عناصر الموضوع

مفهوم الهجرة

الهجرة في الاستعمال القرآني

الألفاظ ذات الصلة

هجرة المكان

هجرة الأعمال

المهاجرون

آثار الهجرة في سبيل الله

الهجرة

مفهوم الهجرة

أولًا: المعنى اللغوي:

الهاء والجيم والراء، أصلان: يدل أحدهما على قطيعة وقطع، والآخر على شد شيء وربطه.

فالأول الهجر: ضد الوصل، وكذلك الهجران، وهاجر القوم من دار إلى دار: تركوا الأولى للثانية1.

هجره يهجره هجرًا وهجرانًا: صرمه، وهما يهتجران ويتهاجران، والاسم: الهجرة، وقيل: الهجران، ويذهب إلى أن الهواجر جمع هجر، ويرى أنه من الجموع الشاذة كأن واحدها هاجرةٌ، والصحيح في هواجر أنها جمع هاجرةٍ: بمعنى الهجر2.

ثانيًا: المعنى الاصطلاحي:

الهجرة شرعا: «ترك الوطن الذي بين الكفار، والانتقال إلى دار الإسلام»3.

وقيل: «الخروج من دار الكفر إلى دار الإسلام»4.

وقيل: إنما تنصرف إلى هجران بلد الشرك إلى دار الإسلام؛ رغبة في تعلم الإسلام والعمل به5.

فالهجرة، هي: «الخروج في سبيل الله من دار الكفر إلى دار الإسلام، ومن دارٍ شديد الفتنة إلى دارٍ أقل منه فتنة؛ طلبًا للسلامة في الدين والنفس»6.

الهجرة في الاستعمال القرآني

وردت مادة (هجر) في القرآن الكريم (٣١) مرة 7.

والصيغ التي وردت، هي:

الصيغة

عدد المرات

المثال

الفعل الماضي

١١

( ) [النحل:١١٠]

الفعل المضارع

٦

( ) [النساء:٨٩]

فعل الأمر

٤

( ) [مريم:٤٦]

المصدر

١

( ) [المزمل:١٠]

اسم الفاعل

٨

( ) [العنكبوت:٢٦]

اسم المفعول

١

( ) [الفرقان:٣٠]

وجاءت الهجرة في القرآن بمعناها اللغوي، وهو: الترك والمفارقة؛ إما بالبدن أو باللسان أو بالقلب8.

الألفاظ ذات الصلة

الترك:

الترك لغةً:

التاء والراء والكاف: الترك: التخلية عن الشيء؛ ولذلك تسمى البيضة بالعراء تريكة.

تركت الشيء تركًا: خليته، وتاركته البيع متاركة، وتراك بمعنى: اترك، وهو اسمٌ لفعل الأمر9.

الترك اصطلاحًا:

الترك عند العرب تخليف الشيء في المكان الذي هو فيه والانصراف عنه10.

الصلة بين المتاركة والهجرة:

المتاركة هي: ترك الأمر بالشيء والرغبة فيه، والنهي عن خلافه11، أما الهجرة: فهي أعم من الترك، فهي ترك الأشياء مع الرغبة فيها، وتمني الرجوع إليها.

القطيعة:

القطيعة لغةً:

«القاف والطاء والعين، أصل صحيح واحد، يدل على صرم وإبانة شيء من شيء، والقطيعة: الهجران، يقال: تقاطع الرجلان، إذا تصارما»، والاسم: القطيعة12، وقطع رحمه قطيعةً: إذا لم يصلها، ويقال: رحم قطعاء بيني وبينك، إذا لم توصل13.

والقطيعة اصطلاحًا:

ترك البر والإحسان إلى الأهل والأقارب وهي ضد الصلة14.

الصلة بين القطيعة والهجرة:

قد يكون بينهما ارتباط في ترك المكان، فالمقاطع قد يترك مكان التواصل مع أقربائه، والمهاجر قد يترك موطنه الأصلي، إلا أنه لا يلزم في الهجرة المقاطعة؛ كما أن المقاطع الذي يهجر قراباته من الكفار لا يلزم من قطيعتهم الهجرة إلى موطن وبلد آخر ما دام قادرًا على تأدية فرائض الدين.

الخروج:

الخروج لغةً:

الخاء والراء والجيم، أصلان، وقد يمكن الجمع بينهما، فالأول: النفاذ عن الشيء، والثاني: اختلاف لونين. والخروج: خروج السحابة، يقال ما أحسن خروجها، وفلان خريج فلان، إذا كان يتعلم منه، كأنه هو الذي أخرجه من حد الجهل15.

الخروج اصطلاحًا:

«الانفصال من المحيط إلى الخارج ويلزمه الظهور والبروز»16، وقيل: «هو عبارة عن الانفصال من مكانه الذي هو فيه إلى مكان قصده، وذلك المكان تارة يكون قريبا، وتارة يكون بعيدا»17.

الصلة بين الخروج والهجرة:

الخروج: هو الانتقال من مكان إلى مكان آخر، وقد يعد مذمومًا أو محمودًا، والهجرة: الرحيل من مكان لآخر، وتعد في الغالب محمودة.

هجرة المكان

من أنواع الهجرة التي ذكرها القرآن الكريم هجرة المكان، وسوف نتناولها بالبيان فيما يأتي:

أولًا: الهجرة من دار الحرب إلى دار الإسلام:

دار الحرب: هي كل بقعة تكون فيها الحرب بين المؤمنين والكافرين.

فدار الحرب هي دار الكفار الذين بينهم وبين المسلمين حرب18.

وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا النوع من الهجرة.

قال الله جل جلاله في سورة العنكبوت: ( ) [العنكبوت: ٥٦].

فأرشد الله عباده المؤمنين للهجرة من البلد الذي لا يقدرون فيه على إقامة الدين إلى أرض الله الواسعة حيث يمكن إقامة الدين وعبادة الله وحده.

وممن ذهب إلى أن المراد بهذه الآية الهجرة والانتقال ابن زيد ومقاتل والكلبي19.

وكلام ابن زيد أوضح في أن المراد بالآية هجرة المسلمين من مكة؛ فقد سأله ابن وهب عن هذه الآية: ( ) [العنكبوت: ٥٦]: «يريد بهذا من كان بمكة من المؤمنين؟ فقال: نعم»20.

وتذييل الآية بقوله سبحانه وتعالى: ( ) فيه بيان «أن علة الأمر لهم بالهجرة هي تمكينهم من إظهار التوحيد، وإقامة الدين»21.

وقال سبحانه وتعالى: ( ﮈﮉ ﮎﮏ ﮗﮘ ﮛﮜ ﯓﯔ ) [النساء: ٩٧-٩٩].

عن ابن عباس رضي الله عنه قال: «كان قوم من أهل مكة أسلموا، وكانوا يستخفون22 بالإسلام، فأخرجهم المشركون يوم بدر معهم، فأصيب بعضهم بفعل بعض، قال المسلمون: كان أصحابنا هؤلاء مسلمين وأكرهوا، فاستغفروا لهم، فنزلت الآية»23.

فهذه الآية كما نرى شددت على أهمية الهجرة من أرض الكفر، وحذرت من البقاء بين أظهر المشركين، وبينت خطره، وتوعدت من فعل ذلك بعقاب الله له، ما لم يكن من أهل الأعذار.

والمقصود بالهجرة في الآية: الانتقال من مكة إلى المدينة، بعدما حاربت قريش النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من المسلمين، وضيقت عليهم ومنعتهم من الدعوة إلى الله عز وجل وإقامة شعائره، فأذن الله لنبيه صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى المدينة؛ لإقامة دولة الإسلام، وإرساء مبادئ الدين الجديد.

حكم الهجرة من دار الحرب إلى دار الإسلام:

يستدل من الآية السابقة على بعض الأحكام المتعلقة بالهجرة على النحو الآتي:

  1. وجوب الخروج من دار الحرب إلى دار الإسلام عند عدم العذر.

    هذا حكمٌ باقٍ إلى يوم القيامة، ويستفاد هذا الوجوب في الآية من عدة أمور:

    • وصف الذين لم يهاجروا بالظلم، في قوله جل جلاله: ( ) [النساء: ٩٧].
    • توبيخ الملائكة لهم بعد موتهم، في قوله عز وجل: ( ) [النساء: ٩٧].
    • توعدهم بالنار في الآخرة، وبئس المصير، في قوله عز وجل: ( ﮛﮜ ) [النساء: ٩٧].

      قال الإمام ابن كثير رحمه الله في هذه الآية: «الآية الكريمة عامة في كل من أقام بين ظهراني المشركين وهو قادر على الهجرة، وليس متمكنًا من إقامة الدين، فهو ظالم لنفسه، مرتكب حرامًا بالإجماع، وبنص هذه الآية»24.

      قال ابن العربي رحمه الله: «النوع الثاني من الهجرة: الخروج من دار الحرب إلى دار الإسلام، وكانت فرضًا في أيام النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه الهجرة باقية مفروضة إلى يوم القيامة، والهجرة التي انقطعت بالفتح هي القصد إلى النبي صلى الله عليه وسلم حيث كان، فمن أسلم في دار الحرب وجب عليه الخروج إلى دار الإسلام، فإن بقي فقد عصى»25.

      وقال الشيخ السعدي في تفسير الآية: «وفي الآية دليل على أن الهجرة من أكبر الواجبات، وتركها من المحرمات، بل من الكبائر»26.

  2. أهل الأعذار معفو عنهم ولا يشملهم العقاب.

    من رحمة الله عز وجل بعباده أنه لم يكلفهم فوق طاقتهم، ولم يأمرهم بما يعجزون عن تحقيقه، وهذا من محاسن الإسلام، ويسر شريعته؛ ولذلك فإن الله سبحانه وتعالى قد عفا عمن لم يقدر على الهجرة لسبب من الأسباب، ولم يتوعده بما توعد به تارك الهجرة لغير سبب، وهو ما يبينه قوله عز وجل: ( ﯓﯔ ) [النساء: ٩٨- ٩٩].

    قال ابن عطية رحمه الله: «ثم استثنى منهم من كان استضعافه على حقيقة من زمنة27 الرجال، وضعفة النساء والولدان. والحيلة: لفظ عام لأسباب أنواع التخلص، والسبيل: سبيل المدينة فيما ذكر مجاهد والسدي وغيرهما، والصواب أنه عام في جميع السبل، ثم رجى الله سبحانه وتعالى هؤلاء بالعفو عنهم»28.

    وقال ابن عاشور: «( ) استثناء من الوعيد، والمعنى: إلا المستضعفين حقًا، أي: العاجزين عن الخروج من مكة؛ لقلة جهد أو لإكراه المشركين إياهم على البقاء، والتبيين بقوله: ( ) [النساء: ٩٨]؛ لقصد التعميم، والمقصد التنبيه على أن من الرجال مستضعفين؛ فلذلك ابتدئ بذكرهم، ثم ألحق بذكرهم النساء والصبيان؛ لأن وجودهم في العائلة يكون عذرًا لوليهم إذا كان لا يجد حيلة.

    وجملة: ( ) [النساء: ٩٨].

    حال من المستضعفين، موضحة للاستضعاف؛ ليظهر أنه غير الاستضعاف الذي يقوله الذين ظلموا أنفسهم: ( ) [النساء: ٩٧].

    أي: لا يستطيعون حيلة في الخروج؛ إما لمنع أهل مكة إياهم، أو لفقرهم، ( ) [النساء: ٩٨].

    أي: معرفة للطريق كالأعمى»29.

    فالهجرة واجبة في حق كل من أقام بين ظهراني المشركين وهو قادر على الهجرة، وليس متمكنًا من إقامة الدين، فإن لم يفعل فهو ظالم لنفسه مرتكب حرامًا، وأما من كان مستضعفًا عاجزًا عن الهجرة لسبب من الأسباب فقد عفا الله عنه وعذره، والله أعلم.

    ثانيًا: الهجرة من أرض البدعة والمعصية إلى أرض السنة والطاعة:

    من أنواع الهجرة التي أقرها الشرع الهجرة من أرض البدعة والمعصية إلى أرض السنة والطاعة.

    والمقصود بأرض البدعة والمعصية التي استقر فيها الإسلام، ثم انتشرت فيها البدع والمخالفات.

    وليس المقصود بالأرض البلد أو المدينة أو المنطقة، بل الأمر أوسع من هذا، فيشمل كل بقعة أو مجلس تحول عنه لنوع بدعة أو شيء محرم.

    وقد جاءت الإشارة إلى هذا النوع من الهجرة في الكتاب والسنة.

    فأرشد القرآن الكريم في بعض آياته إلى ضرورة الهجرة من أرض البدعة والمعصية إلى أرض السنة والطاعة، ومن هذه الآيات:

    قال الله عز وجل في سورة العنكبوت: ( ) [العنكبوت: ٥٦].

    وهذه الآية وإن كان قد سبق الاستدلال بها على وجوب الهجرة من دار الكفر إلا أن بعض السلف -ومنهم سعيد بن جبير وعطاء-30 رأوا أن المقصود بالهجرة في الآية الهجرة من أرض المعاصي إلى أرض الطاعة؛ بناءً على عموم الآية.

    قال الإمام القرطبي في بيان القول السابق عند تفسيره لهذه الآية: «وقال ابن جبير وعطاء: إن الأرض التي فيها الظلم والمنكر تترتب فيها هذه الآية، وتلزم الهجرة عنها إلى بلد حق»31.

    وقال سبحانه وتعالى: ( ﯿ ﰃﰄ ) [الأنعام: ٦٨].

    وقد استنبط العلماء من هذه الآية وجوب الهجرة من أرض البدعة والمعصية إلى أرض السنة والطاعة.

    وقد أشار ابن العربي المالكي رحمه الله إلى هذا النوع من أنواع الهجرة بقوله: «النوع الثاني من الهجرة: الخروج من أرض البدعة، قال ابن القاسم: سمعت مالكًا يقول: «لا يحل لأحد أن يقيم ببلد سب فيها السلف». وهذا صحيح؛ فإن المنكر إذا لم يقدر على تغييره نزل عنه32.

    قال الله جل جلاله: ( ﯿ ﰃﰄ ) [الأنعام: ٦٨]33.

    ثم ذكر رحمه الله الهجرة من أرض المعصية إلى أرض الطاعة بقوله: «النوع الثالث من أنواع الهجرة: الخروج عن أرض غلب عليها الحرام؛ فإن طلب الحلال فرض على كل مسلم»34.

    وأغلب أهل العلم في تفسير هذه الآية على أن المقصود بها مجالس البدع والاستهزاء بالدين35.

    والخطاب وإن كان للرسول صلى الله عليه وسلم في الآية مباشرةً، فإن حكم بقية المسلمين كحكمه. كما قال جل جلاله في ذكر المنافقين: ( ) [النساء: ١٤٠].

    قال الحافظ ابن كثير عن آية سورة الأنعام مبينًا عمومها لكل المسلمين: «والمراد بهذه الآية كل فرد من آحاد الأمة ألا يجلس مع المكذبين الذين يحرفون آيات الله، ويضعونها على غير مواضعها، وهذه الآية هي المشار إليها في قوله: ( ﯻﯼ ﯿﰀ ) [النساء: ١٤٠].

    أي: إنكم إذا جلستم معهم وأقررتموهم على ذلك فقد ساويتموهم في الذي هم فيه»36.

    ووردت الهجرة كذلك في السنة النبوية كما وردت في القرآن.

    فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: (كان فيمن كان قبلكم رجلٌ قتل تسعةً وتسعين نفسًا، فسأل عن أعلم أهل الأرض فدل على راهبٍ، فأتاه، فقال: إنه قتل تسعةً وتسعين نفسًا، فهل له من توبةٍ؟ فقال: لا، فقتله، فكمل به مائةً، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض فدل على رجلٍ عالمٍ، فقال: إنه قتل مائة نفسٍ، فهل له من توبةٍ؟ فقال: نعم، ومن يحول بينه وبين التوبة؟ انطلق إلى أرض كذا وكذا؛ فإن بها أناسًا يعبدون الله فاعبد الله معهم، ولا ترجع إلى أرضك؛ فإنها أرض سوءٍ، فانطلق حتى إذا نصف الطريق أتاه الموت، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فقالت ملائكة الرحمة: جاء تائبًا مقبلًا بقلبه إلى الله، وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيرًا قط، فأتاهم ملكٌ في صورة آدميٍ، فجعلوه بينهم37، فقال: قيسوا ما بين الأرضين فإلى أيتهما كان أدنى فهو له، فقاسوه فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد، فقبضته ملائكة الرحمة)، قال قتادة: فقال الحسن: ذكر لنا أنه لما أتاه الموت نأى بصدره3839.

    قال النووي رحمه الله: «قوله: (انطلق إلى أرض كذا وكذا؛ فإن فيها أناسًا يعبدون الله فاعبد الله معهم، ولا ترجع إلى أرضك؛ فإنها أرض سوء) قال العلماء: في هذا استحباب مفارقة التائب المواضع التي أصاب بها الذنوب، والأخدان المساعدين له على ذلك، ومقاطعتهم ما داموا على حالهم، وأن يستبدل بهم صحبة أهل الخير والصلاح والعلماء والمتعبدين الورعين ومن يقتدي بهم وينتفع بصحبتهم، وتتأكد بذلك توبته»40.

    حكم هذه الهجرة:

    سبق أن بينا أن الهجرة من أرض البدعة والمعصية إلى أرض السنة والطاعة ليس المقصود منها انتقال إلى بلد أو مدينة أو منطقة فحسب، بل الأمر أوسع من هذا، يشمل كل بقعة أو مجلس تحول عنه لنوع بدعة أو شيء محرم.

    وبناءً على ذلك يكون لهذه الهجرة حكمان:

    الأول: الوجوب إذا كان الجلوس في مثل هذه الأماكن سببًا في فقد المسلم القدرة على الالتزام بتعاليم دينه، وعدم قدرته على تغيير المنكرات، كما يفهم من نصوص القرآن وكلام العلماء.

    ويفهم هذا الوجوب من قوله تعالى: ( ﯿ ﰃﰄ ) [الأنعام: ٦٨].

    ومن دلالات الوجوب في الآية: صيغة الأمر بالإعراض في قوله تعالى: ( ) [الأنعام: ٦٨].

    وجعل غاية هذا الإعراض41 أن يخوضوا في حديث غيره، وهو قوله تعالى: (ﯿ ) [الأنعام: ٦٨].

    وكذلك يستفاد من النهي في قوله تعالى: ( ) [الأنعام: ٦٨]؛ لأن الإقامة في هذه الأرض أيًا كان نوعها -كما بينا سابقًا- تعرض المسلم لسخط الله عز وجل وفقد القدرة على الالتزام بتعاليم دينه.

    ويفهم الوجوب من كلام العلماء المذكورين سابقًا، كابن العربي وابن كثير، وغيرهما.

    الثاني: جواز الهجرة وعدمه:

    وهذا إذا كان المسلم قادرًا على إقامة أحكام دينه، وعلى إزالة هذه المنكرات، وعلى دعوة العصاة في مثل هذه الأماكن.

    ويؤخذ هذا الحكم من قوله تعالى في سورة الأنعام: ( ) [الأنعام: ٦٩].

    وقد صرح بعض العلماء بهذا الحكم، واتضح من كلام بعضٍ آخر بمفهوم المخالفة.

    قال الرازي في تفسير هذه الآية: «قال ابن عباس رضي الله عنهما: قال المسلمون: لئن كنا كلما استهزأ المشركون بالقرآن وخاضوا فيه قمنا عنهم لما قدرنا على أن نجلس في المسجد الحرام، وأن نطوف بالبيت، فنزلت هذه الآية، وحصلت الرخصة فيها للمؤمنين بأن يقعدوا معهم ويذكرونهم ويفهمونهم»42.

    وقال الشيخ السعدي في قوله تعالى: ( ) [الأنعام: ٦٨]: «هذا النهي والتحريم لمن جلس معهم ولم يستعمل تقوى الله بأن كان يشاركهم في القول والعمل المحرم، أو يسكت عنهم وعن الإنكار، فإن استعمل تقوى الله تعالى بأن كان يأمرهم بالخير وينهاهم عن الشر والكلام الذي يصدر منهم فيترتب على ذلك زوال الشر أو تخفيفه فهذا ليس عليه حرج ولا إثم؛ ولهذا قال: ( ) [الأنعام: ٦٩]»43.

    وقال ابن القاسم: «سمعت مالكًا يقول: لا يحل لأحد أن يقيم ببلد سب فيها السلف»44.

    وقد وافقه ابن العربي بقوله: «وهذا صحيح؛ فإن المنكر إذا لم يقدر على تغييره نزل عنه45.

    قال الله تعالى: ( ﯿ ﰃﰄ ) [الأنعام: ٦٨]46.

    فيفهم من قوله: «فإن المنكر إذا لم يقدر على تغييره نزل عنه»، جواز المكث والجلوس عند استطاعة تغيير المنكر.

    وقال الشوكاني في تفسير قوله تعالى: ( ﯿ ﰃﰄ ) [الأنعام: ٦٨]: «وفي هذه الآية موعظة عظيمة لمن يتسمح47 بمجالسة المبتدعة الذين يحرفون كلام الله، ويتلاعبون بكتابه وسنة رسوله، ويردون ذلك إلى أهوائهم المضلة وبدعهم الفاسدة، فإنه إذا لم ينكر عليهم ويغير ما هم فيه، فأقل الأحوال أن يترك مجالستهم، وذلك يسير عليه غير عسير»48.

    وبعد عرض كلام أهل العلم في هذا النوع من الهجرة يتبين أنها تدور بين الوجوب والجواز، على التفصيل الذي سبق بيانه، والله أعلم.

    ثالثًا: الهجرة لطلب العلم والتجارة:

    لما كان طلب العلم وتعلمه وتعليمه للناس من أجل الأعمال وأفضلها؛ عد السفر في سبيل تحصيله لونًا من ألوان الهجرة، ونوعًا من أنواعها؛ وذلك لما يترتب عليه من منافع للمسلمين؛ ولما يصاحبه من مشقة ترك الأوطان، ومفارقة الإخوان، ومكابدة مشاق السفر والغربة ومتاعبه.

    وجاء الحث على هذا النوع في القرآن الكريم في أكثر من موضع، بين آيات تأمر بها، وأخرى تذكر قصصًا للمهاجرين في طلب العلم.

    كما حثت السنة النبوية الشريفة أيضًا على هذا النوع وبينت فضائله.

    يقول الله عز وجل: ( ) [التوبة: ١٢٢].

    وهنا نجد الإشارة إلى أهمية الخروج والهجرة لطلب العلم والتفقه في الدين، فقد بين سبحانه وتعالى فيها أن غاية هذا الخروج من البلدان هو التفقه في الدين، وإنذار العباد به.

    يقول الشيخ السعدي رحمه الله في قوله: ( ) [التوبة: ١٢٢].

    أي: «ليتعلموا العلم الشرعي ويعلموا معانيه، ويفقهوا أسراره، وليعلموا غيرهم، ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم»49.

    ويقول السيوطي رحمه الله: «وفي الآية إشارة إلى الرحلة في طلب العلم»50.

    واتخذ الطاهر ابن عاشور هذه الآية أصلًا في طلب العلم، فقال: «هذه الآية أصل في وجوب طلب العلم، على طائفة عظيمة من المسلمين وجوبًا على الكفاية»51.

    وبالنظر في سياق الآية يتبين لنا أنها أتت في معرض الحديث عن الجهاد في سبيل الله، وكأن في هذا إشارة إلى أن الهجرة لطلب العلم لا تقل في المنزلة عن الهجرة للجهاد في سبيل الله.

    «فهناك نفرٌ52 كالنفر إلى الجهاد، وهو النفر إلى التفقه فى الدين، والتعرف على أحكام الشريعة، ففي النفر إلى الجهاد يقول الله عز وجل: ( ) [التوبة: ٤١].

    وفي النفر إلى العلم يقول جل جلاله: ( ) [التوبة: ١٢٢].

    فطلب العلم فريضة على كل مسلم كفريضة الجهاد سواء بسواء»53.

    تناسب لطيف:

    نلحظ وجود تناسب رائق من حيث المعنى ومن حيث اللفظ بين هذه الآية وما قبلها، في قوله: ( ﭿ ) [التوبة: ١٢٠].

    ونجد الطاهر ابن عاشور رحمه الله يجلي لنا هذا الترابط فيقول: «وإذ قد كانت الآية السابقة قد حرضت فريقًا من المسلمين على الالتفاف حول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغزو لمصلحة نشر الإسلام، ناسب أن يذكر عقبها نفر فريق من المؤمنين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم للتفقه في الدين؛ ليكونوا مرشدين لأقوامهم الذين دخلوا في الإسلام.

    ومن محاسن هذا البيان أن قابل صيغة التحريض على الغزو بمثلها في التحريض على العلم؛ إذ افتتحت صيغة تحريض الغزو بلام الجحود، في قوله: ( ﭿ ) [التوبة: ١٢٠].

    وافتتحت صيغة التحريض على العلم والتفقه بمثل ذلك، إذ يقول: ( ) [التوبة: ١٢٢]54.

    وهذا لا شك يبين فضل الهجرة في طلب العلم وتحصيله.

    والهجرة لطلب العلم لكفاية حاجة الأمة لا تقل في وجوبها عن وجوب الجهاد لتحقيق مصالح الأمة.

    وقد استنبط الطاهر ابن عاشور رحمه الله هذا الحكم اللطيف من قوله تعالى: ( ﯫﯬ ) [التوبة: ١٢٢].

    فقال: «الإتيان بصيغة لام الجحود تأكيد للنفي، وهو خبر مستعمل في النهي، فتأكيده يفيد تأكيد النهي، أي: كونه نهيًا جازمًا يقتضي التحريم؛ وذلك أنه كما كان النفر للغزو واجبًا؛ لأن في تركه إضاعة مصلحة الأمة، كذلك كان تركه من طائفة من المسلمين واجبًا، لأن في تمحض جميع المسلمين للغزو إضاعة مصلحة للأمة أيضًا، فأفاد مجموع الكلامين أن النفر للغزو واجب على الكفاية، أي: على طائفة كافية لتحصيل المقصد الشرعي منه، وأن تركه متعين على طائفة كافية منهم، لتحصيل المقصد الشرعي مما أمروا بالاشتغال به من العلم في وقت اشتغال الطائفة الأخرى بالغزو»55.

    وإذا كان القرآن أشار إلى الهجرة لطلب العلم فقد أشارت السنة النبوية إليه أيضًا، وصرحت بأن هذه الهجرة جهاد، فعن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من خرج في طلب العلم فهو في سبيل الله حتى يرجع)56.

    وعن زر بن حبيشٍ قال: أتيت صفوان بن عسالٍ المرادي فقال: ما جاء بك؟ قلت: أنبط57 العلم، قال: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من خارجٍ خرج من بيته في طلب العلم إلا وضعت له الملائكة أجنحتها رضًا بما يصنع)58.

    ومما يبين لنا أيضًا فضل الهجرة في طلب العلم -زيادةً على ما سبق- ما قصه الله علينا من خبر الكليم موسى عليه السلام مع الخضر عليه السلام في سورة الكهف.

    قال تعالى: ( ﯿ ﭬﭭ ﭸﭹ ﭿ ) [الكهف: ٦٠-٦٦].

    فهذه قصة ارتحال موسى عليه السلام إلى الخضر وهجرته إليه، وسبب هذه الهجرة يبينه لنا حديث النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: (إن موسى قام خطيبًا في بني إسرائيل، فسئل: أي الناس أعلم؟ فقال: أنا، فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه، فأوحى الله إليه إن لي عبدًا بمجمع البحرين هو أعلم منك، قال موسى: يا رب فكيف لي به؟ قال: تأخذ معك حوتًا فتجعله في مكتلٍ، فحيثما فقدت الحوت فهو)59.

    إذن فموسى عليه السلام قد هاجر لطلب العلم من العبد الصالح.

    يقول القرطبي رحمه الله: «في هذا من الفقه رحلة العالم في طلب الازدياد من العلم، والاستعانة على ذلك بالخادم والصاحب، واغتنام لقاء الفضلاء والعلماء وإن بعدت أقطارهم، وكان ذلك دأب السلف الصالح»60.

    وبتتبع آيات القصة ومفرداتها يتبين لنا: الحرص الشديد من موسى عليه السلام على مواصلة الرحلة، مهما كلفه ذلك من مشقة وعناء؛ إذ يقول: ( ) [الكهف: ٦٠].

    وهذا «يكشف عن حرصه الشديد على تحقيق هذه الرغبة حتى إنه إذا لم يبلغها في المدى الذي قدره فلن يكف عن السعي، بل يظل هكذا طوال حياته راصدًا لهذه الغاية، ساعيًا إليها، شأن من تتسلط عليه رغبة ويستولي عليه أمل فيعيش حياته كلها ساعيًا لهذه الرغبة، جاريًا وراء هذا الأمل إلى أن يتحقق أو يموت دونه»61.

    فالهجرة في طلب العلم من نفائس الأعمال وعظيمها، فلا غرو أن استحقت كل هذا الإصرار من نبي كريم.

    قال الرازي: في قوله تعالى: ( ) [الكهف: ٦٠].

    «هذا إخبار من موسى عليه السلام بأنه وطن نفسه على تحمل التعب الشديد والعناء العظيم في السفر؛ لأجل طلب العلم، وذلك تنبيه على أن المتعلم لو سافر من المشرق إلى المغرب لطلب مسألة واحدة لحق له ذلك»62.

    ولو لم يكن لهذا النوع من أنواع الهجرة ثمرة إلا تحصيل العلم النافع الذي يورث العبد خشية الله، مصداقًا لقوله سبحانه وتعالى: ( ) [فاطر: ٢٨]63 لكفى، فكيف وقد أمر الله به، وجعله من سنة الأنبياء والصالحين، وجعل تعليمه للناس من خير الأعمال وأقومها!

    ولله در القرطبي إذ يقول: «بسبب ذلك -أي: الهجرة لطلب العلم- وصل المرتحلون إلى الحظ الراجح، وحصلوا على السعي الناجح، فرسخت لهم في العلوم أقدام، وصح لهم من الذكر والأجر والفضل أفضل الأقسام»64.

    ومن تمام نعمة الله على عباده أن ذلل لهم الأرض وسخرها كالدابة الذلول سهلة الانقياد، وأرشدهم إلى السير والسعي في جنباتها وفجاجها؛ لتحصيل الرزق والمعاش، فقال سبحانه وتعالى: ( ﭯﭰ ) [الملك: ١٥].

    ومن رحمة الله بعباده أيضًا أن وازن لهم بين متطلبات أرواحهم، ومقتضيات الحياة في الأرض من عمل ونشاط وكسبٍ؛ فأباح لهم الانتشار في الأرض للتجارة والكسب بعد الفراغ من صلاة الجمعة، حيث قال جل جلاله: ( ) [الجمعة: ١٠].

    قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: «لما حجر عليهم في التصرف بعد النداء، وأمرهم بالاجتماع أذن لهم بعد الفراغ في الانتشار في الأرض، والابتغاء من فضل الله»65.

    وابتغاء الفضل ورد في القرآن بمعنى التجارة66.

    كما أرشد الله عباده أن السفر للتجارة سبب للنيل من فضل الله الواسع، فقال سبحانه وتعالى: ( ﭿ ) [المزمل: ٢٠].

    والضرب في الأرض هو السفر للتجارة67.

    «وسمى الله السفر للتجارة ضربًا في الأرض؛ لأن الماشي بجدٍ واجتهاد يضرب الأرض برجله»68.

    «وتأمل كيف أن الله قال: ( ﭿ ) [المزمل: ٢٠].

    فأشار إلى سعة ما عند الله بكونه فوق أمانيهم؛ وقال: (ﭿ )، أي: بعض ما أوجده الملك الأعظم لعباده، ولا حاجة به إليه بوجهٍ من الربح في التجارة»69.

    ومما يبين فضيلة السفر للتجارة وتحصيل الرزق، بشرط توفر النية الطيبة، وعدم الانشغال به عن ذكر الله، أن الله عز وجل جعل الهجرة للسعي على الرزق والتجارة مقرونة بالجهاد في سبيله، فقال جل جلاله: ( ﭿ ﮁﮂ ) [المزمل: ٢٠].

    فقد «جمع الله سبحانه وتعالى في الآية بين السعي في الأرض لطلب الرزق والجهاد في سبيله؛ للإشعار بأن الأول لا يقل في فضله عن الثاني متى توافرت فيه النية الطيبة، وعدم الانشغال به عن ذكر الله»70.

    قال الطاهر ابن عاشور: «وقد كان بعض الصحابة رضي الله عنهم يتأول من هذه الآية فضيلة السفر للتجارة؛ حيث سوى الله بين المجاهدين والمكتسبين المال الحلال، بمعنى أن الله ما ذكر هذين السببين لنسخ تحديد القيام إلا تنويهًا بهما»71.

    فها هو عمر رضي الله عنه يبين فضيلة الهجرة للتجارة والسعي إلى الرزق، فيقول: «ما جاءني أجلي في مكانٍ، ما عدا في سبيل الله عز وجل أحب إلي من أن يأتيني وأنا بين شعبتي رحلي أطلب من فضل الله، ثم تلا: ( ﭿ ) [المزمل: ٢٠]72.

    وهكذا فهم كثير من العلماء؛ فتواترت كلماتهم في بيان فضيلة السفر للتجارة من خلال آية المزمل73.

    وجاءت هذه الجملة من الآية في سورة المزمل في سياق بيان أعذار بني آدم التي تحول بينهم وبين قيام الليل، فذكر الله من هذه الأعذار سفر بعض المسلمين للتجارة يطلبون من رزق الله ما يحتاجون إليه في معاشهم، وهذا يبين فضيلة الهجرة للتجارة، والسعي على الرزق؛ إذ جعلها الله عذرًا لمن لا يقوم الليل كله، ولا ينقطع لقراءة القرآن.

    هجرة الأعمال

    من أنواع الهجرة التي بينها القرآن الكريم هجرة بعض الأعمال، وسوف نتناولها بالشرح فيما يأتي:

    أولًا: الهجرة من الآثام إلى التوحيد:

    الذنوب والمعاصي من أكثر ما يهلك العبد ويخزيه في دنياه وأخراه، وقد حدثنا القرآن عن علة هلاك الأقوام السابقة والأمم المتقدمة، فقال جل جلاله: ( ﭢﭣ ﭴﭵ ) [العنكبوت: ٤٠].

    والإيمان بالله والاعتصام به من أكبر أسباب النجاة.

    قال تعالى: ( ) [يونس: ٩٨].

    فهجرة المعاصي والحذر منها والاعتصام بالتوحيد لا ريب أنه من أكثر أسباب النجاة؛ لذا جاء الأمر بها في القرآن: ( ) [المدثر: ٥].

    وقد ورد في بيان المراد بالرجز في الآية قولان:

    الأول: الرجز هو الأصنام، وقد ورد عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة وقتادة والزهري وابن زيد.

    الثاني: الرجز هو المعصية، وقد ورد عن إبراهيم والضحاك74.

    وتوجيه الأمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم باجتناب الرجز لا يلزم منه تلبسه بشيء منه، قال ابن كثير رحمه الله: «وعلى كل تقدير فلا يلزم تلبسه بشيء من ذلك، كقوله: ( ) [الأحزاب: ١].

    وقوله: ( ) [الأعراف: ١٤٢]75. والمعنى في الأمر: اثبت ودم على هجره؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان بريئًا منه»76.

    وعلى كلا القولين في معنى الرجز فهناك أمر بهجر الإثم، سواء كان الشرك أو الذنوب التي يدخل فيها الشرك وسائر الشرور.

    قال الشيخ السعدي: « ( ) [المدثر: ٥].

    يحتمل أن المراد بالرجز الأصنام والأوثان التي عبدت مع الله، فأمره بتركها، والبراءة منها، ومما نسب إليها من قول أو عمل، ويحتمل أن المراد بالرجز أعمال الشر كلها وأقواله، فيكون أمرًا له بترك الذنوب، صغيرها وكبيرها، ظاهرها وباطنها، فيدخل في ذلك الشرك وما دونه»77.

    ولعل القول بالعموم هو الأولى؛ لأن من معاني الرجز في اللغة العذاب، قال الله تعالى: ( ) [الأعراف: ١٣٤].

    فتكون الآية دالة على وجوب الاحتراز عن كل المعاصي؛ لأنها مسببة للعذاب، فكل ما يؤدي إلى الرجز فاهجره، كأنه قيل له: اهجر الجفاء والسفه وكل شيء قبيح، ولا تتخلق بأخلاق هؤلاء المشركين المستعملين للرجز.

    «وتظهر أهمية هجرة الآثام حينما نعلم أن هذا الأمر ( ) [المدثر: ٥].

    أتى في سورة المدثر، وهي من أوائل ما نزل»78.

    ولخطورة الآثام ولأهمية هجرها، قدم المفعول () على عامله ().

    قال ابن عاشور: «وتقديم (الرجز) على فعل (اهجر)؛ للاهتمام في مهيع79 الأمر بتركه»80.

    وقد جاء هذا المعنى -هجرة الآثام- في الحديث الصحيح: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه)81.

    قال ابن حجر في شرحه لهذا الحديث: «الهجرة ضربان: ظاهرة وباطنة، فالباطنة: ترك ما تدعو إليه النفس الأمارة بالسوء والشيطان، والظاهرة: الفرار بالدين من الفتن»82.

    والهجرة الظاهرة على المرء أن يقوم بها متى تحققت دواعيها، أما الهجرة الباطنة فلا ينبغي أن يتخلف الإنسان عنها.

    وهذا لا ريب يدل على أهمية هجر الذنوب والبعد عنها «فإن النفس متى طهرت منها كانت مستعدة للإفاضة على غيرها، وأقبلت بإصغاء وشوق إلى سماع ما يقول الداعي»83.

    ثانيًا: هجرة القوم بالمشاعر:

    من البلاءات العصيبة أن يكون الإنسان مؤمنًا يريد الله والدار الآخرة، ويحيا في بيئة لا تسيطر على أفرادها الغاية نفسها والهدف ذاته، ثم تفرض عليه هذه الحياة أن يعامل أفراد هذه البيئة ويخالطهم، ويتواجد معهم بجسده لسببٍ ما، فحينئذٍ لا يجد إلا أن يهجرهم بمشاعره وقلبه.

    وهي هجرة شرعية جعلها الله لمن عجز عن الهجرة ببدنه.

    وقد جاء الأمر بهذه الهجرة في القرآن: قال عز وجل: ( ) [المزمل: ١٠].

    قال الحافظ ابن كثير في بيان المراد بهذه الآية: «يقول تعالى آمرًا رسوله صلى الله عليه وسلم بالصبر على ما يقوله من كذبه من سفهاء قومه، وأن يهجرهم هجرًا جميلًا؛ وهو الذي لا عتاب معه»84.

    وقد تعددت أقوال المفسرين في بيان معنى الهجر الجميل:

    فقال الزمخشري: «الهجر الجميل أن يجانبهم بقلبه وهواه، ويخالفهم، مع حسن المخالقة والمداراة والإغضاء، وترك المكافأة»85.

    وقال صاحب الإشارات: «الهجر الجميل: أن تعاشرهم بظاهرك، وتباينهم بسرك وقلبك»86.

    وقال السعدي عن الهجر الجميل: «هو الهجر حيث اقتضت المصلحة، الهجر الذي لا أذية فيه، فيقابلهم بالهجر والإعراض عنهم وعن أقوالهم التي تؤذيه، مع جدالهم بالتي هي أحسن»87.

    ومن تأمل كلمات المفسرين تتضح لنا صور للهجر الجميل:

    • المجانبة القلبية والمخالفة في الأعمال.
    • الهجر حيث اقتضت المصلحة مع عدم الإيذاء.
    • الإعراض عن الأقوال التي تؤذي، مع الاستمرار في الدعوة والتبليغ.

      فليس المقصود من هذا الهجر ترك الدعوة والتبليغ، وإنما هو هجر وإعراض جميل، مع مواصلة الدعوة، وهذا ما نبه إليه الطاهر ابن عاشور رحمه الله بقوله: «ولما كان الهجر ينشأ عن بغض المهجور، أو كراهية أعماله كان معرضًا لأن يعتلق به أذى من سب أو ضرب أو نحو ذلك؛ فأمر الله رسوله بهجر المشركين هجرًا جميلًا، أي: أن يهجرهم ولا يزيد على هجرهم سبًا أو انتقامًا، وهذا الهجر هو إمساك النبي صلى الله عليه وسلم عن مكافأتهم بمثل ما يقولونه، مما أشار إليه قوله تعالى: ( ) [المزمل: ١٠].

      وليس منسحبًا على الدعوة للدين؛ فإنها مستمرة، ولكنها تبليغ عن الله سبحانه وتعالى، فلا ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم »88.

      وقد انتزع الرازي رحمه الله من هذه الآية منزعًا أخلاقيًا نفيسًا في كيفية التعامل مع الخلق، فقال: «قد جمع سبحانه وتعالى كل ما يحتاج إليه في هذا الباب في هاتين الكلمتين؛ وذلك لأن الإنسان إما أن يكون مخالطًا للناس أو مجانبًا لهم، فإن كان مخالطًا لهم فعليه أن يصبر على إيذائهم، وإما أن يكون مجانبًا لهم فعليه أن يهجرهم هجرًا جميلًا، بأن يجانبهم بقلبه وهواه، ويخالفهم في أفعالهم مع المداراة والإغضاء»89.

      ومما يستشهد به على هجرة القوم بالمشاعر ما ورد في قول الله: ( ) [الشعراء: ٢١٦].

      فقد أمر الله رسوله بإعلان براءته وإنكاره، وإظهار عدم رضاه عن معصية قومه بعد دعوتهم، وسواء كان المقصود هم كفار قريش، أو من آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم، فسياق الآيات يحتمل القولين، وقد فسرها المفسرون على القولين:

      الأول: كفار قريش.

      قال الطبري رحمه الله: «فإن عصتك يا محمد عشيرتك الأقربون الذين أمرتك بإنذارهم، وأبوا إلا الإقامة على عبادة الأوثان والإشراك بالرحمن، فقل لهم: ( ) [الشعراء: ٢١٦].

      من عبادة الأصنام، ومعصية بارئ الأنام»90.

      الثاني: من آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم.

      قال السعدي رحمه الله: « ( ) [الشعراء: ٢١٦].

      في أمر من الأمور فلا تتبرأ منهم، ولا تترك معاملتهم بخفض الجناح ولين الجانب، بل تبرأ من عملهم، فعظهم عليه وانصحهم، وابذل قدرتك في ردهم عنه، وتوبتهم منه؛ وهذا لدفع احتراز وهم من يتوهم أن قوله: ( ) [الشعراء: ٢١٥].

      يقتضي الرضاء بجميع ما يصدر منهم ما داموا مؤمنين فدفع هذا بهذا»91.

      وعلى كلا القولين فالآية شاهد على هجرة القوم بالمشاعر عند ارتكاب المعاصي.

      وقد ذكر لنا القرآن بعض المواقف العملية للهجرة بالمشاعر، نذكر منها موقفين:

    1. موقف إبراهيم عليه السلام ومن معه.

      لما نهى الله المؤمنين في سورة الممتحنة عن موالاة الكفار ذكر قصة إبراهيم عليه السلام، وأن من سيرته التبرؤ من الكفار، فأمر المؤمنين أن يقتدوا به في هذه الهجرة القلبية، فقال عز وجل: ( ) [الممتحنة: ٤].

      فنلحظ من هذا الموقف أن إبراهيم عليه السلام والمؤمنين معه أعلنوا البراءة والإنكار على قومهم؛ لكفرهم بالله وعبادتهم ما سواه، وأظهروا لهم العداوة والبغضاء، جاعلين هذا شعارهم حتى ينتهي قومهم عن كفرهم ومعاصيهم.

      قال الطاهر ابن عاشور: « () معناه: ظهر ونشأ، أي: أحدثنا معكم العداوة ظاهرةً لا مواربة فيها، أي: ليست عداوة في القلب خاصة، بل هي عداوة واضحة علانيةً بالقول والقلب»92.

      ونلحظ في نظم الآية الجمع بين العداوة والبغضاء، وإن كانت إحداهما تكفي في التعبير عن هذه الهجرة القلبية، إلا أن القرآن لم يكتف بواحدة؛ بل جمع بينهما للتأكيد على هذه الهجرة القلبية التي وقعت من إبراهيم عليه السلام ومن معه.

      قال ابن عاشور: «والعداوة: المعاملة بالسوء والاعتداء، والبغضاء: نفرة النفس والكراهية، وقد تطلق إحداهما في موضع الأخرى إذا افترقتا، فذكرهما معًا هنا مقصود به حصول الحالتين في أنفسهم حالة المعاملة بالعدوان وحالة النفرة والكراهية»93.

    2. موقف لوط عليه السلام وهجرته لرذائل قومه.

      من المواقف العملية التي ذكرها القرآن في هجرة القوم بالمشاعر، ما فعله لوط عليه السلام مع قومه، حين أعلن بغضه لما يفعله قومه من جريمة اللواط، حيث قال: ( ) [الشعراء: ١٦٨].

      أي: «إني لعملكم الذي تعملونه -من إتيان الذكور- لمن المبغضين له بغضًا شديدًا»94.

      ومن دلالات النظم على شدة كراهية لوط عليه السلام لهذا العمل، ومفارقته قومه في جريمتهم أمران:

      أحدهما: إيثاره التعبير بقوله: ( ) دون غيره، كالمبغضين مثلًا؛ لأنه بغضٌ شديد، كأنه يقلي الفؤاد والكبد لشدته95.

      الأمر الآخر: أراد لوط عليه السلام أن يبين لقومه أنه من زمرة الراسخين في بغض هذا العمل، المشهورين في قلاه، فلم يقل: «إني لعملكم قالٍ»، وإنما قال: ( ) وهو أبلغ؛ لدلالته على المعنى المراد.

      المهاجرون

      تحدث القرآن الكريم عن المهاجرين؛ ليقتدي بهم المؤمنون، وسوف نقوم بتناول منزلتهم ونماذج منهم فيما يأتي:

      أولًا: منزلة المهاجرين:

      إن للمهاجرين منزلة عالية في القرآن الكريم، فقد احتفى بهم احتفاءً كبيرًا، ويظهر ذلك ما يأتي:

    1. تخليد ذكرهم.

      ذكر الله سبحانه وتعالى المهاجرين السابقين في كتابه خير ذكر، وخلد ذكرهم أبد الدهر، وقد حدثنا القرآن في غير موضع عن هجرة نبي الله موسى، والخليل إبراهيم، وتهجيره لولده وزوجته: ( ) [إبراهيم: ٣٧].

      وكيف أن هذه الهجرة الميمونة كانت هي البشائر لميلاد أمة جديدة صارت هي الأجدر بتلقي كلمات الله ورسالته الأخيرة، والانسياح بها في مختلف الأصقاع والبقاع، وإزالة الظلام الذي ران على العقول والأفئدة في ظل غيبة أنوار التوحيد.

      فتخليد الله ذكر المهاجرين السابقين في القرآن تكريمٌ ما بعده تكريم.

    2. ضرب المثل بهم وجعلهم في مقام القدوة.

      يستفاد من ذكر القرآن لقصص المهاجرين السابقين أنهم صاروا في موضع الأسوة والقدوة للجماعة المؤمنة على امتداد الزمان وتراخيه.

      فذكر القرآن لهم يعني: أن سيرهم ومواقفهم وتضحياتهم وبطولاتهم ستبقى حية ومتداولة لا تنسى على مر العصور، وكر الدهور، تستخرج منها الدروس، وتستنبط من بين ثناياها العبر.

      فجعل المهاجرين السابقين مضرب المثل، ومحل اعتبار جموع المؤمنين السائرين إلى ربهم لهو تشريف يعجز الجنان والبنان عن تخيله وتسطيره؛ لأنه مهما سطر فسيبقى خارج التصور.

      قال تعالى: ( ﭦﭧ ) [التوبة: ١٠٠].

      يخبر تعالى عن رضاه عن السابقين من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان، ورضاهم عنه بما أعد لهم من جنات النعيم، والنعيم المقيم96، فيا ويل من أبغضهم أو سبهم أو أبغض أو سب بعضهم، ولا سيما سيد الصحابة بعد الرسول وخيرهم وأفضلهم، أعني الصديق الأكبر والخليفة الأعظم أبا بكر بن أبي قحافة رضي الله عنه؛ فإن الطائفة المخذولة من الرافضة يعادون أفضل الصحابة ويبغضونهم ويسبونهم -عياذا بالله من ذلك-، وهذا يدل على أن عقولهم معكوسة وقلوبهم منكوسة، فأين هؤلاء من الإيمان بالقرآن إذ يسبون من رضي الله عنهم؟ وأما أهل السنة فإنهم يترضون عمن رضي الله عنه، ويسبون من سبه الله ورسوله، ويوالون من يوالي الله، ويعادون من يعادي الله، وهم متبعون لا مبتدعون، ويقتدون ولا يبتدئون؛ ولهذا هم حزب الله المفلحون وعباده المؤمنون97.

      ثانيًا: المهاجرون من الأنبياء:

      الهجرة أسلوب من أساليب نشر الدعوة، وطريقة للمحافظة عليها من بغي الباغين، وعدوان الجبابرة الظالمين؛ ولهذا كانت الهجرة سبيل الأنبياء السابقين والرسل المتقدمين قبل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، يرتادون فيها الأرض الخصبة التي تحتضن الدعوة، ويبحثون أثناءها عن البذور الطيبة الصالحة للإخصاب.

      وقد حدثنا القرآن عن عدد من الأنبياء الذين هاجروا وتركوا ديارهم، وسنفصل القول في بعضهم:

    1. إبراهيم عليه السلام.

      هذا النبي المبارك الذي بدأ دعوته في بيئة كفر وشرك، فدعا قومه إلى التوحيد الخالص والعقيدة الصحيحة، ونبذ ما هم عليه من خرافات وأباطيل، دعاهم دعوة واضحة المعالم، ميسورة الفهم.

      قال تعالى: ( ﭞﭟ ﭮﭯ ﭿ ﮀﮁ ) [العنكبوت: ١٦ - ١٧].

      ولكنهم بدلًا من أن يمدوا البصر في دعوته، ويجيلوا النظر في محتوى رسالته، قاموا بإشعال النيران من أجل إحراقه، ( ) [العنكبوت: ٢٤].

      «إنه منطق الحديد والنار الذي لا يعرف الطغاة منطقًا سواه، عندما تعوزهم الحجة وينقصهم الدليل، وحينما تحرجهم كلمة الحق الخالصة ذات السلطان المبين»98.

      فلما يئس إبراهيم من هؤلاء القوم الغلاظ -الذين لم تلن قلوبهم لآية إنجائه من النار- قرر أن يهاجر ويتركهم؛ «لأن الهادي إذا هدى قومه ولم ينتفعوا فبقاؤه فيهم مفسدة؛ لأنه إن دام على الإرشاد كان اشتغالًا بما لا ينتفع به مع علمه، وإن سكت فالسكوت دليل الرضا، فيقال بأنه صار منا ورضي بأفعالنا، وإذا لم يبق للإقامة وجه وجبت المهاجرة»99.

      وقال تعالى: ( ﮍﮎ ) [العنكبوت: ٢٦].

      «وهذه أول هجرةٍ لأجل الدين ولذلك جعلها هجرةً إلى ربه»100.

      وقال الله عن هجرته أيضًا: ( ) [الصافات: ٩٩].

      «وإبراهيم عليه السلام لم يهاجر للنجاة، ولم يهاجر لأرض أو كسب أو تجارة، وإنما هاجر إلى ربه متقربًا له، ملتجئًا إلى حماه بقلبه وعقيدته، قبل أن يهاجر بلحمه ودمه، هاجر إليه ليخلص له عبادته، ويخلص له قلبه، بل وكيانه كله في مهجره، بعيدًا عن موطن الكفر والضلال، بعد أن لم يبق رجاء في أن يفيء القوم إلى الهدى والإيمان بحال»101.

      وهجرة إبراهيم عليه السلام «هجرة نفسية قبل أن تكون هجرة مكانية، هجرة يترك وراءه فيها كل شيء من ماضي حياته، يترك فيها أباه وقومه وأهله وبيته ووطنه، وكل ما يربطه بهذه الأرض، وبهؤلاء الناس، ويدع وراءه كذلك كل عائق وكل شاغل ويهاجر إلى ربه متخففًا من كل شيء، طارحًا وراءه كل شيء، مسلمًا نفسه لربه لا يستبقي منها شيئًا، موقنًا أن ربه سيهديه، ويرعى خطاه، وينقلها في الطريق المستقيم، إنها الهجرة الكاملة من حال إلى حال، ومن وضع إلى وضع، ومن أواصر شتى إلى آصرة واحدة لا يزحمها في النفس شيء، إنه التعبير عن التجرد والخلوص والاستسلام والطمأنينة واليقين»102.

    2. موسى عليه السلام.

      من نماذج هجرة الأنبياء في القرآن هجرة سيدنا موسى عليه السلام، ذلك النبي الكريم الذي تحمل الكثير والكثير من أجل إبلاغ الرسالة، وتبصير الناس بها، فقد قال الله له: ( ) [طه: ٢٤].

      وتلك مهمة شاقة؛ لأن فرعون من الجبابرة الطغاة الذين لا يقيمون وزنًا للأرواح والأنفس، إنها مهمة غاية في الصعوبة والخطورة؛ لأنها مواجهة بالموعظة لأعظم ملوك الأرض يومئذٍ؛ ليكشف له فساد حاله، ويحذره من سوء مآله.

      ومع كل هذه المصاعب والمخاطر ذهب موسى إلى فرعون، وعرض عليه رسالته، وقال له ولملئه: ( ﯵﯶ ﭕﭖ ) [الدخان: ١٨-٢١].

      لقد طلب منهم أن يسلموه بني إسرائيل، وألا يتكبروا على الله بتكذيب رسله، «فإن استعصوا على الإيمان فهو يفاصلهم ويعتزلهم، ويطلب إليهم أن يفاصلوه ويعتزلوه، وذلك منتهى النصفة103 والعدل والمسالمة، ولكن الطغيان قلما يقبل النصفة؛ فهو يخشى الحق أن يظل طليقًا، ويصل إلى الناس في سلام وهدوء، ومن ثم يحاربه بالبطش، ولا يسالمه أبدًا.

      وحين وصلت التجربة إلى نهايتها، وأحس موسى أن القوم لن يؤمنوا له، ولن يستجيبوا لدعوته، ولن يسالموه أو يعتزلوه، وأنه لن يستطيع تبليغ الدعوة وأداء الرسالة، وبدا له إجرامهم أصيلًا عميقًا لا أمل في تخليهم عنه، عند ذلك لجأ إلى ربه وملاذه الأخير: ( ) [الدخان: ٢١]104، فأتاه الأمر بالخروج: ( ﭸﭹ ) [الدخان: ٢٣-٢٤].

      وهكذا خرج موسى بقومه، وأهلك الله فرعون وجنده، وهاجر موسى بقومه ليتوجه بهم إلى بلاد جديدة، يستطيع فيها أن يبلغهم الهدايات الإلهية، وتعاليم الرسالة الربانية، وأن ينشئ بهم مجتمعًا فاضلًا على وفق موازينها ومراداتها.

    3. محمد صلى الله عليه وسلم.

      كانت مكة حين بعث النبي صلى الله عليه وسلم قلعة الشرك والوثنية، ومقصدًا لعباد الأصنام من كل حدب وصوب، فبدأ النبي صلى الله عليه وسلم دعوته فيها إلى التوحيد وعبادة الله وحده، ونبذ عبادة ما سواه، ولكن قريشًا لم تستقبل دعوته بالود والترحاب، وإنما واجهت رسالته بالتكذيب، وأصحابه بالتعذيب، وقرآنه باللغو: ( ) [فصلت: ٢٦].

      ولما بدأت دعوته تنتشر ويقبل عليها الناس «قرر المشركون ألا يألوا جهدًا في محاربة الإسلام، وإيذاء الداخلين فيه، والتعرض لهم بألوان النكال والإيلام، وانفجرت مكة بمشاعر الغضب، وظلت عشرة أعوام تعد المسلمين عصاةً ثائرين، فزلزلت الأرض من تحت أقدامهم، واستباحت في الحرم الآمن دماءهم، وأموالهم وأعراضهم، وجعلت مقامهم تحملًا للضيم، وتوقعًا للويل»105.

      ولما لم تنجح هذه المحاولات في قطع دابر الدعوة وثني الناس عنها حز ذلك في نفوس طواغيت الكفر والشرك، فاجتمعوا في دار الندوة؛ ليتخذوا قراراهم الحاسم بالخلاص من النبي صلى الله عليه وسلم، وآنئذٍ أمر الله نبيه بالهجرة؛ فانتقل النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة حيث البلد الجديد، والدولة التي سيجري العمل على بنائها ورفع عمادها، وقد أشار القرآن إلى هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وعبر عنها بالإخراج، كما في قوله: ( ﮙﮚ ﮝﮞ ) [الأنفال: ٣٠].

      وقوله: ( ﯜﯝ ﯪﯫ ﯯﯰ ) [التوبة: ٤٠].

      والتعبير عن الهجرة بالإخراج فيه دلالة على حجم الإيذاء الذي تعرض له النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته في مكة من قبل المشركين، وعلى شدة تضييق المشركين على الدعوة، ومنعها من الانتشار بين الناس.

      ثالثًا: المهاجرون من الصحابة:

      إن الهجرة كما مر معنا عمل عظيم، فيه من المشقة والتعب والتضحيات ما فيه، ولا يقوم به بشرطه -حقًا- إلا مؤمن تمكن الإيمان من قلبه، وملأ اليقين فؤاده.

      ولولا أن القرآن حدثنا عن أناس ليسوا بأنبياء ولا مرسلين قاموا به لقلنا ما يقوم به إلا نبي أو رسول؛ لأجل هذا كان للمهاجرين من الصحابة رضي الله عنهم مكانة خاصة، ومنزلة سامية في القرآن والسنة.

      وقد تحدث القرآن عن المهاجرين من الصحابة على صورتين:

      الصورة الأولى: الحديث عنهم بوجهٍ عام.

      وهذا يظهر من خلال ما يأتي:

    1. ثناء الله عليهم وإظهار عظيم جزائهم.

      قال تعالى: ( ﭦﭧ ) [التوبة: ١٠٠].

      وفي هذه الآية ثناء بليغ على المهاجرين، وإظهار لفضلهم، ويظهر هذا في الآية من وجوه:

      • كلام الله عنهم، وهذه وحدها تكفي لإظهار فضلهم ورفعة درجاتهم؛ إذ الكلام من الرب الجليل مدبر الأفلاك، وفاطر الأرض والسماء، تنويهًا على عظيم صنعهم، وشريف فضلهم.
      • تزكية من حذا حذوهم، واقتفى أثرهم، وسار على دربهم، تأمل قوله تعالى: () تجد أنه «قيد مؤكد، يكشف عن الإحسان الذي يكون من متابعة السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، والتأسي بهم، فمتابعتهم هي إحسان. وقوله تعالى: () هو توكيد لهذا الإحسان الذي تنطوي عليه المتابعة، وهذا يعني أن ما كان من السابقين من المهاجرين والأنصار هو إحسان كله، فمن تابعهم وتأسى بهم على ما كانوا عليه فهو محسن كل الإحسان»106.
      • رفعهم لمقام تبادل الرضا مع الخالق، تأمل قوله: ( ) [التوبة: ١٠٠]. «ورضا الله عنهم هو الرضا الذي تتبعه المثوبة، وهو في ذاته أعلى وأكرم مثوبة، ورضاهم عن الله هو الاطمئنان إليه سبحانه، والثقة بقدره، وحسن الظن بقضائه »107.
      • جزاؤهم أعده الله. قال تعالى: ( ) [التوبة: ١٠٠]. فما ظنك بجزاء أعده الله الكريم الجليل؟! إن جزاءهم إذًا لعظيم، ونعيمهم لا يوصف، وسرورهم يوم يلقونه لا يقدر.

        ومن الثناء عليهم ما جاء في قوله تعالى: ( ﯶﯷ ) [النساء: ١٠٠].

        قال ابن عباس في رواية عطاء: كان عبد الرحمن بن عوف يخبر أهل مكة بما ينزل فيهم من القرآن، فكتب الآية التي نزلت: ( ) [النساء: ٩٧].

        فلما قرأها المسلمون قال حبيب بن ضمرة الليثي لبنيه -وكان شيخًا كبيرًا-: احملوني، فإني لست من المستضعفين، وإني لا أهتدي إلى الطريق، فحمله بنوه على سرير متوجهًا إلى المدينة، فلما بلغ (التنعيم) أشرف على الموت، فصفق يمينه على شماله، وقال: اللهم هذه لك وهذه لرسولك أبايعك على ما بايعتك يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومات حميدًا، فبلغ خبره أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: لو وافى المدينة لكان أتم أجرًا، فأنزل الله تعالى فيه هذه الآية108.

    2. شهادة الله لهم بالصدق.

      قال تعالى عن المهاجرين: ( ﯠﯡ ) [الحشر: ٨].

      أي فضل وأي تكريم وأي شهادة أعظم؟! وأي تزكية أعظم لهم من تزكية رب العالمين؟!

      قال تعالى: ( ) [الحشر: ٨].

      إنه إذن الخلود في مقامات الشرف والرفعة، إنها الشهادة لهم بالصدق من خالق هذا الكون.

    3. دعوة القرآن لحسن معاملتهم.

      قال تعالى: ( ﭿ ﮆﮇ ﮉﮊ ﮐﮑ ) [النور: ٢٢].

      وهذه الآية لها علاقة بحادثة الإفك؛ حيث «إن أبا بكر رضي الله عنه كان ينفق على مسطح بن أثاثة، وكان مسطح ابن خالة أبي بكر الصديق، وكان من فقراء المهاجرين، فلما علم أبو بكر بخوضه في قضية الإفك أقسم أن لا ينفق عليه، فلما تاب مسطح وتاب الله عليه لم يزل أبو بكر واجدًا في نفسه على مسطح فنزلت هذه الآية»109.

      ولقد ظهر هذا جليًا في تعامل الصحابة مع المهاجرين، فعمر بن الخطاب رضي الله عنه لما حضرته المنية قال: «أوصي الخليفة من بعدي بالمهاجرين الأولين خيرًا، أن يعرف لهم حقهم، وأن يحفظ لهم حرمتهم، وأوصيه بالأنصار خيرًا الذين تبوؤوا الدار والإيمان أن يقبل من محسنهم، ويعفى عن مسيئهم، وأوصيه بذمة الله، وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم أن يوفى لهم بعهدهم، وأن يقاتل من ورائهم، وأن لا يكلفوا فوق طاقتهم»110.

      وهذا الوصية العمرية تظهر عميق تقديره للمهاجرين واعترافه بمكانتهم وفضلهم عن غيرهم.

      الصورة الثانية: الحديث عن بعضهم بوجه خاص:

      وهذا يتجلى في قول الله: ( ﮧﮨ ) [البقرة: ٢٠٧].

      وقد ذكر كثير من المفسرين أن هذه الآية نزلت في صهيب بن سنان الرومي رضي الله عنه أراد أن يأتي النبي صلى الله عليه وسلم ويهاجر إلى المدينة، فمنعته قريش وحبسوه، فقال لهم: أعطيكم داري ومالي وما كان لي من شيء، فخلوا عني فألحق بهذا الرجل؟ فأبوا، ثم إن بعضهم قال لهم: خذوا منه ما كان له من شيء وخلوا عنه، ففعلوا، فأعطاهم داره وماله ثم خرج، فأنزل الله عز وجل على النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة: ( ) [البقرة: ٢٠٧].

      فلما دنا من المدينة تلقاه عمر في رجال، فقال له عمر: ربح البيع، قال: وبيعك فلا يخسر، قال: وما ذاك؟ قال: أنزل فيك كذا وكذا111.

      وهذه المنازل العظيمة والدرجات الرفيعة التي أعدها الله لهم تثبت فضل المهاجرين، وتوضح أن هؤلاء المهاجرين ما نالوا هذه الدرجات إلا عن تعب ومشقة وبذل وعطاء، وبذا قضى الله تعالى بين عباده أن الدرجات العلى لا تنال إلا بعد معاناة وصبر.

      قال تعالى: ( ﭿ ﮀﮁ ) [السجدة: ٢٤].

      آثار الهجرة في سبيل الله

      أولًا: الآثار الدنيوية:

    1. الهجرة إلى الله سبب لسعة الرزق.

      الهجرة أحد أسباب السعة في العيش والرزق، وبهذا وعد الله تعالى من خرج مهاجرًا في سبيله، قال سبحانه وتعالى: ( ) [النساء: ١٠٠].

      وفي هذا «بيان للحث على الهجرة والترغيب فيها، وبيان ما فيها من المصالح، فوعد الصادق في وعده أن من هاجر في سبيله ابتغاء مرضاته يجد مراغمًا في الأرض وسعة، فالمراغم مشتمل على مصالح الدين والسعة على مصالح الدنيا»112.

      «فهم لما تركوا الأوطان والخلان، وانتقلوا عنها لأجل طاعة الرحمن، ذكر لهم ثوابًا عاجلًا في الدنيا من الرزق الواسع والعيش الهانئ الذي رأوه عيانًا بعد ما هاجروا، وانتصروا على أعدائهم، وافتتحوا البلدان وغنموا منها الغنائم العظيمة، فتمولوا وآتاهم الله في الدنيا حسنة»113.

      ولما هاجر إبراهيم عليه السلام إلى الله عز وجل من دار قومه إلى الشام، رزقه الله بالولد، وجعل في ذريته النبوة والكتاب، وجعل له الثناء الحسن، والذكر الجميل، وآتاه من خيري الدنيا والآخرة.

      قال جل جلاله مخبرًا عن إبراهيم عليه السلام: ( ﮇﮈ ﮍﮎ ﮠﮡ ) [العنكبوت: ٢٦-٢٧].

      وقال أيضًا: ( ﯼﯽ ﯿ ) [مريم: ٤٩-٥٠].

      ولما هاجر موسى عليه السلام وفارق ديار مصر فرارًا من بطش فرعون وجنوده، وسع الله عليه فاستأجره الرجل الصالح، وزوجه إحدى ابنتيه، وآواه ونصره.

      قال تعالى مخبرًا عن موسى عليه السلام: ( ﭿ ﮙﮚ ﮢﮣ ﮬﮭ ﯢﯣ ﯨﯩ ﯮﯯ ) [القصص: ٢٤-٢٧].

      ولما هاجر نبينا صلى الله عليه وسلم وصحابته من مكة إلى المدينة أخرجهم الله من الضيق إلى السعة، ومن الاضطهاد والإقصاء إلى العزة والتمكين، فجعل لهم دارًا، ووسع عليهم، ورزقهم من فضله.

    2. الهجرة إرغامٌ لأنوف الأعداء.

      الهجرة ثورة على الخضوع للقوى الغاشمة الظالمة، ورفض لمظاهر الكفر والعصيان بمفارقة أرضه وسلطانه وأمره، إنها استعلاء وثبات، وتمسك بالحق، وإصرار عليه؛ ولذا وعد الله تعالى المهاجرين في سبيله بالسعة -كما مر في الآية السابقة- ليكون في ذلك إرغام للأعداء، وإغاظة لقوى الباطل، وشفاء لصدور قوم مؤمنين.

      قال تعالى: ( ) [النساء: ١٠٠].

      يقول الرازي مفسرًا الآية: «المعنى: ومن يهاجر في سبيل الله إلى بلد آخر، يجد في أرض ذلك البلد من الخير والنعمة ما يكون سببًا لرغم أنف أعدائه الذين كانوا معه في بلدته الأصيلة؛ وذلك لأن من فارق وذهب إلى بلدة أجنبية، واستقر فيها أمره، وعلم أهله بذلك، خجلوا من سوء معاملتهم معه، ورغمت أنوفهم بسبب ذلك»114. ويقول القرطبي رحمه الله: «فكأن كفار قريشٍ أرغموا أنوف المحبوسين بمكة، فلو هاجر منهم مهاجرٌ لأرغم أنوف قريشٍ؛ لحصوله على منعةٍ منهم، فتلك المنعة هي موضع المراغمة»115.

      وعد الله للمهاجرين بالعاقبة الحسنة والنصر على الأعداء:

      قال تعالى: ( ) [النحل: ٤١].

      فهذه الآية فيها وعد من الله للمهاجرين في سبيله بأن يجعل عاقبتهم حسنة، ومآلهم مرضيًا.

      وقد اختلفت أقوال المفسرين في قوله: ( ) جمعها ابن الجوزي رحمه الله في خمسة أقوال:

      الأول: لننزلنهم المدينة.

      والثاني: لنرزقنهم في الدنيا الرزق الحسن.

      والثالث: النصر على العدو.

      والرابع: أنه ما بقي بعدهم من الثناء الحسن، وصار لأولادهم من الشرف.

      والخامس: أن المعنى: لنحسنن إليهم في الدنيا116.

      والمتأمل لهذه الأقوال جميعها يدرك أنها جميعًا مرادة، ومفادها أن الله تعالى سيجعل عاقبتهم حسنة، ومصيرهم ومآلهم مرضيًا، وهو ما يدل عليه لفظة ().

      «ولقد صدق الله وعده فأيد المؤمنين بنصره، ومكن لهم فى الأرض، وأذل الكافرين والمشركين والمنافقين، وجاء نصر الله والفتح، ودخل الناس فى دين الله أفواجًا»117.

      وعاد المخرجون المهاجرون فاتحين منتصرين، وحقق الله وعده لنبيه حين قال عز وجل: ( ﭘﭙ ) [القصص: ٨٥].

      الآثار الأخروية:

    1. الهجرة سبيل إلى رحمة الله.

      الهجرة من أعظم أسباب النجاة، وأكثر الأعمال رجاءً في إدراك رحمة الله، يقول الله جل جلاله: ( ﯜﯝ ) [البقرة: ٢١٨].

      فقوله: ( ) روي أن عبد الله بن جحش وأصحابه حين قتلوا الحضرمي في الشهر الحرام، ظن قوم أنهم إن سلموا من الإثم فليس لهم أجر، فنزلت: ( ) 118.

      قال الرازي: فإن قيل: لم جعل الوعد مطلقًا بالرجاء ولم يقطع به كما في سائر الآيات؟

      فالجواب من وجوه:

      أحدها: أن مذهبنا أن الثواب على الإيمان والعمل غير واجب عقلًا، بل بحكم الوعد، فلذلك علقه بالرجاء.

      وثانيها: هب أنه واجب عقلًا بحكم الوعد ولكنه تعلق بأن لا يكفر بعد ذلك، وهذا الشرط مشكوك فيه لا متيقن، فلا جرم كان الحاصل هو الرجاء لا القطع.

      وثالثها: أن المذكور ها هنا هو الإيمان والهجرة والجهاد في سبيل الله، ولا بد للإنسان مع ذلك من سائر الأعمال، وهو أن يرجو أن يوفقه الله لها، كما وفقه لهذه الثلاثة، فلا جرم علقه على الرجاء.

      ورابعها: ليس المراد من الآية أن الله شكك العبد في هذه المغفرة، بل المراد وصفهم بأنهم يفارقون الدنيا مع الهجرة والجهاد مستقصرين أنفسهم في حق الله تعالى، يرون أنهم لم يعبدوه حق عبادته، ولم يقضوا ما يلزمهم في نصرة دينه، فيقدمون على الله مع الخوف والرجاء119.

      والمقصود أنه سبحانه وضع الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا فى سبيل الله موضع الرجاء من رحمة الله ولم يعطهم الثواب والمغفرة والرضوان على القطع والتحقيق؛ وذلك ليقيمهم من هذا الرجاء على عمل دائم، وجهاد متصل، وهذا على خلاف ما إذا سوى حسابهم بعد الهجرة وبعد كل موقف من مواقف الجهاد، فقد يقعد بهم هذا عن أن يضيفوا جديدًا، أو يخفوا للجهاد مرة بعد مرة.

      ثم إنه من جهة أخرى يرى الذين آمنوا -مجرد إيمان- ولم يهاجروا ولم يجاهدوا يريهم شناعة موقفهم ومغبة تقصيرهم بتخلفهم عن ركب المهاجرين والمجاهدين، ويرفع لأعينهم بعد ما بينهم وبين مواقع رحمة الله ورضوانه؛ إذ يرون المهاجرين المجاهدين ولما يلمسوا بأيديهم مواقع الرحمة والرضوان، وأنهم ما زالوا على رجاء، فكيف بالذين آمنوا ولم يهاجروا ولم يجاهدوا؟

      إن المدى بعيد بينهم وبين أن يصلوا إلى جانب الأمن والسلامة، وإن عليهم أن يحثوا المطي إلى ميدان الهجرة والجهاد؛ ليلحقوا بركب المهاجرين المجاهدين، وليكونوا بمعرض من رحمة الله ورضوانه120.

      ومما يدل على أن الهجرة من أهم أسباب الحصول على رحمة الله قوله سبحانه: ( ﯻﯼ ﯿ ) [التوبة: ٢٠-٢١].

      وقوله سبحانه: ( ) [النحل: ١١٠].

    2. الهجرة سبب لتكفير السيئات وغفران الذنوب.

      قال تعالى: ( ﭝﭞ ﭡﭢ ﭹﭺ ) [آل عمران: ١٩٥].

      فهم لما هجروا الشرك وأرضه، وتركوا الأوطان التي تربوا فيها، وهانت عليهم أنفسهم وأموالهم؛ إعلاءً لكلمة الله ورغبةً فيما عنده، كافئهم الله بخير مما تركوا؛ «فطهرهم من الذنوب والآثام، ونقاهم منها، ثم أدخلهم بعد ذلك جنته، وأعطاهم فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر»121.

      «وقد ختم الله تعالى الآية التي بشر فيها المهاجرين بالسعة في الرزق وكيد الأعداء، بالتلويح بالمغفرة لهم.

      قال تعالى: ( ﯥﯦ ﯶﯷ ) [النساء: ١٠٠].

      فمع ضمانة الأجر، التلويح بالمغفرة للذنوب والرحمة في الحساب، وهذا فوق الصفقة الأولى ( ) إنها صفقة رابحة لا شك، يقبض فيها المهاجر الثمن كله منذ الخطوة الأولى، خطوة الخروج من البيت مهاجرًا إلى الله ورسوله»122.

    3. الهجرة سبب لتحصيل رضوانه وجنته.

      من أعظم ما للهجرة من فضل أن الله تعالى وعد المهاجرين وبشرهم بالرحمة الواسعة والرضوان الذي لا سخط بعده، والنعيم المقيم في جنات الخلد.

      قال تعالى: ( ﯻﯼ ﯿ ) [التوبة: ٢٠-٢١].

      فقد وعدهم الله في هذه الآيات «بإدخال المسرة عليهم، وتحقيق فوزهم، وتعريفهم برضوانه عليهم، ورحمته بهم، وبما أعد لهم من النعيم الدائم، ومجموع هذه الأمور لم يمنحه غيرهم من أهل السقاية والعمارة الذين وإن صلحوا لأن ينالوا بعض هذه المزايا فهم لم ينالوا جميعها»123.

    4. جزاء من أدركه الموت وهو مهاجر إلى الله.

      قال الله تعالى مبينًا أجر من مات مهاجرًا في سبيله: ( ﯥﯦ ﯶﯷ ) [النساء: ١٠٠].

      وأي أجر أتم، وأي أجر أعظم من أجرٍ تكفل به الله وضمنه؟! ( ) «أجره كله، أجر الهجرة والرحلة والوصول إلى دار الإسلام والحياة فيها، فماذا بعد ضمان الله من ضمان؟!»124.

      ( ) «أجرٌ لا يفوته أبدًا ولا يخطئه؛ لأنه أجر مضاف إلى الله بالوعد الذي وعده سبحانه للمهاجرين، ولن يخلف الله وعده»125.

      وصدق الله إذ يقول: ( ﭴﭵ ﭾﭿ ) [الحج: ٥٨-٥٩].


1 مقاييس اللغة، ابن فارس ٦/٣٤.

وانظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، ابن الأثير ٥/٢٤٤.

2 انظر: لسان العرب، ابن منظور ٥/٢٥٠.

3 المفردات، الراغب الأصفهاني ص٨٣٣.

وانظر: التعريفات، الجرجاني ص٢٥٦.

4 المغني، ابن قدامة ٩/٢٩٣.

5 انظر: فتح الباري، ابن حجر العسقلاني ١/٣٩.

6 الهجرة مسائل وأحكام، عبد المنعم مصطفى ص١١، المفصل في أحكام الهجرة، علي بن نايف الشحود ص٦.

7 انظر: المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، محمد فؤاد عبد الباقي، ص٧٣٠، ٧٣١، المعجم المفهرس الشامل، عبد الله جلغوم، باب الهاء ص١٣٦٢-١٣٦٣.

8 انظر: الوجوه والنظائر، الدامغاني، ص٤٥٩، ٤٦٠، بصائر ذوي التمييز، الفيروزآبادي، ٥/٣٠٤، ٣٠٦، عمدة الحفاظ، السمين الحلبي، ٤/٢٤٠- ٢٤٢.

9 انظر: مقاييس اللغة، ابن فارس ١/٣٤٥، مجمل اللغة، ابن فارس ١/١٤٧، الصحاح، الجوهري ٤/١٥٧٧.

10 الفروق اللغوية، أبو هلال العسكري ص١١٣.

11 المصدر السابق ص١٢٣.

12 انظر: تهذيب اللغة، الأزهري ١/١٣٠.

13 انظر: مقاييس اللغة، ابن فارس ٥/١٠١، مجمل اللغة، ابن فارس ١/٧٥٧، الصحاح، الجوهري ٢/١٢٦٦.

14 انظر: موسوعة نضرة النعيم ١١/٥٣٢٩.

15 انظر: مقاييس اللغة، ابن فارس ٢/١٧٥، مجمل اللغة، ابن فارس ١/٢٨٦.

16 التوقيف على مهمات التعاريف، المناوي ص١٥٤.

17 الكليات، الكفوي ص٤٥٢.

18 الإعلام بوجوب الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام، عبد العزيز بن صالح الجربوع ص٨.

19 جامع البيان، الطبري ٢٠/٥٦، الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ١٣/٣٥٧.

20 جامع البيان ٢٠/٥٦.

21 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٢١/٢٢.

22 (يستخفون): يستترون، أي: يسرون بالإسلام. انظر: الكليات، الكفوي ص٩٩٣.

23 أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره، ٣/١٠٤٥، رقم ٥٨٦٢، وأصله في صحيح البخاري ٦/٤٨، رقم ٤٥٩٦.

24 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٢/٣٨٩.

25 أحكام القرآن، ابن العربي ١/٦١١ بتصرف.

26 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ١٩٥.

27 أزمن الله فلانًا: جعله زمنًا، أي: مقعدًا، أو ذا عاهةٍ. تاج العروس ٣٥/١٥٥.

28 المحرر الوجيز، ابن عطية ٢/١٠٠.

29 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٥/١٧٦، ١٧٧ بتصرف.

30 جامع البيان، الطبري ٢٠/٥٦.

31 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ١٣/٣٥٧، ٣٥٨.

32 كذا في أحكام القرآن، ولم يتبين لي وجهه في اللغة. ولعل صوابه: يزول عنه. أي: يتحول عنه ويبتعد.

33 أحكام القرآن، ابن العربي ١/٦١١ بتصرف.

34 المصدر السابق.

35 انظر: المحرر الوجيز، ابن عطية ٢/٣٠٥، مفاتيح الغيب، الرازي ١٣/٢٢، التفسير الوسيط، طنطاوي ٥/٩٨.

36 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٣/٢٧٨.

37 أي: حكمًا بينهم.

38 نأى: أي: نهض ومال، بصدره: أي: إلى ناحية القرية التي توجه إليها للتوبة والعبادة، أي ثم مات...، فالمعنى: فبعد بصدره عن الأرض التي خرج منها.

انظر: مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح ٨/٢١.

39 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب التوبة، باب قبول توبة القاتل وإن كثر قتله، ٤/٢١١٨، رقم ٢٧٦٦.

40 شرح صحيح مسلم، النووي ١٧/٨٣.

41 أي: زمن الإعراض.

42 مفاتيح الغيب، الرازي ١٣/٢٣.

43 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص١٩٥.

44 أحكام القرآن، ابن العربي ١/٦١١.

45 كذا في أحكام القرآن ولم يتبين لي وجهه في اللغة. ولعل صوابه: يزول عنه. أي: يتحول عنه ويبتعد.

46 أحكام القرآن، ابن العربي ١/٦١١.

47 تسمح وأصله الاتساع، أي: تساهل.

انظر: المصباح المنير ١/١٥٠.

48 فتح القدير، الشوكاني ٢/١٤٦.

49 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص٣٥٥.

50 الإكليل في استنباط التنزيل، السيوطي ص١٤٥.

51 التحرير والتنوير، ابن عاشور ١١/٦٠.

52 أي: التفرق، وهو مأخوذ من معنى الخروج. لسان العرب مادة نفر بتصرف يسير.

53 التفسير القرآني للقرآن، عبد الكريم يونس الخطيب ٦/٩١٧ بتصرف يسير.

54 التحرير والتنوير، ابن عاشور ١١/٥٩ بتصرف يسير.

55 المصدر السابق.

56 أخرجه الترمذي في سننه، أبواب العلم، باب فضل طلب العلم ٥/٢٩، ٢٦٤٧.

وضعفه الألباني في السلسة الضعيفة، رقم ٢٠٣٧.

57 نبط العلم والحكمة: استخرجهما.

انظر: المعجم الوسيط ٢/٨٩٧.

58 أخرجه ابن ماجه في سننه، المقدمة، باب فضل العلماء والحث على طلب العلم ١/٨٢، رقم ٢٢٦.

وصححه الألباني في صحيح الجامع ٢/٩٩٤، ٥٧٠٢.

59 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب تفسير القرآن، باب قوله: (وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين)، ٦/٨٨، رقم ٤٧٢٥.

60 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ١١/١١.

61 التفسير القرآني للقرآن ٨/٦٤٧.

62 مفاتيح الغيب ٢١/٤٧٩.

63 قال ابن كثير «أي إنما يخشاه حق خشيته العلماء العارفون به، لأنه كلما كانت المعرفة للعظيم القدير العليم الموصوف بصفات الكمال المنعوت بالأسماء الحسنى، كلما كانت المعرفة به أتم والعلم به أكمل كانت الخشية له أعظم وأكثر». تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٦/٤٨٢.

64 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ١١/١١.

65 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٧/٢٠٨٩.

66 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٢/٤١٣.

67 انظر: الجواهر الحسان، الثعالبي ٥/٥٠٧، المحرر الوجيز، ابن عطية ٥/٣٩١، التحرير والتنوير، ابن عاشور ٢٩/٢٨٥.

68 نظم الدرر، البقاعي ٢١/٣٣.

69 المصدر السابق.

70 التفسير الوسيط، طنطاوي ١٥/١٦٩.

71 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٢٩/٢٨٥- ٢٨٦ بتصرف.

72 أخرجه البيهقي في شعب الإيمان، باب التوكل بالله ٢/٤٥٠، رقم ١١٩٨.

73 انظر: المحرر الوجيز، ابن عطية ٥/٣٩١، مفاتيح الغيب، الرازي ٣٠/٦٩٥، الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ١٩/٥٥، روح المعاني، الألوسي ١٥/١٢٦.

74 جامع البيان، الطبري ٢٣/١٣.

75 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٨/٢٦٤.

76 البحر المحيط، أبو حيان ١٠/٣٢٦.

77 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص٨٩٥.

78 أخرجه البخاري في صحيحه، باب بدء الوحي ١/٧، رقم ٤.

79 التهيع: هو الانبساط، ومنه: طريق مهيع: واسع.

انظر: الفائق في غريب الحديث ٤/١٢٣، والمقصود به هنا: في طريق، أو في معرض.

80 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٢٩/٢٩٨.

81 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الإيمان، باب المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده ١/١١، رقم ١٠.

82 فتح الباري، ابن حجر ١/٥٤.

83 نظم الدرر ٢٩/١٢٦.

84 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٨/٢٥٦.

85 الكشاف، الزمخشري ٤/٦٤٠.

86 لطائف الإشارات، القشيري ٣/٦٤٤.

87 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص٨٩٣ بتصرف.

88 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٢٩/٢٦٨.

89 انظر: مفاتيح الغيب، الرازي ٣٠/٦٨٩.

90 جامع البيان، الطبري ١٩/٤١١.

91 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص٥٩٨.

92 التحرير والتنوير ٢٨/١٤٤.

93 المصدر السابق ٢٨/١٤٥.

94 التفسير الميسر، مجموعة علماء ص٣٧٤.

95 إرشاد العقل السليم، أبو السعود ٦/٢٦١ بتصرف.

96 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٤/١٧٨.

97 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٤/١٧٨.

98 في ظلال القرآن، سيد قطب ٥/٢٩٩٣.

99 مفاتيح الغيب، الرازي ٢٥/٤٧ بتصرف.

100 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٢٠/٢٣٨.

101 في ظلال القرآن، سيد قطب ٥/٢٧٣٢.

102 المصدر السابق ٥/٢٩٩٤.

103 أنصفت الرجل إنصافًا: عاملته بالعدل والقسط، والاسم: النصفة، بفتحتين، لأنك أعطيته من الحق ما تستحقه لنفسك.

انظر: المصباح المنير، الفيومي ٢/٦٠٨.

104 في ظلال القرآن، سيد قطب ٥/٣٢١٣ بتصرف.

105 فقه السيرة، محمد الغزالي ١/١١٠ بتصرف.

106 التفسير القرآني للقرآن، عبد الكريم يونس الخطيب ٦/٨٨١- ٨٨٢ بحذف يسير.

107 في ظلال القرآن، سيد قطب ٣/١٧٠٥- ١٧٠٦ بتصرف.

108 أسباب النزول، الواحدي ص١٧٨.

وانظر: الصحيح المسند من أسباب النزول ص٧٧.

109 التحرير والتنوير، ابن عاشور ١٨/١٨٨.

وانظر: الصحيح المسند من أسباب النزول ص١٤٩.

110 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجنائز، باب ما جاء في قبر النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، ٢/١٠٣، رقم ١٣٩٢.

111 جامع البيان، الطبري ٤/٢٤٨، وانظر: الصحيح المسند من أسباب النزول ص٣٣.

112 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص١٩٦ بتصرف.

113 المصدر السابق ص٤٤١ بتصرف.

114 مفاتيح الغيب، الرازي ١١/١٩٨.

115 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٥/٣٤٨ بتصرف.

116 زاد المسير، ابن الجوزي ٢/٥٦٠ باختصار.

117 التفسير القرآني للقرآن، عبد الكريم يونس الخطيب ٧/٢٩٩.

118 لباب النقول ص٣١.

وانظر: تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ١/٤٢٩، الكشاف، الزمخشري ١/٢٥٩، معالم التنزيل، البغوي ١/٢٧٦.

119 مفاتيح الغيب، الرازي ٦/٣٩٥.

120 التفسير القرآني للقرآن ١/٢٤٢.

121 التفسير الوسيط للقرآن، طنطاوي ٢/٣٧٨ بتصرف.

122 في ظلال القرآن، سيد قطب ٢/٧٤٦ بتصرف.

123 التحرير والتنوير، ابن عاشور ١٠/١٤٩.

124 في ظلال القرآن ٢/٧٤٦.

125 التفسير القرآني للقرآن، عبد الكريم يونس الخطيب ٣/٨٨١ بتصرف.