اليوم الآخر
أولًا: المعنى اللغوي
بداية لا بد من إعطاء معنى لغوي للفظتي: (اليوم) و(الآخر)؛ لكون مصطلح الدراسة مركب منهما، وذلك بالرجوع إلى معجمات اللغة.
اليوم لغةً: تدور دلالة اليوم غالبًا في المعجمات اللغوية على الزمن المقيد أو المطلق، فالياء والواو والميم: كلمةٌ واحدةٌ، هي اليوم المعروف، وهو غالبًا عند العرب في كلامها يدل على النهار من طلوع الشمس إلى غروبها، وقد تطلقه على الليل والنهار كليهما. وقد يستعمل اليوم في اللغة للدلالة على مطلق من الزمان أي: الوقت الحاضر من الزمان1. وقد يراد به «الوقت مطلقًا، ومنه الحديث: (تلك أيام الهرج)2 أي: وقته»3. ومن معاني اليوم لغة أيضًا: الدهر، ويستعمل أيضًا بمعنى: الدولة وزمن الولايات، وبمعنى: الوقائع. ويستعار عند العرب للشدة والأمر العظيم4.
الآخِر لغةً : خلاف الأول والمتقدم ونقيضهما، وهو من الفعل أخرته فتأخر،، يقال: جاء آخرًا، أي: أخيرًا، والجمع: أواخر، والآخر من أسماء الله تعالى قال تعالى: (ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ) [الحديد: ٣].
والآخِر: هو الباقي بعد فناء خلقه كله الذي ليس بعده شيءٌ5.
ثانيًا: المعنى الاصطلاحي:
فقد تطور من معناه اللغوي وأخذ منه في معنى مناسب له في الكلام. ولليوم الآخر تعريفات عدة عند العلماء متقاربة.
ويمكن تعريفه بأنه اليوم الذي يبعث الناس فيه للحساب والجزاء، وسمي بذلك؛ لأنه آخر انقراض الدنيا وآخر أيامها ولا يوم بعده، فهو آخر الأوقات المحدودة الذي لا حد للوقت بعده6.
اليوم الآخر في الاستعمال القرآني
ورد (اليوم الآخر) في القرآن الكريم(٢٨) مرة 7.
والصيغ التي وردت، هي:
الصيغة |
عدد المرات |
المثال |
اليوم الآخر |
٢٨ |
(ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ) [التوبة:١٨] |
اليوم: اسم لما بين طلوع الفجر إلى غروب الشمس، والآخر: خلاف الأول وبعده، و(اليوم الآخر) في الاستعمال القرآني: اسم يطلق على يوم القيامة، ولم يخرج في الاستعمال القرآني عن هذا المعنى8.
للإحاطة بدلالة اليوم الآخر في التعبير القرآني لابد من دراسة الألفاظ التي وردت في القرآن الكريم تدل على اليوم الآخر وتشير إليه من قريب أو بعيد، وإذا نظرنا في القرآن الكريم نرى كثرة في الألفاظ الدالة عليه وتعددها بشكل لافت، وكل ذلك تقرير لحقيقة هذا اليوم وبيان ماهيته، ومما يجليه أمام العيان عن طريق وحي الألفاظ الدالة عليه.
وتوارد هذه الألفاظ في القرآن الكريم التي هي بعضها أسماء له، وتنوعها وكثرتها يدل على عظيم قدره وهوله وشدته ويبين شدة أهوال ذلك اليوم وتأثيره في الناس قوله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭒ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ) [الحج: ١-٢].
بالإضافة إلى ذلك فإن كثرة أسمائه وأوصافه تدل على أهميته وشرفه؛ لأن كثرة الأسماء والأوصاف الدالة على الشيء الواحد تدل على شرف المسمى وكماله غالبًا، قال الفيروز آبادي (ت ٨١٧هـ): «اعلم أن كثرة الأسماء تدل على شرف المسمى أو كماله في أمر من الأمور، أما ترى أن كثرة أسماء الأسد دلت على كمال قوته، وكثرة أسماء يوم القيامة دلت على كمال شدته وصعوبته، وكثرة أسماء الداهية دلت على شدة نكايتها، وكذلك كثرة أسماء الله تعالى دلت على كمال جلال عظمته، وكثرة أسماء النبي -عليه الصلاة والسلام- دلت على علو رتبته، وسمو درجته، وكذلك كثرة أسماء القرآن دلت على شرفه، وفضيلته؟!»9.
والقرآن الكريم عندما يستعمل هذه الألفاظ للدلالة عن ذلك اليوم العظيم، فإن كل لفـظ منها يجلي صفة من صفاته وأهواله، و«كلها تشير إلى انفراط عقد هذا الكون المنظور، واختلال روابطه وضوابطه التي تمسك به في هذا النظام البديع الدقيق، وتناثـر أجزائه بعـد انفلاتها»10 من هذه الروابط والضوابط التي تضبطها بقدرة الله وإرادته. كما أن تعددها وتجمعها على صعيد واحد يقرب إلى الأذهان والقلوب على نحو من التوكيد صورة ذلك اليوم على الكون والانسان وأهواله وشـدته، فيحدث الاستجابة النفسية التي يهدف إليها القرآن، والملاحظ أن هذه الألفاظ أغلبها قد جـاءت في سور مكية التي من أبـرز أهدافها تأسيس أصـول الدين والعقيدة السليمة فـي القلوب، وهي توحيـد الله تعالى في ألوهيتـه وربوبيته للكون والخلائق جميعـًا، وفي مقدمتها: الإنسان الذي كرمه الله أيما تكريـم وفضله على كثير ممن خلق تفصيلًا، لذلك كان من «صفات السور المكية وبخاصة السور القصيرة منها أنها ذات أسلوب وإيقاع قويين شديدين في وقعهما يعملان على قرع القلوب بحقائقها التي تؤديها»11، ومنها هذه الألفاظ الدالة على اليوم الآخر التي ترد كثيرًا في مطالع هـذه السور وفي آياتها فتلفت الانتباه لفتًا قويًا في تلقي المعاني والأصول الكبرى للدين الحنيف، وسنتناول في هذا الموضع بالتفصيل أسماء اليوم الآخر والألفاظ ذات الصلة به؛ لنحاول أن نجلي للمتلقي ونكشف له عن المعنى الذي ينطوي وراءها قدر الإمكان:
جاء هذا اللفظ للدلالة على اليوم الآخر في سبعين آية من آيات القرآن الكريم، وهو من أجلى الأسماء والصفات لذلك اليوم وأشهرها. ولم يرد هذا الاسم إلا مركبًا (يوم القيامة) من ذلك قوله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ) [النساء: ٨٧].
وقوله: (ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧﭨ ﭩ ﭪﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ) [الإسراء: ٩٧].
وغيرها من الآيات الكريمة. والقيامة لغة: مصدر قام يقوم، ودخلها التأنيث؛ للمبالغة، وسمي بذلك؛ لما يقوم فيه من الأمور العظام التي بينتها النصوص. ومن ذلك قيام الناس لرب العالمين12.
من الألفاظ الدالة على ذلك اليوم العظيم أيضًا: الساعة، وورد هذا اللفظ تسعًا وثلاثين مرة في خمس وثلاثين آية من آيات القرآن الكريم، من ذلك قوله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ) [غافر: ٥٩].
وقوله تعالى: (ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛﮜ ﮝ ﮞ ﮟ) [الروم: ٥٥].
وقوله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ) [الحج: ١].
وغيرها من الآيات. وأطلق لفظ الساعة على اليوم الآخر؛ إما لقربه، أو لأنه يأتي بغتة، أو في لحظة، أو في ساعة معينة وإذا باليوم الآخر قد قام، والناس غير منتبهين. قال القرطبي رحمه الله: «والساعة بالألف واللام عبارة في الحقيقة عن الوقت الذي أنت فيه، وهو المسمى بالآن، وسميت به القيامة إما لقربها، فإن كل آت قريب. وإما أن تكون سميت بها تنبيهًا على ما فيها من الكائنات العظام التي تصهر الجلود. وقيل: إنما سميت بالساعة؛ لأنها تأتي بغتة في ساعة»13.
يأتي لفظ الواقعة للدلالة على اليوم الآخر في موطنين من القرآن الكريم فقط، وذلك في قوله تعالى: (ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ) [الواقعة: ١-٧].
والموطن الثاني في قوله تعالى: (ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ) [الحاقة: ١٣-١٥].
وسمي بالواقعة؛ لتحقق كونه ووجوده؛ لأنه يقع لا محالة، أي: إذا وقعت التي لا بد من وقوعها، ووقوع الأمر نزوله14. ولفظ (الواقعة) من الأسماء التي انتقلت من الوصفية إلى الاسمية؛ لأنها ختمت بالتاء، وأوثر التعبير بلفظ (الواقعة) على وزن (فاعلة)؛ ليدلَّ على العموم والشمول والشدة والمبالغة15.
جاءت (ﮯ)؛ للدلالة على اليوم الآخر ثلاث مرات في موطن واحد عند قوله تعالى: (ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ) [الحاقة: ١-٤].
سمي بذلك؛ «لأن فيها يتحقق الوعد والوعيد؛ ولهذا عظم تعالى أمرها فقال: (ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ)»16. أو أنها: «سميت بذلك لأن فيها الثواب والجزاء»17.
إضافة إلى ذلك أن في إطلاق لفظ (ﮯ) على اليوم الآخر دلالة على العموم والشمول والشدة والمبالغة في إثبات المعنى، وهو اسم على وجه التخصيص ليوم القيامـة، أي: إنها تحق الحق في ذلك اليوم الذي لا يحيط به العلم والإدراك.
جاء لفظ (ﭧ) للدلالة على اليوم الآخر في موضع واحد في قوله تعالى: (ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ) [الغاشية: ١].
وسمي بذلك؛ لأنه يغشى الناس بأفزاعه وأهواله وشدائده ويغمهم، ومن معانيه أنَّ الكفارَّ تغشاهم النار، وتحيط بهم من فوقهم ومن تحت أرجلهم، كما قال تعالى: (ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ) [العنكبوت: ٥٥].
أو سمي بذلك؛ لأنه يغشى الناس من كلِّ جهة أو بسبب مشاهِدِهِ المفزعة تغشى الناس فجاءة، ولا يخفى ما لهذا اللفظ من تصوير للهول الذي يحلُّ بالخلق يوم القيامة، وفي ذلك تهويل له في القلوب، ففيه إثبات لشاهده ودليله فهو يغشى الناس بعذابه ويلبسهم أهواله، قال الزمخشري رحمه الله: «(ﭧ) الداهية التي تغشى الناس بشدائدها وتلبسهم أهوالها»18.
ورد هذا اللفظ للدلالة على اليوم الآخر أربع مرات في موطنين الأول في قوله تعالى: (ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ) [الحاقة: ٤].
والثاني تكرر اللفظ فيه ثلاث مرات في سورة القارعة وذلك في قوله تعالى: (ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ) [القارعة: ١-٣].
وسمي بالقارعة؛ لأنه يقرع القلوب والأسماع بفنون الأهوال والأفزاع لعظيم ما ينزل بهم من البلاء عندها، ويقرع الكون بالدمار والتحطيم وتتغير فيه معالم الكون كله، يقال: أصابتهم قوارع الدهر، أي: أهواله وشدائده19، وأصل القرع: «الضرب بشدة وقوة، تقول العرب: قرعتهم القارعة وفقرتهم الفاقرة20: إذا وقع بهم أمر عظيم»21، ويعمق هذا الإيحاء الإيقاع المنبعث من حروف (ﭜ) (القاف والراء والعين) المعروفة بقوتها وشدتها.
ورد هذا اللفظ في موضعين الأول مضافًا إلى اليوم في قوله تعالى: (ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ) [غافر: ١٨].
والثاني مجردًا في قوله تعالى: (ﮑ ﮒ) [النجم: ٥٧].
وسمي اليوم الآخر بـ (ﮒ) لأزوفه، أي: لقرب وقوعه، وضيق وقته؛ لأن الأزف: ضيق الوقت22.
واليوم الآخر قريب جدًّا، وكلُّ آت فهو قريب وإن بعد مداه. وهو بعد ظهور علاماته أكثر قربًا. ولا يخفى ما للفظ (ﮒ) من تعظيم لشأنه وتفخيمه فهي قد «اقتربت كاسحة جارفة، وهي الطامة والقارعة التي جاء النذير يحذركم إياها، أو هو العذاب الذي لا يعلم إلا الله نوعه وموعده، ولا يملك إلا الله كشفه ودفعه: (ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ)»23.
ورد هذان اللفظان في موضع واحد في قوله تعالى: (ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ) [النازعات: ٦-٩].
وهما يصوران على نحو شديد ما يقع من الهول والاضطراب في الكون حينئذ، فسمي بالراجفة؛ لأن فيه تهتز السموات والأرض ويضطرب نظامهما ويدمر كلّ شيء فيهما، أما تسميته بالرادفة؛ لأنها تتبع الراجفة، وقيل: هما النفختان في الصور، قال الزمخشري رحمه الله: «(ﯔ) الواقعة التي ترجف عندها الأرض والجبال، وهي النفخة الأولى وصفت بما يحدث بحدوثها، (ﯖ ﯗ) أي: الواقعة التي تردف الأولى، وهي النفخة الثانية. ويجوز أن تكون الرادفة من قوله تعالى: (ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ) [النمل: ٧٢].
أي: القيامة التي يستعجلها الكفرة استبعادًا لها، وهي رادفة لهم؛ لاقترابها. وقيل: (ﯔ): الأرض والجبال، من قوله: (ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ) [المزمل: ١٤].
و(ﯗ): السماء والكواكب؛ لأنها تنشق وتنتشر كواكبها على أثر ذلك»24.
ورد لفظ (ﯸ) في موضع واحد في قوله تعالى: (ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ) [عبس: ٣٣-٣٧].
وسمي اليوم الآخر بالصاخة؛ «لشدة صوتها؛ لأنها تصخ الآذان، أي: تصمها فلا تسمع»25، فهذا اليوم العظيم يصخُّ الناس فيه صخًّا بأهواله الشديدة، ومما يعزز هذا المعنى ويعمقه جرس اللفظ، فهو جرس شديد «يكاد يخرق صماخ الأذن، وهو يشق الهواء شقًّا، حتى يصل إلى الأذن صاخًّا ملحًا»26.
جاء لفظ (ﮮ ﮯ)؛ ليدل على اليوم الآخر في موضع واحد في قوله تعالى: (ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ) [النازعات: ٣٤-٣٥].
وسمي بـ (ﮮ ﮯ)؛ لتفظيعه في قلوب السامعين وتهويله في نفوسهم، فهو يَطُمُّ بأهواله ودواهيه الخلق لعظمه، قال البغوي رحمه الله: «وسميت القيامة طامةً؛ لأنها تطم على كلِّ هائلةٍ من الأمور، فتعلو فوقها وتغمر ما سواها، والطامة عند العرب: الداهية التي لا تستطاع»27. وبناء (ﮮ) وجرسها الإيقاعي يصوران هـذا المعنى ويقربانه، فهي تـدل على العموم والشدة والمبالغة؛ لأنها من الأسـماء التي ختمت بتـاء التأنيث، فانقلبت من الوصفية إلى الأسمية28.
ورد لفظ الآخرة في القرآن الكريم مائة وخمس عشرة مرة، من ذلك قوله تعالى: (ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ) [البقرة: ٤].
وقوله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭖ ﭗ) [القيامة: ٢٠-٢١].
وغيرها من الآيات. و«سميت آخرة؛ لتقدم الدار الأولى أمامها، فصارت التالية لها آخرةً. وقد يجوز أن تكون سميت آخرة؛ لتأخرها عن الخلق، كما سميت الدنيا (دنيا)؛ لدنوها من الخلق»29.
تناولنا فيما سبق أسماء اليوم الآخر والألفاظ ذات الصلة به، والآن نتناول أوصاف هذ اليوم في التعبير القرآني؛ لتتضح ملامح هذا اليوم العظيم من خلال هذه الأوصاف.
والناظر في القرآن الكريم يجد أنَّ الله تعالى وصف اليوم الآخر بأوصاف كثيرة متنوعة، وهذه الأوصاف تبين حقيقته، فهي بمثابة التعريف به وبيان ماهيته، وسنحاول الوقوف على معنى الوصف ودلالته ومناسبته لليوم الآخر في القرآن الكريم ما استطعنا إلى ذلك سبيلًا:
يعد هذا الوصف (ﭟﭠ) من أشهر أوصاف اليوم الآخر، وقد ورد في ثلاثة عشر موضعًا من كتاب الله تعالى، من ذلك قوله تعالى: (ﭞ ﭟ ﭠ) [الفاتحة: ٤].
وقوله تعالى: (ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ) [الصافات: ٢٠].
وغيرها من الآيات الكريمات. وأصل الدين في لغة العرب: الجزاء والحساب، «يقال: كما تدين تدان، المعنى: كما تعمل تعطى وتجازى»30.
ومن هنا كان المراد من يوم الدين: يوم الحساب والجزاء الذي يحاسب ويجازي الله فيه العباد على أعمالهم وأفعالهم في الدنيا.
وصف هذا اليوم بـ(ﰑ ﰒ) في القرآن الكريم في أربعة مواضع ثلاثة منها في سورة ص والآخر في سورة غافر، منها قوله تعالى: (ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ) [ص: ١٦].
وقوله تعالى: (ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ)[غافر: ٢٧].
ووصف هذا اليوم بيوم الحساب؛ لأن فيه يحاسب الله تعالى العباد على أعمالهم خيرها وشرها والنعم التي أنعمها عليهم فيها في أبدانهم ومطاعمهم، وغير ذلك من النعم، قال القرطبي: «يوم الحساب معناه أنَّ الباري سبحانه يعدد على الخلق أعمالهم من إحسان وإساءة، ويعدد عليهم نعمه، ثم يقابل البعض بالبعض فما يشفُّ منها على الآخر حكم للمشفوق بحكمه الذي عينه للخير بالخير وللشر بالشرِّ»31.
جاء وصف اليوم الآخر بـ(ﮚ ﮛ) في موضعين من كتاب الله تعالى، الأول: في قوله تعالى: (ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ) [الشورى: ٧].
والثاني: في قوله تعالى: (ﯰ ﯱ ﯲ ﯳﯴ ﯵ ﯶ ﯷﯸ)[التغابن: ٩].
ووصف الله تعالى هذا اليوم العظيم بيوم الجمع؛ لأنه تعالى في هذا اليوم يجمع الخلائق كلها أولها وآخرها للحساب، قال الرازي رحمه الله: «وفي تسميته بيوم الجمع وجوهٌ: الأول: أن الخلائق يجمعون فيه، قال تعالى: (ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ) [التغابن: ٩].
فيجتمع فيه أهل السموات مع أهل الأرض، الثاني: أنه يجمع بين الأرواح والأجساد، الثالث: يجمع بين كلِّ عاملٍ وعمله، الرابع: يجمع بين الظالم والمظلوم»32.
وصف اليوم الآخر بـ(ﯮ ﯯ) في ستة مواضع من الكتاب الكريم، وذلك في قوله تعالى: (ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ)[الصافات: ٢١].
وقوله: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ) [الدخان: ٤٠].
وغيرها من الآيات الكريمات. والفصل: البون ما بين الشيئين والجبلين وهو المفصل، ويطلق أيضًا ويراد به القضاء بين الحق والباطل، يقال: أمرٌ فيصلٌ وفاصلٌ، أي: قاطعٌ33.
ووصف اليوم الآخر بيوم الفصل؛ لأنه اليوم الذي يفصل فيه بين عباده الأولين والآخرين بأعمالهم فيما كانوا فيه يختلفون، وفيما كانوا فيه يختصمون، قال تعالى: (ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ) [السجدة: ٢٥].
إضافة إلى ذلك أنه اليوم الفاصل الذي يبين الحق فيه من الباطل34.
ورد وصف اليوم الآخر بـ(ﮬ ﮭ) مرتين في موضع واحد من كتاب الله تعالى في قوله تعالى: (ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔﯕ ﯖ) [الروم: ٥٦].
وأصل البعث: إثارة الشيء وتوجيهه، يقال: بعثته فانبعث، ويختلف بحسب اختلاف ما علق به. ويوم البعث هو يوم الخروج من القبور35.
قال ابن منظور: «والبعث أيضًا: الإحياء من الله للموتى؛ ومنه قوله تعالى: (ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ): أي: أحييناكم. وبعث الموتى: نشرهم ليوم البعث. وبعث الله الخلق يبعثهم بعثًا: نشرهم»36.
فهو يوم عظيم للخلق بعد الموت وانقضاء الدنيا يوم يبعثهم الله من قبورهم للحساب والجزاء، فينبئهم الله تعالى بما عملوه في الدنيا.
لم يرد وصف اليوم الآخر بـ(ﯪ ﯫ) إلا مرة واحدة، وذلك في قوله تعالى: (ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ)[غافر: ١٥].
ووصف اليوم الآخر به من عدة وجوه منها أنه يوم عظيم يلتقي به الخلق كلهم الأولون والآخرون، حتى يلتقي فيه آدم عليه السلام بآخر ولده، وفيه يلتقي الخالق بالمخلوق، ويلتقي فيه أهل السماء بالأرض، والظالم بالمظلوم، بالإضافة إلى أنه يوم تتلاقى فيه الأرواح بالأجساد، وأنَّ كلَّ عامل سيلقى ما عمله من خير وشر ويجازى عليه وغيرها37.
جاء وصف اليوم الآخر بـ(ﯶ ﯷ) مرة واحدة فقط، وذلك في قوله تعالى: (ﯰ ﯱ ﯲ ﯳﯴ ﯵ ﯶ ﯷﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ) [التغابن: ٩].
و(التغابن) على وزن تفاعل من الغبن وهو: «أن تبخس صاحبك في معاملة بينك وبينه بضربٍ من الإخفاء»38.
أما في سبب وصفه بيوم التغابن؛ لأنه في ذلك اليوم يظهر الغبن والتفاوت بين الخلق من أربعة وجوه:
أحدها: أنه ليس من كافر إلا وله منزل وأهل في الجنة، فيرث ذلك المؤمن، فيغبن حينئذ الكافر.
والثاني: غبن أهل الجنة أهل النار.
والثالث: أنه يوم غبن المظلوم الظالم؛ لأن المظلوم كان في الدنيا مغبونًا، فصار في الآخرة غابنًا.
والرابع: أنه يوم يظهر فيه غبن الكافر بتركه للإيمان، وغبن المؤمن بتقصيره في الإحسان39.
لم يرد وصف اليوم الآخر بـ(ﯺ ﯻ) إلا مرة واحدة في القرآن الكريم، وذلك في قوله تعالى: (ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ) [غافر: ٣٢].
والتناد: مصدر تنادى القوم، أي: نادى بعضهم بعضًا، ويوم التناد وصف لليوم الآخر، وصف بذلك؛ لكثرة ما يحصل من نداء في ذلك اليوم، فالله تعالى ينادي المشركين؛ توبيخًا لهم في ذلك اليوم العظيم فيقول لهم: (ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ) [القصص: ٧٤].
والناس يومئذ ينادي بعضهم بعضًا في هذا اليوم، فينادي أصحاب الأعراف رجالًا يعرفون بسيماهم في النار، وينادي أصحاب الجنة أصحاب النار، وأصحاب النار أصحاب الجنة، وينادي أهل النار بعضهم بعضًا؛ للاستغاثة، أو يتصايحون فيه بالويل والثبور. والملائكة تنادي الخلق ينادون إلى المحشر، وتنادي أصحاب الجنة إلى غير ذلك مما يقع في هذا اليوم من التنادي40.
ورد وصف اليوم الآخر بـ(ﰚ ﰛ) مرة واحدة في القرآن الكريم، وذلك في قوله تعالى: (ﰖ ﰗﰘ ﰙ ﰚ ﰛ) [ق: ٣٤].
ووصف اليوم الآخر بيوم الخلود؛ لأن َّالناس يصيرون إلى دار الخلود، فالمؤمنون مخلدون في الجنان والكافرون مخلدون في النار، قال تعالى: (ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪﭫ ﭬ ﭭ ﭮ) [البقرة: ٣٩].
وقال: (ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ) [آل عمران: ١٠٧]41.
لم يرد وصف اليوم الآخر بـ(ﭒ ﭓ) إلا مرة واحدة في القرآن الكريم، في قوله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ)[مريم: ٣٩].
ووصف هذا اليوم بيوم الحسرة؛ لشدة تحسر العباد فيه وندمهم على ما فرطوا فيه من الصالحات في الدنيا. والحسرة: الغمُّ على ما فات والندم عليه، قال تعالى عن حال المقصر في الاخرة: (ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ) [الزمر: ٥٦]42.
وصف اليوم الآخر بـ(ﮞ ﮟ) مرة واحدة في القرآن الكريم، في قوله تعالى: (ﮘ ﮙ ﮚ ﮛﮜ ﮝ ﮞ ﮟ) [ق: ٤٢].
والخروج: مأخوذ من خرج يخرج خروجًا إذا برز من مقره أو حاله. ووصف هذا اليوم بيوم الخروج؛ لأنه يوم الخروج من القبور، فالخلق يخرجون من قبورهم للحساب؛ قال تعالى: (ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ) [المعارج: ٤٣]43.
لم يرد وصف اليوم الآخر بـ(ﮃ ﮄ) إلا مرة واحدة في القرآن الكريم، وذلك في قوله تعالى: (ﭾ ﭿ ﮀﮁ ﮂ ﮃ ﮄ)[ق: ٢٠].
ووصف هذا اليوم بيوم الوعيد؛ لأنه اليوم الذي يحصل فيه الوعيد للكافرين الذي توعدهم الله به في الدنيا، «وإضافة يوم إلى الوعيد من إضافة الشيء إلى ما يقع فيه، أي: يوم حصول الوعيد الذي كانوا توعدوا به، والاقتصار على ذكر الوعيد؛ لما علمت من أنَّ المقصود الأول من هذه الآية هم المشركون»44.
وصف اليوم الآخر بـ(اليوم الموعود) مرة واحدة في القرآن الكريم، وذلك في قوله تعالى: (ﭕ ﭖ) [البروج: ٢].
ووصف هذا اليوم بالموعود؛ لأنه تعالى وعد بوقوعه بعد زوال الدنيا، واجتماع الخلق فيه، ومحاسبتهم على أعمالهم كلها45.
وصف اليوم الآخر بـ(ﰒ ﰓ ﰔ) مرتين في القرآن الكريم وذلك في قوله تعالى: (ﭺ ﭻ ﭼ ﭽﭾﭿ ﮀ ﮁ ﮂ)[الحجر: ٣٧-٣٨].
وقوله: (ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ) [ص: ٨٠-٨١].
ووصف اليوم الآخر بيوم الوقت المعلوم؛ لأن الله تعالى عنده علمه وحده46.
هذه أشهر أوصاف اليوم الآخر في القرآن الكريم، وقد وردت أوصاف أخرى كثيرة تدلُّ على أنَّ المراد منها هو اليوم الآخر، اشتقها العلماء من الآيات ومعانيها من ذلك:
إلى غير ذلك من الأوصاف التي جلت معالم هذا اليوم المهول ورسمت معالمه. واليوم الآخر لما عظم أمره وكثرت أهواله، سماه الله تعالى في كتابه بأسماء عديدة، ووصفه بأوصاف كثيرة، وهذا شائع في كلام العرب، فهم كلما عظم شأن الشيء عندهم تعددت أسماؤه وصفاته، فالشيء الحقير ما له إلا اسم واحد فقط، لكن الشيء العظيم له أسماء كثيرة، فـ(السيف) لما عظم عندهم موضعه وتأكد نفعه لديهم وموقعه جمعوا له خمسمائة اسم مثل المهند، والصارم، والمسلول، والبتار وغيرها، و(الأسد) كذلك جمعوا له أسماء كثيرة مثل: ليث، وغضنفر؛ لأنه أسد47.
الأدلة القرآنية على البعث بعد الموت
البعث كما سبق ذكره هو إحياء الأجساد وعودة الأرواح إليها، بعد نفخة الصور الثانية، فيقوم الناس لرب العالمين، حفاةً عراةً غرلًا، كما قال تعالى: (ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ) [الكهف: ٤٨].
والبعث ركن ثابت في الإيمان باليوم الآخر، وقد أثبته القرآن الكريم في كثير من المواضع، واستدل على وقوعه وتحققه وعالجه بشتى الطرق والأساليب، وأثبته بالأدلة النقلية عن طريق آياته التي توجب الإيمان به، والأدلة العقلية من خلال الاستدلال بآيات الله تعالى الكونية في الأرض على إثبات البعث بعد الموت، وجاء تركيز القرآن الكريم على هذه القضية؛ لأن كفار مكة كانوا ينكرونها، ويعتقدون أن لا حياة بعد الموت كما حكى عنهم القرآن: (ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ) [الجاثية: ٢٤].
وقوله تعالى: (ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ)[فصلت: ٥٤].
واستدلوا بعدم البعث بعد الموت واستبعدوه بعدم حدوث شيء لآبائهم كما حكى عنهم القرآن من ذلك في قوله تعالى: (ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ) [النمل: ٦٦-٦٨].
فرد عليهم القرآن الكريم ظنهم الفاسد وشكهم بالبعث والحساب بقوله تعالى: (ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ) [التغابن: ٧].
وتوعدهم بالعذاب الأليم مثل قوله تعالى: (ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧﭨ ﭩ ﭪﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ)[الإسراء: ٩٧-٩٩].
وحاججهم في كثير من المواضع، وأثبت البعث والحساب بالأدلة العقلية -كما سيأتي بيانها بالتفصيل- كقوله تعالى: (ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳﭴ ﭵ ﭶﭷ ﭸ ﭹ ﭺ) [الأنبياء: ١٠٤].
وسنتناول فيما يأتي معالجات القرآن الكريم لشبهات منكري البعث، وإيراده الأدلة العقلية والنقلية على إثباته ووقعه لا محالة ما استطعنا إلى ذلك سبيلًا، وعلى النحو الآتي:
أولًا: الأدلة العقلية:
أورد القرآن الكريم أدلة عقلية كثيرة تثبت البعث والحساب، وسلك في ذلك لإثباتها مسالك مختلفة في طريقة العرض والاستدلال، ومن هذه الأدلة العقلية:
من الأدلة العقلية التي ساقها القرآن الكريم في آياته لإثبات عقيدة البعث بعد الموت هي قدرة الله المحيطة بكلِّ شيء، فالله تعالى خالق الكون كله ومنه الإنسان، وهو القادر على إحيائه بعد موته وهو أهون عليه، ولقد جاءت آيات كثيرة تدلُّ على ذلك يقترن فيها الرد على منكري البعث بالتذكير بقدرة الله تعالى على ذلك منها تعرضها لشكِّ الكافرين بالبعث والحساب، فترد عليهم، وتثبت من خلال الطبيعة كتاب الله المنظور تعالى صدق الوعد الذي يكذبونه، منوعة في عرض الأدلة تنويعًا عجيبًا وصولًا إلى إثبات البعث ودفع شبه منكريه.
والله تعالى له القدرة المطلقة، فهو سبحانه على كلِّ شيء قدير، وما دامت له القدرة المطلقة تعالى، فإن مقتضى ذلك أن يقدر على إحياء الموتى، فضرب لهم سبحانه الأمثلة بأمور مشاهدة من الحياة هي نظير بعث الأجساد وحشرها، من ذلك قوله تعالى: (ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ) [القيامة: ٣٦-٤٠].
ومنها أيضًا قوله تعالى: (ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ) [سبأ: ٩].
ففي الآية «دلالة واضحة على قدرة الله، فكيف يستبعد عليه إعادة تلك الأجسام الضعيفة بعد تفرقها، وهو القادر على خلق هذه الآيات العظيمة، من السماء والأرض، ذلك هو دليل البعث؛ لأنه يدلُّ على كمال القدرة، ومن المقدور عليه إعادة خلق الإنسان وإيجاده مرة أخرى، وقد قرن هذا الدليل بالتهديد حيث قال: (ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ).
ثم بين تعالى أن المنتفع بتلك الآيات كلُّ من يرجع إلى ربه، ويتوب إليه، لا من يتمادى في عناده وتعصبه، فقال تعالى: (ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ)»48.
ومن الآيات التي دلت على قدرته تعالى في إحياء الموتى وبعثهم وحاججت منكري البعث قوله تعالى: (ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ) [الواقعة: ٤٩-٧٤].
وقد تضمنت هذه الآيات أربعة أدلة حسية ومشاهدة من واقع الإنسان وحياته على جواز البعث وإمكانه: الأول: ماء الرجل (المني) في قوله تعالى: (ﭴ ﭵ ﭶ)، والثاني: إنبات النبات في قوله تعالى: (ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ)، والثالث: إنزال المطر في قوله تعالى: (ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ) وسيأتي بيان هذه الأدلة.
ومن أَجَلِّ الآيات التي بينت قدرة الله على البعث وحاججت منكريه قوله تعالى: (ﭑﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ) [ق: ١-١٥].
وبعد سوق كل هذه الأدلة التي يراها كلُّ الناس بأعينهم، والتي فيها دلالةٌ على البعث يأتي قوله تعالى: (ﯙ ﯚ)؛ ليوضح الصورة التي كانوا ينكرونها ويقربها إليهم عن طريق التشبيه، إذ شبه سبحانه إحياء الإنسان وبعثه بعد موته، بإحياء الأرض وإنباتها بالغيث بعد طول اليبس والجدب، وهذا يدل على كمال قدرة الله تعالى 49.
وخروج الإنسان من قبره للبعث يكون بنزول الماء من السماء أيضًا، كما جاء في الحديث الصحيح: (ثم ينزل الله من السماء ماءً فينبتون كما ينبت البقل، ليس من الإنسان شيءٌ إلا يبلى إلا عظمًا واحدًا، وهو عجب الذنب، ومنه يركب الخلق يوم القيامة)50.
ومن الأدلة على إمكانية البعث بيان قدرة الله تعالى على إخراج الأشياء من أضدادها. فإذا كانت الحياة ضد الموت، والبعث ضد الفناء، فإن الله تعالى الذي يخرج الضد ممن ضده قادر على إحداثه، كما ورد في قوله تعالى: (ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ) [آل عمران: ٢٧].
فالله هو الذي يخرج الإنسان الحي من النطفة، ويخرج النطفة الميتة من الإنسان الحي، وكذلك الأنعام والبهائم، فالنطفة ميتة ثم ينشئ الله منها إنسانًا حيًّا، ومن الإنسان الحي تخرج النطفة الميتة، ومن ذلك أيضًا قوله تعالى: (ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟﭠ ﭡ ﭢﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ)[الأنعام: ٩٥-٩٦].
من الأساليب القرآنية لإثبات البعث والحياة بعد الموت الاستدلال بأن من خلق الأعلى والأكبر والأعظم، فقدرته على خلق الأدنى والأصغر أولى، والله تعالى من جملة خلقه ما هو أعظم من خلق الناس، ومن ذلك لفت النظر إلى خلق السموات وما فيهما من الشمس والقمر وسائر الكواكب والأرض وما فيها من جبال رواسي شامخات وأنهار وسهول وهضاب وغيرها، على ما اشتملت عليه من العظمة التي تعلو على خلق الإنسان أضعافًا مضاعفة.
فكيف يقال للذي خلق هذا الخلق العظيم بأنه لا يستطيع أن يخلق ما دونها ويعيده بعد موته؟
وهذا في حق الخلق، أما في حق الله الخالق فالكلُّ في قدرته، سواء كبر المخلوق أم صغر، فخلق السموات والأرض كخلق أصغر شيء، فالكلُّ سواء في ميزان القدرة الإلهية، ولكنه سبحانه يضرب الأمثال لنا بما نعقله وندركه، وقد ورد هذا الاستدلال في آيات كثيرة من القرآن الكريم تبين في مجملها أن خلقهما أعظم من خلق الإنسان.
ومن الآيات الدالة قوله تعالى: (ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ) [يس: ٨١-٨٣].
وقوله تعالى: (ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩﮪ ﮫ ﮬﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ) [غافر: ٥٦-٥٧].
فاستدلَّ ربنا تعالى باقتداره على خلق السموات على اقتداره على إعادة الأروح إلى الأجساد عند البعث بعد الموت؛ لأن خلق الإنسان أقلُّ شأنًّا من خلق السموات والأرض، ومن ثَمَّ فإن الله تعالى القادر على خلق السموات والأرض لا يعجزه خلق الإنسان -الذي هو جزء من هذا الكون- وإعادته.
وفي موضع آخر من القرآن الكريم يدمج الله تعالى الاستدلال على البعث بالتحدي وذلك في قوله تعالى: (ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣﮤ ﮥ ﮦ) [النازعات: ٢٧-٣٢].
قال شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله بعد أن أورد عددًا من الآيات حول هذا الاستدلال: «فالله تعالى لم يكتف في بيان إمكان المعاد بهذا؛ إذ يمكن أن يكون الشيء ممتنعًا ولو لغيره، وإن لم يعلم الذهن امتناعه؛ بخلاف الإمكان الخارجي. فإنه إذا علم بطل أن يكون ممتنعًا، والإنسان يعلم الإمكان الخارجي؛ تارةً بعلمه بوجود الشيء، وتارةً بعلمه بوجود نظيره وتارةً بعلمه بوجود ما هو أبلغ منه، فإن وجود الشيء دليلٌ على أن ما هو دونه أولى بالإمكان منه.
ثم إنه إذا بين كون الشيء ممكنًا فلا بد من بيان قدرة الربِّ عليه، وإلا فمجرد العلم بإمكانه لا يكفي في إمكان وقوعه إن لم تعلم قدرة الرب على ذلك. فبين سبحانه هذا كله بمثل قوله: (ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ) [الإسراء: ٩٩].
فإنه من المعلوم ببداهة العقول أن خلق السموات والأرض أعظم من خلق أمثال بني آدم والقدرة عليه أبلغ، وأن هذا الأيسر أولى بالإمكان والقدرة من ذلك»51.
من أدلة القرآن الكريم في الاستدلال على البعث بعد الموت استدلاله على وقوع وإمكان النشأة الثانية -البعث بعد الموت- بالنشأة الأولى -الخلق الأول.
وهذا استدلال جاء في كثير من آيات القرآن الكريم، استدلال يلزم منكر البعث الحجة بالدليل القاطع، فهو يغفل عن أن خلقه على هذا النحو أعظم دليل، فهو يرى بأم عينيه كل يوم النشأة الأولى للإنسان والحيوان، ومن كانت هذه حاله في الأولى لن يصعب إرجاعه في الثانية؛ لأن الذي خلق من العدم قادر غير عاجز تعالى على أن يعيده وهو أهون عليه، لكن فطرة هؤلاء المنكرين فسدت؛ لكفرهم وعنادهم، فغابت عنهم الحقائق الثوابت: (ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ) [الإنسان: ١-٢].
ومن الآيات الكريمات التي ذكرت الاستدلال على النشأة الآخرة بالنشأة الأولى، وتذكير منكري البعث المستبعدين له بهذه الحقيقة الثابتة التي لا يستطيع أحد إنكارها قوله تعالى: (ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝﭞ ﭟ ﭠ ﭡﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ) [الإسراء: ٤٨-٥٢].
فالآيات تعرض لسؤال منكري البعث المتكرر دومًا (من يعيدنا؟)، (من يبعثنا؟) وهذا غاية الإنكار منهم، كما قال الألوسي رحمه الله: «فيه من الدلالة على غلوهم في الكفر وتماديهم في الضلال ما لا مزيد عليه»52.
فجاءت الآيات بالجواب البليغ المفحم بأن قل لهم يا محمد -تحقيقًا للحقِّ، وإزاحة للاستبعاد، وإرشادًا لهم إلى طريقة الاستدلال-: إن الذي يعيدكم ويبعثكم هو الله القادر العظيم الذي فطركم وأنشأكم في النشأة الأولى، من غير مثال سابق يحتذيه ولا أسلوبٍ ينتحيه، وكنتم ترابًا ما شم رائحة الحياة، أليس الذي يقدر على ذلك بقادر على أن يعيد العظام البالية إلى حالتها المعهودة؟! بلى إنه على كلِ شيء قدير53.
قال الرازي رحمه الله: «فإن المنافاة بين الحجرية والحديدية، وبين قبول الحياة أشد من المنافاة بين العظمية وبين قبول الحياة، وذلك أن العظم قد كان جزءًا من بدن الحي، أما الحجارة والحديد فما كانا البتة موصوفين بالحياة، فبتقدير أن تصير أبدان الناس موصوفةً بصفة الحجرية والحديدية بعد الموت، فإن الله تعالى يعيد الحياة إليها ويجعلها حيًّا عاقلًا كما كان»54.
ولكن لا زال الجحود والشكُّ والريبة تجول في عقول المنكرين للبعث ومخيلتهم، كما ذكر الله عنهم بقوله: (ﭟ ﭠ ﭡﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ).
فالوجود دليل على العدم؛ إذ لولا ذلك لما كان للشيء وجود في الخارج.
وفي موضع آخر من القرآن الكريم نجد تفصيلًا في الاستدلال على البعث بالخلق الأول للإنسان، فأبونا آدم خلقه الله من تراب، فالقادر على جعل التراب بشرًا سويًّا، لا يعجزه أن يعيده بشرًا سويًّا مرة أخرى بعد موته، ويذكر أيضًا بخلقنا نحن -ذرية آدم- فإنه خلقنا من سلالة من ماء مهين، تَحَوَّلَ هذا الماء فأصبح نطفة، ثم صارت النطفة علقة، ثم تحولت إلى مضغة. إلى أن نفخ فيها الروح، وجعلها إنسانًا سويًّا.
فالقادر على هذا الخلق المشاهد المعلوم، قادر على إعادته، وإحياء الموتى.
قال تعالى: (ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ) [الحج: ٥-٧].
وهذه الآيات تعطي تفصيلًا للمراحل التي يمر بها خلق الإنسان، فقد قابل الله هذه المراحل بعدة دلالات على قدرته سبحانه على البعث.
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: «أي إنهم التبس عليهم إعادة الخلق خلقًا جديدًا، ثم نبههم على ما هو من أعظم آيات قدرته وشواهد ربوبيته وأدلة المعاد، وهو خلق الإنسان؛ فإنه من أعظم الأدلة على التوحيد والمعاد، وأي دليل أوضح من تركيب هذه الصورة الآدمية بأعضائها وقواها وصفاتها، وما فيها من اللحم والعظم والعروق والأعصاب والرباطات والمنافذ والآلات والعلوم والإرادات والصناعات؟! كل ذلك من نطفة ماء! فلو أنصف العبد ربه لاكتفى بفكره في نفسه، واستدل بوجوده على جميع ما أخبرت به الرسل عن الله وأسمائه وصفاته»55.
وهذه الآيات لها دلالة عقلية على البعث: فهي نقلة ضخمة بعيدة الأغوار والآماد، تشهد بالقدرة التي لا يعجزها البعث، وأنَّ إنشاء الإنسان من التراب، وتطور الجنين في مراحل حياته، وانبعاث الحياة من الأرض بعد الهمود، كلُّ ذلك متعلق بأن الله هو الحقُّ، فهو من السنن المضطردة التي تنشأ من أن خالقها هو الحقُّ الذي لا تختل سننه ولا تتخلف، وأن اتجاه الحياة في هذه الأطوار؛ ليدل على الإرادة التي تدفعها وتنسق خطاها وترتب مراحلها.
فهناك ارتباط وثيق بين أن الله هو الحقُّ، وبين هذا الاضطراد والثبات، والاتجاه الذي لا يحيد، وأن إحياء الموتى هو إعادة للحياة، والذي أنشأ الحياة الأولى هو الذي ينشئها للمرة الآخرة (ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ)؛ ليلاقوا ما يستحقونه من جزاء، فهذا البعث تقتضيه حكمة الخلق والتدبير، وإنَّ هذه الأطوار التي يمرُّ بها الجنين، ثمَّ يمر بها الطفل بعد أن يرى النور؛ لتشير إلى أن الإرادة المدبرة لهذه الأطوار ستدفع بالإنسان إلى حيث يبلغ كماله الممكن في دار الكمال؛ إذ إن الإنسان لا يبلغ كماله في حياة الأرض، فهو يقف ثم يتراجع (ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ) .
فلابد من دار أخرى يتم فيها تمام الإنسان، فدلالة هذه الأطوار على البعث دلالة مزدوجة، فهي تدلُّ على البعث من ناحية أنَّ القادر على الإنشاء قادر على الإعادة، وهي تدلُّ على البعث؛ لأن الإرادة المدبرة تكمِّلُ تطوير الإنسان في الدار الآخرة، وهكذا تلتقي نواميس الخلق والإعادة ونواميس الحياة والبعث، ونواميس الحساب والجزاء، تشهد كلها بوجود الخالق المدبر القادر، الذي ليس في وجوده جدال56.
ومن الآيات أيضًا قوله تعالى: (ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ) [يس: ٧٨-٧٩].
فالله تعالى يعلم أين ذهبت العظام في سائر أقطار الأرض وأرجائها وتفرقها وتمزقها، ويعلم مم يعيد خلق الإنسان كما بدأه من أصغر جزء في الإنسان وهو: عجب الذنب. قال مجاهدٌ، وعكرمة، وعروة بن الزبير، والسدي، وقتادة في سبب نزول هذه الآيات الكريمات: (جاء أبي بن خلفٍ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده عظمٌ رميمٌ، وهو يفتته ويذريه في الهواء، وهو يقول: يا محمد، أتزعم أن الله يبعث هذا؟ فقال: (نعم، يميتك الله تعالى ثم يبعثك، ثم يحشرك إلى النار).
ونزلت هذه الآيات من آخر يس: (ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ)، إلى آخرهن عن ابن عباس، (أن العاصي بن وائلٍ أخذ عظمًا من البطحاء ففته بيده، ثم قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أيحيي الله هذا بعد ما أرى؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نعم، يميتك الله ثم يحييك، ثم يدخلك جهنم). قال: ونزلت الآيات من آخر يس)57.
وقد أمر الله عباده بالسير في الأرض، والنظر في كيفية بدء الخلق؛ ليستدلوا بذلك على قدرته على الإعادة، فقال تعالى: (ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ) [الروم: ٢٧-٢٨].
وهذه الآيات مثلٌ ضربه الله تعالى لعباده؛ ليدلَّ على «أن الإعادة أهون عليه من البداية، أي: أيسر، وإن كان جميعه على الله تعالى هينًا، وقاله ابن عباسٍ. ووجهه أن هذا مثلٌ ضربه الله تعالى لعباده، يقول: إعادة الشيء على الخلائق أهون من ابتدائه، فينبغي أن يكون البعث لمن قدر على البداية عندكم وفيما بينكم»58.
يقول الفخر الرازي رحمه الله معلقًا على هذه الآيات نقلًا: «لو اجتمع كلُّ الخلائق على إيراد حجةٍ في البعث على هذا الاختصار لما قدروا عليها؛ إذ لاشكَّ أنَّ الإعادة ثانيًا أهون من الإيجاد أولًا، ونظيره: (ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ) [يس: ٧٩].
وقوله: (ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ) [الروم: ٢٧]»59.
وبمجموع الآيات السابقة كلها نجد أن أسلوب الآيات يمزج الحجج والبراهين العقلية القاطعة بالكلمات البليغة المؤثرة، والمنطق الصحيح، وبهذا يرد القرآن الكريم على منكري البعث والحساب ويجادلهم ويبطل مزاعمهم، ويبدد شبههم الباطلة الواهية في أسلوب بليغ محكم يلزم الحجة في الاستدلال على البعث بعد الموت بالنشأة الأولى.
إنَّ تقلب الخلق بين الموت (العدم) ثمَّ الحياة، ثم الموت، ثم الحياة الأبدية الخالدة أعظم دليل على قدرة الله التي تجعل النفوس تخضع لعظمته وسلطانه فـ(ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ) [البقرة: ٢٨].
وفي كثير من المواضع من القرآن الكريم يبين ربنا الرحمن تعالى أن من تمام مستحقات ألوهيته وربوبيته قدرته على تحويل الخلق من حال إلى حال، ولذا فإنه يميت ويحيي، ويخلق ويفني، ويخرج الحي من الميت، والميت من الحي، ومن كانت هذه حاله فهو قادر على رد الأرواح إلى الأجساد وبعثها في الآخرة.
قال تعالى: (ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟﭠ ﭡ ﭢﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ) [الأنعام: ٩٤- ٩٨].
وأبعد من ذلك فقد استدل القرآن الكريم في كثير من آياته بقصص وأحداث من أماتهم الله تعالى ثم أحياهم في الدنيا؛ ليثبت قضية البعث بعد الموت، ويدلل على صدق ما أخـبر به الرسل من أمر المعاد. ومن هذا الاستدلال ما ورد في سورة البقرة، إذ وردت فيها أحداث متنوعة تدلل على ذلك:
منها حادثة بني إسرائيل مع نبيهم سيدنا موسى عليه السلام حين قالوا له: لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة، فأماتهم الله تعالى، ثم أحياهم، وفي ذلك يقول الله تعالى مخاطبًا بني إسرائيل في معرض الامتنان عليهم: (ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ) [البقرة: ٥٥-٥٧].
وقريب من هذه الحادثة ما تحكيه لنا السورة المباركة أن أناسًا فروا خوفًا من قدر الله المتحقق في الموت، وهم ألوف، فوقعوا به فماتوا ثم أحياهم الله بعدها، يقول ربنا تعالى فيهم: (ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ) [البقرة: ٢٤٣].
وفي هذه الآيات «يقص سبحانه وتعالى علينا قصة الذين خرجوا من ديارهم على كثرتهم واتفاق مقاصدهم، بأن الذي أخرجهم منها حذر الموت من وباء أو غيره، يقصدون بهذا الخروج السلامة من الموت، ولكن لا يغني حذر عن قدر، (ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ) فماتوا (ﮩ) إن الله تعالى (ﮪ) إما بدعوة نبي أو بغير ذلك، رحمة بهم ولطفا وحلما، وبيانا لآياته لخلقه بإحياء الموتى، ولهذا قال: (ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ) أي: عظيم (ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ) فلا تزيدهم النعمة شكرًا، بل ربما استعانوا بنعم الله تعالى على معاصيه، وقليل منهم الشكور الذي يعرف النعمة ويقر بها ويصرفها في طاعة المنعم»60.
ومنها أيضًا في الاستدلال على البعث قصة العزير عليه السلام وهو أحد أنبياء بني إسرائيل الذي مر على قرية ميتة فاستبعد أن يحييها الله تعالى، فأماته الله تعالى مائة سنة، ثم أحياه.
وفي ذلك يقول الله تعالى: (ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱﯓ ﯔ ﯕ ﯖﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ) [البقرة: ٢٥٩].
وهذه القرية هي: بيت المقدس، خربها الملك الجبار بختنصر وقتل أهلها، فمر عليها عزير، فإذا بالقرية خربة مدمرة، فوقف عزير متفكرًا فيما آلت إليه من الخراب، مستعظمًا قدرة الله ومعترفًا بالعجز عن معرفة طريق الإحياء فقال: (ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ)؟! فأراه الله ذلك في عالم الواقع؛ ليكون ذلك أبلغ في المعرفة؛ لأن أحاسيس الإنسان ومشاعره أحيانًا لا تقبل مجرد دليل، فأراه الله أبعد الأمرين في نفسه على أبلغ وجه، حيث أماته فاختلط لحمه وعظمه وشعره بالتراب ثم أحياه، ثم في غيره حيث أحيا له الحمار وحفظ طعامه من الفساد؛ ليكون ذلك آية على قدرة الله على البعث والإعادة ودرسًا لغيره61.
ومن هذا الاستدلال في السورة المباركة نفسها سؤال إبراهيم عليه السلام عن كيفية إحياء الموتى؛ فأمره الله تعالى أن يذبح أربعة من الطير، ويفرقهن أجزاء على الجبال التي حوله، ثم يناديهن، فتلتئم الأجزاء بعضها إلى بعض، ويأتين إلى إبراهيم سعيًا.
وفي ذلك يقول الله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘﭙ ﭚ ﭛ ﭜﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ) [البقرة: ٢٦٠].
وهذه حادثة أخرى يستدل بها القرآن الكريم على البعث بعد الموت بطريقة عملية تطبيقية.
ومنها أيضًا في قصة القتيل الذي اختصم فيه بنو إسرائيل، فأمرهم الله تعالى أن يذبحوا بقرة فيضربوه ببعضها؛ ليخبرهم بمن قتله، وفي ذلك يقول الله تعالى: (ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ) [البقرة: ٧٢-٧٣].
لقد كشف الله لقوم موسى عن الحكمة من ذبح البقرة. لقد كانوا قد قتلوا نفسًا منهم ثم جعل كل فريق يدرأ عن نفسه التهمة ويلحقها بسواه. ولم يكن هناك شاهد فأراد الله أن يظهر الحق على لسان القتيل ذاته وكان ذبح البقرة وسيلة إلى إحيائه، وذلك بضربه ببعض من تلك البقرة. وهكذا كان، فعادت إليه الحياة؛ ليخبر بنفسه عن قاتله، وليجلو الشكوك التي أحاطت بمقتله، وليحق الحق ويبطل الباطل بأوثق البراهين. حادثة أمام العيان لم يكن الغرض منها إحياء هذا الميت؛ ليكشف لهم عن قاتله فحسب، بل ليكشف الله للقوم بأنه جعل ذبح البقرة وسيلة ظاهرة تكشف لهم عن قدرة الله في إحياء الموتى بما شاهدوه من أمر القتيل، حتى يبلغوا مـن بعدهم قدرة الله تعالى على الإيجاد والمعاد62.
ومن هذا الاستدلال أيضًا الذي دل على إمكان إحياء الموتى. ما جعله الله تعالى من آيات عيسى بن مريم في إحياء الموتى، وإخراجهم من قبورهم بإذن الله تعالى، وذلك في قوله تعالى: (ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ) [آل عمران: ٤٩].
ومن ذلك أيضًا ما أخبر الله عن قصة أصحاب الكهف، إذ لبثوا وهم رقود في كهفهم مدة طويلة ثم بعثهم قال تعالى: (ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ) [الكهف: ١٠-١٢].
قال الشوكاني رحمه الله: «فإن من شاهد حال أهل الكهف علم صحة ما وعد الله به من البعث»63، كما قال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ) [الكهف: ٢١].
إن هذه الحوادث والقصص كلها جاءت؛ لتدل على إحياء الموتى بعد مماتهم، وهذا برهان قطعي على قدرة الله تعالى على ذلك، وعبرة وعظة لمنكري البعث وتبصرة وذكرى لكل عبد منيب.
لم يخلق الله تعالى الخلق عبثًا ولن يتركهم سدى، بل خلقهم لغاية معلومة وهي العبادة؛ لتكون الدنيا دار عمل واختبار لهم، فانقسموا على قسمين: قسم آمن وعمل الصالحات، والقسم الآخر كفر وعصى وعمل السيئات، ومن هنا فإن من حكمة الله ومقتضى عدله وجود البعث ومن ثم الجزاء للخلق بعد الموت؛ ليجزي كل واحد منهم الجزاء الأوفى على ما قدم في الدنيا، فيثيب المحسن منهم ويعاقب المسيء، ولو لم يكن هناك بعث للخلق وحساب لهم على أعمالهم التي قدموها في الحياة الدنيا، لكان الخلق كله عبثًا باطلًا ولانتفت صفة العدالة في حقه تعالى، وهذا أمر لا يتفق مع حكمة الله تعالى وعدله وهو مناقض ومعارض للعدل الرباني الإلهي؛ لأن الله خلق الخلق لعبادته، وأرسل الرسل وأنزل عليهم الكتب؛ لبيان الطريق الموصلة إليه، وعليه فإن ذلك يستلزم الحساب والجزاء -كما سبق-.
وقد جاءت آيات كثيرة من القرآن الكريم تبين أن البعث ضرورة يقتضيها عدل الله وحكمته وتقرر ذلك، منها قوله تعالى: (ﯬ ﯭ ﯮﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ) [القلم: ٣٥-٣٦].
آيات ابتدأت المحاججة بالاستفهام الإنكاري؛ لنفي التساوي بين المسلمين والكافرين في الجزاء، وإبطال زعم الكافرين بالتساوي حينها. أي: لا يكون المسلمون كالمجرمين الكافرين في سوء الحال والمآل.
ومنها أيضًا قوله تعالى: (ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ) [المؤمنون: ١١٥-١١٦].
فهل يظن عاقل أن يترك الإنسان في هذه الدنيا لا يؤمر ولا ينهى ويترك في قبره سدى دون أن يبعث؟! إن ذلك لا يليق بحكمة الله، فكل شيء يصدر عنه سبحانه له حكمة تقتضيه64.
وعدل الله لا يسوي بين من أحسن وأساء قال تعالى: (ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭﯮ ﯯ ﯰ ﯱ) [الجاثية: ٢١].
قال ابن القيم رحمه الله: «لهذا كان الصواب أن المعاد معلوم بالعقل مع الشرع، وأن كمال الرب تعالى وكمال أسمائه وصفاته تقتضيه وتوجبه»65.
وحكمته تعالى تقتضي أن تكون هناك حياة ثانية بعد الحياة الدنيا، يقام فيها ميزان العدل الإلهي، وينال كل عامل جزاء عمله خيرًا كان أم شرًا، وهذا ما أكده القرآن وأشارت إليه آياته وقوله تعالى: (ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ) [طه: ١٥].
وغيرها من الآيات.
ذكرنا -فيما سبق- أدلة على البعث وكانت أغلبها -إن لم تكن كلها- أدلة عقلية، وفي القادم نذكر بعض الأدلة الحسية من واقع الإنسان الذي يعايشه تدل على صدق البعث والنشور بعد الموت، أدلة حسية ملموسة في الأرض والسماء، كتاب الله المنظور، تأتي آيات القرآن الكريم -الكتاب المسطور- لتعبر عنها بأبلغ بيان وأحسنه وتقرها، أدلة جعلها الله لكل ناظر فيها الفوز والنجاة، ومن هذه الأدلة الحسية التي يشير إليها القران الكريم: الأرض اليابسة القاحلة الميتة، ومنها أيضًا: النبات وغيرها التي تأتي في مقام الاستدلال ومحاججة الكافرين ومنكري البعث على أن الله تعالى هو الخالق وحده لهذا الكون العظيم القادر على إفنائه، وهو وحده القادر على إعادة الخلق بعد مماتهم في اليوم الآخر بعد فناء الدنيا وزوالها، قال تعالى على لسان سيدنا نوح عليه السلام وهو يدعو قومه إلى معرفة أمر البعث فيقول: (ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ) [نوح: ١٧-١٨].
ومن آيات الاستدلال بالأدلة الحسية: الأرض الميتة اليابسة التي لا نبات فيها وذلك في قوله تعالى: (ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ) [الحج: ٥-٧].
فهذا مثل ضربه الله تعالى بإحياء الأرض بالنبات بعد إنزال المطر عليها كدليل آخر على قدرته تعالى على إحياء الموتى، فكما يحيي سبحانه الأرض الميتة التي لا نبت فيها ولا ماء يحيي الله تعالى الموتى عند البعث، فجعل الله سبحانه وتعالى إحياء الأرض بعد موتها نظير إحياء الأموات، وإخراج النبات منها نظير إخراجهم من القبور، ودل بالنظير على نظيره، وجعل ذلك آية ودليلًا على خمسة مطالب:
أحدها: وجود الصانع وأنه الحق المبين، وذلك يستلزم إثبات صفات كماله وقدرته وإرادته وحياته وعلمه وحكمته ورحمته وأفعاله.
الثاني: أنه يحصي الموتى.
الثالث: عموم قدرته على كل شيء.
الرابع: إتيان الساعة، وأنها لا ريب فيها.
الخامس: أنه يخرج الموتى من القبور كما أخرج النبات من الأرض66.
قال ابن عاشور رحمه الله: «وهذا ارتقاءٌ في الاستدلال على الإحياء بعد الموت بقياس التمثيل؛ لأنه استدلالٌ بحالةٍ مشاهدةٍ، فلذلك افتتح بفعل الرؤية، بخلاف الاستدلال بخلق الإنسان؛ فإن مبدأه غير مشاهدٍ، فقيل في شأنه: (ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ). ومحل الاستدلال من قوله تعالى: (ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ)، فهو مناسبٌ لقوله في الاستدلال الأول: (ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ)، فهمود الأرض بمنزلة موت الإنسان واهتزازها وإنباتها بعد ذلك يماثل الإحياء بعد الموت»67.
ومن الآيات التي تبين قدرة الله تعالى على البعث وتدلل عليه قوله تعالى: (ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉﰊ ﰋ ﰌ ﰍﰎ ﰏ) [الروم: ٤٨-٥٠].
وفي هذه الآيات يربط القرآن الكريم حقيقة الحياة الدنيوية لبعض مخلوقات الله وبين النشأة الأخرى، موضحًا ذلك على طريقة الناس في معرفتهم لنشأة هذه الحياة، أي: كما أحيا الله الأرض الميتة بالماء، كذلك يحيي الموتى من قبورهم تصوير لكيفية انبعاث الحياة في الأبدان المودعة في القبور، بحال انبعاث الحياة في النبات المودعة في الأرض، بما يطرأ عليهما من أحوال مختلفة من حياة وموت بطريقة متعاقبة.
ومن آيات الاستدلال أيضًا قوله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ) [فصلت: ٣٩].
آية يؤثرها التعبير القرآني بأسلوب الخطاب، وهو خطاب عام، والمعنى: ومن العلامات الواضحة والدلالات القاطعة على وجوده، وعلى البعث وأنه يحيي الموتى هذه الصورة المحسوسة. وأدخل المخاطب في جو الآية؛ ليباشر رؤية هذا المشهد المليء بالحركة بعد السكون، فالإنسان المنكر للبعث يرى في كل زمان ومكان الأرض (ﭕ ﭖ) هكذا على سبيل استعارة الخشوع -وهو (التذلل)- لحال الأرض إذ كانت مقحطة يابسة لا نبات عليها.
وقد أوثرت هذه الاستعارة في هذه الآية، في حين وصفت الأرض في سورة الحج بأنها هامدة في قوله تعالى: (ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ)، وهي صفات إنسانية أضفاها التعبير القرآني على الأرض، فأخرجها بهذه الصورة الموحية المؤثرة، والصفتان تعبران عن معنى واحد، وهو ما يظهر على الأرض من آثار الجدب وفقدان معالم الحياة.
ويتناسب اختيار الصفتين مع هدف الآيات في عرض قدرته تعالى على إحياء الأرض وهو إثبات البعث والنشور وإحياء الموتى، فكما أن الأرض (ﭖ) و(ﯩ) لا حياة فيها ولا روح قبل نزول الماء عليها، كذلك (ﭢ) هامدون، وكما تستجيب الأرض الميتة وتهتز وتربو وتدب الحياة فيها بسبب الماء النازل، كذلك فإن الله الذي أحياها لمحيي الموتى، فالآيتان ذات دلالة شاملة من خلال اقترانهما بالسماء والأرض، وبذلك تحقق شمول العبرة لكل كائن على الأرض، وتتحقق نعمة الهداية، فضلًا عن أن حيوية الصورة قائمة بتجددها واستمرارها؛ لأن إنزال الماء على الأرض عملية مكررة مع الزمان والمكان، فهي قائمة ما دامت السموات والأرض، شاهدة على قدرته تعالى، يعتبر بها جيل بعد جيل، ولابد من ملاحظة التناسب والانسجام بين الفكرة المراد إثباتها وبين الاستعارتين، فهو تناسب وتأليف محكم68.
ونظير هذه الآيات قوله تعالى: (ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ) [الأعراف: ٥٧].
وفي هذه الآيات السابقة استدلال بتبدل أحوال الأرض والنباتات من موت إلى حياة، وسلب خاصية النشوء والنماء في بعض النباتات فتهمد وتتفتت ثم تسقى بالماء فتعود إليها تلك الخاصية، فلو كان مستحيلًا إعادة الحياة إلى الإنسان مرة أخرى لما عادت الحياة إلى النباتات المختلفة بعد موتها؛ لأن المشابهة واضحة في القدرة الإلهية في إعادة الحياتين سيرتهما الأولى.
ولهذا لفت القرآن الكريم أنظار المنكرين إلى التبصر في الموجودات الحسية واستنتاج العظات والعبر منها؛ ليعود للنفس إيمانها فتسعد بالطمأنينة والاستقرار، وقد تقدمت المشابهة بين إعادة الحياة إلى النبات بالمطر وإعادة بناء الأجساد وإنباتها بالمطر الذي يجعله الله عند البعث وهو مطر كمني الرجال فتنبت منه الأجساد. ولهذا يقول تعالى: (ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ) [الرعد: ٥].
إشارة إلى أن العجب يكون من إنكارهم لا من البعث ومعناه: إن كان لك عجب من شيء فمن إنكارهم البعث، فاعجب؛ لأن العجب ما ندر وجوده وخفي سببه، وليس البعث مما ندر، وهم يشاهدون إحياء الأرض بعد موتها، واكتساء الأشجار بعد عريها، وعود النهار بعد زواله، والليل بعد ذهابه، وإخراج الحي من الميت والميت من الحي، ولا مما خفي سببه فإن الله سبحانه هو الفاعل لذلك والمخترع له والقادر عليه وحكمته إظهار ما استتر عن خلقه من تدبيره، وما النشأة الثانية بأعجب من الأولى.
ومن طرق الاستدلال التي تبين قدرة الله تعالى على البعث وتدلل عليه بدليل واقعي حسي: (إخراج النار من الشجر الأخضر) في قوله تعالى: (ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ) [يس: ٧٧-٨٣].
فهذه الآيات تدلل على البعث عن طريق الشجر المقطوع لإيقاد النار، فالشجر إذا قطع وأصبح حطبًا يكون ميتًا وليس فيه أثر للحياة، فإذا أوقدت به النار دبت فيه الحركة واضطرب، وهذه آثار الحياة، فمن قدر على هذا قادر على إحياء الموتى، وقد ذكر الله تعالى هذا الدليل في موضع آخر في معرض الاستدلال على ألوهية الله وربوبية، وإثبات البعث والحساب، ومحاججة منكريه، وإبطال اعتقادهم الفاسد في سورة الواقعة، فبعد أن أكد سبحانه البعث إجمالًا في معرض الرد على الكافرين في قوله تعالى: (ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ) [الواقعة: ٤٧-٥٠].
يرجع السياق لإثبات البعث بمحاججتهم بما يرونه بأعينهم من أدلةٍ وبراهين ثابتةٍ فيبدأ سبحانه بقوله: (ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ) [الواقعة: ٥٧].
وهذه الحقيقة لا ينكرها مشركو العرب، فهم كانوا يؤمنون بأن الله تعالى هو الخالق، فخاطبهم تقريعًا لهم بأن من خلقهم أول مرةٍ سيعيدهم إلى الحياة بعد الموت، وهذا ما يدل عليه حذف مفعول الفعل (ﭲ) أي: بالبعث والحساب. ثم تأتي الآيات لتعقد حوارًا مع الكافرين لمحاججتهم عن طريق الاستفهام؛ لبيان عظمة الله تعالى وقدرته في هذا الكون وصولًا إلى تقريعهم وإثبات البعث وذلك في قوله تعالى: (ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ) [الواقعة: ٥٨ - ٧٤].
ويلاحظ على الآيات أنها أدرجت ضمن منظومةٍ قرآنيةٍ تميزت بوحدة الموضوع والسياق والأسلوب، حتى إنها تمخضت عن قاعدةٍ أسلوبيةٍ في أدب الحوار والاستدلال، الاستدلال على قدرة الله تعالى على الخلق، والتصديق بحقيقة البعث، ولقد أتى الاستدلال بالنعم وفق تسلسلٍ منطقي؛ إذ ابتدأ بذكر المتنعم بالنعم نفسه وهو الإنسان، فقدم بذكر خلقه، وأعطاه الأهمية والأولوية، ثم ذكر النعم المسخرة له69.
ومن الأدلة على إمكانية البعث وطرق الاستدلال الواقعية الحسية عليه: (ظاهرة النوم واليقظة) باعتبارهما نموذجًا متكررًا للموت والحياة للإنسان؛ لأن النوم هو في الحقيقة موت أصغر؛ إذ إن كلًّا منهما عبارة عن انسحاب من الحياة وتوقف الأعضاء عن أداء مهامها، على درجات متفاوتة بينهما، واليقظة شبيهة بالبعث؛ إذ إن كلًا منهما يعني عودة الأعضاء إلى أداء وظائفها مع اختلاف بينهما في الدرجة.
وجاء هذا الاستدلال في مواضع من القرآن الكريم منها قوله تعالى: (ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ) [الزمر: ٤٢].
وقوله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ) [الأنعام: ٦٠-٦٢].
آيات وإن كانت خبرًا من الله تعالى عن قدرته وعلمه، فإن فيها احتجاجًا على المشركين به الذين كانوا ينكرون قدرته على إحيائهم بعد مماتهم، وبعثهم بعد فنائهم70.
فدلت بذلك على إمكان البعث والحشر؛ لأن النشأة الثانية منزلتها بعد الأولى كمنزلة اليقظة بعد النوم في أن من قدر على أحدهما فهـو قادر على الأخرى، ولذلك ناسب تذييل الآية بقوله تعالى: (ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ) [الزمر: ٤٢].
أي: في معرفة حقيقة ما بين الموت والحياة واليقظة والنوم من المناسبة، فإذا جهلنا حقيقة النوم وكيفية حصوله رغم بساطته ورغم تعاقبه والتصاقه بحالنا، فمن باب أولى ألا ندرك سر الإحياء وحقيقته، فكم في الكون أشياء لا يدرك العبد -على بساطتها- حقائقها لما أودع الله فيها من الأسرار والكوامن ما يقف الإنسان عندها مستسلمًا مستضعفًا نفسه مستصغرًا تفكيره مؤمنًا موقنًا، مع ما في ذلك من منافاة الإيمان بالغيب71.
ومثل هذا الاستدلال جاءت آيات كريمات أخرى. والنبي صلى الله عليه وسلم حول بمنهجه الإصلاحي هذه الحقيقة إلى أمر واقعي يستشعره المرء المسلم كل يوم صباحًا ومساءً،- فيتذكر الموت والبعث ولا يغفل عنهما البتة، بقوله صلى الله عليه وسلم آمرًا صحابته رضي الله عنهم فيما رواه البخاري عن أبي هريرة: (إذا أوى أحدكم إلى فراشه فلينفض فراشه بداخلة إزاره، فإنه لا يدري ما خلفه عليه، ثم يقول: باسمك رب وضعت جنبي وبك أرفعه، إن أمسكت نفسي فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين)72.
وعن البراء أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أخذ مضجعه قال: (اللهم باسمك أحيا، وباسمك أموت) وإذا استيقظ قال: (الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا، وإليه النشور)73.
أولًا: أحداث كونية:
فصل القرآن الكريم في مشاهد اضطراب النظام الكوني وتداعيه في اليوم الآخر، فعرض المشاهد الأولى له وشخصها بكل دقةٍ للسامع تشخيصًا بينًا دقيقًا، وصور حال الأرض والسموات حينها، وكيف تتبدل صورتهما وتتغير عما هي عليه في الحياة الدنيا.
قال تعالى: (ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ) [إبراهيم: ٤٨].
وذكر ما يحل بالكون من خرابٍ ودمارٍ وتغيرٍ لمعالمه، وسنحاول جهد الإمكان عرض هذه المشاهد بحسب وقوعها وترتيبها الزمني، وإن كانت بعض هذه المشاهد متداخلةً فيما بينها، ومن أولى المشاهد التي تحصل ما جاء في قوله تعالى: (ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ) [الواقعة: ١-٧].
فهذه آياتٌ تصور حال الكون، وما يجري فيه من تغيرٍ واضطرابٍ عند قيام الساعة، صورةٌ كلها تهويلٌ وتفخيمٌ لهذا اليوم، والتهويل يتجلى من المطلع، إذ يبدأ بـ(ﮍ) الشرطية؛ لشد ذهن السامع إلى ما بعدها مع حذف جوابها، وفي هذا الحذف تحقيقٌ لدلالة التهويل والتفخيم؛ إذ يترك لخياله ونفسه أن يذهبا في تخيله وتصوره كل مذهبٍ، وكأن هذا الجواب لا تحيط بوصفه الألفاظ والعبارات. ويبين سبحانه ما يحل على الأرض من دمارٍ عند وقوعها، فيقول مكررًا: (ﮍ) لزيادة التهويل والتفخيم في: (ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ)، فالأرض سترج حتى تتهدم الجبال الرواسي وتكون أثرًا بعد عينٍ، أي: أصبحت الجبال بعد هذا البس كالغبار المنثور المتطاير، تشبيهٌ زاد من تهويل هذا اليوم وفظاعته، وللدلالة على تحقق هذا الأمر بالرج والبس أكدت الأفعال بمصادرها في قوله تعالى: (ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ)، و(ﮝ ﮞ ﮟ)74.
وهذا التحريك والتسيير للجبال جاء مرافقًا لمشهد اضطراب السماء وتموجها في موضعٍ آخر في قوله تعالى: (ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ) [الطور: ٩-١٠].
مشهدٌ يصور السماء وهي تتموج وتضطرب، والجبال تتحرك من مكانها وتسير؛ لتئول إلى هباءٍ منبثٍ. وفي موضعٍ آخر نجد تشبيه الجبال الرواسي بعد هذا الرج والبس بالصوف المنفوش في قوله تعالى: (ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ) [القارعة: ٥].
فالجبال تصبح كالصوف المتناثر هنا وهناك، صورةٌ تشبيهيةٌ تبين هشاشة الجبال وتفتتها يوم القيامة حتى تغدو كالصوف المتناثر المتطاير. ومشهد نسف الجبال وبيان حالها تكرر في القرآن الكريم في أكثر من موضع.
وفي موضعٍ آخر نقرأ آياتٍ كريماتٍ تصف ضعف وهوان الدنيا التي ما إن ينفخ في الصور حتى تذهب زينتها وتنتهي، وتهدم معالمها وذلك في قوله تعالى: (ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ) [الحاقة: ١٣- ١٦].
آياتٌ كريماتٌ تنقل مشاهد اليوم الآخر وتركز على تصوير أحداثه لا ذكر محدثه، حتى ليخيل للمرء أن هذه الأشياء منقادة انقيادًا إلى سرعة الاستجابة للفعل، فتنخلع الأفئدة وترتعد الفرائص من هول ما يحدث آنذاك ترهيبًا وتخويفًا75.
وتتنوع مشاهد الاضطراب الكوني في تصوير حال السماء والأرض، ويلاحظ أن أكثرها بدأ بـ (ﭜ) الشرطية مع حذف جوابها للاهتمام بما بعدها، وشد ذهن السامع إليها، مع تقديم المسند إليه بعدها، هذا التقديم الذي يحدث تهويلًا قد لا نجده في تأخيره، ويهز المتلقي ويلفته إلى أمرٍ غريبٍ لم يحصل مثله في الدنيا، فالسماء لم يسبق لها أن انفطرت أو انشقت، ولا الكواكب اندثرت أو انكدرت، ولا البحار سجرت أو فجرت، وغيرها من الأحداث الغريبة غير المألوفة76.
ومن ذلك قوله تعالى: (ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥﭦﭧ ﭨ ﭩﭪﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ) [الانشقاق: ١-٥].
وبالأسلوب نفسه نجد أن مشهد الخراب يأتي على الكواكب والبحار في قوله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ) [الانفطار: ١-٣].
ويتوسع القرآن في بيان مشاهد التغير والخراب في الكون في قوله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ) [التكوير: ١-١٤].
فهذه آياتٌ تصور ما يحل بالكون من اضطرابٍ وتحولٍ يمس كل أركانه، ذلك التغير العنيف المتمثل في طمس الأنوار، واندثار النجوم، وتسيير الجبال، وتفجير البحار وغيرها من صور الخراب الذي شمل كل شيءٍ في الأرض والسماء.
وتتغير الألفاظ ويبقى الأسلوب نفسه في عرض مشاهد الاضطراب في هذا النظام في قوله تعالى: (ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ) [المرسلات: ١-١٥].
فالآيات تصور مشهد الاضطراب في النظام الكوني، المتمثل في تلك الحركة العنيفة التي تجتاح كل شيءٍ، وتثير كل شيءٍ، فتطمس النجوم، وتنشق السماء، وتنسف الجبال، فتتلاشى الثوابت، ويحل الروع محل الأمن في الأرض، والصخب محل السكون.
من مشاهد الأحداث الكونية النفخ بالصور فيكون البعث والنشور بعدها. والصور قرن كالبوق، يأمر الله تعالى إسرافيل عليه السلام أن ينفخ فيه النفخة الأولى وهي نفخة الصعق، فيصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله، ثم يأمره أن ينفخ النفخة الثانية وهي نفخة البعث، فإذا الخلائق قيام ينظرون، ويمثل البعث والنشور أول مراحل اليوم الآخر.
وقد تنوعت مشاهد البعث في التعبير القرآني فبينت مشهد النفخ في الصور ومشهد بعث الناس من قبورهم استعدادًا لحسابهم، مع وصف حال الناس وهم يستقبلون النداء والتركيز على حال الكافرين حينئذٍ، والنفخ في الصور هو أول مراحل اليوم الآخر، والصور هو الناقور كما سماه الله تعالى في قوله: (ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ) [المدثر: ٨].
ومما جاء في بيانه قوله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ) [الزمر: ٦٨].
وقوله تعالى: (ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺﯻ ﯼ ﯽ ﯾ) [النمل: ٨٧].
وهذه هي النفخة الأولى التي تقضي على الخلائق كلها إلا ما شاء الله تعالى فبعد أن يأمر الله تعالى الملك إسرافيل عليه السلام بالنفخ الأول في الصور فينفخ فيه، فعندها يهلك جميع الناس والجن والحيوانات على وجه الأرض، وبذلك تجمع الأرض وتضم في طياتها وفي بطنها وعلى ظهرها جميع أحيائها أمواتًا لا حي فيهم.
وقد عبر القرآن الكريم عن هذه النفخة المهولة بأكثر من تعبير ووصف منها النفخة في قوله تعالى: (ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ) [الحاقة: ١٣].
ومنها الصيحة في قوله تعالى: (ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ) [يس: ٤٩].
ومنها الراجفة في قوله تعالى: (ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ) [النازعات: ٦-٧].
والزجرة في قوله: (ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ) [النازعات: ١٣].
ثم تأتي بعدها النفخة الثانية بعدما يشاء الله بذلك بعد الأربعين، ويصف فيه الحق تعالى بعث الناس ونشورهم عند سماع النفخ في الصور في قوله تعالى: (ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭﯮﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ) [يس: ٥١ -٥٣].
وقوله تعالى: (ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ) [النازعات: ١٣- ١٤].
وغيرها. فما هي إلا نفخة واحدة والكل واقف: (ﭧ ﭨ ﭩ) [إبراهيم: ٢١].
فبعد النفخ الثاني في الصور تعود الأرواح إلى أجسادها، ويحيا الناس، ويخرجون من قبورهم ويقومون لله رب العالمين للحشر والحساب. هذه النفخة الشديدة على الكافرين -كما سيأتي بيانه- والذي عبر عنه القرآن بــ: (ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ) [المدثر: ٨-١٠].
«والنقر في الناقور هو ما يعبر عنه في مواضع أخرى بالنفخ في الصور، ولكن التعبير هنا أشد إيحاءً بشدة الصوت ورنينه؛ كأنه نقرٌ يصوت ويدوي، والصوت الذي ينقر الآذان أشد وقعًا من الصوت الذي تسمعه الآذان، ومن ثم يصف اليوم بأنه عسير على الكافرين»77.
بعد أن بينا فيما سبق المراحل التي تسبق الإنبات من القبور، والتي تتمثل في تداعي الكون والنفخ في الصور، تطالعنا آيات كريمات تبين الكيفية التي يخرج بها الناس من قبورهم لأرض المحشر؛ لاستقبال حسابهم بعد النفخة الثانية، وقد ذكر ذلك في عدد من الآيات المباركات متخذًا من التشبيه والاستعارة أدوات في التعبير عن ذلك، راسمًا لنا صورة مادية تتجسد فيها عناصر الدهشة والإسراع والذهول من هول ما يرون. والناظر في أغلب المواضع التي ذكرت فيها هذه الكيفية يجد أن التعبير القرآني يركز في أكثرها على الكافرين ومنكري البعث.
قال تعالى واصفًا هذا الخروج: (ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭﯮﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ) [يس: ٥١-٥٢].
فبعد النفخة الثانية يخرج الناس وينبتون من قبورهم كما ينبت البقل كما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما بين النفختين أربعون) قال: أربعون يومًا؟ قال: (أبيت)، قال: أربعون شهرًا؟ قال: (أبيت)، قال: أربعون سنةً؟ قال: (أبيت)، قال: (ثم ينزل الله من السماء ماءً، فينبتون كما ينبت البقل، ليس من الإنسان شيءٌ إلا يبلى، إلا عظمًا واحدًا، وهو عجب الذنب، ومنه يركب الخلق يوم القيامة)78.
وينقسم الناس إلى صنفين: صنف يقول: (ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ) وصنف يقول: (ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ) ويخرجون حفاةً عراةً غرلًا خائفين (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ) [القلم: ٤٣].
وهذا ينبئ أنهم يخرجون من القبور في كرب شديد وهول عظيم مفزع.
وقد تناولت آياتٌ عديدةٌ من القرآن الكريم أحوال الناس وطريقة بعثهم، وصورهم، حركاتهم وقسماتهم بكل دقةٍ تتناسب مع هول ذلك اليوم وشدته، تلك الحركات الدالة على الهول والفزع والاندهاش مما رأوه من اضطراباتٍ كونيةٍ، وأهوالٍ حلت بالأرض وبهم بعد البعث، راسمةً صورهم بدقةٍ مما يجعل المتلقي وكأنه يعيشها، مركزةً على مشاهد الكافرين من انكسار أبصارهم وخشوعها ذلًا وهوانًا، وحركاتهم التي تثير الفزع والتخوف، ومقابلتهم بأحوال المؤمنين آنذاك في بعض المواضع.
ومن آيات القرآن في بيان الخروج من القبور قوله تعالى: (ﯱ ﯲﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ) [القمر: ٦-٨].
فالآيات تصور مشهد بعث الكافرين المنكرين للآخرة من قبورهم وعليهم ثياب الذل والهوان، مسرعين إلى الداعي رغم أنوفهم. مشهدٌ مختصرٌ سريعٌ، لكنه شاخصٌ متحركٌ، مكتمل السمات والحركات، وهو متناسقٌ مع أول السورة: (ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ) [القمر: ١].
ومع الجو والإيقاع العام للسورة، مشهدٌ يصور هذه الجموع الخارجة من قبورها في لحظةٍ واحدةٍ كأنها جرادٌ منتشرٌ79.
ومع أن المؤمنين والكافرين يتساوون في هذا الخروج من الأجداث، من تملك الهول منهم حينها حتى يؤمن الله تعالى من يشاء من المؤمنين في أرض المحشر، وهذا ما يدل عليه حذف مفعول الفعل (ﯵ)؛ لإفادة العموم. وخص الكافرون بهذا الخطاب؛ تهديدًا لهم وتوبيخًا. والداعي هو إسرافيل عليه السلام يدعو الناس ويناديهم للقيام إلى الحساب بعد النفخة الثانية، هذا المشهد المهول المفزع الذي يدل عليه التنكير في قوله تعالى: (ﯸ ﯹ)، أي: شيء عظيم مهول80.
وقد تعاضدت الفنون البيانية من تشبيهٍ ومجازٍ وكنايةٍ في رسم صورة هؤلاء المجرمين وهم يقومون للحساب منخذلين مذعورين في ذلك اليوم العصيب؛ إذ يبعثون من قبورهم منكسي رءوسهم، أبصارهم إلى الأرض لا يرفعونها ذلًا وهوانًا، فالخشوع في الآية «كنايةٌ عن الذلة والانخزال؛ لأن ذلة الذليل، وعزة العزيز تظهران في عيونهما»81.
وهذا تصويرٌ لهم في غاية الذل والانكسار، صورةٌ تبين حالهم المهين في الآخرة بعد أن كانوا يرفعون رءوسهم تكبرًا على المؤمنين في الحياة الدنيا، وللاهتمام بإظهار هذه الصورة والتركيز عليها قدم الحال (ﭑ) على عامله (ﭓﭔ ﭕ) تقديمٌ صور غاية ذل الأبصار وخشوعها، ولو تأخر الحال، لفات هذا التصوير الفني لهيئة الأبصار82.
وفي «الجراد مثلٌ في الكثرة والتموج، يقال في الجيش الكثير المائج بعضه في بعض: جاءوا كالجراد منتشر في كل مكانٍ؛ لكثرته»83، تشبيهٌ يصور حالهم على كثرتهم وتماوجهم وهم حيارى فزعين منتشرين هنا وهناك يستتر بعضهم ببعضٍ من شدة الخوف.
وهذا التشبيه يتناسب مع آخر السورة نفسها في قولهم في الدنيا: (ﯬﯭﯮ)، وما أشبه الجيش الذليل المنهزم بالجراد المنتشر هنا وهناك بعضه فوق بعضٍ.
وأوثر التعبير بالانتشار مع جعله اسم فاعل في قوله تعالى: (ﭘ)؛ لإبراز صورة الجراد وشدة اندفاعه عند بداية انتشاره، وتلك صورة المجرمين عند خروجهم (ﭔ ﭕ). ومما عمق معنى الذل والهوان المضروب عليهم كونهم (ﭚ ﭛ ﭜ) فهم يمشون وجلين بسرعةٍ مشية الخائف المذعور إلى داعيهم، وهم يقولون: (ﭠ ﭡ ﭢ).
وبهذا تواشجت فنون البيان في تقريب صورة بعث الكافرين من قبورهم إلى الأذهان بتشبيههم بالجراد المنتشر وهم أذلاء منكسرين عليهم ثياب الفزع والخوف. وفي «إسناد القول (ﭠ ﭡ ﭢ) إلى الكفار تلويحٌ بأنه على المؤمنين ليس كذلك»84.
فهم ليسوا في تلك المرتبة من الفزع والشدة، بل هو يسيرٌ عليهم بأمر الله تعالى. ومما يدل على عسر ذلك اليوم على الكافرين خاصةً دون المؤمنين الموحدين قوله تعالى: (ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ)[المدثر: ٨ - ١٠].
وإذا انتقلنا إلى موضع آخر نجد أن التعبير القرآني يصور الكافرين عند بعثهم من قبورهم للحساب بسخريةٍ وتهكمٍ في قوله تعالى: (ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ)[المعارج: ٤٢-٤٤].
فهذه آياتٌ ترسم صورةً تهكميةً لهؤلاء الكافرين عند بعثهم للحساب، صورةٌ تتناسق مع ما كانوا عليه في الدنيا حين يسرعون إلى الأنصاب يعبدونها، فجاء التعبير بتصوير حالهم في الآخرة كذلك؛ ليكون التعبير أشد إيغالًا في السخرية والتهكم85.
ومثل هذه الآيات أيضًا تطالعنا آياتٌ كريماتٌ في وصف البعث في معرض تسلية النبي صلى الله عليه وسلم من تكذيب الكافرين بدعوته صلى الله عليه وسلم؛ لتقرر حقيقة البعث، وتصور حال خروج منكريه حينها، في قوله تعالى: (ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ) [ق: ٤١-٤٤].
آيات تصف حال الناس يوم ينفخ في الصور وينادى فيخرج الناس من قبورهم، ولتهويل هذا اليوم وحال الناس فيه وتفظيعه حذف مفعول (ﮐ) إيجازًا، والتقدير: واستمع لأحوال الآخرة التي أخبرك بها86.
وقوله: (ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ)، والمراد بالحق: الوعد الصادق وهو الحشر، وسمي حقًا؛ إبطالًا لمزاعم المشركين بأنه افتراءٌ واختلاقٌ، إذ كانوا يسمونه سحرًا، ويعدونه خيالًا، فيعلمون آنذاك أن الواقع قد يطابقه، فكان حقًا فإنه قد طابقه الواقع، فكان الإخبار به صدقًا.
إذا كانت المواضع السابقة جاءت ردًا على المشركين في إثبات البعث وكيفية قيامهم من القبور إلى الداعي، فإن هناك ثمة آياتٍ تصور الناس جميعًا عند بعثهم، وهي وإن كانت جوابًا عن سؤال الكافرين عن البعث، إلا أن الجواب كان عامًا في بيان بعث الناس كلهم.
وذلك في قوله تعالى: (ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ)[النبأ: ١٧-١٨].
وأتت هذه الآيات تفصيلًا للإجمال الوارد في أول السورة (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ) [النبأ: ١-٣].
فجاء التكرار (ﭝﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ)[النبأ: ٤-٥].
لردعهم وتهديدهم وبيان أنهم سيرونه حقيقة وسيعلمون حينها أنه حقٌ، وأوثر التعبير في الآية بـ(ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ) دون قوله: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ)؛ للدلالة على أنه «كان في تقدير الله تعالى وحكمه حدًا توقت به الدنيا وتنتهي عنده، أو حدًا للخلائق ينتهون إليه»87.
فهو واقعٌ لامحالة ولكن شاءت حكمته تأخيره إلى وقتٍ معلوم.
ومن الآيات التي تصور حالهم وضعفهم وهوانهم بتشبيههم في أرض المحشر بالفراش المبثوث وذلك في قوله تعالى: (ﭦﭧ ﭨ ﭩ ﭪ) [القارعة: ١-٤].
فالناس حينئذ يكونون كالفراش المتفرق، المنتشر هنا وهناك، يموج بعضهم في بعضٍ من شدة الاضطراب والفزع، فشبه الناس بالفراش المتطاير في كثرتهم، وانتشارهم، وذلتهم، وضعفهم، واضطرابهم88.
وفي مواضع أخرى تأتي لمحاتٌ سريعةٌ لأحوال الناس في ذلك اليوم العصيب. وفي المعنى نفسه نجد آيات كريمات أخرى تصور حالهم.
ثانيًا: أحداث في الحشر:
من أحداث اليوم الآخر الحشر وأحوال الخلق فيه حينها، وقد تناولت آياتٌ عديدةٌ من القرآن الكريم طريقة الحشر، وصورهم في أرض المحشر، بكل دقةٍ وبيان، تلك الطرق الدالة على مكانة كل صنف منهم حينئذٍ، ومن ذلك حشر المتقين والمجرمين في قوله تعالى: (ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ) [مريم: ٨٥-٨٦].
فالآيتان تصوران مشهد حشر المؤمنين والكافرين وحالهم، فالمؤمنون المتقون يـحشرون (ﮜ) مكرمين إلى جنة ربهم بعزة وكرامة، أما الكافرون المجرمون فيساقون سوقًا شديدًا إلى جهنم، عطاشًا محرومين من الماء، كالبهائم العطاش89.
وبهذا الأسلوب قابل بين مصير الفريقين بأبلغ بيان. إذ عدى (ﮘ) بـ(ﮚ) تعظيمًا وتبجيلًا للمؤمنين، وذكر صفة الرحمة (ﮛ) التي خص المؤمنين بها إكرامًا لهم؛ إذ إن لفظ الحشر يوحي بالجمع من أماكن متفرقة وأقطار شاسعة على سبيل القهر، فجاء لفظ: (ﮛ) مؤذن بأنهم يحشرون إلى من يرحمهم، كما أن لفظ الوفد مشعرٌ بالإكرام والتبجيل كما يفد الوفاد إلى الملوك منتظرين الكرامة عندهم، وفي جانب المجرمين استخدم لفظ السوق الذي فيه إزعاج، ومما زاده تفظيعًا هو تعديته بـ(ﮚ) تبشيعًا لحالهم ومكانهم90.
فلا تخفى جمالية المقابلة في اختيار الألفاظ المناسبة لكلا الحالتين. وحشر المؤمنين والكافرين إلى مصيرهم تكرر في سورة مريم.
ومن صور حشر الكافرين المجرمين (حشرهم زرقًا) كما جاء في قوله تعالى: (ﭲ ﭳ ﭴ ﭵﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ) [طه: ١٠٢-١٠٣].
يصور المشهد المبارك المجرمين وهم يحشرون زرق الوجوه من الكدر والغم أو زرق العيون من شدة العطش أو من العمى، يتخافتون بالحديث لا يرفعون به صوتًا من الرعب والهول والرهبة المخيمة على ساحة الحشر، وفيم يتخافتون؟ إنهم يحاولون تقدير المدة التي قضوها في الدنيا أو في القبور، فيقولون لم نلبث إلا عشر ليال، ويقول أصوبهم رأيًا: ما لبثتم غير يوم، فيستوي في ذلك التخبط الناتج عن المفاجأة الجاهلون والعالمون91.
ومن صور حشر الكافرين المجرمين (حشرهم عميًا على وجوههم) لا كما كانوا يمشون في الدنيا على أرجلهم.
وذلك في قوله تعالى: (ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧﭨ ﭩ ﭪﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ) [الإسراء: ٩٧-٩٨].
وغيرها من الآيات. آيات تصور الكافرين المجرمين وهم يـحشرون بذلٍ وهوانٍ على وجوههم عميًا لا يرون، وبكمًا لا يتكلمون، وصمًا لا يسمعون، يـحبس أولهم على آخرهم، فيساقون إلى النار مجتمعين. وحشر الكافر أعمى يمشي على وجهه جاء في حديث أنس بن مالكٍ رضي الله عنه قال: قال رجلٌ: يا رسول الله كيف يحشر الكافر على وجهه يوم القيامة؟ قال: (أليس الذي أمشاه على رجليه في الدنيا قادرًا على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة؟)92.
ومن صور حشر الكافرين المجرمين (حشرهم مع أوثانهم وشياطينهم وهم جاثون على الركب) وذلك في قوله تعالى: (ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ)[مريم: ٦٨-٦٩].
وقوله تعالى: (ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ)[الصافات: ٢٢-٢٣].
فرب العزة سبحانه وتعالى أقسم بنفسه الكريمة أنه يحشر الكافرين منكري البعث، وأمثالهم مع الشياطين ومعبوداتهم الباطلة التي كانت تضلهم في الدنيا، وأنه يحضرهم حول جهنم جاثين على ركبهم ذلًا وهوانًا.
وقد رسم القرآن الكريم في مواضع أخرى متفرقة صفات الناس وقسماتهم في أرض المحشر، وجوههم، أبصارهم، لسانهم، وغيرها، ومما جاء في بيان وجوه الناس بشكل عام تصويرها وهي قد ذلت وخضعت لله تعالى قوله تعالى: (ﯬ ﯭ ﯮ ﯯﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ) [طه: ١١١].
ومنها أنه حينئذ تبيض وجوه وتسود وجوه في قوله تعالى: (ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ) [آل عمران: ١٠٦-١٠٧].
فالآيتان تصوران مشهدًا من مشاهد القيامة؛ إذ نرى فيه مظهرًا عجبًا، نرى وجوهًا مبيضة ووجوهًا مسودة وهذا مشهدٌ حسيٌ، ولكنه منبعثٌ عن تأثر نفسي، ألقى ظله على هذه الوجوه فابيضت، وعلى تلك فاسودت، وهذا وذلك زيادة في العذاب والنعيم وفي التحقير والتكريم93. وخص الوجه بالذكر دون سائر الجسد؛ لأنه أول ما يرى من الإنسان، ولأنه أشرف الأعضاء في الجسد.
ولهذا نرى التركيز عليه في وجوه الكافرين خاصة مثل قوله تعالى: (ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ) [الزمر: ٦٠].
وفي سورة عبس نعاين صفاتٍ أخرى في الوجوه، وجوه المؤمنين ووجوه الكافرين، زاد فيها على بياض الوجوه النور والإشراق والضحك والاستبشار مما دل على الأمن والطمأنينة ذلك في قوله تعالى: (ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ) [عبس: ٣٨-٣٩].
وأضاف إلى وجوه الكافرين المسودة غبارا دالًا على الكآبة واليأس والخوف في قوله تعالى: (ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ ﰘ ﰙ ﰚ ﰛ ﰜ ﰝ ﰞ ﰟ) [عبس: ٤٠-٤٢].
وفي آيات أخرى نرى تقابلًا بين وجوه المؤمنين ووجوه الكافرين من حيث النظر إليه سبحانه وتعالى وعدمه في قوله: (ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ) [القيامة: ٢٢-٢٥].
هذه المقابلة بين الفريقين التي أظهرت البون الشاسع بينهما، فالمؤمنون وجوههم مشرقةٌ مبتسمةٌ، وهذا يدل على الأمن والطمأنينة، والكافرون وجوههم عابسةٌ مظلمةٌ، وهذا يدل على خوفهم وذعرهم ويأسهم، فهم فريقان مختلفان، وهذا ما يدلٌ عليه التنكير المستفاد منه التنويع في (ﰍ).
وفي الآية تكريم عظيم من الله لعباده المؤمنين في أرض المحشر يوم القيامة، فهو يزيد لهم الفضل والنعم بعد تبييض وجوههم في أرض المحشر بالنظر إلى وجهه الكريم عيانًا كما ترى الشمس في النهار إذا كان الجو صحوًا كما دلت على ذلك النصوص التي وردت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة.
وهكذا رسم القرآن الكريم في الآيات السابقة بمجموعها صورة تقابلية بين بياض ونضارة وجوه المؤمنين، وسواد وكلاحة وقتامة وجوه الكافرين، وفي الجمع والموازنة بينها يتجلى البون الشاسع بين منزلة المؤمنين والكافرين في أرض المحشر، ففريق المؤمنين يحشرون في أجمل صورة وأكرمها، وقد ملأت الطمأنينة والفرحة نفوسهم -فالبياض علامة لهم يوم القيامة- فوجوههم بيضاء مشرقة ضاحكة مستبشرة إلى ربها ناظرة.
بخلاف الكافرين الذين يحشرون سود الوجوه في أبشع صورة وأذلها، فوجوههم سوداء مظلمة عليها غبرة ترهقها قترة لا تنظر إليه سبحانه بل هم في النار خالدون.
ومما جاء في وصف الكافرين في أرض المحشر قوله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ) [السجدة: ١٢].
آية ترسم صورة المجرمين وهم منكسو الرءوس يوم القيامة، لا يرفعونها من عظيم الخزي والذل الذي يشعرون، ويحكي بعد ذلك قولهم الدال على إقرارهم بعد أن شاهدوا بأعينهم وسمعوا بآذانهم بأن الآخرة حق وما جاء به رسل الله عليهم الصلاة والسلام حق، فيتمنون أن يعيدهم الله إلى الدنيا لتكون الفرصة الأخيرة لهم، ولكن بعد فوات الأوان.
وقد صور القرآن الكريم أبصار الكافرين في أرض المحشر، صورها وهي ذليلة مهانة، ومما جاء في ذلك قوله تعالى: (ﯱ ﯲﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ) [القمر: ٦-٨].
وقوله تعالى: (ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ) [المعارج: ٤٢-٤٤].
وقد سبق بيان هذه الآيات.
وقد صور القرآن الكريم حالهم وملابسهم ووجوههم معًا، حالهم ذليل، وذلك في قوله تعالى: (ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ) [إبراهيم: ٤٨-٥١].
وصورهم وهم صامتون لا يتكملون في قوله تعالى: (ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ)[المرسلات: ٣٥-٣٩].
ومنه أيضًا قوله تعالى: (ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ)[النبأ: ٣٧-٤٠].
مشهدٌ يصور حال الهلع والذعر مما يرى، والندم على ما قدم، عندما يرى قضاء الله تعالى في البهائم قبل حسابهم فيتمنى أن يكون ترابًا كالبهائم لسوء ما قدمت يداه من خزيٍ ينتظره حسابًا وجزاءً.
وإذا انتقلنا إلى موطنٍ آخر نجد آياتٍ تصور الهول الذي يعم كل إنسانٍ في أرض المحشر حتى يفصله عن محيطه ويجعله يفر من كل قريبٍ وحبيبٍ له في الدنيا، وذلك في قوله تعالى: (ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ ﰘ ﰙ ﰚ ﰛ ﰜ ﰝ ﰞ ﰟ) [عبس: ٣٣-٤٢].
مشهدٌ يصف أهوال القيامة التي تصل إلى مشاعر الإنسان الوجدانية المرتبطة بأقرب الناس إليه، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم هول ذلك اليوم فعن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يحشر الناس يوم القيامة حفاةً عراةً غرلًا) قلت: يا رسول الله النساء والرجال جميعًا ينظر بعضهم إلى بعضٍ؟ قال صلى الله عليه وسلم: (يا عائشة الأمر أشد من أن ينظر بعضهم إلى بعضٍ)94؛ لأن (ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ)، فالكل مشغولٌ بأمره ولا يدري عن حال غيره شيئًا.
ويلاحظ أنه تدرج في ذكر من يفر منهم المرء يوم القيامة على طريقة الترقي في القرب والمحبة؛ مبالغةً في وصف الهول والفزع الذي يعيشه، فـ«ذكر فرار الإنسان من أحبابه، ورتبهم ترتيبًا في الحنو والشفقة، فبدأ بالأقل، وختم بالأكثر؛ لأن الإنسان أشد شفقةً على بنيه من كل ما تقدم ذكره، وإنما يفر منهم؛ لاشتغاله بنفسه»95.
وقد اقتضى السياق هذا الترتيب، في حين نجد أنه في موضع آخر بدأ بما انتهى منه هنا وذلك في قوله تعالى: (ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﭑﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ) [المعارج: ١٠-١٤].
ومما لاشك فيه أن سبب تقديم الأخ على الأم والأب والصاحبة والابن في سورة عبس، وتقديم الابن على الصاحبة والأخ والفصيلة (الأم) في سورة المعارج، كان لأمرٍ خاصٍ يقتضيه السياق، جعل النظم في الترتيب مغايرًا في الموضعين، وهو يقوم على اختيارٍ معنويٍ جماليٍ خاصٍ، ويهيئ لتصورٍ معينٍ، ويحقق كل شروط الفن البلاغي.
وسبب ذلك أن المقام في سورة عبس مقام فرارٍ وهربٍ من الأحبة انشغالًا بالنفس يوم الفزع الأكبر، والإنسان يفر من الأباعد أولًا ثم ينتهي بألصق الناس به، فجاء الترقي من الأدنى إلى الأعلى؛ لأنه يناسب فكرة الفرار والنكوص عن مساعدة أقرب الأقربين - انشغالًا بالنفس- من شدة الهول ولذلك تأخر ذكر البنين؛ لأنه لو بدأ بذكرهم، لما احتاج بعد ذلك إلى ذكر غيرهم، ولأن الوصف بالتخلي عن نجدة الأبناء، والانصراف عنهم هو أقصى ما يمكن أن يصل إليه التعبير عن مدى انشغال الإنسان بهمومه الخاصة ومشكلاته الذاتية عن كل ما حوله، فهذا وصفٌ لما ينتاب المرء من الذاتية المطلقة والاستغراق المطلق بالقلق الشخصي على المصير في ذلك اليوم العصيب، في حين نرى أن السياق في سورة المعارج غيره في سورة عبس؛ إذ يؤتى بالمجرم؛ ليلقى جزاء عمله في النار.
فالمقام مقام البحث عن المنقذ والمعين والمفتدي، والمجرم يود النجاة بكل سبيلٍ ولو أدى ذلك إلى أن يبدأ بأقرب الناس إليه، فكان الترتيب على سبيل التدلي فبدأ بالأقرب كما تعول عليه النفس، فالابن فالزوجة، فالأخ فالعشيرة، ثم من في الأرض جميعًا.
وهذا الترتيب فضلًا عن أنه تعبيرٌ يناسب من حيث تدرجه حركة الكافر النفسية في ذلك اليوم، فإنه تعبيرٌ عن اشتعال الحيرة واتساعها في قلب الكافر، وتفاقم التشتت الذي يعتريه، وهذا ما يرمز إليه الانتقال من الأدنى إلى الأبعد عاطفيًا ومكانيًا، ويدل أيضًا على العجز عن طلب المعين، والاضطراب في التماسه اضطرابًا شديدًا باتساع دائرة البحث عنه درجةً بعد درجةٍ حتى تشمل كل الموجودات في ذلك اليوم العصيب96.
وثمة أمورٌ أخرى اقتضت أن يكون الترتيب مغايرًا في سورة المعارج، منها أن المفتدي هو (مجرم) وليس إنسانًا اعتياديًا، والمجرم مستعدٌ لفعل أي شيءٍ؛ للنجاة بنفسه ولو كان الفداء بأحب وأقرب من لديه؛ ليضعه مكانه في النار، بل لا يهمه لو افتدى بالناس كلهم بذنبه، ومنها أن البدء بأقرب الناس يدل على هول العذاب فوق التصور مما يجعله يفتدي هكذا، ومنها أنه ذكر ما يناسب هذه القطيعة بالافتداء وهو قوله تعالى: (ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ) [المعارج: ١٠].
والحميم: القريب، فبدأ بالأقرب فالأبعد97.
ثالثًا: أحداث عند الحساب:
عرض القرآن الكريم لمشاهد الحساب وأحداثه بدءًا من الميزان الذي توزن فيه أعمال المرء كلها، ومن ثم تطاير الصحف والعرض، انتهاءً بندم الكافرين والمنافقين وجدالهم بعد هذه الأحداث الفاصلة التي تنتهي بأمرهم إلى الخلود في نار جهنم.
ينصب يوم القيامة ميزانٌ حقيقيٌ كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: «له لسانٌ وكفتان لحساب الخلق على ما قدموه من أعمالٍ صالحةٍ وطالحةٍ، فيؤتى بالأعمال الصالحة على صورةٍ حسنةٍ جميلةٍ، وبالأعمال السيئة على صورةٍ قبيحةٍ، فتوضع كل واحدةٍ منهما في كفة الميزان، وعلى هذا تكون صحيفة المرء بعدها»98.
ومن المواطن التي جاء فيها ذكر الميزان قوله تعالى: (ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻﭼ ﭽ ﭾ ﭿ) [الأنبياء: ٤٧].
تصف الآية الكريمة القضاء العادل في اليوم الآخر بأنه يوازن بين أعمال العباد موازنة دقيقة فيحاسب كلا على أعماله، والمعنى: أن الموازين يوم القيامة عدلٌ لا يظلم بها أحدٌ شيئًا.
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: و«الأكثر -يعني: من العلماء- على أنه إنما هو ميزانٌ واحدٌ، وإنما جمع باعتبار تعدد الأعمال الموزونة فيه»99.
ووصف الله تعالى الموازين بالقسط؛ لأن الميزان قد يكون مستقيمًا وقد يكون بخلافة، فبين أن تلك الموازين تجري على حد العدل والقسط، وأكد ذلك بقوله: (ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ).
وقد ذكر الله تعالى في القرآن الكريم أن أعمال العباد توزن في اليوم الآخر من حسنات أو سيئات، فمن ثقلت موازينه بأن رجحت حسناته على سيئاته فاز ودخل الجنة برحمته تعالى، ومن رجحت سيئاته على حسناته هلك ودخل النار بعدله تعالى، وإن كان المؤمنون على تفاوت درجاتهم في الأعمال هم من أهل الجنة، وإن عذبوا على بعض ذنوبهم بمقدارها.
وفي وزن أعمال العباد جاءت آيات عدة، منها قوله تعالى: (ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ)[المؤمنون: ١٠١-١٠٤].
وقوله تعالى: (ﮘ ﮙ ﮚﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ) [الأعراف: ٨-٩].
ومنها أيضًا قوله تعالى: (ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ)[القارعة: ٦-١١].
فجاءت الآيات الكريمات؛ لتعرض وزن أعمال الناس في الميزان، وتفصل في حالهم إلى حالٍ حسنةٍ لأهل السعادة المعبر عنهم بـ(ﭱ ﭲ ﭳ ﭴﭵﭶ ﭷ ﭸ ﭹ)، وحال فظيعة لأهل الشقاء المعبر عنهم بـ(ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ)100.
فكان في التفصيل مقابلةٌ بين الصنفين الشقي منهم والسعيد، وبيان منزل كل فريقٍ منهم، فالسعداء ترجح حسناتهم على سيئاتهم، وتثقل في الميزان وتكون خاتمتهم إلى الجنان، أما الأشقياء الذين لا تقوم بهم حسناتهم وترجح سيئاتهم فيكون مآلهم إلى النار.
وفي مواضع أخرى يصور القرآن الكريم دقة الميزان في وزنه حتى الذرة المتناهية في الصغر قسطًا وعدلًا من الله تعالى، وذلك في قوله تعالى: (ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ) [الزلزلة: ٦-٨].
فهذه آياتٌ تصف دقة الميزان الرباني في اليوم الآخر، الناس يمضون (ﮃ) متفرقين بحسب أعمالهم (ﮄﮅ) خيرًا كانت أم شرًا، يرونها مكتوبةً في صحائفهم، فيعطون كتبهم بحسب أعمالهم بيمينهم أو شمالهم، ويرونها وهي توزن في الميزان.
وهذا ما يدل عليه التفريع بعدها: (ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ) «انتقالًا للترغيب والترهيب بعد الفراغ من إثبات البعث والجزاء، والتفريع قاضٍ بأن هذا يكون عقب ما يصدر الناس أشتاتًا»101.
وبعض الخلق لا يقيم لهم الرحمن وزنًا في اليوم الآخر، وهم المذكورون في قوله تعالى: (ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ)[الكهف: ١٠٣-١٠٥].
وقد جاء بيان هذه الآيات الكريمات في السنة النبوية الشريفة فعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة، لا يزن عند الله جناح بعوضةٍ، وقال: اقرءوا: (ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ))102.
تطالعنا آياتٌ في التعبير القرآني تعرض لمشاهد من الحساب، وهي تطاير الصحف إلى أصحابها، تلك الصحف التي يكتب فيها ما قدم ابن آدم في حياته، وقد جاءت هذه المشاهد؛ لتقابل بين صنفين من الناس؛ صنفٌ يؤتى كتابه بيمينه، وآخر يؤتى كتابه بشماله، وحال كل واحدٍ منها بعدها.
ومن هذه المشاهد ما جاء في قوله تعالى: (ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ)[الحاقة: ١٨-٣٧].
فهذه آياتٌ تصف الحساب وموقف الناس عنده؛ إذ ينقسمون إلى قسمين، منهم من يؤتى كتابه بيمينه، فيسعد أيما سعادة، ويفرح فرحًا كبيرًا، ومنهم من يؤتى كتابه بشماله، فيشقى أيما شقاوة، ويحزن حزنًا عميقًا، فريقان مختلفان في موقفٍ واحدٍ، يصورهما القرآن أدق تصويرٍ.
ومن مشاهد تطاير الصحف وإتيان الكتاب في اليمين أو الشمال أيضًا قوله تعالى: (ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ)[الانشقاق: ٧-١٥].
جاءت هذه الآيات تفصيلًا للإجمال في قوله تعالى في أول السورة: (ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ)، وهي تقابل بين صنفي الناس آنذاك، فمنهم من يؤتى كتابه بيمينه وهو السعيد، ومنهم من يؤتى كتابه بشماله وهو الشقي. والحساب اليسير في الآية كنايةٌ عن عدم المؤاخذة على سيئاته، بل هو عرضٌ فقط يذكر فيه تعالى المؤمن بما عمل في الدنيا103. ثم يتجاوز عنه، فهو حسابٌ قليلٌ يسيرٌ كما دل عليه التنكير في قوله تعالى: (ﮂ ﮃ). ويدل عليه أيضًا ما روي عن أم المؤمنين سيدتنا عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من نوقش الحساب عذب) قالت: قلت: أليس يقول الله تعالى: (ﮀ ﮁﮂ ﮃ) قال صلى الله عليه وسلم: (ذلك العرض)104، وفي روايةٍ أخرى: (ليس ذاك الحساب! إنما ذاك العرض، من نوقش الحساب يوم القيامة عذب)105.
وبعد هذا العرض ينصرف إلى بيته وأهله في الجنة مسرورًا فرحًا. أما الشقي فسيأخذ كتابه بشماله من وراء ظهره؛ لأن «أيمانهم تغل إلى أعناقهم، وتكون شمائلهم وراء ظهورهم»106.
وما أن يقرأ كتابه حتى يدعو على نفسه بالهلاك لسوء مصيره؛ إذ سيدخل جهنم. ومما جاء في بيان الصحف وتطايرها أيضًا قوله: (ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ) [الإسراء: ٧١-٧١].
جاءت آيات كثيرة في القرآن الكريم تبين أن هناك الكثير من الشهود على الإنسان في اليوم الآخر لإقامة الحجة عليه ولتكون دليلًا وشاهدًا على ما فعله في الحياة الدنيا، وربنا الرحمن تعالى لا يحتاج إلى من يخبره عن عباده أو يشهد عليهم بما فعلوه، فهو العالم تعالى بهم وبأعمالهم كما حكى عن نفسه العلية في قوله تعالى: (ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ) [يونس: ٦١].
وقوله تعالى: (ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ)[يونس: ٤٦].
وشهادة الرب تعالى على الإنسان في الدنيا تكفي على ابن آدم فهو أعظم شهيد وأجل شهيد تعالى، إلا أنه سبحانه من كمال عدله وإعذارًا لهم أقام عليهم الشهود بعد شهادته عليهم، ونوعهم وكثرهم؛ لإلزامهم الحجة والبينة، وهؤلاء الشهود كثر كما ذكرنا، أولهم ربنا الرحمن إذ يذكر الإنسان بما قدم في الدنيا ويقول له: ألم تفعل كذا وكذا؟ -كما جاء في الصحيح-. والآيات في شهادته تعالى على العباد كثيرة. ذكرنا بعضها في هذه الفقرة ومع هذا، فالإنسان بجحوده ينكر وينكر، فيزيد الله تعالى له الشهود من مخلوقاته عليه حكمًا وعدلًا -كما سيأتي-.
ومن الشهود على الخلق أيضًا بعد شهادة الله تعالى الملائكة بأصنافها كما في قوله تعالى: (ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ)[ق: ١٧-٢١].
أي: ملك يسوقه إلى المحشر وملك يشهد عليه بأعماله في الدنيا، وقوله تعالى: (ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ)[الانفطار: ٩-١٢].
أي: ملائكة يكتبون ما كنتم تعملون في الدنيا غير مضيعينه، وقوله تعالى: (ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ) [هود: ١٨].
ومن هؤلاء الأشهاد الملائكة الذين شهدوهم وحفظوا عليهم ما كانوا يعملون في الدنيا صغيره وكبيره. ومنهم الكتاب الذي سجل كل صغيرة وكبيرة عليهم قال تعالى: (ﯔ ﯕ ﯖ ﯗﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮﯯ)[الجاثية: ٢٨-٢٩].
وقوله تعالى: (ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ) [الكهف: ٤٧-٤٩].
آيات تعرض لساحة العرض والحساب، وقد تجمعت فيها الخلائق كلها وتحشدت، وقد جثوا على الركب متميزين أمة أمة يرتقبون الحساب، ويجابهون بالجزاء وكل شيء قد كتب واستنسخ في كتاب دقيق ناطق الذي لم يترك عملًا صغيرًا أو كبيرًا إلا وأحاط به.
ومن الشهود على الخلق أيضًا الأنبياء والرسل كما جاء في قوله تعالى: (ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ)[النساء: ٤٠-٤٢].
وقوله تعالى: (ﮏ ﮐ ﮑﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ)[يونس: ٤٧].
يعني: إذا جاء الرسول في اليوم الآخر قضي بينهم وسماه الله تعالى شهيدًا كما في قوله تعالى: (ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ)[النحل: ٨٤].
(ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ)[النحل: ٨٩].
وغيرها من الآيات. والآيات السابقات تدل بجموعها أنه تعالى في اليوم الآخر سيجمع الخلائق ويجيء بكل أمة ليشهد عليهم رسولها بما بلغ وبما أجابته به أمته حين دعاها إلى الله تعالى؛ لئلا يكون للناس حجة بعد الرسل فيشهد عليها بالحق، فحينئذ يتمنون لو أنهم سووا بالأرض، وسويت بهم، فيكونون نسيًا منسيًا، حالهم كحال سائر البهائم، وذلك من عظيم ما يرون من الهول والشدة، وهيهات لهم ذلك.
ومن الشهود على الخلق أيضًا أمة محمد؛ إذ يجيء بها شاهدة على الأمم؛ لعدلها بعد أن تشهد الرسل على أقوالهم، لا تجد هذه الأمم حينئذ إلا تكذيب رسلها وإنكار تأديتهم للرسالة كما كانوا يكذبونهم في الدنيا، فتقوم الأمة الوسط أمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وذلك في قوله تعالى: (ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ) [البقرة: ١٤٣].
وقوله تعالى أيضًا: (ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ) [الحج: ٧٨].
هذه الشهادة التي تأتي بعد تكذيب الأمم لرسلها كما سبق وقد جاء بيان ذلك صراحة في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعن أبي سعيدٍ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يجيء نوحٌ وأمته، فيقول الله تعالى هل بلغت؟ فيقول: نعم أي رب، فيقول لأمته: هل بلغكم؟ فيقولون: لا ما جاءنا من نبيٍ، فيقول لنوحٍ: من يشهد لك؟ فيقول: محمدٌ صلى الله عليه وسلم وأمته، فنشهد أنه قد بلغ، وهو قوله -جل ذكره-: (ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ) والوسط: العدل)107.
ومن الشهود على الخلق أيضًا الأرض، وذلك في قوله تعالى: (ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ)[الزلزلة: ٢-٥].
فالأرض تشهد على الإنسان بما عمل على ظهرها بعد إنكاره فعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: (قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: (ﭷ ﭸ ﭹ) [الزلزلة: ٤]. قال: (أتدرون ما أخبارها؟) قالوا: الله ورسوله أعلم! قال: (فإن أخبارها أن تشهد على كل عبدٍ وأمةٍ بما عمل على ظهرها، أن تقول: عمل عمل كذا في يوم كذا، فهذه أخبارها)108.
فإذا أنكر الخلق كل الشهود السابقين وكذبوهم ولجوا في الخصومة، أقام الله عليهم شاهدًا منهم، فتشهد عليهم جوارحهم (سمعهم وأبصارهم وجلودهم) بما قدموا من أعمال في الدنيا، كما قال تعالى: (ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ)[النور: ٢٤].
وقوله تعالى: (ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ)[يس: ٦٥].
«وهكذا يخذل بعضهم بعضًا وتشهد عليهم جوارحهم، وتتفكك شخصيتهم مزقًا وآحادًا يكذب بعضها بعضًا، وتعود كل جارحةٍ إلى ربها مفردة، ويثوب كل عضوٍ إلى بارئه مستسلمًا، إنه مشهدٌ عجيب رهيب تذهل من تصوره القلوب»109.
ومن شهادة الجوارح أيضًا قوله تعالى: (ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ) [فصلت: ١٩-٢٣].
فالآيات الكريمات تصف حال العباد المنكرين للمكتوب في صحفهم من السيئات المطالبين بأن لا يكون الشاهد عليهم إلا من أنفسهم، فيختم الله على أفواههم فلا تستطيع أن تنطق بشيء ثم يأمر أعضاءهم أن تشهد عليهم بما عملوا. والكافرون اعتادوا على الكذب في الدنيا، وظنوا أنهم يستطيعون أن يحققوا عن طريقه فوزًا ونفعًا، وهكذا جاءت الآية؛ لتسد عليهم هذا الباب الذي اعتادوا أن يدخلوا ويخرجوا منه.
فيوم القيامة يختم تعالى على أفواههم ويعقد ألسنتهم، وتترك الشهادة إلى غير اللسان من أعضاء جسمه، بعد أن رفض هذا الإنسان شهادة الناس والملائكة عليه، فتشهد عليهم أعضاؤهم على غير ما كانوا يعهدون من أمرهم، وعلى غير ما كانوا ينتظرون؛ لأنهم كانوا عنها يدافعون ويكذبون في الدنيا، وبعدها تنقلب عليهم في الآخرة.
والناظر في الآية يرى أنه تعالى أسند الختم إلى نفسه في حين أسند الكلام والشهادة إلى الجوارح؛ لأنه لو أسندها إليه لكان هناك احتمال في أن يكون ذلك جبرًا وقهرًا، والإقرار بالإجبار غير مقبول، فنسبها إليها، فتشهد باختيارها لخالقها بعد ما يقدرها الله تعالى على الكلام؛ ليكون أدل على صدور الذنب منهم110.
وثمة لطيفة في تقديم الاعتراف أو الكلام على الشهادة، وذلك لمناسبة الواقع فالعادة جرت بأن تسير الأمور في القضايا على وفق هذا النسق، الاعتراف أولًا، والشهود ثانيًا، وهذا ما بينته الآية الكريمة، وكذلك قدم؛ لأن دوره في هذه القضية أكثر فعالية وأبلغ دلالة من الشهادة، وبخاصةً عندما يكون هناك توافق بين ما يدلي به المعترف وما يدلي به الشاهد111.
وقد جاء حديث في الصحيح يجمع أغلب هؤلاء الشهود على المخلوق عند إنكاره فعن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه قال: (ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يومٍ أو تبسم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا تسألوني من أي شيءٍ ضحكت؟) فقال: (عجبت من مجادلة العبد ربه يوم القيامة، يقول: يا رب، أليس وعدتني أن لا تظلمني؟ قال: بلى، قال: فإني لا أقبل علي شهادة شاهدٍ إلا من نفسي، فيقول: أو ليس كفى بي شهيدًا، وبالملائكة الكرام الكاتبين؟ قال: فيردد هذا الكلام مراتٍ، فيختم على فيه، وتكلم أركانه بما كان يعمل، فيقول: بعدًا لكم وسحقًا، عنكم كنت أجادل)112.
وبعد كل هؤلاء الشهود على الخلق في ساحة العرض والحساب، وبعد أن يرى المخلوق الحق، ويتبين له أن الله لا تخفى عليه خافية، ويرى كل ما عمله في الدنيا مكتوبًا في صحيفته، وقامت عليه الشهود ويرى أنه لا برهان له ولا حجة، يقر ويعترف بما جنى وأقترف كما حكى عنه القرآن الكريم في قوله تعالى: (ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ) [الأنعام: ١٣٠].
من مواقف الحشر والحساب تخاصم الكافرين مع شركائهم ومضليهم.
وقد جاءت آيات كريمات عديدة تبين هذا التخاصم منها ما جاء في تصوير التخاصم بين الأتباع مع قادتهم المضلين لهم في قوله تعالى: (ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ) [الصافات: ١٩-٣٥].
آيات كريمات تصور تخاصم الكافرين المجرمين مع أسيادهم وقادتهم المضلين لهم، فيقول الضعفاء التابعون للقادة المضلين لهم: (ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ)؛ لإضلالنا ومنعنا من سماع الحق واتباعه. فيرد المضلون على المستضعفين منكرين إضلالهم إياهم، ويقولون لهم: (ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ)، براءة منهم بعد ما رأوا الحق بأعينهم وعاينوا العذاب الواقع بهم جميعًا لا محالة. وقريب من هذه الآيات نقرأ قوله تعالى: (ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ) [إبراهيم: ٢١].
وغيرها من الآيات الكريمات.
ومن التخاصم ما يحصل بين العابدين ومعبوداتهم عندما يجمعهم الله في مكان واحد، وقد جاء ذلك القرآن الكريم منها قوله تعالى: (ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ) [الفرقان: ١٧-١٨].
وقوله تعالى: (ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ) [الشعراء: ٩١-٩٩].
ومن التخاصم ما يحصل بين الكافرين وقرنائهم، وجاء ذلك في قوله تعالى: (ﭾ ﭿ ﮀﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ) [ق: ٢٠-٢٩].
ومنه أيضًا قوله تعالى: (ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ)[الزخرف: ٣٦-٣٩].
ومن التخاصم ما يحصل في اليوم الآخر عندما تنقلب خلة الكافرين عداوة بينهم، أما المؤمنون فلا يصيبهم خوف ولا حزن حيث الجنة مأوى لهم ولأزواجهم، وذلك في قوله تعالى: (ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ)[الزخرف: ٦٦-٧٠].
جاءت مشاهد مآل ومصير الخلق في اليوم الآخر وجزائهم في كثيرٍ من آيات القرآن الكريم، ولو أردنا ذكرها مع بيانها لاحتجنا إلى مئات الصفحات، والناظر إليها يجد أغلبها -إن لم تكن جميعها- جاءت على سبيل التقابل بين مآل ومصير المؤمنين ومآل ومصير الكافرين؛ ليصور ما للمؤمنين من نعيمٍ في الجنان، وما للمجرمين من عذابٍ في النيران، وقد جاءت هذه المشاهد ترغيبًا وترهيبًا، ترغيبًا في الإيمان والعمل الصالح الموصل إلى الجنان، وترهيبًا من الكفر والمعاصي الموصل إلى النيران، وهذا التقابل مقصودٌ؛ إذ بضدها تتميز الأشياء، ليتميز البون الشاسع بين منازل المجرمين، ومراتب المؤمنين، معتمدة في أغلبها على التصوير الذي يعد «الأداة المفضلة لأسلوب القرآن»113.
ويلاحظ على هذه المشاهد أن التقابل لم يأت على نمطٍ واحدٍ، بل جاء متنوعًا، فأحيانًا يكون التقابل ثلاثيًا بين السابقين وأصحاب اليمين والمجرمين نحو ما جاء في سورة الرحمن والواقعة، وتارةً يكون التقابل ثنائيًا بين المؤمنين والكافرين، وهذا التقابل الثنائي أكثر ذكرًا من الثلاثي وسيأتي تفصيله.
ومن أمثلة التقابل الثلاثي بين المؤمنين السابقين والمؤمنين من أصحاب اليمين والكافرين المجرمين قوله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ) [الرحمن: ٤١-٧٨].
وفي موضعٍ آخر يطالعنا تقابلٌ ثلاثيٌ آخر، ولكنه يصرح فيه بذكر أسماء أصحاب الجزاء، وذلك في موضعين من سورة الواقعة، في أولها وفي آخرها؛ ليتناسق البدء مع الختام في ذكر جزاء الناس في الآخرة.
الموضع الأول: قوله تعالى: (ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ) [الواقعة: ٧-٥٦].
وفي نهاية تحليل الشواهد الثلاثية التقابل نجد أنه في سورة الرحمن كان التقابل الأساس بين السابقين وأصحاب اليمين كما مر، أما في سورة الواقعة فالتقابل يقع بين أصحاب اليمين وأصحاب الشمال. هذا التقابل الذي يعمد إليه دائمًا؛ ليرى البون بين المصيرين.
وإذا انتقلنا إلى النوع الثاني من التقابل، وهو التقابل الثنائي نجده أكثر ورودًا من النوع الأول، وهذا التقابل الثنائي يكون متساويًا تقريبًا في الآيات بين الصنفين، وأحيانًا يكون التركيز على صنفٍ أكثر من الآخر كما سيأتي.
ومن أمثلة النوع الأول التقابلٌ بين حال المؤمنين في الجنة وحال الكافرين في النار، وذلك في قوله تعالى: (ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ) [النبأ: ٢١-٣٦].
وفي موضعٍ آخر يطالعنا تقابلٌ بين وجوه الأشقياء ووجوه السعداء، وذلك في قوله تعالى: (ﭤ ﭥﭦﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽﭾﭿ ﮀ ﮁﮂﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ) [الغاشية: ١-١٦].
آياتٌ تعرض مقابلةً كاملة المشاهد، متناسقة الأجزاء بين جزاء الفريقين؛ إذ تقابل بين وجوه المجرمين من أصحاب النار وهي خاشعةٌ ذليلةٌ مع ذكر صنوف عذابهم المعنوي والحسي، ووجوه المتقين من أصحاب الجنة وهي ناعمةٌ سعيدةٌ مع ذكر صنوف جزائهم المعنوي والحسي، عن طريق التصوير الذي يعد «الأداة المفضلة في أسلوب القرآن، فهو يعبر بالصورة المحسة المتخيلة عن المعنى الذهني، والحالة النفسية، وعن الحادث المحسوس، والمشهد المنظور، وعن النموذج الإنساني والطبيعة البشرية، ثم يرتقي بالصورة التي يرسمها، فيمنحها الحياة الشاخصة»114.
وجريًا على سنن القرآن في الجمع بين الترغيب والترهيب، يذكر سبحانه حال الأتقياء السعداء من أهل الجنة بعد ذكر حال الأشقياء من أهل النار فيقول سبحانه: (ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ).
وفي مواضع أخرى نجد تقابلًا ثنائيًا بين جزاء المؤمنين والكافرين في الآخرة، ولكنه لا يأتي متساويًا في الطول بينهما، فأحيانًا يكون مشهد جزاء الكافرين قصيرًا في مقابل جزاء المؤمنين الذي يطول، أو يكون مشهد جزاء المؤمنين أقصر من مشهد جزاء الكافرين، وكلٌ موافقٌ للسياق الذي جاء فيه.
فمن النوع الأول قوله تعالى: (ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ) [الإنسان: ٤-٢٢].
فهذه الآيات يلاحظ عليها قصر مشهد جزاء الكافرين الذي جاء في آيةٍ واحدةٍ في مقابل مشهد جزاء المؤمنين الذي جاء طويلًا، وهذا يرجع إلى طبيعة السورة التي تركز على فضل الله تعالى ونعمه على خلقه، بالخلق والإيجاد والعلم والمعرفة وغيرها، فناسب طول جزاء المؤمنين وذكر نعيمهم لهذه النعم.
وإذا أخذنا شاهدًا على طول جزاء الكافرين وقصر جزاء المؤمنين، نجده كذلك مناسبًا للسياق الذي هو فيه نحو ما جاء في قوله تعالى: (ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ)[المرسلات: ٢٩-٤٥].
فآيات جزاء الكافرين أكثر من آيات جزاء المؤمنين، وجاء النظم بهذه الصورة؛ لأن سياق السورة لتهديد الكافرين ووعيدهم، لذا نجد أنه حتى جزاء المؤمنين ختم بـ: (ﯴ ﯵ ﯶ). فالسياق سياق ترهيبٍ وتخويفٍ لذا ناسبه طول جزاء الكافرين.
موضوعات ذات صلة: |
البعث، الثواب، الجزاء، الجنة، الحساب، القبر، النار |
1 انظر: تهذيب اللغة، الأزهري ١٥/٤٦٣، لسان العرب، ابن منظور ١٢/٦٤٩.
2 أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الفتن، باب النهي عن السعي في الفتنة، رقم ٤٢٥٨، ٦/٣١٤.
3 لسان العرب، ابن منظور ١٢/٦٤٩.
4 انظر: تاج العروس، الزبيدي ٣٤/١٤٥، مقاييس اللغة، ابن فارس ٦/١٥٩.
5 انظر: تهذيب اللغة ٧/٢٢٧، تاج العروس ١٠/٣٤.
6 انظر: العقد الثمين في شرح أحاديث أصول الدين، حسين بن غنام، ص ٥٧.
7 انظر: المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، محمد فؤاد عبد الباقي، ص٢١، ص٧٧٥-٧٨٠، المعجم المفهرس الشامل، عبد الله جلغوم، باب الهمزة ص٣٤-٣٥، باب الياء ص١٤٤٢- ١٤٤٨.
8 انظر: بصائر ذوي التمييز، الفيروزآبادي، ٥/٤١٣-٤٢١، نزهة الأعين النواظر، ابن الجوزي، ص٦٣٦، عمدة الحفاظ، السمين الحلبي، ٤/٣٥٩-٣٦٠.
9 بصائر ذوي التمييز ١/٨٨.
10 في ظلال القرآن، سيد قطب ٦/٣٦٧٩.
11 انظر: التعبير الفني في القرآن، بكري شيخ أمين، ص ٢٥٢.
12 انظر: جامع البيان، الطبري ٢/٥١٨.
13 التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة، القرطبي ص ٥٤٦.
14 انظر: الكشاف، الزمخشري ٤/٤٥٥.
15 انظر: معاني الأبنية في العربية، فاضل السامرائي ص١٢٣.
16 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٨/٢٠٨.
17 معاني القرآن، الفراء ٣/١٧٩.
18 الكشاف ٤/٧٤١.
19 انظر: تفسير القرآن العظيم ٧/٤٣٦.
20 فقرتهم الفاقرة: أصابتهم مصيبة أو داهية كسرت فقار ظهورهم.
انظر: لسان العرب ٥/٦٢، مادة فقر.
21 صفوة التفاسير، الصابوني ٣/٥٦٨.
وانظر: لسان العرب ٨/٢٦٥ مادة قرع.
22 انظر: المفردات، الراغب الأصفهاني ص٧٥.
23 في ظلال القرآن ٦/٣٤١٨.
24 الكشاف ٤/٦٩٣.
25 فتح القدير، الشوكاني ٥/٤٦٦.
26 في ظلال القرآن ٦/٣٨٣٤.
27 فتح القدير ٥/٤٥٩.
28 معاني الأبنية في العربية، ص ١٢٢- ١٢٣.
29 جامع البيان، الطبري ١/٢٤٥.
30 انظر: معاني القرآن وإعرابه، الزجاج ١/٤٧.
31 التذكرة بأحوال الموتى ص ٥٦٢.
32 مفاتيح الغيب ٢٧/٥٨٠.
33 انظر: العين، الفراهيدي ٣/٣٢٤.
34 انظر: معالم التنزيل، البغوي ٤/٢٩.
35 انظر: المفردات، الراغب ص ١٣٢.
36 لسان العرب ٢/١١٧، مادة بعث.
37 انظر: تفسير القرآن العظيم ٧/١٣٥- ١٣٦.
38 المفردات، الراغب الأصفهاني ص٦٠٢.
39 انظر: زاد المسير، ابن الجوزي ٤/٣٩٣.
40 انظر: روح المعاني، الألوسي ١٢/٣٢٠.
41 انظر: القيامة الكبرى، عمر الأشقر ص ١٩.
42 انظر: المفردات، الراغب ص ٢٣٥.
43 انظر: المصدر السابق ص ٢٧٨.
44 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٢٦/٣٠٧.
45 انظر: تفسير القرآن الكريم، جزء عم، ابن عثيمين ص ١٢٥.
46 انظر: مفاتيح الغيب ١٩/١٤١.
47 التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة ص٥٤٤.
48 مسلك القرآن الكريم في إثبات البعث، علي الفقيهي، بحث منشور في مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، السنة الثالثة عشر، العدد ٥٠، ٥١ ربيع الآخر، رمضان ١٤٠١هـ/١٩٨١م، ص ٦٨.
49 انظر: الإبداع البياني، الصابوني ص٣١٦.
50 أخرجه البخاري في صحيحه، البخاري، كتاب التفسير، باب (يوم ينفخ في الصور)، رقم ٤٩٣٥، ٦/١٦٥.
51 مجموع فتاوى ابن تيمية ٣/٢٩٩.
52 روح المعاني ٨/٨٧.
53 انظر: إرشاد العقل السليم، أبو السعود ٥/١٧٧.
54 مفاتيح الغيب ٢٠/٣٥٢.
55 الفوائد، ابن القيم ص ٩.
56 انظر: في ظلال القرآن ٤/٢٤٠٩.
57 تفسير القرآن العظيم ٦/٥٩٤.
58 الجامع لأحكام القرآن ١٤/٢١.
59 مفاتيح الغيب ٢١/٥٥٦.
60 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص ١٠٦.
61 انظر: الجامع لأحكام القرآن ٣/٢٨٩، تفسير القرآن العظيم ١/٦٨٨.
62 انظر: في ظلال القرآن ١/٧٩-٨٠.
63 فتح القدير ٣/٣٢٨.
64 انظر: المصدر السابق ٣/٥٩٢.
65 الفوائد، ص ٧.
66 انظر: إعلام الموقعين عن رب العالمين، ابن القيم، ٨/٣٠١.
67 التحرير والتنوير ١٧/٢٠٣.
68 انظر: الاستعارة في القرآن الكريم، أحمد فتحي رمضان، ص ١٤٢ و ٢٢٣-٢٢٤.
69 انظر: آيات الأنواء الجوية في القرآن، أحمد عامر سلطان، ص ١٢١.
70 انظر: جامع البيان ١١/٤٠٦.
71 انظر: منهج القرآن في إثبات عقيدة البعث بعد الموت، منظور بن محمد رمضان ص٩٢.
72 أخرجه البخاري في صحيحه، رقم ٦٣٢٠، كتاب الدعوات، باب التعوذ والقراءة قبل النوم، ٨/٧٠.
73 أخرجه مسلم في صحيحه، رقم ٢٧١١، كتاب الذكر والدعاء، باب ما يقول عند النوم وأخذ المضجع، ٤/٢٠٨٣.
74 انظر: التحرير والتنوير، ابن عاشور ٢٧/٢٨٤.
75 انظر: التوجيه البلاغي للقراءات القرآنية، أحمد محمد سعد، ص٢٦٥.
76 انظر: التقديم والتأخير في القرآن الكريم، حميد أحمد عيسى العامري، ص ٨٢.
77 في ظلال القرآن ٦/٣٧٥٥.
78 أخرجه البخاري في صحيحه، رقم ٤٩٣٥، كتاب التفسير، باب (يم ينفخ في الصور)، ٦/١٦٥.
79 انظر: التصوير الفني في القرآن، سيد قطب ص٥٩.
80 انظر: معالم التنزيل، البغوي ٤/٣٢٢.
81 الكشاف، الزمخشري ٤/٤٣٢.
82 انظر: التقديم والتأخير في القرآن الكريم ص ١٢٧.
83 الكشاف ٤/٤٣٢.
84 روح المعاني، الألوسي ١٤/٨٠.
85 انظر: مشاهد القيامة في القرآن، سيد قطب ص١٨٧.
86 انظر: البحر المحيط، أبو حيان الأندلسي ٩/٥٤٢.
87 الكشاف، الزمخشري ٤/٦٨٧.
88 انظر: الإبداع البياني ص٤٢٧.
89 انظر: الجامع لإحكام القرآن ١١/١٥٣.
90 انظر: الكشاف، الزمخشري ٤/٣٢، البحر المحيط، أبو حيان ٧/٢٩٨.
91 انظر: التحرير والتنوير، ابن عاشور ١٦/٣٠٤، ٣٠٦، مشاهد القيامة في القرآن، سيد قطب ص١٠٤.
92 أخرجه البخاري في صحيحه، رقم ٦٥٢٣، كتاب الرقاق، باب كيف الحشر، ٨/١٠٩.
93 انظر: مشاهد القيامة في القرآن، سيد قطب ص ٢٠٣.
94 أخرجه مسلم في صحيحه، رقم ٢٨٥٩، كتاب الجنة وصفة نعيمها، باب فناء الدنيا وبيان الحشر، ٤/٢١٩٤.
95 التسهيل لعلوم التنزيل، ابن جزي الكلبي ٢/٤٥٤.
96 انظر: بلاغة العطف في القرآن الكريم، عفت الشرقاوي ص ١٠٥-١١٠.
97 انظر: الجملة العربية تأليفها وأقسامها، فاضل صالح السامرائي ص ٤٧- ٤٨.
98 انظر: معالم التنزيل، البغوي ٢/١٨٠، زاد المسير، ابن الجوزي ٢/١٠٣.
99 تفسير القرآن العظيم ٥/٣٤٥.
100 انظر: التحرير والتنوير ٣٠/٥١٣.
101 المصدر السابق ٣٠/٤٩٤.
102 أخرجه البخاري في صحيحه، رقم ٤٧٢٩، كتاب التفسير، باب (أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه)، ٦/٩٣.
103 انظر: التحرير والتنوير، ابن عاشور ٣٠/٢٢٣.
104 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الرقاق، باب من نوقش الحساب عذب، رقم ٦١٧١، ٥/٢٣٩٤.
105 أخرجه مسلم في صحيحه، رقم ٢٨٧٦، كتاب صفة القيامة والجنة والنار، باب إثبات الحساب، ٤/٢٢٠٤.
106 معاني القرآن ٣/٢٥٠.
107 أخرجه البخاري في صحيحه، رقم ٣٣٣٩، كتاب أحاديث الأنبياء، باب قوله: (إنا أرسلنا نوحًا إلى قومه)، ٤/١٣٤.
108 أخرجه الحاكم في المستدرك، رقم ٣٠١٢، كتاب التفسير، باب من كتاب قراءات النبي، ٢/٢٨١.
قال الحاكم: «هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه». ولم يتعقبه الذهبي.
109 في ظلال القرآن، سيد قطب ٥/٢٩٧٣.
110 مفاتيح الغيب، الرازي ٢٧/٥٥٥-٥٥٦.
111 انظر: تأملات في سورة يس، حسن محمد باجودة، ص٨٧.
112 أخرجه الحاكم في المستدرك، رقم ٨٧٧٨، كتاب الأهوال، ٤/٦٤٤.
قال الحاكم: «هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجه»، ولم يتعقبه الذهبي.
113 التصوير الفني في القرآن، سيد قطب ص٣٦.
114 مشاهد القيامة في القرآن ٦.