عناصر الموضوع
ذكر نوح عليه السلام في القرآن الكريم
موقف قوم نوح عليه السلام من دعوته
نوح عليه السلام
أولًا: اسمه ونسبه:
ذكر الإمام ابن كثير في نسب نوح عليه السلام أنه «نوح بن لامك بن متوشلخ بن خنوخ، وهو إدريس عليه السلام بن يرد بن مهلاييل بن قينن بن شيث بن آدم أبي البشر عليه السلام»1.
وقيل: إن اسم نوح من مادة النوح العربية، ولكن المشهور أنه اسمٌ أعجميٌ معرب، إنما صرف؛ لأنه على ثلاثة أحرف فهو من ناح ينوح، ومعناه بالعربية (الساكن)2 وكان اسم نوح عليه السلام السكن، وسمي به؛ لأن الناس بعده سكنوا إليه، فهو أبوهم، فكأنه صار آدم الثاني بعد حادثة الطوفان؛ وذلك لانحصار النوع الإنساني بعده في نسله. وقيل: اسمه شاكر3.
وفي سبب تسميته عليه السلام بهذا الاسم أورد العلماء خمسة أقوال:
الأول: أنه كان ينوح على نفسه.
الثاني: أنه كان ينوح لمعاصي أهله وقومه.
الثالث: أنه كان ينوح لمراجعته لله عز وجل في ولده الذي غرق بالطوفان.
الرابع: أنه كان ينوح لدعائه على قومه بالهلاك.
الخامس: أنه مر بكلب مجذوم فقال له: اخسأ يا قبيح. فأوحى الله تعالى إليه: أعبتني يا نوح أم عبت الكلب؟4.
ومن الملاحظ أن هذه الأقوال متكلفٌ فيها؛ لأن الأعلام لا تفيد صفة في المسمى.
ثانيًا: حكمة تسمية سورة باسمه:
لقد ورد ذكر نوح عليه السلام في القرآن الكريم في ثلاثة وأربعين موضعًا5، في حين ذكرت قصة نوح عليه السلام مفصلةً في القرآن الكريم في ست سور، كما أن القصة ذاتها مختلفة اللفظ في كل موضع حسبما يقتضيه السياق أو المعنى أو المحور الرئيسي للسورة.
وسورة نوح عليه السلام كغيرها من السور التي سميت بأسماء أنبياء كسورة هود ويوسف وإبراهيم عليه السلام على سبيل المثال، إلا أنه يتضح في السور التي سميت بأسماء أنبياء أنها لم تقتصر على ذكر النبي الذي سميت باسمه السورة، فربما تذكر قصصًا أخرى غيره أو تتطرق إلى مواضيع أخرى باستثناء سورة نوح عليه السلام، فهي السورة الوحيدة التي لم يذكر الله عز وجل فيها سوى قصة نوح عليه السلام وحدها، وربما يرجع السبب في ذلك إلى ما يأتي:
١- ذكر نوح عليه السلام في مفتتح السورة ومختتمها6، فقد ورد في أول السورة قوله تعالى: (ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ) [نوح:١].
وفي نهايتها قوله تعالى: (ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ) [نوح:٢٦].
٢- طول لبث نوح عليه السلام في قومه، وتكرار دعوته إلى التوحيد ونهيه عن الشرك7.
٣- إنها السورة الوحيدة التي ذكرت قصة نوح عليه السلام مع قومه من بداية دعوته إلى إهلاكهم بالطوفان، مع التركيز على موضوع تكذيب قومه وتفصيله تفصيلًا تامًا8.
ثالثًا: زمانه ومدة مكثه في قومه:
اختلف العلماء في زمان نوح عليه السلام وبعثته، فمنهم من قال إنه بعد آدم عليه السلام. ومنهم من قال: إنه بعد إدريس عليه السلام. وقيل غير ذلك، فذكر الطبري عند تفسيره لقوله تعالى: (ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ) [البقرة:٢١٣] ما رواه الحاكم عن ابن عباس رضي الله عنه قال: (كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على شريعة من الحق، فلما اختلفوا بعث الله النبيين والمرسلين وأنزل كتابه فكانوا أمة واحدة)9.
كما استدل بقراءته التي تعتبر قراءة تفسيرية وهي: (كان الناس أمة واحدة فاختلفوا)، وبين ابن كثير أن هذا القول هو أصح سندًا ومعنىً؛ وذلك أن الناس كانوا في البداية على ملة آدم عليه السلام، وبعد أن طال العهد به عبدوا الأصنام، فبعث الله تعالى إليهم نوحًا عليه السلام فكان أول رسول بعثه الله تعالى إلى الأرض.
ولهذا قال الله تعالى: (ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ) [البقرة:٢١٣]10، ويؤيد هذا أيضًا ما ذكره الألوسي عند تفسيره لقوله تعالى: (ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ) [آل عمران:٣٣] فقال: «اصطفى نوحًا بأنه أول رسول بعث بتحريم البنات والأخوات والعمات والخالات وسائر ذوي الأرحام، وأنه أب الناس بعد آدم »11.
وهذه سنة الله سبحانه وتعالى في الكون، فبعد أن تتغير معالم الحق، ويضل الناس طريق العبادة الصحيحة، فإنه عز وجل لا يترك الناس يتخبطون في غياهب الباطل، وإنما يرسل إليهم الأنبياء والرسل، وينزل عليهم الكتب السماوية، وهكذا إلى أن ختمت الرسالات برسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وبالكتاب المنزل عليه القرآن العظيم.
هذا عن زمان نوح عليه السلام. أما عن مدة مكثه في دعوته لقومه فإنها هي المدة المحققة التي صرح بها القرآن الكريم في قوله عز وجل: (ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ) [العنكبوت:١٤].
ومع هذه المدة الطويلة في دعوته عليه السلام لقومه إلا أنه لم يستجب لدعوته إلا القليل كما أخبر الله تعالى بذلك في قوله: (ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ) [هود:٤٠].
ولعل الحكمة من ذلك تبدو في أن قصص الأنبياء مع أقوامهم عمومًا وقصة نوح عليه السلام مع قومه خصوصًا فيها تسرية وتسلية لقلب النبي محمد صلى الله عليه وسلم حين آذته قريش أشد الإيذاء وهو في مكة، ومن خلال قراءة السيرة النبوية فالذين استجابوا مع النبي محمد صلى الله عليه وسلم في ثلاث عشرة سنة أكثر بكثير من الذين استجابوا لنوح عليه السلام في هذه القرون الكثيرة.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن هذا يعلمنا درسًا مهمًّا، ألا وهو أن الهداية بيد الله عز وجل، فهو الذي يملكها وهو علام الغيوب، فهذه عقيدةٌ يجب أن تكون راسخةً في قلب كل مسلم، فسبحانه هو الذي يملك القلوب، فجميع قلوب عباده بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، والآيات القرآنية في مثل هذا المعنى كثيرة، ومنها على سبيل المثال قوله عز وجل: (ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ) [البقرة:٢٧٢].
ذكر نوح عليه السلام في القرآن الكريم
ورد ذكر نوح عليه السلام في القرآن الكريم (٤٣) مرة، في (٢٨) سورة.
وأما قصته عليه السلام فقد وردت في السور الآتية:
السورة |
الآيات |
الأعراف |
٥٩-٦٤ |
يونس |
٧١-٧٣ |
هود |
٢٥-٤٨ |
الأنبياء |
٧٦-٧٧ |
المؤمنون |
٢٣-٣٠ |
الشعراء |
١٠٥-١٢٠ |
العنكبوت |
١٤-١٥ |
الصافات |
٧٥-٨٢ |
القمر |
٩-١٦ |
التحريم |
١٠ |
نوح |
١-٢٨ |
لقد كان لنوح عليه السلام مكانة عالية، يأتي بيانها في النقاط الآتية:
أولًا: ثناء الخلق عليه:
فقد أثنى الله عز وجل على نوح عليه السلام؛ لما كان له من طول لبثٍ في دعوة قومه، وصبر شديد على ما لقيه منهم من أذى، فجعل الله تعالى جميع الناس من بعده وكل الأمم من الإنس والجن يثني عليه عليه السلام ثناءً حسنًا، وتذكره الأجيال من بعده ذكرًا جميلًا، وهذه سنة الله تعالى في عباده المحسنين المؤمنين، وهي أن ينشر لهم من ثناء الخلق عليهم على حسب إحسانهم12، فقال الله سبحانه وتعالى في هذا السياق: (ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ) [الصافات:٧٨-٧٩].
ومعنى الترك في هذه الآية: الإبقاء. وفعل الترك هو فعلٌ متعدٍ، ولكن مفعوله محذوف، فجعل فعلًا لازمًا فصار معناه كما يقول الإمام البقاعي: «أوقعنا عليه الترك بشيءٍ هو من عظمته، وحسن ذكره بحيث يعز وصفه »13.
ثانيًا: إجابة دعوته:
أيضًا لما طال مكث نوح عليه السلام في دعوة قومه وكانت ألف سنة إلا خمسين عامًا، وبلغ دعوة الله تعالى على أكمل وجه، وصبر على بلاء قومه وأذاهم له، ومع ذلك فلم يؤمن معه إلا القليل، ولما ضاق نوح عليه السلام بقومه ذرعًا دعا الله تعالى أن يهلك قومه الذين كفروا بالله تعالى، وبما توعدهم به من العذاب، وكفروا بالنبوة التي أكرم الله تعالى بها نوحًا عليه السلام، فكان من جملة ما دعا به نوح عليه السلام قوله تعالى على لسانه: (ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ) [نوح:٢٦].
وقوله أيضًا: (ﭱ ﭲ ﭳ) [القمر:١٠].
فما كان من الله عز وجل إلا أن أجاب عبده نوحًا عليه السلام، وأغرق الكافرين وأهلكهم بالطوفان، ونجاه عليه السلام وأهل الإيمان من ولده وأزواجهم من هذا الهلاك المفزع14، وفي هذا المعنى يقول الله عز وجل: (ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ) [الأنبياء:٧٦].
فـ(إذ): ظرف لما مضى من الزمان مبني في محل نصب بفعل محذوف، تقديره: واذكر نبأ نوح الواقع وقت دعائه، والفاء في (ﮁ)حرف عطف يفيد الترتيب والتعقيب، فتدل على سرعة إجابة الله تعالى بمجرد دعاء نوح عليه السلام إياه15، وورد أيضًا قوله تعالى: (ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ) [الصافات:٧٥].
وقد تضمن نداء نوح عليه السلام واستغاثته بالله عز وجل أشياء كثيرة، منها: الدعاء على قومه، وطلب النصرة، وفي جميعها كانت إجابة الله تعالى متحققة وواقعة على أكمل وجه، وهي متمثلة في الآتي:
ثالثًا: الذرية الصالحة:
وكما امتن الله تعالى على نوح عليه السلام بثناء الخلق عليه، وإجابة دعوته، امتن عليه أيضًا بالذرية الصالحة. فلما نجى الله تعالى نوحًا عليه السلام والمؤمنين الذين كانوا معه على متن السفينة التي أمره الله تعالى بصنعها من الطوفان الذي عم وجه الأرض، وأغرق الكافرين من قومه، كان أهل الأرض بعد ذلك من ذرية نوح عليه السلام 17، وفي هذا المعنى يقول الله عز وجل: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ) [الصافات:٧٧].
فـ (ﭓ) في الآية ضمير فصل يفيد الحصر والتخصيص، فقد امتن الله تعالى على نوح عليه السلام لما أغرق الكافرين بأن جعل ذريته وحدها هي الباقية إلى آخر الدهر، وقد قال بعض العلماء: «نسل أهل السفينة انقرضوا غير نسل ولده، فالناس كلهم من ولد نوح »18.
هذا بالإضافة إلى ما جعله الله تعالى من أمر النبوة في ذرية نوح عليه السلام.
من خلال استعراض مواضع الآيات التي ذكر فيها نوح عليه السلام وفيما يخص صفاته وأخلاقه فقد اهتديت إلى أن هذه الصفات والأخلاق يمكن تقسيمها إلى ثلاثة أقسام، وبيان ذلك فيما يأتي:
أولًا: صفات نوح عليه السلام وأخلاقه مع الله تعالى:
لقد اتصف نوح عليه السلام بصفات أخلاقية مع ربه عز وجل، وبيان ذلك فيما يأتي:
لقد وصف الله تعالى نبيه نوحًا عليه السلام بخالص الإيمان، وكمال العبودية لله تعالى، وشدة خضوعه وانقياده وتسليمه لأوامر الله عز وجل، ووصفه تعالى بهذه الصفة في معرض الحديث عن إهلاك الأمم السابقة التي كذبت أنبياء الله تعالى ورسله، فاستثنى عباد الله الذين أخلصهم للإيمان برسله من المنذرين الذين وقع بهم عقاب الله تعالى19.
فيقول الله عز وجل: (ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ) [الصافات:٧١-٨١].
ومن جملة عباد الله تعالى نوح عليه السلام، فقد مدحه الله تعالى بقوله: (ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ)، أي: كان نوح مخلصًا لله تعالى في عبوديته، كامل الإيمان واليقين20.
وكلمة (المخلصين) فيها قراءتان:
الأولى: بكسر لام (المُخْلِصين)، والمعنى: من آمن بالرسل من الأمم، فأخلص العمل والإيمان لله تعالى.
الثانية: بفتح لام (المُخْلَصين)، والمعنى: من آمن بالرسل، وكان قد أخلصه الله تعالى بالإيمان والتصديق في سابق علمه، فوفقه له21.
ويتبين أيضًا أن نداء نوح عليه السلام لله عز وجل بإخلاص كان سببًا في إجابة الله تعالى لدعوته22.
وقال أبو زهرة في تفسير قوله تعالى: (ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ) [الإسراء:٣]:
«أنه كان عبدًا يحس بنعمة العبودية لله تعالى، فلم يكن ذا جبروت، بل كان خاضعًا لله سبحانه وتعالى. والخضوع لله تعالى وحده هو العزة التي لا ذل فيها ولا استكبار»23.
وصف الله تعالى نوحًا عليه السلام بصفة الإحسان هذه بعد تعداده للنعم التي أنعمها الله تعالى عليه من جعل الدنيا مملوءةً من ذريته، ومن إبقاء الثناء الحسن له على جميع ألسنة الناس، ومن إجابة دعوته، فهذه التكرمة لنوح عليه السلام وهذه التشريفات الرفيعة له؛ لأنه كان محسنًا لله عز وجل في أقواله وأفعاله، ومعروفًا بهذه الصفة،24 فقال جل جلاله: (ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ).
فجملة (ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ) تعليلٌ لاستحقاق نوح عليه السلام تلك التشريفات الرفيعة بكونه عليه السلام من زمرة المعروفين بالإحسان، ثم علل الله عز وجل هذا الاستحقاق للإحسان بأنه كان عبدًا لله تعالى مؤمنًا.
فهذا الوصف هو أقصى صفات المدح والتعظيم25، ففيه بيان أن أعظم الدرجات وأرفعها إلى الله تعالى هو الإيمان بالله عز وجل والانقياد لطاعته الذي ينبثق عنه كل الصفات الجليلة والأخلاق الحميدة.
كما تمثل إحسان نوح عليه السلام في مجاهدته لأعداء الله تعالى بالدعوة إلى دينه، والصبر الطويل على أذى قومه، ومطاولته لهم في سبيل الله تعالى، وغير ذلك من ألوان عبادته عليه السلام وأفعاله وأقواله26.
اتصف نوح عليه السلام بهذه الصفة، وتخلق بهذا الخلق، حيث دعا قومه على هذا الأساس فلم ييأس، ولم يمل، فقد دعاهم إلى الله تعالى ألف سنة إلا خمسين عامًا، سالكًا وآخذًا جميع السبل في ذلك -كما سيأتي في أساليب دعوته- فقال الله تعالى عنه: (ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ) [نوح:٥-١٠].
فلما أوحى الله تعالى إليه أنه لن يؤمن من قومه إلا هذا العدد القليل، ورأى أنه لم تعد هناك من فائدة في دعوة قومه، وأنهم مصرون على كفرهم وجحودهم، فقد حان الآن وقت المفاصلة، فقال لقومه: (ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ) [يونس:٧١].
وبالرجوع إلى تفسير هذه الآية الذي مر معنا نجد أن نوحًا عليه السلام قد واجه قومه، ولم يمتلك سوى رصيد الاعتماد والتوكل على الله عز وجل الذي أرسله إلى هؤلاء القوم، فقد حاول هدايتهم كثيرًا، ولكنهم لم يستجيبوا27. فقول نوح عليه السلام: (ﭢ ﭣ ﭤ) نجد أنه حصر من يتوكل عليه وما يعتمد عليه في دعوة قومه على الله عز وجل وحده، وهذا مستفادٌ من تقديم شبه الجملة (على الله) على الفعل (توكلت). وفي هذا الكلام منه عليه السلام ما يدل على مدى وثوقه بنصر ربه الذي أرسله، كما يدل على عدم مبالاته بما يتوعده به قومه28.
ثم إن قوله عليه السلام: (ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ) يظهر التحدي الكبير، فهو يطلب منهم أن يجتمعوا وشركاءهم على أمر واحد، وألا يكون هذا الأمر فيه خفاء أو غموض، ثم ينفذوا ما اتفقوا عليه دون تهاون أو تردد أو تأجيل، فهل هناك تحدٍّ للخصم أكثر من هذا؟!29.
وفي هذا المعنى يقول سيد قطب «إنه التحدي الصريح المثير، الذي لا يقوله القائل إلا وهو مالئٌ يديه من قوته، واثق كل الوثوق من عدته، حتى ليغري خصومه بنفسه، ويحرضهم بمثيرات القول على أن يهاجموه! فماذا كان وراء نوح من القوة والعدة؟ وماذا كان معه من قوى الأرض جميعًا؟ كان معه الإيمان القوة التي تتصاغر أمامها القوى، وتتضاءل أمامها الكثرة، ويعجز أمامها التدبير، وكان وراءه الله الذي لا يدع أولياءه لأولياء الشيطان! إنه الإيمان بالله وحده، ذلك الذي يصل صاحبه بمصدر القوة الكبرى المسيطرة على هذا الكون بما فيه ومن فيه، فليس هذا التحدي غرورًا، وليس كذلك تهورًا، وليس انتحارًا، إنما هو تحدي القوة الحقيقية الكبرى للقوى الهزيلة الفانية، التي تتضاءل وتتصاغر أمام أصحاب الإيمان »30.
ويخلص من هذا إلى أن الدعاة إلى الله عز وجل يجب عليهم أن يتخذوا من التوكل زادًا لهم في سبيل تبليغ هذه الدعوة، ولهم في ذلك أسوة بجميع الأنبياء والرسل وخاصة نوح عليه السلام، الذي مكث طويلًا وهو يدعو قومه دون سأمٍ أو ملل، فيجب عليهم أن يقفوا في وجه الطغاة، ولن يضرهم هؤلاء الطغاة إلا أذىً من أجل الابتلاء الذي يمحص القلوب حتى تعود الكرة للمؤمنين ويحق وعد الله تعالى لهم بالنصر والتمكين31.
وأخيرًا فقد أعجبني كلام محمد رشيد رضا الذي عقب به على تفسير هذه الآية فقال: «هذه الآية من أبلغ آيات القرآن عبارة، وأجمعها على إيجازها للمعاني الكثيرة من علم النفس، ودرجة إيمان الأنبياء المرسلين وثقتهم بالله عز وجل، وشجاعتهم واحتقارهم لكل ما في الحياة الدنيا من أسباب الخوف من غيره والرجاء فيما سواه، وبيان خاتمهم لسنته تعالى فيهم وفي أقوامهم، وحسن وعظه لهم بوحي ربه تعالى، فهو يضرب لحاله ومقامه معهم مثل نوح مع قومه في غرور كل منهم بكثرتهم وقوتهم وتكذيبهم واحتقارهم لرسوله ولمن آمن معه من الضعفاء والفقراء، ولما يعتز به كلٌ من الرسولين من التوكل على الله والاعتماد عليه في النصر والعزة وحسن العاقبة، والجزم بإهلاك المصرين على تكذيبه، ونجاة المؤمنين المتبعين له بجعلهم خلائف الأرض وأصحاب السلطان فيها»32.
أثنى الله تعالى على نوح عليه السلام في قوله عز وجل: (ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ) [الإسراء:٣].
وقد وصف الله تعالى نوحًا عليه السلام في الآية المذكورة بوصفين:
الأول: أنه عبدٌ لله تعالى، معترفٌ له بالعبودية، غير متكبر بالإشراك، فكان يحس بنعمة العبودية لله جل جلاله، فلم يكن ذا جبروت، بل كان خاضعًا لله تعالى وحده، وهذا الخضوع هو الذي يحمل معنى العزة لنوح عليه السلام.
الثاني: أنه شديد الشكر لله تعالى على ما أنعم به عليه في سرائه وضرائه33.
وكلمة (شكور) هي صيغة مبالغة على وزن (فعول) التي تفيد الكثرة. فنوح عليه السلام كان دائم الحمد لله تعالى في كل فعل يقوم به، فقد روي عنه أنه: (كان نوح إذا طعم طعامًا أو لبس ثوبًا حمد الله، فسمي عبدًا شكورًا)34.
وفي هذه الآية تذكير لبني إسرائيل بأن الله تعالى قد نجى نوحًا عليه السلام من الهلاك بسبب شكره هو وشكر الذين معه في السفينة، ففيها تحريضٌ وحثٌّ لذريته على التأسي والاقتداء بنوح عليه السلام في شكره ويتابعوه عليه، وأن يتذكروا نعمة الله عليهم لما أبقاهم واستخلفهم في الأرض،وأغرق غيرهم35.
ورد طلب نوح عليه السلام المغفرة من الله عز وجل في قوله: (ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ) [نوح:٢٨].
فنوح عليه السلام وإن كان من الأنبياء الذين هم معصومون من الخطأ والذنب والزلل فإنه لا يسعه إلا حلم الله تعالى وعفوه ورحمته36، فكأنه يقول: يا رب، أسألك أن تغفر لي ذنوبي. فكان عليه السلام دائم الاستغفار لله عز وجل، فإن الاستغفار دواء الذنوب، وشفاء القلوب، وبه النجاة والأمان من الهلاك، كما أنه نعمةٌ وسببٌ في التخلص من كل بلاء ومصيبة، وكذلك هو سبب لحصول الرزق، بالإضافة إلى أنه سبب لحصول رضا الله جل جلاله.
وقد أمر نوح عليه السلام قومه بالاستغفار حين قال: (ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ) [نوح:١٠-١٢].
ولا يعقل أن يأمر قومه بفعلٍ ولا يأتيه، فهو أكثر الناس في زمانه عبودية لله تعالى، ومن ضمن خضوعه لله عز وجل طلبه المغفرة منه سبحانه وتعالى.
لما طلب نوح عليه السلام المغفرة من الله عز وجل لنفسه لم يقتصر على ذلك، فطلبها أيضًا لمن كانا سببًا في وجوده، وهما والداه، فقال في دعائه: (ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ) [نوح:٢٨].
ويذكر المفسرون أنهما كانا مؤمنين37.
وفي تخصيصهما بالذكر تأكيد حقهما، وتقديم برهما، فهما أحق بالدعاء من غيرهما، ثم بعد ذلك عمم بالدعاء لجميع المؤمنين والمؤمنات؛ ليكون ذلك أبلغ في الدعاء38.
ويؤكد هذا حديث النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: (إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)39.
فيعتبر دعاء نوح عليه السلام لوالديه بالمغفرة من باب البر لهما.
ثانيًا: صفات نوح عليه السلام وأخلاقه:
لقد اتصف نوح عليه السلام بصفات وأخلاق، وبيان ذلك فيما يأتي:
لقد أثنى الله تعالى على نوح عليه السلام لما قال فيه: (ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ) [الصافات:٨١].
هذا الإيمان هو الدافع المحرك للقوى الكامنة في نفس المؤمن، فيجعله دائمًا في شوقٍ للعمل بما يرضي الله عز وجل، كما يدفع صاحبه إلى تحقيق هدفه وغايته التي آمن بها، وإلى إخلاص العمل ليتحقق له ما يسعى إليه، فهذا الإيمان لا يترك صاحبه يهدأ حتى يرى جميع الناس قد دخلوا في دين الله تعالى، ويرى راية الحق والإسلام عالية خفاقة في كل مكان وزمان40.
وتظهر هذه الصفة جليةً في شخصية نوح عليه السلام في الآية التي فاصل فيها قومه، وهي قوله تعالى: (ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ) [يونس:٧١-٧٢].
وقد تقدم تفسير الآية سابقًا بالإضافة إلى إبراز صفة التوكل عند نوح عليه السلام، وبالرجوع إلى تفسير الآية مرة أخرى يتجلى لنا الفرق الجذري بين موقف نوح عليه السلام وموقف قومه.
أما نوح عليه السلام فقد كان يمثل موقف المؤمن الجريء الجسور الذي لا يخشى الصعاب، ولا يعرف التردد والتراجع، ولا يهاب الموت في سبيل دعوته، ويتحدى جميع الخلق فيما يريدون أن ينفذوه فيه، هذا كله؛ لأنه مؤمن بدعوته. أما موقف قومه فكان موقف الهياب الضعيف الجبان المتخاذل المتردد، الذي لم يكن باستطاعته أن يتخذ موقفًا أو قرارًا حاسمًا بشأن نوح عليه السلام، الذي كانت هيبة الإيمان تعصمه وتحميه من مكائدهم ومخططاتهم الشريرة41.
إن الداعية يكسب لدعوته بسلوكه الحسن وأخلاقه الحسنة ما لا يكسبه بكلماته وخطبه ومواعظه العديدة، فالقدوة الحسنة تعتبر دعوةً صامتة، فالناس يتأثرون بسلوك الدعاة العملي أكثر من الخطب الرنانة، فكيف يطلب الدعاة من الناس تنفيذ أمر معين وهم لا يفعلونه، وهذا مصداق قوله تعالى: (ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫﮬ ﮭ ﮮ ﮯ) [البقرة:٤٤].
وتظهر هذه الصفة واضحة في شخصية نوح عليه السلام عندما قال لقومه: (ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ) [يونس:٧٢].
فكأنه يقول لهم: أنا أول داخل في هذا الدين الذي أدعوكم إليه، وأول فاعل لما أمرتكم به42. فهو مستقيمٌ على شرع الله عز وجل.
إن من المروءة أن يكسب الإنسان رزقه من تعبه وجهده وعمل يده، وكان أنبياء الله تعالى ورسله يعملون، ولم يكن منهم أحدٌ عالة على أحد، وقد أرشدهم الله تعالى إلى الصناعات؛ لعظيم نفعها، فنوح عليه السلام قد أمره الله تعالى بصناعة السفينة التي سوف يسلك فيها طريق النجاة هو ومن آمن معه.
يقول الله تعالى: (ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ) [هود:٣٧-٣٨].
هذا يعني أنه كان نجارًا، وإلا كيف يصنع السفينة وليس لديه علمٌ بهذه الصناعة؟! وقد روي من حديث ابن عباس أن داود كان زرادًا يصنع الزرد والدروع، وكان آدم حراثًا، وكان نوح نجارًا، وكان إدريس خياطًا، وكان موسى راعيًا43.
وفي ذلك إعلاءٌ لشأن العمل ودليلٌ على شرف العاملين، كما في الحديث المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أكل أحدٌ طعامًا قط خيرًا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده)44.
ذكر الجرجاني في تعريف الهمة قوله: «توجه القلب وقصده بجميع قواه الروحانية إلى جانب الحق؛ لحصول الكمال له أو لغيره»45. هذا وقد أثنى الله عز وجل على أصحاب الهمم العالية وفي طليعتهم ومقدمتهم الأنبياء والرسل عمومًا، وأولو العزم خصوصًا، وعلى رأسهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم 46، فقال عنهم: (ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ) [الأحقاف:٣٥].
ونوح عليه السلام هو أحد أولي العزم من الرسل، وتجلت همته العالية في مجاهدته في إعلاء كلمة الله عز وجل، والدعوة إلى الحق ليلًا ونهارًا، وسرًا وجهرًا47. فهو عليه السلام لم يتوان لحظةً، ولم يقصر طرفة عين في دعوة قومه إلى توحيد الله تعالى، فطال مكثه في قومه ألف سنة إلا خمسين عامًا، وفي هذا دعوة إلى الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى بعلو همتهم في هذا المجال.
لما عجز قوم نوح عليه السلام عن جداله وانهزموا أمام دعوته وحجته ومنطقه القوي السليم لجأوا إلى التهديد الصريح للرسول الذي جاءهم من عند الله تعالى ليدعوهم إلى الخير وإلى ما ينفعهم في الدنيا والآخرة، وهذا التهديد منهم يدل على أنهم كانوا أقوياء، وأنهم أصحاب جاه وبطش، وأنهم قادرون على إنفاذ تهديدهم، وهذا التهديد هو سلاح الطغاة دائمًا عندما لا يجدون حجة قوية يواجهون بها صاحب الحق، فقالوا له: إذا لم تنته عن دعوتك هذه فسوف نرجمك بالحجارة حتى الموت. ولكن نوحًا عليه السلام لم يخفه هذا التهديد فظل ثابتًا على موقفه ومبدئه، وقابل هذا التهديد بكل أدب وثبات، فما كان منه إلا أن شكا قومه إل الله تعالى طالبًا منه أن يفصل بينه وبينهم48، فقال: (ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ) [الشعراء:١١٧-١١٨].
عندما رفض ابن نوح أن يؤمن ويستجيب لدعوة أبيه عليه السلام وهلك وكان من الغارقين، دفعت عاطفة نوح عليه السلام إلى معرفة مصير ابنه، فقال: (ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ) [هود:٤٥].
فأجابه الله عز وجل بقوله: (ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ) [هود:٤٦] لأنه بكفر ابنه وجحوده انقطعت الولاية بينه وبين ابنه، فقد عمل أعمالًا ليست صالحة، وبذلك صار ليس من أهله، وأرشده الله تعالى إلى عدم السير والانقياد وراء عاطفته وشفقته عليه، فاستعلى نبي الله نوح عليه السلام على عاطفته، ورضي بحكم الله تعالى، فما كان منه إلا التسليم المطلق والاتباع لما يحبه الله تعالى ويرضاه، والولاء كذلك لمن يحبه الله، والبراء والعداء لمن حاد الله تعالى، ولو كان ابنه وزوجته التي قال الله سبحانه وتعالى فيها: (ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ) [التحريم:١٠].
وصف الله تعالى نوحًا عليه السلام بهذه الصفة في معرض الحديث عن أخذه الميثاق الغليظ من الأنبياء عمومًا، وخاصةً أولي العزم من الرسل، ونوح عليه السلام أحد أولي العزم الخمسة الذين قال الله تعالى فيهم: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ) [الأحزاب:٧-٨].
والمعنى: اذكر أيها الرسول الكريم وقت أن أخذنا العهد الوثيق من جميع الأنبياء السابقين على أن يبلغوا دين الله عز وجل، وأن يجاهدوا في سبيل تحقيق تلك الغاية بإخلاص العبادة لله جل جلاله، وعلى أن يصدق بعضهم بعضًا في أصول الشريعة ومكارم الأخلاق، وقد أخذ الله تعالى هذا العهد والميثاق منك أيها الرسول ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام الذين هم أولو العزم من الرسل، الذين تحملوا في سبيل إعلاء كلمة الله تعالى أكثر مما تحمله غيرهم من الأنبياء، والسبب في أخذ الله عز وجل هذا الميثاق الغليظ ليسأل الأنبياء عن كلامهم الصادق الذي قالوه لأقوامهم، وماذا رد عليهم أقوامهم49.
ولكن الله تعالى يعلم أن هؤلاء الأنبياء صادقون، فلماذا سوف يسألهم يوم القيامة عن صدقهم في تبليغ الرسالة؟ والجواب على هذا السؤال يكمن في حكمتين:
الأولى: أن في هذا السؤال تشريفًا لهؤلاء الرسل وتكريمًا لهم، فيثيبهم جنات النعيم50.
الثانية: فيه توبيخ للمكذبين لأنبيائهم فيما جاءهم به هؤلاء الأنبياء من كلام صادق وإرشاد حكيم، وفيه وعيد لهم؛ لأنه إذا كان الأنبياء سوف يسألون فكيف بغيرهم؟! فيعذبهم العذاب الأليم51.
ومما ينبغي الإشارة إليه أن يكون الداعية صادقًا في دعوته؛ لأن المقصد من هذه الدعوة هو هداية الناس إلى البر والتقوى، وإخراجهم من الظلمات إلى النور، فكيف يحقق الداعية هذا وهو غير صادق؟!. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى يجب أن يكون صادقًا في قوله؛ لأنه يبلغ دعوة الله تعالى كما جاءت، فما يقوله ليس تعبيرًا عن رأيه الشخصي، فهذا يدفع المدعوين إلى تصديقه والاستجابة له.
أخبر الله تعالى عن نبيه نوح عليه السلام لما كان يدعو قومه إلى توحيد الله عز وجل:(ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ) [الشعراء:١٠٦-١٠٨].
وقول نوح عليه السلام: (ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ) يخرج على قولين:
الأول: ذكر المفسرون أن نوحًا عليه السلام قد تخلق بهذا الخلق قبل بعثته، فإن قومه كانوا يعرفون صدقه وأمانته من قبل، كصدق محمد صلى الله عليه وسلم وأمانته في قريش قبل بعثته.
والمعنى: كنت أمينًا فيكم قبل دعوتي إياكم إلى الله تعالى، فتصدقونني في جميع ما أخبركم به، فما بالكم لا تصدقونني الآن لما أخبرتكم أني رسول الله إليكم؟!52
الثاني: كأن نوحًا عليه السلام يقول: إني لكم رسول من الله تعالى، أمينٌ على وحيه إلي بإرساله إياي إليكم، جعلني الله تعالى أمينًا فيما بعثني به، أبلغكم رسالة ربي لا أزيد فيها، ولا أنقص منها شيئًا، وأؤدي الأمانة شئتم أم أبيتم، قبلتم الدعوة أم توليتم، فقد وضح لكم صدقي، وبانت أمانتي فيما بعثني الله به وائتمنني عليه، فأنا لا أخاف ما تتوعدونني به53.
ومما تجدر الإشارة إليه أن الداعية يجب عليه أن يكون مشهورًا بالأمانة بين الناس؛ حتى يصدقوا ما يدعو إليه ولا يتهموه بما قد كان منه إذا لم يكن كذلك.
هذا الخلق يتضمن الرحمة بالناس، والشفقة عليهم، والرأفة بهم، والحرص على إنقاذهم من الضلالة إلى الهداية؛ لئلا يتعرضوا لعذاب الله عز وجل وعقابه.
فهذا نوح عليه السلام يقول الله تعالى فيه: (ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ) [الأعراف:٥٩-٦٢].
والمعنى: أن الله عز وجل بعث نوحًا عليه السلام إلى قومه؛ ليدعوهم إلى إفراد الله تعالى وحده بالعبودية؛ لأنه الخالق الرازق المدبر لجميع الأمور، وما سواه عز وجل مخلوقٌ مدبرٌ له، ليس له من الأمر شيء. وكأنه يقول لهم: يجب عليكم أن تخضعوا لله تعالى بالطاعة وإخلاص العبادة له، فليس لكم من إله يستحق العبادة غيره، فإن لم تفعلوا وبقيتم على ما أنتم عليه من الكفر والجحود فإني أخاف عليكم أن يحل عليكم يومٌ يعظم فيه بلاؤكم54.
ويقصد بهذا اليوم يوم الطوفان الذي هلكوا فيه جميعًا في الدنيا، أو يوم القيامة الذي ينتظرهم فيه العذاب في الآخرة.
فقول نوح عليه السلام: (ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ) يعد من «نصحه عليه السلام وشفقته عليهم، حيث خاف عليهم العذاب الأبدي والشقاء السرمدي، كإخوانه المرسلين الذين يشفقون على الخلق أعظم من شفقة آبائهم وأمهاتهم»55.
كما أن قوله عليه السلام: (ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ) يعني: أن وظيفتي هي أن أبلغكم ما أرسلني به الله عز وجل إليكم ببيان توحيده وأوامره ونواهيه؛ أني أقصد لكم الصلاح والخير والفلاح في الدنيا والآخرة56، وأعلم من الله تعالى ما لا تعلمونه.
فهو يعلم عن طريق الوحي من أمر الله وسنته في خلقه وما يتبع هذه الدنيا من أحوال الآخرة ما لا يعلمون، ويعلم أن الله ذو القوة المتين، وأنه يبطش بالمكذبين المعاندين، وقوم نوح لا يعلمون ذلك لأنهم أول أمة عذبها الله بكفرها، فأزالها من على وجه الأرض، ولم يبق إلا من آمن مع نوح. قال ابن كثير: «وهذا شأن الرسول أن يكون بليغًا فصيحًا، ناصحًا بالله، لا يدركه أحد من خلق الله في هذه الصفات»57.
وهكذا عندما يتحلى الداعية بهذا الخلق، فإنه يتبين لدى المدعوين مدى حرصه على هدايتهم؛ لئلا يعرضوا أنفسهم لعقاب الله تعالى في الدنيا والآخرة، وهذا يكون على وجه النصيحة لهم والشفقة عليهم فيلتفوا حوله، ويسمعوا منه، ويستجيبوا له. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (الدين النصيحة) قلنا: لمن؟ قال: (لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم)58.
عند الاطلاع على قصة نوح عليه السلام في مخاطبته لقومه نجده يقول: (ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ) [يونس:٧٢].
وفي موضع آخر يقول: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ) [هود:٢٩].
فإنه يؤكد على أن عدم استجابتهم لدعوته لا يعود إلى سؤاله المال منهم، فيثقل عليهم مكافأته59 عند استجابتهم، أو يثقل عليه عند إعراضهم وتوليهم60.
وكذلك نجد في قصص الأنبياء مع أقوامهم أن جميع الأنبياء والرسل عندما كانوا يخاطبون أقوامهم يبينون لهم أنهم لم يطلبوا من وراء دعوتهم مالًا أو أجرًا على ذلك أو مقابل استجابتهم، فيقولوا: هذا جاءنا ليأخذ أموالنا. فيمتنعون عن قبول الدعوة. فكأن الرسل عليهم السلام يقولون لأقوامهم: «لو أنكم فطنتم إلى حقيقة الأمر لكان من الواجب أن يكون لنا أجر على ما نقدمه لكم من منفعة، لكنا لا نريد منكم أنتم أجرًا، إنما سنأخذ أجرنا من رب العالمين؛ لأن المنفعة التي نقدمها لكم لا يستطيع بشر أن يقومها، وإنما القادر على تقييمها هو واضع المنهج سبحانه وتعالى ومنزله على رسله»61.
وعليه، فإن هذه الصفة هي سنة مطردة عند جميع الأنبياء والمرسلين، فهم لا يطلبون لأنفسهم أجرًا مقابل دعوتهم، ولا يؤملون لأنفسهم عند أقوامهم قدرًا ومكانة، فعملهم -الذي هو تبليغ الدعوة لله عز وجل - لا يطلبون عليه شيئًا من غيره جل جلاله، فمن سلك من الدعاة والعلماء سبيلهم ومسلكهم واقتفى أثرهم فإنه سوف يحشر في زمرتهم، ومن أخذ على إصلاحه عوضًا من أحد، أو اكتسب بسداد رأيه جاهًا لم ير من الله تعالى إلا ذلًّا وهوانًا وصغارًا62.
فهذه الصفة هي من أهم الصفات في نجاح الداعية في مهمته؛ لأنه إذا تعلق قلبه بالدنيا واشتغل بتحصيلها كان هذا حائلًا بين الداعية والناس، فلا يسمع أو يستجيب له أحد؛ لذلك يجب على الداعية أن يزهد عما في أيدي الناس فضلًا عن أن يكون كريمًا حتى يجمع الناس حوله ولا ينفرهم.
تخلق نوح عليه السلام بهذا الخلق الرفيع، فقد تحمل أذى قومه تسعمائة وخمسين عامًا وهي أطول فترة دعوة، واستخدم معهم جميع الأساليب والوسائل الدعوية إلا أنهم كانوا يكذبونه ويزجرونه، ويتهمونه بالجنون والسخرية والاستهزاء، فلما بلغ السيل الزبى دعا ربه فقال: (ﭱ ﭲ ﭳ) [القمر:١٠].
وقال في آية أخرى: (ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ) [نوح:٢٦-٢٧].
فأجاب الله تعالى سؤاله، وانتصر له من قومه، فقال جل جلاله: (ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ) [الصافات:٧٥-٧٦].
وعليه، فإن الصبر على الأذى هو سلاحٌ قويٌّ يجب على الداعية التسلح به؛ ليصل إلى بغيته ويحقق به آماله وطموحاته.
كثيرًا ما أوذي نوح عليه السلام من قومه أشد الإيذاء، وبما أن دعوته فيهم طالت فلنا أن نتخيل حجم هذا الإيذاء طيلة هذه القرون، وعندما كان نوح عليه السلام يواجههم ويخاطبهم في أمر الدعوة كان لا يلقى منهم إلا الكذب والزجر والاتهام بالسخرية والاستهزاء، هذا بالإضافة إلى التهديد الصريح المباشر الذي كانوا يلجؤون إليه عندما لا يجدون منطقًا سليمًا وحجة قوية يردون بها على نوح عليه السلام، فقد هدد عليه السلام بأنواع كثيرة من التهديدات، وأقسى ما هدد به هو الرجم حيث قالوا: (ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ) [الشعراء:١١٦].
ومع ذلك لم نجده عليه السلام قد ثأر لنفسه ولو مرة واحدة فقط، وإنما كل ما فعله أن توجه إلى الله عز وجل بالدعاء، وقال بكل بساطة: (ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ) [الشعراء:١١٧-١١٨].
من أجل هذا يعد الحلم هو سيد الأخلاق التي يجب على الداعية أن يتحلى بها؛ لأنه يواجه أقوالًا وتصرفاتٍ كثيرةً من شأنها أن تثير غضبه، فإذا لم يتحل الداعية بهذا الخلق نفر عنه الناس ولم يجتمع عتيه أحد، ومن ثم لن يستطيع أن ينجح في مهمته.
تخلق نوح عليه السلام بهذا الخلق الرفيع أيضًا، فمن خلال الحوار الذي دار بينه وبين قومه لأجل الدعوة نجد أنهم اشترطوا على نوح عليه السلام أن يطرد الذين آمنوا معه من الضعفاء والفقراء، أو أن يخصص لهم مجلسًا خاصًّا بهم لا يلتقون فيه مع هؤلاء الضعفاء والفقراء الذين سموهم أراذل القوم، وهذا من باب استكبارهم وأنفتهم وترفعهم، ولكن نوحًا عليه السلام رفض هذا الطلب، وبين لهم أنهم يجهلون الميزان الحقيقي الذي يوزن به الناس عند الله عز وجل، وهو الإيمان، فهؤلاء المؤمنون في رعاية الله تعالى وحمايته، وليس بالموازين الوضعية الحقيرة التي يزنون بها من الغنى والثراء63. فقال الله تعالى مصورًا هذا الموقف على لسان نوح عليه السلام: (ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ) [هود:٢٩-٣٠].
فيظهر تواضع نوح عليه السلام في عدم طرده للمؤمنين معه الذين هم من طبقة الضعفاء والفقراء، بل تواضع لهم، وأجلسهم في مجلسه، يتدارس وإياهم سبل التقرب إلى الله عز وجل. وهكذا يكون نوح عليه السلام قد خفض جناحه وتودد لهؤلاء المؤمنين به وبدعوته.
ويتبين من هذا أن الداعية يجب عليه أن يتحلى بهذا الخلق؛ حتى يكون قادرًا على جمع الأنصار حوله، فبالتواضع يحبه الناس، ويلتفون حوله، ويستمعون إليه، ويتأثرون به؛ لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف: (وإن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يفخر أحدٌ على أحدٍ، ولا يبغي أحدٌ على أحدٍ)64.
هذا على صعيد الناس، أما عند الله تعالى فإن صاحب هذا الخلق يزيده الله تعالى رفعةً وقدرًا، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (وما تواضع أحدٌ لله إلا رفعه الله)65.
أولًا: اصطفاؤه وتكليفه بالرسالة:
أخبر الله عز وجل في جملة من آياته أنه اختار مجموعة من الأنبياء الذين هم أولياؤه وأصفياؤه وأحباؤه، فأحاطهم الله تعالى برعايته وعنايته، ومن هؤلاء نوح عليه السلام، فقال تعالى: (ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ) [آل عمران:٣٣].
ولم يقف الأمر عند حد الاصطفاء، بل جعله الله عز وجل أهلًا لحمل رسالته، فقال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ) [النساء:١٦٣].
كما أنه عليه السلام من أولي العزم من الرسل، كما قال الله تعالى عنه: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ) [الأحزاب:٧]، فكان نوح عليه السلام أول رسول يذكر في موكب الأنبياء والرسل، فهو شيخ المرسلين.
هذا، وإن مسوغات وموجبات اصطفائه واجتبائه أمورٌ خمسة، وهي كما يأتي:
الأول: إن الله جل جلاله جعله أبا البشر فإن الله تعالى عندما عذب قومه بالطوفان كان الناس كلهم قد غرقوا وصارت ذريته هم الباقين؛ فيعتبر نوح عليه السلام هو أبو البشر الثاني بعد آدم عليه السلام.
الثاني: إن الله تعالى أطال عمره، فقد مكث في الدعوة فقط ألف سنة إلا خمسين عامًا، بالإضافة إلى عمره قبل تكليفه بالرسالة، وإلى عمره بعد نجاته والمؤمنين من الطوفان.
الثالث: إن الله عز وجل استجاب دعاءه لما دعا على الكافرين من قومه، فأهلك الله تعالى بدعائه أهل الأرض.
الرابع: إن الله سبحانه وتعالى حمله على السفينة التي أمره بصنعها؛ لينجيه والمؤمنين معه من الطوفان القادم لإهلاك الكافرين.
الخامس: هو أول رسول شرع الله تعالى على لسانه الشرائع وأحكام الحلال والحرام، ونسخ الشرائع التي كانت قبله من حل الزواج بالخالات والعمات66.
هذا بالإضافة إلى ما وفقه الله تعالى من الصبر، والاحتمال والشكر والدعوة إلى الله تعالى في جميع الأوقات والأحوال67.
ثانيًا: معالم دعوته:
من خلال استعراض الآيات القرآنية التي ذكرت دعوة نوح عليه السلام لقومه نجد أن دعوته عليه السلام ارتكزت على ثلاثة معالم:
الأول: الاستناد إلى قوة الله القوي العزيز.
الثاني: الدعوة إلى الإيمان بالله عز وجل.
الثالث: الدعوة إلى الإيمان باليوم الآخر.
والآن إلى تفصيل هذه المعالم فيما يأتي:
إن التعبير بقوله تعالى: (ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ) [الأعراف:٥٩].
وهذا التعبير مؤكد بثلاثة مؤكدات، فالأسلوب أسلوب قسم دلت عليه اللام الموطئة له، هذا الأول، أما الثاني فهو حرف التحقيق (قد)الداخل على الفعل الماضي (أرسلنا)، فيدل على التوكيد، وعلى تحقق وقوع الفعل، والثالث هو صيغة الفعل الماضي (أرسلنا) الدالة على أن الفعل قد حصل وانتهى وتحقق، في حين كان التعبير في سورة نوح بقوله: (ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ)، فهو مؤكد أيضًا بـــــ (إن) والفعل الماضي، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الفعل (أرسلنا) مسندٌ إلى نون العظمة، فهذا الإرسال ليس من عند أحد، إنما هو من عند الله جل جلاله المتصف بجميع صفات الجلال والكمال، فكأن نوحًا عليه السلام يستند في دعوته إلى قوة القوي العزيز ويرتكن إليها، وهذا شأن جميع الأنبياء والمرسلين في دعوتهم لأقوامهم.
ويستفاد من هذا أن الدعاة إلى الله عز وجل يجب عليهم أن يستعلوا بالحق الذي معهم، فيركنوا إليه سبحانه وتعالى، فلا يذلوا، ولا يهنوا، ولا يشعروا بالدونية والانكسار، إنما يشعرون بالعزة المستمدة من عزة الله عز وجل 68، كما قال تعالى: (ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ) [فاطر:١٠]، وقوله تعالى: (ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ) [المنافقون:٨].
أمر نوح عليه السلام قومه بعبادة الله تعالى، وبين لهم على سبيل الحصر أنه لا إله لهم سوى الله تعالى، فقال: (ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ) [الأعراف:٥٩].
وفي موضع آخر: (ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ) [هود:٢٦].
ومعنى عبادة الله تعالى توحيده عز وجل، وسمي التوحيد عبادة؛ لأن العبادة لا تصح إلا بالتوحيد فيها خالصًا69. وقدم نوح عليه السلام دعوته مشفوعةً بالدليل، وهو قوله: (ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ)، وكان قومه يصنعون أصنامًا بأيديهم، وزعموا أنها تقربهم إلى الله زلفى، فهم يعترفون بالله عز وجل ربًّا، ولكنهم يشركون في العبادة معه هذه الأصنام التي يعبدونها من دون الله تعالى، فبين لهم نوح عليه السلام أنه ليس هناك إلهٌ يستحق العبادة إلا الله جل جلاله؛ لأنه هو الخالق الرازق المدبر لجميع أمورهم، وما سواه مخلوقٌ مدبرٌّ له ليس له من الأمر من شيء70. فهو الإله الذي يجدر أن تتعلق القلوب به، وتطمئن النفوس إليه، وتجأر بالدعاء له وحده.
وهذا المعلم الذي بدأ به نوح عليه السلام دعوته هو الأساس الذي يشاد عليه البنيان، كما أن هذا المعلم هو الذي أتى به كل الأنبياء والرسل يدعون إليه أقوامهم، ويرشدونهم إلى هذا الطريق المستقيم، ويدعونهم إلى عبادة الله تعالى وحده، كما قال جل شأنه: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ) [الأنبياء:٢٥].
وقوله: ( ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ) [الشورى:١٣].
فهذا يؤكد أن العقيدة والأصول العامة لهذا الدين هي واحدة عند جميع الأنبياء والرسل، ولكن الشرائع والأحكام الفقهية هي التي تختلف.
كما دعا نوح عليه السلام قومه إلى إفراد الله عز وجل بالألوهية والعبادة دعاهم أيضًا إلى الإيمان باليوم الآخر، يوم البعث والحساب، عندما خوفهم من عذاب الله تعالى في هذا اليوم، فقال: (ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ) [الأعراف:٥٩].
وفي موضع آخر قال: (ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ) [هود:٢٦].
وذكر المفسرون أنه لا مانع من أن المقصود باليوم في الآيتين هو يوم القيامة، أو يوم نزول عذاب الطوفان عليهم71، والمعنيان يحملان الهلاك والعذاب سواء كان في الدنيا أم في الآخرة.
وعلى كلٍّ فإن نوحًا عليه السلام يخوفهم من يوم القيامة بدءًا من خروج الناس من قبورهم وما يكون في هذا اليوم من أهوال وأحداث حتى يدخل أهل الجنة الجنة، ويدخل أهل النار النار ويستقر كلّ منهما فيما دخله.
وعند التأمل في وصف العذاب بأنه عظيم أو أليم فالوصفان على صيغة مبالغة على وزن (فعيل)، فهذا يدل على أن هذا العظم والإيلام لا يدرك من جهته، ولا تدرك المشاعر حقيقته في الدنيا، فيمكن تخيل مدى قوة هذا العذاب وهوله وعظمته وشدة إيلامه.
ثالثًا: أساليب دعوته:
تعددت أساليب دعوة نوح عليه السلام، ومن خلال استقراء الآيات نجد فيها عدة أساليب، نذكر منا ما يأتي:
وهو أسلوبٌ استخدمه نوح عليه السلام مع قومه؛ لبيان الحق، وعرض العقيدة، وطلب الإيمان بالله تعالى، ومنها قوله: (ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ) [الأعراف:٦٣].
والمعنى: أعجبتم يا قوم أن جاءتكم رسالةٌ من ربكم تحمل لكم الموعظة والبيان على رجلٍ منكم تعرفون صدقه وأمانته من قبل دعوتكم؛ لينذركم عذاب الله تعالى إن لم تؤمنوا؛ لكي تتقوا الله، ولكي ترحموا72.
كما حاول نوح عليه السلام أن يفتح عقولهم وأن يوجهها إلى ما في الكون من آيات يظهر فيها خلق الله عز وجل وبديع صنعه وتصريفه لأمور الكون، كما وجه أنظار المشركين إليه تعالى وحده؛ لأنه المستحق للعبادة دون سواه؛ ليفتح أبصار الجاحدين وبصائرهم، فذكر نوح عليه السلام قومه قائلًا: (ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ) [نوح:١٥-٢٠].
والمعنى: أن نوحًا عليه السلام نبههم إلى خلق السموات والأرض وما فيهما من الدلالات على أنها مخلوقة، وأن خالقها وحده هو الذي يستحق صفات العلو والعزة، فقال لهم -من باب التقرير لهم؛ لأنهم يشاهدون مخلوقات الله تعالى ويعلمون أنه سبحانه وتعالى هو الخالق لها-: لقد علمتم أن الله هو الذي خلق سبع سماوات متطابقة، بعضها فوق بعض، وجعل القمر في السماء الدنيا نورًا للأرض ومن فيها، وجعل الشمس كالسراج في إضاءتها وتوهجها،وإزالة ظلمة الليل، وهو الذي أوجد وأنشأ أباكم آدم من الأرض إنشاءً، وجعلكم فروعًا عنه، ثم يعيدكم إلى هذه الأرض بعد موتكم؛ لتكون قبورًا لكم، ثم يخرجكم منها يوم البعث للحساب والجزاء، كما جعل لكم بفضله ومنه الأرض مبسوطةً تتقلبون عليها كما تشاؤون؛ لتتخذوا منها لأنفسكم طرقًا واسعةً في إمكان الانتفاع بها والتقلب على أرجائها73.
فكان استخدامه لهذا الأسلوب بهدف هدايتهم وتصحيح معتقداتهم الفاسدة.
وهو ترغيبٌ بالوعد والإمداد بأنواع الخيرات، والزيادة مع الشكر74.
قال تعالى: (ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ) [نوح:١٠-١٢].
فقد أطمع نوح عليه السلام قومه بالحصول على بركات السماء والأرض إن هم استجابوا لدعوته وآمنوا بالله جل جلاله الذي بيده مفاتيح الخزائن، فأتاهم من طريق القلب؛ ليحرك عواطفهم، فقال لهم: توبوا عن الكفر والمعاصي، فإن الله تعالى توابٌ رحيم، يغفر الذنب، ويقبل التوبة، وينزل عليكم المطر غزيرًا منسكبًا، ويكثر لكم الأموال والأولاد، ويجعل لكم الحدائق الفسيحة الغناء ذات الأشجار المثمرة، ويجعل لكم الأنهار تجري خلالها75.
استخدم نوح عليه السلام أسلوب الترهيب مع قومه76، فقال لهم: (ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ) [نوح:٢].
والمعنى: أي: أنذركم وأحذركم عاقبة كفركم، ونهاية شرككم من قبل فوات الفرصة، ومن قبل أن يأتيكم عذابٌ أليم شديد الألم للغاية77. فأمري واضح، ودعوتي ظاهرة، فقابلوا هذا بالإيمان والتصديق. ثم وبخهم على عدم الاستجابة لدعوته فقال: (ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ) [نوح:١٣]، أي: ما لكم لا تخافون لله تعالى عظمةً وقدرةً على أخذكم بالعقوبة78.
استخدم نوح عليه السلام طريقة التودد إلى قومه، حيث استجاش مشاعرهم، وذكرهم بحق القرابة الذي من شأنه أن يستعين بهم ويكونوا عونًا له على تقلبات الزمن، فقال عليه السلام: (ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ) [الأعراف:٥٩].
فمن الواجب عليهم أن ينصروه في دعوته ويستجيبوا له. هذا وقد تكررت كلمة (يا قوم) ثلاث مرات في قصة نوح عليه السلام مع قومه في موضع واحد، فقال الله عز وجل على لسانه عليه السلام: (ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱﭲ ﭳ ﭴ ﭵ) [هود:٢٨-٣٠].
فتكرارها يفيد المبالغة في التودد إلى قومه.
الجدال المحمود هو نوعٌ من أنواع الجدال، وهو يقوم على تقرير الحق،وإظهاره بإقامة الحجج القوية والأدلة والبراهين على صدقه، فهذا النوع من الجدال له فائدة، ففيه خير ونفع للإسلام، كما فيه عزة للمسلمين؛ لأنه بدونه لا تتم الدعوة إلى الله تعالى والذب والدفاع عن دينه العظيم، وقد أمرت آياتٌ كثيرة من القرآن الكريم بهذا النوع من الجدال كما في قوله تعالى: (ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ) [النحل:١٢٥].
وقوله: (ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ) [العنكبوت:٤٦].
وشأن هذه الآيات هو إظهار الحق، والدعوة إليه، وتدفع عن الإسلام والمسلمين كل ما يلصق بهم من اتهامات باطلة وزائفة79.
ومارس نوح عليه السلام أسلوب الجدال المحمود هذا، القائم على المنطق القويم، والحجة القوية، والرأي السديد في دعوته لقومه إلى عبادة الله تعالى وحده وعدم الإشراك به، فقال تعالى: (ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ) [هود:٢٥-٣٥].
لذلك سئم منه قومه، واتهموه بإكثار الجدال فيهم، وطلبوا منه أن يأتيهم بما يتوعدهم به من العذاب.
وفيما فعله نوح عليه السلام تتجلى جوانب واضحة في منهجية الجدل، ومنها:
موقف قوم نوح عليه السلام من دعوته
أولًا: تكذيب قوم نوح:
بعد أن عرض نوح عليه السلام دعوته ومعالمها على قومه، كيف كان استقبالهم للدعوة؟ وماذا كان ردهم عليها؟
ذكر الله تعالى تكذيب قوم نوح عليه السلام له ولدعوته بشكل عام في آيات كثيرة، منها:
قوله تعالى: (ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ) [ص:١٢].
وقوله تعالى: (ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ) [القمر:٩].
لكن أول من امتنع من قبول الدعوة ورفضها ووقف في طريقها وصد عنها،هم الملأ من قومه. والملأ هم: «جماعة يجتمعون على رأي، فيملؤون العيون رواءً ومنظرًا، والنفوس بهاءً وجلالًا»80.
فهم الرؤساء وعظماء القوم وسادتهم، وهم واجهة المجتمع، يقفون عقبةً أمام وجه الدعوة، ويظنون أنهم إن استجابوا للنبي الذي بعث فيهم أنه سيضيع ملكهم،وجاههم ومنصبهم ومكانتهم في المجتمع، فها هم يرفضون دعوة نبيهم، ويتهمونه بالضلال الذي هو العدول عن طريق الحق والذهاب عنه81، فيقول الله عز وجل عنهم: (ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ) [الأعراف:٦٠].
أي: إنا لنراك في دعوتنا إلى إله واحد في ضلال عن الحق. وتارة أخرى يطعنون في نبوته من ثلاث جهات، وهذا متمثل في قوله تعالى: (ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ) [هود:٢٧].
ووجوه الطعن الثلاثة هي:
الأول: قولهم: (ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ)، أي: نحن وأنت مشتركون في البشرية، فلم تكن لك مزيةٌ علينا تستحق بها النبوة التي تدعيها؟
الثاني: قولهم: (ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ)، أي: لم يتبعك فيما زعمت أحدٌ من الأشراف، فكلهم من أراذل القوم، فليس لك مزية علينا باتباع هؤلاء الأراذل لك في ظاهر الرأي بدون تروٍّ ولا تعمق ولا أدنى تفكير.
الثالث: قولهم: (ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ)، أي: ما نرى لك ولمن اتبعك من هؤلاء الأراذل فضلًا علينا تتميزون به وتستحقون ما تدعونه.
ثم اتهموه بالكذب فقالوا: (ﯯ ﯰ ﯱ) في كل ما تدعونه وتزعمونه82.
وتارةً ثالثةً صرحوا أن البشر لا يكونون رسلًا، فقال الله تعالى عنهم: (ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ) [المؤمنون:٢٤].
أي: قالوا: ما نوحٌ إلا رجل عادي منكم، ليس له مزية عليكم في فضل ولا خلق،فيكون أهلًا للنبوة دوننا؛ بل هو رجل أراد أن يسود عليكم، وتكون له الكلمة، وزعم الرسالة؛ ليحقق ما تصبو إليه نفسه، ثم ذكروا موانع ثلاثة تحول بينه وبين نبوته، وهي:
الأول: (ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ)، أي: لو شاء الله أن نعبده وحده لأرسل إلينا ملائكةً تؤدي الرسالة، وليس نوحًا.
الثاني: (ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ)، أي: ما سمعنا في عهود آبائنا وأجدادنا بمثل الذي يدعونا إليه نوح، وفيه إشارة إلى أنهم قومٌ يعولون على التقليد الأعمى، كما أنهم قد بلغوا الغاية في العناد والتكذيب.
الثالث: (ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ) [المؤمنون:٢٥].
أي: ما نوح إلا رجل به خبل في عقله، فالذي يدعيه ويزعمه لا يصدر عن رجل عاقل يزن قوله ويدعم رأيه بحجة قوية ناصعة. ثم قالوا في إبطال دعوته: (ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ) [المؤمنون:٢٥].
أي: فتلبثوا وانتظروا لعله يعود إلى سيرته الأولى، إلى دينكم ودين آبائكم وأجدادكم83.
وهكذا يظهر تكذيب هؤلاء الملأ لنوح عليه السلام، وليس هذا فحسب، بل يتبين مدى مكابرتهم لفرط عنادهم، مع علمهم بأن نوحًا عليه السلام هو أرجح الناس عقلًا وأكثرهم رزانةً في كلامه.
ثانيًا: صفات قوم نوح:
تعددت صفات قوم نوح عليه السلام، ومن خلال استقراء الآيات الواردة فيها صفاتهم نجدها متمثلة في الآتي:
وصفهم الله تعالى بهذا الوصف في قوله: (ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ) [الأعراف:٦٤].
فبعدما دعا نوح عليه السلام قومه إلى توحيد الله عز وجل وأخبرهم أنه مرسلٌ من عنده كذبوه وخالفوا أمره، فما كان من الله تعالى إلا أن نجاه والذين آمنوا معه في الفلك، وأغرق الله عز وجل الذين كذبوا بآياته وحججه، ولم يتبعوا نبيهم، ولم يقبلوا نصحه وإرشاده لهم، فأغرقهم بالطوفان؛ لأنهم كانوا قومًا عمين عن الحق والإيمان84، فقد أغلقوا بصائرهم عنهما.
عندما حانت لحظة المفاصلة التامة بين الحق والباطل، هدد نوح عليه السلام قومه بأن يجتمعوا هم وشركاؤهم على أمر واحد، وينفذوه بدون تردد ولا تراجع، فقال الله تعالى على لسان نوح عليه السلام: (ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ) [يونس:٧١].
ولكنهم لم يستطيعوا أن يتفقوا، أو أن يأخذوا قرارًا حاسمًا بشأن نوح عليه السلام وبشأن دعوته القوية التي حماها الله عز وجل وحمى الداعي إليها.
وبذلك يظهر أن موقف قوم نوح عليه السلام كان موقف الجبان الضعيف الهياب المتخاذل المتردد.
إن قوم نوح قد أساؤوا التعامل مع نبيهم الذي أرسل فيهم، فكذبوه، واتهموه بالجنون، وهددوه بالرجم، ولو أنهم أرادوا عدم التصديق بنبوته لاكتفوا بهذا، ولما فعلوا بنوح عليه السلام ما فعلوه، وفي المقابل رأينا كيف كان نوح عليه السلام يخاطبهم بلفظ الحريص عليهم والمشفق بهم والناصح لهم، فكان دائمًا يقول: (ﭙ)؛ لذلك وصفهم الله تعالى بأنهم قوم سوء، فقال: (ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ) [الأنبياء:٧٧].
أي: إنهم كانوا قومًا يسيئون الأعمال، فيعصون الله تعالى، ويخالفون أوامره85.
دعوة نوح عليه السلام لما طالت في قومه أوحى الله تعالى إليه أنه لن يؤمن من قومه إلا من قد آمن معه واتبعه، وستحين لحظة المفاصلة التامة بين الحق والباطل، فأوحى إليه أن يصنع السفينة؛ كي ينجو بها هو والمؤمنون معه من هلاك الطوفان الذي سوف يعم الكافرين، فامتثل نوح عليه السلام لأمر ربه وشرع يصنع السفينة، وأثناء صناعته لها كان كلما مر عليه جماعة من قومه سخروا منه وهزئوا وضحكوا، وقالوا: يا نوح، كنت بالأمس نبيًّا، وأصبحت اليوم نجارًا!، أو سخروا من صناعته للسفينة بعيدةً عن البحار والأنهار، فرد عليهم نوح عليه السلام بكل هدوء واطمئنان قائلًا: إن تهزؤوا منا اليوم فإنا سوف نسخر منكم في المستقبل عندما تغرقون بالطوفان كما تسخرون منا الآن، فأنتم الأولى والأحق بهذه السخرية والاستهزاء، ثم توعدهم وهددهم بأنهم سوف يعلمون عاقبة التكذيب والاستهزاء هذا86، فقال تعالى مصورًا هذا الأمر: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ) [هود:٣٨].
وعليه فإن السخرية خلق مذموم، ومن آثاره ومضاره أنها نذير شؤم للساخرين، فقد كان الغرق عاقبة قوم نوح، هؤلاء الذين كفروا بالله سبحانه وتعالى وسخروا من نبيهم النبي الذي بعثه الله تعالى إليهم.
قال الله عز وجل: (ﯦ ﯧ ﯨ ﯩﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ) [الذاريات:٤٦].
والمعنى: أن قوم نوح عليه السلام حين كذبوا نبيهم أغرقهم الله عز وجل؛ لأنهم كانوا قومًا فاسقين خارجين عن طاعة الله تعالى87، وهذه سنة الله تعالى فيمن عصاه.
وصف الله تعالى قوم نوح بهذين الوصفين الشنيعين، فقال: (ﭴ ﭵ ﭶ ﭷﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ) [النجم:٥٢].
والمعنى: أن قوم نوح كانوا في الوجود قبل إهلاك عاد وثمود، وكانوا أكثر ظلمًا وطغيانًا منهما، فإنهم كانوا يؤذون نبي الله نوحًا عليه السلام، وينفرون الناس عنه، وكانوا يحذرون صبيانهم من السماع له، كما كانوا يضربونه حتى لا يكون قادرًا على الحركة، ما أثر فيهم دعاؤه قريبًا من ألف سنة88، وفي قول نوح عليه السلام: (ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ) [نوح:٢٤] تسجيلٌ عليهم بالظلم89. فقد ظلموا أنفسهم عندما حرموها من الهداية، وظلموا غيرهم سواء بالتعذيب لنوح عليه السلام، أو لغيرهم من الذين لم يؤمنوا عندما صدوهم عن الإيمان،وحذروهم من اتباع نوح عليه السلام.
وصف الله تعالى قوم نوح بهذه الصفة، فقال عنهم: (ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ) [نوح:٢٢].
أي: مكرًا بليغًا متناهيًا كبره في معاندة الحق90. فكلمة (كبارا) صيغة مبالغة حملت هذا المعنى البليغ.
واختلف العلماء في معنى مكر قوم نوح فيم كان؟ فقالوا:
هذه الصفة خاصة بالملأ، فالملأ دائمًا يحبون الرياسة والجاه، والتسلط على رقاب الضعفاء والفقراء؛ ولذلك فهم يعارضون دعوة النبي المبعوث فيهم، وهي دعوة الحق، ويظنون متوهمين أن قبولهم دعوة الحق سوف يسلب منهم رياستهم وجاههم ومناصبهم ومكانتهم وهيبتهم الطاغية المتجبرة أمام الناس؛ لذلك كان حبهم للرياسة والجاه والسلطان من أهم أسباب رفضهم دعوة نوح عليه السلام.
قال تعالى: (ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ) [الأعراف:٦٠].
وقال تعالى: (ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ) [المؤمنون:٢٤].
وقال تعالى: (ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ) [هود:٢٧].
ثالثًا: شكوى نوح لربه من قومه:
بعد إرسال الله عز وجل نوحًا عليه السلام إلى قومه داعيًا إياهم؛ ليخرجهم من الظلمات إلى النور، وتنفيذ نوح عليه السلام أمر ربه سبحانه وتعالى، فعرض معالم دعوته على قومه، واستخدم معهم جميع الأساليب الدعوية التي كانت باستطاعته؛ لتوصيل دعوة الحق إليهم، كفر قومه بالله عز وجل، وعاندوا الحق، ولم يستجيبوا لدعوته، وتجدر الإشارة هنا إلى أن دعوة نوح عليه السلام لقومه لم تكن مرة واحدة فقط، بل تكررت مرارًا بما يتناسب مع أطول مدة دعوية مكثها في قومه حيث شارفت على الألف سنة، فلنا أن نتخيل كم مرة دعا قومه، وصدوه عن ذلك، ويرجع نوح عليه السلام صفر اليدين منهم، لكن ذلك لم يفشل ولم يركن، بل كان دائمًا يعرض نفسه ودعوته على قومه؛ لعل الله سبحانه وتعالى يهديهم إلى الحق.
فلما وصل نوح عليه السلام إلى هذه المرحلة قال شاكيًا لربه: (ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ) [نوح:٥-٢٠].
والمعنى: يقول نوح عليه السلام: يا رب، إني دعوت قومي في الليل والنهار، فلم يزدهم دعائي إلا نفورًا وإعراضًا عن الحق، وإني كلما دعوتهم لأجل أن يستجيبوا فتغفر لهم، أبوا إلا تماديًا في الباطل، وجعلوا أصابعهم في آذانهم؛ لئلا يسمعوا ما أقول لهم، وتغطوا بثيابهم من شدة بغضهم للحق، وأصروا على كفرهم وشركهم، واستكبروا على الحق استكبارًا، وازداد شرهم وطغيانهم في الأرض، ثم إني دعوتهم جهارًا بحيث يسمعونني كلهم، وإني أسررت بالدعوة لكل واحد منهم على حدة، وقلت لهم: اتركوا ما أنتم عليه من الذنوب والمعاصي والشرك، واستغفروا منها، فإن الله تعالى كثير المغفرة لمن تاب واستغفر.
ثم قلت لهم موبخًا إياهم: ما بالكم لا تعظمون الله تعالى، ولا تجعلون له قدرًا في قلوبكم، والحال أنه قد خلقكم خلقًا من بعد خلق، على مراحل متعددة إلى أن أوصلكم إلى ما أنتم عليه؟! أليس من انفرد بهذا أحق أن يعبد ويوحد؟
كما دعوتهم يا رب إلى التفكر في آلائك ونعمائك، من سماوات وما فيها من قمر وشمس، وذكرتهم كيف خلقت أباهم آدم عليه السلام من تراب وكانوا في صلبه، ثم تعيدهم في الأرض بعد الموت، وتخرجهم للبعث والنشور، وكيف خلقت لهم الأرض مبسوطةً مهيأةً للانتفاع بها بالحراثة والغرس والزراعة والبناء والسكون والاستقرار عليها. فبعد كل هذا النصح والوعظ والتذكير والإرشاد لم يفد فيهم هذا الكلام شيئًا، ولم ينفع، ولم يثمر.
ثم استرسل نوح عليه السلام في مناجاته لله تعالى وشكواه إليه قائلًا: (ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ) [نوح:٢١-٢٤].
أي: إنهم عصوني فيما أمرتهم به، وأنا أنصحهم وأدلهم على الخير، واتبعوا الملأ والأشراف الذين لم تزدهم أموالهم وأولادهم إلا هلاكًا وتفويتًا للأرباح، ومكروا مكرًا كبيرًا بالغًا في معاندة الحق، فدعوهم إلى التعصب إلى دين آبائهم وأجدادهم القائم على الشرك قائلين لهم: لا تتركوا ودًا، ولا سواعًا، ولا يغوث ويعوق ونسرًا. مع أن هذه الأسماء كانت لرجالٍ صالحين فيهم، فلما ماتوا زينها الشيطان لهم، وقد أضل هؤلاء الكبار والرؤساء بدعوتهم هذه كثيرًا من الخلق، فلا يزيدون بدعوة هؤلاء الرؤساء إلا ضلالًا، فيا رب، لم يبق هناك مجالٌ ولا محلٌّ لنجاحهم وصلاحهم93.
كما قال في موضع آخر شاكيًا أيضًا: (ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ) [الشعراء:١١٧].
فلم يبق بيني وبينهم أي ائتلاف وارتباط، حيث كذبوني بجميع ما جئت به من عندك تكذيبًا شديدًا، وسفهوني تسفيهًا بليغًا، فلم يكتفوا عند هذا الحد، بل عمدوا إلى قتلي بأشد العذاب وأقبح العقاب، فقد هددوني بالرجم94.
ونحو هذا قال في موضع آخر: (ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ) [القمر:١٠].
أي: غلبني قومي تمردًا وعتوًّا، فلم يسمعوا مني، واستحكم اليأس منهم95.
ويلحظ من شكوى نوح عليه السلام ومناجاته لله عز وجل أن هذه الشكوى لم تكن بمجرد ملاقاة أول عقبة في طريق الدعوة، أو أول صد له عن دعوته، بل كما تم ذكره من أن الدعوة تمت مرارًا وتكرارًا حتى قاربت ألف سنة، وبعدها حصلت الشكوى عندما لم يعد هناك أمل في استجابة فردٍ واحد منهم، واستحكم اليأس منهم. كما أن هذا يدل على مدى صبر نوح عليه السلام على قومه، وشدة تحمل أذاهم واستكبارهم. فيجب على الداعية التأسي والاقتداء بنبي الله نوح عليه السلام.
ويلحظ من هذه الشكوى أنها تمهيدٌ من نوح عليه السلام وتوطئة منه؛ ليدعو على قومه بالهلاك، وإلهابًا إليه وتهييجًا، معرضًا عن تهديدهم له صبرًا واحتسابًا؛ لأن هذا من لوازم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر96.
رابعًا: دعاء نوح على قومه:
لما أيس نوح عليه السلام من إقلاع قومه عن الكفر وأيس من إيمانهم دعا عليهم بالهلاك، وهذا الدعاء منه لم يكن إلا بعد أن وصل إلى مرحلة إيحاء الله تعالى إليه أنه لن يؤمن من قومه إلا من قد آمن، واستجاب للدعوة، فأذن الله تعالى له بالدعاء عليهم؛ لأن الأنبياء لا يدعون على أقوامهم بالهلاك إلا بإذن من الله عز وجل في ذلك. والدليل على ذلك أنه عاتب يونس عليه السلام لما خرج من ديار قومه بلا إذن من الله تعالى له، فإذا عوتب يونس عليه السلام بالخروج بلا إذن، فلا يحتمل أن يدعو عليهم بالهلاك إلا بإذن أيضًا97.
وكأن نوحًا عليه السلام يقول: يا رب لا أدعوك عليهم لأنهم آذوني وشتموني وحاولوا رجمي وقتلي، وإنما أدعوك لأجلك، ولأجل دينك، ولأنهم كذبوني في وحيك ورسالتك98. وذكر بعض العلماء أن نوحًا عليه السلام دعا عليهم حين أخرج الله تعالى كل مؤمن من أصلابهم وأرحام نسائهم، وأعقم أصلاب الرجال وأرحام النساء قبل العذاب بسبعين سنة؛ لذلك دعاهم نوح عليه السلام إلى استغفار ربهم؛ حتى ينزل عليهم المطر وكانت الأرض قد جدبت ويرزقهم بالبنين؛ لأنه أعقمهم. ونعود إلى دعوته عليه السلام على قومه، فقال في دعائه: (ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ) [الشعراء:١١٨].
أي: احكم يارب بيننا بما يستحقه كل طرف منا، وافتح بابًا من أبواب عدلك على مستحقيه بأن تنزل العقوبة بهم، وافتح بابًا من أبواب فضلك ورحمتك يكون فيه الفرج والمخرج من الضيق لي وللمؤمنين معي، ونجنا مما تعذب به الكافرين99.
كما قال أيضًا في دعائه: (ﭱ ﭲ ﭳ) [القمر:١٠]، أي: إني مغلوبٌ من جهة قومي بتسليطهم علي، -وليست الغلبة بالحجة؛ لأن الحجة كانت له وليس لقومه- فانتقم منهم بعذابٍ تبعثه عليهم، وانتصر لي وللذين آمنوا بك معي100.
وفي موضع آخر قال: (ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ) [نوح:٢٦-٢٧].
أي: يا رب، لا تدع منهم أحدًا يسكن الديار إلا أهلكته وأوقعت به العذاب، فإنك يا رب إن تتركهم على الأرض فإنهم يضلوا عبادك عن طريق الحق، ولا يلدوا إلا فاجرًا يترك طاعتك، وكفارًا لنعمتك.
ثم دعا عليهم مرة أخرى فقال: (ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ) [نوح:٢٨]، أي: لا تزد المتصفين بالظلم إلا هلاكًا وخسرانًا ودمارًا. وقد شمل دعاؤه هذا كل ظالم إلى يوم القيامة101.
خامسًا: عاقبة قوم نوح:
أوضح الله عز وجل أنه بعدما أوحى إلى نوح عليه السلام أنه لن يؤمن من قومه إلا القليل الذين استجابوا له، ولم تعد هناك فائدة من دعوة نوح عليه السلام قومه، فدعا عليهم، فاستجاب الله تعالى دعاءه، فنصره على قومه الذين كذبوا بحجج الله تعالى وأدلته، فأنجاه منهم، وأغرقهم أجمعين. وسجلت الآيات التي تتحدث عن هلاك قوم نوح أن تعذيبهم بالطوفان كان للأسباب الآتية:
السبب الأول: ما كان عليه قوم نوح من إساءة العمل، ومعصية الله جل جلاله، وفسقهم المتمثل في مخالفة أمره تعالى، والخروج عن طاعته102، فقال الله تعالى فيهم: (ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ) [الأنبياء:٧٧].
السبب الثاني: ما اتصف به قوم نوح من الظلم ومجاوزة الحد، فذكر الله تعالى عنهم أنه عاقبهم وأخذهم بالطوفان عقب المدة الدعوية التي كانت ألف سنة إلا خمسين عامًا. وهذا الطوفان قد أحاط بهم من كل جانب، وحالهم أنهم كانوا مستمرين على الظلم، فلم ينجع فيهم وعظ نبيهم نوح عليه السلام 103، فقال عز وجل: (ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ) [العنكبوت:١٤].
السبب الثالث: ما كان عليه قوم نوح من خطايا عديدة وكثيرة، وأخطرها شركهم بالله جل جلاله، حيث اتخذوا آلهة يعبدونها من دون الله تعالى، فهل هي قادرة اليوم -يوم الطوفان- أن تنصرهم من عذاب الله عز وجل ؟!104، فقال فيهم: (ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ) [نوح:٢٥].
فعذاب الطوفان هذا كان في الدنيا، وقد رأوه بأم أعينهم، ولم يستطيعوا أن يدفعوا عن أنفسهم هذا العذاب الواقع بهم. أما العذاب الأشد إيلامًا فهو الذي قد أعده الله عز وجل وجهزه لهم في الآخرة، فإنه ينتظرهم لا محالة105، فقال تعالى: (ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ) [الفرقان:٣٧].
وبهذا الهلاك والاستئصال للكافرين يسدل الستار على قصة قوم نوح المكذبين، فلم يبق الله تعالى منهم أحدًا على وجه الأرض.
سادسًا: حكمة تذكير الرسل أقوامهم بعاقبة قوم نوح:
إن الله عز وجل قد جعل هلاك قوم نوح آيةً لجميع الناس، وقد ذكر ذلك في كتابه العزيز فقال: (ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ) [الفرقان:٣٧].
وكلمة (الناس) عامة تشمل المؤمن والكافر، فجعل الله تعالى إهلاك قوم نوح،واستئصالهم بالغرق آية وعبرة للمكذبين من الأقوام التي أتت بعدهم إلى يوم الدين، وكذلك جعل نجاة المؤمنين،وخلاصهم من الطوفان آية وعبرة للمؤمنين من الأقوام التي أتت بعدهم إلى يوم الدين. فجعل الآية والعبرة لما يؤول إليه عاقبة أمر كل مكذب ومصدق، فعاقبة المكذبين الهلاك، وعاقبة المؤمنين الصادقين النجاة106.
فها هم الأنبياء والرسل الذين بعثهم الله تعالى بعد نوح عليه السلام يذكرون أقوامهم الذين بعثوا فيهم وأرسلوا إليهم، بالاتعاظ والاعتبار من قوم نوح، فأولهم كان هودًا عليه السلام، فعندما عرض دعوته ونبوته على قومه رفضوا وكذبوا، فقال لهم: (ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ) [الأعراف:٦٩].
والمعنى: كيف تعجبون من أمرٍ ليس فيه داعٍ للتعجب، وهو أن الله تعالى أرسل إليكم رجلًا منكم تعرفون صدقه وأمانته، يذكركم بما فيه مصلحة لكم، ويحثكم على ما فيه نفعكم، فتعجبتم منه؟! ثم عدد عليهم نعم الله عز وجل حيث مكن لهم في الأرض، وجعلهم يخلفون قوم نوح الذين كذبوا رسولهم، ثم ذكرهم بالنعمة التي خصها الله تعالى فيهم من قوة الأجساد، وشدة البطش، فهو يذكرهم بنعم الله الواسعة عليهم؛ لعلهم يؤدون حق الله جل جلاله فيها بالشكر، فيفوزوا بما وعدهم الله تعالى به، وينجون من عذاب الله تعالى107.
وها هو شعيب عليه السلام، عندما عرض دعوته على قومه كذبوه، فقال لهم مذكرًا إياهم بما حل بالأقوام السابقة التي كذبت أنبياء الله ورسله: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ) [هود:٨٩].
والمعنى: يا قوم -وناداهم بهذا اللفظ المشعر بحرصه عليه السلام على هداية قومه ونجاتهم من عذاب الله تعالى- لا تحملنكم معاداتكم للحق ومعاندتكم لي على استمراركم في العصيان، فيصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح من الغرق، وما أصاب قوم هود من ريح صرصر عاتية، وما أصاب قوم صالح من صيحة تبعتها رجفة، وما أصاب قوم لوط من جعل عالي القرية سافلها وإمطارهم بحجارة من سجيل108.
وها هو موسى عليه السلام، يذكر قومه بني إسرائيل بما أنعم الله تعالى عليهم من نعمة الإنجاء من آل فرعون، لما كانوا يولونهم سوء العذاب، ويكلفونهم مشاق الأعمال، ويذبحون أبناءهم، ويستحيون نساءهم، وفي هذا امتحان وبلاء عظيم اختبرهم الله به؛ ليعظم شكرهم، ثم بين لهم موسى عليه السلام أنه إذا شكروا الله تعالى على نعمائه فإنه سوف يزيدهم من النعم والعطايا، أما إن قابلوا هذه النعم بالكفر والعصيان فإن عذاب الله تعالى شديد، ثم ذكرهم موسى عليه السلام بمن سلف قبلهم من الأقوام الذين عذبهم الله عز وجل بسبب كفرهم وعصيانهم، فقال الله تعالى على لسانه: (ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑﮒ ﮓ ﮔ ﮕﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ) [إبراهيم:٩].
أي: ألم يأتكم خبر الأقوام السابقة ماذا فعل الله عز وجل بهم حين عصوا أنبياءهم، قوم نوح، وعاد، وثمود، والذين من بعدهم أمم كثيرة لا يعلمها إلا الله تعالى؛ لكثرة أعدادهم واندراس آثارهم، فوضعوا أيديهم على أفواههم من باب التعجب والاستهزاء بأنبيائهم، أو لإسكات أنبيائهم، فيمنعون أنبياءهم من الكلام، أو ردوا نعم الأنبياء عليهم، وهي متمثلة في مواعظهم وشرائعهم التي أتوا بها من عند الله عز وجل، فكذبوها، ولم يمتثلوا لأمر أنبيائهم، ولم يكتفوا بهذا فحسب بل صرحوا بالكفر، وقالوا: إن الذي تدعوننا إليه من التوحيد والإيمان يجعل النفس لا تطمئن إليه أبدًا109.
واستتباعًا لتذكير موسى عليه السلام لبني إسرائيل بعاقبة الأقوام السابقة يظهر موقف الرجل المؤمن الذي هو من آل فرعون، ولكنه كان يكتم إيمانه عن فرعون؛ خشية قتله.
فعندما عزم فرعون وملؤه على قتل موسى عليه السلام أنكر الرجل المؤمن عليهم ذلك قائلًا: كيف تقتلون رجلًا يقول: ربي الله، وقد جاءكم بالآيات الواضحات، والمعجزات الظاهرات، فإن فرضنا كذبه فيما يدعي فإن إثم كذبه يعود عليه وحده لا عليكم، أما إن كان صادقًا فسوف يصيبكم بعض الذي يتوعدكم من العذاب. ثم ذكر لهم أنهم لهم الملك اليوم، وهم ظاهرون وعالون في الأرض، فمن سوف ينصرهم من عذاب الله وبطشه؟ فرد عليه فرعون بأن ما يشيره على قومه -من قتل موسى- هو الرأي السديد. حينئذٍ رد الرجل المؤمن بقوله: (ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ) [غافر:٣٠-٣١].
أي: أخاف عليكم مثل اليوم الذي أنزل الله تعالى فيه العذاب على الأقوام الذين تحزبوا على أنبيائهم، مثل قوم نوح، وعاد، وثمود، والذين من بعدهم ممن كذبوا أنبياءهم، فعذبهم الله عز وجل بسبب كفرهم وعنادهم عن قبول الحق والاستجابة له110.
وأخيرًا هذا نبينا خاتم الأنبياء والرسل محمد صلى الله عليه وسلم، يذكر الكفار من قريش وغيرها بقول الله تعالى: (ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂﮃ ﮄ ﮅ ﮆﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ) [التوبة:٧٠].
والمعنى: لقد أتاهم خبر الأقوام الماضية كيف أهلكهم الله عز وجل حين خالفوا أمره وعصوا رسله، أمثال قوم نوح، فقد أهلكهم بالطوفان، وعاد أهلكهم بالريح العقيم، وثمود أهلكهم بالرجفة، وقوم إبراهيم أهلكهم بسلب النعمة، وأهلك النمرود ببعوضة، وقوم شعيب بعذاب يوم الظلة، والمؤتفكات التي هي قرى قوم لوط أهلكها الله تعالى بالخسف.
وخص الله تعالى ذكر إهلاك هؤلاء الأقوام؛ لأن آثارهم باقية، وبلادهم الشام والعراق واليمن قريبة من بلادهم الحجازية، وكانوا يمرون عليها، ويعرفون أمرها، فإن هؤلاء الأقوام أتتها رسل الله عز وجل بالمعجزات الباهرات على صدقهم في دعوتهم، ولكنهم كذبوهم وخالفوا أمرهم، فاحذروا أيها الكفار أن يصيبكم مثل ما أصابهم، فتعجل عليكم العقوبة كما عجلت عليهم، وليست هذه العقوبة إلا بسبب ظلمهم لأنفسهم111.
وفي موضع آخر يسلي الله عز وجل نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم -وهو أشرف الخلق- بالأنبياء والرسل السابقين الذين كذبهم أقوامهم ورفضوا الاستجابة لدعوتهم، فيقول جل جلاله: (ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ) [الحج:٤٢-٤٦].
والمعنى: لا تحزن يا أكرم الرسل على تكذيب قومك لك، فلست وحدك الذي كذبه قومه، فإن الأمم السابقة جميعهم قد كذبوا أنبياءهم ورسلهم، فكذب نوح وهود وصالح وإبراهيم ولوط وشعيب وموسى -عليهم السلام أجمعين- فأمهلت هؤلاء الأقوام حتى أخذتهم بعذاب الاستئصال، فانظر يا سيد الرسل، كيف غيرت حياتهم من العمار إلى الخراب! والآن أغفل أهل مكة فلم يسافروا في تجاراتهم فتكون لهم قلوب يعقلون بها ويعتبرون بها سنة الله تعالى في الكون فيوحدوه؟! أو تكون لهم آذان يسمعون بها أخبار النبي محمد صلى الله عليه وسلم ؟ ثم أكد الله تعالى على أن الأبصار لا تعمى، فليس الخلل في حواسهم، بل هو في عقولهم عندما اتبعوا أهواءهم، وانهمكوا في غفلتهم، واعتمدوا في ذلك على تقليدهم الأعمى لدين آبائهم وأجدادهم، وهي الأصنام والأوثان التي كانوا يعبدونها من دون الله عز وجل 112.
أولًا: نوح عليه السلام وابنه:
عندما أمر الله تعالى نوحًا عليه السلام بصناعة السفينة؛ لينجيه والذين آمنوا معه من العقاب الذي سوف يحل على المشركين من قومه، نفذ نوح عليه السلام أمر ربه عز وجل، وعندما انتهى من صناع أمره الله تعالى أن يحمل فيها ذكرًا وأنثى من كل نوع من الحيوانات والطيور، وكذلك يحمل فيها أهله المؤمنين معه، حينئذٍ نادى نوح عليه السلام ابنه وكان كافرًا؛ ليركب معه في السفينة، فلن ينجو اليوم أحدٌ من عذاب الله عز وجل إلا من هو داخل السفينة، فحملته الشفقة على مناداة ابنه؛ للركوب معه.
قال جل جلاله: (ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ) [هود:٤٢-٤٣].
وكان هذا النداء قبل حدوث الغرق، ولكن ابنه أجاب على هذا النداء الذي يحمل معنى الرحمة والشفقة وعاطفة الأبوة، أجاب بكل عنادٍ وتكبرٍ وصلف، فقال: سأحتمي وأتحصن بجبل يمنعني ارتفاعه من وصول الماء إلي. فرد عليه أبوه نوح عليه السلام بأن هذا اليوم ليس كأي يوم عادي، بل هو يوم قد حق فيه العذاب، وهو واقع لا محالة، فليس هناك عاصم أو مانع من نفاذ أمر الله جل جلاله إلا من قدر الله تعالى له الهداية من قبل فكان من المؤمنين، وفي أثناء هذا الحوار بين الأب وابنه بدأ الماء بالارتفاع حتى حال الموج بينهما، فتعذر على نوح عليه السلام إقناعه بالركوب معه؛ ليخلص وينجو من الغرق، فكان ابنه من ضمن من أصابه الطوفان فغرق113.
ويلاحظ من هذا أن ابن نوح كان عنده عجبٌ وغرور كبير بنفسه، والعجب كما عرفه الجرجاني بقوله: «هو عبارة عن تصور استحقاق الشخص رتبةً لا يكون مستحقًًّا لها»114، كما عرفه الإمام الغزالي فقال: «هو استعظام النعمة والركون إليها مع نسيان إضافتها إلى المنعم»115.
فقد اغتر بنفسه، وأنه ابن نبي الله تعالى، ولكن هذا النسب لم ينفعه؛ لأنه خلا من الإيمان بالله تعالى والعمل الصالح، وفي المجتمع أناسٌ كثيرون يزعمون أنهم أفضل من العلماء والفقهاء، وهم جاهلون بكتاب ربهم جل وعلا.
وبعد انتهاء هذا الحدث الجسيم دفعت عاطفة الأبوة نبي الله نوحًا عليه السلام أن يسأل الله تعالى عن مصير ابنه الذي غرق، قال عز وجل: (ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ) [هود:٤٥].
أي: يا رب إن ابني هذا من أهلي الذين وعدتني بنجاتهم عندما أمرتني بحملهم في السفينة، وذلك عندما قال الله عز وجل: (ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ) [هود:٤٠].
فأجابه الله تعالى بقوله: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ) [هود:٤٦].
أي: يا نوح، إنه ليس من أهلك الذين أمرتك بحملهم في السفينة؛ لإنجائهم، والسبب في ذلك أنه كان يعمل أعمالًا غير صالحة، فقد التزم الفساد منهجًا في حياته، وتنكب عن طريق الهداية والصلاح.
ثم نهاه الله تعالى عن سؤال ما ليس له به علم صحيح، فيكون من زمرة الجاهلين، فيسألون الله تعالى إبطال حكمته وتقديره في خلقه إجابةً لشهواتهم وأهوائهم.
وبعد هذا النهي الصريح طلب نوح عليه السلام المغفرة من ربه فقال: (ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ) [هود:٤٧].
أي: يا رب، إني ألجأ إليك وأحتمي بك من أن أسألك في المستقبل سؤالًا ليس لي به علم، وإن لم تغفر لي ذنب هذا السؤال الذي كان من باب شفقتي على ابني ومن باب طمعي في رحمتك أكن من الخاسرين فيما كان مني من محاولة إنجاء أبنائي كلهم116.
ويلاحظ من هذا أن نوحًا عليه السلام اجتهد فأخطأ؛ لذلك لم يقره الله تعالى على خطئه، بل عاتبه وأرشده إلى الاستغفار. وقد يستعظم البعض نسبة الخطأ إلى الأنبياء، متوهمين أن الخطأ هو الإثم، أو الانحراف الذي يتنافى مع عصمة الأنبياء الثابتة لهم، فليس المقصود بالخطأ هذا المعنى، بل المقصود به هو عدم مطابقة اجتهاد النبي لما هو الكمال الثابت في علم الله جل جلاله117.
ثانيًا: نوح عليه السلام وزوجته:
تحدث القرآن الكريم عن امرأة نوح عليه السلام في سياق الذم والإنكار لما بدر منها، فقال الله عز وجل: (ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ) [التحريم:١٠].
وحقيقة الخيانة هي: «عمل من اؤتمن على شيء بضد ما اؤتمن لأجله بدون علم صاحب الأمانة»118.
وتفسير الآية ومعناها: أن الله عز وجل ضرب مثلًا للذين كفروا في مخالطتهم للمسلمين ومعاشرتهم، فإن هذه المخالطة والمعاشرة لا تجدي عن الكافرين شيئًا، ولن تنفعهم عند الله عز وجل إن لم تكن قلوبهم مليئة بالإيمان بالله جل جلاله، وذكر مثلًا على ذلك هما امرأتا نوح ولوط عليهما السلام فكانتا زوجتين لنبيين، يصاحبانهما في الليل والنهار، ويؤاكلانهما، ويعاشرانهما أشد المعاشرة والاختلاط، ولكنهما خانتا زوجيهما في الإيمان، حيث لم تؤمنا بنبوة ورسالة زوجيهما.
فهذه العشرة والصحبة للنبيين لم تجد عنهما شيئًا، ولم تدفع عنهما محذورًا؛ لأنهما كافرتان؛ لذلك قيل لهما: (ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ). فلا يراد بالخيانة:الخيانة الزوجية، فإن نساء الأنبياء جميعًا -وإن كن كافرات- معصومات عن الوقوع في الفاحشة؛ لحرمة أزواجهن الأنبياء119.
وذكر الرازي أن خيانة امرأة نوح ولوط -عليهما السلام- كانت في نفاقهما وإخفائهما الكفر، وكانتا تعينان قوميهما على زوجيهما الرسولين، فامرأة نوح قالت لقومه: إنه مجنون. وامرأة لوط كانت تدل قومها على ضيوف زوجها؛ لفعل الفاحشة بهم120.
وأخيرًا يظهر من هذا المبحث أن عذاب الله عز وجل وعقابه لا يمكن أن يدفع بالوسيلة، لا بشفقة الأب على ابنه، ولا بكون المرأة زوجة لنبي، بل يدفع بطاعة الله جل جلاله وحده.
إن دعوة نوح عليه السلام معرضةٌ الآن للخطر والتهديد من قومه؛ فلهذا السبب أوحى الله تعالى إليه أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن واستجاب. فلجأ نوح عليه السلام متضرعًا إلى الله عز وجل شاكيًا إياه ما أصاب دعوته، مناجيًا إياه أن ينصر دعوة الحق، ويهلك الظالمين، فاستجاب الله تعالى لنبيه نوح عليه السلام، وأمره بصناعة الفلك قائلًا: (ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌﰍ ﰎ ﰏ ﰐ) [المؤمنون:٢٧].
أي: أوحى الله تعالى إليه صناعة السفينة، والله تعالى حافظٌ له؛ لئلا يفسدها عليه قومه. وأثناء صناعته لها كان نوح عليه السلام يلاقي من قومه السخرية والاستهزاء، فلم يبال بصنيعهم هذا ولم يكترث له، بل ذكر لهم أنهم سوف يعلمون من الأولى بهذه السخرية عندما يحل عليهم عذاب الله عز وجل بالطوفان فيهلكوا ويغرقوا جميعًا. وبهذا يعد نوح عليه السلام أول من صنع السفينة؛ لذلك سخر منه قومه، ولو كان يصنع شيئًا عاديًّا معروفًا لما سخروا منه121.
وأعطاه الله تعالى علامةً يعرف بها إرادة الله عز وجل عند وقوع العذاب على قومه، وهي فوران التنورالذي هو موضع الناربالماء. حينئذٍ أمره الله تعالى إذا رأى هذه العلامة أن يدخل في السفينة من كل حيوان موجود في عصره فردين مزدوجين، ذكرًا وأنثى؛ حتى لا ينقطع نسل ذلك الحيوان. كما أمره أن يدخل في السفينة من أهل بيته المؤمنين فقط، أما الكافرون منهم فمحكومٌ عليهم بالغرق والهلاك لا محالة، ويدخل كذلك الذين آمنوا معه وصدقوه من قومه122.
وذكر الله تعالى أن سفينة نوح عليه السلام كانت مملوءةً بالمؤمنين، والحيوانات التي أمره الله تعالى بحملها معه123، فقال: (ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ) [الشعراء:١١٩].
وبعد أن تجهز نوح عليه السلام، واستعد لأمر الله تعالى عندها أمر الله عز وجل السماء أن تنزل المطر الكثير على غير العادة، والأرض أن تتفجر كلها حتى التنور الذي لم تجر العادة بوجود الماء فيه؛ لأنه موضع للنار وليس للماء، فالتقى ماء السماء مع ماء الأرض بأمر الله عز وجل بذلك، وكان قد كتب هذا الأمر منذ الأزل عقوبةً لهؤلاء الظالمين الطغاة124، فقال تعالى مصورًا هذا المعجزة: (ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ) [القمر:١١-١٢].
أما نوح عليه السلام ومن معه فقد قال الله تعالى في نجاتهم: (ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ) [القمر:١٣-١٤].
أي: حمله الله تعالى ومن معه على السفينة، ووصف الله تعالى طريقة صناعتها، فهي ذات ألواح خشبية، مثبتة بالدسر، وهي المسامير التي سمرت بها الألواح وشد بها أسرها، ولكن مهما أحكمت هذه الألواح بالمسامير، فإنه لا بد أن يظل بينها مسام، ويتسرب منها الماء، فيؤدي إلى الغرق، فكيف السبيل إلى تفادي ذلك خصوصًا في تلك العصور البدائية؟! فقالوا: لا بد لصانع الفلك أن يجفف الخشب جيدًا قبل تصنيعه، فإذا ما نزل الخشب الماء يتشرب منه، فيزيد حجمه ويسد هذه المسام تمامًا، هذا بالإضافة إلى ربطها بالحبال وضم بعضها إلى بعض.
فمن علم نوحًا هذه الأمور الدقيقة؟ إنه الله جل جلاله، لم يترك نبيه يفعل ما يشاء في صناعتها، إنما تابعه ولاحظه، ووجهه إلى كيفية صناعتها، وحدد له المواد المستخدمة فيها125.
وخلاصة القول: إن الله تعالى نجى نبيه نوحًا عليه السلام والمؤمنين معه بهذه السفينة التي صنعها بحفظ الله ورعايته، وكانت أيضًا تجري بأمره، وترسو كذلك بأمره، فلم يخافوا الغرق مع ما كان من أمواج هائلة، جزاءً من الله تعالى لنوح عليه السلام؛ لأنه هو المكفور به126.
وبعد هلاك الكافرين تمامًا أمر الله تعالى الأرض والسماء فقال لهما: (ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ) [هود:٤٤].
والمعنى: أمر الأرض أن تبلع الماء الذي عليها، وأمر السماء أن تقلع عن إنزال المطر، فنقص الماء حتى ذهبت زيادته عن الأرض، واستوت السفينة على جبل الجودي127.
ثم خاطب الله تعالى نوحًا عليه السلام بقوله: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ) [المؤمنون:٢٨].
أي: إذا استقر بك المقام وبمن معك من المؤمنين في السفينة فاحمد الله تعالى أنت وهم أن أنقذكم ونجاكم من هؤلاء الكافرين المشركين الظالمين128.
ثم أمره الله تعالى أن ينزل من السفينة ويدعو الله عز وجل دعاءً مقرونًا بالثناء، فقال: (ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ) [المؤمنون:٢٩].
أي: أنزلني مكانًا تبارك لي فيه، وتعطيني الزيادة فيه لخير الدارين، وأنت يا رب خير من ينزل عباده الطائعين له المنازل الطيبة؛ لأنك تحفظه في سائر أحواله، وتدفع عنه المكاره حسب ما تقتضيه حكمتك العلية129.
فنزل نوح عليه السلام بأمن وسلامة من الله تعالى وخيرات وبركات كثيرة عليه، فقال تعالى: (ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ) [هود:٤٨].
ومن هذه الخيرات والبركات أن الله تعالى جعل ذريته هي الباقية إلى يوم القيامة، وهذه البركات أيضًا على ذرية أمم ممن كانوا معه في السفينة. أما الأمم الكافرة، فسوف يمتعها الله تعالى في الدنيا، ثم يجازيهم العذاب الأليم في الآخرة130.
والحكمة من ذكر السفينة أن الله تعالى جعلها علامةً على قدرته ووحدانيته، فهو الأحق والأجدر بالعبودية، فقال جل جلاله: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ) [العنكبوت:١٥].
أي: جعلها عبرة عظيمة لمن يعتبر. وفي كونها آية وجهان:
الأول: أنها باقية على جبل الجودي مدة طويلة.
الثاني: أن الله تعالى سلمها من الرياح المزعجة.
فالضمير في (وجعلناها) إما راجع إلى السفينة، أو إلى الواقعة أو الحادثة التي اشتملت على نجاة المؤمنين وهلاك الكافرين بالغرق131. وقال الماتريدي عند تفسير قوله تعالى: (ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ) [هود:٤٢].
«هذا يدل على أنها كانت آية؛ لأن الأمواج تمنع من جريان السفينة وسيرها، فإذا أخبر أنها لم تمنع هذه من جريانها دل أنه أراد أن تصير آية لهم»132.
وأخيرًا فإن الله تعالى يذكر الكافرين في عصر النبي محمد صلى الله عليه وسلم بطغيان الماء وتجاوزه حده في زمن نوح عليه السلام حتى علا كل شيء وارتفع فوقه، فنجاهم وحملهم في السفينة؛ ليجعل هذه الحادثة عظةً للناس وعبرةً تدل على انتقام الله تعالى ممن كذب رسله، فتحفظها أذن واعية للمواعظ133، فقال تعالى: (ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ) [الحاقة:١١].
وإذا سأل سائلٌ: كيف يمتن الله عز وجل على كفار مكة بحملهم في سفينة نوح عليه السلام ؟ والجواب: أنه في نجاة الذين كانوا في السفينة من المحمولين نجاة لذريتهم. فكـأن الله تعالى حمل المخاطبين من قريش بحمل أولئك الناجين من هلاك الطوفان134.
نوح عليه السلام والنبوة في ذريته
يقول الله عز وجل: (ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ) [آل عمران:٣٣-٣٤].
وتم الحديث عن معنى الاصطفاء ومسوغاته، وعن معنى قوله: (ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ)، أي: كان الأنبياء والمرسلون من سلالة نوح عليه السلام، وتتابع المختارون بعده135.
وفي سياق الثناء على إبراهيم عليه السلام من إعطائه الحجة الدامغة القوية التي أعطاها الله تعالى إياه؛ ليلزم بها قومه ويقنعهم به، فرفع بها درجته، حيث أعطاه النبوة التي هي أعلى الدرجات، فقال عز وجل معددًا نعمه على إبراهيم عليه السلام، حيث جعله أشرف الناس، و الأنبياء والرسل من ذريته، وأبقى له هذه الكرامة إلى يوم القيامة، فقال: (ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ) [الأنعام:٨٣-٨٤].
فقد وهب الله تعالى لإبراهيم عليه السلام إسحاق، وجعله نبيًا، وجعل يعقوب عليه السلام من ذرية إسحاق عليه السلام. وقوله: (ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ)، أي: هدينا جد إبراهيم عليه السلام، وهو نوح عليه السلام، إلى مثل ما هدينا به إبراهيم عليه السلام وذريته، فقد آتاه الله تعالى النبوة والحكمة وهداية الخلق إلى الطريق المستقيم، وإذا كان الله تعالى قد امتن على إبراهيم عليه السلام بجعل النبوة في ذريته فقد امتن عليه من قبل إذ أخرجه من أصلاب آباء طاهرين كنوح عليه السلام وإدريس عليه السلام، فإبراهيم عليه السلام من ذرية نوح عليه السلام، فهو كريم الآباء شريف الأبناء136. فإذا علم هذا فإن النبوة كلها قد جعلت في ذرية نوح عليه السلام.
ويزيد هذا المعنى قوةً ما ورد في قوله عز وجل: (ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸﭹ ﭺ ﭻﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ) [الحديد:٢٦].
أي: جعل الله تعالى النبوة والكتب السماوية في أولاد كلٍّ من نوح عليه السلام،وإبراهيم عليه السلام. فهودٌ وصالحٌ وشعيبٌ وإبراهيم ولوط من ذرية نوح عليه السلام، وإسماعيل وإسحاق، وباقي الأنبياء من ذرية إبراهيم عليه السلام 137.
وإذا كان إبراهيم عليه السلام من ذرية نوح عليه السلام فإبراهيم وذريته كلها من ذرية نوح عليه السلام.
إن قصة نوح عليه السلام من القصص القرآني الحق الذي قصه الله تعالى على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، حيث قال: (ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ) [يوسف:٣].
وهي تحمل الكثير من الهدايات والعبر والمواعظ، ومنها:
الأول: الاستناد والركون إلى قوة الله القوي العزيز.
الثاني: أمر قومه بعبادة الله تعالى وحده.
الثالث: أمر قومه بالإيمان باليوم الآخر عندما خوفهم عذاب الله تعالى.
الركن الأول: الندم على ما فات، وهذا في قوله: (ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ) [هود:٤٧].
الركن الثاني: الإقلاع عن الذنب، وهذا مفهومٌ من قوله: (ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ)، فقد ندم على سؤاله، وأقلع عن ذنبه؛ ولذلك طلب المغفرة والرحمة من الله عز وجل.
الركن الثالث: العزم على الترك، وهذا في قوله: (ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ) [هود:٤٧].
فنوح عليه السلام يستعيذ بالله تعالى أن يسأله مرة أخرى شيئًا في المستقبل.
موضوعات ذات صلة: |
آدم عليه السلام، إبراهيم عليه السلام، الدعوة، عيسى عليه السلام، محمد صلى الله عليه وسلم، موسى عليه السلام، النبوة |
1 قصص الأنبياء، ابن كثير، ١/٧٤.
2 انظر: الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، ٤/٦٢، تفسير المنار، محمد رشيد رضا، ٧/٤٨٨.
3 انظر: الدر المنثور، السيوطي، ٦/٤٣٦، التفسير المظهري، محمد ثناء الله المظهري، ٣/٣٦٧، فتح البيان، صديق خان، ٩/١١١.
4 انظر: زاد المسير، ابن الجوزي، ١/٣٧٤، التفسير المظهري، محمد ثناء الله المظهري، ٣/٣٦٧.
5 انظر: المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، محمد فؤاد عبد الباقي، ص ٧٢٢ وما بعدها.
6 انظر: التفسير الوسيط، محمد سيد طنطاوي، ١٠/١٥٨٨.
7 انظر: تيسير الكريم الرحمن، السعدي، ص٨٨٨.
8 انظر: تفسير القرآن الكريم، ابن عثيمين، ١٢/٥، التفسير المنير، الزحيلي، ٢٩/١٣٣.
9 أخرجه الحاكم في مستدركه على الصحيحين، كتاب التفسير، وقال: صحيح على شرط البخاري، ٢/٤٤٢.
10 انظر: جامع البيان، الطبري، ٤/٢٧٥، تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، ١/٤٢٥.
11 روح المعاني، الألوسي، ٣/١٣٢.
12 انظر: تيسير الكريم الرحمن، السعدي، ص٧٠٥، التفسير المنير، الزحيلي، ٢٣/١٠٦، التفسير الميسر، نخبة من أساتذة التفسير، ص٤٤٩، التفسير الحديث، محمد عزت دروزة، ٤/٢١٨.
13 نظم الدرر، البقاعي، ١٦/٢٤٧.
14 انظر: نظم الدرر، البقاعي، ١٧/٥٥، التفسير الواضح، محمد حجازي، ٣/٢٤.
15 انظر: إرشاد العقل السليم، أبو السعود، ٦/٧٨.
16 انظر: التفسير الوسيط، الزحيلي، ٣/٢١٧٦.
17 انظر: التسهيل لعلوم التنزيل، ابن جزي، ٢/١٩٣.
18 زاد المسير، ابن الجوزي، ٣/٥٤٤.
19 انظر: جامع البيان، الطبري، ٢١/٥٨.
20 انظر: صفوة التفاسير، الصابوني، ٣/٣٤.
21 انظر: الهداية إلى بلوغ النهاية، مكي بن أبي طالب، ٩/٦١١٧.
22 انظر: مفاتيح الغيب، الرازي، ٢٦/٣٣٩.
23 زهرة التفاسير، ٨/٤٣٣١.
24 انظر: مفاتيح الغيب، الرازي، ٢٦/٣٤٠، فتح القدير، الشوكاني، ٤/٤٥٩.
25 انظر: الكشاف، الزمخشري، ٤/٤٨، مفاتيح الغيب، الرازي، ٢٦/٣٤٠.
26 انظر: المحرر الوجيز، ابن عطية، ٤/٤٧٧، التفسير الواضح، محمد حجازي، ٣/٢١١.
27 انظر: تفسير الشعراوي، ١٠/٦٠٩٤.
28 انظر: فنح القدير، الشوكاني، ٢/٢٥٢.
29 انظر: تفسير الشعراوي، ١٠/٦١٠٠.
30 في ظلال القرآن، ٣/١٨١١.
31 انظر: المصدر السابق ٣/١٨١١.
32 تفسير المنار، ١١/٣٧٦.
33 انظر: التحرير والتنوير، ابن عاشور، ١٥/٢٧، زهرة التفاسير، أبو زهرة، ٨/٤٣٣١.
34 أخرجه الحاكم في المستدرك، كتاب التفسير، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ٢/٣٦٠.
35 انظر: التحرير والتنوير، ابن عاشور، ١٥/٢٧، تيسير الكريم الرحمن، السعدي، ص٤٥٣.
36 انظر: نظم الدرر، البقاعي، ٢٠/٤٥٩.
37 انظر: فتح القدير، الشوكاني، ٥/٣٦١، الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، ١٨/٣١٣.
38 انظر: الكشاف، الزمخشري، ٤/٦٢١، لباب التأويل، الخازن، ٤/٣٤٧، تيسير الكريم الرحمن، السعدي، ص٨٨٩.
39 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الوصية، باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته، عن أبي هريرة، رقم ١٦٣١، ٣/١٢٥٥.
40 انظر: أسس الدعوة وآداب الدعاة، محمد السيد الوكيل، ص٩٣.
41 انظر: التفسير المنير، الزحيلي، ١١/٢٢٩.
42 انظر: تيسير الكريم الرحمن، السعدي، ص٣٦٩.
43 ذكره الألباني في كتاب تخريج أحاديث مشكلة الفقر وكيف عالجها الإسلام، رقم ٣٤، وقال: لم أره مرفوعًا. ١/٢٨.
44 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب البيوع، باب كسب الرجل وعمله بيده، عن المقدام، ٣/٥٧، رقم ٢٠٧٢.
45 التعريفات، ص٢٥٧.
46 انظر: علو الهمة، محمد المقدم، ١/١٢٨.
47 انظر: محاسن التأويل، القاسمي، ٨/٢١٤.
48 انظر: تفسير الشعراوي، ١٧/١٠٦٢٦، التفسير المنهجي، صلاح الخالدي، ٧/١٠٣.
49 انظر: تيسير الكريم الرحمن، السعدي، ص٦٥٩، التفسير الوسيط، طنطاوي، ١١/١٧٨.
50 انظر: التفسير الوسيط، طنطاوي، ١١/١٧٨.
51 انظر: فتح القدير، الشوكاني، ٤/٣٠٤.
52 انظر: تأويلات أهل السنة، الماتريدي، ٨/٧٠، الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، ١٣/١١٩.
53 انظر: جامع البيان، الطبري، ١٩/٣٦٩، تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، ٦/١٥١، وتأويلات أهل السنة، الماتريدي، ٨/٧٠.
54 انظر: تيسير الكريم الرحمن، السعدي، ص٢٩٢، التفسير الميسر، نخبة من أساتذة التفسير، ص١٥٨.
55 تيسير الكريم الرحمن، السعدي، ص٢٩٢.
56 انظر: صفوة التفاسير، الصابوني، ١/٤١٩.
57 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، ٣/٤٣٢.
58 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب بيان أن الدين النصيحة، عن تميم الداري، ١/٧٤، رقم ٩٥.
59 انظر: الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، ٨/٣٦٥.
60 انظر: مدارك التنزيل، النسفي، ٢/٥٥.
61 تفسير الشعراوي، ١٠/٦١٠٦.
62 انظر: لطائف الإشارات، القشيري، ٢/١٣٣.
63 انظر: في ظلال القرآن، سيد قطب، ٤/١٨٧٤، التفسير المنير، الزحيلي، ١٢/٥٧.
64 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب الصفات التي يعرف بها أهل الجنة وأهل النار، عن قتادة، ٤/٢١٩٨، رقم ٦٤.
65 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب البر والصلة والآداب، باب استحباب العفو والتواضع، عن أبي هريرة، ٤/٢٠٠١، رقم ٦٩.
66 انظر: فتح القدير، الشوكاني، ١/٣٨٣، الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، ٤/٦٤، مفاتيح الغيب، الرازي، ١١/٢٦٦، التسهيل لعلوم التنزيل، ابن جزي، ١/١٤٩، إرشاد العقل السليم، أبو السعود، ٢/٢٥٥.
67 انظر: تيسير الكريم الرحمن، السعدي، ص١٢٨.
68 انظر: التفسير الموضوعي ٢، مناهج جامعة المدينة العالمية، ص٣٦٦.
69 انظر: تأويلات أهل السنة، الماتريدي، ٤/٤٦٨.
70 انظر: تيسير الكريم الرحمن، السعدي، ص٢٩٢.
71 انظر: الكشاف، الزمخشري، ٢/١١٣، فتح القدير، الشوكاني، ٢/٢٤٧.
72 انظر: معالم التنزيل، البغوي، ٣/٢٤١.
73 انظر: التفسير الوسيط، سيد طنطاوي، ١٥/١١٩، ١٢١.
74 انظر: الحكمة في الدعوة إلى الله تعالى، سعيد القحطاني، ٢/٤٨٨.
75 انظر: صفوة التفاسير، الصابوني، ٣/٤٢٨.
76 انظر: مفهوم الحكمة في الدعوة، صالح بن عبد الله بن حميد، ص٥٩.
77 انظر: التفسير الواضح، محمد حجازي، ٣/٧٥٣.
78 انظر: الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، ١٨/٣٠٣.
79 انظر: موسوعة الأخلاق الإسلامية، مجموعة من الباحثين بإشراف الشيخ علوي بن عبدالقادر السقاف، ٢/٢٠٦.
80 المفردات، الأصفهاني، ص٧٧٦.
81 انظر: الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، ٧/٢٣٤.
82 انظر: فتح القدير، الشوكاني، ٢/٥٦٠.
83 انظر: نظم الدرر، البقاعي، ١٨/١٨.
84 انظر: معاني القرآن، الزجاج، ٢/٣٤٧، جامع البيان، الطبري، ١٢/٥٠٢.
85 انظر: جامع البيان، الطبري، ١٨/٤٧٤.
86 انظر: صفوة التفاسير، الصابوني، ٢/١٢.
87 انظر: فتح القدير، الشوكاني، ٥/١٠٩.
88 انظر: التحرير والتنوير، ابن عاشور، ٨/١٦٥.
89 انظر: فتح القدير، الشوكاني، ٥/٣٦١.
90 انظر: محاسن التأويل، القاسمي، ٩/٣٢٤، تيسير الكريم الرحمن، السعدي، ص٨٨٩.
91 انظر: فتح القدير، الشوكاني، ٥/٣٦٠.
92 انظر: مراح لبيد، محمد بن عمر الجاوي، ٢/٥٦٧.
93 انظر: تيسير الكريم الرحمن، السعدي، ص٨٨٨، مراح لبيد، محمد بن عمر الجاوي، ٢/٥٦٦.
94 انظر: الفواتح الإلهية والمفاتح الغيبية، نعمة الله بن محمود النخجواني، ٢/٤٧.
95 انظر: محاسن التأويل، القاسمي، ٩/٩١.
96 انظر: نظم الدرر، البقاعي، ١٤/٦٦.
97 انظر: تأويلات أهل السنة، الماتريدي، ٨/٧٢.
98 انظر: مفاتيح الغيب، الرازي، ١٤/٥٢١.
99 انظر: نظم الدرر، البقاعي، ١٤/٦٦، مراح لبيد، محمد بن عمر الجاوي، ٢/١٥٤.
100 انظر: البحر المديد، ابن عجيبة، ٥/٥٢٥.
101 انظر: فتح القدير، الشوكاني، ٥/٢٦١.
102 انظر: جامع البيان، الطبري، ١٨/٤٧٤.
103 انظر: فتح القدير، الشوكاني، ٤/٢٢٧.
104 انظر: إرشاد العقل السليم، أبو السعود، ٩/٤١.
105 انظر: اللباب في تفسير الكتاب، ابن عادل الحنبلي، ١٤/٥٣٢.
106 انظر: تأويلات أهل السنة، الماتريدي، ٨/٢٦.
107 انظر: تيسير الكريم الرحمن، السعدي، ص٢٩٤.
108 انظر: زهرة التفاسير، أبو زهرة، ٧/٣٧٤٢.
109 انظر: البحر المديد، ابن عجيبة، ٣/٤٤-٤٧.
110 انظر: أوضح التفاسير، محمد الخطيب، ١/٥٧٤.
111 انظر: لباب التأويل، الخازن، ٢/٣٨٢.
112 انظر: مراح لبيد، محمد بن عمر الجاوي، ٢/٧٥.
113 انظر: فتح القدير، الشوكاني، ٢/٥٦٧.
114 التعريفات، ص١٤٧.
115 إحياء علوم الدين، ٣/٣٧١.
116 انظر: نظم الدرر، البقاعي، ١٢/٤٠.
117 انظر: فقه السيرة النبوية، د. محمد سعيد رمضان البوطي، ص ١٦٥.
118 التحرير والتنوير، ابن عاشور، ٢٤/١١٦.
119 انظر: تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، ٨/١٧١.
120 انظر: مفاتيح الغيب، ٣٠/٥٧٥.
121 انظر: تفسير الشعراوي، ١٣/٧٨٤٨.
122 انظر: تأويلات أهل السنة، الماتريدي، ٧/٤٦٥، مراح لبيد، محمد بن عمر الجاوي، ٢/٨٧.
123 انظر: معاني القرآن وإعرابه، الزجاج، ٤/٩٥.
124 انظر: تيسير الكريم الرحمن، السعدي، ص٨٢٥.
125 انظر: تفسير الشعراوي، ١٦/٩٩٩٦.
126 انظر: تأويلات أهل السنة، الماتريدي، ٦/١٣٣، أوضح التفاسير، محمد الخطيب، ١/٦٥٣.
127 انظر: النكت والعيون، الماوردي، ٢/٤٧٤.
128 انظر: التفسير المنير، الزحيلي، ١٨/٣٥.
129 انظر: المصدر السابق ١٨/٣٦.
130 انظر: معالم التنزيل، البغوي، ٤/١٨١.
131 انظر: فتح القدير، الشوكاني، ٤/٢٢٧.
132 تأويلات أهل السنة، ٦/١٣٣.
133 انظر: صفوة التفاسير، الصابوني، ٣/٤١٢.
134 انظر: تأويلات أهل السنة، الماتريدي، ١٠/١٧١.
135 انظر: التفسير المنهجي، فضل عباس، ٢/٤٤.
136 انظر: نظم الدرر، البقاعي، ٧/١٨١.
137 انظر: أيسر التفاسير، أبو بكر الجزائري، ٥/٢٧٨.