أو معه15، ويقال: أصغى إليه برأسه وبأذنه: أمالها يسمع، والإناء: أماله؛ ليصب ما فيه16.
الإصغاء اصطلاحًا:
هو ميل القلب وهواه للكلام17.
الصلة بين السمع والإصغاء:
السمع هو القوة التي يسمع بها المرء الأصوات، من غير ميل سابق لمعناها، أما الإصغاء فهو استماع لما يهواه المرء.
وقيل: السمع: هو الصفة التي يستطيع المرء بها فهم الكلام النافع، وتدبره والانتفاع به، أما الإصغاء: فهو استماع كلام الباطل، والميل له ومحبته.
الصمم:
الصمم لغة:
الصمم آفة تمنع من السمع، وتضعفه، وأصله الصلابة، ومنه الحجر الأصم18.
الصمم اصطلاحًا:
انعدام سماع الحق والخير والهدى على سبيل الاتباع والانتفاع19.
الصلة بين الصمم والسمع:
هي علاقة تناقض، فهو على النقيض من السمع لغة واصطلاحًا.
الوقر:
الوقر لغة:
هو الثقل في الأذن، ويطلق على الثقل المحمول20، «ويقال للذي يسمع بعض السمع، في أذنيه وقر»21.
الوقر اصطلاحًا:
ثقل عن فهم ما يتلى عليهم من القرآن، وما يدعوهم إليه النبي من الإيمان22فهمًا ينفعهم.
الصلة بينه الوقر وبين السمع:
علاقة تضاد، فقد يجتمع للإنسان سمع ضعيف، وصمم ضعيف؛ فيكون سببه الوقر، وهو الثقل في الأذن، وفي الاصطلاح: يسمع الإنسان القرآن ويفهمه، لكن لا ينتفع به؛ فيكون بسبب ما جعله الله من الوقر في أذنه بسبب إعراضه.
قرن الله عز وجل في القرآن ذكر السمع مع البصر المتعلقان بالإنسان في (٣٨) آية كريمة.
وقد قدم القرآن ذكر السمع على البصر في أكثر الآيات، مما يدل على الأهمية الكبرى للعمل الذي يقوم به السمع في حياة الإنسان تعلّمًا وتعليمًا.
ومن هذه الآيات قوله تعالى: (ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ) [النحل:٧٨].
وقوله تعالى: (ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ) [السجدة:٩].
وقوله تعالى: (ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ) [الإسراء:٣٦].
وقوله تعالى: (ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ) [يونس:٣١].
وقوله تعالى: (ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ) [المؤمنون:٧٨].
وغيرها من مواضع.
وقد استنبط العلماء المعاصرون من تقديم السمع على البصر حِكَمًا عديدة، منها:
ويلاحظ أيضًا أن القرآن الكريم يفصل عند كلامه عن السمع والبصر بين أداة الحس (العين والأذن)، وقوة الإدراك (السمع والبصر)، فعند كلامه عن أداة الحس العين والأذن يقدم العين على الأذن، وذلك لأن العين تقع أمام الأذن في صنعة الله في رأس الإنسان، وهما أداتان لنقل الإشارات الحسية السمعية والبصرية إلى حيث يتم إدراكها وفهمها داخل مراكز السمع والبصر في المخ.
فمثلًا يقول الله تعالى: (ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ) [المائدة:٤٥].
وأما إذا تكلم القرآن عن السمع والبصر كقوى مدركة فيقدم السمع، وذلك لأن مركز السمع يتقدم على مركز البصر داخل المخ البشري، وهنا موطن الإعجاز في تطابق الإخبار عن هذين الأمرين.
وخلاصة القول في الإعجاز المتعلق بآيات السمع والبصر: أن هذه الآيات «فصلت بين الأعضاء (العين والأذن)، وبين القوى المدركة (السمع والبصر) وفي صنعة الله ما يطابق ذلك، فهناك أعضاء حس لاستقبال المؤثرات الحسية، وهناك مراكز داخل المخ البشري تتم فيها عملية الإدراك والفهم لهذه المؤثرات الحسية.
وأيضًا من ناحية الترتيب نجد أن الحق سبحانه رتب الآيات : العين قبل الأذن، والسمع قبل البصر، في غالب القرآن وها هو العلم اليقيني قد أثبت أنه بينما تتقدم العين الأذن في رأس الإنسان، فإننا نجد عكس ذلك الترتيب بالنسبة للمراكز، فمركز السمع يتقدم مركز الإبصار في قشرة المخ البشري. إذن طابق كلام الله صنعة الله، إنه الإعجاز: (ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ) [هود:١]»27.
من صفات الله تعالى وأسمائه السميع، وهذا الأمر من الأمور المعلومة من الدين بالضرورة، وقد دل على ذلك آيات كثيرة في القرآن الكريم، وقد ذكر الله تعالى هذا الاسم الكريم في القرآن الكريم ثمان وثلاثين مرة بصيغة فعيل منكرًا ومعرفًا: (سميع).
وذكر هذا الوصف بصيغة الماضي (سمع) والمضارع (يسمع) و (نسمع)، وصيغة التعجب (أسمع).
وقد جاء ذكر سمع الله تعالى مقترنًا بأمور هي:
ولعل اقتران صفة السمع بصفات البصر والعلم والقرب للدلالة على حضور هذه الصفة في كل آن وفي كل مكان، فكما أن الله تعالى يرى ويعلم كل شيء، وهو قريب من كل شيء، فهو كذلك يسمع كل شيء، سبحانه ما أعظم شأنه وما أجل سلطانه.
وقد ذكر الإمام البيهقي في كتابه الأسماء والصفات في: باب ما جاء في إثبات صفة السمع، أحاديثَ عديدة دالة على ثبوت صفة السمع لله تعالى29.
ومنها: عن عائشة رضي الله عنها قالت: (الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات، لقد جاءت المجادلة تشكو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا في ناحية البيت ما أسمع ما تقول ، فأنزل الله عز وجل: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ) [المجادلة:١])30.
إن الله تعالى وهبنا نعمًا كثيرة لا تحصى، ومنها نعمة السمع التي تستحق منا شكره عليها، ولكن قليلًا من الناس من يشكر الله على هذه النعم.
قال تعالى: (ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ) [المؤمنون:٧٨].
وقد حملنا الله مسؤولية تجاه هذه النعمة التي سيسألنا عنها، كما قال سبحانه: (ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ) [الإسراء:٣٦].
لذا فمسؤوليتنا تجاه السمع تكون بأن نستخدمه في الأمور النافعة لنا في دنيانا وأخرانا، وأن نصونه عما يضرنا في دنيانا وأخرانا.
أولًا: استخدام السمع في الأمور النافعة:
ومن ذلك:
جعل الله السمع وسيلة أساسية في التعلم وتلقي العلوم، ولولاه لما استطاع الإنسان أن يتعلم العلم النافع. وجعل الله السمع أيضا وسيلة لإدراك عظمة الله وأخذ العبرة عبر إدراك آياته في الأنفس وفي الآفاق أو في التاريخ، فقال الله تعالى: (ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ) [الروم:٢٣].
فالنوم ليلًا أو نهارًا هو من الآيات الدالة على قدرة الخالق سبحانه، وطريقة معرفة كونه آية من آيات الله هو الاستماع لأهل العلم والاختصاص، ولا يتم ذلك إلا بحاسة السمع، وكذلك فمن لم يتأمل آيات الله في النوم فهو كالنائم الذي لا يسمع.
وقال تعالى: (ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ) [السجدة:٢٦].
فقال: (ﮤ ﮥ) لأن طريقة معرفة إهلاك القرون الأولى إنما وصل إليهم عن طريق السمع، وليس عن مجرد التفكير والاستنباط، فمن كانت له أذن واعية يتعظ ويهتدي.
أي كتاب أجدر من كتاب الله تعالى بالاستماع إليه والتأمل فيه وتدبره والعمل به؟
ولا يكون ذلك إلا بالاستماع إلى آياته، قال الله تعالى: (ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ) [الأعراف:٢٠٤].
ومدح الله المؤمنين فقال: (ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ) [الزمر:١٨].
ومدح الله تعالى وفد النجاشي الذين استمعوا للقرآن وآمنوا به، فقال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ) [المائدة:٨٣].
وبالمقابل ذم الله تعالى الذين لا يستمعون للقرآن فقال: (ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ) [الجاثية:٧-٨].
وقال أيضًا: (ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ) [الأنبياء:٢].
وإن قسمًا من هؤلاء الكافرين ينهى عن الاستماع للقرآن، قال الله تعالى: (ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ) [فصلت:٢٦].
ومن سمات المؤمنين أنهم بمجرد سماع أوامر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم فإنهم يطيعون.
قال الله تعالى: (ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ) [البقرة:٢٨٥].
وقال تعالى: (ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯﮰ) [التغابن:١٦].
وقال تعالى أيضا: (ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ) [النور:٥١].
خلافًا للكافرين الذين (ﯥ ﯦ ﯧ) [البقرة:٩٣].
ثانيًا: صيانة استخدام السمع في الأمور الضارة:
جعل الله عرض المسلم محرمًا على غيره من المسلمين، فلا يجوز قدح المؤمنين وذمهم وخصوصًا عند غيابهم.
قال الله تعالى: (ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ) [الحجرات:١٢].
فمن سمع الغيبة يشترك مع المغتاب في أكل لحم أخيه ميتًا.
ومن باب الحفاظ على عرض المسلم أن لا يتكلم المرء بكل ما ينقل له عن المسلمين، بل عليه أن يتأكد ويتحرى قبل أن ينقل أي كلام، ولهذا قال الله تعالى معاتبًا الذين سمعوا حادثة الإفك وأشاعوها، فقال الله تعالى: (ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ) [النور:١٦].
وكذلك فإن المسلم عليه أن يتحرى كل ما ينقل إليه من الناس الفاسقين.
قال الله تعالى: (ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ) [الحجرات:٦].
وقد مدح الله نبيه صلى الله عليه وسلم لما ذمه المنافقون بأنه يصدق كل ما يقال له، فقال تعالى: (ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ) [التوبة:٦١].
فالمؤمن أذن خير ينقل الخير ولا ينقل الشر، ويتحرى في نقله.
نهى الله تعالى المؤمنين أن يجلسوا في مجلس فيه كفر بالله وآياته، أو فيه استهزاء بأي شيء متعلق بالإسلام، فقال تعالى: (ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ) [النساء:١٤٠].
فالمسلم يصون سمعه عن مجالسة المفسدين في الأرض الذين يذمون الإسلام والمسلمين بإعلامهم الكاذب، ويحبون أن تشيع الفاحشة بين المؤمنين، ويذيعون الأخبار الكاذبة عنهم، ويخوفون المؤمنين من تطبيق أحكام الشريعة وغيرها، قال الله تعالى يذم المنافقين الذين يفشون أسرار المؤمنين لأعدائهم: (ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ) [النساء:٨٣].
ومن هؤلاء الأشرار (ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ) [لقمان:٦] فيصد الناس عن دين الله وطاعته، وما يقرّب إليه من قراءة قرآن وذكر الله، وذلك بالغناء والاستماع له، وبكل ما كان من الحديث ملهيا عن سبيل الله مما نهى الله عن استماعه أو رسوله، فعن مجاهد: (ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ) قال: الغناء والاستماع له وكل لهو.
وقال ابن زيد في قوله تعالى: (ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ) قال: هؤلاء أهل الكفر، ألا ترى إلى قوله: (ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ) [لقمان:٧].
فليس هكذا أهل الإسلام، فسمع المؤمن يشبه النحلة التي تقع على الزهور فتخرج منها عسلا صافيا فيه شفاء للناس، وأما المنافق والكافر فسمعه كالذباب لا يقع إلا على الأوساخ.
أساليب ذكر السمع في القرآن الكريم
تنّوعت أساليب القرآن الكريم في الحديث عن السمع، وسوف نتناول ذلك بالبيان فيما يأتي:
أولًا: أسلوب المدح:
قال الله تعالى: (ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ) [الزمر: ١٧-١٨].
فقد مدح الله تعالى أصحاب العقول والحجا، الذين يستمعون القول، ويفهمون ما سمعوه، ويستثمرون فهمهم في العمل الصالح، ويتبعون أرشده وأهداه، وأدله على توحيد الله والعمل بطاعته، ويتركون ما سوى ذلك من القول الذي لا يدل على رشاد، ولا يهدي إلى سداد، فأولئك وفقهم الله للرشاد وإصابة الصواب، لا الذين يعرضون عن إصابة الحق ويعبدون ما لا يضر ولا ينفع31.
وجعل القرآن من صفة المؤمن الإجابة لحكم الله تعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم، ويتعرض للتعبير عن ذلك بقولهم: سمعنا وأطعنا في قوله تعالى: (ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳﯴ ﯵ ﯶ ﯷ) [النور: ٥١].
ومن صفات المؤمنين: التأثر والخشوع عند سماع القرآن الكريم، قال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ) [المائدة: ٨٣].
ثانيًا: أسلوب الذم:
ذم القرآن أولئك الذين لا يعملون بما سمعوه من حق، وجعلهم كالصمK بل في دركة أدنى من الحيوان (ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ) [الأعراف: ١٧٩].
بل جعل القرآن من لا يؤمن بما سمع من الحق كالميتK قال تعالى: (ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ) [النمل: ٨٠-٨١]، فالله تعالى يعلم نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم بأنه ليس بهادٍ عن الضلالة من أعماه الله عن الهدى والرشاد، وأمات قلبه، ولا يمكنه أن يسمع إلا من يصدق بآياته؛ فهم مسلمون مطيعون مستجيبون لما دعوتهم إليه32.
وقال الواحدي: «إنهم لفرط إعراضهم عما يدعون إليه من التوحيد؛ كالميت الذي لا سبيل إلى إسماعه، وكالصم الذين لا يسمعون، وما أنت بمرشد من أعماه الله عن الهدى وأعمى قلبه عن الإيمان»33.
ثالثًا: أسلوب الأمر:
أتى ذلك في آيات عديدة مثل قوله تعالى لبني إسرائيل: (ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ) [البقرة: ٩٣].
ففي هذه الآية أمر الله تعالى بني إسرائيل بالأخذ بما نزل في كتابهم بثبات وعزم وفاعلية، ثم أمرهم بالسمع الذي يفيد الطاعة المباشرة، واختلف السياق حينما تحدث القرآن عن المؤمنين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم بالأسلوب نفسه فقال تعالى: (ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ) [التغابن: ١٦] فالفرق هنا أن الأمر بالسمع جاء بعد الأمر بالتقوى بقدر الاستطاعة.
وأما خطاب بني إسرائيل فكان الأمر فيه مشددًا ومؤكدًا بتذكيرهم بعهد الله عليهم بالأخذ بأوامر التوراة بقوة ونشاط وجد والاستماع والطاعة لما فيها من أوامر إلا أن بني إسرائيل تعنتوا في طاعة نبيهم موسى عليه السلام فقالوا: (ﯦ ﯧ) [البقرة: ٩٣].
ويأمر الله تعالى المؤمنين بالاستماع والإنصات إلى آيات الله عند ما تتلى عليهم؛ ليتدبروها، ويتفكروا بها؛ طمعًا في أن تتنزل عليهم رحمة الله تعالى فقال: (ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ) [الأعراف: ٢٠٤].
وكذلك يأمر الله تعالى الناس مؤمنهم وكافرهم أن يستمعوا لمثل من أمثاله العجيبة، التي يضربها الله تعالى في القرآن؛ لإثبات وحدانيته وقدرته على الخلق والإبداع؛ فيؤمن به المؤمنون، وتقوم به الحجة على الكافرين، وليثبت لهم انتفاء ألوهية من سواه سبحانه، فقال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫﭬ ﭭ ﭮ ﭯ) [الحـج: ٧٣].
فالخلق كلهم ليسوا فقط عاجزين عن خلق ذباب، بل هم أضعف من ذلك، إن سلبهم الذباب شيئًا لا يستطيعون إرجاعه؛ لأنه تحلل بمجرد امتصاص الذباب له، فمن عجز عن فعل ذلك؛ فهو عاجز -من باب أولى- أن يخلق، فإن ثبت عجزه؛ ثبت أنه ليس بإله، فكيف له أن يدعي الألوهية من دون الله تعالى ؟! ومن هنا كان جديرًا بكل الناس أن يستمعوا لهذا المثل؛ ليعتبروا.
رابعًا: أسلوب النهي:
ورد ذلك في مثل قوله تعالى: (ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ) [الأنفال: ٢١].
فجاء النهي عن أن يكون المؤمن مثل أولئك الذين أنعم الله عليهم بنعمة السمع، بيد أنهم عطلوها؛ بعدم اتباعهم للحق؛ فكأنهم لا سمع لهم أصلًا؛ ولهذا قال تعالى: (ﮝ ﮞ ﮟ) [الأنفال: ٢١].
وقال تعالى في آية أخرى: (ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ) [الشعراء: ٢٢٣].
أما المؤمنون فمن صفاتهم سماع أوامر الله تعالى وطاعة تلك الأوامر؛ ولهذا مدح الله المؤمنين فقال: (ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳﯴ ﯵ ﯶ ﯷ) [النور: ٥١].
خامسًا: أسلوب التوكيد:
ورد ذلك في مثل قوله تعالى: (ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ) [الإسراء: ٣٦].
أكد كلامه عن وسائل المعرفة الإنسانية السمع والبصر والفؤاد بـ(إن)، و(كل)، والجملة الاسمية؛ وذلك لتمكين المعنى في نفوس المخاطبين، وهو أن وسائل المعرفة والإدراك العظيمة هذه سيسأل عنها الإنسان يوم القيامة.
ونجد أسلوبًا آخر للتوكيد في قوله تعالى: (ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺﭻ ﭼ ﭽ ﭾ) [المؤمنون: ٧٨].
فقد أكد الجملة بضمير الشأن (هو)؛ ليفيد القصر والاختصاص بأنه تعالى وحده وهب الإنسان وسائل المعرفة «وإنما خص السمع والأبصار والأفئدة؛ لأنه يتعلق بها المنافع الدينية والدنيوية ما لا يتعلق بغيرها، ومقدمة منافعها أن يعملوا أسماعهم وأبصارهم في آيات الله وأفعاله، ثم ينظروا ويستدلوا بقلوبهم، ومن لم يعملها فيما خلقت له؛ فهو بمنزلة عادمها، كما قال الله تعالى: (ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ) [الأحقاف: ٢٦].
ومقدمة شكر النعمة فيها الإقرار بالمنعم بها، وأن لا يجعل له ندّ ولا شريك»34.
سادسًا: أسلوب الاستفهام الإنكاري:
ورد ذلك في مثل قوله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡﭢ ﭣ ﭤ) [القصص: ٧١].
فهنا أنكر على المشركين عدم استثمارهم لنعمة السمع في إدراك الحقائق الكونية والتفكر فيها، ومعرفة السنن الإلهية؛ كي يتعظوا بها، ولا سيما أن حاسة السمع جاءت في سياق الحديث عن الليل الذي تستخدم فيه هذه الحاسة أكثر من غيرها من الحواس.
ومثل هذه الآية قوله تعالى: (ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢﮣ ﮤ ﮥ) [السجدة: ٢٦].
فقد أنكر على الكافرين عدم أخذهم العبرة والعظة35 بما سمعوه من قصص الأمم السابقة، التي أهلكها الله تعالى؛ لعصيانها وإنكارها رسالة الأنبياء عليهم السلام.
سابعًا: أسلوب القصر بـ(إنما):
ورد ذلك في مثل قوله تعالى: (ﭒ ﭓ ﭔ ﭕﭖ ﭗ ﭘ ﭙ) [الأنعام: ٣٦].
فهنا استخدم أسلوب القصر بإنما؛ لحصر الاستجابة لأوامر الله تعالى في الذين يستفيدون من نعمة السمع حق الاستفادة، ويوظفونها في معرفة المعبود جل جلاله وعبادته كما شرع، أما الكفار الذين حرص النبي على هداهم؛ فلا وسيلة كي يستجيبوا ويؤمنوا به؛ لأنهم بمنزلة الموتى الذين لا يسمعون؛ فهم موتى القلوب كقوله تعالى: (ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ) [النمل: ٨٠].
فكما أن الله تعالى هو وحده قادر على أن يبعث الموتى من قبورهم، فهو وحده تعالى قادر على إحياء قلوب هؤلاء الكفار بحياة الإيمان، أما أنت يا محمد؛ فلا تقدر على ذلك.
وأما وجه تشبيه الكفرة بالموتى؛ فلأن حياة الروح بالعلم ومعرفة الخالق سبحانه وتعالى كما أن حياة الجسد بالروح36.
ثامنًا: أسلوب النفي:
ورد ذلك في مثل قوله تعالى: (ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ) [الأعراف: ١٧٩].
نفى الحق سبحانه وتعالى عن أن يكون للكافرين سمع يرشدهم لمعرفة الحق، واتباعه، وجاءت صيغة الفعل بالمضارع للدلالة على تجدد هذا الأمر، وحدوثه عند هذا الصنف من الناس الذين ستروا نعمة الله بالكفر.
تعددت مجالات السمع في القرآن، وهذا ما سوف نبينه فيما يأتي:
١. ذكر السمع في مجال ذكر نعم الله على الإنسان.
فجعل الله له السمع والبصر والفؤاد؛ وذلك حتى يشكره هذا الإنسان، لا أن يكفره.
وتأتي أهمية سمع الإنسان في فهمه لأوامر الله تعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا بين القرآن الكريم لنا نوعين من الناس:
النوع الأول: المؤمنون الذين يستمعون للقرآن وللنبي صلى الله عليه وسلم، ويتبعونهما فيما أمرا (ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ) [النمل: ٨١].
وإذا ما استمع هؤلاء المؤمنون للقرآن يتلى؛ خشعوا، أو بكوا؛ ولهذا يكون جزاؤهم الجنة، حيث لا يسمعون فيها لغوًا ولا تأثيمًا ولا كذابًا، ولا يسمعون حسيس جهنم، وهم عنها مبعدون.
ومن صفات هؤلاء المؤمنين أنهم إذا استمعوا لشيء نافع؛ يتبعونه ويطبقونه فورًا قال تعالى: (ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ) [الزمر: ١٨].
وهم أيضًا أبعد ما يكونون عن سماع الغيبة أو النميمة أو غيرها، مما حرمه الله تعالى، فآذانهم آذان واعية، تصغي للحق وتعمل به، قال الله تعالى: (ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ) [الحاقة: ١٢].
وقال تعالى يمدح مؤمني الجن: (ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ) [الجن: ١٣].
والنوع الثاني: الكفار والمنافقون والفاسقون، الذين يسمعون للقرآن وللنبي صلى الله عليه وسلم، ولا يعملون بما سمعوه، ويستهزئون بما سمعوه وبالنبي صلى الله عليه وسلم، وينهون غيرهم عن سماع هذا القرآن، ويأمرونهم بأن يلغوا فيه، ولهذا كان سمعهم نقمة عليهم؛ فشبههم الله تعالى بالدواب والموتى وأصحاب القبور.
قال تعالى: (ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ) [فاطر: ٢٢].
وعاقبهم في الآخرة بسماعهم لزفير جهنم، وعندها يندمون؛ لأنهم لم يستفيدوا من أسماعهم، ولا تحين مندم.
٢. الأمر بالاستماع إلى آيات الله المتلوة وتدبرها.
قد أمر الله تعالى المؤمنين في كتابه العزيز بأن يتلوا القرآن حق تلاوته، وأن يستمعوا له وينصتوا، وهذا الاستماع هو استماع تدبر وفهم، يتبعه عمل وخشية من الله تعالى ومحبة له سبحانه وتعالى، ومن ثمّ ينتج عن ذلك أمة؛ تكون خير أمة أخرجت للناس، إنها أمة الشهادة (ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ) [البقرة: ١٤٣].
وأمة الحضارة؛ لأن الحضارة الحقيقية هي بالإنسان الصالح وبالعمل الصالح.
وقد حث الله المؤمنين في آيات كثيرة على تدبر القرآن، والتدبر يأتي بعد الاستماع، والتدبر هو: التفكر الشامل الواصل إلى أواخر دلالات الكلم ومراميه البعيدة37، وأول الآيات الآمرة بالتدبر نزولًا قوله تعالى: (ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ) [ص: ٢٩].
ورقمها حسب النزول هو ثمان وثلاثون، ونشير إلى آيات أخرى حول موضوع التدبر دون ذكر نصها، وهي: المؤمنون: رقم نزولها: أربع وسبعون، رقم الآية: ثمان وستون، والنساء: رقم نزولها: اثنان وتسعون، ورقم الآية: اثنان وثمانون.
ومدح القرآن الكريم المؤمنين الذين إذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانًا وهدى، ومدحهم أيضًا في أماكن عديدة أنهم تلين قلوبهم وجلودهم إلى ذكر الله، وتقشعر جلودهم من خشية الله، ويخرون للأذقان سجدًا يبكون، ويزيدهم خشوعًا.
هذه هي الصورة الرائعة التي يعرضها علينا القرآن الكريم عن طائفة السعداء الذين أنعم الله عليهم من ذرية آدم.
وفي المقابل يعرض علينا القرآن صورة المغضوب عليهم، وموقفهم المعادي للقرآن الكريم؛ فهم لا يستمعون لهذا القرآن، ويلغون فيه، ويستهزئون بآيات الله تعالى، ويجعلون القرآن عضين، ويقولون إنه أساطير الأولين؛ فهم لم يروا فيه الحقائق الناصعة، بل زادهم ضلالة وإثمًا وعمى؛ لأن قلوبهم مقفلة، لا يدخلها نور القرآن ولا هداه؛ بما كانوا يكسبون من أعمال فاحشة منكرة، وببغيهم وطغيانهم في الأرض؛ فأضلهم الله عن صراطه المستقيم، وأعمى أبصارهم عن نوره المبين، وأصم آذانهم عن سماع الحق والقرآن الكريم.
٣. الأمر بالاستماع إلى آيات الله الكونية (بمعنى تدبرها والاعتبار بها).
أما المجال الرئيس الآخر لاستخدام السمع بعد الاستماع لكتاب الله المسطور، والأمر بالعمل به واتباعه، والخشوع له عند سماعه، فهو توجيهه نحو الاستماع إلى آيات كتاب الله المنظور في الكون؛ لتدبرها، وأخذ العبرة منها38.
قال تعالى: (ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ) [يونس: ٦٧].
فالله الذي يستحق العبودية وحده، هو الذي له ما في السماوات والأرض، وهو الذي فصل بين الليل والنهار؛ لتسكنوا في الليل من عناء النهار، وإنما قال في الآية: (ﮪ ﮫ) «لأن المراد منه: الذين يسمعون هذه الحجج، ويتفكرون فيها؛ فيعتبرون بها ويتعظون، ولم يرد به الذين يسمعون بآذانهم، ثم يعرضون عن عبره وعظاته»39.
والقرآن الكريم قد حث المؤمنين في آيات كثيرة على التفكر في ملكوت الله تعالى، وفي الكون؛ وذلك لإدراك عظمة الخالق سبحانه، والإذعان لقدرته وسلطانه، وقد قدر العلماء عدد الآيات التي تتناول أمورًا علمية بألف وأربعمائة آية، من مجموع آي القرآن، البالغ عددها ستة آلاف ومائتي آية، أي ما يعادل عشرين بالمائة من مجموع الآيات القرآنية.
والقرآن الكريم مليء بآيات تحث المؤمنين على التفكر والتعلم، مثل قوله تعالى: (ﮑ ﮒ ﮓ) [محمد: ٢٤].
وقوله عز وجل: (ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ) [الرعد: ٤].
وغيرها من آيات كثيرة تأمر باستخدام العقل؛ لاكتشاف قوانين الكون، وتسخيرها لمصلحة الإنسان.
٤. الأمر بالاستماع إلى قصص الماضين للاعتبار.
إن الله عز وجل قص علينا في كتابه العزيز أحسن القصص، وذكر كثيرًا من القصص؛ لأخذ العبرة منها (ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ) [يوسف: ١١١].
فذكر الله لنا سننه في نصرة أنبيائه وعباده الصالحين، وتوفيقه لهم؛ فقص علينا أحسن القصص، كقصة يوسف وإخوته، وقصة موسى وقومه، وقصة داود وسليمان، وغيرهم من الأنبياء عليهم السلام، وكذلك قص القرآن علينا قصص الأقوام التي عاقبها الله تعالى، بعد أن عصوا وعتوا عن كل ذكر؛ لنعتبر ونستقيم على شرعه.
فقال تعالى: (ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ) [الفجر: ٦-١٣].
والاتعاظ بكل ما سبق إنما يكون بعد سماع ما حل بهذه الأقوام من عقوبة إلهية؛ ولهذا استخدم السمع؛ للاعتبار بالأحداث في معرض الكلام عن الأمم السابقة فقال الله تعالى: (ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢﮣ ﮤ ﮥ) [السجدة: ٢٦].
وذكر القرآن الكريم فقدان السمع لدى الأصنام، كدليل على أنهم ليسوا بآلهة فقال تعالى: (ﭧ ﭨ ﭩ ﭪﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ) [مريم: ٤١-٤٢].
فقد نقض ألوهية الأوثان، وأنها لا تستحق العبادة؛ بكونها لا تسمع، ولا تبصر من يدعوها، وصفة السمع من أهم صفات الألوهية؛ فقد قال الله تعالى لموسى وهارون عليهما السلام: (ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ) [طـه: ٤٦].
والدعاء مخ العبادة؛ فالوثن إذا لم يسمع دعاء الداعي؛ فأي منفعة في عبادته؟!، وإذا كانت لا تبصر بتقرب من تقرب إليها؛ فأي منفعة في ذلك التقرب؟!40، والإله يجيب دعاء عباده (ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ) [النمل: ٦٢].
والأوثان لا تجيب أحدًا، ثم كيف يليق بالإنسان أن يعبد من هو دونه في الصفات؛ إذ إنه يسمع ويرى، وهذه الأوثان لا تسمع ولا ترى؟
وهكذا نرى كيف اهتم الإسلام بحاسة السمع التي هي آلة مهمة في معرفة الحقائق في كل من الكتابين كتاب الله المسطور (القرآن)، وكتاب الله المنظور (الكون).
موضوعات ذات صلة: |
البصر، الرؤية، القرآن |
1 انظر: المحكم والمحيط الأعظم، ابن سيده ١/٥١١.
2 أساس البلاغة، الزمخشري١/٤٧٤.
3 انظر: الفروق اللغوية، العسكري ص ٤٩.
4 ٤ انظر: معجم اللغة العربية المعاصرة أحمد مختار عبد الحميد عمر ٢/١١٠٨.
5 ٥ انظر: عمدة الحفاظ، السمين الحلبي ٢/٢٢، التعريفات، الجرجاني، ص ١٦١.
6 انظر: المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، محمد فؤاد عبد الباقي، ص٣٥٨-٣٦١، المعجم المفهرس الشامل، عبد الله جلغوم، باب السين ص٦٣٤-٦٣٨.
7 انظر: الوجوه والنظائر، الدامغاني، ٢٦١-٢٦٢، بصائر ذوي التمييز، الفيروزآبادي، ٣/٢٥٧-٢٦٠، نزهة الأعين النواظر، ص٣٤٥-٣٤٦، عمدة الحفاظ، السمين الحلبي، ٢/٢٢١-٢٢٣.
8 انظر: التعريفات، الجرجاني ص ٤٦.
9 انظر: الفروق اللغوية، العسكري ص ٤٩.
10 انظر: الفروق اللغوية، العسكري ص ٤٩، معجم الصواب اللغوي أحمد مختار عمر ١/١١٧.
11 انظر: المصادر السابقة.
12 الفروق اللغوية، العسكري ص ٤٩.
13 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٩/٢٣٨.
14 العين، الفراهيدي ٤/٤٣٢.
15 كتاب الأفعال، ابن القطاع ٢/٢٥٦.
16 المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية بالقاهرة ١/٥١٥.
17 جامع البيان، الطبري ١٢/٥٩.
18 انظر: تهذيب اللغة، الأزهري ١٢/٨٨، لسان العرب، ابن منظور ١٢/٣٤٢، إرشاد العقل السليم، أبو السعود ١/٥١.
19 انظر: جامع البيان، الطبري ١/٣٣١.
20 انظر: تهذيب اللغة، الأزهري ٩/٢١٥، الصحاح، الجوهري ٢/٨٤٨، مقاييس اللغة، ابن فارس ٦/١٣٢.
21 المخصص، ابن سيده ١/٩٢.
22 انظر: جامع البيان، الطبري ١١/٣٠٦، المحرر الوجيز، ابن عطية ٥/٢٠.
23 انظر: الإدراك الحسي البصري والسمعي، السيد علي سيد أحمد وفائقة محمد بدر، ص: ٢٥٣.
24 انظر: الإعجاز العلمي للقرآن الكريم فى السمع والبصر، صادق الهلالي، مجلة الإعجاز، ص: ٩-١٠.
25 انظر: المصدر السابق ص٧.
26 انظر: الإعجاز العلمي في السمع والبصر في القرآن الكريم، صادق الهلالي، وحسين اللبيدي، هيئة الإعجاز العلمي، جدة ١٤٢٧/٢٠٠٦، ط٣، ص: ١٧-٢٨.
27 انظر: الإعجاز العلمي في السمع والبصر في القرآن الكريم، صادق الهلالي، وحسين اللبيدي، هيئة الإعجاز العلمي، ص ٥١.
28 انظر: معجم كلمات القرآن العظيم، محمد عدنان سالم و محمد وهبي سليمان، ص ٦٠٧-٦٠٨.
29 انظر: الأسماء والصفات، البيهقي، ص ٢٨٨-٢٩٢.
30 علقه البخاري في صحيحه، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: (وكانه الله سميعًا بصيرًا)، ٩/١١٧، وأخرجه ابن ماجه في سننه، المقدمة، باب فيما أنكرت الجهمية، ١/٦٧، رقم ١٨٨.
وصححه الألباني في إرواء الغليل، ٧/١٧٥.
31 جامع البيان ٢٢/٢٤٥.
32 قال ابن جزيّ الغرناطي: «أكد عدم سماعهم بقوله: (ﭱ ﭲ ﭳ)؛ لأن الأصم إذا أدبر وبعد عن الداعي، زاد صممه وعدم سماعه بالكلية».
انظر: التسهيل لعلوم التنزيل، ابن جزيّ ٢/ ١٠٧.
33 الوسيط، الواحدي ٣/٣٨٤.
34 الكشاف، الزمخشري ٣/ ١٩٨- ١٩٩.
35 أنوار التنزيل، البيضاوي ٤/٢٢٣.
36 انظر: الكشاف، الزمخشري ٢/ ٢٠.
37 قواعد التدبر الأمثل لكتاب الله عز وجل، عبدالرحمن حبنكة ص ١٠.
38 مفاتيح الغيب، الرازي ١٧/٢٨٠.
39 جامع البيان، الطبري ١٧/٢٨٠.
40 مفاتيح الغيب، الرازي ٢١/٥٤٣.