عناصر الموضوع

التعريف باليهود

اليهود في الاستعمال القرآني

الألفاظ ذات الصلة

نعم الله على بني إسرائيل

انحرافات اليهود

تحريفات اليهود

اليهود والعقوبات الإلهية

اليهود

التعريف باليهود

قبل أن نبدأ الحديث عن اليهود وعن انحرافاتهم وضلالاتهم وطباعهم القبيحة كان حريًا بنا أن نميز بين مصطلحي اليهود وبني إسرائيل، حيث إن كثيرًا من الباحثين والكتاب يختلط الأمر عليهم، فيتحدثون عن اليهود وكأنهم هم بنو إسرائيل، وعن بني إسرائيل كأنهم هم اليهود أنفسهم، وهذا الأمر يجب أن يوضح منذ البداية.

أولًا: التعريف باليهود:

اليهود: هم من ينتسبون إلى الديانة اليهودية.

واختلفت الأقوال في سبب تسميتهم بهذا الاسم، فمنها:

قيل: إنهم سموا يهودًا؛ «لأنهم يتهودون، أي: يتحركون عند قراءة التوراة»1 بنو إسرائيل: هم ذرية سيدنا يعقوب عليه السلام، فإسرائيل هو اسم سيدنا يعقوب.

و«اتفق المفسرون على أن إسرائيل هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام، ومعناه: عبدالله؛ لأن (إسرا) في لغتهم هو العبد و(إيل) هو الله، وقيل: إن له اسمين. وقيل: إسرائيل لقب له. وهو اسم أعجمي غير منصرف»2.

وقيل: إنهم سموا يهودًا نسبة إلى (يهوذا) الابن الرابع ليعقوب عليه السلام، قال البيروني: «وإنما سموا باليهود نسبة إلى يهوذا أحد الأسباط، فإن الـمـلك استقر في ذريته، وأبدلت الذال المعجمة دالًا مهملة؛ لأن العرب كانوا إذا نقلوا أسماء أعجمية إلى لغتهم غيروا بعض حروفها» 3.

وقيل: من التوبة والرجوع، ذكر ابن منظور في معجمه «الهود: التوبة، هاد يهود هودًا: تاب ورجع إلى الحق فهو هائد، وفي التنزيل العزيز: ( ﭜﭝ)[الأعراف: ١٥٦]، أي: تبنا ورجعنا إليك، وهو قول مجاهد وسعيد بن جبير وإبراهيم، ويهودا اسم للقبيلة وقالوا: (اليهود) فأدخلوا الألف واللام فيها على إرادة النسب يريدون اليهوديين، وقوله تعالى: ( ﯩﯪ) [الأنعام: ١٤٦]، معناه: دخلوا اليهودية، وهود الرجل: حوله إلى اليهودية، وهاد ويهود إذا صار يهوديًا»4.

ثانيًا: الفرق بين بني إسرائيل واليهود:

بنو إسرائيل: هم ذرية سيدنا يعقوب عليه السلام، فإسرائيل هو اسم سيدنا يعقوب.

«اتفق المفسرون على أن إسرائيل هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام، ومعناه: عبدالله؛ لأن (إسرا) في لغتهم هو العبد و(إيل) هو الله، وقيل: إن له اسمين. وقيل: إسرائيل لقب له. وهو اسم أعجمي غير منصرف»5.

ولعل الفرق يتضح جليًّا بين مصطلحي اليهود وبني إسرائيل من خلال آيات القرآن الكريم:

فلقد ذكر مصطلح (بني إسرائيل) إحدى وأربعين مرةً في القرآن الكريم، والمتتبع للآيات التي ذكر فيها بنو إسرائيل في القرآن الكريم يجد أن ذكرهم قد قصد به أزمان وأوقات مختلفة:

  1. قولهم: إن الله فقير.

    لم يكتف اليهود بالتجرؤ على أنبيائهم فحسب، بل بلغ الكبر والغرور فيهم أن قالوا في حق الله ما لا يليق به سبحانه وتعالى، ونعتوه بالفقر، سبحانه وتعالى عما يقولون، فهو الغني الكريم الجواد جل في علاه، ولقد أخبر الله سبحانه في كتابه عن سماعه لما افتراه اليهود بقوله سبحانه: ( ﭛﭜ ) [آل عمران: ١٨١].

    ذكر البيضاوي في تفسيره لهذه الآية: (قالته اليهود لما سمعوا ( )[البقرة: ٢٤٥].

    وروي «أنه عليه الصلاة والسلام كتب مع أبي بكر رضي الله تعالى عنه إلى يهود بني قينقاع يدعوهم إلى الإسلام وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وأن يقرضوا الله قرضًا حسنًا، فقال فنحاص بن عازوراء: إن الله فقير حتى سأل القرض. فلطمه أبو بكر رضي الله عنه على وجهه، وقال: لولا ما بيننا من العهد لضربت عنقك. فشكاه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجحد ما قاله، فنزلت»1920.

  2. قولهم: يد الله مغلولة.

    أي جرأة تجرأ بها هؤلاء؟! وأي وقاحة وصلوا إليها بتجرئهم على الله سبحانه وتعالى، وبأبشع الأوصاف وأقبحها؟! كل هذا من أجل المال والنفقة، لقد تسرب حب المال في عروقهم، وتشبعت نفوسهم بالبخل والشح، فأخذوا يلقون التهم على الله سبحانه وتعالى الكريم المنان.

    قال تعالى: ( ﯧﯨ ﯭﯮ ﯴﯵ ﯿﰀ ﰇﰈ ﰎﰏ ﰓﰔ ) [المائدة: ٦٤].

    ذكر الإمام الطبري في تفسيره عن معنى الآية فقال: «عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: ( ﯧﯨ ﯭﯮ)، قالا: ليس يعنون بذلك أن يد الله موثقة، ولكنهم يقولون: إنه بخيل أمسك ما عنده، تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا» 21.

    يقول سيد قطب «وقد بلغ من غلظ حسهم وجلافة قلوبهم ألا يعبروا عن المعنى الفاسد الكاذب الذي أرادوه وهو البخل بلفظه المباشر، فاختاروا لفظًا أشد وقاحةً وتهجمًا وكفرًا، فقالوا: يد الله مغلولة! ويجيء الرد عليهم بإحقاق هذه الصفة عليهم، ولعنهم وطردهم من رحمة الله جزاء على قولهم: ( ﯭﯮ) وكذلك كانوا، فهم أبخل خلق الله بمال» 22. كما جاء الرد على بهتانهم وكفرهم سريعًا بقوله سبحانه: ( )، فالله سبحانه وتعالى هو الكريم الجواد المنعم الوهاب، ينفق ما يشاء لمن يشاء وكيف يشاء.

    كما بين الله سبحانه وتعالى أنه كلما أنزل على رسوله شيئًا من القرآن ازداد هؤلاء المفترون من اليهود طغيانًا وكفرًا، كما عاقبهم الله سبحانه بأن ألقى العداوة والبغضاء بينهم إلى يوم القيامة.

    كما تعهد الله تعالى بأنه سيطفئ كل نار للحرب أراد اليهود أن يوقدوها، وختم سبحانه الآية بأن بين طبيعة هؤلاء اليهود التي لا ينفكون عنها، وهي: ( ) فلذلك الله لا يحبهم؛ لأن الله لا يحب المفسدين.

  3. قولهم: عزير ابن الله.

    استحق اليهود القتال من الله، وذلك بافترائهم على الله عز وجل الذي لم يلد ولم يولد، فافتروا عليه بأن عزيرًا ابن الله، وعزير هو حبر من أحبار بني إسرائيل أوتي حفظ التوراة وعلمها.

    قال تعالى: ( ﮤﮥ ﮨﮩ ﮯﮰ ﯓﯔ ) [التوبة: ٣٠].

    ذكر الطبري في تفسيره عن سبب نزول الآية: «واختلف أهل التأويل في القائل: ( )، فقال بعضهم: كان ذلك رجلا واحدًا، هو فنحاص، ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: سمعت عبد الله بن عبيد بن عمير قوله: ( )، قال: قالها رجل واحد، قالوا: إن اسمه فنحاص، وقالوا: هو الذي قال: ( ﭛﭜ). وقال آخرون: بل كان ذلك قول جماعة منهم، ذكر من قال ذلك: حدثنا أبو كريب قال: حدثنا يونس بن بكير قال: حدثنا محمد بن إسحاق قال: حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال، حدثني سعيد بن جبير، أو عكرمة، عن ابن عباس قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم سلام بن مشكم ونعمان بن أوفى وشأس بن قيس، ومالك بن الصيف، فقالوا: كيف نتبعك وقد تركت قبلتنا، وأنت لا تزعم أن عزيرًا ابن الله؟! فأنزل في ذلك من قولهم: ( ﮤﮥ)، إلى ( )»23.

    وهناك قول ثالث ذكره الرازي في تفسيره حيث قال: «والقول الثالث: لعل هذا المذهب كان فاشيًا فيهم ثم انقطع، فحكى الله ذلك عنهم، ولا عبرة بإنكار اليهود ذلك، فإن حكاية الله عنهم أصدق» 24.

  4. إيمانهم بالجبت والطاغوت.

    وهذا كفر بواح، ونفاق كبير، آمنوا بعبادة الأوثان والشيطان من دون الله، وفضلوا المشركين الكافرين على المؤمنين، وهم يعلمون علم اليقين بما آتاهم الله من الكتاب من هم الذين أهدى سبيلًا وطريقًا إلى الله.

    قال تعالى: ( ﯿ ) [النساء: ٥١-٥٢].

    وعن سبب نزول هذه الآية يذكر الطبري في تفسيره: «عن قتادة قوله: ( ﯿ)الآية، قال: ذكر لنا أن هذه الآية أنزلت في كعب بن الأشرف وحيي بن أخطب ورجلين من اليهود من بني النضير لقيا قريشًا بموسم25، فقال لهم المشركون: أنحن أهدى أم محمد وأصحابه فإنا أهل السدانة والسقاية، وأهل الحرم؟ فقالا: لا، بل أنتم أهدى من محمد وأصحابه! وهما يعلمان أنهما كاذبان، إنما حملهما على ذلك حسد محمد وأصحابه»26.

    فهكذا هم اليهود، من شدة كرههم وحقدهم على النبي محمد صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا معه آمن اليهود بالجبت والطاغوت وأقروا المشركين على شركهم نكايةً واستكبارًا، فاستحقوا بذلك لعنة الله عليهم وغضبه.

  5. عداوتهم لجبريل عليه السلام.

    من فرط الحقد الذي يكنه اليهود للرسول صلى الله عليه وسلم والعداوة التي عادوها له عليه الصلاة والسلام أن عادوا جبريل عليه السلام أيضًا الذي بدوره أنزل القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم بإذن ربه.

    يقول الله تعالى في حق اليهود: ( ﮋﮌ ) [البقرة: ٩٧-٩٨].

    وهذه الآيات تخص اليهود، فلقد ذكر الطبري في تفسيره: «أجمع أهل العلـم بـالتأويـل جميعًا علـى أن هذه الآية نزلت جوابـًا للـيهود من بنـي إسرائيـل، إذ زعموا أن جبريـل عدو لهم» 27، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، لذا فمن كان من اليهود أو غير اليهود عدوًا لله أو أحد من ملائكته أو رسله فإن الله عدوٌّ له.

  6. إنكارهم لإنزال الكتب والكفر بها.

    قال تعالى: (ﮋﮌ ﮞﮟ ) [البقرة: ٩١].

    وهذا تناقض عجيب من اليهود، إذ يقولون أنهم يؤمنون بما أنزل إليهم من التوراة، ومع أن التوراة تأمرهم بأن يؤمنوا بما سيأتي من بعدهم من الكتب السماوية، إلا أنهم يخالفون هذا الأمر ويكفرون بتلك الكتب، ذكر الطبري معقبًا على الآية: «وإنـما قال جل ثناؤه: ( ﮞﮟ) لأن كتب الله يصدق بعضها بعضًا، ففـي الإنـجيـل والقرآن من الأمر بـاتبـاع مـحمد صلى الله عليه وسلم والإيمان به وبـما جاء به مثل الذي من ذلك فـي توراة موسى عليه السلام»28.

    ولقد جاء الاستفهام الاستنكاري من الله عز وجل، ( ) تدعون الإيمان وتدعون أنكم تؤمنون بما أنزل عليكم من التوراة ومع ذلك تقومون بقتل أنبياء الله الذين أرسلوا إليكم مصدقين لما جاءكم في التوراة وعاملين بتعاليمها!

    ثانيًا: انحرافات في الأخلاق والسلوك:

    النوع الثاني من الانحرافات بعد تلك الانحرافات العقائدية هي الانحرافات الأخلاقية والسلوكية:

    انحرافات اليهود الأخلاقية والسلوكية:

  1. حسدهم للمسلمين.

    النعمة التي تمنى اليهود زوالها من عند المسلمين هي نعمة الإسلام والهداية، فأكثر اليهود يعلمون علم اليقين أن هذا الدين دين حق، وأن هذا الرسول محمدًا صلى الله عليه وسلم هو خاتم النبيين، ولكنهم لم يتوقعوا أن يكون من غير ملتهم أو طائفتهم.

    قال تعالى: ( ﮢﮣ ﮩﮪ ) [البقرة: ١٠٩].

    وعن سبب نزول هذه الآية يذكر الإمام الطبري في تفسيره: «عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان حيي بن أخطب وأبو ياسر بن أخطب من أشد يهود للعرب حسدًا، إذ خصهم الله برسوله صلى الله عليه وسلم، وكانا جاهدين في رد الناس عن الإسلام بما استطاعا، فأنزل الله فيهما: ( )»29.

  2. حرصهم على إضلال المؤمنين.

    لقد حرصت طائفة من أهل الكتاب على أن يردوا المسلمين عن دينهم وأن يخرجوهم عن ملة الإسلام، حتى لو كان هذا الخروج فيه شرك بالله، ولا زالت هذه الأمنية باقية إلى عصرنا هذا، فمكايد اليهود ومن دخل بدائرتهم من النصارى ترمي إلى إبعاد المسلمين عن دينهم، وإضلالهم، سواءً بالحملات التنصيرية أو بالإعلام الهابط الذي يبث سمومه وأفكاره الهدامة للفرد والمجتمع.

    قال تعالى: ( ) [آل عمران: ٦٩].

    ولقد أبدع سيد قطب في تعليقه على هذه الآية بقوله: «وهذه الرغبة القائمة على الهوى والحقد والشر ضلال لا شك فيه، فما تنبعث مثل هذه الرغبة الشريرة الآثمة عن خير ولا عن هدى، فهم يوقعون أنفسهم في الضلالة في اللحظة التي يودون فيها إضلال المسلمين، فمن يحب إضلال المهتدين إلا ضال يهيم في الضلال البهيم» 30.

  3. كتمانهم لما أنزل الله.

    قال تعالى: ( ﭢﭣ ) [آل عمران: ١٨٧].

    توعد الله سبحانه وتعالى العلماء الذين يكتمون ما أنزل الله، ومع أن الآية نزلت في علماء اليهود والنصارى إلا أنها وبمفهومها الشامل تشمل كل عالم «ولو كان مسلمًا» يكتم ما وهبه الله من علم بكتابه.

    ويقول سبحانه: ( ﮮﮯ ) [البقرة: ١٥٩].

    وإن من أعظم ما أخفاه وكتمه علماء اليهود والنصارى في كتبهم أمر التبشير برسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا فعلٌ شنيع استوجب لعنة الله عليهم ولعنة اللاعنين.

    يقول الإمام الطبري: ( )، علـماء الـيهود وأحبـارها وعلـماء النصارى، لكتـمانهم الناس أمر مـحمد صلى الله عليه وسلم وتركهم اتبـاعه وهم يجدونه مكتوبـًا عندهم فـي التوراة والإنـجيـل» 31.

  4. أخذهم الربا وأكلهم أموال الناس بالباطل.

    قال تعالى: ( ﯨﯩ ) [النساء: ١٦٠-١٦١].

    في هاتين الآيتين الكريمتين عقابان للذين هادوا، أحدهما في الحياة الدنيا والآخر في الحياة الآخرة، ففي الدنيا شمل العقاب كل الذين هادوا بتحريم طيبات من الطعام كان لهم حلالًا، وفي الآخرة سيكون العقاب للكافرين من الذين هادوا بأن أعد الله لهم عذابًا أليمًا، وما هـٰذان العقابان إلا لما اقترفوه من آثام وذنوب، فقد ظلموا أنفسهم بنقضهم للعهود والمواثيق مع الله، وظلموا أنبياءهم بالتكذيب والعصيان، كما صدوا أنفسهم وغيرهم عن سبيل الله كثيرًا، واستحلوا الربا وهو عليهم محرم، وأكلوا أموال الناس، وتعبير الأكل دليل النهم والطمع المتأصل فيهم، فلقد استباحوا أموال الناس وممتلكاتهم بالباطل والعدوان.

    وقال تعالى: ( ﮬﮭ ﯜﯝ ) [المائدة: ٦٢-٦٣].

    فكثير من أهل الكتاب وليس قليلهم يفعلون ذلك، وهم يسارعون ويتسابقون في الإثم والعدوان وأكل كل مال حرام، سواء بالسرقة أو الرشوة أو الربا، يقول الدكتور محمد سيد طنطاوي «والمعنى: إن هؤلاء اليهود دأبهم المسارعة إلى اقتراف الآثام وإلى أكل المال الحرام، فهلا ينهاهم علماؤهم عن هذه الأقوال الكاذبة الباطلة، وعن تلك المآكل الخبيثة التي أكلوها عن طريق السحت»32.

    ولقد طال التوبيخ من الله علماء النصارى واليهود؛ لامتناعهم عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلمهم بأن ما يفعله هؤلاء لا يرضي الله سبحانه وتعالى.

    والربا وأكل أموال الناس عقيدة راسخة عند اليهود بالذات، فلقد جاءت تعاليم التلمود بذلك، بالنص الآتي: «غير مصرح لليهودي أن يقرض الأجنبي إلا بالربا» 33.

    وأمر تعامل اليهود بالربا امتد إلى عصرنا الحاضر، متمثلًا بالبنوك الربوية التي يسيطر عليها اليهود في العالم، ويتحكمون من خلالها بالاقتصاد العالمي.

  5. حرصهم على الحياة.

    قال تعالى: ( ﭨﭩ ﭵﭶ ﭿ ﮃﮄ ) [البقرة: ٩٤-٩٦].

    ذكر ابن الجوزي في تفسيره عن هذه الآيات: (قوله تعالى: ( ) كانت اليهود تزعم أن الله تعالى لم يخلق الجنة إلا لإسرائيل وولده، فنزلت هذه الآية، ومن الدليل على علمهم بأن النبي صلى الله عليه وسلم صادق أنهم ما تمنوا الموت، وأكبر الدليل على صدقه أنه أخبر أنهم لا يتمنونه بقوله تعالى: ( ) فما تمناه أحد منهم، والذي قدمته أيديهم: قتل الأنبياء وتكذيبهم، وتبديل التوراة) 34.

    ومع أن المشركين لا يؤمنون بالآخرة، ويعتبرون حياتهم الدنيا هي الحياة، ولا حياة بعدها، ومع ذلك تجد هؤلاء اليهود هم أشد حرصًا منهم، بل هم أشد الناس حرصًا على حياة، وأي حياة تلك؟ لا يهم، المهم أنها حياة، بغض النظر عن كيفيتها أو صعوبتها، المهم أنها حياة، وهذا الحرص يفاجئك للوهلة الأولى، وخصوصًا أنهم يؤمنون بأن هنالك حياة أخرى، ولكن تلك المفاجأة تزول عند التأمل بما اقترفه هؤلاء من قتلهم للأنبياء وتكذيبهم لهم، ومن تجرئهم على الله، وغيرها من الأعمال المهينة التي ارتكبوها.

  6. جبنهم عند اللقاء في الحرب.

    يقول الله سبحانه وتعالى في حق أهل الكتاب: ( ﭻﭼ ﭿ ) [آل عمران: ١١١].

    ويوضح الدكتور محمد سيد طنطاوي معنى الآية بقوله: «والمعنى: إن أهل الكتاب لن يضروكم يا معشر المؤمنين إلا ضررًا يسيرًا لا يبقى أثره فيكم ما دمتم مستمسكين بدينكم، فإن قاتلوكم وأنتم على هذه الحال أمدكم الله بنصره، وألقي في قلوبهم الرعب فيولونكم الأدبار انهزاما منكم، ثم لا ينصرون عليكم بل تنصرون أنتم عليهم»35.

    فلقد عاش المسلمون ذلك في صراعهم مع أهل الكتاب، وخاصة ما تعلق الأمر منه بقتال اليهود، فيهود بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة قد ولوا الأدبار في المدينة في عصر النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وكذلك فعل يهود خيبر، وفي أيامنا هذه يتكرر الأمر عندما يكون هناك عقيدة راسخة مؤمنة بالله وبنصره في مواجهة اليهود36.

  7. تحسبهم جميعًا وقلوبهم شتى.

    قال تعالى: ( ﮰﮱ ﯕﯖ ﯚﯛ ) [الحشر: ١٤].

    يقول الدكتور محمد سيد طنطاوي: «والجدر» جمع جدار، وهو بناء مرتفع يحتمى به من يقاتل من خلفه، و () بمعنى مجتمعين كلهم، أي أن هؤلاء اليهود وحلفاءهم من المنافقين لا يقاتلونكم مجتمعين كلهم في موطن من المواطن إلا في قرى محصنة بالخنادق وغيرها، أو يقاتلونكم من وراء الجدران التي يتسترون بها؛ لأنهم يعجزون عن مبارزتكم، وعن مواجهتكم وجها لوجه، لفرط رهبتهم منكم، وقوله تعالى: ( ﯕﯖ) جملة مستأنفة، كأن قائلًا قال: ولماذا لا يقاتلون المؤمنين إلا على هذه الصورة؟

    فكان الجواب: بأسهم بينهم شديد، أي: عداوتهم فيما بينهم عداوة شديدة، بحيث لا يتفقون على رأي، وقوتهم يستعملونها فيما بينهم استعمالًا واسعًا، فإذا ما التقوا بكم تحولت هذه القوة إلى جبن وهلع 37.

    أما أمر قتالهم في القرى المحصنة أو من وراء جدر فهو أمر واقع ومشهود في زماننا هذا، فاليهود في فلسطين قد أقاموا جدارًا عنصريًّا فاصلًا طويلًا، يبلغ طوله ٧٠٠ كيلومتر، يفصل بين الضفة الغربية وبين الأراضي الفلسطينية المحتلة عام ١٩٤٨، والحجة في بنائه هو حماية دولتهم المحتلة، وحماية مواطنيها المغتصبين من هجمات المجاهدين.

  8. يسعون في الأرض فسادًا.

    قال تعالى: ( ﯧﯨ ﯭﯮ ﯴﯵ ﯿﰀ ﰇﰈ ﰎﰏ ﰓﰔ ) [المائدة: ٦٤].

    وتعقيبًا على هذه الآية يقول الشيخ محمد متولي الشعراوي عن اليهود: «ويكتشف الكون كل فترة من الزمن أن الفساد الذي فيه إنما هو بسبب هؤلاء الناس وبسبب مكائدهم، لذلك يصيبهم الحق بالكوارث كل فترة من الزمن؛ لأنهم يسعون في الأرض فسادًا، وهذا السعي في الأرض بالفساد إنما يأخذ صورًا متعددة، مرة يأخذ شكل النظريات العلمية، ومرة يأخذ شكل التطرف في الأنظمة السياسية من رأسمالية شرسة أو شيوعية شرسة، وكل ذلك تخريب لحياة الناس»38.

    من طباع اليهود الدنية إشعال الحروب بين الناس، فلا تهنأ لهم نفس أن يروا الناس متحابين ومتراحمين، ولا تقر لهم عين أن تكون الأرض مستقرة دون حروب وفتن، ولقد شهد التاريخ عليهم بذلك، فلقد أشعل اليهود الفتن والحروب بين الأوس والخزرج في المدينة قبل البعثة، كما أن التاريخ المعاصر يشهد عليهم أيضًا.

    فهذا هتلر الزعيم الألماني في القرن الماضي يقول عنهم: «فلقد أثبتت لي الأيام أنه ما من عملٍ مخالفٍ للأخلاق وما من جريمة بحق المجتمع إلا ولليهود يد فيها»39.

  9. أشد الناس عداوةً للمؤمنين.

    قال تعالى: ( ﯗﯘ ﯡﯢ ) [المائدة: ٨٢].

    لكل نبي أعداء، ولكل دعوة حق أعداء، كما للذين آمنوا أعداء أيضًا، فهم على الحق، وعلى منهج الأنبياء والرسل عليهم السلام، وأعداء الذين آمنوا كثر، وأشد هؤلاء الأعداء عداءً للمؤمنين هم اليهود والذين أشركوا، فاليهود هم قتلة الأنبياء وأعداء الحق، وخاصة الحق الذي جاء مع نبي من غير بني إسرائيل، فهم له أشد عداوةً وبغضًا، ولما يمثله المؤمنون من قوة تحول دون أن يحقق هؤلاء اليهود مطامعهم التي لا تنتهي سياسيًا وجغرافيًا واقتصاديًا.

    والتاريخ يشهد على مظاهر العداء التي يكنها اليهود للمسلمين، وسأذكر منها:

    • إنكارهم لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ومحاربتهم له، ومحاولتهم قتله أكثر من مرة.
    • التعاون مع المنافقين في المدينة على حوك الخطط والمكائد ضد المسلمين.
    • تظاهرهم بالدخول في الإسلام نفاقًا، قال تعالى: ( ) [آل عمران: ٧٢].
    • نقضهم للعهود والمواثيق مع الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين في المدينة ثلاث مرات.
    • دور مدعي الإسلام اليهودي عبد الله ابن سبأ في إثارة الفتن والعداء بين المسلمين.
    • محاولة تزييف التاريخ الإسلامي، ودس بعض الأساطير الإسرائيلية فيه.
    • محاولة الاستيلاء على بيت المقدس في عصر الخلافة العباسية.
    • المساهمة في الدعم المادي والمعنوي للصليبيين في أثناء الحروب الصليبية ضد المسلمين.
    • تزويد التتار بالمعلومات والأسرار، ومساعدتهم في إسقاط الخلافة العباسية.
    • تجرؤهم على الطعن في القرآن الكريم، كالوزير اليهودي في غرناطة «يوسف بن شموئيل».
    • ادعاء الإسلام علنًا والكيد له بالخفاء، كيهود الدونمة الذين أسهموا في سقوط الخلافة العثمانية.
    • احتلال أراضي المسلمين والمسجد الأقصى المبارك.
    • تشويه صورة الإسلام والمسلمين في العالم عبر وسائل الإعلام المختلفة.
  10. قتل بعضهم بعضًا.

    قال تعالى: ( ﭶﭷ ﭼﭽ ﭿ ﮈﮉ ﮋﮌ ﮏﮐ ) [البقرة: ٨٤-٨٥].

    اليهود لا عهد عندهم ولا ميثاق، ولو كان ذلك مع الله سبحانه وتعالى، فهاهم اليهود في موضع جديد من نقض العهد والميثاق، ينقضون عهدهم الذي واثقوه وشهدوا عليه، بقتلهم أنفسهم، بعد أن أقروا بميثاق عدم سفك دماء بعضهم بعضًا، لكن بأسهم بينهم شديد.

    يقول ابن كثير في تفسيره: «يقول -تبارك وتعالى- منكرًا على اليهود الذين كانوا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وما كانوا يعانونه من القتال مع الأوس والخزرج، وذلك أن الأوس والخزرج - وهم الأنصار- كانوا في الجاهلية عباد أصنام، وكانت بينهم حروب كثيرة، وكانت يهود المدينة ثلاث قبائل: بنو قينقاع، وبنو النضير: حلفاء الخزرج، وبنو قريظة: حلفاء الأوس، فكانت الحرب إذا نشبت بينهم قاتل كل فريق مع حلفائه، فيقتل اليهودي أعداءه، وقد يقتل اليهودي الآخر من الفريق الآخر، وذلك حرام عليهم في دينهم ونص كتابهم، ويخرجونهم من بيوتهم، وينهبون ما فيها من الأثاث والأمتعة والأموال، ثم إذا وضعت الحرب أوزارها استفكوا الأسارى من الفريق المغلوب عملًا بحكم التوراة.

    ولهذا قال تعالى: ( ﭼﭽ)، ولهذا قال تعالى: ( ) أي: لا يقتل بعضكم بعضًا، ولا يخرجه من منزله، ولا يظاهر عليه»40.

    رأينا إذًا كيف أن اليهود قد انحرفوا انحرافات كبيرة في العقائد والسلوك والأخلاق، وسنتطرق في المبحث الرابع لتلك التحريفات التي طالت كتاب الله الذي أنزل إليهم، سواء كانت تلك التحريفات تحريفات كتابية، أو تحريفات شفوية منطوقةً باللسان.

    تحريفات اليهود

    لقد تمادى اليهود بالتحريف والتبديل والتزوير في كل شيء، ولم يسلم كتاب الله الذي أنزل عليهم من تحريفهم وتزويرهم، فغيروا من التوراة ما يناسب أهواءهم الفاسدة، فكان تحريفهم بطرق عدة، منها: كتمان ما لا يناسب أهواءهم، وكتابة ما يحلو لهم ونسبته إلى الله، وتقولهم على الله بهتانًا وزورًا، وتحريم ما لم يحرمه الله عليهم، ولقد ذكر الله سبحانه وتعالى أن فريقًا منهم يقومون بتحريف كلام الله من بعد ما سمعوه وفهموه وعقلوه، ( ) [البقرة: ٧٥].

  1. تحريف كلام الله عن مواضعه.

    قال تعالى: ( ﮣﮤ ﮧﮨ ﮯﮰ ﯖﯗ ﯠﯡ ﯫﯬ ﯴﯵ ﯹﯺ ﯿ) [المائدة: ٤١].

    الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم على وجه التسلية والإخبار عن المنافقين واليهود، اليهود الذين سبق وأن بينا ما ذكر عنهم في آية سابقة بأنهم يسارعون في الإثم والعدوان، وهاهم في هذه الآية يبين الله سبحانه وتعالى أنهم يسارعون في الكفر، وهكذا هم اليهود يسارعون في الأعمال القبيحة بخلاف المؤمنين الذين يسارعون في الخيرات دائمًا، ومن أعمال الكفر التي سارع بها اليهود تحريفهم للتوراة وتبديلهم لبعض الكلمات حتى يوافق النص هواهم.

    ويقول الله سبحانه: ( ﭾﭿ ﮃﮄ ﮋﮌ ﮙﮚ ﮫﮬ ﮰﮱ ﯗﯘ ﯡﯢ ﯥﯦ ) [المائدة:١٢- ١٣].

    أخذ الله العهد والميثاق من بني إسرائيل لئن أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وآمنوا برسل الله ونصروهم وأنفقوا في سبيل الله ليجزينهم الله بذلك جنات تجري من تحتها الأنهار بعد أن يكفر الله عنهم ذنوبهم، ولكن كثيرًا من بني إسرائيل نقض العهد والميثاق مع الله، فحرفوا كتاب الله التوراة، وبدلوا بعض كلماته، تزويرًا وبهتانًا، ونسوا أو تناسوا جزءًا من عهد الله معهم، فلم يؤمن اليهود سواء الذين عاصروا البعثة أو من جاء بعدهم برسول الله محمد صلى الله عليه وسلم.

    ومعنى ( ﮰﮱ) أي: فيقدمون ويؤخرون ويحذفون بعض الكلام، ويؤولون معانيه لتوافق أهواءهم، ومن ذلك تأويلهم الآيات الدالة على نبوة كل من عيسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم في التوراة.

  2. كتابة كتب من عند أنفسهم ثم نسبتها إلى الله.

    من تحريفهم لكتاب الله أن يكتبوا كتبًا من عند أنفسهم تتناسب مع أهوائهم، ويجنون من ورائها أثمانًا وأموالًا، والأخطر من ذلك كله هو نسبتها إلى الله سبحانه وتعالى، فيقولون للناس: هو من عند الله.

    قال تعالى: ( ﭵﭶ ﭿ) [البقرة: ٧٩].

    ذكر الله الويل ثلاث مرات في هذه الآية، والويل: واد في جهنم41، أو العذاب والهلاك كما في لغة العرب.

    فلقد توعد الله علماء ورؤساء اليهود الذين يكتبون التوراة بأيديهم ويدعون بعد ذلك أنها من عند الله وما هي من عند الله، ويقولون على الله الكذب، قال الخازن: «والمراد بالذين يكتبون الكتاب «اليهود»، وذلك أن رؤساء اليهود خافوا ذهاب مآكلهم وزوال رياستهم حين قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، فاحتالوا في تعويق سفلتهم عن الإيمان به، فعمدوا إلى صفته في التوراة فغيروها، وكانت صفته فيها حسن الوجه حسن الشعر أكحل العينين ربعة، فغيروا وكتبوا مكانه طوال أزرق العينين سبط الشعر، فكانوا إذا سألهم سفلتهم عن ذلك قرءوا عليهم ما كتبوا ( ) 42.

    وكان اليهود يبيعون هذا الكلام الذي كتبوه بأيديهم لغيرهم، وخاصة للمشركين من العرب، فلقد ذكر الطبري في تفسيره: «كان ناس من اليهود كتبوا كتابًا من عندهم، يبيعون من العرب ويحدثونهم أنه من عند الله؛ ليأخذوا به ثمنًا قليلًا»43.

  3. قولهم: لن يدخل الجنة إلا من كان هودًا.

    من الغرور الذي وصل إليه اليهود أن تمنوا على الله الأماني، وجعلوا تلك الأماني حقائق لا بد أن تقع، فكان من أمنياتهم ما ذكره الله سبحانه وتعالى عنهم بقوله: ( ﯰﯱ ﯳﯴ ) [البقرة: ١١١].

    تحدى الله كلًّا من اليهود والنصارى بأن يأتوا بحججهم وإثباتاتهم التي تثبت كلامهم هذا، حيث ادعى اليهود بأنه لن يدخل الجنة إلا من كان يهوديًّا، وادعى النصارى أيضًا أنه لن يدخل الجنة إلا من كان نصرانيًّا، وما كان هذا إلا أماني وأوهامًا يعيشونها، فلا برهان لديهم ولا دليل، فالله سبحانه وتعالى قد وعد كل من أسلم وجهه لله وأذعن وانصاع لأمر الله بأن له الأجر والثواب من الله، فالجنة لا يستحقها الناس بانتماءاتهم فقط، فالتسليم لله والإحسان والعمل الصالح هي سبيل الجنة، بعد رحمة رب العالمين.

  4. قولهم: نحن أبناء الله وأحباؤه.

    قال تعالى: ( ﭗﭘ ﭜﭝ ﭢﭣ ﭩﭪ ﭰﭱ ) [المائدة: ١٨].

    وهذا من غرور اليهود والنصارى أيضًا، فبعد أن بينا ادعاء كل منهما بأنه لن يدخل الجنة إلا من كان يهوديًّا أو نصرانيًّا هاهم يدعون أيضًا بأنهم أبناء الله وأحباؤه.

    يقول ابن عادل في تفسيره: «واعلم أن اليهود والنصارى لا يقولون ذلك، فلهذا ذكر المفسرون وجوهًا:

    أحدها: أن هذا من باب حذف المضاف، أي: نحن أبناء رسل الله، كقوله: ( ) [الفتح: ١٠].

    الثاني: أن لفظ الابن كما يطلق على ابن الصلب قد يطلق أيضًا على من يتخذ أبناء، بمعنى تخصيصه بمزيد الشفقة والمحبة، فالقوم لما ادعوا عناية الله بهم ادعوا «أنهم أبناء لله».

    الثالث: أن اليهود زعموا أن العزير (ابن الله)، والنصارى زعموا أن المسيح ابن الله، ثم زعموا أن العزير والمسيح كانا منهم كأنهم، قالوا: نحن أبناء الله. ألا ترى أن أقارب الملك إذا فاخروا أحدًا يقولون: نحن ملوك الدنيا. والمراد كونهم مختصين بالشخص الذي هو الملك، فكذا ها هنا.

    الرابع: قال ابن عباسٍ: إن النبي صلى الله عليه وسلم دعا جماعةً من اليهود إلى دين الإسلام، وخوفهم بعقاب الله تعالى، فقالوا: كيف تخوفنا بعقاب الله ونحن أبناء الله وأحباؤه؟! فهذه الرواية44إنما وقعت عن تلك الطائفة.

    وأما النصارى فإنهم يتلون في الإنجيل أن المسيح قال لهم: أذهب إلى أبي وأبيكم. وقيل: أرادوا أن الله تعالى كالأب لنا في الحنو والعطف، ونحن كالأبناء له في القرب والمنزلة» 45.

    وجاء الرد على ذلك الادعاء بأن يسألهم النبي صلى الله عليه وسلم ( ﭜﭝ)؟، سواءً العذاب الذي ذاقه آباؤكم من قبل في الدنيا، أو الذي تذوقونه أنتم من نفيٍ وقتلٍ وأسرٍ، أو الذي سينالكم يوم القيامة، كما أنكم بشرٌ كباقي البشر، والله وحده بيده الأمر يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء.

  5. قولهم: لن تمسنا النار إلا أيامًا معدودة.

    ظن اليهود أنهم أبناء الله وأحباؤه، فأصابهم الغرور والكبر، فتوهموا بأنهم لن يدخلوا النار إلا أيامًا معدودة وسيحاسبون فيها حسابًا يسيرًا، فغرهم هذا الوهم إلى أن يكتبوا الكتاب بأيديهم، ثم يقولون: إنه من عند الله كما غر الوهم فريقًا منهم حين دعوا إلى كتاب الله ليحكم بينهم فأعرضوا عنه وتولوا.

    ولقد ذكر الله سبحانه وتعالى ادعاءهم هذا بأن النار لن تمسهم إلا أيامًا معدودة أو معدودات في موضعين مختلفين، ففي سورة البقرة آية رقم ٨٠ وفي سورة آل عمران آية رقم ٢٤.

    واللافت للنظر أنه قد سبق كل آية من الآيتين السابقتين آية توضح إثمًا كبيرًا وفعلًا شنيعًا اقترفوه، فجاء التبرير لهذا الإثم والفعل بقولهم أن النار لن تمسهم إلا أيامًا معدودة أو معدودات.

    ففي سورة البقرة قال سبحانه: ( ﭵﭶ ﭿ ﮇﮈ ﮋﮌ ﮑﮒ ) [البقرة: ٧٩-٨٠].

    ذكر الواحدي في أسباب النزول: «عن ابن عباس، قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، واليهود تقول: إنما هذه الدنيا سبعة آلاف سنة، وإنما يعذب الناس في النار لكل ألف سنة من أيام الدنيا يومًا واحدًا في النار من أيام الآخرة، وإنما هي سبعة أيام ثم ينقطع العذاب، فأنزل الله تعالى في ذلك من قولهم ( ﮇﮈ)» 46.

    وفي سورة آل عمران قال سبحانه: ( ﭮﭯ ) [آل عمران: ٢٣-٢٤].

    يبين الله سبحانه وتعالى موقف فريق من الذين أوتوا حظًّا وجزءًا من التوراة حين يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولوا ويعرضوا عن ذلك، ولقد بين الإمام الطبري موقفهم حيث قال: «يعنـي جل ثناؤه بقوله: ( ) بأن هؤلاء الذين دعوا إلـى كتاب الله لـيحكم بـينهم بـالـحق فـيـما نازعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إنـما أبوا الإجابة إلى حكم التوراة وما فـيها من الـحق من أجل قولهم: ( ﭮﭯ) وهي أربعون يومًا، وهن الأيام التـي عبدوا فـيها العجل، ثم يخرجنا منها ربنا، اغترارًا منهم، ( ) يعني: بما كانوا يختلقون من الأكاذيب والأباطيل في ادعائهم أنهم أبناء الله وأحباؤه، وأن الله قد وعد أباهم يعقوب أن لا يدخل أحدًا من ولده النار إلا تـحلة القسم، فأكذبهم الله على ذلك كله من أقوالهم، وأخبر نبـيه محمدًا صلى الله عليه وسلم أنهم هم أهل النار، هم فيها خالدون، دون المؤمنين بالله ورسله وما جاءوا به من عنده» 47.

  6. البهتان العظيم على مريم.

    لقد كذبوا وافتروا وظلموا بقولهم على مريم زورًا، فلقد اتهموها بالزنا لولادتها لعيسى عليه السلام من غير أب، وما أسهل أن يلقوا بالتهم بهتانًا وإفكًا! حتى لو كان الأمر يتعلق بشرفاء القوم وأطهرهم، فهم لا يتورعون عن فعل ذلك، بسبب الكفر الذي تشربته نفوسهم.

    قال تعالى: ( ) [النساء: ١٥٦].

    يذكر السمرقندي في بحر العلوم: «وذلك أن مريم كانت متعبدة لله تعالى، ناسكة، اصطفاها الله تعالى بولد بغير أب فعيرها اليهود واتهموها، وقذفوها بيوسف بن ماثان، وكان يوسف خادم بيت المقدس، ويقال: كان ابن عمها. فأنزل الله تعالى إكذابًا لقولهم وبين بهتانهم، فقال: ( ) يعني: لعنهم الله وخذلهم بذلك» 48.

    ولقد برأ الله سبحانه وتعالى مريم عليها السلام بقوله: ( ) [التحريم: ١٢].

    كما وصفها الله سبحانه بأحسن الأوصاف، حيث صدقت وآمنت بكتب الله التوراة والإنجيل، وكانت من القانتات الطائعات العابدات، وأحصنت فرجها، وهي شهادة لها من رب العالمين.

  7. قولهم: إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم.

    قال تعالى: ( ﭿﮀ ﮇﮈ ﮋﮌ ﮐﮑ ) [النساء: ١٥٧].

    تأتي هذه الآية في سياق من الآيات في سورة النساء، من آية ١٥٣ والتي مطلعها قوله تعالى: ( ﮭﮮ)، حيث طلب اليهود من الرسول صلى الله عليه وسلم أن ينزل عليهم كتابًا من السماء، فواسى الله رسوله بذكره سبحانه لما فعله أجداد هؤلاء من بني إسرائيل من أفعال شنيعة، حيث طلبوا من موسى عليه السلام أكبر من ذلك، فقد طلبوا منه أن يريهم الله جهرة، كما عبدوا العجل من بعده، ورفع الله الطور فوقهم ونقضوا الميثاق، ولم يدخلوا الباب سجدًا، واعتدى فريق منهم يوم السبت الذي حرم عليهم، وكفروا بآيات الله، وقتلوا أنبياءه بغير حق، وقالوا قلوبنا غلف، وقالوا السوء على مريم عليها السلام.

    ثم يأتي بعد ذلك تفاصيل هذه الآية، حين قالوا: إنا قتلنا رسول الله عيسى بن مريم عليه السلام، كل هذه الأفعال والأقوال القبيحة المكفرة ذكرها الله؛ ليبين سبحانه للرسول صلى الله عليه وسلم ولأمة الإسلام من بعده حقيقة هؤلاء القوم.

    ثم يبين سبحانه حقيقة القتل الذي تفاخروا به بأنه لم يكن عيسى ابن مريم عليه السلام هو المقتول والمصلوب، ولكن شبه لهم بشخص آخر هو الذي قتل وصلب مكانه.

    وتفاصيل هذه القصة يذكرها ابن عطية في تفسيره بقوله: «واختلفت الرواة في هذه القصة وكيفيتها اختلافًا شديدًا، أنا أختصر عيونه، إذ ليس في جميعه شيء يقطع بصحته؛ لأنه لم يثبت عن النبي عليه السلام فيه شيء، وليس لنا متعلق في ترجيح شيء منه إلا ألفاظ كتاب الله، فالذي لا نشك فيه أن عيسى عليه السلام كان يسيح في الأرض ويدعو إلى الله، وكانت بنو إسرائيل تطلبه، وملكهم في ذلك الزمان يجعل عليه الجعائل، وكان عيسى قد انضوى إليه الحواريون يسيرون معه حيث سار، فلما كان في بعض الأوقات شعر بأمر عيسى، فروي أن أحد الحواريين رشي عليه فقبل الرشوة ودل على مكانه.

    فلما أحس عيسى وأصحابه بتلاحق الطالبين بهم دخلوا بيتًا بمرأى من بني إسرائيل، فروي أنهم عدوهم ثلاثة عشر، وروي ثمانية عشر، وحصروا ليلًا، فروي أن عيسى فرق الحواريين عن نفسه تلك الليلة ووجههم إلى الآفاق، وبقي هو ورجل معه ،فرفع عيسى وألقي شبهه على الرجل فصلب ذلك الرجل، وروي أن الشبه ألقي على اليهودي الذي دل عليه فصلب.

    وروي أن عيسى عليه السلام لما أحيط بهم قال لأصحابه: أيكم يلقى شبهي عليه فيقتل ويخلص هؤلاء وهو رفيقي في الجنة؟ فقال سرجس: أنا. وألقي عليه شبه عيسى، ويروى أن شبه عيسى عليه السلام ألقي على الجماعة كلها، فلما أخرجهم بنو إسرائيل نقص واحد من العدة، فأخذوا واحدًا ممن ألقي عليه الشبه حسب هذه الروايات التي ذكرتها، فصلب ذلك الشخص» 49.

    اليهود والعقوبات الإلهية

    ابتلى الله سبحانه وتعالى بني إسرائيل بالنعم والحسنات تارةً، وبالبلاء والسيئات تارةً أخرى، لعلهم يرجعون إلى الله ويتوبون إليه، ولعلهم يتبعون الطريق القويم طريق الهدى والنور، ولقد فرقهم الله في الأرض وشتتهم، فكان منهم الصالحون، وهم قليل، وكان أكثرهم فاسقين.

    يقول سبحانه: ( ﮟﮠ ﮥﮦ ) [الأعراف: ١٦٨].

    ولقد عاقبهم الله سبحانه على انحرافاتهم، ومن تلك العقوبات:

    أولًا: عقوبات دنيوية حلت بهم:

  1. أمرهم بقتل بعضهم بعضًا.

    الشرك بالله هو أعظم الظلم، ولقد ارتكب كثيرٌ من بني إسرائيل أعظم الظلم عندما عبدوا العجل من دون الله، وهذا الظلم العظيم جاء عوضًا عن الشكر الواجب عليهم، وخاصةً بعد أن شاهدوا بأعينهم كيف فرق الله البحر فأنجاهم وأغرق فرعون وجنوده، لذا كان العقاب عظيمًا ويتناسب مع عظم الظلم الذي ارتكبوه، ومع شدة هذا العقاب صاحبه توبة من عند الله.

    قال تعالى: ( ﮣﮤ ) [البقرة: ٥٤].

    وعن اقتران التوبة بالعقاب وشدة هذا العقاب، يقول السيوطي: «أخرج ابن أبي حاتم عن علي قال: قالوا لموسى: ما توبتنا؟ قال: يقتل بعضكم بعضًا. فأخذوا السكاكين فجعل الرجل يقتل أخاه وأباه وابنه حتى قتل منهم سبعون ألفًا، فأوحى الله إلى موسى: مرهم فليرفعوا أيديهم وقد غفر لمن قتل وتيب على من بقي»50.

    هكذا كان عقابهم من الله، ولأن الله تعالى هو التواب الغفار فلقد تاب الله على من بقي منهم على قيد الحياة وغفر لمن قتل في هذا العقاب.

  2. ضرب الذلة والمسكنة عليهم.

    أراد الله لهم العزة وأبوا إلا الذلة والهوان، أراد الله لهم العزة بأن نجاهم من استعباد فرعون وقومه، كما أراد الله لهم العزة بأن يدخلوا الأرض المقدسة، وأراد الله لهم العزة بأن فجر لهم من الحجر ماءً، وأنزل لهم المن والسلوى من غير تعب وزرع، فأبى بنو إسرائيل إلا الذلة والهوان والفاقة، بأن استبدلوا الذي هو أدنى من الطعام بالذي هو خير، وذلك عندما تذمروا من أكل طعام واحد، وطلبوا البقل والقثاء والثوم والعدس والبصل.

    قال تعالى: ( ﮰﮱ ﯚﯛ ﯡﯢ ﯪﯫ ﯵﯶ ) [البقرة: ٦١].

    أما عن الذلة والهوان والمسكنة التي أصابت بني إسرائيل فيعقب الدكتور محمد سيد طنطاوي بقوله: «إنَّ الذلة هوان تجيء أسبابه من الخارج، كأن يغلب المرء على أمره نتيجة انتصار عدوه عليه فيذل لهذا العدو، أما المسكنة فهي هوان ينشأ من داخل النفس نتيجة بعدها عن الحق، واستيلاء المطامع والشهوات عليها، وتوارث الذلة قرونًا طويلة يورث هذه المسكنة، ويجعلها كالطبيعة الثابتة في الشخص المستذل، ولقد عاش اليهود قرونًا وأحقابًا مستعبدين لمختلف الأمم، فأكسبهم هذا الاستعباد ضعفًا نفسيًا جعلهم لا يفرقون بين الحياة الذليلة والكريمة، بل إنهم ليفضلون الأولى على الثانية ما دامت تجلب لهم غرضًا من أغراض الدنيا، ومهما كثر المال في أيديهم فإنهم لا يتحولون عن فقرهم النفسي وظهورهم أمام الناس بمظهر البائس الفقير»51.

    والآية الثانية في القرآن الكريم التي ذكر فيها لفظا () و() هي قوله تعالى: ( ﮋﮌ ﮘﮙ ﮣﮤ ) [آل عمران: ١١٢].

    فاليهود على مر التاريخ وفي كل بقعة من بقاع الأرض هم قوم أذلاء مهانين من قبل الناس لسوء طبعهم وخلقهم، وهذا ما كتبه الله عليهم، إلا في حالتين، استثنى الله الذل عنهم بقوله (ﮋﮌ )، أي: بعهد من الله وعهد من الناس، فإرادة الله وحكمته قد تقتضي أن يعيش اليهود في فترة من الفترات الزمنية أو في بقعة من البقاع بغير الذل والهوان الذي كتب عليهم، كما أن من طبيعة اليهود أنهم يسعون دائمًا إلى أخذ العهد والأمان والنصرة من الناس، ومثال على ذلك ما حدث في القرن الماضي، حيث سعى اليهود إلى توقيع اتفاقيات ووعود مع الدول العظمى في ذلك الوقت كي تساعدهم على إنشاء وطن قومي لهم في فلسطين، فلقد وقع اليهود الاتفاقية الشهيرة المشئومة المسماة بوعد بلفور بتاريخ ٢ نوفمبر ١٩١٧م، حيث أبرم وزير الخارجية البريطاني في ذلك الوقت (آرثر بلفور) اتفاقية مع اليهود تنص على منح اليهود وطنًا قوميًّا في فلسطين.

    وهذا هو الحبل والعهد مع الناس الذي يسعى اليهود لتحقيقه، وبالإضافة إلى الذل الذي كتب عليهم فلقد باءوا بغضب من الله، وضربت عليهم المسكنة أيضًا، كل ذلك كان بسبب الأفعال الشنيعة التي ارتكبوها، من كفر بآيات الله، وقتل للأنبياء بغير حق.

  3. جعلهم قردة وخنازير.

    هذا جزاء الكبر والغرور والتمرد على رسل الله، أرادوا الاستعلاء فأخزاهم الله، ومسخهم على هيئة حيوانات دنيئة، فلقد ذكر أمر جعلهم قردة ثلاث مرات في القرآن الكريم، وفي مرة واحدة من هذه المرات الثلاث ذكر أمر جعلهم خنازير أيضًا.

    قال تعالى: ( ﮋﮌ ) [البقرة: ٦٥].

    وعن معنى خاسئين يقول السمرقندي: «يعني مبعدين من رحمة الله، وأصله في اللغة من البعد، يقال: خسأ الكلب إذا بعد، ويقال: «خاسئين» أي: صاغرين ذليلين» 52.

    وقال تعالى: ( ﭿ ) [الأعراف: ١٦٦].

    لما أبوا وعصوا أمر الله حق عليهم العذاب، يقول الشيخ محمد متولي الشعراوي: «لأن «العتو» كبرياء وإباء، فيعاقبهم الله بأن جعلهم كأخس الحيوانات فصيرهم أشباه القرود، كل منهم مفضوح السوءة، يسخر الناس منهم ويستهزئون بهم»53.

    وقال تعالى: ( ﭼﭽ ﭿ ﮈﮉ ﮋﮌ ) [المائدة: ٦٠].

    ذكر الخازن في تفسيره: «وقيل: إن مسخ القردة كان من أصحاب السبت من اليهود، ومسخ الخنازير كان في الذين كفروا بعد نزول المائدة في زمن عيسى عليه السلام، ولما نزلت هذه الآية عير المسلمون اليهود وقالوا لهم: يا إخوان القردة والخنازير. وافتضحوا بذلك»54.

    وهذا عقاب دنيوي استحقه كفار بني إسرائيل، فهم شٌٌّ مكانًا يوم القيامة في نار جهنم، وأضل الناس عن سواء السبيل والصراط المستقيم.

  4. التيه في الأرض.

    معنى التيه ورد في المعجم الوسيط أن (تاه تيهًا، وتيهًا، وتيهانًا: تكبر، فهو تائهٌ وتياهٌ، وتاه في الأرض ضل وذهب متحيرًا)55.

    يوضح العلامة المصطفوي معنى التيه في الأرض بقوله: «والتيه من الأرض ما يتحير فيه، وفي القرآن ( ) أي: يتحيرون، أي: يمشون متحيرين لا يدرون أين يقيمون ولا أين يتوجهون» 56.

    وعن تيه بني إسرائيل قال تعالى: ( ﭵﭶ ﭸﭹ ﭼﭽ ﭿ ) [المائدة: ٢٦].

    بعد الرد المخزي لبني إسرائيل على طلب سيدنا موسى عليه السلام عندما طلب منهم أن يدخلوا الأرض المقدسة جاء هذا العقاب القاسي، فلقد اشترطوا على سيدنا موسى عليه السلام أنه إذا خرج منها القوم الجبارون فإنهم سيدخلونها، بل إنهم قالوا قولتهم المخزية: ( )، فما كان من سيدنا موسى عليه السلام إلا أن دعا ربه بقوله( ﭪﭫ )، فاستجاب الله دعاءه، فحرم عليهم الأرض المقدسة أربعين عامًا، وكتب عليهم التيه في الأرض.

    يقول ابن جزي الغرناطي: «وحرم الله على جميع بني إسرائيل دخول تلك المدينة أربعين سنة، وتركهم في هذه المدة يتيهون في الأرض، أي: في أرض التيه، وهو ما بين مصر والشام، حتى مات كل من قال: ( ) ولم يدخلها أحد من ذلك الجيل إلا يوشع وكالب، ومات هارون في التيه، ومات موسى بعده في التيه أيضًا، وقيل: إن موسى وهارون لم يكونا في التيه، لقوله :( )» 57.

  5. بعث من يسومهم سوء العذاب إلى يوم القيامة.

    قال تعالى: ( ﮋﮌ ﮑﮒ ﮖﮗ ) [الأعراف: ١٦٧].

    يقول سيد قطب «فهو إذن الأبد الذي تحقق منذ صدروه، فبعث الله على اليهود في فترات من الزمان من يسومهم سوء العذاب، والذي سيظل نافذًا في عمومه، فيبعث الله عليهم بين آونة وأخرى من يسومهم سوء العذاب، وكلما انتعشوا وانتفشوا وطغوا في الأرض وبغوا جاءتهم الضربة ممن يسلطهم الله من عباده على هذه الفئة الباغية النكدة، الناكثة العاصية، التي لا تخرج من معصية إلا لتقع في معصية، ولا تثوب من انحراف حتى تجنح إلى انحراف»58.

    وبالفعل تعرض بنو إسرائيل ومن خلفهم اليهود لأشد أنواع العذاب والتنكيل عبر الزمان، وسأعرض هنا بعض حالات العذاب التي تعرضوا لها:

    انقض «سرجون» ملك آشور على مملكة إسرائيل سنة ٧٢١ق. م. فقتل الآلاف من رجالها، وأسر البقية منهم فرحلهم إلى ما وراء نهر الفرات59.

    • ٥٨٦ ق.م. حينما حاول الحاكم اليهودي أن ينقلب على البابليين هاجمه الملك البابلي الشهير (بختنصر) وهدم أسوار ومنازل أورشليم (القدس)، وأخذ من بقي من اليهود عبيدًا إلى بابل، وكانوا قرابة أربعين ألفًا، وهو ما يعرف عندهم «بالسبي البابلي» وهدم القدس وما فيها من معابد لهم، وسلب منهم التابوت مرة أخرى، ولاقى اليهود خلال وجودهم في بابل ألوان العذاب والهوان60.
    • في سنة ٣٢٠ ق.م. سار إليهم (بطليموس) خليفة الإسكندر، فهدم القدس، ودك أسوارها، وأرسل منهم مائة ألف أسير إلى مصر؛ لأنهم ثاروا عليه61.
    • استطاع القائد (تيتوس) الروماني سنة ٧٠م دخول القدس فدمرها بالكامل، وأخذ اليهود عبيدًا يباعون في روما62.
    • في فرنسا أمر لويس التاسع بإلغاء ثلث ما كان لليهود على رعاياه المسيحيين من الدين، ثم أصدر إرادة ملكية بحرق جميع كتبهم المقدسة63.
    • وفي سنة ١٣٢١م هاج عليهم الشعب في أواسط فرنسا، وذبحوا منهم عدادًا كبيرًا64.
    • وفي سنة ١٣٢٨ م جأر الشعب البريطانى بالشكوى من اليهود، فأصدر الملك إدوارد الأول أمرا بطرد اليهود من جميع البلاد البريطانية في غضون ثلاثة أشهر، إلا أن الشعب البريطانى لم يصبر على اليهود حتى تنقضي تلك المدة، بل أخذ يقتل منهم العشرات والمئات، وفي قلعة (بورك) التي احتمى بها عدد كبير من اليهود أحرق الإنجليز أكثر من خمسمائة يهودي، وقد اضطر الملك إلى ترحيلهم قبل انقضاء المدة لئلا يفتك الشعب بهم جميعا في كل مكان65.
    • في سنة ١٤٩٢م في عهد الملك (فرديناند) وزوجته (أيزابلا) وصلت موجة السخط على اليهود أقصاها لتغلغلهم في الحياة الأسبانية، واستيلائهم على اقتصادها وإشعالهم نار الخلافات الدينية بين الطوائف، فرأى الملك وزوجته أن خير وسيلة لوقاية البلاد من شرورهم هي طردهم من أسبانيا طردًا نهائيًّا66.
    • وفي سنة ١٥٤٠م هاجمهم باباوات الكنيسة الكاثوليكية في إيطاليا هجومًا عنيفًا، ثم ثار عليهم الشعب وطردهم، كل ذلك لأذاهم وسوء جوارهم وطباعهم67.
    • وفي أوائل القرن التاسع عشر حاول (نابليون) أن يستغلهم لبلوغ مطامعه، ولكنهم خانوه، فاحتقرهم وبطش بعدد منهم، وقال عنهم: «إنهم حثالات البشر وجراثيمه»68.
    • قتل اليهود بالآلاف في روسيا لغدرهم وخيانتهم، وذلك في ظل الحكم القيصري النصراني سنة ١٨٨١م وبعدها69.
    • وكان آخر ما لاقوه من عذاب وتقتيل وتشريد على يد «هتلر» ابتداء من توليه الحكم في ألمانيا سنة ١٩٣٣ إلى أن سقط حكمه سنة»١٩٤٥»70.

      هذا كله جزء من سوء العذاب الذي سلطه الله عليهم، عقاب سريع لهم في الدنيا، فالله سريع العقاب، وإنه لغفور رحيم لمن تاب منهم قبل يوم القيامة.

  6. تحريم أصناف من الطعام.

    كان الطعام كله حلالًا لبني إسرائيل من بعد سيدنا يعقوب عليه السلام ومن قبله أيضًا، إلا ما حرمه سيدنا يعقوب على نفسه لمرضٍ أصابه، فاجتنب لحوم الإبل وألبانها، وقد يكون الأمر بأن اقتدى بنو إسرائيل بسيدنا يعقوب بتحريم بعض الطعام، وقد لا يكون، لكن من المؤكد أن بني إسرائيل قد عوقبوا بتحريم بعض الطيبات بسبب ظلمهم وبغيهم.

    قال تعالى: ( ) [النساء: ١٦٠].

    بسبب الظلم كان التحريم، بسبب ظلمهم لأنفسهم، وظلمهم لأنبيائهم، وظلمهم لغيرهم من الناس بأكل أموال الناس بالباطل، واستباحتهم لأنفسهم بأخذ الربا وهو محرم عليهم، وبصدهم عن سبيل الله، حرم الله عليهم من الطيبات ما كان حلالًا لهم، وما كان ذلك إلا عقابًا منه سبحانه وتأديبًا لهم.

    وعن هذا التحريم يقول ابن كثير: «وهذا التحريم قد يكون قدريًّا، بمعنى أنه تعالى قيضهم لأن تأولوا في كتابهم وحرفوا وبدلوا أشياء كانت حلالًا لهم فحرموها على أنفسهم؛ تشديدًا منهم على أنفسهم، وتضييقًا وتنطعًا، ويحتمل أن يكون شرعيًا، بمعنى أنه تعالى حرم عليهم في التوراة أشياء كانت حلالًا لهم قبل ذلك»71.

    كما قال تعالى: ( ﭳﭴ ) [آل عمران: ٩٣].

    ذكر الواحدي في أسباب النزول: قوله تعالى: ( )
    قال أبو روق والكلبي: نزلت حين قال النبي صلى الله عليه وسلم: إنا على ملة إبراهيم، فقالت اليهود: كيف وأنت تأكل لحوم الإبل وألبانها؟! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: كان ذلك حلالًا لإبراهيم، فنحن نحله، فقالت اليهود: كل شيء أصبحنا اليوم نحرمه فإنه كان محرمًا على نوح وإبراهيم حتى انتهى إلينا. فأنزل الله عز وجل تكذيبًا لهم( )72.

    وهكذا بهت اليهود حين طلب منهم أن يأتوا بالتوراة حتى يبينوا مدى صدقهم، وهذا ما لم يحدث، فتبين كذبهم وافتضح أمرهم.

    ومما حرمه الله من الطيبات على بني إسرائيل كل ذي ظفر وشحوم البقر والغنم، قال تعالى: ( ﯩﯪ ﯺﯻ ﯾﯿ ) [الأنعام: ١٤٦].

    يقول صاحب صفوة التفاسير: ( ﯩﯪ) أي: وعلى اليهود خاصةً حرمنا عليهم كل ذي ظفر، قال ابن عباس: هي ذوات الظلف كالإبل والنعام، وما ليس بذي أصابع منفرجة كالبط والأوز، ( ) أي: وحرمنا عليهم أكل شحوم البقر وشحوم الغنم، ( ) أي: إلا الشحم الذي علق بالظهر منهما، ( )أي: الأمعاء والمصارين،( ﯺﯻ) كشحم الألية، والمعنى أن الشحم الذي تعلق بالظهور أو احتوت عليه المصارين أو اختلط بعظم كشحم الألية جائز لهم 73.

    وما كان ذلك الجزاء والعقاب إلا لبغيهم وظلمهم وعدوانهم، والله صادق فيما يقول، فمن أصدق من الله قولًا؟!

    ثانيًا: عقوبات دنيوية تنتظرهم:

  1. بعث من يسومهم سوء العذاب إلى يوم القيامة.

    تم ذكر «بعث من يسومهم سوء العذاب إلى يوم القيامة» في المطلب السابق المتعلق بالعقوبات الدنيوية التي حلت بهم، وتم تكراره في هذا المطلب أيضًا؛ لأن عقوبة بعث من يسومهم سوء العذاب هي من ضمن العقوبات التي تنتظرهم حتى يوم القيامة، حيث قال سبحانه: ( ﮋﮌ ﮑﮒ ﮖﮗ ) [الأعراف: ١٦٧].

  2. دخول عباد الله المؤمنين عليهم المسجد وإهلاكهم على أيديهم.

    قال تعالى: ( ﮋﮌ ﮛﮜ ﮰﮱ ﯕﯖ ﭔﭕ ﭘﭙ ) [الإسراء: ٤-٨].

    اختلفت أقوال المفسرين قديمًا وحديثًا بشأن تحديد مرتي الإفساد والعلو في الأرض اللتين ذكرهما الله سبحانه وتعالى في الآيات السابقة، ولقد أخبر الله سبحانه وتعالى بني إسرائيل في التوراة بأنهم سيفسدون في الأرض مرتين وسيعلون فيها علوًّا كبيرًا.

    والاختلاف بين المفسرين متعلق بزمني حدوث مرتي الإفساد، ففريق كبير من المفسرين ذهب إلى أن مرتي الإفساد والعلو قد وقعتا قبل الإسلام، ومن هؤلاء المفسرين: الطبري والزمخشري والبيضاوي وسيد قطب ومحمد سيد طنطاوي، واختلف هذا الفريق أيضًا بتحديد هاتين المرتين:

    فالمرة الأولى: قيل: هي تلك التي قتل فيها بنو إسرائيل زكريا عليه السلام. وقيل: مخالفتهم للتوراة وقتلهم لشعياء. وقيل: قتلهم للناس ظلمًا وتغلبهم على أموالهم. واتفق أغلب هذا الفريق على أن الذين سلطوا عليهم هم البابليون بقيادة نبوخذ نصر.

    أما المرة الثانية: فأغلب هؤلاء المفسرين ذهب إلى أن الإفساد الثاني كان بقتل بني إسرائيل ليحيى عليه السلام، وأن الذين سلطوا عليهم هم الرومان.

    كما ذهب فريق آخر من المفسرين إلى أن إحدى مرتي الإفساد والعلو قد حدثت قبل الإسلام، وأن المرة الثانية ستحدث بعده في المستقبل، وأنها لم تحدث إلى الآن، وأصحاب هذا الرأي هم من المعاصرين كالأستاذ بسام جرار، وخالد عبد الواحد صاحب كتاب «نهاية إسرائيل»، فقد ذهب هؤلاء إلى ما ذهب إليه الفريق الأول من المفسرين بشأن مرة الإفساد الأولى، وتسليط البابليين عليهم، ولكنهم اختلفوا معهم بشأن المرة الثانية، حيث اعتقدوا بأن المرة الثانية هي ما نعيشه الآن من فساد اليهود وإنشاء دولتهم الغاصبة «إسرائيل»، وأن الله سيبعث عليهم من يسوء وجوههم ويدخل المسجد الأقصى فاتحًا ومحررًا.

    كما ذهب فريق ثالث بالقول إلى أن مرتي الإفساد والعلو ستكونان بعد مجيء الإسلام، فالأولى ما كان في عهد النبي محمد صلى الله عليه وسلم من فسادٍ لأقوام اليهود الثلاثة في المدينة المنورة، وما اتخذه الرسول صلى الله عليه وسلم في حقهم من جلاء أو قتل، أما المرة الثانية فلقد اتفق أصحاب هذا الفريق مع أصحاب الفريق الثاني بما ذهبوا إليه من قول من أن الفساد الثاني لبني إسرائيل هو ما نشهده في عصرنا هذا، وأصحاب هذا الرأي هم من المعاصرين، كالشيخ محمد متولي الشعراوي، والدكتور فضل حسن عباس، والدكتور صلاح الخالدي.

    وهناك رأي مختلف للدكتور عمر سليمان الأشقر، حيث يرى أن الإفسادين سيقعان مرتين متتاليتين، وهما إفسادان يصحبهما علوٌّ عظيم.

    يقول الدكتور عمر سليمان الأشقر: «إن الجوس يعني أن العباد أولي البأس الشديد يدخلون ديار اليهود، ويتوسطون فيها، ويترددون بين مدنها وقراها، وليس معناه احتلالها وإخراج اليهود منها، وقد وقع هذا الجوس اليوم، فجاس عباد الله أصحاب البأس الشديد خلال ديار اليهود، وآذوا اليهود أذىً شديدًا، وقاموا بعمليات موجعة لليهود، وقد احتاج اليهود بعد إحداها أن يؤتى بالزعماء والرؤساء من غير اليهود كي يشدوا من أزر اليهود، لقد جاس عباد الله أولي البأس الشديد ديار اليهود، فقتلوا من اليهود ودمروا ونسفوا وأوقعوا باليهود رعبًا عظيمًا، فأقام اليهود حول أنفسهم سورًا عظيمًا ليحموا أنفسهم من ذلك الجوس، وهذا الجدار من الكرة التي حكى الله أنه سيردها على العباد الأقوياء.

    ولكن أنى للجدار أن يقي اليهود من بأس الجائسين، لقد انطلقت الصواريخ لتقوم بمتابعة الدور الذي كانوا يقومون به خلال الجوس في الديار، ومع رد الكرة لليهود يأتيهم سيل عظيم من مال الدول الصليبية الحاقدة على الإسلام والمسلمين، كما أمدهم الله بالبنين يفدون عليهم من شتى أنحاء العالم، وخاصة من الدول التي كانت تعرف بالاتحاد السوفيتي، وأهمها روسيا»74.

    ومع وجود هذا الخلاف الواضح إلا أنه ما من شك بأن زوال هذا الكيان الغاصب وانهزامه أمرٌ مسلمٌ به، وهذا ما أكده حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون، حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر أو الشجر: يا مسلم يا عبد الله، هذا يهودي خلفي، فتعال فاقتله. إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود)75.

    واتفق أغلب المفسرين المعاصرين -رغم خلافهم في تحديد مرة الإفساد الأولى- على أن وعد الآخرة لم يتحقق بعد، والمتمثل بقوله سبحانه: ( )[الإسراء:٧].

    يقول الشيخ محمد متولي الشعراوي: «وفي الآية بشارة لنا أننا سنعود إلى سالف عهدنا، وستكون لنا يقظة وصحوة نعود بها إلى منهج الله، وإلى طريقه المستقيم، وعندها ستكون لنا الغلبة والقوة، وستعود لنا الكرة على اليهود» 76.

    وعن معنى قوله سبحانه: ( )، يقول الإمام الرازي: «ويقال: ساءه يسوءه إذا أحزنه، وإنما عزا سبحانه الإساءة إلى الوجوه؛ لأن آثار الأعراض النفسية الحاصلة في القلب إنما تظهر على الوجه، فإن حصل الفرح في القلب ظهر الإشراق في الوجه، وإن حصل الحزن والخوف في القلب ظهر الكلوح والغبرة والسواد في الوجه»77.

    وهذا من هول المفاجأة التي ستحدث لهم، حيث تكون لهم جولة الغلبة وكرة النصر، والمدد بالأموال والبنين، والنفير الكثير، والكيد والهيمنة، وبينما هم ينعمون بهذه الحال إذ يبعث الله عليهم من يسوء وجوههم ويذلهم ويهينهم، بسبب العدوان والظلم والقتل والاعتداء على الحقوق والممتلكات والبلاد والعباد، كما تظهر علامات الخزي والذل على وجوههم بسبب رجوع المسجد الأقصى لأحضان الأمة الإسلامية وفقدانهم الهيمنة والسيطرة عليه.

    ومما يؤكد أن مرة الإفساد والعلو الثانية لم تحدث بعد قوله سبحانه: ( ﯿ ) [الإسراء: ١٠٤].

    ومعنى اسكنوا الأرض أي: كل الأرض، فلقد انتشر بنو إسرائيل في كل بقاع الأرض وتشتتوا بها، وهاهم الآن يجتمعون لفيفًا في أرض فلسطين، مختلطين من قبائل شتى، ويأتون من كل حدب وصوب، ومن شتى بلاد المعمورة.

    ثالثًا: عقوبات أخروية:

    حيث الجزاء الأوفى، والحساب النهائي، والعذاب الأبدي.

    فبعد كل تلك الانحرافات وما تبعها من عقوبات دنيوية حلت بهم أو ستحل بهم تأتي العقوبات الأخروية التي لا يقدرون عليها، ولا يطيقونها، وسنذكر منها:

  1. لا يكلمهم الله، ولا يزكيهم.

    قال تعالى: ( ﯔﯕ ) [البقرة: ١٧٤].

    يقول الشوكاني «( ) قيل: المراد بهذه الآية: علماء اليهود؛ لأنهم كتموا ما أنزل الله في التوراة من صفة محمد صلى الله عليه وسلم»78.

    ويقول الإمام الطبري: «يعني تعالى ذكره بقوله: ( ) أحبار اليهود الذين كتموا الناس أمر محمد صلى الله عليه وسلم ونبوته، وهم يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة، برشىً كانوا أعطوها على ذلك»79.

    فلقد كتم بعض علماء اليهود والنصارى صفات النبي محمد صلى الله عليه وسلم، والتي قد رأوها متحققة فيه عليه الصلاة والسلام ومنها خاتم النبوة الذي كان على كتفه الشريف، وقصة إسلام سلمان الفارسي تبين أن علماء اليهود والنصارى يعرفون صفات النبي الذي سيبعث، ولكن كثيرًا منهم أخفى ذلك.

    فسلمان رضي الله عنه كان باحثًا عن الحقيقة، فلقد تتلمذ على أيدي عدد من أساقفة النصارى، كما أورد الإمام أحمد في مسنده قصة إسلام سلمان رضي الله عنه، والتي رواها لعبدالله بن عباس رضي الله عنهما، نذكر منها قوله: (لحقت بصاحب عمورية، وأخبرته خبري، فقال: أقم عندي، فأقمت مع رجلٍ على هدي أصحابه وأمرهم، قال: واكتسبت حتى كان لي بقراتٌ وغنيمةٌ، قال: ثم نزل به أمر الله، فلما حضر قلت له: يا فلان، إني كنت مع فلانٍ، فأوصى بي فلانٌ إلى فلانٍ، وأوصى بي فلانٌ إلى فلانٍ، ثم أوصى بي فلانٌ إليك، فإلى من توصي بي؟ وما تأمرني؟ قال أي: بني، والله ما أعلمه أصبح على ما كنا عليه أحدٌ من الناس آمرك أن تأتيه، ولكنه قد أظلك زمان نبيٍ، هو مبعوثٌ بدين إبراهيم، يخرج بأرض العرب مهاجرًا إلى أرضٍ بين حرتين بينهما نخلٌ، به علاماتٌ لا تخفى، يأكل الهدية، ولا يأكل الصدقة، بين كتفيه خاتم النبوة، فإن استطعت أن تلحق بتلك البلاد فافعل)80.

    ولقد توعد الله سبحانه كل من يكتم شيئًا من الكتاب من أجل مال أو غرض من الدنيا توعده سبحانه بالعذاب الأليم، ولن يكلمه الله ولن يزكيه.

    وعن حكمة ذكر بطونهم بالذات يقول الثعالبي: «وفي ذكر البطن تنبيهٌ على مذمتهم؛ بأنهم باعوا آخرتهم بحظهم من المطعم الذي لا خطر له، وعلى هجنتهم بطاعة بطونهم، قال الربيع وغيره: سمىٰ مأكولهم نارًا؛ لأنه يؤول بهم إلى النار. وقيل: يأكلون النار في جهنم حقيقةً»81.

  2. في نار جهنم.

    قال تعالى: ( ﯖﯗ ) [البينة: ٦].

    توعد الله سبحانه الذين كفروا من اليهود والنصارى بنار جهنم خالدين فيها؛ لأنهم شر خلق الله، بكفرهم وعنادهم واستكبارهم، وعدم اتباعهم لما أنزل عليهم من الحق، فجحدوا وكفروا بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يكتفوا بذلك، بل عادوه ومن اتبعه، وحاربوهم وألبوا عليهم الأعداء والمشركين.

    رابعًا: عقوبات في الدارين:

    وهناك أنواع من العقاب تلازمهم في الدارين، أي: في الدنيا والآخرة، وهي:

  3. غضبٌ الله عليهم.

    قال الحسن المصطفوي: «وأما الغضب من الله العزيز فهو أيضًا شدة وحدة بمراتبها في قبال قبائح الأعمال ومظالم العباد ومساوئ الأخلاق والمعاصي، وفي الذين بدلوا نعمة الله كفرًا، وأخلوا فيما خلق وقدر»82.

    وهذه آيات توضح غضب الله سبحانه وتعالى على كفار بني إسرائيل، وعلى اليهود من بعدهم.

    قال تعالى: ( ﮋﮌ ﮘﮙ ﮣﮤ ) [آل عمران: ١١٢].

    وقال تعالى: ( ﭿ ﮀﮁ ﮅﮆ ) [البقرة: ٩٠].

    تكاثرت أعمال الكفر عند اليهود وتوالت وتتابعت، فاستوجبوا بذلك غضب الله ولعنته عليهم لعنة بعد لعنة، ولأن الكبر والغرور سبب كفرهم كان العقاب من الله الذل والإهانة في العذاب.

  4. لعنة الله عليهم.

    ويحقق الحسن المصطفوي معنى اللعن بقوله: «هو الإبعاد عن الخير والعطوف بعنوان السخط عليه، وهذا من الله تعالى إبعادٌ عن رحمته ولطفه، ومن الناس إبعاد عن رحمة الله تعالى بالدعاء عليه والمسألة من الله بسخطه وغضبه عليه»83.

    لقد استحق اليهود لعنة الله، فلقد لعنهم الله في أكثر من موضع في القرآن الكريم، لكفرهم بالقول والعمل.

    قال تعالى: ( ﯨﯩ ) [البقرة: ٨٨].

    يقولون بحق أنفسهم سوءًا، فهم لا يريدون أن يسمعوا الحقيقة التي تخالف هواهم، فكان عذرهم أن قلوبهم مغطاة مغلفة وفي أكنة، وهذا عذر أقبح من ذنب، فلقد استحقوا اللعنة لكفرهم وكبرهم وضلالهم.

    يقول الإمام الطبري: «يعنـي جل ثناؤه بقوله: ( ): بل أقصاهم الله وأبعدهم وطردهم وأخزاهم وأهلكهم بكفرهم وجحودهم آيات الله وبـيناته وما ابتعث به رسله، وتكذيبهم أنبـياءه، فأخبر تعالـى ذكره أنه أبعدهم منه ومن رحمته بـما كانوا يفعلون من ذلك، وأصل اللعن: الطرد والإبعاد والإقصاء، يقال: لعن الله فلانًا يـلعنه لعنا وهو ملعون، ثم يصرف مفعول فـيقال: هو لعينٌ» 84، واليهود ملعونون.

    وقال تعالى: ( ﮮﮯ ) [البقرة: ١٥٩].

    وهذا فعل آخر استوجب لعنة الله عليهم، ولعنة الملائكة والمؤمنين، فلقد كتم وأخفى علماء اليهود والنصارى ما أنزله الله سبحانه وتعالى في كتابه من إخبار بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وغير ذلك من الآيات البينات، ومن سبل الحق والهدى؛ فاستحقوا بذلك اللعن والطرد من رحمة الله.

  5. سخط الله عليهم.

    ويحقق الحسن المصطفوي معنى السخط بقوله: «هو ما يقابل الرضا، كما أن الغضب ما يقابل الرحمة، والكراهة ما يقابل الحب.

    قال تعالى: ( ) [محمد: ٢٨]»85.

    وقال المصطفوي أيضًا: «يمكن أن توجد الكراهة من دون أن يتحقق الغضب أو السخط، كما أن الغضب قد يوجد من دون تحقق السخط، فالسخط يلازم الكراهة والغضب مع فقدان الرضا، أي: هو ما يقابل الرضا» 86، ولقد سخط الله على اليهود حين جيشوا أهل مكة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: ( ﮋﮌ ﮍﮎ ) [المائدة: ٨٠].


1 بنو إسرائيل في القرآن والسنة، محمد سيد طنطاوي ص١٣.

2 فتح القدير، الشوكاني ١/٥١.

3 تاريخ الملل والنحل، أمين الخولي ٢/٤.

4 لسان العرب، ابن منظور ١٥/٣٩٧.

5 فتح القدير، الشوكاني ١/٥١.

6 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٦/١٨٩.

7 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٢٨/٢٠٢.

8 انظر: المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، محمد فؤاد عبد الباقي ص ٧٦٩.

9 انظر: لسان العرب، ١١/٢٨، القاموس المحيط، الفيروزآبادي ص٩٦٣، مقاييس اللغة، ابن فارس، ١/١٥٠.

10 القاموس المحيط، ص١٢٨.

11 انظر: المفردات، ١/٧٠١، المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، مجمع اللغة العربية، ص٩٤٩- ٩٥٠.

12 المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، ص٩٧.

13 انظر: المغني، ابن قدامة، ٩/٣٢٩.

14 الملل والنحل، الشهرستاني، ص٢٤٧.

15 انظر: المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، ص٥١، معجم اللغة العربية المعاصرة، ١/٩١.

16 التحرير والتنوير، ابن عاشور، ١/٤٥٠.

17 معالم التنزيل، البغوي ١/٩٠.

18 لباب التأويل ٢/٧٦.

19 انظر: جامع البيان، الطبري ٤/١٩٤.

20 أنوار التنزيل، البيضاوي ١/٣١٧.

21 جامع البيان ١٠/٤٥٢.

22 في ظلال القرآن، سيد قطب ٢/٩٢٩.

23 جامع البيان ١٤/٢٠١- ٢٠٢.

24 مفاتيح الغيب، الرازي ١٦/٢٧-٢٨.

25 الموسم: مجتمع الناس، في سوق أو في حج أو غيرهما.

26 جامع البيان ٨/٢٧٠.

27 جامع البيان ٢/٣٧٧.

28 المصدر السابق ٢/٣٥٠.

29 المصدر السابق ٢/٤٩٩.

30 في ظلال القرآن ١/٤١٤.

31 جامع البيان ٣/٢٤٩.

32 التفسير الوسيط، د. محمد سيد طنطاوي ٤/٢١٢.

33 اليهودية، أحمد شلبي ص٢٦٩.

34 زاد المسير، ابن الجوزي ١/١١٦.

35 التفسير الوسيط ٢/٢١٧-٢١٨.

36 فمع كل ما يمتلكه اليهود من معدات وتجهيزات تقنية وعسكرية لم يتمكن اليهود من الانتصار على أهل فلسطين في غزة وفي مرتين مختلفتين:

الأولى: ففي ٢٧ ديسمبر ٢٠٠٨م شن الاحتلال الصهيوني اليهودي حربه التي أسماها الرصاص المصبوب والتي استخدم فيها كل أنواع الأسلحة، بما فيها الأسلحة الفسفورية التي تصيب بحروق مؤلمة وقاتلة، ضد شعب أعزل وبحجة ضرب المجاهدين والقضاء عليهم، ولكن خيب الله ظنهم، وحربهم، فصمد المجاهدون الواثقون بنص الله، ومن ورائهم الشعب الصامد المتكل على الله، وأسموا هذه الحرب بحرب «الفرقان» أسوة بالغزوة الأولى لرسول الله صلى الله عليه وسلم «غزوة بدر» ١، وبعد ٢٢ يومًا من القصف والعدوان جر العدو ذيله خاسئًا منهزمًا بتوفيق من الله ثم بصمود المجاهدين الأبطال الذين أطلقوا قرابة الألف صاروخ وقذيفة ضد الأعداء، وقتلوا منهم قرابة الخمسين قتيلًا، مع الإشارة بأن الأذى الذي أصيب به الشعب الصامد كان ثقيلًا نوعًا ما، لكنه في سبيل الله يهون، فلقد سقط قرابة ١٥٠٠ شهيد، و قرابة ٥٥٠٠ مصاب، ومع هدم لعدد من البيوت والمساجد.

الثانية: فكانت في ١٤ نوفمبر ٢٠١٢ والتي أطلق عليها المجاهدون حرب «حجارة السجيل»، والتي سقط فيها قرابة ١٦٠ شهيدًا، وقرابة ١٢٠٠ مصاب خلال ثمانية أيام فقط، ولكن رد المجاهدين كان مزلزلًا، فلقد قصفت كتائب القسام لأول مرة في تاريخ الصراع مع المحتل مدينة «تل أبيب» وموقعًا صهيونيًا آخر في مدينة القدس المحتلة بصواريخ بعيدة المدى، كما قصف المجاهدون الأبطال مئات القذائف الصاروخية التي لم تتوقف منذ بدء العدوان، كما استهدفوا طائرات وبارجات حربية أيضًا.

المصدر: الموقع الإلكتروني للمركز الفلسطيني للإعلام.

37 التفسير الوسيط ١٤/٣٠٤-٣٠٥.

38 تفسير الشعراوي ٦/٣٢٧٢.

39 كفاحي، أودلف هتلر، المترجم: لويس الحاج ص٤١-٤٢.

40 تفسير القرآن العظيم ١/٢١٠-٢١١.

41 روح المعاني، الألوسي ١/٣٥٩.

42 لباب التأويل ١/٧٧.

43 جامع البيان ٢/٢٧٠.

44 عن ابن عباس قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم نعمان بن أضاء وبحري بن عمرو وشأس بن عدي، فكلموه، فكلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعاهم إلى الله وحذرهم نقمته، فقالوا: ما تخوفنا يا محمد!! نحن والله أبناء الله وأحباؤه!!، كقول النصارى، فأنزل الله جل وعز فيهم: ( )، إلى آخر الآية.

انظر: جامع البيان، الطبري ١٠/١٥١.

45 اللباب في علوم الكتاب، ابن عادل ٧/٢٦٢-٢٦٣.

46 أسباب نزول القرآن، الواحدي ص٣٠.

47 جامع البيان ٦/٢٩٢.

48 تفسير السمرقندي ١/٤٠٢.

49 المحرر الوجيز، ابن عطية ٢/١٣٤.

50 الدر المنثور، السيوطي ١/١٦٩.

51 التفسير الوسيط ١/١٥٣.

52 تفسير السمرقندي ١/١٢٦.

53 تفسير الشعراوي ٨/٤٤١٢.

54 لباب التأويل ٢/٦٩.

55 المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية ص٩٢.

56 التحقيق في كلمات القرآن الكريم، حسن المصطفوي ١/٤٣٩.

57 التسهيل لعلوم التنزيل، ابن جزي ١/٢٣٢.

58 في ظلال القرآن ٣/١٣٨٦.

59 التفسير الوسيط ٥/٤١٥-٤١٦.

60 اليهود الموسوعة المصورة، طارق السويدان ص٥٣.

61 التفسير الوسيط ٥/٤١٦.

62 اليهود الموسوعة المصورة ص٥٧.

63 تاريخ الإسرائيليين، شاهين مكاريوس ص٨٢.

64 المصدر السابق ص٨٣.

65 التفسير الوسيط ٥/٤١٧.

66 المصدر السابق ٥/٤١٩.

67 اليهود الموسوعة المصورة ص٦٢.

68 التفسير الوسيط ٥/٤١٨.

69 اليهود الموسوعة المصورة ص٦٣.

70 التفسير الوسيط ٥/٤٢٠.

71 تفسير القرآن العظيم ٢/٤١٥.

72 أسباب نزول القرآن ص١١٨.

73 صفوة التفاسير، الصابوني ١/٤٢٦.

74 وليتبروا ما علوا تتبيرا، عمر الأشقر ص١٦٥.

75 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيتمنى أن يكون مكان الميت من البلاء، ٤/٢٢٣٩، رقم ٢٩٢٢.

76 تفسير الشعراوي ١٤/٨٣٦٣.

77 مفاتيح الغيب ٢٠/١٦٠.

78 فتح القدير ١/١٧١.

79 جامع البيان ٣/٣٢٧.

80 أخرجه أحمد في مسنده، ١٠/٥٦٦١، رقم ٢٤٢٣٤.

81 الجواهر الحسان، الثعالبي ١/١٣١.

82 التحقيق في كلمات القرآن الكريم ٧/٢٨٣.

83 المصدر السابق ١٠/٢٢٣.

84 جامع البيان ٢/٣٢٨.

85 التحقيق في كلمات القرآن الكريم ٥/٩٤.

86 المصدر السابق ٥/٩٤.