عناصر الموضوع
يونس عليه السلام
أولًا: اسمه ونسبه عليه السلام:
هو «يونس بن متى بن إيحان بن بانومر بن عوريا بن معققا بن أمصيا بن نواسر بن حزالي بن يهورم بن يوسقط بن أسا بن راخيعم بن سليمان بن داود بن أتسي بن عويد بن عمى ناذب بن رام بن حضرون بن قارص بن يهوذا بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليه السلام»1.
واسمه في العبرانية: (يونان بن أمتاي)، وهو من سبط (زبولون)، ويجوز في نونه في العربية الضم (يونس)، والفتح (يونس)، والكسر (يونس).
ولد في بلدة (غاث إيفر) من فلسطين. وهو أحد عباد بني إسرائيل وزهادهم2. أرسله الله تعالى إلى أهل (نينوى) من بلاد آشور، وهي على شاطئ دجلة من أرض الموصل3. وكان أهلها يومئذٍ خليطًا من الآشوريين واليهود الذين كانوا في أسر الآشوريين، ولما دعاهم إلى الإيمان أبوا، وتوعدهم بالعذاب، ولكنَّ تحقق العذاب تأخر عنهم، فخرج مغاضبًا، وذهب إلى (يافا)، فركب سفينة للفينيقيين؛ لتذهب به إلى (ترشيش)، وهي مدينة غرب فلسطين إلى غربي صور، وهي على البحر، وأقرب ما قيل فيها: إنها من مراسي برقة في تونس؛ لأنه قيل في تاريخ تونس: إن اسمها كان قبل الفتح الإسلامي لها ترشيش. وعندما كان يونس عليه السلام في السفينة هال البحر عليها، فثقلت، وخاف الناس غرقها، فاقترعوا، وكان يونس عليه السلام ممن خاب في القرعة، فرمي في البحر، والتقمه الحوت، فنادى يونس عليه السلام: (ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ) [الأنبياء: ٨٧].
فاستجاب الله تعالى له، وأرسله مرة أخرى إلى أهل نينوى، وآمنوا، وكان عددهم يزيد على مائة ألف4.
وذكره الله عز وجل في القرآن الكريم باسمه (يونس) في أربعة مواضع5، وهي كالآتي: قوله تعالى: (ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨﭩ ﭪ ﭫ ﭬ) [النساء: ١٦٣].
وقوله تعالى: (ﮑ ﮒ ﮓ ﮔﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ) [الأنعام: ٨٦].
وقوله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ) [يونس: ٩٨].
وقوله تعالى: (ﮋﮌ ﮍ ﮎ) [الصافات: ١٣٩].
كما ذكره بلقبه (ذي النون) مرة واحدة، في قوله تعالى: (ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ) [الأنبياء: ٨٧].
وذكره أيضًا بـ (صاحب الحوت) مرة واحدة في قوله تعالى: (ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ) [القلم: ٤٨].
وفي سبب تسمية يونس عليه السلام بلقب ذي النون قولان:
الأول: بمعنى صاحب الحوت؛ لابتلاعه له، فالنون من أسماء الحوت.
الثاني: إن يونس عليه السلام رأى صبيًّا مليحًا، فقال: دسموا نونته6؛ لئلا تصيبه العين، أي: سودوها7.
ثانيًا: زمانه عليه السلام:
بعث الله تعالى يونس عليه السلام إلى أهل نينوى عاصمة الآشوريين بعد خراب بيت المقدس، وذلك في حدود القرن الحادي عشر قبل الهجرة8، فكانت مدته في أول القرن الثامن قبل الميلاد9.
وورد في تحديد وترتيب نبوته بين الأنبياء والرسل قول هشام بن محمد بن السائب عن أبيه: «أول نبيٍ بعثه الله -تبارك وتعالى- في الأرض إدريس واسمه أخنوخ، ثم انقطعت الرسل حتى بعث الله نوح بن لمك بن متوشلخ بن أخنوخ، وقد كان سام بن نوحٍ نبيًّا، ثم انقطعت الرسل حتى بعث الله إبراهيم نبيًّا واتخذه خليلًا، وهو إبراهيم بن تارخ واسم تارخ آزر، ثم بعث إسماعيل بن إبراهيم فمات بمكة، ثم إسحاق بن إبراهيم فمات بالشام، ثم لوطٌ وإبراهيم عمه، ثم يعقوب وهو إسرائيل بن إسحاق، ثم يوسف ابن يعقوب، ثم شعيب بن يوبب، ثم هود بن عبد الله، ثم صالح بن أسف، ثم موسى وهارون ابنا عمران، ثم أيوب ثم الخضر وهو خضرون، ثم داود بن إيشا، ثم سليمان بن داود، ثم يونس بن متى، ثم إلياس، ثم ذا الكفل واسمه عويدنا من سبط يهوذا ابن يعقوب، قال: وبين موسى بن عمران ومريم بنت عمران أم عيسى ألف سنةٍ وسبعمائة سنةٍ وليسا من سبطٍ، ثم محمد بن عبد الله بن عبد المطلب النبي صلى الله عليه وسلم»10.
ثالثًا: مكانته عليه السلام:
إن ليونس عليه السلام مكانة رفيعة عند الله عز وجل، فقد ذكره الله تعالى في جملة الأنبياء الكرام، فقال الله عز وجل: (ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨﭩ ﭪ ﭫ ﭬ) [النساء: ١٦٣].
والمعنى: أن الله عز وجل أوحى إلى محمد صلى الله عليه وسلم من الحجج والآيات الدالة على صدق نبوته ورسالته، كما أوحى إلى النبيين المذكورين في الآية، ومن جملتهم نبي الله يونس عليه السلام، وخصه الله تعالى بالذكر مع دخوله في عموم لفظ (النبيين)؛ تشريفًا له، وإظهارًا لفضله، هو وسائر الأنبياء المسمون بأسمائهم11. ويذكر السعدي رحمه الله في سبب تخصيص هؤلاء الأنبياء -الذين منهم يونس- عليه السلام بالذكر، فقال: «وفي ذكر هؤلاء الرسل وتعدادهم في التنويه بهم، والثناء الصادق عليهم، وشرح أحوالهم مما يزداد به المؤمن إيمانًا بهم، ومحبة لهم، واقتداءً بهديهم، واستنانًا بسنتهم، ومعرفة بحقوقهم فكلُّ محسن له من الثناء الحسن بين الأنام بحسب إحسانه، والرسل -وخصوصًا هؤلاء المسمون- في المرتبة العليا من الإحسان»12.
كما أثنى الله عز وجل على يونس عليه السلام، ومدحه بتفضيله على عالم زمانه بالنبوة والرسالة13، فقال تعالى: (ﮑ ﮒ ﮓ ﮔﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ) [الأنعام: ٨٦].
كما أثنى جلَّ جلاله عليه في قوله: (ﮋﮌ ﮍ ﮎ) [الصافات: ١٣٩].
فهو من جملة الأنبياء والرسل الذين بعثهم الله تعالى لدعوة الناس إلى توحيده عز وجل، وإفراده وحده بالعبادة.
كما أثنى الله عز وجل عليه بقوله: (ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ) [القلم: ٥٠].
أي: استخلصه واصطفاه لدعائه، واختاره لنبوته، فجعله من الكاملين في الصلاح، وعصمه من الذنب، وهذا الاجتباء كان بعد التقام الحوت له -كما سيأتي بيانه لاحقًا-، حيث رد إليه نبوته، وقبل توبته، وأرسله إلى مائة ألف أو يزيدون14.
هذا وقد مدح نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يونس عليه السلام، فقال: (لا ينبغي لعبدٍ أن يقول: أنا خيرٌ من يونس بن متى)15، وقال الإمام ابن حجر العسقلاني في شرحه للحديث: «خص يونس بالذكر لما يخشى على من سمع قصته أن يقع في نفسه تنقيصٌ له، فبالغ في ذكر فضله؛ لسد هذه الذريعة»16.
وعليه فلا ينبغي لأحد من الناس أن يتصور نقصًا في شخصية يونس عليه السلام، فما تعرض له من عقوبة دنيوية متمثلة في التقام الحوت إياه، إنما كان لسببٍ وحكمةٍ ستظهر في ثنايا هذا البحث إن شاء الله تعالى.
ذكر يونس عليه السلام في القرآن الكريم
ورد ذكر يونس عليه السلام في القرآن الكريم (٤) مرات، في (٤) سور.
وقد سميت سورة من سور القرآن الكريم باسمه: سورة يونس.
وأما قصته عليه السلام فقد وردت في السور الآتية:
السورة |
الآيات |
يونس |
٩٨ |
الصافات |
١٣٩-١٤٨ |
ذكرنا أنَّ الله تعالى فضَّلَ يونس عليه السلام على عالم زمانه، وكلفه بالنبوة، وخصه بالذكر مع جملة من الأنبياء الكرام سموا بأسمائهم من باب التشريف لهم، وبيان فضلهم.
قال الله عز وجل: (ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ) [النساء: ١٦٣-١٦٥].
والمعنى: أنَّ الله تعالى قد أوحى إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بتكليفه بالنبوة، ودعوة الناس إلى العقيدة الصحيحة المتمثلة في توحيد الله عز وجل، وإفراده وحده بالعبادة دون غيره من الأصنام والأوثان، فهذه العقيدة نفسها هي التي أوحى الله تعالى بها إلى جميع الأنبياء السابقين من: نوح، وإبراهيم، وإسماعيل، وإسحاق، ويعقوب، والأسباط، وعيسى، وأيوب، ويونس، وهارون، وسليمان، وداود، وموسى عليهم السلام أجمعين، كما أوحى بهذه العقيدة إلى غيرهم من الرسل الذين ذكر الله تعالى أخبارهم لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وكذلك أوحى إلى رسلٍ آخرين لم يخبره بأحوالهم.
ثمَّ بيَّنَ الله عز وجل مهمة هؤلاء الأنبياء والرسل، فهم يبشرون الطائعين بالجنة، وينذرون العاصين بالنار. ثم ذكر الله تعالى الحكمة التي من أجلها أرسل هؤلاء الأنبياء والرسل وبعثهم، وهي متمثلة في قطع الحجة على من يقول: لو أرسل إلي رسول لآمنت وأطعت. فقطع الله تعالى حجة البشر هذه بإرسال الرسل، وإنزال الكتب السماوية معهم؛ لتدلهم على المنهج السديد، والطريق المستقيم الذي يجب أن يسير عليه البشر؛ ليصلوا إلى الله جل جلاله، فيفوزوا برضوانه وجنانه، وكان الله تعالى ولا يزال عزيزًا في ملكه، وحكيمًا في صنعه17.
ويتبين من هذا أن رسالات الأنبياء في القواعد والأصول العامة للعقيدة والأخلاق هي واحدة لا تتغير، ولا تتبدل، فالأنبياء جميعًا متعاونون متناصرون فيما بينهم، كلٌّ منهم يكمل رسالة أخيه النبي السابق في الدعوة إلى التوحيد.
ومن الملاحظ أن القرآن الكريم لم يشر إلى حوار دعوي دار بين يونس عليه السلام وقومه، بل اكتفى ببيان أن يونس عليه السلام من جملة الأنبياء والمرسلين، فقال الله عز وجل: (ﮋﮌ ﮍ ﮎ) [الصافات: ١٣٩].
ومعلومٌ أن مهمة المرسلين هي تبليغ دعوة الله تعالى إليهم، وأنهم يبشرون من أطاع الله تعالى، واتبع رضوانه بالخيرات، وينذرون من خالف أمره، وكذب رسله بالعقاب والعذاب. فيونس عليه السلام عندما أرسله الله تعالى إلى قومه، دعاهم إلى توحيد الله جل جلاله، ونبذ ما كانوا عليه من شرك، وعبادة للأصنام. ففي دعوته حاول إخراجهم من ظلمات الشرك والمعصية إلى نور التوحيد والطاعة، وإنقاذهم من براثن الجهل والعمى إلى نور الهداية والإيمان.
بعث الله عز وجل يونس عليه السلام إلى الآشوريين الذين أسسوا حضارة عظيمة عرفت باسمهم، ونسبت إليهم، ويقع موطنهم حول نهر دجلة في العراق، ولهم مدن كثيرة ومشهورة، منها مدينة نينوى التي هي بلد نبي الله يونس عليه السلام، كما ورد في سيرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم حين ذهب إلى الطائف يدعو أهلها قبيلة ثقيف إلى الإسلام، كما يلتمس النصرة منهم، لكن قبيلة ثقيف قابلوا النبي صلى الله عليه وسلم، وردوا عليه بكل غلظة وقسوة وجفاء.
حينئذٍ طلب منهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يكتموا خبر مقدمه صلى الله عليه وسلم إليهم عن قريش، ولكنهم لم يجيبوه أيضًا إلى ذلك، فلم يكن منهم إلا أن طلبوا من سفهائهم، وعبيدهم، وصبيانهم أن يسبوا النبي صلى الله عليه وسلم، ويضربوه بالحجارة، حتى أدموا قدميه الشريفتين، وكان زيد رضي الله عنه يقيه ويحميه بنفسه حتى شج هو في رأسه عدة شجاج.
ولما بلغ التعب والنصب من النبي صلى الله عليه وسلم مبلغه، ذهب ليستظل تحت شجرة عنب، وكان ابنا ربيعة ينظران إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يشكو إلى الله تعالى ما ألم به، فتحركت الشفقة في قلبي ابني ربيعة، فبعثا غلامًا نصرانيًّا لهما يدعى عداس؛ ليرسل إليه قطفًا من عنب.
فلما وضع عداس العنب بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: بسم الله، ثم أكل، فتعجب عداس من النبي صلى الله عليه وسلم، وقال له: والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم: من أي البلاد أنت؟ وما دينك؟ فأجاب عداس: أنا رجل نصراني من نينوى، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من قرية الرجل الصالح يونس بن متى؟ فسأل عداس: وما يدريك ما يونس بن متى؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذلك أخي، كان نبيًّا، وأنا نبيٌّ، فما كان من عداس إلا أن أكب على قدمي النبي صلى الله عليه وسلم الشريفتين اللتين تدميان مما فعله به صبيان بني ثقيف، وقبلهما، وقبل رأسه الشريفة، ويده الشريفة18.
ونعود إلى نينوى التي هي مدينة آشورية، وتعتبر من قرى مدينة الموصل العراقية الحالية، وقامت حضارة الآشوريين على القسوة والظلم والحرب، فكانوا يأخذون الجزية من جيرانهم، ويبسطون نفوذهم على الشعوب المجاورة لهم. هذا عن الحالة السياسية والاجتماعية، أما عن حالتهم الدينية، فكانوا يعبدون الأصنام التي كانوا يصنعونها بأيديهم، وأطلقوا عليها أسماء مدنهم، فجعلوا الصنم الأكبر، الذي يدعونه إلههم، هو آشور، وبه يسمى مليكهم، وكانوا يتوجهون بالعبادة وألوانها إلى الملك آشور، كما كانوا يتقربون إليه بالعطايا الجزيلة؛ ليمنحهم رضا الرب، فيسيرون على ما يأمرهم به، وما ينهاهم عنه19.
هذه طبيعة القوم الذين أرسل إليهم يونس عليه السلام، والذي من الطبيعي أن يدعوهم إلى إفراد الله تعالى بالعبادة، ونبذ ما هم عليه من الشرك والظلم والعدوان. ولكن ذكرنا سابقًا أن موطن يونس عليه السلام كان في فلسطين، فمتى كلفه الله عز وجل بالنبوة إلى هؤلاء القوم؟ وهل كان هذا التكليف قبل ابتلاع الحوت إياه؟ أم بعده؟
فاختلف أهل التفسير في هذه المسألة المتمثلة في قوله: عز وجل (ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ) [الأنبياء: ٨٧].
اختلفوا بناءً على معنى (ﮒ) على قولين:
القول الأول: إن يونس عليه السلام لما كان يسكن هو وقومه في فلسطين، غزاهم ملك، وسبى منهم تسعة أسباط ونصف، وبقي سبطان ونصف، ومعلومٌ أن بني إسرائيل كانوا اثني عشر سبطًا، وكان الله تعالى أوحى إليهم أنه إذا أسركم عدوكم، أو أصابتكم مصيبة، فادعوني أستجب لكم، ولكنهم نسوا هذا، فأسروا.
فأوحى الله تعالى إلى نبي من أنبيائهم أن يذهب إلى الملك حزقيل، ويطلب منه أن يوجه ويرسل نبيًّا قويًّا أمينًا إلى هؤلاء الغزاة الآشوريين -الذين تم الحديث عنهم قبل قليل-؛ ليخلص منهم بني إسرائيل، ويعود بهم.
فطلب الملك مشورة ذلك النبي في النبي الذي سوف يرسله، فأشار عليه بيونس عليه السلام، عندئذٍ أرسل الملك إلى يونس عليه السلام ليطلب منه الذهاب لتخليص بني إسرائيل من الأسر، فقال يونس عليه السلام: هل أمرك الله تعالى بإرسالي إليهم؟ قال الملك: لا، فقال يونس عليه السلام: فهل سماني لك؟ قال: لا، فرد يونس عليه السلام: فههنا أنبياء غيري، فألحوا عليه حتى خرج مغاضبًا للملك، فوصل بحر الروم، فوجد قومًا يهيئون أنفسهم للركوب في السفينة، فركب معهم.
وأثناء سير السفينة في البحر، فإذا بالرياح تهيج بالسفينة، فتتلجلج وتضطرب، وكادت السفينة تغرق، فقال رئيس القوم: إن في السفينة رجلًا عاصيًا، أو عبدًا آبقًا؛ لأننا لم نعهد على السفينة هذا الاضطراب إلا وفيها رجل عاصٍ، وإذا كان هذا فإننا نقترع، فمن تقع عليه القرعة، فإنه يلقى في البحر، فغرق رجل واحد خير من غرق السفينة بمن فيها.
فاقترعوا ثلاث مرات، وفي كل مرة كانت القرعة تخرج على يونس عليه السلام، فقال يونس عليه السلام: أنا الرجل العاصي، والعبد الآبق، وألقى بنفسه في البحر فابتلعه الحوت.
وبعد نبذ الحوت له، أمره الله تعالى أن يذهب إلى هؤلاء القوم، فأتاهم، وأخبر ملكهم أن الله تعالى أرسله إليهم؛ ليرسل معه بني إسرائيل الذين سباهم، ووقعوا في أسره، فقال له: ما نعرف ما تقول، ولو علمنا أنك صادق لفعلنا، ولقد أتيناكم في دياركم، وسبيناكم، فلو كان كما تقول، لمنعنا الله عنكم.
فظل يونس عليه السلام ثلاثة أيام يدعوهم إلى أن يخلوا أسر بني إسرائيل، فرفضوا وأبوا، فأوحى الله تعالى إليه أن يبلغهم أنهم إذا لم يؤمنوا فسيوقع عليهم العذاب، فبلغهم، وأبوا مرة أخرى، فخرج يونس عليه السلام من عندهم.
فلما فقدوه ندموا على فعلتهم هذه، فانطلقوا يبحثون عنه فلم يجدوه، ولم يعثروا عليه، ثم ذكروا أمره لعلمائهم، فقال العلماء لهم: انظروا في طلبه، فإن كان في المدينة، فخبر إنزال العذاب عليكم ليس بصحيح، وإن كان خارج المدينة، فخبره إنزال العذاب عليكم صحيح.
فلما بحثوا عنه مرة أخرى، قيل لهم: إنه خرج من المدينة بالعشي. عندئذٍ آيس القوم من العثور عليه، فأغلقوا أبواب المدينة، وجلسوا ينتظرون الصبح، فلما انشق الصبح ورأوا العذاب ينزل عليهم من السماء، شقوا جيوبهم، ووضعت الحوامل ما في بطونها، وصاح الصبيان، وثغت الأغنام والأبقار، فرفع الله تعالى عنهم العذاب، فبعثوا إلى يونس عليه السلام، فآمنوا به، وبعثوا معه بني إسرائيل20.
ويلاحظ من هذا القول أن يونس عليه السلام خرج من المدينة مغاضبًا مرتين:
الأولى: عندما غاضب الملك حزقيل.
والثانية: بعدما رفض قومه دعوة الله عز وجل، وخوفهم بعذاب الله تعالى، فيكون غضبه من أجل الله تعالى.
وبناءً على هذا القول، كان تكليف يونس عليه السلام بالرسالة إلى قومه بعد نبذ الحوت له.
القول الثاني: إن يونس عليه السلام عندما كلف بالرسالة إلى أهل نينوى، وبلغهم دعوة الله عز وجل، كذبوه، ورفضوا قبول دعوته، وهددهم يونس عليه السلام بعذاب الله تعالى إن لم يستجيبوا، فلما كشف عنهم العذاب، ورفع بعدما توعدهم به، خرج مغاضبًا.
وعلى هذا القول يكون معنى غضب يونس عليه السلام من أجل الله عز وجل21.
ويكون المعنى المناسب لقوله تعالى في حقِّ الأنبياء المعصومين من الخطأ (ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ) -على اختلاف القولين- كما قال الزحيلي في تفسيره: «أي: ظنَّ أننا لن نلزمه بالذهاب إلى القوم الذين أرسل إليهم، ولا نلجئه إلى تبليغ رسالة الله تعالى إليهم، والمراد أنه تأول الأمر، وهو أمر الذهاب إلى قومه على أنه أمر إرشاد لا أمر وجوب، ولا إثم في مخالفته»22.
وذكر العلماء ثلاثة أسباب في غضب يونس عليه السلام من قومه وخروجه من المدينة، وهي كالآتي:
الأول: أن يونس عليه السلام توعد قومه بالعذاب، ولكن الله تعالى رفعه عنهم. فكأن يونس عليه السلام قد أخبرهم خبرًا كاذبًا، فاستحى أن يكون بين قوم جربوا عليه كذبًا، فخرج لهذا السبب.
الثاني: أنه كان من عادة القوم قتل الكاذب؛ ولذلك خرج23.
الثالث: أن يونس عليه السلام عندما أخبرهم أن العذاب نازل عليهم بعد مدة، فلما أشرفت المدة على الانتهاء تابوا وآمنوا، فخرج غضبانًا من عدم تحقق ما أنذرهم به24.
وبما أنَّ الله عز وجل لم يخبرنا عن السبب الحقيقي لغضب يونس عليه السلام، فهذا يعني أنه ليست هناك فائدة تعود علينا من ذكره لنا، ولكن المهمَّ أن يونس عليه السلام أحدث ذنبًا، فعاقبه الله تعالى عليه بالتقام الحوت إياه.
وبعد هذه الإطالة، فإن أكثر العلماء ذهبوا إلى أن غضب يونس عليه السلام كان بعد أن أرسله الله تعالى إليهم، فعاقبه الله عز وجل هذه العقوبة الدنيوية، وجعل الحوت يلتقمه25.
وأشار القرآن الكريم إلى هذا المعنى في قوله عز وجل: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ) [يونس: ٩٨].
والمعنى: أنه لم تكن هناك قرية آمن أهلها عند معاينتهم العذاب، ورؤيتهم إياه بأم أعينهم، فينفعهم إيمانهم هذا إلا قوم يونس عليه السلام، فإنهم آمنوا عند رؤيتهم العذاب الذي توعدهم به نبيهم يونس عليه السلام، وأخبرهم أنه آتيهم بعد ثلاثة أيام، ومع ذلك لم يستجيبوا، فلما رأوا العذاب نازلًا عليهم، تابوا، وتضرعوا إلى الله تعالى، وآمنوا.
فكشف الله تعالى هذا العذاب عنهم في الدنيا، ونفعهم هذا الإيمان؛ لأنَّ الله عز وجل علم إخلاصهم وصدقهم في هذا الإيمان، وأنه لم يكن لمجرد رفع العذاب عنهم، والعودة إلى ما كانوا عليه من شرك وضلال، ثم متعهم الله تعالى بالحياة الدنيا مع إيمانهم إلى حين انقضاء آجالهم التي كتبها الله عز وجل عليهم26.
واختلف العلماء في قوم يونس عليه السلام هل رأوا العذاب عيانًا أم لا؟ على رأيين:
الرأي الأول: ذكر الزجاج أن العذاب لم يقع بهم، إنما رأوا العلامة التي تدل على العذاب، ولو رأوا عين العذاب لما نفعهم الإيمان27.
وعقب القرطبي على كلام الزجاج قائلًا: «قلت: قول الزجاج حسنٌ، فإن المعاينة التي لا تنفع التوبة معها هي التلبس بالعذاب كقصة فرعون؛ ولهذا جاء بقصة قوم يونس على أثر قصة فرعون؛ لأنه آمن حين رأى العذاب فلم ينفعه ذلك، وقوم يونس تابوا قبل ذلك. ويعضد هذا قوله عليه السلام: (إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر)28»29.
الرأي الثاني: أن قوم يونس رأوا العذاب عيانًا، بدليل قوله تعالى في الآية: (ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ)، وكشف العذاب لا يكون إلا بعد وقوعه، أو قرب وقوعه. وأكثر العلماء قالوا بهذا الرأي30.
وروي عن بعض الصحابة -رضوان الله تعالى عليهم-: «أن يونس بعثه الله تعالى إلى قومه، فدعاهم إلى عبادة الله تعالى، وترك ما هم فيه من الكفر فأبوا، فدعا ربه فقال: يا رب قد دعوتهم فأبوا. فأوحى الله تعالى إليه: أن ادعهم، فإن أجابوك وإلا فأعلمهم أن العذاب يأتيهم إلى ثلاثة أيام. فدعاهم فلم يجيبوه، فأخبرهم بالعذاب، فقالوا: ما جربنا عليه كذبة مذ كان معنا، فإن لم يلبث معكم وخرج من عندكم، فاحتالوا لأنفسكم. فلمَا كان بعض الليل خرج يونس من بينهم، فلما كان اليوم الثالث رأوا حمرة وسوادًا في السماء كهيئة النار والدخان، فظنوا أنَّ العذاب نازل بهم، فجعلوا يطلبون يونس فلم يجدوه، فلما كان آخر النهار أيسوا من يونس، وجعل يهبط السواد والحمرة، فقال قائل منهم: إن لم تجدوا يونس عليه السلام فإنكم تجدون رب يونس، فادعوه، وتضرعوا إليه.
فخرجوا من القرية إلى الصحراء، وأخرجوا النساء والصبيان والبهائم، وفرقوا بين كل إنسان وولده، وبين كل بهيمة وولدها، ثم عجوا31 إلى الله تعالى مؤمنين به مصدقين. وارتفعت أصوات الرجال والنساء والصبيان، وخوار البهائم وأولادها، واختلطت الأصوات، وقربت منهم الحمرة والدخان، حتى غشي السواد سطوحهم، وبلغهم حر النار. فلما عرف الله تعالى منهم صدق التوبة، رفع عنهم العذاب بعدما كان غشيهم، فذلك قوله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ)»32.
وأخيرًا، فإنه لا يخفى ما في هذه الآية من تخويف وتهديد ووعيد لكفار مكة خاصة، ولجميع الكفار إلى يوم القيامة، أنهم إن لم يستجيبوا للهداية ونور الحق، فسيحيق بهم عذاب الله عزَّ وجلَّ، وحينئذٍ لا ينفعهم إيمانهم عند نزول العذاب، ويصدق هذا المعنى أيضًا قوله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ) [يونس: ٩٨].
فالله تعالى يتوعد الكافرين به، والمخالفين رسله، والمكذبين بآياته وحججه الدالة على صدق الأنبياء والرسل الذين بعثوا فيهم، ويتوعد الصادين عن سبيل الله عز وجل، ماذا ينتظرون كي يستجيبوا ويؤمنوا؟ هل ينتظرون ملك الموت لما يأتي إليهم، ويقبض أرواحهم مثل فرعون الطاغية عندما أدركه الغرق قال: (ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ) [يونس: ٩٠].
أو تأتيهم ملائكة العذاب كما أتت الأقوام السابقة فأهلكتهم عن بكرة أبيهم، مع أن إيمانهم حينئذٍ لا ينفعهم، أم يطلبون إتيان الله عز وجل معاينةً كما طلبه بنو إسرائيل من نبيهم موسى عليه السلام عندما قالوا: (ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ) [البقرة: ٥٥].
أم ينتظرون أن تأتي أشراط الساعة الكبرى وعلاماتها -كطلوع الشمس من مغربها، وغير ذلك- حتى تلجئهم على الإيمان؟ فإنه إذا أتت علامات الساعة الكبرى، فلن ينفع إيمانٌ صاحبه لم يكن آمن قبل ظهور علامات الساعة الكبرى، أو كان صاحبه مؤمنًا قبل ذلك، ولكنه لم يكسب هذا الإيمان عملًا خيرًا صالحًا مقبولًا عند الله جل جلاله؛ وذلك لأن باب التوبة يغلق حينئذٍ33.
ويؤكد هذا ما جاء عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم حين قال: (لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت فرآها الناس آمنوا أجمعون، فذلك حين: (ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲﭳ) [الأنعام: ١٥٨].ولتقومنَّ الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما فلا يتبايعانه، ولا يطويانه، ولتقومن َّالساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته فلا يطعمه، ولتقومنَّ الساعة وهو يليط حوضه فلا يسقي فيه، ولتقومن الساعة وقد رفع أحدكم أكلته إلى فيه فلا يطعمها)34.
ومعنى (وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما فلا يتبايعانه، ولا يطويانه): أي: عرض البائع الثوب على المشتري ليشتريه، فلا يتم هذا البيع؛ لقيام الساعة، وتقوم أيضًا (وقد انصرف الرجل بلبن لقحته فلا يطعمه): أي انصرف الرجل بلبن ناقته، فلا يشربه، وتقوم أيضًا (وهو يليط حوضه فلا يسقي فيه): أي: الرجل يصلح حوضه فلا يسقي منه، وتقوم أيضًا (وقد رفع أحدكم أكلته إلى فيه فلا يطعمها): أي: الرجل يرفع لقمته إلى فيه ليأكلها، فلا يكون له ذلك؛ لأن قيام الساعة قد حال بينه وبين أكلها فجأة، فهي أسرع من دفع اللقمة إلى الفم35.
وتجدر الإشارة هنا إلى أنه لا يجب انتظار وقوع علامات الساعة الكبرى، فلكل امرئٍ منا له ساعته التي سوف يحين فيها أجله، فينبغي على كل مرءٍ منا أن يجدد التوبة مع الله عز وجل دائمًا، ويكثر من الاستغفار، ويخلص في القول والعمل، ويكثر أيضًا من العمل الصالح؛ ليزيد من رصيده الإيماني، فينفعه يوم لا ينفع مال ولا بنون، إلا من أتى الله تعالى بقلب سليم.
ونعود إلى يونس عليه السلام، فإنه لم يصبر على قومه كما ينبغي، بل تعجل في الغضب منهم، وفارقهم دون أن يأمره الله تعالى بذلك. لأجل هذا الأمر نهى الله تعالى نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يكون مثل يونس عليه السلام في هذا الجانب، فقال سبحانه وتعالى: (ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ) [القلم: ٤٨].
وحكم الله تعالى في رسله يتمثل في ثلاثة أمور كما بينها الماتريدي، حيث قال: «أحدها: ألا يدعوا على قومهم بالهلاك، وإن اشتد أذاهم من ناحيتهم حتى يؤذن لهم. والثاني: ألا يفارقوا قومهم وإن اشتد بهم البلاء إلا بإذن الله تعالى، والثالث: ألا يقصروا في التبليغ وإن خافوا على أنفسهم. ثم من وراء هذا عليهم أمران: أحدهما: أنهم أمروا ألا يغضبوا إلا لله تعالى، والثاني: ألا يحزنوا لمكان أنفسهم إذا آذاهم قومهم، بل يحزنوا لمكان أولئك القوم؛ إشفاقًا عليهم منه ورحمة بما يحل عليهم من العذاب بتكذيبهم الرسل، فهذا هو حكم ربهم»36.
فالله عز وجل نهى نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يكون حاله مشابهًا لحال يونس عليه السلام في عدم صبره الصبر المطلوب، وذهابه مغاضبًا ربه حتى ركب البحر، فثقلت السفينة، واقترع أهلها، وألقي به في البحر، وابتلعه الحوت، فحاله هذه هي التي أوصلته وأدت به إلى حبسه في بطن الحوت37.
وقال الإمام الطبري في تفسير هذه الآية: «يقول -تعالى ذكره- لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: فاصبر يا محمد لقضاء ربك وحكمه فيك، وفي هؤلاء المشركين بما أتيتهم به من هذا القرآن، وهذا الدين، وامض لما أمرك به ربك، ولا يثنك عن تبليغ ما أمرت بتبليغه تكذيبهم إياك وأذاهم لك. وقوله: (ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ) الذي حبسه في بطنه، وهو يونس بن متى صلى الله عليه وسلم فيعاقبك ربك على تركك تبليغ ذلك، كما عاقبه فحبسه في بطنه: (ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ) يقول: إذ نادى وهو مغموم، قد أثقله الغمُّ وكظمه»38.
شبهة:
وتتمةً لهذه السطور، فقد زعم بعض الحاقدين والطاعنين في القرآن الكريم أن القرآن أساء إلى أنبياء الله الكرام، وأنه انتقص من قدرهم وشأنهم، ومن ضمن هؤلاء الأنبياء يونس عليه السلام، فقالوا: كيف يعصي يونس أمر ربه؟ وكيف يظنُّ أنَّ الله القادر على كل شيء لن يقدر عليه؟ هل شكَّ يونس في قدرة الله؟
وعندما أرسله الله إلى أهل نينوى لم يذهب إليهم، بل ذهب إلى البحر، واستدلوا على زعمهم هذا بقوله تعالى: (ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ) [الأنبياء: ٨٧].
وأجاب السقار على هذه الشبهة، فقال: «والجواب: أن القارئ لن يجد كتابًا عند أمة من الأمم يعظم الأنبياء كما عظمهم القرآن الكريم، فهو الكتاب الوحيد الذي ينزه الأنبياء عن الكبائر والنقائص، فضلًا عن الكفر والشرك بالله تعالى. وقد فضل الله يونس مع إخوانه الأنبياء على العالمين: (ﮑ ﮒ ﮓ ﮔﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ) [الأنعام: ٨٦].
وإنما أتي القائل لهذه الشبهة من سوء فهمه للآية، فليس مقصودها أن يونس ظن أنه معجز الله بهربه، بل المعنى أنه ظَنَّ أن الله لن يقدر عليه، أي: لن يضيق عليه ويلومه في ترك قومه حين لم يستجيبوا لدعوته، فهي كقول الله تعالى: (ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃﮄ) [الطلاق: ٧].
أي: ضيق عليه، ومثله قوله تعالى: (ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦﯧ) [الرعد: ٢٦].
وهذا المعنى منقول عن ابن عباس رضي الله عنهما وعن غيره من التابعين. وحفاظًا على منزلة يونس بن متى في قلوب المؤمنين نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن تفضيل المرء نفسه على هذا النبي الكريم: (لا ينبغي لعبد أن يقول إنه خير من يونس بن متى)39.
وفي رواية: (من قال: أنا خير من يونس بن متى فقد كذب)40.
فثبت بذلك براءة القرآن من فرية الإساءة إلى يونس عليه السلام»41.
كما رد علي بن نايف الشحود على هذه الشبهة، فذكر رد الإمام ابن حزم إذ قال: «أما إخبار الله تعالى أن يونس ذهب مغاضبًا فلم يغاضب ربه قط، ولا قال الله تعالى إنه غاضَبَ ربَّهُ، فمن زاد هذه الزيادة كان قائلًا على الله الكذب، وزائدًا في القرآن ما ليس فيه، هذا لا يحلُّ ولا يجوز أن يظنَّ بمن له أدنى مسكة من عقل أنه يغاضب ربه تعالى فكيف أن يفعل ذلك نبي من الأنبياء، فعلمنا يقينا أنه إنما غاضب قومه ولم يوافق ذلك مراد الله عز وجل فعوقب بذلك وإن كان يونس عليه السلام لم يقصد بذلك إلا رضا الله عز وجل»42.
وذكر القرطبي في قوله تعالى: (ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ) [الأنبياء: ٨٧].
حيث قال: «قيل: معناه استزله إبليس ووقع في ظنه إمكان ألا يقدر الله عليه بمعاقبته. وهذا قولٌ مردودٌ مرغوبٌ عنه؛ لأنه كفرٌ. روي عن سعيد بن جبيرٍ حكاه عنه المهدوي، والثعلبي عن الحسن. وذكر الثعلبي وقال عطاءٌ وسعيد بن جبيرٍ وكثيرٌ من العلماء معناه: فظنَّ أَنْ لَنْ نُضيِّقَ عليه. قال الحسن: هو من قوله تعالى: (ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦﯧ) [الرعد: ٢٦]. أي: يضيق. وقوله (ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ) [الطلاق: ٧].
قلت: وهذا الأشبه بقول سعيدٍ والحسن. وقَدَرَ وقُدِرَ وقَتَرَ وقُتِرَ بمعنى، أي: ضيق. وهو قول ابن عباسٍ فيما ذكره الماوردي والمهدوي. وقيل: هو من القدر الذي هو القضاء والحكم، أي: فظن أن لن نقضي عليه بالعقوبة، قاله قتادة ومجاهدٌ والفراء. مأخوذٌ من القدر وهو الحكم دون القدرة والاستطاعة»43.
ثم عقب الشحود بقوله: «فكلمة (ﮖ ﮗ) لا تشير ههنا إلى معنى الاستطاعة، فهذا ما لا يظنه آحاد الناس فضلًا عن نبيٍّ، وإنما تشير إلى معنى التضييق، فيونس عليه السلام لما دعا قومه للتوحيد، ونفروا منه آذوه، تركهم غضبانًا لله، ولم يظن أن الله يحاسبه ويضيق عليه لذلك، وإنما حاسبه الله؛ لأنه لم يصبر عليهم، وخرج منهم قبل الإذن، كما قال تعالى: (ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ) وقد نبه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هذا الأمر، وحذر من أن يسيء إنسان الظن بنبي الله يونس فقال عليه الصلاة والسلام: (لا يقولنَّ أحدكم إني خير من يونس)44.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال، يعني الله تبارك وتعالى: (لا ينبغي لعبدٍ لي، وقال ابن المثنى: لعبدي، أن يقول: أنا خيرٌ من يونس بن متى عليه السلام)45.
وقال عليه الصلاة والسلام: (ومن قال أنا خير من يونس بن متى فقد كذب)46.
وهذا من تعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم لشأن إخوانه الأنبياء ودفاعه عنهم عليهم صلوات الله أجمعين»47.
يعد هذا المشهد هو الأطول ذكرًا في القرآن الكريم من مشاهد قصة يونس عليه السلام في القرآن.
يقول الله عز وجل: (ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ) [الصافات: ١٣٩-١٤٨].
ذكرنا فيما سبق أن يونس عليه السلام ارتكب ذنبًا كبيرًا على الأنبياء أمثاله، وهو خروجه وهروبه من المدينة التي بعثه الله تعالى إلى دعوة أهلها إلى الحق من غير إذنٍ من الله عز وجل، فقال تعالى: (ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ) [الأنبياء: ٨٧].
والمعنى المناسب لهذه الآية في حقِّ الأنبياء المعصومين من الخطأ: «فظن أن لن نضيق عليه، أي: ظن أننا لن نلزمه بالذهاب إلى القوم الذين أرسل إليهم، ولا نلجئه إلى تبليغ رسالة الله تعالى إليهم، والمراد: أنه تأول الأمر، وهو أمر الذهاب إلى قومه على أنه أمر إرشاد لا أمر وجوب، ولا إثم في مخالفته، كما تأول الفقهاء كتابة الدين المأمور به في قوله تعالى: (ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚﭛ) [البقرة: ٢٨٢].
على أنه أمر ندب وإرشاد، ففهم الأمر على هذا الوجه»48.
ذكر الرازي اختلاف المفسرين في معنى قوله تعالى: (ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ)، وبين أن ما قالوه لا يجوز على الأنبياء، فقال بعضهم: إن يونس عليه السلام أبق وهرب من الله تعالى، وذكر الرازي بطلان هذا القول، فقال: «وهذا بعيد؛ لأن ذلك لا يقال إلا فيمن يتعمد مخالفة ربه، وذلك لا يجوز على الأنبياء.
واختلفوا فيما لأجله صار مخطئًا، فقيل: لأنه أمر بالخروج إلى بني إسرائيل، فلم يقبل ذلك التكليف وخرج مغاضبًا لربه، وهذا بعيد سواء أمره الله تعالى بذلك بوحي أو بلسان نبي آخر، وقيل: إن ذنبه أنه ترك دعاء قومه، ولم يصبر عليهم. وهذا أيضًا بعيد؛ لأن الله تعالى لما أمره بهذا العمل فلا يجوز أن يتركه»49.
ثم ذكر أنَّ الأقرب في معنى الآية وجهان:
«الأول: أن ذنبه كان لأن الله تعالى وعده إنزال الإهلاك بقومه الذين كذبوه فَظَنَّ أنه نازل لا محالة، فلأجل هذا الظن لم يصبر على دعائهم، فكان الواجب عليه أَنْ يستمرَّ على الدعاء لجواز أن لا يهلكهم الله بالعذاب وإن أنزله، وهذا هو الأقرب؛ لأنه إقدام على أمر ظهرت أماراته، فلا يكون تعمدًا للمعصية، وإن كان الأولى في مثل هذا الباب أن لا يعمل فيه بالظنِّ، ثم انكشف ليونس من بعد أنه أخطأ في ذلك الظنِّ؛ لأجل أنه ظهر الإيمان منهم، فذلك معنى قوله: (ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ).
الثاني: أن يونس كان وعد قومه بالعذاب، فلما تأخر عنهم العذاب خرج كالمستور عنهم فقصد البحر وركب السفينة، فذلك هو قوله: (ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ)»50.
وبعد ذلك قصد يونس عليه السلام البحر، وركب السفينة المملوءة بالركبان والأمتعة، فثقلت السفينة واضطربت، فقال الملاحون: إن بيننا عبدًا آبقًا من سيده. فاحتاجوا إلى إلقاء بعض الركاب في البحر، وكأنهم لم يجدوا في هذا الأمر مزيةً لأحد، فالكلُّ سواء، فاقترعوا، فخرجت القرعة على يونس عليه السلام ثلاث مرات، عندئذٍ قال يونس عليه السلام: أنا العبد الآبق، وزج بنفسه في الماء، (ﮛ ﮜ) وابتلعه، وكان في وقت التقام الحوت إياه ملامًا على فعلته، وهي مغاضبته لربه عز وجل، فكان مستحقًّا للوم من الله تعالى؛ لأنه غادر قومه وخرج من غير إذنه تعالى، أو غادر قبل أن يوجهه الله تعالى إلى قوم آخرين51.
وهذا يرشدنا إلى عدم التصرف بأمرٍ قبل معرفة حكم الله تعالى فيه52.
ثم ذكر الله عز وجل أنه لولا أنَّ يونس عليه السلام كان من المسبحين قبل حدوث هذه الحادثة له، أي: في وقته السابق بكثرة عبادته لله تعالى، وتسبيحه، وتحميده، أو أنه كان من المسبحين في بطن الحوت كما أخبر الله عز وجل عنه حيث قال: (ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ) [الأنبياء: ٨٧].
فبدأ يونس عليه السلام بالتوحيد: (ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ)، ثم بالتنزيه والتسبيح: (ﮠ)، ثم بالاستغفار والإقرار بالذنب: (ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ)، فاجتمعت عليه ظلمات ثلاث: ظلمة الليل، وظلمة البحر، وظلمة بطن الحوت، ونادى: (ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ)، أي: تنزهت يا رب عن النقص والظلم، وقد كنت من الظالمين لنفسي، وأنا الآن من التائبين النادمين، فاكشف عني هذه المحنة.
وفي الحديث: (دعوة ذي النون إذ هو في بطن الحوت: (ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ)، فإنه لم يدع بها مسلمٌ ربه في شيءٍ قط إلا استجاب له)53.
فلولا تسبيح يونس لجعل بطن الحوت مقبرة له عليه السلام، وللبث في بطنه إلى يوم القيامة. (ﮠ) حرف امتناع لوجود، أي: امتنع جعل بطن الحوت قبرًا ليونس عليه السلام؛ لوجود كثرة تسبيحه؛ لأن العادة أن يهضم في بطن الحوت كسائر أنواع الطعام والغذاء، ويروى أن الله تعالى أوحى إلى الحوت أن لا يكسر له عظمًا، ولا يقطع منه وصلًا.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لما أراد الله -تبارك وتعالى- حبس يونس في بطن الحوت، أوحى الله إلى الحوت ألا تخدشن له لحمًا، ولا تكسرن له عظمًا، فأخذه، ثم أهوى به إلى مسكنه من البحر، فلما انتهى به إلى أسفل البحر سمع يونس حسًّا، فقال في نفسه: ما هذا فأوحى الله -تبارك وتعالى- إليه، وهو في بطن الحوت أن هذا تسبيح دواب الأرض، فسبح وهو في بطن الحوت، فسمعت الملائكة تسبيحه فقالوا: ربنا إنا نسمع صوتًا ضعيفًا بأرض غربة، فقال -تبارك وتعالى-: ذلك عبدي يونس عصاني، فحبسته في بطن الحوت في البحر، قالوا: العبد الصالح الذي كان يصعد إليك منه في كلِّ يوم وليلة عمل صالح؟ قال: نعم، فشفعوا له عند ذلك، فأمر الحوت فقذفه في الساحل كما قال الله تبارك وتعالى: (ﮰ ﮱ))54.
فيرشدنا الله تعالى إلى أن كثرة التسبيح ليست مزيةً ليونس عليه السلام وحده، فنجاه الله تعالى من كربه، بل هو طريق لنجاة المؤمنين جميعًا عند حلول الشدائد بهم، ووقوعهم فيها، حيث قال تعالى: (ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪﮫ ﮬ ﮭ ﮮ) [الأنبياء: ٨٨].
وقد جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم عن ابن عباس رضي الله عنه: (تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة)55.
وبعد مكث يونس عليه السلام في بطن الحوت المدة التي حددها الله تعالى له، ولم يعلمنا بها، مما أدى إلى اختلاف المفسرين في تحديدها، فبعد ذلك أمر الله عز وجل الحوت ليقذف يونس عليه السلام من بطنه بالعراء، وهي منطقة خالية من كل شيء، من الإنس، والشجر والنبات، فكان عليه السلام وقت نبذه من بطن الحوت سقيمًا بسبب حبسه في بطن الحوت فترة من الزمن أدت إلى مرضه، وهَزْلِ جسمه ونحولِهِ، فقيل: كان قد بلي لحمه، ورق عظمه، ولم يبق له قوة.
فبعد الضرر الذي أصابه، كان من لطف الله عز وجل به أن أنبت له شجرة من يقطين، حيث إنها سريعة النمو، فأصبحت كالعريش فيستظل بورقها، فيمتنع عنه حَرُّ الصيف وبرد الشتاء، ويأكل من ثمارها حتى اشتد عوده عليه السلام، ورجع كما كان. واليقطين هو القرع أو الدباء، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب الدباء56.
ورجح المراغي أنه شجرة الموز؛ لأن أوراقها أعرض57.
وقد استشكل على بعض المفسرين الجمع بين آيتين في ظاهرهما التعارض، وهما: الآية في هذا الموضع (ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ) [الصافات: ١٤٥].
والآية الأخرى: (ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ) [القلم: ٤٩].
فالآية الأولى تثبت النبذ، والأخرى تدلُّ على أنه لم ينبذ. وجواب هذا الاستشكال: أن (ﮠ) في الآية الثانية ترجع إلى الذم، فيصبح المعنى: لولا نعمة من ربه، (ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ)، ولكن تداركته نعمة الله عز وجل فنبذ بالعراء وهو غير مذموم58.
ثم امتن الله سبحانه وتعالى على يونس عليه السلام بعد شفائه منةً عظيمة أخرى، وهي إرساله إلى مائة ألف من الناس، أو يزيدون عنها، وهم القوم الذين غادرهم كفارًا، فلم يصبر على دعوتهم، وأخبره أنه سوف يجدهم مؤمنين.
ولما وصل إليهم، أحسنوا استقباله، وآمنوا به واتبعوه، فصار إيمانهم في ميزان حسناته عليه السلام؛ لأنه هو الذي دعاهم إلى توحيد الله جل جلاله، وبلغ دعوة الله تعالى فيهم، ومتعهم الله تعالى في الحياة الدنيا بألوان النعيم إلى أن انقضت آجالهم التي قدرها الله تعالى عليهم59.
وكان بين المفسرين اختلافٌ في القوم الذين أرسل إليهم يونس عليه السلام الوارد ذكرهم في قوله تعالى: (ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ) [الصافات: ١٤٧].
على ثلاثة أقوال:
الأول: أن إرسال يونس عليه السلام كان إلى أهل نينوى الذي كان قبل التقام الحوت له، وذكره في هذه الآيات بعد التقام الحوت له، فيراد به التقديم، ويكون معنى (الواو) الجمع من غير ترتيب.
الثاني: أن إرسال يونس عليه السلام كان بعد التقام الحوت له، وعلى هذا التقدير يجوز أن يكون يونس عليه السلام قد أرسل إلى قوم آخرين غير القوم الأول.
الثالث: يجوز أن يكون يونس عليه السلام قد أرسل إلى القوم الأولين مرة أخرى بشريعة فآمنوا بها60.
وحريٌّ بالذكر هنا أن نشير إلى أن امتناع هضم بطن الحوت ليونس عليه السلام هو أمرٌ خارقٌ للعادة، وهذا ما يعرف بإعجاز الصرفة، بمعنى: أن الله تعالى صرف بطن الحوت عن طبيعته، وهي الهضم ليونس عليه السلام، وهذا الإعجاز بالصرفة جائز في المعجزات المادية التي وقعت مع الأنبياء السابقين، كما حصل في صرف النار عن إحراق إبراهيم عليه السلام، وكذا صرف السكين عن ذبح إسماعيل عليه السلام، وصرف الماء عن خاصية السيولة لإنجاء موسى عليه السلام ومن معه من بني إسرائيل، وكذا صرف زكريا عليه السلام عن الكلام بغير إرادته. أما القول بالصرفة كوجه من وجوه إعجاز القرآن الكريم، فهو قولٌ غير مقبول؛ لأن إعجازه متمثلٌ في بلاغته وبيانه، لا في صرف الناس عنه كما قال النظام والجاحظ وغيرهما من المعتزلة.
إنَّ قصة يونس عليه السلام من القصص القرآني الحق الذي قصَّهُ الله تعالى على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، حيث قال: (ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ) [يوسف: ٣].
وهي تحمل الكثير من الهدايات والعبر والمواعظ، ومن ذلك ما يأتي:
موضوعات ذات صلة: |
الابتلاء، البحر، النبوة |
1 تفسير مقاتل بن سليمان، ٤/٣٨٠.
2 انظر: درج الدرر، عبد القاهر الجرجاني ١/٥٤٠.
3 انظر: تفسير ابن أبي حاتم، ٦/١٩٨٧، النكت والعيون، الماوردي، ٥/٦٦.
4 انظر: التحرير والتنوير، ابن عاشور، ٧/٣٤٢.
5 انظر: المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، محمد فؤاد عبد الباقي، ص٧٧٥.
6 النونة: هي حفرة الذقن.
انظر: فقه اللغة وسر العربية، أبو منصور الثعالبي، ص ٧٣.
7 انظر: فتح القدير، الشوكاني، ٣/٤٩٦.
8 انظر: التحرير والتنوير، ابن عاشور، ٦/٣٤.
9 انظر: المصدر السابق، ٧/٣٤٢.
10 الدر المنثور، السيوطي، ٢/٧٤٨.
11 انظر: فتح القدير، الشوكاني، ١/٦٢٠، إرشاد العقل السليم، أبو السعود، ٢/٢٥٥.
12 تيسير الكريم الرحمن، ص٢١٤.
13 انظر: مدارك التنزيل، النسفي، ١/٥١٩، البحر المديد، ابن عجيبة، ٢/١٤١.
14 انظر: فتح البيان، صديق حسن القنوجي ١٤/٢٧٨.
15 أخرجه البخاري في صحيحه، رقم ٣٤١٦، كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله تعالى: (وإن يونس لمن المرسلين)، ٤/١٥٩.
16 فتح الباري، ٦/٤٥٢.
17 انظر: مراح لبيد، محمد بن عمر الجاوي، ١/٢٤٢، صفوة التفاسير، الصابوني، ١/٢٩٥.
18 فقه السيرة النبوية، محمد سعيد رمضان البوطي، ص١٠٠، بتصرف.
19 دعوة الرسل عليهم السلام، أحمد غلوش، ص٢٥٥، بتصرف.
وانظر: قصة الحضارة، ول ديورانت، ٢/٢٤٦-٢٧٧.
20 انظر: مفاتيح الغيب، الرازي، ٢٢/١٧٨.
21 انظر: فتح القدير، الشوكاني، ٣/٤٩٦.
22 التفسير المنير، ١١/٢٧٠.
23 انظر: مفاتيح الغيب، الرازي، ٢٢/١٧٩، فتح القدير، الشوكاني، ٣/٤٩٦.
24 انظر: التحرير والتنوير، ابن عاشور، ١٧/١٣٠.
25 انظر: مفاتيح الغيب، الرازي، ٢٢/١٧٩.
26 انظر: لباب التأويل، الخازن، ٢/٤٦٥.
27 انظر: معاني القرآن وإعرابه، ٣/٣٤.
28 أخرجه ابن ماجه في سننه، رقم ٤٢٥٣، كتاب الزهد، باب ذكر التوبة، عن عبد الله بن عمرو، ٥/٣٢٢.
وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، رقم ٣١٤٣، ٣/١٢٢.
29 الجامع لأحكام القرآن، ٨/٣٨٤.
30 انظر: لباب التأويل، الخازن، ٢/٤٦٥.
31 عجوا بالدعاء: إذا رفعوا أصواتهم.
انظر: مقاييس اللغة، ابن فارس، ٤/٢٨.
32 تفسير السمرقندي، ٢/١٣٣.
33 انظر: التسهيل لعلوم التنزيل، ابن جزي، ١/٢٨٢، الفواتح الإلهية، نعمة الله النخجواني، ١/٢٩٠.
34 أخرجه البخاري في صحيحه، رقم ٦٥٠٦، عن أبي هريرة، كتاب الرقاق، باب طلوع الشمس من مغربها، ٨/١٠٦.
35 انظر: شرح وتعليق الدكتور مصطفى البغا على الحديث في كتاب صحيح البخاري، ٨/١٠٦.
36 تأويلات أهل السنة، ١٠/١٥٧.
37 انظر: تيسير الكريم الرحمن، السعدي، ص ٨٨١.
38 جامع البيان، ٢٣/٥٦٢.
39 سبق تخريجه.
40 أخرجه البخاري في صحيحه، رقم ٤٦٠٤، عن أبي هريرة، كتاب تفسير القرآن، باب (إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح)، ٦/٥٠.
41 تنزيه القرآن الكريم عن دعاوى المبطلين، ص ١٤٨.
42 الفصل في الأهواء والملل والنحل، ٤/١٣.
43 الجامع لأحكام القرآن، ١١/٣٣١.
44 أخرجه البخاري في صحيحه، رقم ٣٤١٢، عن عبد الله، كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله تعالى: (وإن يونس لمن المرسلين)، ٤/١٥٩.
45 أخرجه مسلم في صحيحه، رقم ٦٢٣٥، عن أبي هريرة، كتاب أحاديث الأنبياء، باب فضائل يونس عليه السلام، ٧/١٠٢.
46 سبق تخريجه.
47 المفصل في الرد على شبهات أعداء الإسلام، ٨/٦.
48 التفسير المنير، وهبة الزحيلي، ١١/٢٧٠.
49 مفاتيح الغيب، ٢٦/٣٥٦.
50 مفاتيح الغيب، ٢٦/٣٥٦.
51 انظر: التفسير المنهجي، د. صلاح الخالدي، ٨/٤٦.
52 انظر: المصدر السابق، أ. د. أحمد شكري، ٦/٢٣٢.
53 أخرجه أحمد في مسنده، رقم ١٤٦٢، عن سعد بن أبي وقاص، ٣/٦٦، والترمذي في سننه، رقم ٣٥٠٥، أبواب الدعوات، باب ما جاء في عقد التسبيح باليد، عن سعد بن أبي وقاص، ٥/٥٢٩.
وصححه الألباني في صحيح الجامع، ١/٦٣٧، رقم ٣٣٨٣.
54 أخرجه البزار في مسنده، رقم ٨٢٢٧، ١٥/٣٤.
قال البزار: وهذا الحديث لا نعلمه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا اللفظ إلا من هذا الوجه بهذا الإسناد.
55 أخرجه الحاكم في مستدركه، رقم ٦٣٠٣، كتاب معرفة الصحابة رضي الله عنهم، باب ذكر عبد الله بن عباس رضي الله عنه، ٣/٦٢٣، والطبراني في المعجم الكبير، رقم ١١٥٦٠، ١١/٢٢٣.
وصححه الألباني في صحيح الجامع، رقم ٢٩٦١، ١/٥٦٩.
56 أخرجه أحمد في مسنده، ٢٠/٢٠٠، رقم ١٢٨١١.
وصححه الألباني في صحيح الجامع، ٢/٨٨٤، رقم ٤٩٢٠.
57 انظر: نظم الدرر، ٢٣/٨٢.
58 انظر: معالم التنزيل، البغوي، ٧/٦١.
59 انظر: معالم التنزيل، البغوي، ٧/٦٠، فتح القدير، الشوكاني، ٤/٤٧٢، إرشاد العقل السليم، أبو السعود، ٧/٢٠٥، تيسير الكريم الرحمن، السعدي، ص ٧٠٧.
60 انظر: مفاتيح الغيب، الرازي، ٢٦/٣٥٨.
61 أخرجه أحمد بن حنبل في الزهد، رقم ٧٨٢، ص ٢٦٩، وأبو داود في الزهد، رقم ١١٢، ١/١٢٢.
وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، رقم ٢٣١٣، ٥/٣٩٨.
62 التفسير المنير، وهبة الزحيلي، ٢٣/١٤٢.
63 المصدر السابق.