عناصر الموضوع
اقتران الولي بالنصير في القرآن
ولاية الكافرين والمنافقين والظالمين
الولاء
أولًا: المعنى اللغوي:
أصله من مادة (ولي)، والوَلْيُ: القرب والدنو، يقال: تباعد بعد وَلْيٍ، أي: تباعد بعد قرب، وكل مما يليك: أي مما يقاربك، والولاء: الموالون، يقال: هؤلاء ولاء فلان، أي: موالوه، و(الولاء): ولاء المعتق، بمعنى: أن يكون ولاء المعتق لمعتقه بأن يكون هو الأولى في إرث معتقه إن لم يكن له وارثٌ من نسبه.
ويطلق (الولاء) أيضًا على التتابع، يقال: والى بينهما ولاءً: أي تتابع، وافعل هذه الأشياء على الولاء، أي: على التتابع، وتوالى عليه شهران: أي: تتابع، وتوالت عليه الأخبار: أي: تتابعت.
ومنه أيضًا: تولى العمل: إذا تقلده، وتولى عنه: إذا أعرض، وولى هاربًا: إذا أدبر، والولي ضد العدو، و(الولاية): السلطان والإمارة، ومنه وليت الأمر أليه ولاية، ووليت على الصبي والمرأة، والفاعل والٍ، والجمع ولاة، و(الولاية) بالفتح والكسر: النصرة، وبالفتح أكثر، يقال: هم على ولاية، أي: مجتمعون في النصرة.
ثانيًا: المعنى الاصطلاحي:
لا يختلف المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغوي، الذي يدور حول الحب والنصرة، وعرفه أبو عاصم البركاتي، فقال: «هو حب الله تعالى ورسوله ودين الإسلام وأتباعه المسلمين، ونصرة الله تعالى ورسوله ودين الإسلام وأتباع المسلمين»1.
وذكر محماس بن عبد الله الجلعود تعريفًا للموالاة، فقال: «هي التقرب وإظهار الود بالأقوال والأفعال والنوايا لمن يتخذه الإنسان وليًّا، فإن كان هذا التقرب والود مقصودًا به الله ورسوله والمؤمنون، فهي الموالاة الشرعية الواجبة على كل مسلم، وإن كان المقصود هم الكفار على اختلاف أجناسهم، فهي موالاة كفر وردة عن الإسلام»2.
فالولاء يتمثل في المحبة والمودة والاتباع والنصرة، وهذه معانٍ جليلة وقيمة أراد الإسلام ترسيخها في نفوس المسلمين.
وردت مادة (ولي) في القرآن الكريم (٢٣٢) مرة، يخص موضوع البحث (١٢٤) مرة3.
والصيغ التي وردت، هي:
الصيغة |
عدد المرات |
المثال |
الفعل الماضي |
٣ |
( ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ) [المجادلة:١٤] |
الفعل المضارع |
١١ |
(ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ) [الأعراف:١٩٦] |
المصدر |
٢ |
(ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ) [الكهف:٤٤] |
اسم الفاعل |
١ |
(ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ) [الرعد:١١] |
اسم المفعول |
٢١ |
(ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ) [محمد:١١] |
الصفة المشبهة |
٨٦ |
(ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ) [الأنعام:٧٠] |
وجاء الولاء في القرآن على أربعة أوجه4:
الأول: الرب: ومنه قوله تعالى: (ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ) [الأنعام:١٤] يعني: ربًّا.
الثاني: الولد: ومنه قوله تعالى: (ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ) [مريم:٥]. يعني: ولدًا.
الثالث: الناصر: ومنه قوله تعالى: (ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ) [الدخان: ٤١].
الرابع: المولى الذي يعتق: ومنه قوله تعالى: (ﭐﮢ ﮣ ﮤ ﮥ) [الأحزاب:٥].
النصرة:
النصرة لغةً:
مصدر من مادة (نصر)، والنصر هو إعانة المظلوم، يقال: نصره على عدوه، ينصره نصرًا، والاسم النصرة وهي العون5.
النصرة اصطلاحًا:
قال المناوي: «النصر والنصرة: العون»6.
الصلة بين النصرة والولاء:
يتضح أن النصرة من مستلزمات الولاء؛ لأنه كما ذكر سابقًا أنَّ الولاء يتحدد معناه في الحب والنصرة، فمن والى شخصًا أحبه، ويقتضي هذا الرضا بأفعاله، ونصرته والدفاع عنه إذا تعرض لظلم، أو ما شابه.
التعاون:
التعاون لغةً:
تعاونوا: أعان بعضهم بعضًا، وقالوا: عاونه معاونةً وعوانًا، أعانه، والمعوان: الحسن المعونة للناس7.
التعاون اصطلاحًا:
قال الراغب: «التعاون: التظاهر»8.
الصلة بين التعاون والولاء:
لاشك أن التعاون والمظاهرة من مستلزمات الولاء أيضًا، فمن والى شخصًا أعانه وظاهره على عدوه.
البراء:
البراء لغةً:
مصدر من (برأ)، وهو التباعد عن الشيء، ومنه البرء وهو السلامة من المرض، والوصف منه براء، وبريء، وهما لغتان في القرآن، والبراءة تكون من العيوب والمكاره9.
البراء اصطلاحًا:
البراءة «هي انقطاع العصمة»10، وقال الألوسي: «هي عبارة عن إنهاء حكم الأمان، ورفع الخطر المترتب على العهد السابق»11، وقال محمد بن سعيد القحطاني: «هو البعد والخلاص والعداوة بعد الإعذار والإنذار»12.
الصلة بين البراء والولاء:
يتبين أن العلاقة بينهما متناقضة، فالبراء ضد الولاء، وهو متمثل في البغض والمعاداة، فالأمران لا يجتمعان.
اقتران الولي بالنصير في القرآن
اقترن اسم الله تعالى (الولي أو المولى) باسمه تعالى النصير ثلاث عشرة مرة في القرآن الكريم، منها -على سبيل المثال- قوله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ) [النساء:٤٥].
وقوله: (ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ) [الحج:٧٨].
وقوله: (ﭞ ﭟ ﭠﭡ ﭢ ﭣ ﭤ) [آل عمران:١٥٠].
وذكرنا في العلاقة بين الولاء والنصرة، أن النصرة من مقتضيات الولاء ومستلزماته، وعليه يكون اسم الله تعالى (النصير) هو مقتضى اسمه تعالى (الولي أو المولى). قال البقاعي في بيان حكمة اقتران الولي بالنصير عند تفسيره لآية النساء المذكورة: « (ﭗ) أي: قريبًا بعمل جميع ما يفعله القريب الشفيق.
ولما كان الولي قد تكون فيه قوة النصرة، والنصير قد لا يكون له شفقة الولي، وكانت النصرة أعظم ما يحتاج إلى الولي فيه، أفردها بالذكر إعلامًا باجتماع الوصفين مكررًا الفعل والاسم الأعظم اهتمامًا بأمرها فقال: (ﭕ ﭖ ﭗ) أي: الذي له العظمة، (ﭚ) أي: لمن والاه فلا يضره عداوة أحد، فثقوا بولايته ونصرته دونهم، ولا تبالوا بأحد منهم ولا من غيرهم، فهو يكفيكم الجميع»13.
وقال الشعراوي في تفسيره لذات الآية: (ﭕ ﭖ ﭗ) نعم كفى به وليًّا؛ لأن غيره من البشر إنما يملكون الأسباب، والحق تعالى هو الذي خلق الأسباب، فيملك ما هو فوق الأسباب، ولذلك يقول مطمئنًا لنا: (ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ) [الطلاق: ٢ -٣].
و(الولي) دائمًا هو من يليك مباشرة أي: أنه قريب منك. (ﭘ ﭙ ﭚ) إذن فهناك قريب، وهناك أيضًا نصير، فقد يكون هناك من هو قريب منك ولا ينصرك، لكن الله ولي ونصير، فما دامت المسألة مسألة معركة (ﭑ ﭒ ﭓﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ)، كأن الحق ينبهنا: إياكم أن تقولوا إننا نلتمس النصرة عند أحد، اصنعوا ما في استطاعتكم أن تصنعوه، ثم اتركوا ما فوق الاستطاعة إلى الله»14.
إن الكلام عن ولاية الله عز وجل لعباده تتطلب بيان أن الله جل جلاله هو وحده الولي، وأن ولايته تعالى تنقسم إلى قسمين: ولاية عامة لجميع خلقه، وولاية خاصة لأصفيائه المؤمنين مع شرح موجبات هذه الولاية لهم خاصة دون غيرهم، بالإضافة إلى شرح أسباب الحرمان من ولاية الله عز وجل، وتفصيل هذه الأمور فيما يأتي:
أولًا: الله تعالى هو الولي:
لقد سَمَّى الله عز وجل نفسه باسم (الولي)، فهو من أسمائه الحسنى، وعرف الزجاج هذا الاسم بقوله: «هو فعيل من الموالاة، والولي الناصر وهو تعالى وليهم أي: المؤمنين.
بأن يتولى نصرهم وإرشادهم، كما يتولى ذلك من الصبي وليه، وهو يتولى يوم الحساب ثوابهم وجزاءهم»15.
وقيل: (الولي) هو المتولي لأمور العالم والخلائق القائم بها، ومن أسماء الله عز وجل أيضًا: (الوالي)، وهو مالك الأشياء جميعها والمتصرف فيها، وكأن الولاية تحمل معنى التدبير والقدرة والفعل معًا، فأي عنصر فُقِدَ منها، فلا يطلق على صاحبها اسم الوالي16.
وهناك آيتان قرآنيتان فقط أثبتتا أن الله تعالى هو الولي، وهما: قوله تعالى: (ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ) [الشورى:٩].
وقوله تعالى: (ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ) [الشورى:٢٨].
فنلحظ من قوله: (ﯣ ﯤ ﯥ) في الآية الأولى أنَّ الضمير (هو) ضمير فصل يفيد التأكيد والحصر والقصر، ففي هذا التركيب قصر جنس الولي بهذا الوصف على الله تعالى وحده، وبما أن المشركين قد عبدوا غير الله عز وجل، فيكون المعنى المراد هو قصر الولاية الحقة على الله تعالى وحده. يقول ابن عاشور: «وأفاد ضمير الفصل في قوله: (ﯣ ﯤ ﯥ) تأكيد القصر وتحقيقه، وأنه لا مبالغة فيه تذكيرًا بأن الولاية الحق في هذا الشأن مختصة بالله تعالى»17.
ويظهر هذا المعنى جليًّا في قوله: (ﯧ ﯨ ﯩ) حيث قصر صفة الولي والحمد على الله جل جلاله وحده دون غيره.
لأجل هذا يعترف المؤمنون دائمًا بأن الله عز وجل هو وليهم ومولاهم. يقول الله تعالى: (ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ) [البقرة:٢٨٦].
والمعنى أن الله تعالى لا يكلف أحدًا فوق طاقته، وهذا من رحمة الله تعالى ولطفه بعباده، وللنفس الإنسانية ما كسبت من خير، فلها الثواب عليه، وعليها ما اكتسبت من الشر، فعليها العقاب عليه، ثم أرشد الله عز وجل المؤمنين إلى هذا الدعاء الذي تكفل لهم بإجابته، وهو: (ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ) أي: لا تعاقبنا على فرضٍ تركناه، أو على حرامٍ فعلناه نسيانًا، أو أخطأنا الصواب في العمل جهلًا منا بواجبه الشرعي، ويؤيد هذا حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه)18.
(ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ) أي: لا تكلفنا من الأعمال الشاقة -وإن كانت في طاقتنا- كما كلفت الأمم الماضية قبلنا كبني إسرائيل، أما رسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم فتحمل التيسير والتخفيف والسماحة، فهو نبي الرحمة المهداة للأمم جميعها.
(ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ) من التكليف والمصائب والبلاء، فلا تبتلينا بما لا قدرة لنا عليه من الفتن.
(ﰂ ﰃ) فيما بدر منا من معصية بيننا وبينك.
(ﰄ ﰅ) فيما بدر منا من زلل بيننا وبين عبادك، فلا تظهرهم على عيوبنا.
(ﰆ) فيما يستقبل، فجنبنا وباعد بيننا وبين الوقوع في ذنوب أخرى.
(ﰈ ﰉ) أي: متولي أمورنا، ومالكنا، وناصرنا، وعليك توكلنا، وأنت المستعان، وعليك التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بك.
(ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ) الذين جحدوا دينك، وأنكروا وحدانيتك، وكذبوا رسالة نبيك، وعبدوا غيرك، فأشركوا معك من عبادك، فانصرنا عليهم، واجعل لنا العاقبة عليهم في الدنيا والآخرة19.
ونخلص من هذا إلى أن الله تعالى هو ولي المؤمنين حيث يتولى نصرهم وإرشادهم، كما يتولى ثوابهم وجزاءهم يوم الحساب، وأيضًا هو المتولي لأمور العالم والخلائق القائم بها، فهو مالك الأشياء جميعها والمتصرف فيها.
ثانيًا: ولاية عامة للخلق جميعًا:
عرفنا أن الله تعالى وحده هو المتصف بالولاية الحقة، فإذا كان كذلك فهو الأولى بالعبادة والأحق بها مما يعبد من دونه من الآلهة والأوثان؛ فلهذا السبب نعى الله عز وجل على المشركين وأنكر عليهم اتخاذهم آلهة يعبدونها من دونه جل جلاله، فقال تعالى: (ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ) [الشورى:٩].
كما أخبر فيها أنه هو الولي الحق الذي لا تنبغي العبادة إلا له وحده عز وجل، فإنه وحده القادر على إحياء الموتى، وهو على كل شيء قدير20.
وكذلك قوله تعالى: (ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ) [الشورى:٢٨].
فالله تعالى هو الذي ينزل المطر الغزير الذي يغيث البلاد والعباد من بعد انقطاعه مدة يظن بها الناس أنه لن يأتيهم، فينشر الله عز وجل بالمطر رحمته من إخراج الأقوات للآدميين وبهائمهم، فيستبشرون بذلك ويفرحون، فالله جل جلاله هو الولي الذي يتولى عباده بأنواع التدبير، ويتولى القيام بما يصلح لهم دينهم ودنياهم، كما أنه الحميد في تدبيره على ما له من كمال مطلق، وما يوصله إلى خلقه من ألوان الإفضال وأنواعه21.
وفي هذا المعنى يأمر الله عز وجل نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يخاطب المشركين قائلًا: (ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ) [الأنعام:١٤].
أي: قل لهم يا محمد: أغير الله تعالى أتخذ وليًّا معبودًا أواليه بالعبادة والمحبة، وأشركه مع الله الذي أبدع السماوات والأرض، وهو الغني عما سواه، الذي يطعم عباده ولا يطعم، ولا يحتاج إلى من يطعمه، فهو الذي يرزق ولا يرزق، كما أمرت أن أنقاد بكليتي إلى هذا الإله الحقيقي22.
ونخلص من هذا إلى أن الله تعالى هو وحده الولي، وولايته عز وجل ليست كأي ولاية، فهو تعالى الولي الذي يتولى أمور الخلائق، وهو مالك التدبير، وهو الولي الذي صرف لخلقه ما ينفعهم في أمور دينهم ودنياهم وأخراهم، كما أن هذه الولاية للخلق جميعًا دون تمييز بين مؤمن، أو كافر، أو منافق، فهي ولاية عامة لجميع الناس.
ثالثًا: ولاية خاصة لأوليائه وأصفيائه وموجباتها:
إن الله تعالى اصطفى أهل الإيمان من خلقه، وحظاهم وأولاهم رعايته ونصرته، فقال جل جلاله فيهم: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ) [البقرة:٢٥٧].
وقيل في معنى (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ) أقوال، منها: الحافظ، والناصر، فهو ناصر المؤمنين وحافظهم، وسمَّى الله تعالى نفسه وليًّا؛ لأنه يلي أمور الخلق من النصر والحفظ والرزق وغيره، ومنه سمي الولي وليًّا؛ لأنه يلي أمور الناس23.
ومعنى الآية أنَّ الله تعالى وليُّ الذين آمنوا حيث يتولاهم بالنصرة والإرشاد، فهو وحده الذي يخرجهم من ظلمات الضلالة إلى نور الهداية، أو يخرجهم من ظلمات العذاب في النار إلى نور الثواب في الجنة، ولا يقدر على هذا إلا الله عز وجل 24.
وهذا يوسف عليه السلام يقول: (ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ) [يوسف:١٠١].
فنادى ربه: يا رب أعطيتني من نعمة الدنيا الجاه والسلطان، ومن نعمة العلم تفسير الرؤيا، فيا مبدع السماوات والأرض وخالقهما على غير مثال سابق، أنت يا رب متولي أموري وشؤوني في الدنيا والآخرة، فاقبضني مسلمًا، واجعل لحاقي بالصالحين25، فلا بد لهذه الولاية كي تتحقق من موجبات؛ لأن هذه الولاية لا تعطى ولا تمنح لأي شخص، وهذه الموجبات متمثلة في ثلاث:
يقول الله عز وجل في بيان ولايته لأهل الإيمان: (ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ) [آل عمران:٦٨].
والمعنى: إن أحق الناس بنصرة إبراهيم عليه السلام وولايته هم الذين سلكوا طريقه ومنهاجه، فوحدوا الله تعالى مخلصين له الدين غير مشركين به، ثم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا معه من المهاجرين والأنصار ومن تبعهم بعدهم هم أولى الناس بإبراهيم عليه السلام كذلك، فإن الله تعالى سوف ينصر المؤمنين بمحمد صلى الله عليه وسلم، المصدقين له في نبوته، وفيما جاءهم به من عند الله عز وجل، فسينصرهم على من خالفهم من أهل الملل الأخرى26.
ويقول تعالى أيضًا في هذا الصدد: (ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ) [محمد:١١].
والمعنى: أن الله جل جلاله هو ولي المؤمنين وناصرهم، وقد نزلت هذه الآية عقب غزوة أحد عندما صاح المشركون: يوم بيوم -يقصدون عندما انتصر عليهم النبي صلى الله عليه وسلم في بدر-، لنا العزى ولا عزى لكم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للمؤمنين: قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم27.
وفي المقابل فالكافرون لا ينصرهم من الله تعالى أحد. قال السعدي في تفسير قوله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ) [البقرة:٢٥٧]: «وهذا يشمل ولايتهم لربهم، بأن تولوه فلا يبغون عنه بدلًا ولا يشركون به أحدًا، قد اتخذوه حبيبًا ووليًا، ووالوا أولياءه وعادوا أعداءه، فتولاهم بلطفه ومن عليهم بإحسانه، فأخرجهم من ظلمات الكفر والمعاصي والجهل إلى نور الإيمان والطاعة والعلم، وكان جزاؤهم على هذا أن سلمهم من ظلمات القبر والحشر والقيامة إلى النعيم المقيم والراحة والفسحة والسرور»28.
فالمؤمنون أمة واحدة يجمعها الإيمان بالله عز وجل، والتصديق بكل ما جاء به من غير تفريق بينهم بالأجناس والألوان والقوميات والأوطان، فصورة المؤمنين هذه من حيث تجمعهم هي أرقى صورة للتجمع البشري الذي يليق به.
يقول الله عز وجل في بيان ولايته لأهل التقوى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ) [الأنفال:٣٤].
والمعنى: ما كان الله عز وجل ليعذب المشركين والرسول صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم، لكنه سوف يعذبهم بعدما يفارقهم النبي صلى الله عليه وسلم، وكيف لا يعذبون والحال أنهم يصدون عن المسجد الحرام كما صدوا النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين عنه عام الحديبية، وكانوا يقولون: نحن ولاة البيت الحرام، نصد من نشاء، وندخل من نشاء، فرد الله تعالى عليهم بقوله: (ﭛ ﭜ ﭝ) أي لم يستحقوا أن يكونوا ولاة البيت الحرام وهم مشركون، فولاته الحقيقيون هم المسلمون، وقيل: إن الضميرين في (أولياءه، أولياؤه) يرجعان إلى الله عز وجل 29.
ويقول الله تعالى أيضًا: (ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱﯓ ﯔ ﯕ ﯖ) [الجاثية:١٩-١٨].
فهذه الآية تتحدث عن بني إسرائيل الذين أنعم الله تعالى عليهم، وآتاهم الكتاب والحكم والنبوة، وفضلهم على عالمي زمانهم، ولكنهم ظلموا أنفسهم، فاختلفوا واتبعوا أهواءهم، فبين الله تعالى أنهم لن يغنوا عن النبي صلى الله عليه وسلم من الله تعالى شيئًا، وأن المتصفين بالظلم لا ولاية بينهم وبين الله تعالى، والله جل جلاله المتصف بجميع صفات الكمال والجلال والجمال هو ولي المتقين الذين همهم الأعظم هو الاتصاف بالحكمة عن طريق اتخاذ الوقايات المنجية لهم من سخط الله تعالى وعذابه، ولا ولاية بينه وبين الظالمين30.
يقول الله عز وجل على لسان نبيه محمد صلى الله عليه وسلم: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖﭗ ﭘ ﭙ ﭚ) [الأعراف:١٩٦].
وكأن النبي صلى الله عليه وسلم يخاطب المشركين قائلًا: لا أبالي بكم وبشركائكم؛ لأن وليي هو الله عز وجل الذي أنزل القرآن العظيم الناطق بأنه وليي وناصري، وإن شركاءكم الذين تعبدونهم من دون الله تعالى لا يستطيعون نصر أنفسهم فضلًا عن نصركم أنتم، فالله عز وجل من عادته أن يتولى الصالحين من عباده، وينصرهم ولا يخذلهم31.
وهكذا تتضح ولاية الله تعالى الخاصة بأوليائه وأصفيائه المؤمنين المتقين الصالحين.
رابعًا: آثار ولاية الله للمؤمنين:
إن المؤمنين عندما يتخذون الله عز وجل حبيبًا ووليًّا فلا يتولون غيره، ولا يشركون به شيئًا، ويوالون أولياءه، ويتبرؤون من أعدائه، فإن الله تعالى سوف ينعم عليهم من مَنِّهِ وإحسانه الشيء الكثير، فتظهر عليهم آثار ولاية الله تعالى لهم.
ومن هذه الآثار: قوله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ) [يونس:٦٢-٦٤].
والمعنى: إن أولياء الله تعالى الذين يتولونه بإخلاص العبادة له وحده، ويتوكلون عليه، ولا يتخذون من دونه أندادًا، ولا أولياء، ولا شفعاء، فإنه لا خوفٌ عليهم يوم القيامة مما يخاف منه غيرهم من أهوال الموقف وعذاب الآخرة، كما أنهم لا يحزنون من لحوق مكروه بهم، أو ذهاب محبوب عنهم؛ لأنهم لا يقصدون بذلك إلا نيل رضا الله عز وجل، وكذلك لا خوف عليهم في الحياة الدنيا مما يخاف منه غيرهم من الكفار وضعاف الإيمان، فليس هذا الجزاء إلا لأولياء الله تعالى الذين جمعوا بين الإيمان الصحيح بالله جل جلاله وملائكته وكتبه ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، وبين ملكة التقوى له عز وجل، فهؤلاء لهم البشرى في الحياة الدنيا بالنصر وحسن العاقبة، وباستخلافهم في الأرض ما أقاموا شرع الله تعالى، ونصروا دينه، وأعلوا كلمته32.
ويقول الله عز وجل في موضع آخر: (ﭰ ﭱ ﭲ ﭳﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ) [الأنعام:١٢٧-١٢٦].
والمعنى: أن هذا البيان الذي جاء به القرآن الكريم، أو طريق التوحيد، وإسلام الوجه إلى الله جل جلاله، هو الطريق الذي ارتضاه الله تعالى مستقيمًا لا ميل فيه إلى إفراط أو تفريط في الاعتقاد والأخلاق والأعمال، ولا اعوجاج فيه إلى النظر إلى الغير والشرك به، فقد بينت أحكامه، وفصلت شرائعه، وميز فيه الخير من الشر، ولكن هذا التفصيل، وهذا البيان ليس لأي شخص، إنما هو (ﭸ ﭹ) يذكرون المعارف والحقائق التي هي مستقرة في استعدادهم فيهتدوا بها؛ لأنهم هم الذين علموا، فانتفعوا بعلمهم.
وأعد الله تعالى لهم الجزاء الجزيل، والأجر الأوفى، وهو الجنة التي سماها الله عز وجل دار السلام؛ وذلك لسلامتها من كل عيب ونقص وآفة وكدر، وهمٍّ وغمٍّ، إلى غير ذلك من المنغصات والمكدرات التي كانت في الدنيا، فيلزم من هذا أن يكون نعيم الجنة في غاية الكمال، بحيث لا يقدر على وصفه الواصفون من نعيم الروح والقلب والبدن.
كما أن الله تعالى هو الذي يتولى تدبيرهم وتربيتهم، حيث لطف بهم في جميع شؤون أمورهم، وأعانهم على طاعته في الدنيا، ويسر لهم كل طريق إلى محبته، كلُّ هذا بسبب أعمالهم الصالحة التي قدموها في دنياهم، وقصدوا بها رضا مولاهم جل جلاله33.
هذا وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي: (إن الله قال: من عادى لي وليًّا فقد آذنته بالحرب، وما تقرَّب إليَّ عبدي بشيءٍ أحبَّ إليَّ مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته: كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيءٍ أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن، يكره الموت وأنا أكره مساءته)34.
فبين النبي عز وجل أنه من عادى لله تعالى وليًّا فقد بارز الله تعالى بالمحاربة.
خامسًا: أسباب الحرمان من ولاية الله:
من خلال النظر في آيات الموضوع نجد أن أسباب الحرمان من ولاية الله عز وجل تتمثل في الآتي:
فالشخص الذي لا يؤمن بالله عز وجل كيف يكون الله تعالى وليه وناصره في الدنيا وفي الآخرة؟ يقول الله تعالى: (ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ) [العنكبوت: ٢٠-٢٣].
والمعنى: يأمر الله عز وجل نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يخاطب المشركين الكافرين المنكرين قضية البعث بعد الممات أن يسيروا في الأرض، فينظروا كيف بدأ الله تعالى الأشياء وأوجدها من عدم، ولم يتعذر عليه شيء من ذلك، فكذلك لا يتعذر عليه إعادتها مرة أخرى بعد فنائها، فإن الله تعالى قادر على ذلك، ولا يعجزه شيء.
وبعد إعادتهم بعد فنائهم، يعذب الله تعالى منهم على ما أسلف من ذنوب في حياته، ويرحم منهم من تاب وآمن وعمل صالحًا، ثم يبين الله تعالى لهم أن رجوعهم ومآلهم هو إلى الله جل جلاله، ثم يتوعدهم ويتهددهم بأنهم لن يعجزوا الله تعالى في الأرض ولا في السماء، ولن يكون لهم من دون الله عز وجل من ولي يلي أمورهم، ولا نصير ينصرهم من دون الله تعالى إن أراد بهم سوءًا، كما لا يمنعهم منه أحد إن أراد أن يوقع عقوبته عليهم.
ثم يذكر الله تعالى أن الذين كفروا بحججه تعالى، وأنكروا أدلته، وجحدوا لقاءه والرجوع إليه يوم القيامة، فهؤلاء يئسوا من رحمة الله تعالى في الآخرة عند معاينتهم ما أعد الله تعالى لهم من العذاب الموجع35.
ويقول الله تعالى أيضًا: (ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ) [الأحزاب: ٦٥-٦٤].
أي: إن الله عز وجل لعن الكافرين فخذلهم وطردهم من رحمته، وأعد لهم في الآخرة جهنم ماكثين فيها أبدًا بلا انقطاع، فلا يجدون فيها وليًّا قريبًا ينفعهم، ولا نصيرًا مانعًا يمنعهم من عذاب الله عز وجل 36.
إن الشخص المنافق هو الذي يظهر خلاف ما يبطن، حيث يظهر الإسلام، ويخفي الكفر، فخطره على الإسلام والمسلمين أشد من خطر الكفار؛ لأن عداءهم للمسلمين غير واضح ولا ظاهر، فمن اتصف بهذه الخصلة السيئة يحرم نفسه من ولاية الله عز وجل له في الدنيا والآخرة.
يقول الله تعالى: (ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ) [الأحزاب: ١٣-١٧].
ففي هذه الآيات يبين الله عز وجل حال المنافقين في غزوة الأحزاب حيث تواصوا فيما بينهم بالفرار عندما ظنوا أن المسلمين سوف ينهزمون في المعركة، وعندها لا يكون لهم نصيبٌ من الغنائم، فتعللوا بانكشاف بيوتهم، وضياع ما فيها، مع علمهم أنهم يكذبون في عذرهم هذا، فهم جبناء لا يريدون إلا مجرد الفرار مع أنهم عاهدوا الله تعالى سابقًا أنهم لن يولوا الأدبار.
لكن لما ظهر الجد لم يساعدهم الصدق، ولم يتذكروا أن الله تعالى سوف يسألهم عن العهود التي قدموها، فيعاقبهم على ما أذنبوا. عندئذٍ يأمر الله تعالى نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يخبرهم أن الفرار من المعركة خوف القتل أو الموت لن ينفعهم؛ لأن الآجال إذا حان وقتها فلا تأخير لها، ولا تقديم عليها، وإن بقوا أحياء فلن يكون متاعهم في الدنيا إلا قليلًا.
كما يخبرهم أيضًا أنه من الذي يمنعهم من الله عز وجل إن أراد أن يوقع بهم مكروهًا، أو يحقق لهم أمرًا مرجوًا، ومن الذي يصرف عنهم دونه عدوًا؟!37.
إن من لم يأتمر بأوامر الله تعالى، وينتهي عما نهى الله تعالى عنه، فإنه يعرض نفسه للحرمان من ولاية الله تعالى، وحفظه ورعايته ونصرته له.
يقول الله عز وجل: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ) [البقرة:١٢٠].
فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يرجو إيمان أهل الكتاب قبل غيرهم؛ لذلك كبر عليه إعراضهم عن إجابة دعوته، فأراد الله تعالى أن ييئسه من الطمع في إسلامهم، فعلق رضا أهل الكتاب عن النبي صلى الله عليه وسلم بما هو مستحيل أن يحدث، فليس غرض اليهود ومبلغ الرضا منهم ما يقترحونه عليه من الآيات، وما يوردونه من الأمور التي فيها تشدد وتعنت، فإنك يا محمد لو جئتهم بكل ما طلبوه تعنتًا لم يرضوا عنك، ثم أخبره الله تعالى بأنهم لن يرضوا عنك حتى يدخل في دينهم، ويتبع ملتهم.
ثم أمر الله تعالى نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يرد عليهم بقوله: (ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠﭡ) [البقرة:١٢٠].
أي: أن الهدى الحقيقي محصور فقط في اتباع ما أمر الله تعالى به، لا فيما أنتم عليه من الكتب المحرفة، والشرائع المنسوخة، ثم أتبع ذلك بوعيد شديد للنبي صلى الله عليه وسلم إن فكر في اتباع أهوائهم، وحاول إرضاءهم وتلبية طلباتهم، ولا يخفى ما في هذا من تعريض لأمة النبي صلى الله عليه وسلم، وتحذيرًا لهم من أن يقعوا في شيء من ذلك، فإن لم يمتثلوا لأمر الله عز وجل حينئذٍ لن يجدوا من يكون لهم وليًا وناصرًا من عذاب الله عز وجل؛ لأن الله تعالى أعلمهم حقيقة اليهود وما هم عليه38.
يقول سيد قطب رحمه الله في قوله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙﭚ) [البقرة:١٢٠].
«فتلك هي العلة الأصيلة، ليس الذي ينقصهم هو البرهان، وليس الذي ينقصهم هو الاقتناع بأنك على الحق، وأن الذي جاءك من ربك الحق، ولو قدمت إليهم ما قدمت، ولو توددت إليهم ما توددت، لن يرضيهم من هذا كله شيء، إلا أن تتبع ملتهم وتترك ما معك من الحق. إنها العقدة الدائمة التي نرى مصداقها في كل زمان ومكان إنها هي العقيدة. هذه حقيقة المعركة التي يشنها اليهود والنصارى في كل أرض وفي كل وقت ضد الجماعة المسلمة »39.
ويقول الله جل جلاله: (ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ) [الرعد:٣٧-٣٦].
هناك قولان في المقصود بـ(ﭪ ﭫ ﭬ) وهما:
الأول: هم أصحاب النبي محمد صلى الله عليه وسلم الذين آتاهم الله عز وجل القرآن، فهم يفرحون بهذا القرآن النازل على النبي صلى الله عليه وسلم، ومن الأحزاب الذين تحزبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم اليهود والنصارى ينكرون بعض القرآن.
الثاني: المسلمون من اليهود أمثال عبد الله بن سلام وأصحابه، فهؤلاء قد ساءهم ذكر اسم الله تعالى (الرحمن) في القرآن الكريم مع كثرة ذكره في التوراة، فلما كثر ذكره في القرآن فرحوا به، فأنزل الله تعالى الآية.
ويقصد بـ (ﭳ) مشركي مكة، فلما عقد النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبينهم صلح الحديبية، كتب فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، فاعترضوا قائلين: ما نعرف الرحمن إلا رحمان اليمامة، يعنون به مسيلمة الكذاب، وكانوا لا ينكرون اسم الله تعالى.
فيأمر الله تعالى نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يقول: (ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀﮁ) ثم يذكر الله عز وجل أنه كما أنزل القرآن الكريم على محمد صلى الله عليه وسلم، فأنكره الأحزاب، كذلك أنزل الحكم والدين عربيًا، فنسب إلى العرب؛ لأنه نزل بلغتهم، فكذب به الأحزاب، ثم توعد الله عز وجل النبي صلى الله عليه وسلم أنه إن اتبع أهواء أهل الكتاب في الملة بعد ما جاءه من العلم الصحيح من الله تعالى، فلن يجد منه عز وجل ناصرًا ولا حافظًا40.
وهو عكس الهداية والتوفيق، فمن كان على ضلالة فكيف يكون الله تعالى وليه وناصره؟!
يقول الله عز وجل: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧﭨ ﭩ ﭪﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ) [الإسراء:٩٧].
أي: من وفقه الله تعالى إلى الهداية فهو المهتدي، فهؤلاء سبق لهم حكم الله تعالى بالإيمان، فوجب أن يصيروا مؤمنين، ومن سبق عليهم حكم الله تعالى بالضلال، استحال أن ينقلبوا عن ذلك الضلال، وأن يوجد من يصرفهم عنه حين يحشرهم الله عز وجل على وجوههم خزيًا عميًا وبكمًا، لا يبصرون ولا ينطقون، فمقرهم ودارهم هي جهنم، كلما تهيأت للانطفاء، سعرها الله تعالى بهم، فلا يفتر عنهم العذاب، ولا يخفف عنهم من عذابها، فلم يظلمهم الله تعالى؛ بل جازاهم بسبب كفرهم بآيات الله تعالى، وإنكارهم البعث وكمال قدرته تعالى41.
ويقول الله عز وجل مخبرًا عن حال أصحاب الكهف عندما كانوا بداخله: (ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ) [الكهف:١٧].
فأيها المخاطب إنك ترى الشمس إذا طلعت فإنها تميل عن كهفهم جهة اليمين، وإذا غربت تقطعهم وتبعد عنهم جهة الشمال، وحال الشمس هذه كرامة لهم من الله عز وجل؛ لئلا تؤذيهم بحرها، وقد كانوا في متسع من الكهف بحيث لا تصيبهم الشمس لا في ابتداء النهار ولا في آخره، وذلك الصنيع هو من دلائل قدرة الله تعالى الباهرة، فمن يوفقه الله تعالى للإيمان، ويرشده إلى طريق السعادة، فهو المهتدي حقًا، ومن يضلله الله تعالى بسوء عمله فلن تجد له من دون الله تعالى من يهديه ويرشده42.
ونلمح من قصة أصحاب الكهف أن هؤلاء الفتية كانوا حريصين على الهداية واتباع دين الله عز وجل؛ لذلك كان الله تعالى لهم مؤيدًا وناصرًا، فلم يخذلهم، ولم يدع أيدي الشر تطالهم؛ بل أكرمهم الله جل جلاله بهذه الكرامة الباهرة، فمن يصدق الله يصدقه الله، وفي المقابل من لم يكن في داخله استعداد للهداية، فلن يجد له وليًا ومرشدًا إلى طريق الهداية والسعادة.
ويقول الله تعالى في موضع آخر: (ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ) [الشورى:٤٤-٤٦].
حيث يخبر الله جل جلاله أنه وحده المنفرد بالهداية والإضلال، وأن من يضلله الله تعالى فبسبب ظلمه لنفسه بالمعاصي والذنوب والآثام، فما له من ولي يتولى أمره ويهديه43، فكان ضلاله وعدم هدايته إلى طريق الرشاد سببًا من أسباب الحرمان من ولاية الله تعالى له، كما قال الله تعالى: (ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ) [الأحقاف:٣٢].
يقول الله عز وجل: (ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ) [الشورى:٨،٧].
والمعنى: أن الله تعالى أوحى إلى النبي صلى الله عليه وسلم القرآن وهو كلام عربي، واقتضت الحكمة الإلهية اختيار الأمة العربية لتكون أول من يتلقى الإسلام وينشره بين الأمم، ولو روعي فيه جميع الأمم المخاطبة بدعوة الإسلام لاقتضى أن ينزل القرآن بلغات لا تحصى، لكن الله عز وجل اختار له أفضل اللغات، كما اختار إنزاله على أفضل البشر، وهذا الإنزال لأجل إنذار المشركين من أهل مكة ومن حولها ما ينذرونه من العذاب في الدنيا والآخرة، وتنذرهم أيضًا يوم القيامة وما يكون فيه من أهوال وشدائد، وسمي بالجمع؛ لأن الخلائق تجمع فيه للحساب، ففريق من هذه الخلائق سيكون في الجنة، وفريق آخر سيكون في النار.
وهذا أمرٌ شاء الله تعالى تقديره بأن أوجد من أسبابه بحكمته، فلو شاء لقدر أسباب اتحادهم على عقيدة واحدة من الهدى، فيكونون جميعًا في نفس المصير في الجنة، ولكن الله جل جلاله شاء مشيئة أخرى جرت وفق حكمته، وهي أنه تعالى خلقهم على قابلية واستعداد للهدى والضلال، كما مكنهم من كسب أفعالهم، ووضح لهم طريق الخير من الشر، فكان منهم المهتدون، وهم الذين شاء الله تعالى إدخالهم في رحمته، ومنهم الظالمون الذين ظلموا أنفسهم بحرمانها من الهداية، وظلموا غيرهم بالتعدي على حقوقهم فتجاوزوا الحد، فهؤلاء ليس لهم ولي يدفع عنهم ما حاق بهم، ولا نصير يثأر لهم44.
يقول الله عز وجل: (ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ) [النساء:١٢٣].
أي: ليس أمر النجاة والتزكية بالأماني التي يمني بها أهل الكتاب أنفسهم، وهي عبارة عن أحاديث وتوهمات وتخيلات مجردة عن العمل الصالح، فقد أخبر الله تعالى عن هذه الأماني عندما قالوا: (ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰﯱ ﯲ ﯳ) [البقرة:١١١].
فإن مجرد الانتساب إلى أي دين كان لا يفيد صاحبه شيئًا إن لم يأت بعمل صالح يبرهن على صدق دعواه، لذلك يقول الله: (ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ).
والسوء هي كلمة شاملة لأي ذنب كان صغيرًا أم كبيرًا، قليلًا أم كثيرًا، دنيويًا أم أخرويًا.
والناس في هذا الأمر درجات لا يعلمها إلا الله تعالى، فمنهم مقل ومنهم مكثر، ومن كان عمله كله سوءًا -وهذا لا ينطبق إلا على الكافر- فإذا مات دون توبة إلى الله عز وجل جوزي بالخلود في العذاب الأليم يوم القيامة.
وحينئذٍ ليس له ولي يحصل له المطلوب به، ولا نصير يدفع عنه المرهوب إلا الله تعالى. أما من كان مستقيمًا في أغلب أحواله، ويعمل الصالحات، ويصدر عنه من بعض الذنوب الصغيرة، فما يصيبه من همٍ أو غمٍ، أو أذى في نفسه، أو ماله، أو أهله، فإنها مكفرات لهذه الذنوب التي قدرها الله تعالى لطفًا بعباده45.
كما يحذر الله عز وجل عباده من اللهو واللعب، وإضاعة العمر فيما لا يفيد، فضلًا عن عمل السيئات والذنوب، فيأمر الله تعالى نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم بقوله: (ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ) [الأنعام:٧٠].
أي: يا أيها الرسول دع الذين اتخذوا دينهم -الذي كان يجب أن يتبعوا تعاليمه، ويهتدوا به- اتخذوه لعبًا ولهوًا، فإنهم لما عملوا هذه الأعمال التي ختم الله تعالى بها على قلوبهم، ودس بها على نفوسهم، ولم يعملوا ليوم لا ينفع فيه مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم.
فأضاعوا أعمارهم فيما لا يفيد، وهو اللعب، وشغلوا أنفسهم عن الجد والعمل المفيد، وهو اللهو، وغرتهم الحياة الدنيا، وغرهم بالله الغرور، فيا أيها الرسول أعرض عن هؤلاء، ولا تبال بأمثالهم، ولكن ذكر بالقرآن من يخاف وعيدي؛ لأنهم هم المنتفعون بالامتثال لأوامري، والاجتناب لنواهي؛ لئلا تبسل نفس بما كسبت، أي قبل اقتحام العبد للذنوب، وتجرئه على الله عز وجل.
فذكرها يا محمد وعظها؛ لترتدع وتنزجر عن فعل ما لا يليق بالمؤمنين، فلن يكون لهذه النفس ولي ولا شفيع إن أحاطت بها ذنوبها، ومن ثم فلا ينفعها أحد من الخلق، لا قريب ولا صديق، ولا يتولى أمرها أحد من دون الله تعالى، كما لا يشفع لها شافع، وإن افتدت نفسها بملء الأرض ذهبًا، فلا يقبل منها ولا يفيد، فأولئك الموصوفون بتلك الصفات هم الذين أهلكوا أنفسهم وحرموها من الخير، فجزاؤهم ماء حار يشوي وجوههم، ويقطع أمعاءهم، وعذاب أليم بسبب ما كانوا يكفرون به46.
الاستكبار حالة تمنع صاحبها من نيل ولاية الله تعالى له، وفي هذا يقول الله عز وجل: (ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ) [النساء:١٧٣-١٧٢].
والمعنى: لن يأنف ولن يترفع المسيح عليه السلام أن يكون عبدًا لله عز وجل، مستمرًا على عبادته وطاعته، حسب وظيفة العبودية التي شرف الله تعالى بها عباده، وكذلك الملائكة المقربون لن يأنفوا أن يكونوا عبيدًا لله عز وجل، ثم بين الله تعالى على سبيل التهديد أن من يستنكف عن طاعة الله تعالى، ويطلب الكبر لنفسه من غير استحقاق له، فسوف يحشر المستنكفين إليه جميعًا لمحاسبتهم.
فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ووصفوا بعدم الاستنكاف، فسيوفيهم الله تعالى أجورهم من غير أن ينقص منها شيئًا، ويزيدهم من فضلها بتضعيفها أضعافًا مضاعفة، وبإعطائهم ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
وأما الذين استنكفوا وترفعوا عن عبادة الله جل جلاله، واستكبروا، فسوف يعذبهم بسبب استنكافهم واستكبارهم عذابًا أليمًا لا يحيط به وصف، كما لا يجدون لهم من دون الله تعالى وليًا يلي أمورهم، ويدبر مصالحهم، ولا نصيرًا ينصرهم من بأسه عز وجل، وينجيهم من عذابه47.
يتضمن الحديث في هذا المبحث عن أسباب ولاية الملائكة للمؤمنين وشرحها، وكذلك بيان الآثار المترتبة على ولاية الملائكة للمؤمنين، وتوضيح ذلك كما يأتي:
أولًا: أسباب ولاية الملائكة للمؤمنين:
من خلال النظر في آيات الموضوع نجد أن الأسباب التي ذكرها القرآن الكريم، وجعلها موجبة لولاية الملائكة للمؤمنين تتمثل في ثلاثة أسباب:
وخصوصًا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، كما تحدث القرآن عن ولاية الملائكة للنبي صلى الله عليه وسلم، وخاصة أمين الوحي جبريل عليه السلام في معرض الحديث عن أمرٍ حدث بين النبي صلى الله عليه وسلم وبعض زوجاته.
يقول الله تعالى: (ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ) [التحريم:٤-٣].
والمعنى: واذكر وقت إذ أسر النبي صلى الله عليه وسلم إلى حفصة حديثًا ما، فسره ابن عباس بأنه ذات يوم اطلعت حفصة على النبي صلى الله عليه وسلم وهو مع مارية أم ولده إبراهيم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لحفصة: لا تخبري عائشة، وذكر لها أن أباها عمر بن الخطاب، وأبا عائشة أبا بكر الصديق سيليان أمر الخلافة بعد النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن لم تكتم حفصة سر رسول الله صلى الله عليه وسلم لها، فانطلقت إلى عائشة وأخبرتها.
فأطلع الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم على ما حدث، فأظهر بعضه، وأعرض عن ذكر البعض الآخر، وجازى النبي صلى الله عليه وسلم حفصة على ما بدر منها بأن طلقها طلقة واحدة، فقال لها عمر: لو كان في آل الخطاب خير لما طلقك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فأمره جبريل بمراجعتها، وشفع فيها، وهناك رواية أخرى تذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم قد هم بطلاقها حتى قال له جبريل: لا تطلقها فإنها صوامة قوامة، وإنها من نسائك في الجنة، فلم يطلقها. فلما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم حفصة بما أطلعه الله عز وجل عليه، قالت: من أنبأك بهذا يا رسول الله؟ -وكانت قد ظنت أن عائشة أخبرته- فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: نبأني العليم الخبير الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.
وبعد ذلك حث الله عز وجل كلًا من حفصة وعائشة على التوبة على ما كان منهما من الميل إلى خلاف محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد مالت قلوبهما وزاغت عن الحق حتى أحبتا ما كره النبي صلى الله عليه وسلم من اجتناب جاريته مارية.
ثم أخبرهما على سبيل التهديد لهما بأنهما إن تتظاهرا وتتعاونا على النبي صلى الله عليه وسلم بالمعصية والإيذاء، فإن الله جل جلاله هو وليه وناصره، وحينئذٍ لا يضره ذلك التظاهر منهما، وكذلك جبريل عليه السلام هو مولاه، بالإضافة إلى صالح المؤمنين وخيارهم أيضًا، وكذلك الملائكة كلهم هم ظهراء وولاة وأعوان للنبي صلى الله عليه وسلم 48.
وهذان السببان قد وردا في قوله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ) [فصلت:٣٠-٣٢].
فهذا حال المؤمنين دائمًا حيث يقولون: ربنا الله وحده لا شريك له، ثم استقاموا على هذا التوحيد، ولم يلتفتوا إلى إله غير الله عز وجل، وأورد المفسرون أقوالًا في معنى استقامتهم، منها: إخلاصهم العمل لله تعالى، حيث عملوا بطاعته، واجتنبوا معصيته، ومنها: استقاموا على شهادة أن لا إله إلا الله حتى ماتوا، ومنها: عملهم على وفق ما قالوا، ومنها: إعراضهم عما سوى الله تعالى، ومنها: زهدهم في الدنيا ورغبتهم في الاخرة49.
ولا مانع من كون هذه المعاني جميعها تدخل في معنى الاستقامة.
ثانيًا: آثار ولاية الملائكة للمؤمنين:
تتمثل آثار ولاية الملائكة للمؤمنين في النقاط الآتية:
أولًا: ورد ذكر آثار ولاية الملائكة للمؤمنين في نفس الموضع الذي ذكرت فيه الأسباب والموجبات، حيث قال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ) [فصلت:٣٠-٣٢].
فهؤلاء المؤمنون الذين أقروا بربوبية الله تعالى وتوحيده، وداموا على هذا التوحيد حتى ماتوا، فلم يلتفتوا إلى إله غيره عز وجل، واستقاموا وثبتوا على أمر الله تعالى فامتثلوا لأوامره، واجتنبوا نواهيه، فهؤلاء يستحقون ولاية الملائكة لهم، فقد ورد في الحديث عن سفيان بن عبد الله الثقفي قال: (قلت: يا رسول الله، حدثني بأمر أعتصم به، فقال: (قل: ربي الله، ثم استقم) قلت: يا رسول الله، ما أخوف ما تخاف علي؟ قال: فأخذ بلسان نفسه، ثم قال: (هذا)50.
ثانيًا: إن ولاية الملائكة لهؤلاء المؤمنين تكون بتنزل الملائكة عليهم بما يشرح صدورهم، ويدفع عنهم المخاوف والأحزان، كأن يبشروهم بنجاتهم عند الموت، وفي القبر وعند البعث، وكذلك إزالة الخوف من أهوال الآخرة، وإذهاب الحزن عما فاتهم من أمور الدنيا من أهل وما وولد، فإذا ذهبت أحزان الماضي، وأزيلت مخاوف المستقبل، حصلت الطمأنينة والسعادة وانشراح الصدر، كما إن الملائكة تقول لهم: أبشروا بدخول الجنة التي وعدكم الله تعالى بها على ألسنة أنبيائه ورسله، فإنكم ستستقرون بها، وتخلدون في نعيمها إلى الأبد.
ثم أخبر الله عز وجل عن قول الملائكة للمؤمنين: (ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫﭬ) أي: نحن نتولى أمور حفظكم ومعونتكم في الدنيا والآخرة، حيث ندفعكم إلى السداد والتوفيق والحفظ بأمر من الله تعالى، فنحثكم على فعل الخير، ونرهبكم من فعل الشر.
هذا في الدنيا، أما في الآخرة فإننا نكون معكم أيضًا حيث نؤنس وحشتكم في قبوركم، ونكون معكم عند النفخة في الصور، كم نؤمنكم من الفزع يوم البعث والنشور، ونجاوز بكم الصراط، ونوصلكم إلى جنات النعيم، كما أن لكم في الجنة جميع ما تختارون وتطلبون وتشتهون، من أصناف اللذات وأنواع الطيبات مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
فكل ما تتمنونه تحصلون عليه، فهو معدٌ لكم سلفًا ضيافةً وعطاءً ومنًا من الله جل جلاله الذي غفر لكم ذنوبكم، ووفقكم لفعل الحسنات، ثم قبلها منكم، فبمغفرته أزال عنكم المحذور، وبرحمته أنالكم المطلوب51.
ثالثًا: إن ولاية الملائكة لهؤلاء المؤمنين تكون بتثبيت المؤمنين في ساحات الجهاد كما قال الله عز وجل: (ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ) [الأنفال:١٢].
والمعنى: اذكروا أيها المؤمنون نعمة ربكم عليكم حين أوحى إلى الملائكة أن الله جل جلاله معكم بالعون والتأييد والنصر.
فأمر الملائكة أن تلقي في قلوب المؤمنين وتلهمهم الجرأة على عدوهم، وترغبهم في الجهاد وفضله، فإن الله تعالى سوف يلقي في قلوب الكافرين الرعب الذي هو أعظم جند للمؤمنين على الكافرين.
فإن الله عز وجل إذا ثبت المؤمنين وألقى الرعب في قلوب الكافرين، لم يقدر الكافرون على الثبات لهم ومكنهم الله تعالى منهم، حينئذٍ يأمر الله عز وجل المؤمنين أن يضربوا أعناقهم ومفاصلهم.
وهذا الخطاب إما أن يكون للملائكة الذين أوحى الله تعالى إليهم أن يثبتوا الذين آمنوا فيكون في ذلك دليل أنهم باشروا القتال يوم بدر، أو يكون الخطاب للمؤمنين بحيث يشجعهم الله، ويعلمهم كيف يقتلون المشركين، وأنهم لا يرحمونهم، وذلك لأنهم شاقوا الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، أي: حاربوهما وبارزوهما بالعداوة52.
يقتضي الحديث عن ولاية المؤمنين بيان موجبات هذه الولاية بين بعضهم البعض، بالإضافة إلى بيان آثار هذه الولاية على أصحابها، وكذلك بيان آثار ولاية المؤمنين للكافرين والظالمين وآثارها، وتوضيح ذلك فيما يأتي:
أولًا: موجبات ولاية المؤمنين بعضهم البعض:
هناك أمورٌ أو صفات تجمع بين المؤمنين مما يؤهلهم أو يوجب عليهم أن تكون الولاية بين بعضهم البعض، وقد ذكرت بعض آيات القرآن الكريم هذه الموجبات.
ومنها قول الله عز وجل: (ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢﮣ ﮤ ﮥ ﮦﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ) [التوبة:٧١].
فهذه الآية إما أن تكون على سبيل الإخبار من الله تعالى أن الدين الذي اعتنقه هؤلاء المؤمنون، وتمسكوا به، يوجب لهم الولاية، فيصير بعضهم أولياء لبعض، كما في قوله تعالى: (ﯜ ﯝ ﯞ) [الحجرات:١٠].
وإما أن يكون على سبيل الأمر، أي يأمر الله عز وجل المؤمنين أن يتخذوا بعضهم أولياء بعض، ولا يتخذوا غيرهم أولياء، كما في قوله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ) [الممتحنة:١]53.
وذكر الماتريدي في تفسيره نوعين للولاية بين المؤمنين: أحدهما: ولاية روحانية، والأخرى: ولاية نفسانية، فقال: «الأولى: ولاية روحانية، وهي ولاية في الدين توجب مراعاة حقوق تحدث بالدين الذي جمعهم وحفظها.
والثانية: ولاية نفسانية، وهي الولاية التي تكون في الأنفس والأموال، من نحو ولاية النكاح والميراث وغيره.
فهذه الولاية هي الولاية النفسانية التي كانت بالرحم والنسب، فإذا اجتمعوا في دين واحد وجبت تلك الولاية لهم، وهي الولاية نفسها، والولاية الروحانية هي المودة والمحبة، فيجب مراعاتها بالدين وتعاهدها، وهذا كما تقول: حياة روحانية وحياة جسدانية، والحياة الروحانية: هي العلم والآداب، يرى أشياء ويعرفها من بعد الحياة الجسدانية: وهي الروح الذي به يحيا الجسد، وبذهابه يموت الجسد، والله أعلم»54.
فهؤلاء المؤمنون والمؤمنات المصدقون بالله عز وجل، وبرسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وبالقرآن العظيم، فإن صفتهم أن بعضهم أنصار بعض وأعوانهم وقلوبهم متحدة في التواد والتحاب والتعاطف.
وعليه تكون هذه الموجبات متمثلة في النقاط الآتية:
أولًا: (ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ) فإن الدين الذي اعتنقه هؤلاء المؤمنون، وتمسكوا به، يوجب لهم الولاية، فيصير بعضهم أولياء لبعض.
ثانيًا: (ﮗ ﮘ) أي يأمرون الناس بالإيمان بالله تعالى وبرسوله صلى الله عليه وسلم، وبما جاء به من عند الله تعالى، والمعروف هو اسم جامع لكل ما عرف حسنه من بر وخير، من العقيدة الحسنة، والأعمال الصالحة، والأخلاق الفاضلة، وأول ما يأمرون به أنفسهم.
ثالثًا: (ﮙ ﮚ ﮛ) وهو كل ما خالف المعروف وناقضه من العقائد الباطلة المزيفة، والأعمال الخبيثة، والأخلاق الرذيلة، فهم أول ما ينهون أنفسهم عنه.
رابعًا: (ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ) فيؤدون الصلاة على أكمل وجه، ويخرجون زكاة أموالهم، ويعطونها لمستحقيها.
خامسًا: (ﮠ ﮡ ﮢ) أي: لا يزالون ملازمين لطاعة الله عز وجل، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم على الدوام55.
يقول سيد قطب رحمه الله: «إن طبيعة المؤمن هي طبيعة الأمة المؤمنة، طبيعة الوحدة وطبيعة التكافل، وطبيعة التضامن، ولكنه التضامن في تحقيق الخير ودفع الشر. (ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ) وتحقيق الخير ودفع الشر يحتاج إلى الولاية والتضامن والتعاون، ومن هنا تقف الأمة المؤمنة صفًا واحدًا.
لا تدخل بينها عوامل الفرقة (ﮓ ﮔ ﮕ) يتجهون بهذه الولاية إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإعلاء كلمة الله، وتحقيق الوصاية لهذه الأمة في الأرض.
(ﮜ ﮝ) الصلة التي تربطهم بالله.
(ﮞ ﮟ) الفريضة التي تربط بين الجماعة المسلمة، وتحقق الصورة المادية والروحية للولاية والتضامن.
(ﮠ ﮡ ﮢ) فلا يكون لهم هوى غير أمر الله وأمر رسوله، ولا يكون لهم دستور إلا شريعة الله ورسوله، ولا يكون لهم منهج إلا دين الله ورسوله، ولا يكون لهم الخيرة إذا قضى الله ورسوله، وبذلك يوحدون نهجهم ويوحدون هدفهم ويوحدون طريقتهم، فلا تتفرق بهم السبل عن الطريق الواحد الواصل المستقيم»56.
وفي موضع آخر بين الله تعالى من هو الولي الذي تجب موالاته، فقال: (ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ) [المائدة:٥٥].
أي: إن الولي الذي يجب على المؤمنين اتخاذه هو الله جل جلاله، ورسوله صلى الله عليه وسلم، والمؤمنون الذين من صفاتهم أنهم يقيمون الصلاة في أوقاتها المفروضة، ويؤدونها على أكمل وجه بكل خشوع وخضوع، وكذلك فهم يؤتون الزكاة ويؤدونها لمستحقيها غير متكبرين على الفقراء، ولا مترفعين عليهم57.
ويروى في سبب نزول الآية أن عبد الله بن سلام جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله إن قومًا من قريظة والنضير قد هاجرونا وفارقونا وأقسموا أن لا يجالسونا، ولا نستطيع مجالسة أصحابك لبعد المنازل، وشكى ما يلقى من اليهود، فنزلت هذه الآية، فقرأها عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: رضينا بالله وبرسوله وبالمؤمنين أولياء58.
ونلحظ من قوله تعالى: (ﯥ ﯦ) أن هذا أسلوب حصر يفيد القصر، أي: حصر وقصر الولاية الحقة فقط في وجوب الولاية لله عز وجل، ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وللمؤمنين فقط، وما عداها فالمؤمنون منهيون عن اتخاذهم أولياء بالمصادقة والمناصرة والمعاونة، ويجب التبرؤ منهم.
هذا وقد كانت الموالاة والمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار في بداية الدعوة الإسلامية في العهد المدني على أساس التوارث بينهم؛ لتعزيز هذا المفهوم وترسيخه بينهم، حيث قال تعالى: (ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ) [الأنفال:٧٢].
والمعنى: إن الذين آمنوا وهاجروا من مكة حبًا لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله تعالى، وهم الذين سموا بالمهاجرين، وكذلك الأنصار الذين آووا أولئك المهاجرين، ونصروهم على أعدائهم، فإنه يتولى بعضهم بعضًا في الميراث، فكان كل من المهاجرين والأنصار يتوارثون بالهجرة دون القرابة من الرحم والنسب، حتى نسخ ذلك بقوله: (ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ) [الأحزاب:٦]59.
ثانيًا: آثار ولاية المؤمنين لبعضهم:
بعد أن ذكر الله عز وجل موجبات ولاية المؤمنين لبعضهم البعض، وصف آثار هذه الولاية الحقة للمؤمنين سواء كانت في الدنيا أم في الآخرة، وهي متمثلة في النقاط الآتية:
أولًا: رحمة الله عز وجل بهم: كما في قوله تعالى: (ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢﮣ ﮤ ﮥ ﮦﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ) [التوبة:٧١].
فهؤلاء المؤمنون والمؤمنات المتصفون بتلك الصفات الموجبة لولاية بعضهم البعض سيفيض الله تعالى عليهم من آثار رحمته، ويشملهم بإحسانه، فأي شيء يبتغيه المؤمنون فوق رحمة الله عز وجل، وأي شيء يطلبون بعد فوزهم بجنته؟ فقد جعل الله تعالى سبب الوصول إلى رحمته يسيرًا سهلًا، وليس عسيرًا شاقًا؛ بل هو طلب كل إنسان عاقل يتصف بالصفات الواردة في الآية60.
يقول سيد قطب رحمه الله: « والرحمة لا تكون في الآخرة وحدها، إنما تكون في هذه الأرض أولًا، ورحمة الله تشمل الفرد الذي ينهض بتكاليف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وتشمل الجماعة المكونة من أمثال هذا الفرد الصالح. رحمة الله في اطمئنان القلب، وفي الاتصال بالله، وفي الرعاية والحماية من الفتن والأحداث، ورحمة الله في صلاح الجماعة، وتعاونها، وتضامنها واطمئنان كل فرد للحياة، واطمئنانه لرضاء الله»61.
ثانيًا: الغلبة: كما في قول الله عز وجل: (ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ) [المائدة:٥٦].
قال الطبري: «وهذا إعلامٌ من الله -تعالى ذكره- عباده جميعًا الذين تبرؤوا من حلف اليهود وخلعوهم رضًا بولاية الله ورسوله والمؤمنين، والذين تمسكوا بحلفهم، وخافوا دوائر السوء تدور عليهم، فسارعوا إلى موالاتهم أن من وثق بالله وتولى الله ورسوله والمؤمنين، ومن كان على مثل حاله من أولياء الله من المؤمنين، لهم الغلبة والدوائر والدولة على من عاداهم وحادهم؛ لأنهم حزب الله، وحزب الله هم الغالبون، دون حزب الشيطان»62.
ثالثًا: الفلاح في الدنيا والآخرة: كما في قوله عز وجل: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽﭾ ﭿ ﮀ ﮁﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ) [المجادلة:٢٢].
والمعنى: لا تجد قومًا يجمعون بين الإيمان بالله عز وجل واليوم الآخر، وبين مودة أعداء الله تعالى ورسله، فلا يجتمع هذان ولا يتحققان.
وفي هذا التوصية بمجانبة أعداء الله عز وجل ومباعدتهم، والاحتراس من مخالطتهم ومعاشرتهم حتى ولو كان آباء الموادين، أو أبناءهم، أو إخوانهم، أو عشيرتهم، فإن قضية الإيمان تستلزم هجر المحادين حتى ولو كانوا أقرباءهم، فأولئك الذين لا يوادون من حاد الله ورسوله، أثبت الله تعالى في قلوبهم الإيمان، وقواهم بنصرٍ منه على عدوهم في الدنيا، وسمى نصره لهم روحًا؛ لأن به يحيا أمرهم، وليس هذا فقط؛ بل يدخلهم يوم القيامة جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها إلى الأبد.
فرضي الله تعالى عنهم، وقبل أعمالهم، وأفاض عليهم آثار رحمته العاجلة في الدنيا والآجلة في الآخرة، كما أنهم رضوا عن الله عز وجل، ففرحوا بما أعطاهم عاجلًا وآجلًا، فأولئك حزب الله تعالى وجنده الذين يمتثلون أوامره، ويقاتلون أعداءه، وينصرون أولياءه، ألا إن حزب الله تعالى هم الفائزون بسعادة الدارين الدنيا والآخرة، وهم الكاملون في الفلاح63.
وهكذا تتجلى آثار ولاية المؤمنين لبعضهم البعض في الدنيا والآخرة.
ثالثًا: ولاية المؤمنين للكافرين والظالمين:
لقد حذر الله تعالى المؤمنين وتوعدهم على سبيل التهديد من اتخاذهم الكافرين والظالمين أولياء من دون المؤمنين، وبينَّا سابقًا أن الولاية الحقة قد حصرها الله تعالى في ولاية المؤمنين لله عز وجل، ولرسوله صلى الله عليه وسلم، والمؤمنين أمثالهم، فتترتب على ولاية المؤمنين للكافرين والظالمين جملة من الآثار، ومنها:
أولًا: براءة الله تعالى منه: يقول الله عزَّ وجلَّ: (ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱﯲ ﯳ ﯴ ﯵﯶ ﯷ ﯸ ﯹ) [آل عمران:٢٨].
والمعنى أنَّ الله تعالى ينهى المؤمنين أن يتخذوا الكفار أعوانًا وأنصارًا يوالونهم على دينهم، ويظاهرونهم على المسلمين من دون المؤمنين، ويدلونهم على عوراتهم وأسرارهم، وتوعد الله تعالى أن من يفعل ذلك فقد برئ من الله تعالى، وبرئ الله تعالى منه، حيث ارتد عن دينه، ودخل في الكفر.
ثم استثنى من هذا الأمر حالة واحدة، وهي إذا كان المؤمنون تحت سلطان الكافرين، وكانوا في حالة ضعف يخافونهم على أنفسهم، فحينئذٍ يظهرون لهم الولاية باللسان فقط، ويضمرون لهم العداوة، فلا يعينونهم على مسلم، ولا يشايعونهم على ما هم عليه من كفر64.
ثانيًا: وقوعهم في دائرة الكفر: حيث يقول جلَّ جلاله: (ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙﭚ ﭛ ﭜ ﭝﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ) [المائدة:٥١].
والمعنى أن الله تعالى ينهى المؤمنين عن اتخاذ اليهود والنصارى أولياء، بحيث يعاملونهم معاملة الأولياء في المصادقة والمعاشرة والمناصرة، وعلل الله تعالى هذا النهي بأن هؤلاء اليهود والنصارى بعضهم أولياء بعض، فكيف تتخذونهم أولياء؟
فبعض اليهود أولياء البعض الآخر منهم، وكذلك بعض النصارى أولياء البعض الآخر منهم، فهم يتعاضدون فيما بينهم، ويتناصرون على عداوة النبي صلى الله عليه وسلم وعداوة القرآن الذي جاء به من عند الله تعالى، ووجه تعليل هذا النهي أن هذه الموالاة هي شأن الكفار لا شأن المؤمنين، فلا يفعلوا ما هو من فعلهم، فيكونوا أمثالهم؛ لذلك عقب الله تعالى هذه الجملة التعليلية بما هو كالنتيجة لها فتوعدهم وعيدًا شديدًا أن من يتولاهم منكم، فإنه من جملتهم وفي عدادهم.
ثم علل الله تعالى ذلك بقوله: (ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ) أي: إن وقوع المؤمنين في الكفر إذا والوا الكفار هو بسبب عدم هداية الله تعالى لمن ظلم نفسه بما يوجب الكفر65.
يقول السعدي رحمه الله في تفسيره لهذه الآية: «يرشد تعالى عباده المؤمنين حين بين لهم أحوال اليهود والنصارى وصفاتهم غير الحسنة، أن لا يتخذوهم أولياء. فإن بعضهم أولياء بعضٍ يتناصرون فيما بينهم ويكونون يدًا على من سواهم، فأنتم لا تتخذوهم أولياء، فإنهم الأعداء على الحقيقة ولا يبالون بضركم؛ بل لا يدخرون من مجهودهم شيئًا على إضلالكم، فلا يتولاهم إلا من هو مثلهم.
ولهذا قال: (ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ) لأن التولي التام يوجب الانتقال إلى دينهم، والتولي القليل يدعو إلى الكثير، ثم يتدرج شيئا فشيئًا، حتى يكون العبد منهم. (ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ) أي: الذين وَصْفُهُم الظلم، وإليه يرجعون، وعليه يعولون، فلو جئتهم بكل آية ما تبعوك، ولا انقادوا لك»66.
ثالثًا: الحكم عليهم بالضلال: كما في قول الله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ) [الممتحنة:١-٢].
وكان سبب نزول هاتين الآيتين متمثلًا في قصة حاطب بن أبي بلتعة، وهو رجل من المهاجرين، وشهد غزوة بدر، وكان له في مكة مال وأولاد، ولم يكن حاطب من قريش نفسها؛ بل كان حليفًا لعثمان، فلمَّا عزم الرسول صلى الله عليه وسلم على فتح مكة بعدما نقضت قريش صلح الحديبية، أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتجهيز الغزو، واستعان على ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم عم عليهم خبرنا).
فذهب حاطب وكتب كتابًا إلى قريش يعلمهم بما عزم عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وبعثه مع امرأة من قريش إلى أهل مكة، وفعل ذلك؛ ليتخذ به عندهم يدًا، فأطلع الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم على ذلك، وهذا من باب استجابة الله تعالى لدعاء النبي صلى الله عليه وسلم السابق.
فبعث النبي صلى الله عليه وسلم عليًّا ابن أبي طالب والزبير والمقداد في طلب المرأة وأخذ الكتاب منها، حتى وصلوا إلى روضة خاخ، فوجدوها وأمروها بإخراج الكتاب، فنفت وجوده معها، فهددوها إما أن تخرج الكتاب، وإما أن ينزعوا الثياب ليخرجوه بأنفسهم، فأخرجت الكتاب من عقاصها، وأتوا به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فكلم النبي صلى الله عليه وسلم حاطبًا وسأله عن سبب ما فعل، فأجاب: لا تعجل عليَّ، إني كنت امرءًا ملصقًا في قريش، ولم أكن من أنفسهم، وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون أهليهم بمكة، فأحببت إذ فاتني من ذلك النسب فيهم أن أتخذ فيهم يدًا يحمون بها قرابتي، وما فعلت ذلك كفرًا ولا ارتدادًا عن ديني، ولا رضًا بالكفر بعد الإسلام.
فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إنه صدقكم) واستأذن عمر بن الخطاب من النبي صلى الله عليه وسلم في ضرب عنقه، فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وقال: (إنه قد شهد بدرًا، وما يدريك لعل الله اطلع إلى أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) فأنزل الله تعالى الآيتين67.
والمعنى أن الله تعالى ينهى المؤمنين عن اتخاذ المشركين والكفار الذين هم محاربون لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين، فهم الذين شرع الله تعالى عداوتهم ومجانبتهم، ونهى أن يُتَّخَذُوا أولياء وأصدقاء وأخلاء، فهم قد أخرجوا الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه من بين أظهرهم؛ لما كرهوا منهم ما هم عليه من التوحيد وإخلاص العبادة لله عز وجل وحده، فلم يكن لكم ذنب عندهم إلا أنكم مؤمنون بالله رب العالمين، فإن كنتم خرجتم جهادًا في سبيل الله تعالى تبتغون مرضاتي، فلا توالوهم، فهم أعدائي وأعداؤكم، وقد أخرجوكم من دياركم وأموالكم؛ حنقًا عليكم، وسخطًا لدينكم، فإن أسررتم لهم بالمودة، فأنا أعلم بالسرائر والضمائر والظواهر، ومن يفعل ذلك فقد ضل الطريق المستقيم.
ولو قدر عليكم هؤلاء الكفار المشركون لما اتقوا منكم أذى ينالونكم به من القول والفعل، كما أنهم يحرصون على ألا تنالوا خيرًا، فعداوتهم لكم كامنة وظاهرة، فكيف توالون أمثال هؤلاء، ولا يخفى ما في هذا من تهييج للمؤمنين على عداوة الكافرين68.
وخلاصة القول: أن من يوالي الكفار من المؤمنين دون عذر فهو منهم، وقد ارتد عن دينه، ورضي بالكفر بعد الإسلام، وقد ضل سواء السبيل، وقد ظلم نفسه بفعله هذا مما يعرضها لعقاب الله عز وجل في الدنيا والآخرة.
يتطلب الحديث عن ولاية الشيطان توضيح صفات أولياء الشيطان، ومن ثم توضيح آثار هذه الولاية على أصحابها، وبيان ذلك كما يأتي:
أولًا: صفات أولياء الشيطان:
إن أولياء الشيطان قد اتصفوا بصفات سبغت عليهم نتيجة ولايتهم للشيطان، حيث أكسبهم الشيطان هذه الصفات كي يقوموا بمهمتهم في مساعدته في إغواء الخلق، وقد تحدث القرآن الكريم عن تلك الصفات، فهي متمثلة فيما يأتي:
يقول الله عز وجل: (ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ) [الأعراف:٢٧].
ففي هذه الآية يحذر الله تعالى بني آدم أن يفعل بهم الشيطان كما فعل بأبيهم آدم عليه السلام، حين زين له المعصية، ودعاه إليها، ورغبه فيها، ومن ثم كانت النتيجة أن انقاد له، فأنزل آدم وحواء من مكانهما العالي المرموق، فكما فعل بأبيهم ما فعل، كذلك يريد أن يفعل ببنيه، وهو لا يألو جهدًا عنهم حتى يفتنهم عن دينهم إن استطاع، فعلى جميع المؤمنين أخذ الحذر منه، ولا يغفلوا عن المداخل التي يدخل منها الشيطان إليهم، فإن الشيطان يراقبهم على الدوام، ويراهم هو وقبيله من شياطين الجن من حيث لا يرونهم، فالله عز وجل جعل الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون، فعدم الإيمان موجب لعقد الولاية بين الإنسان والشيطان69.
أما المؤمنون فقد أخبر الله تعالى أنه لم يجعل للشيطان عليهم سلطانًا ولا سبيلًا، حيث قال جل جلاله: (ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ) [النحل:٩٩-١٠٠].
فالمشركون الذين يتصفون بالشرك وعدم الإيمان هم أولياء الشيطان.
تعد هذه الصفة مهمة في طريق اتباع الشيطان، ويكسبها الشيطان لأوليائه حتى يغويهم به، فالشيطان لا يحارب أهل الحق وحده؛ بل يحتاج إلى أتباع ومعاونين ومناصرين، ولا بد أن يكون هؤلاء الأتباع بعيدين كل البعد عن الحق والإيمان، ولا يتأتى هذا البعد إلا بزيادة اغترارهم بالباطل الذي هم عليه، فلا يرون الحق إلا فيما هم عليه، وغيره لا يكون صوابًا، فيدخل الشيطان إلى نفوس أتباعه من مدخل يتميز بضعفهم فيه، ألا هو حب الذات والظهور، فيبدأ الشيطان بالوسوسة لأتباعه، ويوحي إليهم أنه على حق، وأنهم هم الأقوى، وأن عليهم الآن محاربة المؤمنين بكل ما يتصفون به من كبر وغرور70.
ويؤكد هذا الأمر قول الله عز وجل: (ﯨ ﯩﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ) [النساء:١٢٠].
ولقد بين الله تعالى هذه الصفة للشيطان وأتباعه المتصفين بالغرور بما هم عليه من باطل، حيث قال: (ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ) [آل عمران:١٧٥].
أي: يخوفهم أولياءه، ويوهمكم أنهم ذوو بأس وشدة71.
والمعنى: أيها المؤمنون، إنما الذي خوفكم بجموع عدوكم ومسيرهم إليكم هو الشيطان، فهو يخوفكم بأوليائه من المشركين؛ وذلك لترهبوهم، وتخافوهم، فنهاهم الله عز وجل عن خوف المشركين الذين هم أولياء الشيطان، وألا يعظم عليهم أمرهم، ولا يرهبوا جمعهم مع طاعتهم لله تعالى، واتباعهم أمره، فإنه جل جلاله متكفل للمؤمنين بالنصر والظفر، ثم وجههم إلى أن يكون هذا الخوف من الله -تعالى وحده-، فلا يعصوه ويخالفوا أمره إن كانوا مصدقين للرسول صلى الله عليه وسلم، وما جاءهم به من عند الله عز وجل 72.
وعليه فإن الشيطان يجعل أولياءه مغترين بالباطل الذي هم عليه، فيعظم صورة أوليائه في نظر المؤمنين، ويستعمل هؤلاء الأتباع والأولياء لتخويف المؤمنين.
إذا كان الشيطان قد أغرى حب الذات والظهور في أوليائه، وهو من أشعل فيهم الكبر والغرور، وسخرهم الشيطان للحرب على الحق وأهله، فإن هؤلاء الأولياء يصبحون ضعفاء أمام سيدهم الشيطان فيخافون منه، وينفذون أوامره، ولا يعصون منها شيئًا.
يقول الله عز وجل: (ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ) [النحل:٩٩-١٠٠].
والمعنى: أن الله تعالى يخاطب نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم والمؤمنين من بعده أنه إذا أراد الشروع في قراءة القرآن الكريم أن يستعيذ بالله تعالى من الشيطان الرجيم، ومن وساوسه، فإن الشيطان ليس له تسلط على إغواء المؤمنين المتوكلين على ربهم حيث يفوضون أمرهم إليه في كل قول وفعل.
وعليه فإن الإيمان بالله عز وجل والتوكل عليه يمنعان الشيطان من وسوسته لهم، وإن وسوس لأحد منهم، فإن وسوسته لا تؤثر فيهم، فهم الذين قال فيهم إبليس: (ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ) [الحجر:٤٠].
وقال الله تعالى فيهم: (ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ) [الحجر:٤٢].
ثم حصر الله عز وجل تسلط الشيطان على الإغواء على الذين يتخذونه وليًّا حيث يطيعونه في وساوسه، كما أنهم مشركون بالله تعالى، أو أنهم مشركون بالله بسبب وسوسة الشيطان لهم73.
إن الحق والباطل في سجال شديد إلى يوم الدين، فكما أن الحق يحتاج إلى أعوان ليظهر وينتصر، فكذلك الباطل يحتاج إلى أعوان ونصراء ليواجه به الحق وأهله، فيواجهونهم به مرة، ويكيدون لهم مرة أخرى، فيزينون لهم الباطل، وهذا السجال من أهل الباطل الذين هم أولياء الشيطان يحتاج إلى جدال، فيقول الله عز وجل: (ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ) [الحج:٣].
والمعنى: أنه يوجد من الناس من يخاصم ويجادل في دين الله تعالى بغير حجة ولا علم، ويتمرد على الله عز وجل. وقد بين الله تعالى أن ما يقوله هؤلاء الأولياء من جدال، وما يفعلونه من عداء للحق وأهله، إنما هو وحي من الشيطان إليهم، فيقول الله عز وجل: (ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ) [الأنعام:١٢١].
روى أبو داود في سبب نزول هذه الآية أن اليهود جاءؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: نأكل مما قتلنا، ولا نأكل مما قتل الله؟! فأنزل الله تعالى هذه الآية74.
والمعنى: أن الأكل مما لم يذكر اسم الله تعالى عليه فسق ومعصية، وإن الشياطين يوحون إلى أوليائهم ليجادلوا أهل الحق بغير علم، ومعلومٌ أن المجادلة هي دف القول على طريق الحجة بالقوة.
وإن أطعتموهم أيها المؤمنون في تحليل ما لم يذكر اسم الله تعالى عليه فإنكم مشركون بالله جل جلاله 75.
يقول السعدي رحمه الله: « فإن المشركين -حين سمعوا تحريم الله ورسوله الميتة، وتحليله للمذكاة، وكانوا يستحلون أكل الميتة قالوا معاندةً لله ورسوله، ومجادلةً بغير حجة ولا برهان: أتأكلون ما قتلتم، ولا تأكلون ما قتل الله؟
يعنون بذلك: الميتة، وهذا رأي فاسد، لا يستند على حجة ولا دليل؛ بل يستند إلى آرائهم الفاسدة التي لو كان الحق تبعًا لها لفسدت السماوات والأرض، ومن فيهن.
فتبًّا لمن قدم هذه العقول على شرع الله وأحكامه، الموافقة للمصالح العامة والمنافع الخاصة، ولا يستغرب هذا منهم، فإن هذه الآراء وأشباهها، صادرة عن وحي أوليائهم من الشياطين، الذين يريدون أن يضلوا الخلق عن دينهم، ويدعوهم ليكونوا من أصحاب السعير.
(ﮒ ﮓ) في شركهم وتحليلهم الحرام، وتحريمهم الحلال(ﮔ ﮕ)، لأنكم اتخذتموهم أولياء من دون الله، ووافقتموهم على ما به فارقوا المسلمين، فلذلك كان طريقكم، طريقهم»76.
ثانيًا: آثار ولاية الشيطان:
بعد عرض صفات أولياء الشيطان التي ذكرها القرآن الكريم، بين الله تعالى ما يترتب على ولاية الشيطان من آثار، ومنها:
يقول الله عز وجل: (ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ) [النساء:١١٦-١٢١].
ومعنى هذه الآيات: أن فيها إخبارًا من الله عز وجل عن طعمة بن أبيرق الذي مات على الشرك بأنه تعالى لا يغفر له، أما غيره من الذين لم يموتوا مشركين، فإن أمرهم إلى الله تعالى إن شاء غفر لهم، وإن شاء عذبهم، ومن يشرك بالله تعالى فقد ضل عن طريق الهداية والصواب، وذلك بسبب بعده عن الحق، وإشراكه بربه عز وجل.
ثم أخبر الله تعالى أن هؤلاء المشركين ما يعبدون إلا أوثانًا لا تسمع، ولا تبصر، ولا تنطق، ولا تعقل، وفي حقيقة الأمر ما يعبدون إلا الشيطان الذي دعاهم إلى عبادة هذه الأوثان، فلعنه الله تعالى وطرده من رحمته بسبب إبائه لأمر الله عز وجل بالسجود لآدم، فقال الشيطان متوعدًا وحانقًا: لأتخذن من عبادك عددًا كبيرًا منهم يعبدونني، وهم معروفون بمعصيتهم لك، وطاعتهم لي.
ولم يقف هذا الشيطان عند هذا الحد؛ بل واصل قائلًا: ولأضلنهم عن طريق الهدى، ولأمنينهم بتعويقي إياهم عن طاعتك بالأماني الكاذبة المتمثلة في أنهم لا يلقون عذابًا، أو أن الله سوف يغفر لهم، ولآمرنهم فيطيعونني، فيجعلون لآلهتهم نصيبًا مما رزقهم الله، كما يعلمونها بقطع آذانها؛ لتعرف أنها للآلهة، ولآمرنهم أيضًا فيطيعونني في تغيير خلق الله بالبدع والمعاصي.
ثم قال الله جلَّ جلاله: إن من اتخذ الشيطان وليًّا من دونه تعالى، فقد عاداه، ومن عاداه، فقد تم له أعظم الخسران، فالشيطان لا يملك من الأمر شيئًا، فكيف يحقق لأوليائه النجاة والسعادة؟ وحينئذٍ يعلن الله عز وجل حكمه في قوة ووضوح أن أولئك الشياطين وأولياؤهم سوف يكون مصيرهم إلى النار، ومن ثم لا يجدون عنها معدلًا أو مهربًا77.
هذا وقد بين الله عز وجل أن من يتخذ الشيطان وليًّا من دون الله تعالى، فبئس ما اختار لنفسه من ولاية الشيطان الذي لا يأمره إلا بالفحشاء والمنكر عن ولاية الرحمن الذي كل النجاة والسعادة والفلاح في ولايته78.
يقول جلَّ جلاله: (ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔﯕ ﯖ ﯗ ﯘ) [الكهف:٥٠].
ويقول جلَّ جلاله في موضع آخر: (ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ) [الأعراف:٣٠].
أي: من أقبل على الله تعالى بإيمان، هداه الله عز وجل، وخفف عنه مؤنة الطاعة، وبغضه في المعصية، أما الفريق الآخر الذي تأبىَّ على الله تعالى، ولم يستجب لهدايته، فكيف يعينه الله تعالى؟
فإنه يتركه في غيه ويخلي بينه وبين الضلالة، فالذين حقت عليهم الضلالة، إنما كان ذلك بسبب اتخاذهم الشياطين أولياء من دون الله عز وجل، ويحسبون أنهم على هداية في ارتكابهم للمعاصي، فهذا كفر وتبجح على الله تعالى 79.
وعليه فإن من ثبتت ولايته للشيطان، وامتاز بصفات أولياء الشيطان، فإن الله تعالى أمر أولياءه المؤمنين بقتال أولياء الشيطان؛ لأنه إما أن يكون القتال في سبيل الله عز وجل، أو في سبيل الطاغوت، فوجب أن يكون كلُّ ما سوى الله تعالى طاغوتًا، كما بين الله عز وجل أن كيد الشيطان ضعيف، فقال: (ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ) [النساء:٧٦].
فالله تعالى ينصر أولياءه، وكذلك الشيطان ينصر أولياءه، ولكنه بما أن كيد الشيطان ضعيف، فولايته ونصرته لأوليائه ضعيفة أيضًا، والله تعالى ناصرٌ أولياءه لا محالة80.
وخلاصة القول: إن من آثار ولاية الشيطان، أن الضلالة قد حقت عليهم، فكذبوا الرسل، وزعموا أن ما هم عليه هو الحق المنجي من كل مكروه بخلاف دعوات الأنبياء والرسل، وزين لهم الشيطان أعمالهم، وصار وليهم في الدنيا فأطاعوه واتبعوا أوامره، فعرضوا أنفسهم للقتال من قبل أولياء الرحمن، فلهم عذاب أليم موجع في الآخرة؛ لأنهم رضوا بولاية الشيطان، فاستحقوا هذا العذاب، فيقول الله تعالى: (ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ) [النحل:٦٣].
ولاية الكافرين والمنافقين والظالمين
إن الحديث عن هذا الأمر يقتضي الحديث عن ولاية الكافرين لبعضهم البعض وآثارها، وكذلك الحديث عن ولاية المنافقين للكافرين وآثارها، وأيضًا الحديث عن ولاية الظالمين لبعضهم البعض وآثارها، وتفصيل ذلك فيما يأتي:
أولًا: ولاية الكافرين بعضهم البعض وآثارها:
تحدث القرآن الكريم عن اتخاذ الكافرين بعضهم البعض أولياء، حيث يقول الله تعالى: (ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ) [المائدة:٧٨-٨١].
والمعنى: إن الذين كفروا من بني إسرائيل لعنهم الله تعالى في التوراة والإنجيل، وفي الزبور، وفي القرآن، وذلك بسبب عصيانهم لله عز وجل، واعتدائهم على خلقه، ثم بين الله تعالى حالهم حين كان لا ينهى أحدٌ منهم الآخر عن فعله المعاصي وارتكابه الآثام، ثم ذمهم على ذلك؛ ليحذر ما كانوا يفعلونه ويرتكبونه، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أهم القواعد الإسلامية، ومن أَجَلِّ الفرائض الشرعية، ولهذا كان تاركه شريكًا لفاعل المعصية، ومستحقًّا لغضب الله عز وجل، وانتقامه، كما وقع لأهل السبت منهم، فإن الله تعالى مسخ الفاعلين، وكذلك الذين لم يشاركوهم في هذا الفعل، فصاروا جميعًا قردة وخنازير.
ثم ذكر الله تعالى أن من اليهود أمثال كعب بن الأشرف وأصحابه يتولون الذين كفروا من المشركين الذين ليسوا على دينهم بالمحبة والموالاة والنصرة، ثم ذم الله تعالى ما زينته وسولته لهم أنفسهم، أو بئس ما قدموه لأنفسهم حتى يعاقبوا عليه يوم القيامة، ففعلهم هذا موجب لسخط الله تعالى عليهم، وهذا واضحٌ أنه من آثار ولايتهم للمشركين أمثالهم.
ثم ذكر الله تعالى أنه لو كان هؤلاء اليهود يؤمنون بالله عز وجل، وبرسولهم الذي أرسله الله تعالى إليهم، وما أنزل عليهم من كتاب سماوي، ما اتخذوا المشركين أولياء؛ وذلك لأن الله تعالى ورسوله المرسل إليهم وكتابه المنزل عليهم قد نهوهم عن ذلك، ولكن أكثرهم خارجون عن ولاية الله تعالى، وعن الإيمان به وبرسوله وبكتابه81.
يقول سيد قطب رحمه الله: «وهذا التقرير كما ينطبق على حال اليهود على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ينطبق على حالهم اليوم وغدًا، وفي كل حين، كذلك ينطبق على الفريق الآخر من أهل الكتاب في معظم أرجاء الأرض اليوم، مما يدعو إلى التدبر العميق في أسرار هذا القرآن، وفي عجائبه المدخرة للجماعة المسلمة في كل آنٍ.
لقد كان اليهود هم الذين يتولون المشركين ويؤلبونهم على المسلمين، (ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ)، كما حكى عنهم القرآن الكريم، وقد تجلى هذا كله على أتمه في غزوة الأحزاب، ومن قبلها ومن بعدها كذلك إلى اللحظة الحاضرة، وما قامت إسرائيل في أرض فلسطين أخيرًا إلا بالولاء والتعاون مع الكافرين الجدد من الماديين الملحدين!
فأما الفريق الآخر من أهل الكتاب، فهو يتعاون مع المادية الإلحادية كلما كان الأمر أمر المسلمين! وهم يتعاونون مع الوثنية المشركة كذلك، كلما كانت المعركة مع المسلمين! حتى و«المسلمون» لا يمثلون الإسلام في شيء. إلا في أنهم من ذراري قوم كانوا مسلمين!
ولكنها الإحنة التي لا تهدأ على هذا الدين ومن ينتمون إليه، ولو كانوا في انتمائهم مدعين! وصدق الله العظيم: (ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ)» 82.
ويقول الله جل جلاله: (ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ) [الأنفال:٧٣].
والمعنى: إن الكفار بعضهم أولياء بعض في النصرة والتعاون على قتال المسلمين، فهم في جملتهم فريق واحد ضد الحق وأهله-وإن كان بعضهم يعادي بعضًا-، ولم يكن في الجزيرة العربية وقت نزول السورة إلا اليهود والمشركون، فكان اليهود يتولون المشركين، وينصرونهم على النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين معه، كما أن هؤلاء اليهود قد نقضوا العهود التي كانت بينه وبينهم حتى قاتلهم النبي صلى الله عليه وسلم، وأجلاهم عن خيبر.
ثم وجه الله تعالى خطابه إلى المؤمنين على سبيل التهديد والتوعد بأنهم إن لم يفعلوا ما شرع الله تعالى لهم من ولاية بعضهم البعض، ومن تعاونهم وتناصرهم تجاه ولاية الكفار لبعضهم البعض، فإن لم يفعلوا ذلك، فإنهم سوف يقعون في الفتنة والفساد في الأرض، وسيعود عليهم بالضرر بسبب تخاذلهم الذي يفضي إلى فشلهم وظفر الأعداء بهم، كما أنه يفضي إلى اضطهادهم في دينهم بصدهم عنه كما كان الحال مع ضعفاء المسلمين في بداية الدعوة الإسلامية في مكة قبل الهجرة83.
ففي قوله تعالى: (ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ) «فيه تعريضٌ للمسلمين بأنهم لا يناصرون الكفار، ولا يتولونهم، وهذا بمفهومه مفيد لنفي الموارثة والمؤازرة بينهم وبين المسلمين، وإيجاب المباعدة والمصارمة وإن كانوا أقارب»84.
ثانيًا: ولاية المنافقين للكافرين وآثارها:
كما تحدث القرآن الكريم عن ولاية الكافرين لبعضهم البعض، فإنه تحدث عن ولاية المنافقين للكافرين، ووضح آثار هذه الولاية، فقال جلَّ جلاله: (ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻﯼ ﯽ ﯾ ﯿﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ) [النساء:١٣٨-١٤٥].
ومعنى هذه الآيات: أن الله تعالى يبشر المنافقين -على سبيل التهكم-، وهم الذين أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر، يبشرهم بأقبح بشارة، وهي العذاب الأليم الموجع، وذلك بسبب اتخاذهم الكافرين أولياء عن طريق محبتهم ومعاونتهم ونصرتهم، في حين أنهم تركوا ولاية المؤمنين، فما الذي دفعهم إلى هذا؟ هل يبتغون العزة ويطلبونها عندهم؟ فإن العزة الحقيقية لله عز وجل، وفي موالاته وموالاة المؤمنين.
يقول السعدي رحمه الله: «وهذا هو الواقع من أحوال المنافقين، ساء ظنهم بالله وضعف يقينهم بنصر الله لعباده المؤمنين، ولحظوا بعض الأسباب التي عند الكافرين، وقصر نظرهم عما وراء ذلك، فاتخذوا الكافرين أولياء يتعززون بهم ويستنصرون، والحال أن العزة لله جميعًا، فإن نواصي العباد بيده، ومشيئته نافذة فيهم، وقد تكفل بنصر دينه وعباده المؤمنين، ولو تخلل ذلك بعض الامتحان لعباده المؤمنين، وإدالة العدو عليهم إدالة غير مستمرة، فإن العاقبة والاستقرار للمؤمنين، وفي هذه الآية الترهيب العظيم من موالاة الكافرين، وترك موالاة المؤمنين، وأن ذلك من صفات المنافقين، وأن الإيمان يقتضي محبة المؤمنين وموالاتهم، وبغض الكافرين وعداوتهم»85.
ثم يخاطب الله تعالى كلَّ من أظهر الإيمان سواء كان مؤمنًا حقيقيًّا أم منافقًا، أن الله تعالى نزل عليكم في القرآن العظيم أنه إذا سمعتم الكافرين يكفرون بآيات القرآن، ويستهزئون بها، فلا تجلسوا معهم حتى يتحدثوا بحديث آخر، ويتركوا الخوض في القرآن، فإنكم إن قعدتم معهم كنتم مثلهم في الكفر، ثم هددهم الله عز وجل بأنه سوف يجمع الفريقين: الكافرين والمنافقين في الآخرة في نار جهنم؛ وذلك لأن المرء يحشر مع من أحب، ولا يخفى ما في هذا من وعيد وتحذير من مخالطتهم ومجالستهم.
ثم ذكر الله تعالى تربص المنافقين بالمؤمنين، فهم ينتظرون بهم الدوائر، فإن كان للمؤمنين غلبة على الأعداء، وحازوا الغنائم، قال المنافقون للمؤمنين: أعطونا مما غنمتموه من الكافرين، وإن كان للكافرين غلبة على المؤمنين، قال المنافقون للكافرين: ألم نكن قادرين على قتلكم وأسركم لصالح المسلمين؟ فأبقينا عليكم، وثبطنا عزائم المسلمين حتى انتصرتم عليهم، فهاتوا نصيبنا مما أخذتم، فإننا نواليكم، ولا ندع أحدًا يصيبكم بأذى.
ثم بين الله تعالى مصير الفريقين: المنافقين والمؤمنين، وهو أنه سوف يحكم ويفصل بينهم بالحق، ولن يمكن الكفرة من رقاب المؤمنين، فيبيدوهم ويستأصلوهم، فإن العاقبة للمؤمنين في الدنيا والآخرة86.
وبعد ذلك أخبر الله تعالى عن سلوك المنافقين الخاصِّ، فهم يخادعون الله عز وجل إذ يظهرون الإيمان به، وبنبيه محمد صلى الله عليه وسلم وهم على خلاف ذلك، فالخداع هو أن تجعل من تخدعه يرى منك ما يحبه، وتستر عليه ما يكرهه، فعاملهم الله تعالى بالمثل، فأراهم ما يحبون، وستر عليهم ما يكرهونه منه وهو العذاب الذي أعده الله تعالى لهم في الدنيا والآخرة.
فإن الله جل جلاله لا يخادع، فهو العالم بالسرائر والضمائر، وبالإضافة إلى هذا أخبر الله تعالى أنهم إذا قاموا إلى الصلاة قاموا متباطئين متثاقلين؛ لأنهم لا يؤمنون بالثواب الأخروي، فهم يراءون المؤمنين بالأعمال الصالحة حتى لا يتهمونهم بالكفر، كما أنهم لا يذكرون الله تعالى إلا قليلًا؛ وذلك لعدم استقرار الإيمان في قلوبهم، وعدم حبهم لله عز وجل، فهم مذبذبون بين الإيمان والكفر، فهم فريق ليسوا بالمؤمنين الكاملين في إيمانهم، ولا بالكافرين الكاملين في كفرهم، فهم دائمًا في تردد وحيرة، وهذه هي حالة يجعل الله تعالى فيها من يضله الله عز وجل، فلا يوجد سبيل إلى اهتدائه87.
حينئذٍ حذر الله تعالى المؤمنين أن يفعلوا فعل المنافقين، ويوالوا الكافرين، فأمرهم ألا يتخذوا الكافرين نصراء وأعوانًا يصاحبونهم ويصادقونهم ويناصحونهم، ويسرون إليهم بالمودة، ويفشون سرائر المؤمنين وأحوالهم الداخلية، فإن موالاة الكافرين دليل على النفاق، ولا يصدر هذا إلا عن منافق، فهل يريد المؤمنون أن يجعلوا لله عز وجل على أعمالهم حجة بينة يستحقون بها عقابه إذا اتخذوهم أولياء.
ثم أوضح الله تعالى عقوبة المنافقين على أعمالهم، والتي كان من ضمنها موالاتهم للكافرين، فجعل مكانهم في الطبقة السفلى من النار، والنار سبع دركات، فهي متداركة بعضها فوق بعض، والسبب في هذه العقوبة دون غيرها وأنها أشد من عقوبة الكافر نفسه، هو أن المنافق مثل الكافر في الكفر، وضم إلى كفره الاستهزاء بالإسلام وأهله، وهذا العذاب لهم لن يجدوا أحدًا ينقذهم منه، أو يخففه عنهم88.
ثالثًا: ولاية الظالمين لبعض وآثارها:
تحدث القرآن الكريم أيضًا عن ولاية الظالمين لبعضهم البعض، والآثار المترتبة على هذه الولاية.
يقول الله جل جلاله: (ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱﯓ ﯔ ﯕ ﯖ) [الجاثية:١٦-١٩].
والمعنى: أن الله عز وجل يبين في هذه الآيات مدى إنعامه على بني إسرائيل، فقد آتاهم التوراة، ومَنَّ عليهم بالحكم والنبوة في ذريتهم، ورزقهم الطيبات الحلالات، وفضلهم على عالمي زمانهم، فلم يكن أحد في زمانهم أكرم على الله تعالى منهم، كما أعلمهم وأخبرهم بمبعث النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ووضح لهم صفاته وزمانه وأمره، ولكنهم اختلفوا، وسيحكم الله تعالى ويقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون.
ثم وجه الله تعالى الخطاب إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فقد جعله الله عز وجل على سنة وطريقة من الدين بعد موسى عليه السلام، وأمره باتباعها وعدم الحيد عنها إلى أهواء الكافرين، وذلك أن الكافرين كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم: ارجع إلى دين آبائك، فإنهم كانوا أفضل منك، فذكر الله تعالى أنه إن اتبع النبي صلى الله عليه وسلم أهواءهم، فإن هؤلاء الكافرين لن يدفعوا عنك من عذاب الله تعالى شيئًا، وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض في المحبة والنصرة والموالاة، أما الله جلَّ جلاله فهو ولي المتقين وناصرهم ومؤيدهم، وما أشد الفرق بين الولايتين!89.
هذا وقد بيَّنَ الله تعالى الآثار المترتبة على ولاية الظالمين لبعضهم البعض، وذلك في الحوار سيدور بين الله تعالى، وبين الجن والإنس يوم القيامة ساعة الحشر، فيقول جلَّ جلاله: (ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ) [الأنعام:١٢٨-١٢٩].
فيخاطب الله تعالى الجن أنكم أضللتم كثيرًا من الإنس، وجعلتموهم أتباعًا لكم في عبادة غير الله تعالى، ومخالفة أمره وتوحيده، فيقول أولياء الجن من الإنس: لقد تعاون بعضنا بعضًا في معصية الله عز وجل ومخالفة أمره، كما انتفع بعضهم ببعض بأنواع من المنافع، منها: أن الجني يستمتع بطاعة الإنسي له وعبادته وتعظيمه له، واستعانته به، والإنسي يستمتع بالجني أيضًا حين ينال أغراضه، ويبلغها بسبب خدمة الجني له بعض شهواته، فإن الإنسي يعبد الجني، فيخدمه الجني، ويحصل له منه بعض الحوائج الدنيوية.
وقول الإنسي: (ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ) على معنى أنه قد حصل منا من الذنوب ما حصل، وبلغنا أجلنا الذي أجلته لنا من الموت والبعث، فافعل بنا الآن ما تشاء، فالأمر أمرك، والحكم حكمك، وكأنهم يتضرعون إلى الله عز وجل، ولكن ليس هذا وقته.
فيقول الله عز وجل: (ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ)، أي: إن النار مقامكم خالدين فيها، فقد وسع علمه تعالى الأشياء كلها، وكذلك حكمته وسعت الأشياء كلها، ثم نسب الله تعالى الولاية إلى نفسه.
فدل هذا على أنها من الله تعالى حيث خلق سبب الولاية منهم، فكما ولى الجن المردة، وسلطهم على إضلال أوليائهم من الإنس، وعقد بينهم عقد الموالاة والموافقة بسبب كسبهم وسعيهم في ذلك، فهذه سنة الله تعالى حيث يولي كلًّ ظالم ظالمًا مثله، يحثه على فعل الشر، ويجيبه إليه، وينفره من فعل الخير، ويزهده فيه، فهذا يعد من عقوبات الله تعالى العظيمة التي لها أثر شنيع، وخطر بالغ؛ وذلك لأن العباد إذا كثر الظلم والفساد فيهم، ومنعوا الحقوق الواجبة بينهم، ولى الله تعالى عليهم ظلمة يسومونهم سوء العذاب، ويأخذون منهم بالظلم أضعاف ما منعوا من حقوق الله تعالى وحقوق عباده الواجبة فيهم، ويفهم من هذا بمفهوم المخالفة أنه إذا صلح أمر العباد، واستقاموا على دين الله عز وجل، أصلح الله تعالى لهم ولاة أمورهم، وجعلهم أئمة عدل وإنصاف، لا ولاة ظلم واعتساف90.
أساليب القرآن في الحديث عن الولاء
استخدم القرآن الكريم في حديثه عن الولاء مجموعة من الأساليب، و كان منها ما يأتي:
أولًا: النهي:
فقد استخدم القرآن الكريم (لا) الناهية للتعبير عن عدم اتخاذ الكافرين سواء كانوا مشركين أم يهودًا ونصارى، نهاهم أن يتخذوهم أولياء من دون المؤمنين، ومن الآيات القرآنية التي استخدمت هذا الأسلوب: قوله عز وجل: (ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙﭚ ﭛ ﭜ ﭝﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ) [المائدة:٥١].
قال الزمخشري: «لا تتخذوهم أولياء تنصرونهم وتستنصرونهم وتؤاخونهم وتصافونهم وتعاشرونهم معاشرة المؤمنين، ثم علل النهى بقوله (ﭛ ﭜ ﭝ) أي إنما يوالي بعضهم بعضًا؛ لاتحاد ملتهم واجتماعهم في الكفر»91.
ومنه أيضًا قوله تعالى: (ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ) [الممتحنة:١٣].
وسورة الممتحنة كما بدئت بالنهي عن موالاة الكفار عمومًا، وعن اليهود خصوصًا -كما مر سابقًا- كذلك ختمت السورة بالنهي الوارد في هذه الآية، وهذا للتأكيد على عدم موالاتهم، وتنفيرًا للمسلمين عن هذه الولاية، فينهى الله عز وجل المؤمنين عن تولي هؤلاء القوم المغضوب عليهم، والملعونين، فإنهم قد يئسوا من ثواب الآخرة؛ لأنهم عاندوا النبي صلى الله عليه وسلم مع علمهم بصدقه وصدق نبوته، فهؤلاء قد يئسوا كما يئس الكفار من رجوع أصحاب القبور الذين ماتوا على الشرك إلى الدنيا واللقاء بهم92.
ثانيًا: الاستفهام:
كان لهذا الأسلوب النصيب الأكبر في الحديث عن الولاء، وهو أسلوب غرضه الإنكار؛ للتأكيد على نهي اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين، والأمثلة عليه كثيرة، منها -على سبيل المثال لا الحصر-: قوله تعالى: (ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ) [النساء:١٤٤].
أي ينهى الله تعالى عباده المؤمنين عن مصاحبة الكافرين ومصادقتهم ومناصحتهم وإسرار المودة إليهم، وإفشاء أسرار المؤمنين وأمورهم الداخلية، ولهذا قال: (ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ) أي أتريدون أن تجعلوا لله تعالى حجة ليعاقبكم بموالاتكم الكافرين؟93.
ومثله قوله تعالى: (ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ) [النساء:١٣٨-١٣٩].
وتقدم تفسيرهما، ومنه أيضًا قوله تعالى: (ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ) (ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔﯕ ﯖ ﯗ ﯘ) [الأنعام:١٤].
والمعنى: يأمر الله عز وجل النبي محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يقول للمشركين: أيعقل أن أتخذ إلهًا يتولاني غير الله جل َّجلاله، وهو الذي خلق السماوات والأرض وابتدأهما، كما أنه هو الذي يرزق خلقه ولا يخلق، وقد أمرني الله تعالى أن أكون أول من يسلم من خلقه94.
ومنه أيضًا قوله تعالى: (ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔﯕ ﯖ ﯗ ﯘ) [الكهف:٥٠].
والمعنى: لقد كرم الله عز وجل آدم عليه السلام عندما خلقه، فأمر الملائكة بالسجود له، فسجدوا كلهم إلا إبليس، فتكبر على أمر الله تعالى، ولم ينفذه، فينكر الله تعالى على خلقه الذين اتخذوا الشيطان وذريته أولياء من دون المؤمنين، وكأنه يقول لهم: أفتطيعونه وتتركون أمر الله جلَّ جلاله وهم أعداء لكم؟! فبئس ما استبدلوا بولاية الله تعالى ولاية الشيطان95.
وغير ذلك من الأمثلة القرآنية، فأسلوب الاستفهام كان واضحًا ومتمثلًا في همزة الاستفهام الذي كان غرضه إنكار اتخاذ الأولياء من الشياطين والكافرين والمنافقين واليهود والنصارى من دون المؤمنين.
ثالثًا: التحدي:
وهو أسلوبٌ يقصد من خلاله تعجيز الطرف الآخر، وإظهار كذبه فيما ادعاه، وقد استخدم القرآن الكريم هذا الأسلوب في حديثه عن الولاء، حيث تحدى الله عز وجل فيه اليهود حيث قال جل جلاله: (ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜﯝ ﯞ ﯟ ﯠ) [الجمعة:٦ -٧].
فقد زعم اليهود أنهم أولياء لله تعالى من دون الناس جميعًا، فأمر الله عز وجل نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يطلب من اليهود أنهم إن كانوا صادقين في زعمهم هذا فليتمنوا الموت؛ وذلك ليستريحوا من كربات الدنيا وهمومها وغمومها، وينتقلوا بالموت إلى روح الجنان ونعيمها، فإن الله تعالى لا يعذب أولياءه، ولكن الله جلَّ جلاله يعلم أن اليهود لن يتمنوا الموت أبدًا بسبب ما اقترفوا في هذه الدنيا من آثام، وما اجترحوا من سيئات، وكذلك فالله أعلم بمن ظلم نفسه، وجعلها تكفر بالله عز وجل 96، فأسلوب التحدي في هذه الآية واضح وبارز.
رابعًا: التهديد:
وهو أسلوب يحمل معنى التخويف والتوعد للمؤمنين إن والوا الكافرين وناصروهم وصادقوهم، ومن هذه الآيات التي استخدمت هذا الأسلوب، قوله تعالى: (ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙﭚ ﭛ ﭜ ﭝﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ) [المائدة:٥١].
فبعد أن نهى الله عز وجل عن موالاة اليهود والنصارى؛ لأن بعضهم أولياء بعض، فكلهم يضمرون للمؤمنين البغضاء والشر، وهم وإن كانوا في الظاهر مختلفين إلا أنهم متفقون فيما بينهم على كراهية الإسلام والمسلمين والكيد لهم، ثم هدد المؤمنين أن من يوالي المشركين منهم، فإنه يعد من جملتهم، والحكم الذي يسري عليهم، يسري عليه كذلك، ولا يخفى أن في هذا تغليظًا من الله عز وجل، وتشديدًا في وجوب مجانبة المخالفين في الدين واعتزالهم97.
ومن هذا الأسلوب أيضًا قوله تعالى: (ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ) [الأنفال:٧٣].
فقد أخبر الله عز وجل أن الكفار بما أنهم متفقون على الكفر، فبعضهم أولياء بعض، فلا يوالي هؤلاء الكفار إلا كافر مثلهم، ثم هدد المؤمنين أنهم إن لم يوالوا المؤمنين أمثالهم ويعادوا الكافرين، فإنه سوف يحصل من الفساد والشرِّ ما لا ينحصر من اختلاط الحقِّ بالباطل، والمؤمن بالكافر، وإلغاء بعض العبادات الكبرى مثل: الجهاد، والهجرة وغير ذلك من مقاصد الشرع والدين التي تفوت وتضيع إذا لم يتخذ المؤمنون بعضهم أولياء بعض98.
ومن الآيات التي استخدمت هذا الأسلوب أيضًا قوله تعالى: (ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱﯲ ﯳ ﯴ ﯵﯶ ﯷ ﯸ ﯹ) [آل عمران:٢٨].
وقد تقدم تفسيرها، ومثله أيضًا قوله تعالى: (ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ) [التوبة:٢٣].
كان لموضوع الولاء نصيب في أمثال القرآن الكريم، ومعلومٌ أن من أغراض الأمثال القرآنية تقريب الصورة المعنوية إلى الذهن بتشبيهها بشيء مادي محسوس يدركه العقل البشري.
ومن الأمثلة على ذلك: قوله جل جلاله: (ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ) [العنكبوت:٤١-٤٣].
فيعد هذا مثلًا ضربه الله تعالى لمن عبد غيره من الأصنام والأوثان من أجل التعزز والتقوي وحصول المنفعة، ولكن الأمر في حقيقته غير ذلك. فمثل هذا كمثل العنكبوت التي هي من الحشرات الضعيفة، وبيتها من أضعف البيوت وأوهنها.
فهذه العنكبوت اتخذت لها بيتًا يقيها من الحر والبرد والآفات، ولكنها ما ازدادت باتخاذها هذا البيت إلا ضعفًا ووهنًا، فكذلك هؤلاء الذين يتخذون الأولياء من دون الله عز وجل، فهم فقراء ومحتاجون وعاجزون وضعفاء من جميع الجوانب، فحين اتخذوا الأولياء ما ازدادوا إلا ضعفًا إلى ضعفهم، وعجزًا إلى عجزهم، ووهنًا إلى وهنهم.
وذلك لأنهم اعتمدوا عليهم في كثير من المصالح والأمور من أجل أن يتعززوا بهم، ويستنصروهم، لكن هؤلاء الأولياء خذلوهم، ولم يحصلوا منهم على أدنى منفعة، فلم يغنوا عنهم من عذاب الله عز وجل شيئًا حين نزل بهم، ولم يدفعوا عنهم ما حل بهم عند سخط الله تعالى، ولو كانوا يعلمون حقيقة أمرهم ما اتخذوهم أولياء، وللجؤوا إلى الله جل جلاله الذي إذا تولاه عبدٌ وتوكل عليه، فإن الله عز وجل يكفيه مؤونة دينه ودنياه، ويزيده قوة في قلبه وبدنه وحاله وجميع أعماله.
فلما بين الله تعالى ضعف آلهة المشركين، وأنها ليست بشيء؛ بل هي أسماء سموها، وأوهام وتخيلات ظنوها واعتقدوها، فعبدوها من دون الله عز وجل، كما قال تعالى عنها: (ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ) [النجم:٢٣].
وقال فيها أيضًا: (ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ) [يونس:٦٦].
وعند التحقق فيها يتبين للعاقل أنها ليست بآلهة، فالله تعالى هو الذي له القوة التي قهر بها جميع مخلوقاته، كما أنه هو الحكيم الذي يضع الشيء في محله، فهو الذي أحسن خلق كل شيء وأتقنه.
ثم بين الله عز وجل أنه لا يضرب هذه الأمثال إلا لأجل أن ينتفعوا ويتعلموا، فهي تقرب الأمر المعقول إلى الذهن بأمر محسوس، فيتضح المطلوب منها، ويقف العقل البشري أمامها عاجزًا عن الرد والجدال99.
ويتجلى مثالٌ آخر على موضوع الولاء في المثل القرآني، فعندما قال الله جل جلاله: (ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔﯕ ﯖ ﯗ ﯘ) [الكهف:٥٠].
فقد أنكر الله عز وجل على المشركين في هذه الآية اتخاذهم الشياطين أولياء من دون المؤمنين، وبين في موضع آخر حال هذا الشيطان بعد أن يتخذه الإنسان وليًا، ويجعله يكفر بالله عز وجل، فقال تعالى: (ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗﭘ ﭙ ﭚ ﭛ) [الحشر:١٧،١٦].
فهذا مثلٌ ضربه الله تعالى؛ ليبين حال اليهود والمنافقين الذين لا يواجهون المسلمين بالمبارزة والمقابلة، وهذا لشدة جبنهم وهلعهم، فلا يقاتلونهم مجتمعين؛ بل يقاتلونهم من وراء الحصون والخنادق، ومن خلف الأسوار التي يستترون بها، وقد لمست الأمة الإسلامية والعربية هذا الأمر في حروب اليهود في فلسطين في عصرنا الحاضر، وقد عبر الله تعالى عن جبنهم هذا في قوله: (ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰﮱ ﯓ ﯔ ﯕﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ) [الحشر:١٤].
فحروبهم وعداوتهم فيما بينهم شديدة وقوية وقاسية، والظاهر أنهم متوحدون ومتفقون، ولكنهم في حقيقة الأمر مختلفون ومتفرقون؛ لما بينهم من الأحقاد الشديدة والضغائن الكثيرة، فهم قوم لا يعقلون أمر الله عز وجل الذي فيه الحق، كما لا يدركون أن سر النجاح في هذه الحياة الدنيا هو الوحدة، ولو عقلوا هذا لعرفوا الحق واتبعوه، فتوحدوا ولم يختلفوا.
فحريٌ بالمسلمين في هذا العصر، وجدير بهم أن يكونوا خلافهم، فيكونوا متوحدين متفقين، صفًا واحدًا على قلب رجل واحد كالبنيان المرصوص، وأن يعتمدوا في ذلك على أنفسهم، ولا يلتمسوا أية حلول واهية ضعيفة من هنا أو هناك، ثم ذكر الله تعالى أحوالًا مشابهة لهم، ومنها: أن هؤلاء المنافقين حين وعدوا اليهود بالمناصرة والمؤازرة في حرب المسلمين، كمثل الشيطان الذي سول للإنسان الشر، وأغراه بالكفر، وزينه له، وحمله عليه، فلما لبى الإنسان ما يريده الشيطان، وكفر بالله عز وجل، تبرأ الشيطان منه، وتنكر له يوم القيامة، وقال له على وجه التبري منه: إني أخاف عذاب الله رب العالمين إذا ناصرتك.
ولاشك أن هذا مثلًا في غاية السوء، وشديد الوقع على النفس؛ لذلك وضح الله تعالى بعد هذا المثل ما يوجبه من العقاب، وهو أن عاقبة الشيطان الآمر بالكفر، والإنسان الذي استجاب لطلب الشيطان وكفر، أنهما صائران معًا إلى نار جهنم خالدين فيها على الدوام، وهذا العقاب هو جزاء الكافرين جميعًا والذين منهم اليهود والمنافقين100.
وبهذا يتبين أن ضرب الله عز وجل للأمثال في القرآن الكريم إنما هو للمسائل الجليلة، والمطالب العالية، والأمور العظيمة مثل موضوع الولاء في القرآن، وأهل العلم أحق بها من غيرهم؛ لأنهم وحدهم هم المنتفعون بها بعد تعقلها وتدبرها.
موضوعات ذات صلة: |
الأخوة، البراء، الحرب، السلم، السماحة، السياسة، العلاقات الدولية |
1 الولاء والبراء في الإسلام، ص٤.
2 الموالاة والمعاداة في الشريعة الإسلامية، ١/٢٨.
3 انظر: المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، محمد فؤاد عبد الباقي، ص ٧٤٦-٧٤٧.
4 انظر: نزهة الأعين النواظر، ابن الجوزي، ص٦١٣، ٦١٤، بصائر ذوي التمييز، الفيروزآبادي، ٥/٢٨٠، ٢٨٤، الوجوه والنظائر، مقاتل بن سليمان، ص٢٠٠، ٢٠١، الوجوه والنظائر، أبو هلال العسكري، ص٤٩٣.
5 انظر: لسان العرب، ابن منظور، ٦/٤٤٣٩، المفردات، الراغب الأصفهاني، ص٨٠٨.
6 التوقيف على مهمات التعاريف، ص ٣٢٥.
7 انظر: تاج العروس، الزبيدي، ٣٥/٤٣١.
8 المفردات، ص ٥٩٨.
9 انظر: لسان العرب، ابن منظور، ١/٢٤٠.
10 البحر المحيط، أبو حيان، ٥/٣٦٥.
11 روح المعاني، ١٠/٤٢.
12 الولاء والبراء في الإسلام، ص٩٠.
13 تفسير المراغي ٢/٢٦٢.
14 تفسير الشعراوي، ٤/٢٢٧٨.
15 تفسير أسماء الله الحسنى، ص ٥٥.
16 انظر: لسان العرب، ابن منظور، ٦/٤٩٢٠.
17 التحرير والتنوير، ٢٥/٤٠.
18 أخرجه ابن ماجه في سننه، رقم ٢٠٤٣، عن أبي ذر الغفاري، كتاب الطلاق، باب طلاق المكره والناسي، ٣/١٩٩.
وصححه الألباني في تعليقه على مشكاة المصابيح، ٣/١٧٧١، رقم ٦٢٩٣.
19 انظر: التفسير المنير، الزحيلي، ٣/١٣٥.
20 انظر: تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، ٧/١٩٣.
21 انظر: تيسير الكريم الرحمن، السعدي، ص٧٥٨.
22 انظر: البحر المديد، ابن عجيبة، ٢/١٠٣.
23 انظر: جامع البيان، الطبري، ٢/٢٤١.
24 انظر: النكت والعيون، الماوردي، ١/٣٢٨.
25 انظر: صفوة التفاسير، الصابوني، ٢/٦٣.
26 انظر: جامع البيان، الطبري، ٦/٤٩٧.
27 انظر: الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، ١٦/٢٣٤.
28 تيسير الكريم الرحمن، ص١١١.
29 انظر: مدارك التنزيل، النسفي، ١/٦٤٣.
30 انظر: نظم الدرر، البقاعي، ١٨/٨٨.
31 انظر: إرشاد العقل السليم، أبو السعود، ٣/٣٠٧.
32 انظر: نظم الدرر، البقاعي، ١١/١٢٩.
33 انظر: محاسن التأويل، القاسمي، ٤/٤٨٨، تيسير الكريم الرحمن، السعدي، ص٢٧٣.
34 أخرجه البخاري في صحيحه، رقم ٦٥٠٢، عن أبي هريرة، كتاب الرقاق، باب التواضع، ٨/١٠٥.
35 انظر: جامع البيان، الطبري، ٢٠/٢٠، ٢٣.
36 انظر: تفسير السمرقندي، ٣/٧٤.
37 انظر: لطائف الإشارات، القشيري، ٣/١٥٤.
38 انظر: فتح القدير، الشوكاني، ١/١٥٧.
39 في ظلال القرآن، ١/١٠٨.
40 انظر: معالم التنزيل، البغوي، ٤/٣٢٢.
41 انظر: مراح لبيد، محمد بن عمر الجاوي، ١/٦٣٧، تيسير الكريم الرحمن، السعدي، ص٤٦٧.
42 انظر: صفوة التفاسير، الصابوني، ٢/١٧٠.
43 انظر: تيسير الكريم الرحمن، السعدي، ص٧٦١.
44 انظر: التحرير والتنوير، ابن عاشور، ٢٥/٣٥.
45 انظر: تيسير الكريم الرحمن، السعدي، ص٢٠٥.
46 انظر: أوضح التفاسير، محمود حجازي، ص٦٢٧، تيسير الكريم الرحمن، السعدي، ص٢٦١.
47 انظر: إرشاد العقل السليم، أبو السعود، ٢/٢٦٠.
48 انظر: الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، ١٨/١٨٦.
49 انظر: فتح القدير، الشوكاني، ٤/٥٩٠.
50 أخرجه أحمد في مسنده، رقم ١٥٤١٩، ٢٤/١٤٥.
وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، رقم ٢٨٦٢، ٣/٥٦.
51 انظر: التفسير المنير، الزحيلي، ٢٧/٢٢٣، تيسير الكريم الرحمن، السعدي، ص٧٤٨.
52 انظر: تيسير الكريم الرحمن، ص٣١٦.
53 انظر: تأويلات أهل السنة، الماتريدي، ٥/٤٢٦.
54 المصدر السابق، ص٤٢٦.
55 انظر: جامع البيان، الطبري، ١٤/٣٤٧، تيسير الكريم الرحمن، السعدي، ص٣٤٣.
56 في ظلال القرآن، ٣/١٦٧٥.
57 انظر: فتح القدير، الشوكاني، ٢/٥٩.
58 انظر: أسباب النزول، الواحدي، ص١٩٩.
59 انظر: مدارك التنزيل، النسفي، ١/٦٥٨.
60 انظر: أوضح التفاسير، محمد الخطيب، ص٢٣٤.
61 في ظلال القرآن، ٣/١٦٧٦.
62 جامع البيان، ١٠/٤٢٧.
63 انظر: فتح البيان، محمد صديق القنوجي، ١٤/٣٣.
64 انظر: جامع البيان، الطبري، ٦/٣١٣.
65 انظر: فتح القدير، الشوكاني، ٢/٥٧.
66 تيسير الكريم الرحمن، ص٢٣٥.
67 انظر: أسباب النزول، الواحدي، ص٤٢١.
68 انظر: تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، ٨/٨٥٨.
69 انظر: تيسير الكريم الرحمن، السعدي، ص٢٨٦.
70 انظر: الشيطان خطواته وغاياته، وائل بشير، ص١٢٤.
71 انظر: تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، ٢/١٧٢.
72 انظر: جامع البيان، الطبري، ٧/٤١٦.
73 انظر: فتح القدير، الشوكاني، ٣/٢٣١.
74 أخرجه أبو داود، رقم ٢٨٢١، كتاب الضحايا، باب ذبائح أهل الكتاب، عن ابن عباس، ٣/٥٩.
وصححه الألباني: صحيح.
75 انظر: الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، ٧/٧٧.
76 تيسير الكريم الرحمن، ص٢٧١.
77 انظر: جامع البيان، الطبري، ٩/٢٠٦، أيسر التفاسير، أبو بكر الجزائري، ١/٥٤٣.
78 انظر: تيسير الكريم الرحمن، السعدي، ص٤٧٩.
79 انظر: تفسير الشعراوي، ٧/٤١١١.
80 انظر: مفاتيح الغيب، الرازي، ١٠/١٤٢.
81 انظر: فتح القدير، الشوكاني، ٢/٧٥.
82 في ظلال القرآن، ٢/٩٥٢.
83 انظر: نظم الدرر، البقاعي، ١٠/٤٣.
84 فتح البيان، صديق خان القنوجي، ٥/٢٢٠.
85 تيسير الكريم الرحمن، ص٢٠٩.
86 انظر: صفوة التفاسير، الصابوني، ١/٢٨٧.
87 انظر: أيسر التفاسير، أبو بكر الجزائري، ١/٥٦٠.
88 انظر: التفسير المنير، الزحيلي، ٥/٣٢٩.
89 انظر: معالم التنزيل، البغوي، ٧/٢٤٣، مدارك التنزيل، النسفي، ٣/٣٠٢.
90 انظر: تأويلات أهل السنة، الماتريدي، ٤/٢٥٧، تيسير الكريم الرحمن، السعدي، ص٢٧٣.
91 الكشاف، ١/٦٤٢.
92 انظر: التفسير الواضح، محمد حجازي، ٣/٦٦٣.
93 انظر: مختصر تفسير ابن كثير، الصابوني، ١/٤٥١.
94 انظر: النكت والعيون، الماوردي، ٢/٩٨.
95 انظر: تفسير السمرقندي، ٢/٣٥٠.
96 انظر: جامع البيان، الطبري، ٢٣/٣٧٩.
97 انظر: الكشاف، الزمخشري، ١/٤٦٢.
98 انظر: تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص٣٢٧.
99 انظر: جامع البيان، الطبري، ٢٠/٣٨، تيسير الكريم الرحمن، السعدي، ص٦٣١.
100 انظر: التفسير المنير، الزحيلي، ٢٨/٩٨.