عناصر الموضوع
النفس
أولًا: المعنى اللغوي:
قال ابن فارس: «نفس، النون والفاء والسين أصل واحد يدل على خروج النسيم كيف كان، من ريح أو غيرها، وإليه يرجع فروعه» 1.
ولفظ (النفس) في اللغة يطلق ويراد به معان عديدة، منها:
(النفس) الروح، يقال: خرجت نفسه.
والنفس الجسد، ويقولون: ثلاثة أنفسٍ فيذكرونه؛ لأنهم يريدون به الإنسان.
و(نفس) الشيء عينه يؤكد به، يقال: رأيت فلانًا نفسه وجاءني بنفسه2.
ومن معاني (النفس) أيضًا: العظمة والكبر. و(النفس): العزة. و(النفس): الهمة. و(النفس): الأنفة. و(النفس): عين الشيء وكنهه وجوهره3.
والنفس: في كلام العرب يجري على ضربين: أحدهما: خرجت نفسه، أي: روحه. والثاني: معنى النفس فيه جملة الشيء وحقيقته 4.
ثانيًا: المعنى الاصطلاحي:
النفس في اصطلاح العلماء لها عدة معانٍ، منها:
ما ذكره الجرجاني: « هي الجوهر البخاري اللطيف الحامل لقوة الحياة والحس والحركة الإرادية »5.
وعرفها الملا علي بأنها: « لطيفةٌ في الجسد تولدت من ازدواج الروح بالبدن واتصالهما معًا»6.
قال المناوي: «هي جوهر مشرق للبدن، فعند الموت ينقطع ضوؤه من ظاهر البدن وباطنه»7.
وردت مادة (نفس) في القرآن الكريم (٢٩٨) مرة، يخص موضوع البحث منها (٢٩٥) مرة8.
والصيغ التي وردت، هي:
الصيغة |
عدد المرات |
المثال |
المفرد |
١٤٠ |
(ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ) [البقرة:٤٨] |
الجمع |
١٥٥ |
(ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ) [التكوير:٧] |
وجاءت النفس في القرآن على أربعة أوجه9:
أحدها: القلب: ومنه قوله تعالى: (ﯲ ﯳ ﯴ) [النجم:٢٣] يعني: القلوب.
الثاني: الجنس والنوع، ومنه قوله تعالى: (ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ) [التوبة:١٢٨] يعني: من جنسكم.
الثالث: الإنسان، ومنه قوله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ) [المائدة:٣٢] يعني: الإنسان بالإنسان.
الرابع: الروح: ومنه قوله تعالى: (ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ) [الأنعام:٩٣] يعني: أرواحكم.
الروح:
الروح لغة:
قال ابن فارس: (روح) الراء والواو والحاء أصل كبير مطرد، يدل على سعة وفسحة واطراد. وأصل ذلك كله الريح. وأصل الياء في الريح الواو، وإنما قلبت ياء لكسرة ما قبلها. فالروح روح الإنسان، وإنما هو مشتق من الريح، وكذلك الباب كله. والروح: نسيم الريح. ويقال أراح الإنسان، إذا تنفس10.
الروح اصطلاحًا:
قال السهيلي: «الروح مشتق من الريح وهو جسمٌ هوائي لطيفٌ به تكون حياة الجسد عادةً أجراها الله تعالى»11.
قال العلماء: لا نعلم حقيقتها وهو مما جهل العباد بعلمه مع التيقن بوجوده بدليل قوله تعالى: (ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ) [الإسراء: ٨٥].
ووجود الروح أمر متفق عليه في كل الأديان السماوية، كما قال اليهود لقريش: اسألوا محمدًا عن ثلاثة أشياء فإن أخبركم عن شيئين وأمسك عن الثالث فهو نبي، اسألوه عن أصحاب الكهف وعن ذي القرنين وعن الروح12.
الصلة بين النفس والروح:
تعددت آراء العلماء في تحديد مفهوم النفس والروح، هل النفس هي الروح أو غيرها؟ فكثرت في ذلك الأقوال:
القول الأول: إن الروح هي النفس وأخذوا بظواهر من الأحاديث ألفاظها محتملةٌ للتأويل واتساعاتها في الكلام كثيرةٌ، فمما تعلقوا به في أن الروح هي النفس قول بلالٍ: (أخذ بنفسي الذي أخذ بنفسك)13، مع قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله قبض أرواحنا)14، وقوله عز وجل: (ﭧ ﭨ ﭩ) [الزمر:٤٢].
القول الثاني: أن النفس غير الروح، وهؤلاء يحتجون بأن الله خلق آدم عليه السلام وجعل فيه نفسًا وروحًا، فمن الروح عفافه وفهمه وحلمه وسخاؤه ووفاؤه ومن النفس شهوته وطيشه وسفهه وغضبه ونحو هذا، وقال تعالى عن عيسى عليه السلام: (ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ) [المائدة:١١٦]. فلا يحسن ذكر أحدهما في محل الآخر.
القول الثالث: ذكر السهيلي الخلاف بين العلماء هل الروح هي النفس أو غيرها، ثم جمع بين الأقوال وقرر أن الروح: ذاتٌ لطيفةٌ كالهواء، ساريةٌ في الجسد كسريان الماء في عروق الشجر، وأن الروح التي ينفخها الملك في الجنين هي النفس بشرط اتصالها بالبدن، واكتسابها بسببه صفات مدحٍ أو ذمٍ، فهي إما نفسٌ مطمئنةٌ أو أمارةٌ بالسوء، ثم نبه على التوسع حتى يطلق على الجسد والروح، وجملة ما قاله السهيلي: إن الروح لا يقال هي النفس مطلقًا، بل يفصل بينهما، فالروح أصل النفس ومادتها، والنفس مركبةٌ منها ومن اتصالها بالبدن، فهي هي من وجهٍ لا من كل وجهٍ 15.
وقد أيد ابن كثير هذه المعاني - بتعقيبه على أقوال السهيلي - بقوله: « وهذا معنًى حسنٌ، والله أعلم »16.
الجسد:
الجسد لغة:
قال ابن فارس: «(جسد) الجيم والسين والدال يدل على تجمع الشيء أيضا واشتداده. من ذلك جسد الإنسان»17، والجسد: البدن. تقول منه: تجسد، كما تقول من الجسم: تجسم. والجسد أيضًا: الزعفران أو نحوه من الصبغ، وهو الدم أيضًا18.
الجسد اصطلاحًا:
الجسد: «جسم الإنسان، ولا يقال لغيره من الأجسام المغتذية»19، حيث قال الفراهيدي: «الجسد للإنسان، ولا يقال لغير الإنسان جسدٌ من خلق الأرض» 20.
الصلة بين الجسد والنفس:
اعتبر صاحب تاج العروس أن النفس هي الجسد، حيث قال:« والنفس: الجسد، وهو مجازٌ » 21.
وفي هذا المجال يرى السهيلي أن الإنسان روحٌ وجسدٌ، حيث بين رأيه، ثم علله بقوله: «وقد يعبر بالنفس عن جملة الإنسان روحه وجسده، فتقول: عندي ثلاثة أنفسٍ، ولا تقول: عندي ثلاثة أرواحٍ » 22.
قال ابن جبرين: «فما دامت الروح في الجسد فإنها تسمى نفسًا وتسمى روحًا، فإذا خرجت الروح من الجسد فإنها لا تسمى نفسًا غالبًا، وإن كانت قد تسمى بذلك في مثل قول الله تعالى في سورة الأنعام: (ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ) [الأنعام:٩٣].
يعني: أخرجوا أرواحكم، فإذا خرجت فإنها تقبضها الملائكة وتكفنها، وكذلك قوله تعالى: (ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ) [الزمر:٤٢] فسماها هاهنا نفسًا، فما دامت في الجسد فإنها تسمى نفسًا، الله يتوفاها يعني: يقبضها، وبعد قبضها يغلب عليها اسم الروح، وكذلك في النوم نفس النائم تخرج، ولكنها لا تخرج خروجًا كليًا، بل يبقى أثرها على البدن » 23.
جاء ذكر النفس في حق الله تعالى في مواضع عدة من القرآن الكريم، منها: قوله تعالى: (ﯳ ﯴ ﯵ) [آل عمران:٢٨].
وقوله تعالى: (ﮖ ﮗ ﮘ) [طه:٤١].
وقوله تعالى: (ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ) [المائدة:١١٦].
وقوله تعالى: (ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ) [الأنعام:٥٤].
وجاء ذكرها كذلك في السنة في أحاديث كثيرة، منها:
حديث أبي ذرٍ رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما روى عن الله عز وجل أنه قال: (يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي)24.
حديث عائشة رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وأعوذ بك منك لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك) 25.
حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يقول الله تعالى: (أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي) 26.
ونقل ابن بطال الإجماع على أن نفس الله ذاته، حيث قال: «وما ذكر في الأحاديث من ذكر النفس فالمراد به إثبات نفس لله، والنفس لفظة تحتمل معانٍ، والمراد بنفسه تعالى ذاته، فنفسه ليس بأمر يزيد عليه، فوجب أن تكون نفسه هي هو، وهذا إجماع»27.
أقوال العلماء في النفس: اختلف أهل العلم في النفس المثبتة لله تعالى:
أبو حنيفة النعمان بن ثابت الذي قال في الفقه الأكبر تحت عنوان: «القول في الصفات»:
«وله يد ووجه ونفس كما ذكره الله تعالى في القرآن، فما ذكره الله تعالى في القرآن من ذكر الوجه واليد والنفس فهو له صفات بلا كيف، ولا يقال: إن يده قدرته أو نعمته؛ لأن فيه إبطال الصفة وهو قول أهل القدر والاعتزال، ولكن يده صفته بلا كيف، وغضبه ورضاه صفتان من صفات الله تعالى بلا كيف » 28.
واستدل ابن عادل على جواز تسمية ذات الله بالنفس خلال تفسيره للآية: (ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ) حيث قال:« دلت هذه الآية على جواز تسمية ذات الله سبحانه وتعالى بالنفس، أيضًا قوله تعالى: (ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ) [المائدة:١١٦] يدل عليه، والنفس هنا بمعنى الذات والحقيقة، لا بمعنى الجسم والدم؛ لأنه سبحانه وتعالى مقدسٌ عنه؛ لأنه لو كان جسمًا لكان مركبًا، والمركب ممكن، وذلك باطلٌ؛ لقوله تعالى: (ﭡ ﭢ ﭣ) [الشورى:١١]» 29.
قال ابن عاشور: « وفي جواز إطلاق النفس على ذات الله تعالى بدون مشاكلةٍ خلافٌ» 30.
وما نرجحه هو أن النفس هي ذات الله سبحانه وتعالى المتصفة، دون تشبيه أو تمثيل أو تعطيل.
أولًا: الخلق من نفس واحدة:
جاء ذكر خلق الناس من نفس واحدة في أربع آيات، منها ثلاث بصيغة الخلق: (خلقكم) والرابعة بصيغة الإنشاء: (أنشأكم).
قال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ) [النساء:١].
والمعنى: احذروا أيها الناس ربكم في أن تخالفوا أمره ونهيه، فيحل بكم عقابه، ثم بين عز وجل أنه خلق جميع الناس من شخصٍ واحدٍ، يعني: من آدم، وخلق من النفس الواحدة زوجها؛ أي: امرأتها حواء، فنبههم بذلك على أن جميعهم بنو رجلٍ واحدٍ وأمٍ واحدةٍ، وأن حق بعضهم على بعضٍ واجبٌ وجوب حق الأخ على أخيه؛ لاجتماعهم في النسب إلى أبٍ واحدٍ وأمٍ واحدةٍ، وأن بعد التلاقي في النسب إلى آدم مثل الذي يلزمهم من ذلك في النسب الأدنى؛ ليتناصفوا، ولا يتظالموا؛ وليبذل القوي من نفسه للضعيف حقه بالمعروف، على شرع الله، ثم أسند الطبري هذا القول لعدد من التابعين هم: السدي، وقتادة، ومجاهد 31.
قال ابن كثير: « يقول تعالى آمرًا خلقه بتقواه، وهي عبادته وحده لا شريك له، ومنبهًا لهم على قدرته التي خلقهم بها من نفسٍ واحدةٍ، وهي آدم عليه السلام (ﭚ ﭛ ﭜ) وهي حواء، عليها السلام، خلقت من ضلعه الأيسر من خلفه وهو نائمٌ، فاستيقظ فرآها فأعجبته، فأنس إليها وأنست إليه»32.
وبين القاسمي أن هذا الخلق يعد من قدرة الله الباهرة، وحقيق بالاعتبار، حيث قال عن ذلك: « (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ) أي: اخشوه أن تخالفوه فيما أمركم به أو نهاكم عنه، ثم نبههم على اتصافه بكمال القدرة الباهرة؛ لتأييد الأمر بالتقوى وتأكيد إيجاب الامتثال به على طريق الترغيب والترهيب، بقوله تعالى: (ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ) أي: فرعكم من أصل واحد وهو نفس أبيكم آدم، وخلقه تعالى إياهم على هذا النمط البديع مما يدل على القدرة العظيمة» 33.
وقال تعالى: (ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ) [الأعراف:١٨٩].
وكذلك في هذه الآية المقصود بالنفس الواحدة هو آدم، وزوجها هي حواء، حيث أخرج الطبري عن قتادة « قوله: (ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ) من آدم » ويعني بقوله: (ﭷ ﭸ ﭹ) وجعل من النفس الواحدة وهو آدم زوجها حواء»34.
وقال البغوي:« قوله تعالى: (ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ) يعني: من آدم، (ﭷ) وخلق منها زوجها، يعني: حواء، (ﭺ ﭻ) ليأنس بها ويأوي إليها، فلما تغشاها، أي: واقعها وجامعها حملت حملًا خفيفًا، وهو أن أول ما تحمل المرأة من النطفة يكون خفيفًا عليها، فمرت به، أي: استمرت به وقامت وقعدت به ولم يثقلها»35.
وقال تعالى: (ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ) [الأنعام:٩٨].
معنى الآية: الإنشاء: هو الإحداث والإيجاد، ولم يبين هنا كيفية إنشائهم من نفسٍ واحدةٍ، ولكنه بين ذلك في مواضع أخر بأنه خلق من تلك النفس الواحدة التي هي آدم زوجها حواء، وبث منهما رجالًا كثيرًا ونساءً 36.
ثانيًا: بيان طريق الهداية والضلال:
قال تعالى: (ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ) [الشمس:٧-١٠].
معنى قوله: (ﭨ ﭩ ﭪ) أي: خلقها سويةً مستقيمةً على الفطرة القويمة.
وقوله: (ﭬ ﭭ ﭮ) أي: فأرشدها إلى فجورها وتقواها، وبين لها ذلك، وهداها إلى ما قدر لها، فبين لها الخير والشر37.
وفي ذلك نقل القرطبي أقوالًا متقاربة لابن عباس وبعض التابعين، مفادها أن معنى قوله تعالى: (ﭬ) عرفها طريق الخير وطريق الشر، أي: عرفها الطاعة والمعصية، فإذا أراد الله عز وجل ألهم عبده المؤمن المتقي الخير فعمل به، وإذا أراد به السوء ألهم الفاجر فجوره والشر فعمل به، كما قال: (ﮠ ﮡ ﮢ) [البلد:١٠]38.
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن ذلك لا ينافي وجود الأعمال التي بها تكون السعادة والشقاوة، وأن من كان من أهل السعادة فإنه ييسر لعمل أهل السعادة، ومن كان من أهل الشقاوة فإنه ييسر لعمل أهل الشقاوة.
ونهى صلى الله عليه وسلم أن يتكل الإنسان على القدر ويدع العمل، وكل من اتكل على القدر وترك ما أمر به من الأعمال الواجبة هو من الأخسرين أعمالًا، وكان من جملة أهل الشقاوة الميسرين لعمل أهل الشقاوة؛ لأن أهل السعادة هم الذين يفعلون المأمور ويتركون المحظورة.
ففي صحيح مسلم عن عمران بن الحصين رضي الله عنه، قال:(إن رجلين من مزينة أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا: يا رسول الله أرأيت ما يعمل الناس اليوم، ويكدحون فيه، أشيءٌ قضي عليهم ومضى فيهم من قدرٍ قد سبق، أو فيما يستقبلون به مما أتاهم به نبيهم، وثبتت الحجة عليهم؟ فقال:) لا، بل شيءٌ قضي عليهم ومضى فيهم، وتصديق ذلك في كتاب الله عز وجل:(ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ))39.
ومعنى سواها في قوله: (ﭨ ﭩ ﭪ): خلقها وأنشأها وسوى أعضاءها، والتنكير للتفخيم، و(ﭬ ﭭ ﭮ) أي: عرفها وأفهمها حالهما وما فيهما من الحسن والقبح، وقوله (ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ): هو جواب القسم على الراجح، وقوله: (ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ) أي: خسر من أضلها وأغواها، فأخفاها وأهملها ولم يشهرها بالطاعة والعمل الصالح، والمراد هنا بالنفس إما: جميع ما خلق من الجن والإنس، وقيل: المراد نفس آدم 40.
معنى الإلهام في الآية: اختار الزجاج حمل الإلهام على التوفيق والخذلان، وذلك بتوفيقه إياها للتقوى، وخذلانه إياها للفجور، حيث قال: « علمها طريق الفجور وطريق الهدى، والكلام على أن ألهمها التقوى وفقها للتقوى، وألهمها فجورها خذلها » 41.
قال تعالى: (ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ)[القيامة:١٤-١٥]
المعنى: بل للإنسان على نفسه من نفسه رقباء يرقبونه بعمله، ويشهدون عليه به، يعني: ولو اعتذر بكل عذر وجادل عن نفسه، فإنه لا ينفعه؛ لأنه قد شهد عليه شاهد من نفسه، وقيل: معناه ولو اعتذر فعليه من نفسه ما يكذب عذره، وهذا للإخبار بأن الكافر يعلم ما فعله؛ لأنهم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون، إذ هو قرأ كتاب أعماله، والمقصود بالبصيرة:
وأدخلت الهاء في قوله: (ﯲ) صفةٌ للذكر، وهي التي يسميها أهل الإعراب هاء المبالغة، كالهاء في قولهم: داهيةٌ وعلامةٌ وراويةٌ 42.
والقرطبي أضاف معنىً ثالثًا نسبه إلى السدي والضحاك حين قال:« وقيل المراد بالبصيرة: الكاتبان اللذان يكتبان ما يكون منه من خيرٍ أو شرٍ، يدل عليه قوله تعالى: (ﯴ ﯵ ﯶ) في من جعل المعاذير الستور»43.
كما وأضاف ابن عاشور معنىً رابعًا، وهو قوله: «ويحتمل أن تكون بصيرةٌ صفةً لموصوفٍ محذوفٍ، تقديره: حجةٌ بصيرةٌ، وتكون بصيرةٌ مجازًا في كونها بينةً كقوله تعالى: (ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ) [الإسراء:٥٩].
والتأنيث لتأنيث الموصوف، والمعاذير: اسم جمع معذرةٍ والمعنى: أن الكافر يعلم يومئذٍ أعماله التي استحق العقاب عليها، ويحاول أن يعتذر وهو يعلم أن لا عذر له، ولو أفصح عن جميع معاذيره »44.
ثالثًا: إحاطة علم الله بما في النفس:
قال تعالى: (ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ) [البقرة:٢٣٥].
معنى الآية: واعلموا أيها الناس أن الله يعلم ما في أنفسكم من هواهن، ونكاحهن، فاحذروا الله واتقوه في أنفسكم أن تأتوا شيئًا مما نهاكم عنه من عزم عقدة نكاحهن، واعلموا أن الله ذو سترٍ لذنوب عباده، وتغطيةٍ عليها فيما تكنه نفوس الرجال من خطبة المعتدات، وذكرهم إياهن في حال عددهن، أنه ذو أناةٍ لا يعجل على عباده بعقوبتهم على ذنوبهم 45.
والهاء في قوله (عليه):
فلما هددهم بأنه مطلعٌ على ما في أنفسهم، وحذرهم منه، أردف ذلك بالصفتين (ﮞ ﮟ) ليزيل عنهم بعض روع التهديد والوعيد، والتحذير من عقابه، ليعتدل قلب المؤمن في الرجاء والخوف46.
ويفيد قوله: (ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ) توعد المصرحين بخطبة النساء على ما يقع في ضمائرهم من أمور النساء، وأرشدهم إلى إضمار الخير دون الشر 47.
وقال أبو السعود:«(ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ) من ذوات الصدور التي من جملتها العزم على ما نهيتم عنه» 48.
وقال القاسمي:« واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم من الميل إليهن قبل الأجل فاحذروه، واعلموا أن الله غفورٌ يغفر ذلك الميل إذ لم يتعد العزم عقدة النكاح، حليمٌ لا يعاجل بالعقوبة » 49.
قال تعالى: (ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ) [البقرة:٢٨٤].
هذا إخبار من الله جل جلاله أن له ما في السماوات وما في الأرض، خلق الجميع ورزقهم ودبرهم لمصالحهم، فكانوا بأوامر في هذا الوجود إما ظاهرًا وإما على سبيل الخفية، فيغفر لمن يأتي بأسباب المغفرة، ويعذب من يشاء بذنبه الذي لم يتب منه، وسبحانه على كل شيء قدير لا يعجزه شيء.
ولما نزل قوله تعالى: (ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ) شق ذلك على المسلمين، وظنوا دخول هذه الخواطر فيه، فنزلت الآية التي بعدها، وفيها قوله: (ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ)[البقرة:٢٨٦].
فبينت أن ما لا طاقة لهم به فهو غير مؤاخذٍ له، ولا مكلف به 50، ومرادهم أن هذه الآية أزالت الإيهام الواقع في النفوس من الآية الأولى 51، وبينت أن المراد بالآية الأولى: العزائم المصمم عليها 52.
ومعنى الآية: وإن تبدوا ما في أنفسكم فتعملوا به أو تخفوه مما أضمرتم ونويتم، يحاسبكم به الله ويخبركم به، أو يكون ذلك في كتمان الشهادة، فإن تعلنوا الشهادة أو تخفوها يجازيكم بها الله، ثم يغفر للمؤمنين إظهارًا لفضله، ويعذب الكافرين إظهارًا لعدله، يدل عليه أنه قال: يحاسبكم به الله، ولم يقل: يؤاخذكم به، والمحاسبة غير المؤاخذة 53.
وقوله تعالى: (ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ) جملة شرطية جوابها: (ﮆ ﮇ ﮈ).
وقوله تعالى: (ﭿ ﮀ) أي: وإن تظهروا ما في قلوبكم (ﮄ ﮅ) يعني: تسروه، فلا يطلع عليه أحد، يطلعكم عليه الله على وجه المحاسبة، ولا يلزم من المحاسبة العقوبة؛ ولهذا قال: (ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ) 54.
قسم العلماء النفس تقسيمات عديدة وفقًا لأحوالها المختلفة، ومن أهم هذه التقسيمات جعلوا النفوس ثلاثة أنواعٍ:
أولًا: النفس الأمارة بالسوء:
وهي التي يغلب عليها اتباع هواها بفعل الذنوب والمعاصي، أي: هي التي تميل إلى الطبيعة البدنية، وتأمر باللذات والشهوات الحسية، وتجذب القلب إلى الجهة السفلية، فهي مأوى الشرور، ومنبع الأخلاق الذميمة، وهذه هي النفس هي التي توسوس لصاحبها وتحدثه بالآثام والتي يجب مجاهدتها.
قال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ) [يوسف:٥٣].
وقال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ) [ق:١٦].
ومقام الوسوسة من العبد مقام النفس الأمارة بالسوء، فوسوسة العدو في الصدور، وهو الشيطان المقصود في قوله تعالى: (ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ) [الناس:٥].
ووسوسة النفس في القلب 55.
ثانيًا: النفس اللوامة:
وهي التي تذنب وتتوب فعندها خيرٌ وشرٌ، لكن إذا فعلت الشر تابت وأنابت فتسمى لوامةً؛ لأنها تلوم صاحبها على الذنوب؛ ولأنها تتلوم أي: تتردد بين الخير والشر 56.
فهي تلك التي تنورت بنور القلب عن سنة الغفلة، وكلما صدرت عنها سيئة بحكم جبلتها أخذت تلوم وتعنف نفسها وتتوب عنها، وحالت دون التمادي في العصيان، والتي تلومه كذلك على عدم الاستكثار في الخير57.
قال تعالى: (ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ) [القيامة:١-٢].
وقال تعالى: (ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ) [آل عمران:١٣٥].
ولا يمكن زكاة النفس وطهارتها إلا بعد محاسبتها، وقد ربط ابن القيم بين هذين المعنيين حيث قال: «فإن زكاتها وطهارتها موقوفٌ على محاسبتها، فلا تزكو ولا تطهر ولا تصلح ألبتة إلا بمحاسبتها، فبمحاسبتها يطلع على عيوبها ونقائصها، فيمكنه السعي في إصلاحها » 58.
ووقت الليل هو أفضل الأوقات لمحاسبة الإنسان لنفسه، وأكد الماوردي هذا المفهوم وبين سببه وكيفيته، حيث قال: « ثم عليه أن يتصفح في ليله ما صدر من أفعال نهاره، فإن الليل أخطر للخاطر وأجمع للفكر، فإن كان محمودًا أمضاه وأتبعه بما شاكله وضاهاه، وإن كان مذمومًا استدركه إن أمكن وانتهى عن مثله في المستقبل » 59.
ثالثًا: النفس المطمئنة:
وهي التي تحب الخير والحسنات وتريده، وتبغض الشر والسيئات وتكره ذلك60، والتي تعتبر الحوادث الحياتية خيرها وشرها ابتلاء ومحنة، وهي تلك النموذج الذي يسعى إليه الإنسان المسلم، وهي التعبير الصادق عن تلك الحالة التي لا يعرف فيها الفرد أمراض الشبهة والشك والشهوة والبغي، وهي النموذج الأكمل للصحة النفسية التي تؤدي إلى الحياة الطيبة في الدنيا وإلى الفوز والنعيم المقيم في الآخرة 61.
قال تعالى: (ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ) [الفجر:٢٧-٣٠].
من العلماء من يرى أنها ليست ثلاثة أنفس، بل الصحيح عندهم أنها نفس واحدة، فتارة يغلب عليها الاطمئنان فتوصف بأنها نفس مطمئنة، فيقال: إن هذا الإنسان نفسه مطمئنة، وتارة يغلب عليها وصف اللوم، يفعل المرء الشيء ويلوم نفسه عليه، فيقال: هذا الإنسان نفسه لوامة، وتارة يغلب عليه السوء والأمر بالسوء، فهي نفس واحدة تتصف بهذه الصفة تارة، وبهذه تارة، وهذه تارة، ولا تكون ثلاثة أنفس، وهذا هو الصحيح من أقوال العلماء62.
الخلاصة: إذا كانت النفس تحت أمر الله تعالى، وزايلها الاضطراب بسبب معارضة الشهوات سميت مطمئنة، وإذا لم يتم سكونها وصارت مدافعة لشهوات النفس أو معترضة عليها سميت لوامة؛ لأنها تلوم صاحبها على تقصيرها في عبادة مولاها، وإن تركت الاعتراض وأذعنت لمقتضى الشهوات ودواعي الشيطان سميت أمارة بالسوء.
أولًا: تكليف النفس بقدر وسعها:
جاء هذا المعنى في كثير من الآيات، ويتضح ذلك مما يلي:
قال تعالى: (ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ) [البقرة:٢٨٦].
معنى الآية: (ﯛ ﯜ): إلا طاقتها وقدرتها؛ لأن التكليف لا يرد إلا بفعلٍ يقدر عليه المكلف، أي: لا يكلفها إلا ما يتسع فيه طوقه ويتيسر عليه دون مدى غاية الطاقة والمجهود، فلا يكلفها ما لا قدرة لها عليه لاستحالته، ولا ما يثقل عليها أداؤه، وتحمل المكروه، ولها ما كسبت من طاعة وعليها ما اكتسبت من معصية 63.
والوسع هو الطاقة والاستطاعة، والمراد به هنا ما يطاق ويستطاع، والمستطاع هو ما اعتاد الناس قدرتهم على أن يفعلوه إن توجهت إرادتهم لفعله مع السلامة وانتفاء الموانع، وهذا دليلٌ على عدم وقوع التكليف بما فوق الطاقة في أديان الله تعالى؛ لعموم (ﯚ) في سياق النفي؛ لأن الله تعالى ما شرع التكليف إلا للعمل واستقامة أحوال الخلق، فلا يكلفهم ما لا يطيقون فعله، وقد امتازت شريعة الإسلام باليسر والرفق (ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ) [الحج:٧٨].
ومن قواعد الفقه العامة «المشقة تجلب التيسير» 64.
ويتضح هذا المعنى أكثر من خلال معرفتنا لسبب نزول الآية، كما جاء في العديد من كتب الحديث:
« عن ابن عباسٍ قال: (لما نزلت هذه الآية: (ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ) [البقرة:٢٨٤].
قال: دخل قلوبهم منها شيءٌ لم يدخل قلوبهم من شيءٍ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (قولوا: سمعنا وأطعنا وسلمنا) قال: فألقى الله الإيمان في قلوبهم، فأنزل الله تعالى: (ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ) [البقرة:٢٨٦]) قال: قد فعلت ((ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ) [البقرة:٢٨٦]) قال: قد فعلت ((ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ) [البقرة:٢٨٦]) قال: قد فعلت)65.
وقال تعالى: (ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ) [البقرة:٢٣٣].
هذه الآية جاءت بصيغة: (ﯞ ﯟ):قال المفسرون: وعلى المولود له، يعني: الأب، أي: على الزوج أجر الرضاع للمرأة المطلقة وطعامها وكسوتها إذا أرضعت الولد (ﯜ) بما يعرفون أنه عدلٌ على قدر الإمكان وهو معنى قوله: (ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ) لا تلزم نفسٌ إلا ما يسعها، يعني: لا يجب على الأب من النفقة والكسوة إلا مقدار طاقته، وعلى قدر الميسرة 66.
واعتبر الشوكاني قوله: (ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ) هو تقييدٌ بالمتعارف عليه، حيث قال: « (ﯜ) أي: هذه النفقة والكسوة الواجبتان على الأب بما يتعارفه الناس لا يكلف منها إلا ما يدخل تحت وسعه وطاقته، لا ما يشق عليه ويعجز عنه»67.
الخلاصة: لاحظنا أن تكليف النفس بوسعها وبما تطيقه جاء في شتى الجوانب الحياتية العملية، كما تبين من خلال تفسير الآيات السابقة، سواء أكان ذلك في المعاملات بين الناس أو النفقة أو العبادات أو الكيل والميزان أو غيرها، وهذا يدلل على يسر وسماحة شرع الإسلام، ومدى توافقه مع فطرة الإنسان؛ وبالتالي يدلل على رحمة الله تعالى بعباده ورأفته بهم، وهو ما أكدته الآيات السابقة، وهي نصٌ على أنه تعالى لا يكلف العبد ما لا يطيقه، بل مع ما يتناسب ويتوافق مع قدرته وإمكانه.
ثانيًا: تحمل النفس لمسؤولية أعمالها خيرًا أو شرًا:
الآيات التي تحمل معنى هذا العنوان هي آيات مكية، وسبب ذلك أن القرآن المكي أصلًا جاء لغرس العقيدة الصحيحة في النفوس، وبيان أن عمل كل إنسان مرهون بذاته، فهو الذي يقرر ماذا يعمل؟ وبالتالي عليه تحمل نتيجة عمله سواء في الخير أو الشر.
قال تعالى: (ﰎ ﰏ ﰐ ﰑﰒ ﰓ ﰔ ﰕﰖ ﰗ ﰘ ﰙ ﰚ ﰛ) [فصلت:٤٦].
عن معنى الآية وما فيها من بلاغة، يقول القرطبي: « قوله تعالى: (ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ) شرطٌ، وجوابه: (ﰓ ﰔ ﰕ) والله عز وجل مستغنٍ عن طاعة العباد، فمن أطاع فالثواب له، ومن أساء فالعقاب عليه (ﰗ ﰘ ﰙ ﰚ)نفى الظلم عن نفسه عز وجل قليله وكثيره، وإذا انتفت المبالغة انتفى غيرها، دليله قوله الحق: (ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ) [يونس:٤٤]» 68.
وقال تعالى: (ﮭ ﮮ ﮯ ﮰﮱ ﯓ ﯔ ﯕ) [الإسراء:٧].
يقول تعالى ذكره لبني إسرائيل فيما قضى إليهم في التوراة: إن أحسنتم يا بني إسرائيل، فأطعتم الله وأصلحتم أمركم ولزمتم أمره ونهيه أحسنتم وفعلتم ما فعلتم من ذلك لأنفسكم؛ لأنكم إنما تنفعون بفعلتكم ما تفعلون من ذلك أنفسكم في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فإن الله يدفع عنكم من بغاكم سوءًا، وينمي لكم أموالكم، ويزيدكم إلى قوتكم قوةً، وأما في الآخرة فإن الله سبحانه وتعالى يثيبكم به جنانه، ومعنى (ﯕ) فإليها، والمعنى: وإن عصيتم الله وركبتم ما نهاكم عنه حينئذٍ، فإلى أنفسكم تسيئون، لأنكم تسخطون بذلك على أنفسكم ربكم، فيسلط عليكم في الدنيا عدوكم، ويمكن منكم من بغاكم سوءًا، ويخلدكم في الآخرة في العذاب المهين 69.
وعن معنى (ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ)، قال ابن عاشور: «أننا نرد لكم الكرة لأجل التوبة وتجدد الجيل وقد أصبحتم في حالة نعمةٍ، فإن أحسنتم كان جزاؤكم حسنًا وإن أسأتم أسأتم لأنفسكم، فكما أهلكنا من قبلكم بذنوبهم فقد أحسنا إليكم بتوبتكم، فاحذروا الإساءة كيلا تصيروا إلى مصير من قبلكم، وإعادة فعل أحسنتم تنويهٌ فلم يقل: إن أحسنتم فلأنفسكم، وأسلوب إعادة الفعل عند إرادة تعلق شيءٍ به أسلوبٌ عربيٌ فصيحٌ يقصد به الاهتمام بذلك الفعل » 70.
وقال تعالى: (ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ) [يونس:١٠٨].
يقول تعالى آمرًا لرسوله صلى الله عليه وسلم أن يخبر الناس أن الذي جاءهم به من عند الله هو الحق الذي لا مرية فيه ولا شك، فمن اهتدى به واتبعه فإنما يعود نفع ذلك الاتباع على نفسه، ومن ضل عنه فإنما يرجع وبال ذلك عليه، ويبين لكم الرسول صلى الله عليه وسلم أنه غير موكلٌ بكم حتى تكونوا مؤمنين به، وإنما أنا نذيرٌ لكم، والهداية على الله تعالى 71.
ومعنى قوله تعالى: (ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ) فيه قولان: أحدهما: أنه القرآن، والثاني: محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يبق لكم عذر، فمن اهتدى بالإيمان والمتابعة فإنما يهتدي لنفسه؛ لأن نفعه لها، ومن ضل بالكفر بهما فإنما يكون وبال ضلاله على نفسه (ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ) أي: في منعكم من اعتقاد الباطل، ولست بحفيظ عليكم من الهلاك كما يحفظ الوكيل المتاع من الهلاك، ولست موكول إلى أمركم، وإنما أنا بشير ونذير 72.
إن أمراض النفس الإنسانية متنوعة فمنها ما يتعلق بالجانب المادي، ومنها بالجانب المعنوي.
أولًا: الشح:
ومما جاء في الحديث عن ذم الشح والتحذير منه: عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلماتٌ يوم القيامة، واتقوا الشح، فإن الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم) 73.
وعن عبد الله بن عمرٍو رضي الله عنهم قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (إياكم والشح، فإنما هلك من كان قبلكم بالشح، أمرهم بالبخل فبخلوا، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا، وأمرهم بالفجور ففجروا) 74.
وبين الفَخْرُ الرازي أن الشح من صفات النفس، حيث قال: «واعلم أن الفرق بين الشح والبخل هو أن البخل نفس المنع، والشح هو الحالة النفسانية التي تقتضي ذلك المنع، فلما كان الشح من صفات النفس لا جرم قال تعالى: ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون الظافرون بما أرادوا » 75.
ذكر الشح:
جاء ذكر الشح في القرآن الكريم في العديد من الآيات.
قال تعالى: (ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ) [الحشر:٩].
أخرج البخاري في صحيحه:(عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رجلًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فبعث إلى نسائه فقلن: ما معنا إلا الماء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من يضم أو يضيف هذا) فقال رجلٌ من الأنصار: أنا، فانطلق به إلى امرأته، فقال: أكرمي ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: ما عندنا إلا قوت صبياني، فقال: هيئي طعامك، وأصبحي سراجك، ونومي صبيانك إذا أرادوا عشاءً، فهيأت طعامها، وأصبحت سراجها، ونومت صبيانها، ثم قامت كأنها تصلح سراجها فأطفأته، فجعلا يريانه أنهما يأكلان، فباتا طاويين، فلما أصبح غدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (ضحك الله الليلة، أو عجب، من فعالكما) فأنزل الله: (ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ)) 76.
وشح النفس: هو كثرةٌ طمعها، وضبطها على المال، والرغبة فيه، وامتداد الأمل هذا جماع شح النفس، وهو داعية كل خلق سوء، وشح النفس فقرٌ لا يذهبه غنى المال، بل يزيده77.
وقال تعالى: (ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ) [التغابن:١٦].
المعنى: أخبر الله سبحانه وتعالى بأن الأموال والأولاد فتنة، ثم أمرهم سبحانه وتعالى بالتقوى والطاعة فقال: فاتقوا الله ما أطقتم، وبلغ إليه جهدكم، واسمعوا ما تؤمرون به، وأطيعوا الأوامر، أي: اصغوا إلى ما ينزل عليكم وأطيعوا لرسوله فيما يأمركم وينهاكم.
وأنفقوا من أموالكم التي رزقكم الله إياها في وجوه الخير، ولا تبخلوا بها، أي: ائتوا في الإنفاق خيرًا لأنفسكم، أو قدموا خيرًا لها، والظاهر في الآية الإنفاق مطلقًا من غير تقييدٍ بالزكاة الواجبة، وقيل: المراد زكاة الفريضة، أو النافلة، أو النفقة في الجهاد، ومن يوق شح نفسه، فيفعل ما أمر به من الإنفاق، ولا يمنعه ذلك منه، فأولئك هم الظافرون بكل خيرٍ، الفائزون بكل مطلبٍ78.
وعلى من تكون وجوه الإنفاق في قوله تعالى: (ﮭ ﮮ ﮯ) قال ابن كثير: « وابذلوا مما رزقكم الله على الأقارب والفقراء والمساكين وذوي الحاجات، وأحسنوا إلى خلق الله كما أحسن إليكم، يكن خيرًا لكم في الدنيا والآخرة، وإن لا تفعلوا يكن شرًا لكم في الدنيا والآخرة »79.
ثانيًا: الوسوسة:
جاء ذكر الوسوسة في الحديث كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تجاوز لأمتي عما وسوست، أو حدثت به أنفسها، ما لم تعمل به أو تكلم) 80.
وجاء ذكر الوسوسة في القرآن الكريم كما في قوله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ) [ق:١٦].
قوله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ) والإنسان يعم جميع الناس ولكن المقصود منهم أولا المشركون؛ لأنهم المسوق إليهم هذا الخبر81 (ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ) أي: ما يختلج في سره وقلبه وضميره، وفي هذا تعريضٌ بالإنذار وزجرٌ عن المعاصي التي يستخفي بها.
(ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ) هو حبل العاتق وهو ممتدٌ من ناحية حلقه إلى عاتقه، وهما وريدان عن يمينٍ وشمالٍ، أو الوريد: الوتين وهو عرقٌ معلقٌ بالقلب، وهذا تمثيلٌ للقرب، أي: نحن أقرب إليه من حبل وريده الذي هو منه، وليس على وجه قرب المسافة، وقيل: أي ونحن أملك به من حبل وريده مع استيلائه عليه، وقيل: أي: ونحن أعلم بما توسوس به نفسه من حبل وريده الذي هو من نفسه؛ لأنه عرقٌ يخالط القلب، فعلم الرب أقرب إليه من علم القلب.82
وفائدة الإخبار بأن الله يعلم ما توسوس به نفس كل إنسانٍ: التنبيه على سعة علم الله عز وجل بأحوالهم كلها، فإذا كان يعلم حديث النفس فلا عجب أن يعلم ما تنقص الأرض منهم، والإخبار عن فعل الخلق بصيغة الماضي ظاهرٌ، وأما الإخبار عن علم ما توسوس به النفس بصيغة المضارع فللدلالة على أن تعلق علمه سبحانه وتعالى بالوسوسة متجددٌ غير منقضٍ ولا محدودٍ؛ لإثبات عموم علم الله سبحانه وتعالى، والكناية عن التحذير من إضمار ما لا يرضي الله.
«ومعنى توسوس: تتكلم كلامًا خفيًا همسًا، ومصدره الوسواس، والوسوسة أطلقت هنا مجازًا على ما يجول في النفس من الخواطر والتقديرات والعزائم؛ لأن الوسوسة أقرب شيءٍ تشبه به تلك الخواطر وأحسن ما يستعار لها؛ لأنها تجمع مختلف أحوال ما يجول في العقل من التقادير وما عداها من نحو ألفاظ التوهم» 83.
وعن الآثار المترتبة على الإنسان من علم الله تعالى بوسوسة النفس، قال العثيمين: «وإذا كان الله يعلم ما توسوس به النفس فهذا العلم يوجب لنا مراقبة الله سبحانه وتعالى، وأن لا نحدث أنفسنا بما يغضبه وبما يكره، فعلينا أن يكون حديث نفوسنا كله بما يرضيه؛ لأنه يعلم ذلك، أفلا يليق بنا أن نستحي من ربنا عز وجل أن توسوس نفوسنا بما لا يرضاه؟!»84.
ثالثًًا: التسويل:
جاء ذكر التسويل في القرآن الكريم بصيغ عدة، كلها تدور حول المعنى السابق، ويتضح ذلك مما يلي:
كما في قوله تعالى: (ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ) [يوسف:١٨].
يقول تعالى مخبرًا عن الذي اعتمده إخوة يوسف بعدما ألقوه في غيابة الجب: إنهم رجعوا إلى أبيهم في ظلمة الليل يبكون، ويظهرون الأسف والجزع على يوسف، وقالوا معتذرين عما وقع فيما زعموا: إنا ذهبنا نترامى، وتركنا يوسف عند ثيابنا وأمتعتنا فأكله الذئب، وهو الذي كان قد حذر منه، ونحن نعلم أنك لا تصدقنا حتى لو كنا عندك صادقين، فكيف وأنت تتهمنا في ذلك؟! لأنك خشيت أن يأكله الذئب، فأكله.
وجاءوا على قميصه بدمٍ مكذوبٍ مفترى، وهو أنهم عمدوا إلى سخلة فذبحوها، ولطخوا ثوب يوسف بدمها، موهمين أن هذا قميصه الذي أكله فيه الذئب، ولكنهم نسوا أن يخرقوه؛ فلهذا لم يرج هذا الصنيع على نبي الله يعقوب، بل قال لهم معرضًا عن كلامهم إلى ما وقع في نفسه من تمالئهم عليه: بل سولت لكم أنفسكم أمرًا، فسأصبر صبرًا جميلًا على هذا الأمر الذي قد اتفقتم عليه؛ حتى يفرجه الله بعونه ولطفه، والله المستعان على ما تذكرون من الكذب والمحال 85.
ثم إن إخوة يوسف لما ذكروا ذلك الكلام واحتجوا على صدقهم بالقميص المليء بالدم (ﮃ) يعقوب عليه السلام: (ﮄ ﮅ)، أي: زينت (ﮆ ﮇ ﮈ) ففعلتموه به 86.
وقال تعالى: (ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬﮭ ﮮ ﮯﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ) [يوسف:٨٣].
هذه الآية كنظيرتها السابقة، فلما جاءوا يعقوب وأخبروه بما يجري اتهمهم، وظن أنها كفعلتهم بيوسف، أي: لما كان صنيعهم هذا مرتبًا على فعلهم الأول سحب حكم الأول عليه (ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬﮭ ﮮ ﮯ) 87.
رابعًا: الخيانة:
جاء ذكر الخيانة في القرآن الكريم بصيغٍ مختلفة، وفي عدة من الآيات.
قال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ) [البقرة:١٨٧].
وقوله:(ﭑ ﭒ) فيه دلالةٌ على أن هذا الذي أحله الله كان حرامًا عليهم، وهو ما يفيده سبب نزول الآية، وجعل النساء لباسًا للرجال، والرجال لباسًا لهن لامتزاج كل واحدٍ منهما بالآخر عند الجماع، كالامتزاج الذي يكون بين الثوب ولابسه، فيستره عن أعين الناس، أو لأن كلًا منهما يستر عيوب الآخر للألفة والطمأنينة التي بينهما، وهو الأرجح.
وقد كنتم تخونون أنفسكم بالمباشرة في ليالي الصوم، وأصل الخيانة: أن يؤتمن الرجل على شيءٍ فلا يؤدي الأمانة فيه، وسماهم خائنين لأنفسهم؛ لأن ضرر ذلك عائدٌ عليهم، ثم تاب الله عليكم بقبول التوبة، أو بالتخفيف عنكم بالرخصة والإباحة، وعفا عنكم بالعفو من الذنب، وبالتوسعة والتسهيل.
ثم قال: ابتغوا بمباشرة نسائكم حصول ما هو معظم المقصود من النكاح وهو حصول النسل، أو ابتغوا مما كتب لكم من الإماء والزوجات، وكلوا واشربوا إلى سواد الليل، حتى يمتاز الليل عن النهار، وذلك لا يكون إلا عند دخول وقت الفجر، ثم أتموا الصيام إلى الليل، فعند إقبال الليل يفطر الصائم ويحل له الأكل والشرب وغيرهما، ولا تباشروا النساء وأنتم عاكفون في المساجد، وهذه الأحكام حدود الله، وأصل الحد: المنع، ومن ذلك سميت الحدود حدودًا؛ لأنها تمنع أصحابها من العود. ومعنى النهي عن قربانها: النهي عن تعديها بالمخالفة لها، والنهي الوارد ليس في ذات الحدود، بل عن اقترابها في قوله تعالى بعدها:(ﮐ ﮑ) والله تعالى كما بين لكم هذه الحدود يبين لكم العلامات الهادية إلى الحق88.
وأخرج البخاري عن البراء بن عازبٍ رضي الله عنه، قال: (كان أصحاب محمدٍ صلى الله عليه وسلم إذا كان الرجل صائمًا، فحضر الإفطار، فنام قبل أن يفطر لم يأكل ليلته ولا يومه حتى يمسي، وإن قيس بن صرمة الأنصاري كان صائمًا، فلما حضر الإفطار أتى امرأته، فقال لها: أعندك طعامٌ؟ قالت: لا ولكن أنطلق فأطلب لك، وكان يومه يعمل، فغلبته عيناه، فجاءته امرأته، فلما رأته قالت: خيبةً لك، فلما انتصف النهار غشي عليه، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية:(ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ) ففرحوا بها فرحًا شديدًا، ونزلت:(ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ) 89.
وأخرج أيضًا عنه رضي الله عنه:(لما نزل صوم رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضان كله، وكان رجالٌ يخونون أنفسهم)، فأنزل الله (ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ) 90.
وجاء العتاب في قوله تعالى:(ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ).
وفي ذلك يتساءل الطبري: وما هذه الخيانة التي كان القوم يختانونها أنفسهم، التي تاب الله عز وجل منها عليهم فعفا عنهم؟!
ثم يجيب بنفسه قائلًا: كانت خيانتهم أنفسهم التي ذكرها الله في شيئين، أحدهما: جماع النساء، والآخر: المطعم والمشرب في الوقت الذي كان حرامًا ذلك عليهم 91.
ويدلل على إجابته بقول أسنده لكثيرين أن ناسًا من المسلمين أصابوا النساء والطعام في رمضان بعد العشاء، منهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ورجل من الأنصار، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله: (ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ) 92.
ومعنى العتاب في قوله:(ﭤ ﭥ) أي: تخونونها بالمباشرة في ليالي الصوم، فالاختيان هنا معبرٌ به عما وقعوا فيه من المعصية بالجماع، وبالأكل بعد النوم، وكان ذلك خيانةً لأنفسهم؛ لأن وبال المعصية عائدٌ على أنفسهم، فكأنه قيل: تظلمون أنفسكم وتنقصون حقها من الخير، فتستأثرون أنفسكم فيما نهيتم عنه،
بقوله: (ﭦ ﭧ) أي: قبول التوبة من خيانتهم لأنفسهم، فتجاوز عنكم وعفا عنكم ولم يعاقبكم بما فعلتم، والتخفيف عنهم بالرخصة والإباحة 93.
والعتاب أيضًا في قوله: (ﮘ ﮙ) أي: إرادة اتقائهم الوقوع في المخالفة؛ لأنه لو لم يبين لهم الأحكام لما اهتدوا لطريق الصواب، أو لعلهم يلتبسون في الإتيان بالمأمورات على وجهها الصحيح، إذ لو لم يبين الله لهم؛ لأتوا بعباداتٍ غير مستكملةٍ، وهم وإن كانوا معذورين عند عدم البيان، وغير مؤاخذين بإثم التقصير إلا أنهم لا يبلغون صفة التقوى94.
وقال تعالى: (ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﭑ ﭒﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ) [النساء:١٠٥-١٠٧].
المعنى: ولا تجادل يا محمد صلى الله عليه وسلم فتخاصم عن الذين يخونون أنفسهم، يجعلونها خونةً بخيانتهم ما خانوا من أموال من خانوه ماله وهم بنو أبيرقٍ، فلا تخاصم عنهم من يطالبهم بحقوقهم، وما خانوه فيه من أموالهم، فالله لا يحب من كان من صفته خيانة الناس في أموالهم، وركوب الإثم في ذلك وغيره مما حرمه الله عليه95.
و(ﭞ) بمعنى يخونون، وهو افتعالٌ دالٌ على التكلف والمحاولة لقصد المبالغة في الخيانة، ومعنى خيانتهم أنفسهم: أنهم بارتكابهم ما يضر بهم كانوا بمنزلة من يخون غيره كقوله: (ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ) [البقرة:١٨٧].
وكذلك أنفسهم هنا: بمعنى بني أنفسهم، أي: بني قومهم، كقوله: (ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ) [البقرة:٨٥].
أي: الذين يختانون ناسًا من أهلهم وقومهم 96.
ومعنى قوله تعالى: (ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ) وهو طعمة، يعني: مخاصمًا عنهم، أي: لا تكن معينًا مدافعًا عنه، واستغفر الله مما هممت به من معاقبة اليهودي، وقال مقاتلٌ: واستغفر الله من جدالك عن طعمة، إن الله كان غفورًا رحيمًا 97.
وفي هذه الآية تشريف للرسول صلى الله عليه وسلم، وتفويض الأمور إليه بقوله: لتحكم بين الناس بما أراك الله، وتقويم أيضًا على الجادة في الحكم، وتأنيب على قبول ما رفع إليه في أمر بني أبيرق بسرعة98.
وهذه الآيات وما بعدها نزلت في طعمة ابن أبيرقٍ، سرق درعًا في جراب فيه دقيقٌ لقتادة بن النعمان، وخبأها عند يهوديٍ، فحلف طعمة ما لي بها علمٌ، ورماه بالسرقة، فاتبعوا أثر الدقيق إلى دار اليهودي، فقال اليهودي: دفعها إلي طعمة، فسأل قوم طعمة النبي صلى الله عليه وسلم أن يجادل عن صاحبهم وأن يبريه 99.
وعن قتادة:« ذكر لنا أن هؤلاء الآيات أنزلت في شأن طعمة بن أبيرق، وفيما هم به نبي الله صلى الله عليه وسلم من عذره، وبين الله شأن طعمة بن أبيرق، ووعظ نبيه وحذره أن يكون للخائنين خصيمًا » 100.
وجاء العتاب في توجيه النهي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بألا يكون خصيمًا لأجل الخائنين، أي: مدافعًا عنهم، ويعد هذا عتاب؛ لأن أسلوبه شديد في موضعيه، وخرج مخرج التحذير مما يخشى وقوعه لاحقًا لو تكرر.
خامسًا: المخادعة:
قال تعالى: (ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ) [البقرة:٩].
وقال تعالى: (ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ) [النساء:١٤٢].
والمخادعة: إظهار غير ما في النفس.
وذلك أن المنافقين أبطنوا الكفر وأظهروا الإيمان، وإذا خادعوا المؤمنين فقد خادعوا الله، ونسب ذلك إلى الله تعالى من حيث أن معاملة الرسول كمعاملته، وذلك كقوله عز وجل: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ)[الفتح:١٠].
وعلى هذا يوجه مفهوم المخادعة أن معناه أنهم يقدرون في أنفسهم أنهم يخادعون الله، والله هو الخادع لهم، أي المجازي لهم جزاء خداعهم، وهنا يجدر التنبيه على أمرين:
أحدهما: فظاعة فعلهم فيما تجرؤوه من الخديعة، وأنهم بمخادعتهم الرسول والمؤمنين يخادعون الله.
والثاني: التنبيه على عظم المقصود بالخداع، وتنبيهًا على عظم الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن معاملته كمعاملة الله، وعظم أوليائه 101.
وقوله تعالى: (ﭸ) أي: يفعلون فعل المخادع، فالمخادعة تكون بين اثنين، فيظهرون خلاف ما يسرون، وكذلك معناه يخدعون رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصورة صنيعهم مع الله سبحانه وتعالى من إظهار الإيمان واستبطان الكفر، وصنع الله معهم بإجراء أحكام المسلمين عليهم، وهم عنده أخبث الكفار وأهل الدرك الأسفل من النار؛ استدراجًا لهم.
ومعنى (ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ): أي: ما تحل عاقبة الخداع إلا بهم، فدائرة الخداع راجعة إليهم وضررها يحيق بهم ووبال فعلهم راجع عليهم، وأنهم في ذلك خدعوا أنفسهم لما غروها بذلك، فخدعتهم أنفسهم حيث حدثتهم بالأماني الفارغة وحملتهم على مخادعة من لا تخفى عليه خافية، والنفس ذات الشيء وحقيقته، فالمراد بالأنفس هاهنا ذواتهم.
(ﮀ ﮁ): لا يحسون لذلك لتمادي غفلتهم، والشعور: الإحساس، أي: لا يشعرون أنهم يخدعون أنفسهم 102.
وعن اعتقاد المنافقين بأنهم (ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ) وكيف رد الله عليهم، قال ابن كثير:
« ولهذا قابلهم على اعتقادهم (ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ) بقوله: (ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ) يقول: وما يغرون بصنيعهم هذا ولا يخدعون إلا أنفسهم، وما يشعرون بذلك من أنفسهم كما قال تعالى: (ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ) [النساء:١٤٢]» 103.
سادسًا: اتباع الهوى:
غالبًا ما يجيء ذكر الهوى في القرآن الكريم في مقام الذم.
قال تعالى: (ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ) [البقرة:٨٧].
يصف الله جل جلاله بني إسرائيل بالعتو والعناد والمخالفة، والاستكبار على الأنبياء، وأنهم إنما يتبعون أهواءهم، فذكر أنه آتى موسى التوراة فحرفوها وبدلوها، وخالفوا أوامرها وأولوها.
وأرسل الرسل والنبيين من بعده الذين يحكمون بشريعته، فكانت بنو إسرائيل تعامل الأنبياء عليه السلام أسوأ المعاملة، ففريقًا يكذبونه، وفريقًا يقتلونه، وما ذاك إلا لأنهم كانوا يأتونهم بالأمور المخالفة لأهوائهم وآرائهم وبإلزامهم بأحكام التوراة التي قد تصرفوا في مخالفتها؛ فلهذا كان يشق ذلك عليهم، فيكذبونهم، وربما قتلوا بعضهم104.
وعن سبب التعبير بالهوى عن رفضهم للحق، قال أبو السعود: «والتعبير عنه بذلك؛ للإيذان بأن مدار الرد والقبول عندهم: هو المخالفة لأهواء أنفسهم والموافقة لها لا شيءٍ آخر» 105.
والتعبير عن القتل بالمضارع مع كونه كالتكذيب وقع في الماضي فيه نكتة بلاغية وهي: تصوير جرم القتل الشنيع واستحضار هيئته المنكرة، كأنه وقع في الحال؛ للمبالغة في النعي عليهم وتوبيخهم، حيث أفادت الآية أنهم بلغوا من الفساد واتباع أهوائهم أعلى درجة بهم في الضلال، حتى لم يعد يؤثر في قلوبهم وعظ الرسل وهديهم، بل صار يغريهم بزيادة الكفر والتكذيب وقتل أولئك الهداة الأخيار106.
وقال تعالى: (ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ) [المائدة:٧٠].
عن مصير الرسل الذين أرسلوا إلى بني إسرائيل، يتساءل ويجيب صاحب تفسير المنار: «ماذا كان حظ أولئك الرسل من بني إسرائيل؟ كان حظهم منهم ما أفاده الاستفهام التوبيخي في قوله: (ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ) فاتبعتم الهوى وأطعتم الشهوات، وعصيتم الرسل واحتميتم عليهم أن أنذروكم ودعوكم إلى أحكام كتابكم »107.
ويفيد قوله: (ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ) الإشارة إلى زيادة تفظيع حالهم من أنهم يكذبون الرسل أو يقتلونهم، ولا يلتمسون لأنفسهم فيها عذرًا من تكليفٍ بمشقةٍ فادحةٍ، كما فعل المشركون من العرب في مجيء الإسلام، بل لمجرد مخالفة هوى أنفسهم بعد أن أخذ عليهم الميثاق فقبلوه، فتتعطل بتمردهم فائدة التشريع وفائدة طاعة الأمة لهداتها108.
الفائدة: هذا تعليمٌ عظيمٌ للأمم أن تكون سائرةً في طريق إرشاد علمائها وهداتها، وأنها إذا أرادت حملهم على مسايرة أهوائها فقد حق عليهم الخسران كما حق على بني إسرائيل؛ لأن في ذلك قلبًا للحقائق ومحاولة انقلاب التابع متبوعًا والقائد مقودًا، وأن قادة الأمم وعلماءها إذا سايروا الأمم على هذا الخلق كانوا غاشين لهم، وزالت فائدة علمهم وحكمتهم واختلط الحابل بالنابل109.
سابعًا: نسيان النفس من الأمر والنهي:
قال تعالى: (ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫﮬ ﮭ ﮮ ﮯ) [البقرة:٤٤].
تفسير الآية: هذا خطاب لبني إسرائيل في أمرٍ يفعله علماؤهم، ويرضى به سائرهم وأخلافهم، فيلامون جميعًا عليه، إذ هو عيب فيهم سلفًا وخلفًا، وهو عيب الناس إذا ضعف وازع الدين، وهو أن يأمروا الناس بالحقائق الدينية، ولا يأخذون بهديها، وتلك إحدى صفات النفاق، فيكون قولهم مخالفا لفعلهم (ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ) [الصف:٣].
ولذا خاطبهم الله سبحانه وتعالى مستنكرًا تلك الحال فيهم، والاستفهام هنا إنكاري لإنكار واقع حالهم من أنهم يأمرون الناس بالخير، وينسون أنفسهم، أي: يتركونها من غير توجيه إليه، فيكونون بمنزلة من ينسونها، ولا يفكرون في أمرها، مع أن دواعي التذكير والتفكر في ذات أنفسهم قائمة؛ لأنهم يتلون الكتاب، فالاستنكار للحال التي يجتمع فيها الأمر بالخير والحث عليه مع ترك أنفسهم لا تفعلها، وكأنهم نسوها ولم يذكروها.
ولذا قال سبحانه وتعالى: (ﮭ ﮮ) والاستفهام هنا للتنبيه إلى مناقضة حالهم للعقل المدرك، فمعنى الاستفهام: أن حالهم هي حال من لا عقل له ولا إدراك، و(ألا) هنا: للاستفهام والتنبيه إلى نفي ما وراءه، والفاء فاء السببية، أي بسبب هذه الحال يحكم عليهم بأنهم لا يعقلون 110.
وعن معنى نسيان النفس هنا، قال الطبري: «ومعنى نسيانهم أنفسهم في هذا الموضع نظير النسيان الذي قال جل ثناؤه: (ﯓ ﯔ ﯕ) [التوبة:٦٧].
بمعنى: تركوا طاعة الله فتركهم الله من ثوابه»111. وأما الألف في (ﮤ) يرى الزجاج أنها ألف استفهام، ومعناه: التقرير والتوبيخ ههنا، ثم بين أن المقصود في (البر) هاهنا ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه التمسك بكتابهم، فقد كانوا يأمرون أتباعهم بالتمسك بكتابهم ويتركون هم التمسك به.
والثاني: اتباع محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن جحدهم النبي صلى الله عليه وسلم هو أصلًا تركهم التمسك بكتابهم.
والثالث: الصدقة، حيث كانوا يأمرون ببذلها وكانوا يضنون بها؛ لأنهم وصفوا بقساوة قلوبهم، وأكلوا الربا والسحت 112.
وعن خطورة هذا الفعل - خاصة من العلماء - قال الشوكاني: «وأشد ما قرع الله في هذا الموضع من يأمر بالخير ولا يفعله من العلماء الذين هم غير عاملين بالعلم، فاستنكر عليهم أولًا أمرهم للناس بالبر مع نسيان أنفسهم في ذلك الأمر الذي قاموا به في المجامع، ونادوا به في المجالس إيهامًا للناس بأنهم مبلغون عن الله ما تحملوه من حججه، ومبينون لعباده ما أمرهم ببيانه، وموصلون إلى خلقه ما استودعهم وائتمنهم عليه، وهم أترك الناس لذلك وأبعدهم من نفعه وأزهدهم فيه»113.
وليس الأمر بالبر وفعله مقتصرًا على اليهود، بل على كل مسلم، حيث جاء في الحديث الصحيح عن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رأيت ليلة أسري بي رجالًا تقرض شفاههم بمقارض من نارٍ، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟)، فقال: (الخطباء من أمتك، يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم، وهم يتلون الكتاب أفلا يعقلون) 114.
أولًا: حفظ النفس:
جاء النهي عن قتل النفس في عدة آيات.
قال تعالى: (ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ) [الإسراء:٣٣].
قوله تعالى: (ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ) يعني: إلا بإحدى ثلاث مواضع: إذا قتل أحدًا فيقتص به، أو زنى وهو محصن فيرجم، أو يرتد فيقتل، ومن قتل مظلومًا فقد جعلنا لوليه سبيلًا وحجة عليه، فإن شاء قتله، وإن شاء عفا عنه، وإن شاء أخذ الدية إذا اصطلحا، ولا يسرف في القتل، أي: لا يقتل غير القاتل حمية، ولا يقتل بعد ما عفا أو أخذ الدية، إنه كان معانًا من الله تعالى فقد جعل الأمر إليه في القود 115.
وقوله: (ﮩ ﮪ ﮫ): «علة النهي على الاستئناف، والضمير إما للمقتول فإنه منصور في الدنيا بثبوت القصاص بقتله وفي الآخرة بالثواب، وإما لوليه، فإن الله تعالى نصره حيث أوجب القصاص له وأمر الولاة بمعونته، وإما للذي يقتله الولي إسرافًا بإيجاب القصاص أو التعزير والوزر على المسرف»116.
واختلفوا في هذا الإسراف الذي منع منه ولي القتيل، فالذي عليه أكثر المفسرين:
والعتاب جاء هنا لإبطال عادة جاهلية، وهي قتل البريء بجريرة آخر.
وقد نقل الطبري عن ابن زيد: « إن العرب كانت إذا قتل منهم قتيل، لم يرضوا أن يقتلوا قاتل صاحبهم، حتى يقتلوا أشرف من الذي قتله، فقال الله جل ثناؤه: (ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ) ينصره وينتصف من حقه (ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ) يقتل بريئًا 118 ».
وذكر أيضًا قولًا آخر في هذا الشأن: «كان المشركون يغتالون أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال الله جل جلاله: من قتلكم من المشركين، فلا يحملنكم قتله إياكم على أن تقتلوا له أبًا أو أخًا أو أحدًا من عشيرته، وإن كانوا مشركين، فلا تقتلوا إلا قاتلكم»119.
وجاء العتاب أيضًا في قوله:(ﮤ ﮥ) وحول هذا يقول أبو حيان: «إنما الظاهر والله أعلم النهي عما كانت الجاهلية تفعله من قتل الجماعة بالواحد، وقتل غير القاتل، والمثلة، ومكافأة الذي يقتل من قتله » 120.
وقال تعالى: (ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷﭸ ﭹ ﭺ ﭻﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ) [النساء:٢٩].
أجمل الطبري المعنى في هذه الآية بقوله: «يعني بقوله جل ثناؤه: (ﭹ ﭺ ﭻ): ولا يقتل بعضكم بعضًا، وأنتم أهل ملةٍ واحدةٍ ودعوةٍ واحدةٍ ودينٍ واحدٍ، فجعل جل ثناؤه أهل الإسلام كلهم بعضهم من بعضٍ، وجعل القاتل منهم قتيلًا في قتله إياه منهم بمنزلة قتله نفسه، إذ كان القاتل والمقتول أهل يدٍ واحدةٍ على من خالف ملتهما »121.
ظلم النفس أنواعٌ مختلفة ودرجات متفاوتة، فقد يكون ظلمها بالشرك الذي لا يغفره الله إذا مات العبد عليه قبل التوبة منه، وقد يكون ظلمها بالمعاصي التي يكون صاحبها تحت المشيئة إذا لم يتب منها، وكل أحدٍ ظلم نفسه على قدر درجته ومنزلته، وظلم النفس إذا أطلق تناول جميع الذنوب فإنها ظلم العبد نفسه، كما قال تعالى: (ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ) [البقرة:٥٤]، وقالت بلقيس: (ﰘ ﰙ ﰚ ﰛ ﰜ ﰝ ﰞ ﰟ ﰠ ﰡ ﰢ) [النمل:٤٤]، وقال آدم عليه السلام: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ) [الأعراف:٢٣].
ثم قد يقرن ببعض الذنوب كقوله تعالى: (ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ) [آل عمران:١٣٥]122.
و«ظلم النفس هو فعل ما نهى الله عنه وتوعد عليه، فإن فعله إلقاءٌ بالنفس إلى العذاب، فكان ظلمًا للنفس» 123.
وجاء النهي عن ظلم النفس في القرآن الكريم في العديد من الآيات.
قال تعالى: (ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖﯗ ﯘ ﯙ ﯚﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ) [التوبة:٣٦].
وروى الطبري عن ابن عباس أنه فسر ضمير فيهن بالأشهر الاثني عشر فالمعنى عنده: فلا تظلموا أنفسكم بالمعاصي في جميع السنة؛ يعني: أن حرمة الدين أعظم من حرمة الأشهر الأربعة في الجاهلية، ونسب لغيره أن معنى ذلك: فلا تظلموا في الأربعة الأشهر الحرم أنفسكم، والهاء والنون عائدةٌ على الأشهر الأربعة 124.
وهناك من يرى أن المراد كل السنة، فقد أخرج البيهقي عن ابن عباسٍ، قال:« لا تظلموا أنفسكم في كلهن، ثم اختص من ذلك أربعة أشهرٍ فجعلهن حرمًا، وعظم حرماتهن، وجعل الذنب فيهن أعظم، والعمل الصالح بالأجر أعظم »125.
والأنفس تحتمل أنها أنفس الظالمين في قوله: (ﯜ ﯝ) أي: لا يظلم كل واحدٍ نفسه.
ووجه تخصيص المعاصي في هذه الأشهر بالنهي: أن الله جعلها مواقيت للعبادة، فإن لم يكن أحدٌ متلبسًا بالعبادة فيها فليكن غير متلبسٍ بالمعاصي، وليس النهي عن المعاصي فيها بمقتضٍ أن المعاصي في غير هذه الأشهر ليست منهيًا عنها، بل المراد أن المعصية فيها أعظم وأن العمل الصالح فيها أكثر أجرًا، ونظيره قوله تعالى: (ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ) [البقرة:١٩٧].
فإن الفسوق منهيٌ عنه في الحج وفي غيره.
وإضافة الأنفس إلى ضمير المخاطبين: للتنبيه على أن الأمة كالنفس من الجسد على حد قوله تعالى: (ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ) [النور:٦١].
أي: على الناس الذين فيها على أرجح التأويلين في تلك الآية، والمراد على هذا تأكيد حكم الأمن في هذه الأشهر، أي: لا يعتدي أحدٌ على آخر بالقتال 126.
وقال تعالى: (ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ) [آل عمران:١٣٥].
البلاغة في قوله: (ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ) تم عطف ظلم النفس على فعل الفاحشة مع أن فعل الفاحشة داخل في ظلم النفس، ذلك لأنه من أبلغ أنواع ظلم النفس، فالفاحشة نوع من أنواع ظلم النفس، وهو الزنا أو كل كبيرة، فخص بهذا الإثم تنبيهًا على زيادة قبحه، وأريد بظلم النفس ما وراء ذلك من الذنوب 127.
جاء الأمر من الله تعالى للإنسان باتباع دينه وحفظ النفس من الشبهات والشهوات في العديد من الآيات.
قال تعالى: (ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ) [النجم:٢٣-٢٤].
لما ذكر تعالى ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من الهدى ودين الحق، والأمر بعبادة الله وتوحيده، ذكر بطلان ما عليه المشركون من عبادة من ليس له من أوصاف الكمال شيء، ولا تنفع ولا تضر، وإنما هي أسماء لا حقيقة لها ولا أنزل الله تعالى بها برهانًا ولا حجة، سماها المشركون هم وآباؤهم الجهال الضلال، وابتدعوا لها من الأسماء الباطلة التي لا تستحقها، فخدعوا بها أنفسهم وغيرهم من الناس، فالآلهة التي بهذه الحال لا تستحق العبادة، فكل أمر ما أنزل الله به من حجة وبرهان، فهو باطل فاسد، لا يتخذ دينًا، وهم في أنفسهم ليسوا بمتبعين لبرهانٍ يتيقنون به، وإنما دلهم على قولهم الظن الفاسد، وما تهواه أنفسهم من الشرك والبدع الموافقة لأهويتهم، والظن: ميل النفس إلى أحد معتقدين متخالفين دون أن يكون ميلها بحجة ولا برهان.
وهوى الأنفس: هو إرادتها الملذات لها، فأينما تجد هوى النفس أبدًا تترك الأفضل؛ لأنها مجبولة بطبعها على حب الملذات، بينما العقل والشرع يردعها ويسوقها إلى حسن العاقبة، وقوله: (ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ) فيه توبيخ وإنكار لحالهم ورأيهم، والهدى المشار إليه محمد صلى الله عليه وسلم وشرعه 128.
ثانيًا: بذل النفس:
قال تعالى: (ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ) [التوبة:١١١].
المعنى: إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بالجنة وعدًا عليه حقًا، وعدهم الجنة جل جلاله، وحقًّا أن يوفي لهم به في كتبه المنزلة التوراة والإنجيل والقرآن، إذا هم وفوا بما عاهدوا الله فقاتلوا في سبيله ونصرة دينه أعداءه فقتلوا وقتلوا، ومن أحسن وفاءً بما ضمن وشرط من الله؟! فاستبشروا أيها المؤمنون الذين صدقوا الله فيما عاهدتم ببيعكم أنفسكم وأموالكم بالذي بعتموها من ربكم، فإن ذلك هو الفوز العظيم، فما من مسلمٍ ولله في عنقه بيعةً وفى بها أو مات عليها في قول الله، إلا وله الجنة، بايعهم الله فأغلى لهم الثمن، فذلك هو الفوز العظيم 129.
وعن كيفية شراء الله المؤمنين أنفسهم وأموالهم قال صاحب زاد المسير: «فأما اشتراء النفس فبالجهاد، وفي اشتراء الأموال وجهان: أحدهما: بالإنفاق في الجهاد، والثاني: بالصدقات » 130.
وعن سبب تسمية ذلك بيعًا، قال القرطبي: «سمى ذلك كله بيعًا وشراءً على وجه المجاز، تشبيهًا بعقود الأشرية والبياعات التي تحصل بها الأغراض » 131.
ذكر في أسباب النزول أن الآية نزلت في بيعة العقبة لما بايعت الأنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا سبعين رجلًا، على أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئًا وأن يمنعوه مما يمنعون أنفسهم، كما يلي:
أخرج الواحدي:(قال محمد بن كعبٍ القرظي: لما بايعت الأنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة بمكة، وهم سبعون نفسًا، قال عبد الله بن رواحة: يا رسول الله اشترط لربك ولنفسك ما شئت، فقال: أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم. قالوا: فإذا فعلنا ذلك فماذا لنا؟ قال: الجنة، قالوا: ربح البيع، لا نقيل ولا نستقيل. فنزلت هذه الآية) 132.
وقال تعالى: (ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ) [البقرة:٢٠٧].
قال الرازي: أكثر المفسرين على أن المراد بهذا الشراء: البيع، وتحقيقه أن المكلف باع نفسه بثواب الآخرة، وهذا البيع هو أنه بذلها في طاعة الله من الصلاة والصيام والحج والجهاد، يبتغي بذلك ثواب الله، فكان ما يبذله من نفسه كالسلعة، وصار الباذل كالبائع، والله كالمشتري، وقد سمى الله تعالى ذلك تجارةً، حيث قال سبحانه وتعالى: (ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ) [الصف:١٠-١١]133.
ويعتبر الأخفش أن معنى: (ﮣ ﮤ) من الأضداد، فيقول: «يبيعها، كما تقول: شريت هذا المتاع أي: بعته، وشريته: اشتريته أيضًا، يجوز في المعنيين » 134.
أخرج الحاكم عن عكرمة قال: (لما خرج صهيبٌ مهاجرًا تبعه أهل مكة فنثل كنانته، فأخرج منها أربعين سهمًا، فقال: لا تصلون إلي حتى أضع في كل رجلٍ منكم سهمًا، ثم أصير بعد إلى السيف فتعلمون أني رجلٌ، وقد خلفت بمكة قينتين فهما لكم، وعن أنسٍ نحوه، ونزلت على النبي صلى الله عليه وسلم: (ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ) فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال: أبا يحيى ربح البيع قال: وتلا عليه الآية)135.
وقال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ) [الفتح:١٠].
المعنى: إن الذين يبايعونك بيعة الرضوان بالحديبية تحت الشجرة على قتال قريشٍ وأن لا يفروا عند لقاء العدو، ولا يولوهم الأدبار، إنما يبايعون الله، فأخبر سبحانه وتعالى أن هذه البيعة لرسوله صلى الله عليه وسلم هي بيعةٌ له؛ فمن يطع الرسول فقد أطاع الله وذلك لأنهم باعوا أنفسهم من الله بالجنة؛ لأن عقد الميثاق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كعقده مع الله سبحانه وتعالى من غير تفاوتٍ، كأنهم يبايعون الله ببيعتهم نبيه، فمن نقض ما عقد من البيعة فإنما ينقض على نفسه؛ لأن ضرر ذلك راجعٌ إليه لا يجاوزه إلى غيره، ومن أوفى وثبت على الوفاء بما عاهد عليه في البيعة لرسوله فله الأجر العظيم وهو الجنة، وجاء عن مجاهد وغيره: يعني: أعراب غفارٍ ومزينة وجهينة وأسلم وأشجع والدئل، وهم الأعراب الذين كانوا حول المدينة 136.
وعن شدة وقوة هذه البيعة قال السعدي: «حتى إنه من شدة تأكده أنه قال: (ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ) أي: كأنهم بايعوا الله وصافحوه بتلك المبايعة، وكل هذا لزيادة التأكيد والتقوية، وحملهم على الوفاء بها، ولهذا قال: (ﭜ ﭝ) فلم يف بما عاهد الله عليه (ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ) أي: لأن وبال ذلك راجع إليه، وعقوبته واصلة له » 137.
وكذلك عن أهمية هذه البيعة، قال ابن عاشور: « وفرع قوله: (ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ) على جملة: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ) فإنه لما كشف كنه هذه البيعة بأنها مبايعةٌ لله ضرورة أنها مبايعةٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، باعتبار رسالته عن الله صار أمر هذه البيعة عظيمًا خطيرًا في الوفاء بما وقع عليه التبايع وفي نكث ذلك، والكلام تحذيرٌ من نكث هذه البيعة وتفظيعٌ له؛ لأن الشرط يتعلق بالمستقبل » 138.
وقال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ) [الكهف:٢٨].
المعنى: في هذه الآية نهى الله جل جلاله نبيه صلى الله عليه وسلم عن طرد ضعفاء المسلمين وفقرائهم، وأمره أن يصبر نفسه معهم، وأن لا يعدو عيناه عنهم إلى أهل الجاه والمنزلة في الدنيا، فنهاه عن إطاعة الكفرة في ذلك، وبين أن طرد ضعفاء المسلمين الذي طلبه كفار العرب من نبينا صلى الله عليه وسلم، طلبه أيضًا قوم نوحٍ من نوحٍ، فأبى139.
ويأتي الزرقاني بنكتة مهمة تعبر عن دقة ملاحظته، فيقول: «ولعلك تلمح معي من وراء هذا العتاب رحمة الرسول بأعدائه، وإخلاصه لدعوته، وتفانيه في وظيفته، وحرصه على هداية الناس أجمعين»140.
التوجيه: هو في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتصبر مع المؤمنين، وعدم ترك عنايته بالفقراء منهم، والانتباه إلى غيرهم؛إرادةً لزينة الحياة الدنيا.
إزهاق النفس في مساخط الله تعالى جاء في عدة آيات:
قال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ) [التوبة:٥٥].
وقال تعالى: (ﯤ ﯥ ﯦ ﯧﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ) [التوبة:٨٥].
يعني بإزهاق النفس في قوله: (ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ): تخرج أنفسهم، فيموتوا على كفرهم بالله وجحودهم نبوة نبي الله محمدٍ صلى الله عليه وسلم، يقال منه: زَهَقَتْ نفس فلانٍ، وزَهِقَتْ، ويقال: زهق الباطل: إذا ذهب ودرس141.
يقول تعالى ذكره لنبيه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: ولا تعجبك يا محمد أموال هؤلاء المنافقين وأولادهم، فتصلي على أحدهم إذا مات وتقوم على قبره من أجل كثرة ماله وولده، فإني إنما أعطيته ما أعطيته من ذلك لأعذبه بها في الدنيا بالغموم والهموم، بما ألزمه فيها من المؤن والنفقات والزكوات وبما ينوبه فيها من الرزايا والمصيبات (ﭟ ﭠ) يقول: وليموت فتخرج نفسه من جسده، فيفارق ما أعطيته من المال والولد، فيكون ذلك حسرةً عليه عند موته ووبالًا عليه حينئذٍ ووبالًا عليه في الآخرة بموته، جاحدًا توحيد الله ونبوة نبيه محمدٍ صلى الله عليه وسلم142.
فمعنى الآية: أي: لا تستحسن ما أعطيناهم ولا تمل إليه فإنه استدراجٌ، وإنما يريد الله ليعذبهم بها، وقيل: في الكلام تقديمٌ وتأخيرٌ، والمعنى فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة، وقيل: المعنى فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الدنيا؛ لأنهم منافقون فهم ينفقون كارهين فيعذبون بها بإخراج الزكاة وبما ينفقون في سبيل الله، وقوله: (ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ): نصٌ في أن الله يريد أن يموتوا كافرين، سبق بذلك القضاء 143.
وعن علة إعطائهم ذلك المال وتكثيره لهم، قال الجزائري: «ووجه تعذيبهم بها في الحياة الدنيا أن ما ينفقونه من المال في الزكاة والجهاد، يشعرون معه بألم لا نظير له؛ لأنه إنفاق يعتبرونه ضدهم وليس في صالحهم، إذ لا يريدون نصر الإسلام ولا ظهوره، وزيادة على هذا يموتون وهم كافرون فينتقلون من عذاب إلى عذاب أشد»144.
أولًا: المحاسبة والمجازاة على الأعمال:
قال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖﭗ ﭘ ﭙ ﭚﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ) [غافر:١٧].
يقول تعالى ذكره مخبرًا عن قيله يوم القيامة حين يبعث خلقه من قبورهم لموقف الحساب: اليوم يثاب كل عاملٍ بعمله، فيوفى أجر عمله، فعامل الخير يجزى الخير، وعامل الشر يجزى جزاءه 145.
فلما قرر أن الملك لله وحده في ذلك اليوم، أخبر تعالى عن عدله في حكمه بين خلقه، أنه لا يظلم مثقال ذرةٍ من خيرٍ ولا من شرٍ، فكل نفس تجزى بما عملت في الدنيا، وأن الظلم مأمون منه، بل يجزي بالحسنة عشر أمثالها، وبالسيئة واحدةً؛ ولهذا قال: (ﭘ ﭙ ﭚ) لأن الله تعالى ليس بظلام للعبيد، وأن الحساب لا يبطئ؛ لأنه لا يشغله حساب عن حساب فيحاسب الخلق كله في وقت واحد، أي: يحاسب الخلائق كلهم كما يحاسب نفسًا واحدةً، وهو أسرع الحاسبين كما قال: (ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ) [لقمان:٢٨]146.
وقال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤﭥ ﭦ ﭧ ﭨﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ) [آل عمران:٣٠].
عما تدل عليه فاصلة الآية.
قال الشوكاني:
« وفي قوله: (ﭪ ﭫ ﭬ) دليلٌ على أن هذا التحذير الشديد مقترنٌ بالرأفة منه سبحانه بعباده لطفًا بهم » 147.
والضمير في قوله: (ﭢ) على هذا يعود إلى ما عملت من سوءٍ، أو يكون عائدًا إلى يوم أي: تود أنه تأخر ولم يحضر148.
ثانيًا: الشهادة على النفس:
قال تعالى: (ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ) [الأنعام:١٣٠].
المعنى: أي: يوم نحشر عالم الجن والإنس ثم نقول لهم: ألم يأتكم رسلٌ؟ فيعترفون بما فيه افتضاحهم، ومعنى (ﯟ) في الخلق والتكليف والمخاطبة، ولما كانت الجن ممن يخاطب ويعقل قال: منكم، وإن كانت الرسل من الإنس وغلب الإنس في الخطاب كما يغلب المذكر على المؤنث، لكن ابن عباسٍ قال:« رسل الجن هم الذين بلغوا قومهم ما سمعوه من الوحي، كما قال: (ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ)[الأحقاف:٢٩]» ويؤكد ذلك أنه كان قومٌ من الجن استمعوا إلى نبينا صلى الله عليه وسلم، ثم عادوا إلى قومهم وأخبروهم، فيقال لهم: رسل الله، وإن لم ينص على إرسالهم، وقوله: (ﯭ ﯮ ﯯ) أي: إن هؤلاء قد غرتهم الحياة الدنيا، فخدعتهم وظنوا أنها تدوم، وخافوا زوالها عنهم إن آمنوا 149.
معنى الشهادة على النفس في قوله تعالى: (ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ) أي: أقررنا أن الرسل قد بلغونا رسالاتك، وأنذرونا لقاءك، وأن هذا اليوم كائنٌ لا محالة.
ومعنى قوله تعالى: (ﯰ ﯱ ﯲ) أي: يوم القيامة اعترفوا بكفرهم، (ﯳ ﯴ ﯵ) أي: في الدنيا، بما جاءتهم به الرسل، وهذا حين شهدت عليهم الجوارح بالشرك وبما كانوا يعملون 150.
وقال تعالى: (ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ) [ق:٢١].
المعنى: وجاءت يوم ينفخ في الصور كل نفسٍ ربها، معها سائقٌ يسوقها إلى الله، وشهيدٌ يشهد عليها بما عملت في الدنيا من خيرٍ أو شرٍ 151.
لكن الطبري أخرج عن ابن عباسٍ، قوله: (ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ) قال: « السائق من الملائكة، والشهيد: شاهدٌ عليه من نفسه » 152.
ونرى أن القولين متقاربان و النص يحتملهما فالملائكة تسوق المذنبين الى العقاب، والجوارح تشهد على هؤلاء إذا انكروا تلك الذنوب و المعاصي.
ثالثًا: المجادلة عن النفس:
قال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ) [النحل:١١١].
المعنى: يوم تأتي يوم القيامة كل نفسٍ تحاج عن نفسها بما أسلفت في الدنيا من خيرٍ أو شرٍ، أو إيمانٍ أو كفرٍ، وتسعى في خلاصها، لا يهمها إلا ذاتها وشأنها، ولا يغني عنها مال ولا أب ولا ابن ولا أخٌ ولا زوجةٌ ولا شيء ما، وتوفى كل نفسٍ ما عملت في الدنيا من طاعةٍ ومعصيةٍ، وهم لا يفعل بهم إلا ما يستحقونه ويستوجبونه بما قدموه من خيرٍ أو شرٍ، فلا يجزى المحسن إلا بالإحسان، ولا المسيء إلا بالذي أسلف من الإساءة، لا يعاقب محسنٌ، ولا يبخس جزاء إحسانه، ولا يثاب مسيءٌ إلا ثواب عمله 153.
والنفس الأولى: بمعنى الذات والشخص كقوله: (ﮱ ﯓ ﯔ) [المائدة:٤٥].
والنفس الثانية: ما به الشخص شخصٌ، فالاختلاف بينهما بالاعتبار كقوله: (ﮧ ﮨ) [البقرة:٤٤].
والمعنى: يأتي كل أحدٍ يدافع عن ذاته، أي: يدافع بأقواله ليدفع تبعات أعماله. وضميرا (ﭞ ﭟ ﭠ): عائدان إلى كل نفسٍ بحسب المعنى؛ لأن كل نفسٍ يدل على جمعٍ من النفوس 154.
رابعًا: التوفية بجزاء الأعمال:
قال تعالى: (ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ) [البقرة:٢٨١].
قوله: (ﯸ ﯹ) تذييل للأحكام السابقة؛ لأنه صالحٌ للترهيب من ارتكاب ما نهي عنه والترغيب في فعل ما أمر به؛ لأن في ترك المنهيات السلامة من الآثام، وفي فعل المطلوبات الاستكثار من الثواب، والكل يريد اتقاء ذلك اليوم الذي تطلب فيه السلامة 155. ومعنى توفية الجزاء بالكسب، قال محمد بن إسحاق:« (ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ): قال: ثم يجزى بكسبه غير مظلومٍ ولا معتدًى عليه »156. و تعد هذه الآية من آخر ما نزل من القران الكريم دليل واضح على المسئولية الكاملة للأعمال التي تقوم بها كل نفس خيرًا كانت أو شرًا.
وقال تعالى: (ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ) [آل عمران:٢٥].
هذا خطابٌ للنبي صلى الله عليه وسلم وأمته على جهة التوقيف والتعجب، أي فكيف يكون حالهم أو كيف يصنعون إذا حشروا يوم القيامة وتركوا كل الزخارف التي ادعوها في الدنيا، وجوزوا بما اكتسبوه من كفرهم واجترائهم وقبيح أعمالهم، واللام في قوله« ليومٍ» بمعنى« في»، أو بمعنى لحساب يومٍ، ثم قال: (ﮃ ﮄ ﮅ) فلا ينقص من ثواب حسناتهم، ولا يزاد على عقاب سيئاتهم 157.
وعن هدف الاستفهام، قال أبو السعود: «(ﭷ) ردٌ لقولهم المذكور وإبطال لما غرهم باستعظام ما سيدهمهم وتهويل ما سيحيق بهم من الأهوال، أي: فكيف يكون حالهم (ﭸ ﭹ ﭺ) أي: لجزاء يوم (ﭻ ﭼ ﭽ) أي: في وقوعه ووقوع ما فيه؟!»158.
وفى الآية الكريمة بعض القضايا البلاغية منها في قوله تعالى: (ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ) إسناد التوفية إلى ما كسبت وعدم ذكر الجزاء، فيه إشارة إلى عدل الله اللطيف الخبير، وهو مساواة الجزاء للعمل، وكأن المثاب يوفى عمله، لا جزاء عمله، وذلك لشدة المساواة بينهما، وأكد سبحانه وتعالى معنى العدالة بقوله: (ﮃ ﮄ ﮅ) أي: سيجزون بأعمالهم، وسينالون ما يستحقون، وكل ما ينالهم بسبب ما فعلوا هو العدل عينه، فإذا ألقوا في السعير فليس في ذلك ظلم بل هو العدل 159.
خامسًا: مصيرها:
مصير النفس وأين ستذهب بعد الموت، جاء ذكره كثيرًا في القرآن الكريم، وذلك حتى يعرف الإنسان أين يكون مصيره إن هو آمن والتزم بشرع الله تعالى، أو عصاه واتبع هواه، فإما إلى الجنة وإما إلى النار، ويتضح ذلك من خلال العديد من الآيات الآتية، منها:
قال تعالى: (ﮞ ﮟ ﮠ ﮡﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ) [آل عمران:١٨٥].
المقصود من هذه الآية تأكيد تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم والمبالغة في إزالة الحزن من قلبه، وذلك من وجهين:
أحدهما: أن عاقبة كل الناس الموت، وهذه الغموم والأحزان تذهب وتزول، وبالتالي لن يلتفت العاقل إليها.
والثاني: أن بعد هذه الدار دارٌ يتميز فيها المحسن عن المسيء، وتأخذ كل نفسٍ ما يليق بها من الجزاء؛ ولذلك فكل واحد من هذين الوجهين يعمل على إزالة الحزن والغم عن قلوب العقلاء المؤمنين 160.
معنى الآية: ومصير ومرجع جميع خلقه إليه تعالى؛ لأنه قد حتم الموت على جميعهم، فأوفي كل نفسٍ منهم جزاء عمله يوم القيامة، يعني: توفون أجور أعمالكم يوم القيامة إن خيرًا فخيرٌ، وإن شرًا فشرٌ؛ لأن توفية الأجور وتكميلها يكون ذلك اليوم، فمن نحي عن النار وأبعد منها فقد نجا وظفر بحاجته، أي: أدخل الجنة، ولا غاية للفوز وراء النجاة من سخط الله والعذاب السرمد، ونيل رضوان الله والنعيم المخلد، وما لذات الدنيا وشهواتها، وما فيها من زينتها وزخارفها إلا متعةٌ يمتعكموها الغرور والخداع المضمحل، فأنتم تتلذذون بما متعكم الغرور من دنياكم، فلا تركنوا إلى الدنيا فتسكنوا إليها، فإنما أنتم منها في غرورٍ تمتعون، ثم أنتم عنها بعد قليلٍ راحلون 161.
وقال تعالى: (ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ) [التكوير:١٤].
صيغة الماضي في الآية الواردة أن (إذا) مستعملةٌ في معنى الاستقبال تنبيهًا على تحقق وقوع الشرط، وجواب الشرط هو قوله: (ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ) 162.
وقال تعالى: (ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ) [الانفطار:٥].
جملة: (ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ) جوابٌ لما في إذا من معنى الشرط، وهذا العلم كنايةٌ عن الحساب على ما قدمت النفوس وأخرت. وإثبات العلم للناس بما قدموا وأخروا عند حصول تلك الشروط لعدم الاعتداد بعلمهم بذلك الذي كان في الحياة الدنيا، فنزل منزلة عدم العلم، كما في قوله:(ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ) في سورة التكوير.
والعلم يتحقق بإدراك ما لم يكن معلومًا من قبل، وبتذكر ما نسي لطول المدة عليه، وهذا وعيدٌ بالحساب على جميع أعمال المشركين، ووعدٌ للمتقين، ومختلطٌ لمن عملوا عملًا صالحًا وآخر سيئًا 163.
موضوعات ذات صلة: |
الإنسان، الروح، العقل، القلب |
1 مقاييس اللغة ٥/٤٦٠.
2 انظر: مختار الصحاح، الرازي ص ٣١٦.
3 انظر: تهذيب اللغة، الأزهري، ١٣/٨.
4 انظر: تاج العروس، الزبيدي ١٦/٥٥٩.
5 التعريفات، الجرجاني ص ٢٤٢.
6 مرقاة المفاتيح، الملا علي القاري ٥/١٩٠١.
7 التوقيف على مهمات التعاريف، المناوي ص ٣٢٧.
8 انظر: المعجم المفهرس الشامل لألفاظ القرآن الكريم، عبد الله إبراهيم جلغوم، ص ١٣٣٥-١٣٤١.
9 انظر: الوجوه والنظائر، الدامغاني، ص٤٥٠-٤٤٩.
10 مقاييس اللغة ٢/٤٥٤.
11 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٥/١١٦.
12 المصدر السابق.
13 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الصلاة، باب ما جاء في القنوت، رقم ١٥٠٥، ٢/١٣٨.
14 أخرجه مالك في الموطأ، رقم ٢٦، ١/٤٦ قال الألباني: صحيح.
15 انظر: تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، ٥/١١٦.
16 المصدر السابق.
17 مقاييس اللغة ١/٤٥٧.
18 انظر: الصحاح، الجوهري ٢/٤٥٦.
19 المحكم والمحيط الأعظم، ابن سيده ٧/٢٦٠.
20 العين ٦/٤٧.
21 تاج العروس، الزبيدي ١٦/٥٦٠.
22 الروض الأنف، السهيلي، ٣/١٠٠.
23 شرح الطحاوية، ابن جبرين ٥٩/٧.
24 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب البر والصلة، باب تحريم الظلم، ٤/١٩٩٤ رقم ٢٥٧٧.
25 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الصلاة، باب ما يقال في الركوع والسجود، ١/٣٥٢، رقم ٤٨٦.
26 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: (ويحذركم الله نفسه)، ٩/١٢١، رقم ٧٤٠٥، ومسلم في صحيحه، كتاب الذكر، باب الحث على ذكر الله، ٤/٢٠٦١، رقم ٢٦٧٥.
27 شرح صحيح البخاري، ابن بطال ١٠/٤٢٧.
28 الفقه الأكبر، أبو حنيفة ص ٢٧.
29 اللباب في علوم الكتاب، ابن عادل ٨/١٧٥.
30 التحرير والتنوير ٧/١١٥.
31 انظر: جامع البيان، الطبري ٦/٣٣٩ - ٣٤٠.
32 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٢/٢٠٦.
33 محاسن التأويل، القاسمي ٣/٥.
34 جامع البيان، الطبري ١٠/٦١٧.
35 معالم التنزيل، البغوي ٢/٢٥٧.
36 انظر: أضواء البيان، الشنقيطي ١/٤٨٩.
37 انظر: تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٨/٤١١.
38 انظر: الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٢٠/٧٥.
39 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب القدر، باب كل ميسر لما خلق له، ٤/٢٠٤١، رقم ٢٦٥٠.
40 انظر: زاد المسير، ابن الجوزي ٤/٤٥١، فتح القدير، الشوكاني ٥/٥٤٧.
41 معاني القرآن وإعرابه، الزجاج ٥/٣٣٢.
42 انظر: جامع البيان، الطبري ٢٣/٤٩١-٩٣. لباب التأويل، الخازن ٤/٣٧١.
43 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ١٩/١٠٠.
44 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٢٩/٣٤٨.
45 انظر: المصدر السابق ٤/٢٨٦.
46 انظر: الكشاف، الزمخشري ١/٢٨٤، البحر المحيط، أبو حيان ٢/٥٢٦.
47 انظر: تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ١/٦٤١.
48 إرشاد العقل السليم، أبو السعود ١/٢٣٣.
49 محاسن التأويل، القاسمي ٢/١٦٠.
50 انظر: روائع التفسير، ابن رجب الحنبلي ١/١٩٩.
51 انظر: غرائب القرآن، النيسابوري ٢/٨٥.
52 انظر: تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص١٢٠.
53 انظر: تفسير السمرقندي ١/١٨٨، معالم التنزيل، البغوي ١/٤٠٠.
54 انظر: تفسير الفاتحة والبقرة، ابن عثيمين ٣/٤٣٣.
55 انظر: تفسير السلمي ٢/٤٣٤، تفسير التستري ١/٢١١.
56 مجموع فتاوى ابن تيمية ١/١٢٥.
57 التعريفات، الجرجاني، ص٢٤٣.
58 مدارج السالكين، ابن القيم ٢/٤٧٧.
59 أدب الدنيا والدين، الماوردي ص ٤٥٣.
60 انظر: التعريفات، الجرجاني ص ٢٤٣.
61 انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية ٩/٢٩٤.
62 انظر: المصدر السابق.
63 انظر: زاد المسير، ابن الجوزي ١/٢٥٥، الكشاف، الزمخشري ١/٣٣٢.
64 انظر: التحرير والتنوير، ابن عاشور ٣/١٣٤.
65 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب بيان قوله تعالى: (وإن تبدوا ما في أنفسكم)، رقم ١٢٦، ١/١١٦.
66 انظر: الوجيز، الواحدي ص ١٧٢.
67 فتح القدير، الشوكاني ١/٢٨١.
68 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ١٥/٣٧٠.
69 انظر: جامع البيان، الطبري ١٤/٤٧٨.
70 التحرير والتنوير، ابن عاشور ١٥/٣٣.
71 انظر: تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٤/٣٠٠.
72 انظر: زاد المسير، ابن الجوزي ٢/٣٥٤. أنوار التنزيل، البيضاوي ٣/١٢٦.
73 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب البر والصلة، باب تحريم الظلم، ٤/١٩٩٦، رقم ٢٥٧٨.
74 أخرجه أبو داود في سننه، بابٌ في الشح، ٢/١٣٣، رقم ١٦٩٨.
وصححه الألباني في صحيح الجامع، ١/٥٢١، رقم ٢٦٧٨.
75 مفاتيح الغيب، الرازي ٢٩/٥٠٨.
76 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب مناقب الأنصار، باب قول الله: (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصةٌ)، ٥/٣٤، رقم ٣٧٩٨.
77 انظر: الجواهر الحسان، الثعالبي ٥/٤١٠.
78 انظر: مدارك التنزيل، النسفي ٣/٤٩٤، فتح القدير، الشوكاني ٥/٢٨٥.
79 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٨/١٤١.
80 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأيمان، باب إذا حنث ناسيًا في الأيمان، ٨/١٣٥، رقم ٦٦٦٤.
81 انظر: التحرير والتنوير، ابن عاشور ٢٦/٢٩٩.
82 انظر: الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ١٧/٨- ٩.
83 انظر: التحرير والتنوير، ابن عاشور ٢٦/٢٩٩-٣٠٠.
84 تفسير القرآن الكريم، الحجرات، الحديد ، ابن عثيمين ص ٨٩.
85 انظر: تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٤/٣٧٥.
86 انظر: السراج المنير، الشربيني ٢/٩٦.
87 انظر: تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٤/٣٠٤.
88 انظر: فتح القدير، الشوكاني ١/٢١٤-٢١٥.
89 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الصيام، باب قول الله جل ذكره: (أحل لكم ليلة الصيام) ، ٣/٢٨، رقم ١٩١٥.
90 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، باب قول الله جل ذكره: (أحل لكم ليلة الصيام)، ٦/٢٥، رقم ٤٥٠٨.
91 انظر: جامع البيان، الطبري ٣/٤٩٣.
92 انظر: المصدر السابق ٣/٤٩٦.
93 انظر: البحر المحيط، أبو حيان ٢/٢١٣، تفسير السمرقندي ١/١٢٤، فتح القدير، الشوكاني ١/٢١٤.
94 انظر: التحرير والتنوير، ابن عاشور ٢/١٨٦.
95 انظر: جامع البيان، الطبري ٧/٤٧٠.
96 انظر: التحرير والتنوير، ابن عاشور ٥/١٩٤.
97 انظر: تفسير القرآن، السمعاني ١/٤٧٦، معالم التنزيل، البغوي ١/٦٩٩.
98 انظر: المحرر الوجيز، ابن عطية ٢/١٠٨.
99 انطر: الوجيز، الواحدي ص٢٨٧، البحر المحيط، أبو حيان ٤/٥٥.
100 جامع البيان، الطبري ٩/١٨٢.
101 انظر: القاموس المحيط، الفيروزآبادي، ص ٧١٢. تاج العروس، الزبيدي، ٢٠/٤٩١.
102 انظر: أنوار التنزيل، البيضاوي ١/٤٤. التسهيل لعلوم التنزيل، ابن جزي ١/٧١.
103 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ١/١٧٧.
104 انظر: تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ١/٣٢١.
105 إرشاد العقل السليم، أبو السعود ١/١٢٧.
106 انظر: تفسير المنار، محمد رشيد رضا ٦/٣٩٨.
107 المصدر السابق ١/٣١٢.
108 انظر: التحرير والتنوير، ابن عاشور ٦/٢٧٤.
109 انظر: المصدر السابق.
110 انظر: زهرة التفاسير، أبو زهرة ١/٢١٥.
111 جامع البيان، الطبري ١/٦١٥.
112 انظر: معاني القرآن وإعرابه، الزجاج ١/١٢٥.
113 فتح القدير، الشوكاني ١/٩٢.
114 أخرجه أحمد في المسند، رقم ٢١٩٧، ٤/٧٧.
وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، ١/٥٨٥، رقم ٢٩١.
115 انظر: تفسير السمرقندي ٢/٣١٠.
116 أنوار التنزيل، البيضاوي ٣،/٢٥٤.
117 انظر: معالم التنزيل، البغوي ٣/١٣٢.
118 انظر: المصدر السابق ١٧/٤٣٠.
119 انظر: المصدر السابق ١٧/٤٤٢.
120 البحر المحيط، أبو حيان ٧/٤٥.
121 جامع البيان، الطبري ٦/٦٣٧.
122 انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية ٧/٦٢.
123 التحرير والتنوير، ابن عاشور ١٠/١٨٦.
124 انظر: جامع البيان، الطبري ١١/٤٤٤.
125 انظر: شعب الإيمان، البيهقي، ٥/٣٤٠، رقم ٣٥٢٥.
126 انظر: التحرير والتنوير، ابن عاشور ١٠/١٨٦.
127 انظر: أنموذج جليل في أسئلة وأجوبة عن غرائب آي التنزيل، الرازي ص ٥٢.
128 انظر: المحرر الوجيز، ابن عطية ٥/٢٠١، ٢٠٢، تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص ٨١٩.
129 انظر: جامع البيان، الطبري ١٢/٥.
130 زاد المسير، ابن الجوزي ٢/٣٠٢.
131 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٥/١٥١.
132 أسباب النزول، الواحدي ص ٢٦٦، رقم ٥٢٩.
133 انظر: مفاتيح الغيب، الرازي ٥/٣٥٠.
134 معانى القرآن، الأخفش ١/١٧٨.
135 أخرجه الحاكم في المستدرك، باب ذكر مناقب صهيب بن سنانٍ مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ٣/٣٩٨، رقم ٥٧٠٠.
وقال عنه: صحيحٌ على شرط مسلمٍ، ولم يخرجاه.
وصححه الألباني في فقه السيرة ص١٥٧.
136 انظر: فتح القدير، الشوكاني ٥/٥٦-٥٧، محاسن التأويل، القاسمي ٨/٤٨٧.
137 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص ٧٩٢.
138 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٢٦/١٥٩.
139 انظر: أضواء البيان، الشنقيطي ١/٤٧٨.
140 مناهل العرفان، الزرقاني ٢/٣٩٥.
141 انظر: جامع البيان، الطبري ١١/٥٠٢.
142 انظر: المصدر السابق ١١/٦١٥.
143 انظر: الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٨/١٦٤.
144 أيسر التفاسير، الجزائري ٢/٣٨١.
145 انظر: جامع البيان، الطبري ٢٠/٢٩٩.
146 انظر: تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٧/١٣٦، مدارك التنزيل، النسفي ٣/٢٠٤.
147 فتح القدير، الشوكاني ١/٣٨١.
148 انظر: التحرير والتنوير، ابن عاشور ٣/٢٢٣.
149 انظر: الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٧/٨٥- ٨٦.
150 انظر: تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٣/٣٤١. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٧/٨٧.
151 انظر: مصنف ابن أبي شيبة، ٧/٢١١، رقم ٣٥٤٢١، الزهد، نعيم بن حماد ٢/١٠٦.
152 جامع البيان، الطبري ٢١/٤٣٠.
153 انظر: المصدر السابق ١٤/٣٨١.
154 انظر: التحرير والتنوير، ابن عاشور ١٤/٣٠٣.
155 انظر: المصدر السابق ٣/٩٧.
156 انظر: تفسير ابن أبي حاتم ٣/٨٠٥، تفسير القرآن، ابن المنذر ٢/٤٧٤.
157 انظر: الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٤/٥١، فتح القدير، الشوكاني ١/٣٧٧. اللباب في علوم الكتاب، ابن عادل ٥/١٢١.
158 إرشاد العقل السليم، أبو السعود ٢/٢١.
159 انظر: زهرة التفاسير، أبو زهرة ٣/١١٦٦.
160 انظر: مفاتيح الغيب، الرازي ٩/٤٥١.
161 انظر: جامع البيان، الطبري ٦/٢٨٨، الكشاف، الزمخشري ١/٤٤٩.
162 انظر: مفاتيح الغيب، الرازي ٣١/٧٠، التحرير والتنوير، ابن عاشور ٣٠/١٤٠.
163 انظر: التحرير والتنوير، ابن عاشور ٣٠/١٧٠-١٧٢.