عناصر الموضوع

مفهوم النجاة

النجاة في الاستعمال القرآني

الألفاظ ذات الصلة

أسباب النجاة

المنجى منه في الدنيا والآخرة

نماذج من الناجين في القرآن الكريم

النجاة

مفهوم النجاة

أولًا: المعنى اللغوي:

جاء في كتاب العين: «نجا فلان من الشر ينجو نجاة، ونجا ينجو، في السرعة، نجاء فهو ناج وناقة ناجية: سريعة... والنجاة: النجوة من الأرض، أي:الارتفاع، لا يعلوه ماء»1، وزاد ابن دريد: «نجوت العود أنجو نجوًا، إذا اقتضبته من الشجرة... وقال بعض المفسرين2 في قوله عز وجل: ( )[يونس:٩٢].

أي: نلقيك على نجوة... ونجوت الجلد عن الناقة، إذا قشطته»3، وهو ما ذهب إليه ابن فارس في تفسير (نجو) بالكشط والكشف، قال: «ونجا الإنسان ينجو نجاة، ونجاء في السرعة وهو معنى الذهاب والانكشاف من المكان. وناقة ناجية ونجاة: سريعة. ومن الباب وهو محمول على ما ذكرناه من النجاء: النجاة والنجوة من الأرض، وهي التي لا يعلوها سيل»4.

وجاء في الفرق بين المعنيين اللغويين للفعلين الرباعيين (أنجى) و(نجى): «معنى أنجاه: أخلصه قبل وقوعه في المهلكة؛ ونجاه: أخلصه بعد الوقوع»5.

ثانيًا: المعنى الاصطلاحي:

عرفها ابن الجوزي بأنها: «تخليص الواقع في الشيء»6، ويؤكد ذلك في مصنف آخر بقوله: «يقال: نجيت فلانًا أنجيه: إذا خلصته من شر وقع فيه»7 وهو تعريف واسع وشامل لمعنى النجاة إذ لم يحدد ذلك الشيء بعذاب أو مخافة أو هلاك أو مكروه.

يلاحظ أن هناك اتفاقًا بين المعنيين اللغوي والاصطلاحي في مسألة الخلاص التي يمكننا أن نفسرها بأنها حالة من التغيير تتم من خلال عملية إنقاذ أو انتشال من ظرف أو موقف أو واقع عصيب إلى آخر مطمئن.

النجاة في الاستعمال القرآني

وردت مادة (نجو) في القرآن الكريم (٨٣) مرة، يخص موضوع البحث منها (٦٦) مرة8.

والصيغ التي وردت، هي:

الصيغة

عدد المرات

المثال

الفعل الماضي

٤٥

( ) [يوسف:٤٥]

الفعل المضارع

١١

( ) [يونس:١٠٣]

فعل الأمر(دعائي)

٦

( ) [الشعراء:١٦٩]

اسم فاعل

٣

( ) [العنكبوت:٣٣]

المصدر

١

( ) [غافر:٤١]

وجاءت النجاة في الاستعمال القرآني بمعناها في اللغة وهو: الخلاص والسلامة 9.

الألفاظ ذات الصلة

الإفلات:

الإفلات لغة:

هو «التخلص من الشيء فجأة، من غير تمكث»10.

الإفلات اصطلاحًا:

لا يخرج عن معناه اللغوي، جاء في معجم لغة الفقهاء أن الإفلات هو «النجاة والتخلص»11.

الصلة بين الإفلات والنجاة:

الجامع بينه وبين النجاة هو الخلاص غير أنهما يفترقان في أن النجاة لا تقتضي الفجأة في التخلص.

الإنقاذ:

الإنقاذ لغة:

قيل في النقذ: هو «التخليص والتنجية، كالإنقاذ والتنقيذ والاستنقاذ والتنقذ وفي الصحاح: أنقذه من فلان واستنقذه منه وتنقذه بمعنى أي: نجاه وخلصه... والنقذ السلامة والنجاة»12. قال ابن منظور: «نقذ نقذًا نجا»13.

الإنقاذ اصطلاحًا:

«التخليص من ورطة»14.

الصلة بين الإنقاذ والنجاة:

فكل من الإنقاذ والنجاة يؤدي معنى الخلاص من مأزق، غير أنهما يفترقان في أن الإنقاذ لا يكون إلا بفعل الآخر، في حين تكون النجاة بفعل الشخص نفسه أو الآخر.

الخلاص والتخلص:

الخلاص لغة:

قال الزبيدي: «وخلص الله (فلانًا: نجاه) بعد أن كان نشب»15.

الخلاص اصطلاحًا:

لا يخرج عن معناه اللغوي.

الصلة بين الخلاص والنجاة:

غير أن الفرق بين التخلص والنجاة هو: «أن التخلص يكون من تعقيد وإن لم يكن أذى، والنجاة لا تكون إلا من أذى، ولا يقال لمن لا خوف عليه نجا، لأنه لا يكون ناجيا إلا مما يخاف»16.

السلامة:

السلامة لغة:

«السلام والسلامة البراءة... وسلم من الأمر سلامة: نجا»17 قال ابن الجوزي: «النجاة والخلاص والسلامة متقارب»18.

السلامة اصطلاحًا:

هي «التعري من الآفات الظاهرة والباطنة»19.

الصلة بين السلامة والنجاة:

أن النجاة مأخوذة من النجوة كما تقدم وهي الارتفاع عن الهلاك، أما السلامة مأخوذة من إعطاء الشيء من غير نقيصة، وقيل: إن السلام «اسم مصدر من سلم يسلم تسليما كالكلام والطلاق، وهو بمعنى النجاة والتخلص مما لا يرغب فيه»20.

الفوز:

الفوز لغةً:

الفاء والواو والزاي كلمتان متضادتان، فالأولى: النجاة، والأخرى: الهلكة.

فمن الأولى قولهم: فاز يفوز، إذا نجا، وهو فائز، وفاز بالأمر: إذا ذهب به وخلص، ويقال هذا لمن ظفر بخير وذهب به، والكلمة الأخرى قولهم: فوز الرجل، إذا مات وهلك21.

الفوز اصطلاحًا:

«الظفر بالخير مع حصول السلامة»22.

الصلة بين الفوز والنجاة:

يفترق الفوز عن النجاة في أنه يقتضي السلامة مع النجاة، جاء في «الفرق بين النجاة والفوز: أن النجاة هي الخلاص من المكروه، والفوز هو الخلاص من المكروه مع الوصول إلى المحبوب، ولهذا سمى الله تعالى المؤمنين فائزين لنجاتهم من النار ونيلهم الجنة»23.

أسباب النجاة

خلق الله تعالى الإنسان وأمره بالالتزام بطاعته والمواظبة على عبادته وترك ما يوجب غضبه وسخطه والاستعداد للتعاطي مع أحكامه والرضا بما قسم الله له من ابتلاء في سرائه وضرائه، فالله مبتليه على أية حال ليمحص عزمه وإيمانه، فإذا وافق أن يكون قلبه منقادًا لحكم الله وعامرًا بحبه، صبر على ابتلائه وفاز بمنجاته وإن وافق أن يكون قلبه ضالًا جاهلًا بمعرفة الله تعالى واتباع سبيله، فلن يجد من دون الله وليًا ولا نصيرًا. ويقينًا أن للنجاة أسبابها وسبلها التي تضمن لكل من ينهجها بإخلاص التوفيق للوصول إليها ويمكننا تحديد تلك الأسباب في النقاط الآتية:

أولًا: الإيمان:

الإيمان مبدأ شامل تنضوي تحته جملة من العقائد منها الإقرار والاعتراف بأسماء الله وصفاته الكاملة العليا، وما له على مخلوقاته من الحقوق: كالتأليه والعبادة في الظاهر والباطن، إلى جانب الاعتراف بملائكته وكتبه ورسله عليهم الصلاة والسلام، وما جاء به كتابه الكريم من أخبار الأمم السابقة وقصصها، وأنباء ما يستقبل من الزمان، وما ساقه من وعد ووعيد بثواب يوم الآخر وعقابه24.

والمتتبع لآيات الذكر الحكيم يجد صورة متكاملة لمفهوم الإيمان وأصوله وسبله، فلا تكاد سورة تخلو في ألفاظها أو مضمونها من التذكير بعقيدة الإيمان وما يتوجب على العبد التحلي به من استعدادات نفسية وصفات أخلاقية وممارسات فعلية لاكتساب صفة المؤمن.

وكثيرًا ما يسوق لنا القرآن الكريم قصصًا ومواقف عقائدية رافقت مسيرة أنبياء الله ومن آمن بهم وبرسالاتهم السماوية، ليعتبر بها أولو الألباب الذين ينشدون السبيل إلى الله ابتغاءً لمرضاته وسعيًا إلى النجاة من غضبه.

فالنجاة بالإيمان درس بليغ تزخر به آيات الكتاب المبين صراحة وضمنًا، وتدعونا إلى التفكر في أسباب بلوغ درجاته وكيفية الوصول إلى المستوى العقائدي المقبول الذي يحقق لنا مرضاة الله عز وجل التي هي الأساس في تقرير سعادة العبد أو شقائه، فشتان بين من حبب الله إليهم الإيمان وزينه في قلوبهم ومن حقت عليهم كلمة الله بأنهم لا يؤمنون، فأنى لهم النجاة من عذاب الله ؟ قال تعالى: ( - ﯿ ) [يونس:٩٦-٩٧].

فليس هناك من يجير العبد من غضب الله إلا إيمانه، إذ لا أهمية لمال أو بنين في اتقائه، ولا ينفع العبد شيء مثل إيمانه في السعة من حياته وليس بنافعه أن يؤمن عند نزول العذاب أو حضره الموت، وقد أكد القرآن ذلك في أكثر من مناسبة.

قال تعالى: ( - ) [غافر:٨٤-٨٥].

وقال في موضع آخر: ( ) [الأنعام:١٥٨].

فالإيمان لا يكون منجيًا إلا إذا صحت شروطه واعتنقته النفس بصدق وأقر بذلك القلب، أما من استحوذ عليه الشيطان فأعرض عن الإيمان فلا منجاة له حين يداهمه عذاب الله وأجله، وهذا ما وعد الله به موسى وهارون(عليهما السلام) حين دعواه وطلبا منه أن لا يجعل للإيمان سبيلًا إلى قلب فرعون وجنوده حتى يدركهم العذاب، إذ قالا: ( ﯿ )[يونس:٨٨].

فاستجاب الله لهما دعوتهما بقوله: ( )[يونس:٨٨].

فكان وعد الله حقًا حين أغرق فرعون وجنوده فأراد فرعون أن يخلص نفسه فادعى الإيمان قائلًا: ( ) [يونس:٩٠].

غير أنه إيمان فارغ من محتواه وخال من التسليم والانقياد إلى الله، أو هو إيمان صوري أراد فرعون من خلاله أن يتشبه -بمكر- بالمؤمنين من بني إسرائيل بهدف النجاة، فمكر له الله وحقق له نجاة تليق بمستوى إيمانه الزائف.

قال تعالى: ( ) [يونس:٩٢].

ولم يكن هذا الحكم الإلهي مقتصرًا على الأفراد من دون الجماعات، بل أكدت الآيات القرآنية الكريمة في أكثر من موضع أن الإيمان هو السبيل الأمثل لبلوغ النجاة.

قال تعالى: ( ) [يونس:٩٨].

فاستثنى قوم يونس كونهم تداركوا أنفسهم بالإيمان والتوبة الحقة فكان ذلك سببًا في نجاتهم من عذاب الخزي25.

وفي قوله تعالى: ( ) [يونس:١٠٣].

نص على أنه لا ينال الخلاص من غضب الله إلا رسله والذين آمنوا وأقروا بالوحدانية لله والتصديق لهم. وليس هذا الحكم بموقوف على من سبقوا إلى الإيمان في الأمم السابقة.

بل يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: ( )، أي أنه حق على الله أن ينجي المؤمنين بك من هذه الأمة، قال الشوكاني: «التعبير بلفظ الفعل المستقبل لاستحضار صورة الحال الماضية تهويلًا لأمرها، كذلك حقًا علينا أي: حق ذلك علينا حقًا أو إنجاء مثل ذلك الإنجاء حقًا ننج المؤمنين من عذابنا للكفار»26.

بهذا نصل إلى أن الأساس في بلوغ رحمة الله والنجاة من ابتلائه وغضبه هو اتباع سبيله والإيمان بربوبيته والتصديق برسالاته، ولن ينفع نفسًا إيمانها وقد داهمها قدر الله وقارب أجلها، إذ لا منجاة لها وقد فرطت من قبل باتباع سبيل الهدى والإيمان، فحري بأمتنا الإسلامية أن تنتهج سبل الإيمان وتعمل على تنشئة الأجيال وتغذيتهم بالإيمان الصحيح الذي يديم صلتهم بالله تعالى وأن لا يلبسوا إيمانهم بظلم.

ثانيًا: التقوى:

المتقي: «من يقي نفسه عن تعاطي ما يعاقب عليه من فعل أو ترك»27.

أما مرتبة التقوى فتأتي ثالثة بعد الإسلام والإيمان، فبعد أن يكون العبد قد أسلم وجهه لله ووقر الإيمان في قلبه تأتي مرحلة التفكر في الوقاية من الأمور التي تنأى به عن الخالق عز وجل أو تتجاوز به حدوده وهي مرحلة اجتناب الشبهات والعمل على تهذيب النفس وتزكيتها بالعمل الصالح، فالتقوى كما الإيمان لها أسبابها وشروطها وطرائقها، لذا نجدها تسير جنبًا إلى جنب مع الإيمان في كثير من الآيات.

وقد وردت النجاة بتقوى المؤمنين صريحة في موضعين من القرآن الكريم تحدثا عن هلاك أقوام عاد وثمود بعذاب الله ونجاة المؤمنين منهما مع النبيين هود وصالح عليهما السلام.

قال تعالى: ( - - ) [النمل:٥١-٥٣].

وقال في موضع آخر: ( - ) [فصلت:١٧-١٨].

فأما الموضع الأول فجاء ضمن سياق الحديث عن قوم صالح عليه السلام الذين لم يكتفوا بإعراضهم عن الإيمان وصدهم عن سبيل الله، بل ذهبت بهم شقوتهم إلى عقر ناقة الله والسعي إلى قتل النبي صالح عليه السلام، فمكروا ومكر الله، فأذاقهم العذاب، وكان جزاء الذين آمنوا بالله وبرسالة نبيهم واتبعوا سبيله ووقوا أنفسهم من التعدي على حدود الله، أن الله (أنجاهم) من ذلك الهلاك السريع.

وأما الموضع الآخر فقد جاء ضمن سياق متصل بدأ بقوم هود عليه السلام الذين استكبروا، ثم انتهى بقوم صالح عليه السلام الذين يسر لهم الهدى، وأتاح لهم الأسباب للإيمان، ومكنهم منه، وقدرهم عليه.

قال تعالى:() «أي: بينا لهم سبيل النجاة ودللناهم على طريق الحق بإرسال الرسل إليهم ونصب الدلالات لهم من مخلوقات الله فإنها توجب على كل عاقل أن يؤمن بالله ويصدق رسله، قال الفراء: معنى الآية: دللناهم على مذهب الخير بإرسال الرسل»28، غير أنهم ضلوا فاستحبوا العمى على الهدى فاستحقوا العذاب فأخذتهم صاعقة العذاب الهون بظلمهم إلا فئة منهم اهتدوا وآمنوا واتقوا فأنعم الله عليهم بالنجاة من العذاب، فحين جمع السياق القرآني بين هلاك عاد وثمود قال: (نجينا) ولم يقل: (أنجينا).

ويعود سبب اختلاف صيغة فعلي النجاة بمجيئه في الموضع الأول بالفعل الماضي المهموز (أنجى) وفي الموضع الآخر بالفعل الماضي المضعف (نجى) إلى اختلاف السياقين في الموضعين اللذين وردت فيهما (النجاة) فالسياق في الأولى خاص بثمود، والنجاة تتطلب السرعة29.

فهناك من خطط وتقاسم وبيت لقتل صالح عليه السلام وأهله والإفلات من جزاء القتل، ومكر لتنفيذ المخطط، فجاء مكر الله أسرع فعجل لهم بهلاكهم وسارع بإنجاء من آمن واتقى من المكر ومن الدمار الذي حل بالقرية وبيوتها.

أما السياق الآخر فلا يتطلب السرعة؛ لأن الحديث يتضمن هلاك أمتي عاد وثمود ونجاة من آمن واتقى منهما ثم يجمعهما في مصير واحد على اختلاف البعد الزمني بينهما.

قال ابن عاشور: «إن المعنى إنجاء الذين آمنوا من قوم عاد وقوم ثمود، فمضمون هذه الجملة فيه معنى استثناء من عموم أمتي عاد وثمود فيكون لها حكم الاستثناء الوارد بعد جمل متعاقبة أنه يعود إلى جميعها»30.

لذا اقتضى السياق أن يأتي بصيغة الفعل المضعف (نجى) ليدلل به على حصول النجاة المتكررة مع وقوع العذاب مرة بعد أخرى للقريتين، وليشير به إلى أن حكم الله ثابت على مر الأزمان، وأن النجاة في كل مرة ستكون من نصيب الذين آمنوا وكانوا يتقون.

من جانب آخر لم يخل التعبير القرآني من الدقة في الجمع بين الفعلين الماضي (آمنوا) والمضارع (يتقون) للدلالة على أسبقية الإيمان ومضي حالته بالقياس إلى حالة التقوى التي تمثل المنهج التطبيقي لذلك الإيمان، وربما كان في قوله تعالى: ( ) إشارة إلى أنهم كانوا يعملون الخير ويبتعدون عن الفساد من قبل أن يؤمنوا بدعوة صالح عليه السلام، أي: (وكانوا يتقون من قبل إيمانهم).

وعلى هذا يكون قوله: «يتقون»؛ «أي: كان سنتهم اتقاء الله والنظر فيما ينجي من غضبه وعقابه، وهو أبلغ في الوصف من أن يقال: والمتقين»31.

ولا تخلوا الآيتان من تبشير من يؤمن برسالة محمد صلى الله عليه وسلم أن هناك إمكانية لتحقيق النجاة من عذاب الله وذلك باتباع سبيل التقوى من سخطه وغضبه، ففي الآيتين «طمأنة لقلوب المؤمنين بأن الله ينجيهم مما توعد به المشركين كما نجى الذين آمنوا وكانوا يتقون من ثمود، وهم صالح ومن آمن معه»32.

وتجدر الإشارة إلى أن النجاة بالتقوى لم ترد صريحة في القرآن الكريم فحسب، بل وردت ضمنًا أيضًا، من ذلك على سبيل المثال قوله تعالى: ( ) [آل عمران:١٢٠].

وبعد هذا نصل إلى حقيقة مفادها أن تقوى الله ومخافته ترفع من مكانة العبد كلما زادت نسبتها وواجب على الصلحاء من أبناء الأمة أن يوضحوا هذه الحقيقة لمن يغفل عنها، فليس في مخافة الله منقصة بل إن تقواه هي الضمانة الأكيدة للعيش في فسحة من نعمته ورضاه والنجاة من سخطه وغضبه سواء في الحياة أو ما بعد الممات، ويمكن للنفس أن تبلغ مستوى تقوى الله من خلال ترجمة إيمانها إلى أفعال وممارسات واقعية سعيًا لتحقيق الجزاء الأوفى في الآخرة وضمان النجاة من كربات يوم الحساب، فبلوغ العبد مرحلة التقوى أمر ضروري للنجاة مما أعده الله للكافرين من حساب، وللفوز بما بشر به المتقون من أجر عظيم.

ثالثًا: النهي عن الفساد:

قد اقترن ذكر الفساد بذكر الأرض في القرآن الكريم، فمذ خلق الله تعالى الأرض وقضى أن يجعل فيها خليفة وقف الملائكة مخاطبين ربهم عز وجل: ( ) [البقرة:٣٠].

فأنى للإنسان -الذي خلق هلوعًا ظلومًا لنفسه جهولًا بالذي فيه الحظ له33- النهوض بأمانة أبت أن تحملها السموات والأرض والجبال وأشفقن منها ؟ وأنى له الإصلاح في الأرض وإعمارها واستغلال خيراتها في منفعة نفسه والآخرين ؟.

غير أن الله تعالى غالب على أمره وأعلم بقدرة الإنسان وإمكاناته حين وضعه أمام اختبار حياتي متواصل ليثبت لملائكته أن بإمكانه أن يكون جديرًا بحمل الأمانة وأن تصدق عليه صفة الخلافة، إذا ما ألزم نفسه السير على نهج من استخلفه في الأرض، ويقينًا أن النهج الإلهي واضح وصريح في القرآن الكريم وبالأخص في ما يتعلق بالفساد الذي ورد بصيغ مختلفة في تسعة وأربعين موضعًا من آياته تناولت مبدأ واحدًا هو أن الله تعالى لا يحب الفساد ولا المفسدين، وقد جاءت معظم أحكامه فيها لتشير صراحة وضمنا إلى هذا المبدأ.

قال تعالى: ( ) [الأعراف:٥٦].

لقد جاءت الرسالات السماوية كلها لتبصر العباد بسبل الإصلاح ولتنهاهم عن الفساد بمختلف أشكاله؛ ليكونوا ربانيين يأمرون بما أمر به الله وينهون عما نهى عنه، وليبلغوا رضاه ويضمنوا لأنفسهم النجاة من حسابه وعقابه، وقد حض الله تعالى على ذلك صراحة في قوله: ( ) [هود:١١٦].

ففي الآية دعوة واضحة للتفكر في أحوال من سبق من الأمم الغابرة التي باءت بغضب من الله ونقمة فأهلكها بعذابه إلا قليلًا من أهلها الذين لم يكتفوا بالإصلاح بل كانوا يدعون إليه من خلال نهيهم الناس عن الفساد في الأرض، تلك القلة القليلة آلت أن لا تقرب الظلم أو الترف ولا ترتكب جرمًا، ففازت بمنجاة الله حين نزل بأقوامهم العذاب، قال الطبري: ( ) أي: «ذو بقية من الفهم والعقل، ... ينهون أهل المعاصي عن معاصيهم وأهل الكفر بالله عن كفرهم به في أرضه... إلا يسيرًا، فإنهم كانوا ينهون عن الفساد في الأرض، فنجاهم الله من عذابه، حين أخذ من كان مقيمًا على الكفر بالله عذابه، وهم أتباع الأنبياء والرسل»34.

ثم تعود الآية في نهايتها لتؤكد للناس مبدأ وقاعدة إلهية لا تقبل التغيير هي (أن نجاتهم في الإصلاح والنهي عن الفساد)، وأن الله تعالى لا يهلك أهل القرى بشرك أو بكفر ما داموا مصلحين «فيما بينهم في تعاطي الحقوق أي لم يكن ليهلكهم بالكفر وحده حتى ينضاف إليه الفساد»35.

ولم يكن مبدأ الإصلاح ليتحقق من خلال النهي عن الفساد فحسب، بل بالنهي عن السوء أيضًا الذي لا يختلف جزاؤه عن جزاء النهي عن الفساد بشيء فكلاهما يورث النجاة.

قال تعالى: ( « ) [الأعراف:١٦٣-١٦٥].

فأهل هذه القرية كانوا قد نهوا من قبل عن الصيد في يوم السبت، فابتلاهم الله بأن كانت حيتان البحر تأتي في ذلك اليوم ظاهرة على الماء كثيرة، ولا تأتي كذلك في ما عاده من الأيام، فلم يمتثلوا أمر الله بترك العمل في يوم السبت بل كانوا يسدون عليها في السبت ويصيدونها في الأحد، وكانت القرية منقسمة على ثلاث أمم: أمة دائبة على القيام بالنصح والموعظة والنهي عن إتيان المنكر، وأمة أخرى قامت بذلك من قبل ثم استيأست من اتعاظ المعتدين وأيقنت أن قد حقت عليهم كلمة العذاب، وأمة كانت سادرة في غلوائها لا ترعوي عن ضلالتها ولا ترقب الله في أعمالها.

ويتضح من ذلك «أن صلحاء القوم كانوا فريقين. فريق أيس من نجاح الموعظة وتحقق حلول الوعيد بالقوم. لتوغلهم في المعاصي. وفريق لم ينقطع رجاؤهم من حصول أثر الموعظة بزيادة التكرار»36.

فواصل العمل على بذل النصيحة معذرة إلى الله الذي يأمر بالنهي عن السوء ما دام العبد قادرًا على إتيانه وأملًا منهم في إصلاح القوم ليتقوا الله في أفعالهم. في مقابل الفريقين كان فريق من المفسدين تمادى في إعراضه عن النصح حتى نسوا ما ذكروا به فحقت عليهم كلمة العذاب، فأهلكهم الله بذنوبهم وأنجى الآخرين بنهيهم عن السوء.

لقد جعل الله تعالى من الإصلاح مضمارًا يتنافس فيه الخلق في تحقيق المنافع الفردية والاجتماعية التي توجب عليهم رحمة الله ورضاه بما يقدمونه لأنفسهم ومجتمعاتهم من خير يسعون به إلى منع انتشار الفساد ووأد فتنته مبتغين من وراء ذلك الفوز بمنجاته من بلاء الدنيا وأهوال عذاب الآخرة. وخير ما يمكن السعي إليه من صلاح هو تعزيز المناهج التعليمية بقيم التسامح وإحياء السلام، والعمل على نشر مبادئ الإسلام بصورته الحقيقية التي تدعو إلى محاربة الفساد في الأرض والسعي لترسيخ قواعد العدل والصلاح.

رابعًا: الجهاد في سبيل الله:

لم يقف القرآن عند حد معين في تجسيد صورة النجاة من غضب الله وسخطه، بل توغل كثيرًا في استعراض قيم المنظومة الإيمانية ومقوماتها التي تبلغ بالعبد الدرجات العلا وتضمن له الفوز بالنجاة، وإذا كانت الآيات السابقة أظهرت لنا دعوة الله تعالى إلى النجاة بالإيمان عن طريق (الترهيب)، فإن هناك آيات أخرى عرضت إلى الدعوة نفسها عن طريق (الترغيب والتحبيب)، إذ قيل: إنه لما شرع الله الجهاد على المؤمنين كرهوه، فحين «قال نفر من الأنصار في مجلس لهم وفيهم عبد الله بن رواحة: لو نعلم أي العمل أحب إلى الله لعملنا به حتى نموت»37 نزل قوله تعالى: ( ) [الصف:١٠].

«فمكثوا زمانا يقولون: لو نعلم ما هي لاشتريناها بالأموال والأنفس والأهلين»38 فدلهم الله تعالى عليها بقوله: ( ) [الصف:١١].

فالله جلت قدرته يطرح فكرة التجارة بمفهوم مغاير لما هو متعارف عند الناس، إذ تقوم التجارة عنده على أساس من التعاقد بينه وبين العبد، ويكون رأس المال فيها عقائديًا مشروطًا بتحقق الإيمان والسعي إلى الجهاد في سبيل الله، وهي إلى جانب ذلك تختلف عن تجارة الناس في ما بينهم في أنها لا تفضي إلا إلى الربح، وأن ربحها ليس أقل من النجاة من عذاب الله، الفوز بجناته.

قال تعالى: ( ﯿ ) [التوبة:١١١].

وبالعودة إلى قوله تعالى: ( ) نلاحظ أن التجارة جاءت بصيغة النكرة التي توافقت مع سياق حال النص وما يحمله من دلالة على ذلك السبيل المبهم والمفهوم المطلق لمعنى الاتجار، ما وفر مناخًا من التشويق والتفخيم والتعظيم ولاسيما حين انتقل النص مباشرة إلى بيان ما تحققه تلك التجارة من مكسب عظيم وهو النجاة من العذاب الأليم، ثم لا تلبث دلالة النص أن تقيد ذلك المطلق وتحدده بهدف بيان السبيل المفضية إلى ممارسة تلك التجارة فتحصر الأمر بمحددين اثنين هما الإيمان والجهاد، فكأن «التجارة لم يدر ما هي، فبينت بالإيمان والجهاد، فهي هما في المعنى. فكأنه قال: هل تؤمنون بالله وتجاهدون يغفر لكم»39، وينجيكم من عذاب أليم ؟.

فذلكم الله رب السموات والأرض الذي لا ينأى ولا يستنكف عن الدنو من عباده، يدعوهم إليه برسالاته ويعرض عليهم تجارة لن تبور وربحًا ونجاة من الموت الذي يفرون منه، فبذل النفس والجهاد بها في سبيل الله نهج لا ينفك عنه الخير، فأوله خلود في الحياة الدنيا وآخره نجاة وعتق من النار، وجائزته عفو وفوز بفرحة لقاء الله، ورزق دائم، وحياة أبدية.

خامسًا: الدعاء والتسبيح:

لقد شرع الله تعالى الدعاء وجعله من أعظم الأسباب لاتقاء عذابه، ودلل في أكثر من آية على أنه السبيل إلى النجاة من البلاء، قال في ذلك: ( ) [الأعراف:٩٤].

فلطالما غفل الناس عن ذكر الله في سرائهم، فكان الله يبتليهم بالحروب والفتن والجدب والقحط وغيرها لعلهم ينقلبون إليه فيدعونه ويرغبون في عبادته وخلاصه.

غير أن كثيرًا منهم نسوا الله في الرخاء والشدة فلم يتخذوا من الدعاء مجنة يدرؤون بها عن أنفسهم سخطه وعقوبته، فحقت عليهم كلمة العذاب.

قال تعالى: ( ) [الأنعام:٤٣].

والقرآن الكريم حافل بموارد الدعاء سواء في اللفظ أو في المعنى.

قال تعالى: (ﭿ f s ~ ) [يونس:٨٣-٨٦].

يلاحظ أن قوم موسى عليه السلام كان يتملكهم الخوف من فرعون وجنوده حين آمنوا، غير أن موسى عليه السلام أخبرهم أن التصديق بالله وحده لا يكفي ما لم يقترن بتفويض الأمر إليه فذلك من كمال الإيمان ففعلوا ووكلوا أمرهم إلى الله، وتوجهوا إليه بالدعاء وكان دعاؤهم مبنيًا على أمرين:

أحدهما: قولهم: ( ) «أي: لا تنصرهم علينا، فيكون ذلك فتنة لنا عن الدين، أو لا تمتحنا بأن تعذبنا على أيديهم. وقال مجاهد: المعنى لا تهلكنا بأيدي أعدائنا، ولا تعذبنا بعذاب من عندك فيقول أعداؤنا: لو كانوا على حق لم نسلط عليهم، فيفتنوا. وقال أبو مجلز وأبو الضحا: يعني: لا تظهرهم علينا فيروا أنهم خير منا فيزدادوا طغيانًا»40.

والآخر: قولهم: ( ) أي: خلصنا «من فرعون وقومه لأنهم كانوا يأخذونهم بالأعمال الشاقة»41.

قال الشوكاني: «ولما قدموا التضرع إلى الله سبحانه في أن يصون دينهم عن الفساد أتبعوه بسؤال عصمة أنفسهم فقالوا ونجنا برحمتك من القوم الكافرين وفي هذا دليل على أنه كان لهم اهتمام بأمر الدين فوق اهتمامهم بسلامة أنفسهم»42.

وتزخر آيات الله سبحانه بمواقف أخرى مختلفة تضمنت الدعاء والتضرع إلى الله عز وجل بالخلاص والنجاة من أعدائه.

قال تعالى: ( ) [التحريم:١١].

فهذه صورة من صور العبودية الصادقة التي كانت تتصف بها امرأة فرعون التي آمنت بالله ووحدته، وصدقت بموسى عليه السلام وهي تحت عدو من أعداء الله كافر، فلم يضرها كفر زوجها43، إذ كانت مؤمنة بالله مخلصة له النية فاختارت جوار ربها وقربه على أن تكون أنيسة فرعون وآثرت أن يكون لها بيتًا عند ربها في جنانه على قصور فرعون وما ملكت يمينه، فعزفت عن ذلك كله وتعلقت بما عند الله كرامة وزلفى متوجهة إليه بصفاء نيتها تدعوه مخلصة بأن يبني لها بيتا بميزتين هما: أن يكون البيت (عند الله) وأن يكون (في الجنة) أي: أنها اختارت لنفسها مكانًا لا يصل إليه إلا الصديقون والشهداء الذين أخبر عنهم الله عز وجل بأنهم ( ) [آل عمران:١٦٩]44.

ثم أردفت دعاءها برغبتها بالتبرؤ من فرعون والخلاص منه ومن عمله ومن مجتمعه الظالم، فطلبت أولًا النجاة منه «أي: من ذاته وما يصدر عنه من أعمال الشر»45.

ثم من عمله، ثم انتهت إلى طلب النجاة من القوم الظالمين يعني: أهل دينه المشركين، قال الكلبي: هم أهل مصر، وقال مقاتل: هم القبط46.

ولا يختلف أمر النجاة بالدعاء عنه بالتسبيح، فالتسبيح هو«تنزيه الله تعالى، وأصله المر السريع في عبادة الله تعالى... وجعل التسبيح عامًا في العبادات قولًا كان أو فعلًا أو نية»47.

ومصداق ذلك قوله تعالى: ( ) [آل عمران:١٩١].

فقد اقترن ذكر الله بفعل القيام والقعود والتفكر في خلقه واقترن ذلك كله بنية تنزيه الله وتسبيحه طمعًا في نيل رضاه ورغبة في النجاة من عذاب النار.

والتسبيح لون من ألوان العبادة وهو كفيل بعقد الصلة بين العبد وربه، وتبرز أهميته في أنه يحول بين المرء ومعاصيه وغروره، ويدرأ عنه العذاب والمهالك والنقم، وقد أكد القرآن الكريم ذلك في مناسبتين: ساق في الأولى منهما مثالًا على تاركي التسبيح، وذلك في سياق قصة أصحاب الجنة الذين ( / : = @ H L ﭽﭾ ﭿ S X ^ b ) [القلم:١٧-٢٨].

فقد وجدوا الله تعالى أسبق إليها منهم، إذ طاف عليها بطائف من عنده فأهلكها بظلمهم فأصبحت سوداء كالليل، فلما رأوها على هذه الحال أدركوا أنهم محرومون من رزقها بما فرطوا في جنب الله، فقام أوسطهم يذكرهم بما كان يأمرهم به من طاعة الله وتسبيحه وهم لا يسمعون، فلو أنهم أجابوه لأنجاهم الله بتسبيحهم من شرور أنفسهم ومن سوء نواياهم ولأبدل سعيهم هذا بخير منه.

وساق في المناسبة الأخرى مثالًا على من تمسك بالتسبيح، وذلك في سياق قصة نبي الله يونس عليه السلام في قوله تعالى: ( u ) [الأنبياء:٨٧-٨٨].

فحين مضى يونس عليه السلام على وجهه مغاضبًا لربه ظانًا أنه في مأمن من بلائه والتضييق عليه حتى أتى البحر أبى الله أن يدعه إلى الشيطان، فأخذه فقذفه في بطن الحوت، فمكث في بطنها زمنًا، ثم راجع نفسه فتاب إلى ربه وناداه في الظلمات (أن لا إله إلا أنت سبحانك) معترفًا بذنبه، إني كنت من الظالمين في معصيتي إياك قال الواسطي في معناه: نزه ربه عن الظلم وأضاف الظلم إلى نفسه اعترافًا واستحقاقًا، قيل: فسمعت الملائكة تسبيحه فشفعوا له عند الله فاستجاب له دعاءه فاستخرجه من بطن الحوت برحمته، فجعله من الصالحين48.

الملاحظ أن هذه القصة بنيت أساسًا على مبدأ التسبيح وفلسفته وأهميته ودوره الأساس في نجاة المؤمن يدلنا على ذلك قوله تعالى في موضع آخر: ( u ) [الصافات:١٤٣-١٤٤].

فقد ابتلي يونس عليه السلام بما ابتلي به ليتفكر في قدرة الله وعظمته فيقر له بالطاعة والعبودية والتنزيه، فكان تسبيحه هو المستدعي لنجاته، وكان من صدق إنابته وضيق حاله أنه خص نفسه بنداء تفرد فيه عن غيره من أنبياء الله ورسله فلم يصدر نداءه بكلمة (رب) ولم يدع فيه لنفسه بل ابتدأ النداء بالتسبيح والاعتراف بالظلم. قيل: إن «في هذه الآية شرط الله لمن دعاه أن يجيبه كما أجابه، وينجيه كما أنجاه، وهو قوله: ( ) أي: نخلصهم من همهم بما سبق من عملهم»49.

يتبين من ذلك أن للدعاء والتسبيح شأنًا عظيمًا عند الله تعالى، فبهما يعترف الإنسان بضعفه وحاجته ونقصه بإزاء كمال الله تعالى وعظمته، وبهما تتجدد الصلة بالخالق وتنفتح أسارير النفس وتستمد العون والقوة منه إذ تستشعر قربه منها. لقد كان الدعاء والتسبيح وسيلة الأنبياء إلى النجاة من كربهم وغمهم وعظيم بلائهم فواجب أن نتعلم كيف ننقي أنفسنا من مساوئها، كي نجد الله تعالى بصيرًا بنا، يغيثنا وينجدنا وينجينا وأهلنا وأمتنا من نوائب الدهر وكيد الكائدين.

المنجى منه في الدنيا والآخرة

أولًا: المنجى منه في الدنيا:

الدنيا دار غرور لا ينبغي لعاقل أن يأمن مكرها، أو يخال أنه في مأمن من نوائبها وسطوة أقدارها، فمعلوم أنها كثيرًا ما تتزين للناس وتغريهم بملذاتها، فيسارع المغترون بها إلى الالتحاق بركبها واتباع سبيلها متناسين عرضها وزيف متاعها، وهي تستخف بلهاثهم إذ يعدون وراءها وقد بدا لهم منها ما يشتهون، وما ذاك إلا لغفلة أبصارهم وبصائرهم وصدهم عن أحكام دينهم الذي سوغ لهم تعدي حدود الله تعالى ونسيان لقائه وبينا هم على حالهم تلك إذ تحمل عليهم وتداهمهم بهمها وبغمها وتؤذنهم بحربها وكربها، فإذا بهم يضجون وقد ضلوا سواء السبيل وراحوا ينشدون النجاة مما أصابهم، وأنى لهم.

وقد قال تعالى: ( ) [الأعراف:٥١].

لذا لم تكن دعوة الله تعالى عباده إلى الإيمان به وتصديق رسالاته واتباع دينه الحق إلا من أجل أن يقيهم فتنة الحياة الدنيا وينجيهم من مكرها الذي لا يورثهم إلا الشقاء والهموم، فمن أخلص لله الدين فقد ضمن النجاة من مكر الدنيا وآفاتها لقوله تعالى: ( ﯿ ) [الحج:٣٨].

وحسب عباد الله المؤمنين أن يكون الله تعالى مدافعًا عنهم ينجيهم بصدق إيمانهم من كل ما أهمهم من نوائب الدنيا وفتنها.

نقف في هذا المبحث لدراسة بعض آيات الكتاب التي تكشف عن الآثار المادية والمعنوية التي أصابت بعض العباد وتصيبهم من جراء غفلتهم أو ظلمهم أو كفرهم وصدهم عن سبيل الله، ثم نسلط الضوء على الأسباب المنجية والسبل المفضية إلى الفوز برحمة الله التي يصيب بها من يشاء من عباده المؤمنين فينجيهم من تلك الآثار.

  1. الغم.

    قد ذكرنا في ما مضى من القول قصة نبي الله يونس عليه السلام وكيف توسل إلى الله سبحانه بالتسبيح، فاستجاب الله تعالى من فوره لتسبيحه وصدق إنابته فنجاه إلى البر قال تعالى: ( ) [الأنبياء:٨٨].

    فدلت الفاء على سرعة الاستجابة ودل الفعل (نجى) على تكرار فعل النجاة، وقد اختلف في المنجى منه؛ أي الغم فقيل: الظلمات50 وقيل: بطن الحوت51 وقيل: من كليهما52 غير أن الثعالبي انفرد بتفسيره بأنه «ما كان ناله حين التقمه الحوت»53.

    غير أننا نرى أن الغم الذي كان يهيمن على نبي الله يونس عليه السلام لم يكن بفعل الظلمات أو وجوده في جوف الحوت بل بفعل ما كان يمتلئ به صدره من إحساس بثقل ما يحمله من ظلم نفسه، وشعوره بالندم وظنه بأن لا سبيل لعفو الله عنه، واعتقاده بأنه فقد نعمة اصطفائه بالنبوة، كل ذلك مجتمعًا كان يبعث في نفس يونس عليه السلام الغيظ، حتى ضاق ذرعًا بحزنه فتوجه مكظومًا إلى ربه بالنداء لا بالدعاء، لأنه يريد النجاة من غضب الله لا من الضرر المادي الذي لحق به في الظلمات أو في بطن الحوت بدليل اعترافه بالظلم: ( ) [الأنبياء:٨٨].

    فحين استجاب الله لندائه أجاب بما هو أكرم وأجل، إذ جعل نجاته في ثلاث مراحل: أولاها: أنه أنجاه من الظلمات حين نبذه إلى العراء، وثانيها: أنه أنجاه من السقم حين أنبت عليه شجرة من يقطين، وثالثها: أنه أنجاه من غضبه وما ابتلي به حين أسبغ عليه نعمته من جديد فأرسله إلى مائة ألف أو يزيدون، فهذه الأمور الثلاثة مجتمعة كانت تؤلف حالة الغم التي رافقت يونس عليه السلام ، وكانت وراء مجيء اللفظة بصيغة نجيناه دون أنجيناه.

    وترد النجاة من الغم في موضع آخر من القرآن الكريم، وذلك في قوله تعالى مخاطبًا موسى عليه السلام :( ) [طه:٤٠].

    فالمقصود بالنفس التي قتلها ذلك الرجل القبطي الذي وكزه فقضى عليه، وكان قتله له خطأ في ما تذكر الروايات54.

    وتكاد تتفق التفاسير على تأويل معنى قوله تعالى: ( ) قال مجاهد: «من غم قتل النفس»55.

    وقال ابن الجوزي: «كان مغمومًا مخافة أن يقتل به فنجاه الله بأن هرب إلى مدين»56.

    وقال القرطبي: «أي: آمناك من الخوف والقتل والحبس»57.

    فيما ذهب الشوكاني إلى أن معناه: نجيناك من «الغم الحاصل معك من قتله خوفًا من العقوبة الأخروية أو الدنيوية أو منهما جميعًا»58.

    غير أننا نرى أن نجاة موسى عليه السلام من الغم هي غير نجاته من الخوف والقتل التي سنأتي على ذكرها، فحين وكز ذلك القبطي، فوجئ به وقد فاضت روحه بين يديه، فأدرك أن ما أقدم عليه كان من عمل الشيطان وأنه اتبع عدو الله حين أضله من حيث لا يقصد: ( ﭽﭾ ﭿ ) [القصص:١٥].

    فأحس بالندامة على فعلته وتملكه شعور بأنه ظلم نفسه وأنه كان ظهيرًا للمجرمين وأنه فقد نعمة الله عليه بذلك القتل وأنه معاقب عليه من الله لا محالة، فتوجه إلى ربه بالاعتراف بخطئه والدعاء بالمغفرة ( ) [القصص:١٦].

    فاستجاب الله له دعاءه من فوره فغفر له ورفع عنه الغم فحين ذكر الله سبحانه لموسى عليه السلام مننه عليه كان من جملتها قوله: ( )[طه:٤٠].

    أي: من شعورك بالحزن والندامة وظلم النفس ومخافة عقوبة الله إذ غفرنا لك.

  2. الكرب.

    الأصل في الكرب «الشدة والقوة.. ومن الباب الكرب وهو الغم الشديد»59، وهو كذلك عند الراغب الأصفهاني60.

    أما ابن حجر فيعرف الكرب بأنه: «ما يدهم المرء مما يأخذ بنفسه فيغمه ويحزنه»61.

    وقد وردت النجاة من الكرب في القرآن الكريم في أربعة مواضع، ثلاثة منها اختصت بأنبياء الله وجاء (الكرب) فيها بصيغة التعريف، وقد لازم الكرب صفة واحدة هي كونه عظيمًا، وجاء في الموضع الرابع في سياق عام بصيغة التنكير من غير تخصيص.

    وقد ارتبطت مواقف النجاة من (الكرب) في القرآن الكريم بمواقف الخوف والشدة التي تعصف بالنفوس وتحملها على الاغتمام، فنوح عليه السلام كان يتملكه الخوف على قومه من عذاب الله، قال: ( ) [الأعراف:٥٩].

    وقد لبث فيهم «ألف سنة إلا خمسين عامًا يدعوهم إلى الله عز وجل فلم يؤمن به منهم إلا القليل وكانوا يتصدون لأذاه ويتواصون قرنًا بعد قرن وجيلًا بعد جيل على خلافه»62 ويمعنون في السخرية منه وتكذيبه واتهامه بالجنون.

    قال تعالى: ( ) [القمر:٩].

    فنادى نوح عليه السلام ربه بندائه الأول الذي جاء بسبب شعوره بالبؤس مما يفعله قومه: ( J ﭽﭾ ﭿ ) [الشعراء:١١٧-١١٨].

    فاستجاب الله تعالى لندائه إذ طلب (الفتح والنجاة) فأجابه أولًا بالفتح وذلك بقوله: ( J ﭽﭾ ﭿ T ) [القمر:١١-١٣].

    ثم أجابه ثانية بالنجاة مما كان يخيم عليه وأهله من حزن وكرب عظيم ومن الأذى والمكروه الذي كان يصيبهم من الكافرين والعذاب الذي أحل بالمكذبين من طوفان وغرق63، وذلك بقوله: ( ﭽﭾ ﭿ ) [الأنبياء:٧٦].

    حتى إذا جرت بهم الفلك في البحر تملكه وأهله الحزن والغم ثانية من أمر ابنه الذي لم يركب معهم وآوى إلى جبل يعصمه، وحال بينه وبين أبيه وأهله الموج، فجاء النداء الثاني: ( ﯿ Þ ) [هود:٤٥-٤٦].

    فرفع الله بجوابه هذا الغم والحزن الشديد عن نوح عليه السلام وأهله وخلصهم مما كان يعتصر قلوبهم من هم وكرب.

    قال تعالى: ( Ñ ) [الصافات:٧٥-٧٦].

    يلاحظ أن هناك اختلافًا واضحًا في صورتي النجاة الآنفتين من جهتين: أن النجاة في الأولى جاءت في شكل استجابة لنداء نوح عليه السلام وطلبه النجاة، فقال تعالى: ()، وأنها جاءت متصلة بـ(الفتح) فقال «فنجيناه» بالفاء على الترتيب.

    في حين جاءت النجاة في الثانية في شكل جواب على سؤال نوح عليه السلام في شأن ابنه وليست استجابة، فقال تعالى: ( ) فجاءت النجاة من الله متصلة بالنجاة الأولى فقال: «ونجيناه» بالواو، أي: مرة أخرى.

    وقد وقع الخلط عند كثير من المفسرين بين نداءات نوح عليه السلام ودعائه ففسروا هذي بتلك، والفرق واضح بينهما في سياقات كل منهما وفي طبيعة الاستجابة الإلهية إلى كل منهما.

    وترد النجاة من الكرب في موضع آخر من القرآن الكريم وهو قوله تعالى: ( f ) [الصافات:١١٤-١١٥].

    قيل في معنى ( ): من الغرق64.

    وقال ابن كثير: أي «من قهر فرعون وقومه، وما كان يعتمد في حقهم من الإساءة العظيمة من قتل الأبناء واستحياء النساء واستعمالهم في أخس الأشياء»65.

    غير أن المتتبع لقصة موسى عليه السلام يجد أن النجاة هنا توحي بالخلاص من مواقف شديدة وعصيبة، فحين أمر الله تعالى موسى وهارون(عليهما السلام) فقال: ( w ¡ ) [طه:٤٣-٤٥].

    فقد كان الخوف يخيم عليهما وبالأخص موسى عليه السلام الذي تعددت أسباب الخوف عنده ( ¢ » ) [الشعراء:١٢-١٤].

    ثم إذا انتهيا إلى فرعون وحدثاه بما أمرهما الله به أمعن فرعون في جدال موسى عليه السلام والسخرية منه وتهديده ( ) [الشعراء:٢٩].

    فأنجاه الله من هذا الموقف بما أظهره لفرعون من معجزات، غير أن الموقف أفضى إلى اتساع رقعة التحدي فجمع السحرة فلما ألقوا حبالهم وعصيهم ( ) [الأعراف:١١٣].

    فخيل إليه من سحرهم أنها تسعى ( ) [طه:٦٧].

    فأنجاه الله ثانية من الخوف ومن هول ذلك الموقف، ثم توعد فرعون قوم موسى عليه السلام ( ) [الأعراف:١٢٠].

    فبلغ ذلك الوعيد بني إسرائيل (ﭿ ) [يونس:٨٣].

    وكانوا في شدتهم تلك يتوجهون إلى الله تعالى بالدعاء بالنجاة: ( ~ ) [يونس:٨٥-٨٦].

    فاستجاب الله لهم وخلصهم من خوفهم وشدتهم وأنقذهم من فرعون وجنوده، فلما أراد الله تعالى أن يذكر مننه على موسى وهارون جمع كل مواقف النجاة الآنفة في قوله: ( f ) [الصافات:١١٤-١١٥].

    أي: أنجيناهما وقومهما المرة تلو الأخرى من لحظات الخوف والرعب التي كانت ترافقهم في تلك المواقف الشديدة.

    ولم تكن النجاة من الكرب مختصة بالمواقف التي يواجهها الأنبياء ومن آمن معهم بالله، بل لقد جاء في كتاب الله تعالى ما يثبت أنها رحمة الله التي لا تستثني أحدًا من الناس يخلصهم بها من خوفهم وما يعتصر قلوبهم من حزن وغم.

    قال تعالى: ( k ) [الأنعام:٦٣-٦٤].

    قيل: إن الله سبحانه خاطب بهذه الآية أهل الشرك66 يسائلهم عن من يكون وراء نجاتهم إذ يدعونه في شدائدهم التي تصيبهم أو حين يحاطون بظلمات البر والبحر والليل والغيم فيخطئون الطريق ويخافون الهلاك67، ويعدونه بأن يشكروا نعمته إن نجاهم من تلك الشدائد، ثم يجيبهم بأنه هو من ينجيهم من تلك الشدائد، ويذكرهم بأن نعمته عليهم بالنجاة لا تقف عند حدود المواقف العصيبة التي يدعونه بها، بل هي أوسع من ذلك بكثير.

    حاصل ذلك أنه ما من كرب نمر به إلا وكان الله تعالى وراء خلاصنا ونجاتنا وفك أسرنا من ضيقه وشدته سواء دعوناه للنجاة منه أم لم ندعه، وعدناه بالشكر أم لم نعده، شكرناه بعد نجاتنا أم لم نشكره، فالله تعالى رحيم بالعباد، ذو مغفرة للناس على ظلمهم، فحري بنا أن ننقاد إليه في شدتنا ورخائنا.

  3. الفقر.

    الفقر مشكلة إنسانية فردية كانت أم مجتمعية لها تبعاتها وتأثيراتها النفسية التي يمكن من خلالها أن يتولد الضعف في العقيدة والشك والارتياب في عدالة التوزيع الإلهي للرزق، ما قد يؤدي إلى الانحراف العقائدي68، أو الانجراف مع التيارات الفكرية الخطيرة التي تحيد بالمرء عن عقيدته من جراء ما يعانيه من ضنك الفقر ومرارته، وتدفع به إلى الكفر أحيانًا. ويقينًا أن للفقر تأثيرات عدة في تقويض شخصية الفرد وتشتيت أفكاره وتقييد إبداعه، فضلًا عن تأثيره البالغ في هشاشة العلاقات الأسرية وتفتيتها، فالفقر سبب رئيس في نشوء كثير من الخلافات الأسرية والمشاكل المؤدية إلى التفكك والتشرد وأحيانا إلى بيع الأبناء أو قتلهم.

    ولم يغفل كتاب الله تعالى عن هذه المشاكل الاقتصادية والاجتماعية الخطيرة التي تسهم إلى حد كبير في تهديد الأفراد والمجتمعات وتقوض أمنها واستقرارها، فسعى في كثير من آياته إلى وضع حلول وسبل كفيلة بالنجاة من هيمنة الفقر وسطوته، ليؤكد بذلك أن الفقر ليس قدرًا محتومًا على الناس، وليس أمرًا مقسومًا «لا راد له ولا حيلة في دفعه، وأن غنى الغني بمشيئة الله وفقر الفقير بمشيئة الله، ومشيئته تعني رضاه، فليرضى كل واحد بوضعه لا يطلب له تبديلًا أو تغييرًا»69.

    بل لقد وضع الله تعالى حلولًا ناجعة لكل مشكلة تهدد صلاح الإنسان وصلاح مجتمعه، فمن أراد الخلاص من الفقر سلك طريق الله الموصلة إلى النجاة منه، ومن رغب عن ذلك الطريق فقد رضي بالخضوع والاستسلام إلى هيمنة الفقر وتبعاته.

    والجدير بالذكر أن لفظة النجاة لم ترد صريحة بأية صيغة من صيغها في الآيات التي تحدثت عن سبل الخلاص من الفقر، بل يمكننا أن نفهم من سياقات تلك الآيات ما ترمي إليه من غرض يقصد به موضوعه النجاة.

    وأولى تلك السبل هي تقوى الله.

    قال تعالى: ( p ) [الطلاق:٢-٣].

    فقد جعل التقوى شرطًا في تحقيق النجاة من الشدائد والفقر، والتقوى -كما مر بنا سابقًا- تتحقق بأمور عدة كالتورع عن المحارم واحترام حدود الله وشرائعه وعدم تجاوزها وكثرة الذكر والاستغفار أما المراد بالمخرج في الآية الكريمة: فالنجاة من كل كرب سواء في الدنيا أو الآخرة، وأما الرزق: فالخلاص من ضائقة الفقر وضنكه، فقد قيل: إن الآية «نزلت في عوف بن مالك الأشجعي، أسر العدو ابنًا له فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم وشكا إليه الفاقة، فقال اتق الله واصبر وأكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله ففعل الرجل ذلك، فغفل العدو عن ابنه، فساق غنمهم وجاء بها إلى أبيه وهي أربعة آلاف شاة»70.

    فالملاحظ أن أول ما أوصى به رسول الله صلى الله عليه وسلم الأشجعي تقوى الله، ثم الصبر على البلاء، وقرن ذلك كله بالانقطاع إلى الله بالذكر والدعاء المستمر.

    والسبيل الأخرى هي السعي إلى العمل وطلبه والهجرة إليه إن اقتضى الأمر قال تعالى: ( ) [الملك:١٥].

    فالله تعالى وإن جعل الأرض ذلولًا لعباده إلا أن ذلك التذليل لا يمثل إلا جزءًا من مهمة تحصيل الرزق التي لا تتم إلا بتحقق الجزء الآخر وهو السعي والكد والعمل الدؤوب الذي أمر الله تعالى به، فالسعي هو الذي يفضي بنا إلى أن ننعم بخيرات الله ونأكل من رزقه، وعلى النقيض منه يكون القعود والاتكال الذي لا يفضي إلا إلى الفقر والذلة والمسكنة.

    فإذا ضاقت سبل العيش في البلاد وشحت فرص العمل فلا سبيل للعبد إلى النجاة من الفقر غير الهجرة إلى مكان آخر طلبًا للرزق قال تعالى: ( ) [النساء:١٠٠].

    وقال أيضًا: ( ﭽﭾ ﭿ ) [المزمل:٢٠].

    فهذه النصوص وغيرها تقدم دروسًا بليغة للعباد في تحدي صعوبة الظروف وقساوتها، وإيجاد الحلول البديلة لمواجهة خطر الفقر، وتدعونا إلى عدم الاستسلام إلى تلك الظروف أو انتظار الفرج من غير سعي، فالسعي يمثل خطوة أساسية في طريق الخلاص من آفة الفقر.

    والسبيل الثالثة للنجاة من الفقر هي الإنفاق وتحقيق التكافل الاجتماعي بين أفراد المجتمع، فقد أمر الله تعالى عباده بالإنفاق في كثير من آياته من ذلك قوله تعالى: ( ) [الحديد:٧].

    ثم جعل لتلك النفقات أبوابًا كالزكاة والصدقات وغيرها، وشرع لها أحكامها، وحدد المكلفين بها والقائمين عليها وميز مستحقيها من الفقراء من ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل وغيرهم، وبين للناس أهمية الإنفاق في بناء المجتمعات وصلاح أمورها، وما ينتظر المنفقين من أجر عظيم في الدنيا والآخرة، وما يجازى به من تخلف عن أداء واجبه الشرعي من الإنفاق.

    قال تعالى: ( } ~ ¢ § ª ) [الليل:٥-١٠].

    والإنفاق بالنسبة إلى المؤمن يمثل سلاحًا ذا حدين، ففي الوقت الذي يسهم فيه بنجاة المجتمع وخلاص أفراده من الفقر، يعمل على وقاية النفس ونجاتها من كرب الدنيا والآخرة.

    قال تعالى: ( ) [التغابن:١٦].

    في مقابل ذلك نرى من ينأون بأنفسهم عن مجتمعهم لا يهمهم شيء من إصلاح شأنه، ولا يفكرون في إنقاذ أفراده ونجاتهم من الفقر، وبسبب ضعف إيمانهم نجدهم لا يتصدقون ( ) [التوبة:٥٤].

    وبعد ذلك كله يحسبون أنهم بمفازة من عذاب الله، إن هم إلا يظنون قال تعالى: ( ) [التوبة:٣٤].

    فالإنفاق في سبيل الله فريضة على المسلمين؛ لبناء مجتمع قائم على إشاعة المحبة والإخاء والمساواة والعمل على القضاء على الطبقية باتباع المنهج الإسلامي الداعي إلى تحقيق التكافل ووحدة الصف في مكافحة آفة الفقر.

  4. الظالم.

    يزخر كتاب الله تعالى بمشاهد مختلفة تصور لنا مواقف الظلم في مختلف مراتبه وأحواله منذ بدء الخليقة وتعرض لنا أحداثًا وقصصًا شهدت صراعات مستمرة جسدت أدوار الظلم التي خاضها الإنسان بغروره وكبره ودور عدالة السماء في إيقاف تجاوزاته والحد من ظلمه ليعتبر بها المعتبرون.

    في الوقت نفسه تطرح آيات الكتاب المبين حلولًا وسبلًا شتى لاجتناب الوقوع في الظلم بإتيانه أو الإعانة عليه أو السكوت عنه، أما وسائل النجاة من الظالمين فيمكن تلخيصها في ثلاثة أمور:

    الأول: عدم الركون إلى من يظلم أو مجالستهم: قال تعالى: ( ) [هود:١١٣].

    فالنهي هنا يتناول كل ما من شأنه أن يؤدي إلى الانحطاط «في هواهم والانقطاع إليهم ومصاحبتهم ومجالستهم وزيارتهم ومداهنتهم والرضا بأعمالهم والتشبه بهم والتزيي بزيهم ومد العين إلى زهرتهم وذكرهم بما فيه تعظيم لهم»71. من جانب آخر نهانا الله تعالى بما نهى عنه نبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم عن القعود مع الذين يخوضون في آياته ووجوب الإعراض عنهم.

    قال تعالى: ( ﯿ ) [الأنعام/٦٨].

    فالإعراض عن مجالس الظالمين هو إجراء وقائي يمثل وسيلة من وسائل النجاة من مظاهرتهم والاتصاف بصفتهم ورفضًا قاطعًا لما يصدر عنهم من ظلم، أما المكوث بينهم فلن يؤدي إلا إلى التفاعل مع ذلك الخوض واستطابته بمرور الزمن والانحدار بالنفس إلى القناعة بما يصدر عن أصحابه من ظلم.

    الثاني: اجتناب إعانة الظالمين على ظلمهم: فالظالم لا يقوى إلا بأعوانه الذين يتنافسون في التودد إليه من خلال ما يزينونه له من الحق في تبرير ظلمه وجبروته، فمثل هؤلاء الأعوان لا يقلون شأنًا عند الله من الظالم نفسه لأن «الظالم والمعين على الظلم والمحب له سواء»72.

    ولا أدل على ذلك من قصة فرعون والملأ من حوله الذين كانوا يحرضونه على موسى وقومه، الذين يذكرهم الله تعالى بقوله: ( ) [الأعراف:١٢٧].

    فلما شاء الله أن ينزل عقابه بفرعون لم يخصه وحده به، بل بمن ناصره وأعانه على ظلمه قال تعالى: ( ) [القصص:٤٠].

    لذا لا يتصور الخلاص من الظلم وفتنته ما لم يسع المرء إلى النجاة بنفسه من مناصرته أو إتيانه.

    الثالث: الدعاء إلى الله: وقد سبقت منا الإشارة إلى فضل الدعاء في النجاة عمومًا، ونقف هاهنا لنسلط الضوء على أهمية الدعاء في الخلاص من الظالمين وظلمهم، إذ لا شك أن الله سبحانه كرم بني آدم وخلقهم أحرارًا يحيون في ملكوته ويبتغون من فضله، وزرع فيهم بذرة الرفض لمظاهر الظلم، وقد لا يكون الرفض وحده كافيًا للنجاة من الظلم، فيحتاج إلى تدخل إرادة الله ونصره ولا يتم ذلك إلا بإخلاص النية والتوجه إليه بالدعاء إلى النجاة من الظالمين.

    ويمكننا بالعودة إلى قصتي نبيي الله نوح وموسى(عليهما السلام) أن نرصد أهمية (دعائهما) في نجاتهما من القوم الظالمين بعد أن استعرضنا في ما مضى من الكلام أهمية (ندائهما) في النجاة من الكرب العظيم. فقد شكا نبي الله نوح عليه السلام قومه إلى الله تعالى: ( ) [نوح:٢١].

    ثم دعا ربه بدعاءين رغبة في الخلاص من ظلمهم كان أحدهما حين أحاط به قومه ليقتلوه إذ طلب النصرة لنفسه مستغيثًا ( ) [القمر:١٠].

    فاستجاب له ربه، فأنجاه والنفر الذين آمنوا معه من القوم الكافرين قال تعالى: ( ) [الأعراف:٧٢].

    فقوله: () دال على أن الله تعالى هدى نوحًا عليه السلام والذين آمنوا معه إلى سرعة النجاة من العذاب استجابة لدعائه، ثم إذا استأصل شوكة الذين كذبوه فلم يصلوا إليه قال تعالى: ( ) [المؤمنون:٢٨].

    ثم إذا غمرهم الطوفان دعا نوح عليه السلام ربه بدعائه الآخر ( ) [نوح:٢٦].

    فاستجاب له ربه فأغرقهم ونجاه ومن معه (منهم ومن الطوفان).

    قال تعالى: ( ) [يونس:٧٣].

    فدل بقوله: (نجيناه) على حصول النجاة أكثر من مرة ومن أكثر من شيء، ودل بالاسم الموصول (من) على الشمول، فالنجاة هنا لم تختص بنوح عليه السلام والذين معه من المؤمنين، بل به وبجميع من معه في السفينة من بشر ودابة.

    فهذه المشاهد القرآنية البليغة تدعونا إلى التفكر في أهمية الدعاء في الانتصار من الظالمين والنجاة منهم ومن ظلمهم وتؤكد لنا بالدليل القاطع أن الله قريب يجيب دعوة الداعي إذا دعاه.

    أما نبي الله موسى عليه السلام فقد قيل إنه لما عرف ما هو عليه من الحق في دينه، عاب ما عليه قوم فرعون من عبادته وعبادة الأصنام، وفشا ذلك منه فأخافوه وخافهم، فكان لا يدخل المدينة إلا خائفًا مستخفيًا73.

    فدخلها يومًا على حين غفلة من أهلها وجرى ما جرى من أمر الإسرائيلي الذي استغاثه على القبطي الذي قتله، فأصبح في المدينة خائفًا يترقب، فجاءه رجل من شيعته، قال: ( ﯿ Ù ) [القصص:٢٠-٢١].

    يلاحظ أن نبي الله موسى عليه السلام استعان بالدعاء للنجاة من قوم فرعون بعد أن تملكه الخوف من بطشهم به، وإنما وصفهم بالظالمين في ما يبدو لأحد أمرين: إما أنهم ظالمون لأنهم لم يهتدوا إلى الحق لما دعاهم إليه بادئ الأمر أو لأنهم أرادوا أن يقتلوه ظلمًا بفعلة لم يتعمد إتيانها، فلما كان قصاصهم غير مكافئ لفعلته وصفهم بالظالمين وفي ذلك يقول الرازي في قوله: ( ) «وهذا يدل على أن قتله لذلك القبطي لم يكن ذنبًا وإلا لكان هو الظالم وما كانوا ظالمين له بسبب طلبهم إياه ليقتلوه قصاصًا»74.

    فلما بلغ أرض مدين ولقي النبي شعيب عليه السلام وقص عليه القصص، جاءه جواب الله على لسانه حين قال له: ( ) [القصص:٢٥].

    وإنما كانت نجاة موسى عليه السلام بصدق دعائه وعظيم ثقته بالله.

    الصدق إذن منجاة العباد، فمهما بلغت مستويات الظلم والتنكيل، تبقى إرادة الإنسان الصادقة أقوى في مواجهتها إذا استندت إلى قوة الله وعقدت الصلة بين القوتين بحبل من الإيمان والتقوى، فقوى الظلم التي تهدد العباد وتستبيح البلاد لم تسطع على مر العصور والأزمان أن تحافظ على أمنها ولم تتمكن من الاستمرار في نهجها الظالم، إذ لا زالت هنالك في كل مكان وزمان قوى إيمانية رافضة للاستبداد ترخص الأنفس في سبيل إعلاء كلمة الحق والدفاع عن كرامة الإسلام والمسلمين أينما خيم الظلم على الأمة.

  5. الضلال.

    وقد ورد الضلال بصيغه المختلفة في القرآن الكريم بمعان عدة منها الغواية والاستنـزال عن الشيء والخسران والشقاء والهلاك والإبطال والخطأ والنسيان والجهل فضلًا عن المعنى الرئيس الذي يدل عليه أي: نقيض الهدى75. ويفهم من ذلك أن الإنسان كلما نهج سبيل الحق والعدل والصواب كان على هدى، وكلما وقع في الخطأ عمدًا أو سهوًا أو جهلًا كان على ضلال، ولكن لكل ضلال رتبته ونسبته كما يصف لنا القرآن ذلك فالضلال بذاته منه المبين والبعيد والكبير، ويقينًا أن لكل واحد منها درجاته ونسبه، أما النجاة منه فتتحقق بأمور عدة يمكن إجمالها بما يأتي:

    أولًا: الإيمان المطلق بوحدانية الله تعالى والتسليم له بالعبودية: فالشرك بالله لا يؤدي إلا إلى الضلال.

    قال تعالى: ( ) [النساء:١١٦].

    ثانيًا: إخلاص الدين والموالاة لله: فقد أمر الله الناس بعبادته وحده، فهو الخالق القاهر فوق عباده.

    قال تعالى: ( ) [الزمر:٣].

    فهذا الجهل بمعرفة سبيل الله هو ما دفع نبي الله إبراهيم عليه السلام إلى إنكار إقدام أبيه آزر وقومه على تأليههم الأصنام، كونه باطلًا بينًا واضح البطلان لكل ذي لب قال تعالى: ( ) [الأنعام:٧٤].

    ثالثًا: اجتناب الكفر بكل أشكاله وعناوينه: لأن الكفر يمثل صورة من صور حجب الحقيقة وسترها وتختلف مراتبه باختلاف مستويات المعرفة بتلك الحقيقة والاعتراف بها، ويشترط بمعرفة الله سبحانه الإيمان به وبملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، ولا تقود المعرفة من دون إيمان إلا إلى الضلال.

    قال تعالى: ( ) [النساء:١٣٦].

    رابعًا: إلزام النفس بعدم العصيان: فمعلوم لنا أن معنى العصيان هو خلاف الطاعة، والعبد ملزم بحكم الشارع المقدس بطاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم .

    قال تعالى: ( ) [الأحزاب:٣٦].

    خامسًا: الوقاية من الظلم والإجرام: فمن سعى بنفسه إلى اتباع هذه السبل فقد انتهى بها إلى الضلال، ومن وقاها منه فقد أدرك النجاة.

    قال تعالى: ( ) [لقمان:١١].

    وقال في موضع آخر: ( ﯿ ) [القمر:٤٧].

    سادسًا: الثقة بالله والاعتقاد بوجود رحمته وقربها: فمن أسلم نفسه إلى يأسه وضيق أفقه الفكري فقد أدخل نفسه في نفق الضلال ومتاهته.

    قال تعالى: ( )[الحجر: ٥٦].

    سابعًا: دوام الذكر: فقد أوصى الله عباده بإعمار القلوب بذكره.

    قال تعالى: ( ) [الرعد:٢٨].

    فالاطمئنان يجعلها رقيقة رطبة مهتدية بنور ربها، وعلى النقيض من ذلك تكون القلوب القاسية قلقة ومتخبطة.

    قال تعالى: ( ) [الزمر:٢٢].

    ثامنًا: عدم الانقياد وراء الأهواء: لأن الأهواء تميل بالنفس إلى شهواتها وإلى الاعتقاد بما يخالف الحق ما يوهم المرء فيشط به عن سبيل الله.

    قال تعالى: ( ) [ص:٢٦].

    تاسعًا: رفض طاعة المضل: فمن صدق عليه الضلال وجب ترك طاعته.

    قال تعالى: ( ) [الأحزاب:٦٧].

    فطاعة الله وحده هي الهدى.

    لقد جاء كتاب الله تعالى لإرشاد الناس إلى طريق الهدى وإيقاظهم من غفلتهم وإنقاذهم من ضلالتهم التي كانوا عليها قبل مجيء الإسلام، غير أن قوى الضلالة والذين في قلوبهم زيغ لا يزالون يتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وشق الصفوف، وبدل أن يكون القرآن الكريم مصدر وحدتنا أصبحنا نجد الأصوات تتعالى من كل ناحية لتضل الناس وتحرضهم على الفتن والفرقة والاحتراب وتقول برأيها في آيات الله تعالى وتتخذ منها وسيلة لإقناع الناس بسلامة نهجها، وما ذاك من الكتاب في شيء وقد قال تعالى في محكمه: ( ) [آل عمران:١٠٣].

    فديننا يأمرنا بالهدى، وبالهدى وحده نبلغ النجاة، وننقذ أمتنا الإسلامية من المخاطر التي تحيط بها من كل جانب ونسهم في خلاصها من الأفكار الظلامية التي تنخر في جسدها وتغرر بالبسطاء من أبنائها لتضلهم عن سواء السبيل.

  6. المخاطر.

    كثيرة هي المخاطر التي يتعرض لها الناس في مسيرة حياتهم سواء ما تهدد استقرارهم العقائدي أو الوجودي ولله تعالى حكمة بالغة في إحاطتهم بتلك المخاطر ليبلوهم أيهم يثوب إليه داعيًا ومنيبًا، ثم إذا كشف عنهم البلاء ونجاهم، ينظر من منهم سيعترف بفضله ويشكر آلاءه ومن سيجعل له شركاء في حكمه ؟.

    فمن الناس من لا يعتبر بتلك الشدائد والمخاطر التي تصيبهم باستمرار، فما إن يخرجوا من شدتهم وينجوا من مخاطرها حتى يعودوا إلى شركهم أو كفرهم أو فسادهم في الأرض.

    قال تعالى: ( ﭽﭾ ﭿ e ) [يونس:٢٢-٢٣].

    يلاحظ أن الإنسان في مثل هذه الحالة «لا يطمع إلا في فضل الله ورحمته، ويصير منقطع الطمع عن جميع الخلق ويصير بقلبه وروحه وجميع أجزائه متضرعًا إلى الله تعالى، ثم إذا نجاه الله تعالى من هذه البلية العظيمة، ونقله من هذه المضرة القوية إلى الخلاص والنجاة، ففي الحال ينسى تلك النعمة ويرجع إلى ما ألفه واعتاده من العقائد الباطلة والأخلاق الذميمة»76.

    ويعود كتاب الله العزيز ليسوق لنا هذا المثال في مناسبات أخرى ليدلل به على أنه ما من خطر يتهدد الإنسان في حياته إلا وكان الله وحده هو المنجي منه، ولكن الإنسان تجده بعد نجاته مرة يعرض عن ذكر الله أو أنه يقتصد في الذكر، جهلًا منه بأن المخاطر تلك تصيبه في ظرف دون آخر، وما علم أنه معرض لها في كل زمان ومكان ولا فرق في أن يكون في البحر أو في البر ليتهدده خطرها.

    قال تعالى: ( - ) [الإسراء:٦٧-٦٨].

    فحري بالإنسان أن يخلص النية ويواصل الذكر ويشكر آلاء الله في الشدة والرخاء، ويجعل نعمة الله عليه بالنجاة من المخاطر سببًا في التعلق به أكثر، فلا تكون الحاجة إلى الله محصورة في لحظات نزول الشدائد ثم إذا انفرج الهم جعل له شركاء في قدرته قال تعالى: ( ) [العنكبوت:٦٥].

    قيل: «إشراكهم أن يقول قائلهم لولا الله والرئيس أو الملاح لغرقنا، فيجعلون ما فعل الله لهم من النجاة قسمة بين الله وبين خلقه»77.

    ومنهم المقتصدون في كفرهم أو إخلاصهم كما يقول تعالى: ( ) [لقمان:٣٢].

    فقد بقي لمشهد الموج العظيم أثر في نفوسهم «فخرج منهم مقتصد أي في الكفر وهو الذي انزجر بعض الانزجار أو مقتصد في الإخلاص فبقي معه شيء منه ولم يبق على ما كان عليه من الإخلاص»78، فإلى هؤلاء وغيرهم يوجه الله تعالى سؤاله منكرًا عليهم جحودهم قائلًا: ( k ) [الأنعام:٦٣-٦٤].

    فقد جمع الله سبحانه المخاطر كلها في قوله ( ) ليشير بذلك إلى كل ما من شأنه أن يبعث الخوف في النفوس من أهوالهما، وهذه المخاوف هي التي تعود بالإنسان إلى فطرته السليمة فيتشبث بخالقه تلقائيًا، غير أنه وبعد الفوز بالنجاة والسلامة يحيل تلك السلامة إلى الأسباب الجسمانية. ومن يتدبر الآية الكريمة يجد أن لفظها يدل على أن الإنسان عمومًا يأتي بأمور أربعة عند نزول المخاطر هي: الدعاء والتضرع والإخلاص بالقلب والتزام الاشتغال بالشكر79.

    فهذه العوامل المنجية يجب أن لا تنتهي بعد تحقق النجاة إلى تقديم الشرك عليها.

  7. العذاب الدنيوي.

    يعرض لنا القرآن الكريم صور العذاب الدنيوي في نمطين: أحدهما عذاب صادر من الله تعالى والآخر عذاب صادر من الإنسان، فأما النمط الأول فغالبًا ما يقع بسبب ما يقدم عليه الناس من ارتكاب المعاصي وإتيان الظلم، وعلى الرغم من ذلك لا نجد الله تعالى يعاجلهم بالعذاب بل ينزل عليهم كتبه ويبعث فيهم رسله مبشرين ومنذرين رغبة منه في فوزهم بثوابه وخلاصهم من عذابه.

    وتعرض لنا آيات الله البينات كثيرًا من المشاهد الممتزجة بألوان العذاب الذي حذر الله تعالى منه أو توعد به أهل القرى والظالمين من أعدائه والمتجاوزين على حدوده، وحري بنا أن نتعرف من خلالها على السبل الناجعة المفضية إلى النجاة منه، فمن بين تلك السبل:

    أولًا: تطهير النفس من الشرك: قال تعالى: ( ) [الشعراء:٢١٣].

    فمن جعل لله شركاء فقد ظلم نفسه وساقها إلى عذابه.

    ثانيًا: الإيمان بالله وشكر نعمته: قال تعالى: ( ) [النساء:١٤٧].

    وقال تعالى في قصة نوح عليه السلام :( ) [هود:٥٨].

    فالاعتراف بربوبية الله تعالى توجب الرحمة والنجاة من عذابه.

    ثالثًا: دوام الذكر: كتسبيحه أو الاستغفار قال تعالى: ( ) [الأنفال:٣٣].

    رابعًا: اجتناب الكفر: لأن الكفر يفتح الأبواب لكثير من المعاصي، لذا لا يكتفي الله سبحانه بعذاب الكافرين في الدنيا بل يذيقهم عذاب الآخرة حيث لا ناصر ينجيهم منه.

    قال تعالى: ( ) [آل عمران:٥٦].

    خامسًا: الابتعاد عن الاستنكاف والاستكبار: فالعزة والكبرياء لله وحده.

    قال تعالى: ( ) [النساء:١٧٣].

    سادسًا: الحذر من النفاق: فمن بين أكثر الصفات ذمًا عند الله صفة النفاق، وقد قرن الله تعالى المنافقين بالمشركين في أكثر من آية وساوى بينهم في الوعيد بعذابه.

    قال تعالى : ( ) [الأحزاب/٧٣].

    سابعًا: وقاية النفس من الصد عن سبيل الله: فمن يصد عباد الله عن عبادته لن يحول بينه وبين عذابه شيء قال تعالى: ( ) [الأنفال:٣٤].

    ثامنًا: الانقياد إلى أوامر الله تعالى ورسله: فكتاب الله تعالى مليء بشاهد العذاب التي نزلت بالأمم الغابرة جزاء عصيانها وعدم امتثالها لأوامره.

    قال تعالى: ( ) [الطلاق:٨].

    تاسعًا: الحذر من إتيان المكر السيء: فقد أعد الله تعالى للماكرين عذابًا مفاجئًا غير محدد بشكل ولا مكان أو زمان.

    قال تعالى: ( ﭽﭾ ﭿ) [النحل:٤٥].

    عاشرًا: النأي بالنفس عن الظلم: فالسعي إلى تجاوز حدود الله ومخالفة ما شرعه من العدل يوجب العذاب الذي لا منجاة منه.

    قال تعالى: ( ) [الأعراف:١٦٥].

    وأما النمط الآخر من العذاب فهو الصادر عن الإنسان في حق الإنسان، ويكون على قسمين:

    عذاب بهدف إقامة حدود الله: وهو ما يتم تنفيذه بالزناة مثلًا.

    قال تعالى: ( ) [النور:٢].

    وتكون النجاة من هذا العذاب بصون النفس عن ارتكاب الكبائر.

    وعذاب بهدف التجبر والهيمنة: وهو ما يصدر عن الطغاة والجبابرة بحق المستضعفين من الناس، ولا منجاة منه إلا بالإيمان بالله تعالى والتوكل عليه والدعاء إليه بالخلاص، ولا أدل على هذا القسم من العذاب من قصة فرعون واضطهاده لبني إسرائيل وإنزال أنواع العذاب فيهم، فلم يكن الله لينجيهم من ظلمه وجبروته إلا بعد أن آمنوا لموسى وهارون(عليهما السلام).

    قال تعالى: ( ) [البقرة:٤٩].

    أما وجوه العذاب فقد حدها بعض علماء التفسير في عشرة وجوه هي: الحد في الزنا، المسخ، هلاك المال الغرق، القذف والخسف، الجوع، القتل، الضرب المؤلم، نتف الريش، تعب الخدمة80.

    يتبين لنا من خلال ما تقدم أن نعم الله تعالى التي لا تعد ولا تحصى توجب علينا شكرها، فما من منعم سواه إن أمسك علينا نعمه.

    قال تعالى: ( ﯿ) [النحل:٥٣].

    فبالشكر تدوم النعم ويدرأ العذاب، فالله تعالى ما كان ليجتبي نبيه إبراهيم صلى الله عليه وسلم ويهديه لولا أنه كان شاكرًا لأنعمه، أما من يكفر بها فليس له من الله من عاصم.

    قال تعالى: ( ) [البقرة:٢١١].

    فواجب إذن على كل مسلم ومسلمة أن يتذكر نعمة الله عليه، ولا يجحدها كما جحد بها بنو إسرائيل ويستحضر موارد النجاة التي أنقذه منها، فيخشاه ويتقيه حق تقاته.

    ثانيًا: المنجى منه في الآخرة:

    الموت أول مراحل الآخرة والقبر أول منازلها، والموت هو المخلوق الذي قهر الله به عباده، والحقيقة الثابتة التي يقر بها الخلق جميعًا سواء من آمن منهم بالله واليوم الآخر أم غير المؤمنين، فهو أمر محسوس ومدرك لا يحتاج الاعتقاد بحقيقته إلى إثبات أو برهان يؤكد وجوده، وليس أمره بمقتصر على فئة من الخلق دون أخرى بل هو قضاء إلهي عادل يتساوى فيه الخلق جميعًا.

    قال تعالى: ( ) [آل عمران:١٨٥].

    فالإنسان إذا مات انقطع عمله وقامت قيامته وبدأت مسيرة حسابه ليوفى أجره بما عمل، فإما إلى سعادة أو إلى شقاء وعمله هو رفيقه الذي يسوقه إلى ما يستحقه من مثوى، وهو الشاهد على ما قدمته يداه، فإذا صلح كان طوق النجاة الذي يدرأ عنه العذاب ويزحزحه عن النار ويدخله الجنة، وأما إذا فسد فقد خسر خسرانًا مبينا فالمفسدون لن ينجوا بما فسد من أعمالهم وقد أحبطها الله وأخزاهم بها، بل سيدورون يبحثون عن ما ينجيهم من العذاب فمرة تتعلق آمالهم بالناجين من المؤمنين فيقولون لهم: ( ) [الحديد:١٣].

    ومرة يتعلقون برغباتهم اليائسة كتمني الافتداء: ( + . ﭡ ﭢ ) [المعارج:١١-١٤].

    ومرة يبحثون عن شفعاء أو يسألون العودة إلى الحياة ثانية للتزود بالعمل الصالح ( ) [الأعراف:٥٣].

    وفي كل الأحوال تبقى هذه الآمال مستحيلة التحقق، لقوله تعالى: ( ) [الأنعام:١٥٨].

    فالإيمان بالله والعمل الصالح في الحياة الدنيا هما مفتاح النجاة من أهوال الآخرة التي سنقف عندها في هذا المبحث لنفصل القول في أحوالها وسبل النجاة منها كما هي واردة في آيات الذكر الحكيم.

  1. عذاب القبر.

    كثر الخلاف في مسألة عذاب القبر، ولا زال من الناس من تساورهم الشكوك في حقيقته أو الكيفية التي يكون عليها؛ لأن الله سبحانه قصر العلم بأمور الآخرة على نفسه، وحجبه عن إدراك المكلفين بأمور الدنيا، وإذ لم يعد أحد من الموت ليخبر الأحياء بما نزل به من العذاب في قبره، فقد ظل هذا الأمر مثار جدل طويل حتى حسم بعضهم أمره بالقول: إن «عذاب القبر حق لا ينكره إلا ضال أو مضل»81.

    قيل: «ومما ينبغي أن يعلم أن عذاب القبر هو عذاب البرزخ فكل من مات وهو مستحق للعذاب ناله نصيبه منه قبر أم لم يقبر»82.

    وليس عذاب القبر بمقصور على «الكافرين ولا موقوفًا على المنافقين بل يشاركهم فيه طائفة من المؤمنين، وكل على حاله من عمله، وما استوجبه بخطيئته وزلله»83.

    أما الناجون من العذاب فقليل، فإذا تأملنا ظواهر القبور وجدناها ترابًا ولكن في بواطنها الدواهي والحسرات تغلي كما تغلي القدور بما فيها84.

    ويذكر لنا ابن القيم جملة من الأسباب التي يعذب بها أصحاب القبور وقد حصرها في وجهين: «مجمل ومفصل: أما المجمل فإنهم يعذبون على جهلهم بالله، وإضاعتهم لأمره، وارتكابهم لمعاصيه فلا يعذب الله روحًا عرفته وأحبته، وامتثلت أمره واجتنبت نهيه، ولا بدنًا كانت فيه أبدًا، فإن عذاب القبر وعذاب الآخرة أثر غضب الله وسخطه على عبده، فمن أغضب الله وأسخطه في هذه الدار ثم لم يتب ومات على ذلك كان له من عذاب البرزخ بقدر غضب الله وسخطه عليه»85.

    وأما المفصل فالأخبار والأحاديث كثيرة في شأنه، ومن أسبابه: الزنا والكذب وأكل الربا والنوم عن الصلاة المكتوبة وهجر القرآن والدين وحبس الحيوان وتعذيبه واللواط والنياحة على الميت والغلول في الغنيمة والسرقة والإفطار المتعمد والنميمة والغيبة. وقد ركزت آيات الله البينات على أربعة أسباب موجبة لعذاب القبر إذا اجتنبها العبد فاز بالنجاة في حياته البرزخية، والأسباب هي:

    أولًا: الظلم: وفي ذلك يقول الله تعالى: ( ) [الأنعام:٩٣].

    وفي موضع آخر يذكر آل فرعون، وهم الذين وصفهم في أكثر من آية بالقوم الظالمين، فيصور ما هم عليه من عذاب القبر بقوله: ( ) [غافر:٤٦].

    وفي موضع ثالث يشير إليه بأنه عذاب أدنى من عذاب الآخرة قال تعالى: ( ) [الطور:٤٧].

    فقد «اختلف أهل التأويل في العذاب الذي توعد الله به هؤلاء الظلمة... فقال بعضهم: هو عذاب القبر»86.

    ثانيًا: النفاق: ليس على الإسلام من هو أخطر من المنافقين، لذا أعد الله تعالى لهم عذابين في الدنيا والآخرة مضافًا إليهما عذاب ثالث هو عذاب القبر المشار إليه في قوله: ( ﭽﭿ ) [التوبة:١٠١].

    ثالثًا: الفسق: وجعل من ذلك ما ذكره الله تعالى في كتابه الكريم في شأن عذابهم الأدنى من قوله: ( - ) [السجدة:٢٠-٢١].

    رابعًا: الإعراض عن ذكر الله تعالى: وقد جعل المفسرون من ذلك قوله: ( ) [طه:١٢٤].

    فعن أبي سعيد الخدري: «قال في قول الله: ( ) قال: عذاب القبر»87.

    وتتحقق نجاة الإنسان من عذاب القبر باجتناب ما تم عرضه من الأسباب التي تقتضي عذاب القبر88 وبمواصلة الذكر والاستغفار والتوبة إلى الله تعالى، وبالمفصل يكون الخلاص من عذاب القبر بالالتزام بالآتي:

    أولًا: التوحيد: فمن عرف الله حق معرفته في حياته، فسيثبته الله على ذلك النهج في آخرته، وقد استدل على ذلك بقوله تعالى: ( ) [إبراهيم:٢٧].

    قيل: إنها «نزلت في عذاب القبر، يقال: من ربك ؟ فيقول: ربي الله وديني دين محمد»89.

    ثانيًا: الاستقامة على طاعة الله عز وجل: قال تعالى: ( ) [فصلت:٣٠].

    ثالثًا: الشهادة في سبيل الله: فللشهيد منزلة عظمى عند الله تعالى، وقد كتب له الخلود واستمرار الحياة ولم يعده في الأموات.

    قال تعالى: ( r ) [آل عمران:١٦٩-١٧٠].

    وقال في موضع آخر: ( ) [البقرة:١٥٤].

    فسبحان الذي ميز بينها وبين أرواح الموتى، فحري بأبدانهم إذن أن تتمايز هي أيضًا في قبورها، فيسأل من مات حتف أنفه ويعذب بذنوبه، أما من «أظهر صدق ما في ضميره حيث برز للحرب والقتل، فلماذا يعاد عليه السؤال في القبر ؟»90.

  2. الفزع الأكبر.

    قال تعالى: ( ) [الأنبياء:١٠٣].

    وقد اختلف أهل التأويل فيه «فقال بعضهم: ذلك النار إذا أطبقت على أهلها... قال ابن جريج، قوله: لا يحزنهم الفزع الأكبر: قال: حين تطبق جهنم، وقال: حين ذبح الموت. وقال آخرون: بل ذلك النفخة الآخرة... وقال آخرون: بل ذلك حين يؤمر بالعبد إلى النار... وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: ذلك عند النفخة الآخرة، وذلك أن من لم يحزنه ذلك الفزع الأكبر وأمن منه، فهو مما بعده أحرى أن لا يفزع، وأن من أفزعه ذلك فغير مأمون عليه الفزع مما بعده»91.

    وإلى هذا الأخير ذهب ابن الجوزي بقوله: «...وبهذه النفخة يقوم الناس من قبورهم ويدل على صحة هذا الوجه قوله تعالى: ( ) »92.

    واستدل عليه أيضًا93 بقوله تعالى: ( ) [النمل/٨٧].

    وقد جمع الثعالبي كل الآراء المتقدمة بقوله: «الفزع الأكبر عام في كل هول يكون يوم القيامة فكان يوم القيامة بجملته هو الفزع الأكبر»94، أي: البعث والحساب والعقاب95.

    قيل: إن «أوحش ما يكون الخلق في ثلاثة مواطن: يوم يولد فيرى نفسه خارجًا مما كان فيه، ويوم يموت فيرى قومًا لم يكن عاينهم، ويوم يبعث فيرى نفسه في محشر عظيم»96.

    وتذكر لنا السنة النبوية جملة من الأسباب والوسائل المنجية من تلك الأهوال وما ينشأ عنها من فزع عظيم وجاء في الأثر في فضل البكاء من خشية الله أن نبي الله موسى عليه السلام سأل ربه: «قال إلهي فما جزاء من بكى من خشيتك حتى تسيل دموعه على وجهه ؟ قال جزاؤه أن أحرم وجهه على النار وأن أؤمنه يوم الفزع الأكبر»97.

    وبالجملة فإن أي عمل يقوم به الإنسان بنية الإحسان، يكون له جنة من فزع القيامة، ويقيه جانبًا من أهوالها ومشاهدها المذهلة، وقد وعد الله سبحانه عباده المحسنين بالنجاة من ذلك الفزع والأمن منه بقوله: ( ) [النمل:٨٩].

  3. الحساب.

    قد ذكر أهل التفسير أن الحساب في القرآن الكريم يرد على وجوه خمسة هي: العدد والكثير والمحاسبة والتقتير والجزاء98.

    وما يهمنا من هذه الوجوه في هذا المبحث هو الجزاء الذي يشير إليه الثعلبي بقوله: «الحساب تعريف الله عز وجل الخلائق مقادير الجزاء على أعمالهم وتذكيره إياهم ما قد نسوه من ذلك»99، فالحساب إذن «علة للوصول إلى الجزاء»100.

    ويروى عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من نوقش يوم الحساب عذب، قالت: قلت أليس يقول الله تعالى: ( ) [الانشقاق:٨]. قال: ذلك العرض)101.

    وتختلف كيفيات الحساب وأحواله، فمنه العسير ومنه اليسير ومنه العدل والجهد ومنه التكريم ومنه التوبيخ والتبكيت ومنه الفضل والصفح والعفو والغفران102.

    ويمكن الاهتداء إلى سبل النجاة من الحساب باتباع ما جاء في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم والتزام الآتي:

    أولًا: التوحيد ونبذ الشرك: قال تعالى: ( ) [المؤمنون:١١٧].

    ثانيًا: اجتناب الكفر: قال تعالى: ( ﭽﭾ ﭿ ) [النور:٣٩].

    ثالثًا: طاعة الله واتباع سنته: قال تعالى: (ﯿ ) [الرعد:١٨].

    رابعًا: مواصلة الأرحام: قال تعالى: ( ) [الرعد:٢١].

    قال القرطبي في قوله: ( ): «قيل: في قطع الأرحام»103.

    خامسًا: اتباع سبيل الله وعدم الانقياد إلى الهوى: قال تعالى: ( ﯿ ) [ص:٢٦].

    سادسًا: الصبر: قال تعالى: ( ) [الزمر:١٠].

    سابعًا: العمل الصالح: قال تعالى: ( ) [غافر:٤٠].

  4. الصراط.

    الصراط: «جسر ممدود على متن جهنم يرده الأولون والآخرون، فهو قنطرة جهنم بين الجنة والنار وخلق من حين خلقت جهنم»104.

    وجاء فيه أنه (يمر الناس عليه على قدر أعمالهم ومنهم من يمر كالريح ومنهم من يمر كالفرس الجواد، ومنهم من يمر كركاب الإبل، ومنهم من يعدو عدوًا، ومنهم من يمشي مشيًا ومنهم من يزحف زحفًا، ومنهم من يخطف فيلقى في جهنم، فإن الجسر عليه كلاليب تخطف الناس بأعمالهم فمن مر على الصراط دخل الجنة)105.

    ومن صفاته أنه أدق من الشعر وأحد من السيف، مدحضة، مزلة؛ أي: زلق لا تثبت عليه الأقدام ولا تستقر إلا ما شاء الله، وله جنبتان وحافتان، ويموج بالسائرين عليه إلا من ثبته الله تعالى.

    يروى أن هذا الصراط يضرب بين ظهري جهنم بعد أن ( ) [إبراهيم:٤٨].

    يقول النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم: (فأكون أنا وأمتي أول من يجيز)106.

    وربما كان «المرور على الصراط من أخطر كرب يوم القيامة إن لم يكن هو أخطرها، ففيه من الأهوال والفزع والخوف والرعب ما لا تتحمله عقول الخلق ولا نفوسهم»107، يدل على ذلك أربعة أمور هي: أنه لا يذكر الإنسان عنده إلا نفسه، وأن الملائكة تشفق من هوله على الرغم من أنهم غير محاسبين، وأنه واحد من ثلاثة مواطن يقف عندها النبي صلى الله عليه وسلم للشفاعة وأنه لا يتكلم عنده يومئذ إلا الرسل108.

    أما أحوال الناس على الصراط، فالله سبحانه يبعثهم في ظلمة شديدة إذا أخرج الإنسان يده لم يكد يراها فيجمع الله تعالى الناس فيعطون نورهم على قدر أعمالهم ليستجيزوا الصراط.

    قال تعالى: ( ) [الحديد:١٢].

    أما المنافقون فلا يسعفهم نورهم عند الصراط، إذ يسلبه الله منهم، فينادون على المؤمنين: ( ﭽﭾ ﭿ ) [الحديد:١٣].

    في هذا الموضع يفترق المؤمنون الناجون من الصراط عن المنافقين المعذبين، وتتوقف نجاة المؤمنين على مقدار ما تبلغ بهم أعمالهم من الصراط المستقيم الذي لا يمكن بلوغه إلا بتوافر أسباب عدة يمكن التماسها في القرآن الكريم منها:

    أولًا: الإيمان بالله تعالى والاعتصام به واجتناب الكفر: قال تعالى: ( ) [آل عمران:١٠١].

    ثانيًا: الإيمان بالآخرة: قال تعالى: ( ) [المؤمنون:٧٤].

    ثالثًا: عبادة الله وحده: قال تعالى: ( ) [آل عمران:٥١].

    رابعًا: الدعاء بالهداية: قال تعالى: ( ) [الفاتحة:٧].

    والهداية مرة تكون برحمة مباشرة من الله تعالى، كما في قوله: ( ) [البقرة:٢١٣].

    ومرة تكون بوساطة كتابه: قال تعالى: ( ) [سبأ:٦].

    ومرة بوساطة نبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم، كما في قوله: ( ) [الشورى:٥٢].

    خامسًا: اتباع مرضاة الله: قال تعالى: ( ) [المائدة:١٦].

    سادسًا: التصديق بآيات الله: قال تعالى: ( ) [الأنعام:٣٩].

    سابعًا: الأمر بالعدل: قال تعالى: ( ) [النحل:٧٦].

    ثامنًا: شكر النعم: قال تعالى في نبيه إبراهيم عليه السلام :( ) [النحل:١٢١].

    تاسعًا: اجتناب الشرك بالله والظلم: قال تعالى: ( Ï ﯿ ) [الصافات:٢٢-٢٣].

    عاشرًا: الاقتداء بسيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم: فقد خصه الله تعالى بالقول: ( D ) [يس:٣-٤].

  5. النار.

    النار هي دار الكافرين أعدها الله لهم جزاء بما خالفوا عن أمره.

    قال تعالى: ( ) [آل عمران:١٣١].

    فالنار «خلق من خلق الله تعالى خلقها وجعلها عذابًا للمجرمين الذين خرجوا على دينه وتمردوا على رسله، فهي عذاب حسي، تختلف في قوة عذابها الحراري والزمهريري. فلكل من يدخلها مكان يتلاءم مع جرمه، وعذاب على قدر ذلك، لأن الجزاء من جنس العمل»109.

    وقد نقلت لنا آيات القرآن الكريم صورًا مختلفة لعواقب أهلها وسوء أحوالهم وهم يصطرخون فيها، ويقابل ذكر النار ذكر الجنة وهي دار النعيم «فكل واحدة من الجنة والنار حق ثابت بالكتاب والسنة وإجماع الأمة، وكل ما هو كذلك فالإيمان به واجب واعتقاد وجوده حق لازب، والمراد من الجنة دار الثواب ومن النار دار العقاب»110.

    وتستدعي النجاة من النار التأمل في فلسفة وجودها وهول أحوالها والأسباب الموجبة لورودها أو المعاقبة بها فمن المتعارف أن الله سبحانه خلق الخلق «ليعرفوه ويعبدوه ويخشوه ويخافوه، ونصب لهم الأدلة الدالة على عظمته وكبريائه... ووصف لهم شدة عذابه ودار عقابه التي أعدها لمن عصاه ليتقوه بصالح الأعمال، ولهذا كرر تعالى في كتابه ذكر النار وما أعده فيها لأعدائه من العذاب والنكال، وما احتوت عليه من الزقوم والضريع والحميم والسلاسل والأغلال... ودعا عباده بذلك إلى خشيته وتقواه، والمسارعة إلى امتثال ما يأمر به ويحبه ويرضاه، واجتناب ما ينهى عنه ويكرهه ويأباه»111.

    وفي الوقت الذي حدد الله تعالى فيه لعباده سبل نجاتهم من النار فقد بين لهم في مقابل ذلك ما ينتظرهم من نعيم جناته الذي أعده للناجين منهم والفائزين بمرضاته، فالمنجي من النار هو الله تعالى وحده، وذلك بقوله: ( ) [آل عمران:١٠٣].

    أما الأنبياء عليهم السلام والصالحون فهم يدعون إلى النجاة قال تعالى على لسان مؤمن آل فرعون: ( ) [غافر: ٤١].

    وأما من حقت عليه كلمة العذاب فلا منجاة له من النار.

    قال تعالى: ( ) [الزمر:١٩].

    ولن تشفع للكافر منزلته مهما عظمت.

    قال تعالى: ( ) [التحريم:١٠].

    ولن ينجيه ماله ولا ولده.

    قال تعالى: ( ) [آل عمران:١١٦].

    في مقابل ذلك تحفل آيات الله البينات بمواقف ومشاهد وإشارات تجسد دعوة الله عز وجل عباده إلى الخلاص من عذاب السعير والفوز بالجنة.

    قال تعالى: ( ) [آل عمران:١٨٥].

    وقد ذكر القرآن الكريم جملة من الوسائل الكفيلة بنجاة الإنسان من النار منها:

    أولًا: نبذ الشرك والكفر بالله تعالى: قال تعالى في شأن المشركين: ( ﭽﭾ ﭿ )[المائدة:٧٢].

    فلا ناصر ينجيه من ذلك المأوى، وقال في شأن الكافرين: ( ) [الأنفال:١٤].

    ثانيًا: الإيمان بالله ووقاية النفس: قال تعالى: ( ) [التحريم:٦].

    فلم يكتف بالإيمان بل دعا إلى العمل على وقاية النفس والأهل من النار.

    ثالثًا: تقوى الله: قال تعالى: ( j ) [مريم:٧١-٧٢].

    وتجدر الإشارة إلى أن المفسرين مختلفون في معنى الورود فمنهم من ذهب إلى أن الخلق جميعًا من بني آدم يمرون على النار، ومنهم من ذهب إلى أنهم يدخلونها، ومنهم من قال: يطلعون عليها112، قال الطبري: «ثم يصدر عنها المؤمنون فينجيهم الله ويهوي فيها الكفار»113.

    قال تعالى: ( ) [الزمر:٦١].

    رابعًا: عبادة الله وحده: قال تعالى: ( ﭽﭾ ﭿ ) [العنكبوت:٢٥].

    فهؤلاء الأنداد والأوثان لن يحولوا بينهم وبين النار ولن يخلصوهم من عذابها ما عكفوا عليها ساجدين.

    خامسًا: التصديق بآيات الله: قال تعالى: ( ) [البقرة:٣٩].

    فإنكار الآيات والصد عنها يقطع السبيل إلى النجاة من النار يوم القيامة.

    سادسًا: الدعاء إلى الله: قال تعالى: ( ) [البقرة:٢٠١].

    وقد مضى الحديث عن فضل الدعاء في بلوغ رضا الله تعالى والظفر بنصره ونجاته

    سابعًا: الثبات على الدين: قال تعالى: ( ) [البقرة:٢١٧].

    ثامنًا: ذكر الله والتفكر في خلقه: قال تعالى: ( ) [آل عمران:١٩١].

    تاسعًا: طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم والتزام حدوده: قال تعالى: ( ) [الجن:٢٣].

    عاشرًا: النأي بالنفس عن حمل الظلم: قال تعالى: ( ﭿ ) [الكهف:٢٩].

    حادي عشر: الاحتراز من الجرم والفسق والإسراف: قال تعالى: ( ﯿ ) [الكهف:٥٣].

    وقال: (ﭽﭾ ﭿ ) [غافر:٤٣].

    ثاني عشر: الابتعاد عن النفاق: قال تعالى: ( ) [النساء:١٤٥].

    ثالث عشر: عدم التفكير في معاداة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم: قال تعالى: ( ) [التوبة:٦٣].

    وبالجملة فإن جميع الأعمال الصالحة التي يقدمها المرء بين يدي ربه سواء ما ينفع بها نفسه أو مجتمعه يمكن أن تحول بينه وبين النار إذا ما كان الله تعالى قد رضي بها وادخرها له ليقيه بشفاعتها من السعير.

    نماذج من الناجين في القرآن الكريم

    لم تكن مهمة أنبياء الله ورسله عليهم السلام باليسيرة في الدعوة إلى الله عز وجل وإخراج الناس من ظلمات معتقداتهم وضلالة أفكارهم، وقد توارثوها عن آبائهم وعهدوا بها إلى أجيالهم، حتى استقر عليها منهاج حياتهم واطمأنت بها نفوسهم التي لم يخطر ببالها أن تتأمل في حقيقتها، أو تطمح إلى تغييرها؛ لأنها جاءت موافقة لرغبات مجتمعاتهم أو طبقاتهم الحاكمة أو المتحكمة على مدى العصور.

    فكانت دعوة الأنبياء والرسل عليهم السلام تحدث صدمة وزعزعة واضطرابًا في نفوس الأفراد أو الجماعات الذين يتلقونها؛ لأنها تخاطب عقولهم التي غيبت عن التفكر في حقيقة الوجود وصانعه، وتبصرهم بزيف معتقداتهم التي لا أساس لها من الصحة، غير أن النظام الفكري والعقائدي غالبًا ما يكون مبنيًا على أسس ومفاهيم ضيقة، ولا يمكن أن يستوعب ذلك الفضاء الرحب من الهدى، ولا طاقة له بالتخلص من ذلك الموروث المقدس المهيمن على وعيه الذاتي والاجتماعي، فينشأ الصراع الفكري بين الإرادات المختلفة وسرعان ما تندحر وتنحسر المناهج الضالة وتضعف دفاعاتها أمام حقيقة الرسالات السماوية وقوة حجتها وعظيم برهانها وتحديات معاجزها، فيهرع إلى اعتناقها من شرح الله صدره للهدى، وينقم منها المعاندون الذين استحوذ عليهم الشيطان، لتتسع دائرة الصراع ويتجه باتجاه المواجهة المادية بعد أن هزمت الأفكار الضالة والمعتقدات الزائفة وتكشف بطلانها وأصبحت الرسالة السماوية تسفه الآراء وتهدد النفوذ وتقوض السلطان، فتتحد القوى الضالة والمضللة وتجتمع لمحاربة النبيين ووأد دعواتهم وطمس معالمها ومحو آثارها.

    وفي خضم هذه المواجهات المستمرة يبتلي الله ما في صدور المؤمنين ليمحص قلوبهم، ويمهل الكافرين حتى تحق عليهم كلمة العذاب، ثم يهلكهم بذنوبهم وينجي رسله والذين آمنوا معهم.

    قال تعالى: ( ) [يوسف:١١٠].

    وتحمل لنا آيات الله البينات صورًا ومشاهد عدة لعباد الله تعالى الذين من عليهم بالنجاة من مواقف مختلفة.

    وفيما يأتي نسلط الضوء على مواقف الناجين من الأفراد، ومواقف الناجين من الجماعات.

    أولًا: الناجون من الأفراد:

  1. النبيون.

    أولًا: نجاة نبي الله إبراهيم عليه السلام:

    لقد بعث الله نبيه إبراهيم عليه السلام في قومه، وكانوا يعبدون الكواكب والأصنام، وكان أول دعوته لأبيه آزر فلما استيأس من أن يستجيب لدعوته اعتزله وتوجه إلى قومه يدعوهم ويحاججهم فلم يؤثر فيهم نصحه فأقسم على أن يكيد أصنامهم، فلما خرجوا لأداء مراسم عيدهم لم يخرج معهم، وانطلق مسرعًا إلى آلهتهم ( )[الأنبياء:٨٥].

    ولما رجعوا من عيدهم ووجدوا ما حل بمعبودهم، جيء بإبراهيم عليه السلام، وقد دار بينه وبينهم ما دار من جدال ألزمهم فيه الحجة، فعدلوا عن الجدال والمناظرة إذ لم يبق لهم سبيل إلى استعمال قوتهم وسلطانهم لينصروا ما هم عليه من سفههم وطغيانهم، وكان عليهم الإسراع في وأد الفتنة، غير أنهم اختلفوا بين مطالب بقتله وراغب بتعذيبه وهلاكه بالنار كما يخبرنا الله تعالى بقوله: ( ) [العنكبوت:٢٤].

    ثم اختاروا الأخير، ربما ليشهد هلاكه الناس ويعتبروا به فلا يتجرأ أحد منهم على المساس بالأصنام ثانية. فحبس إبراهيم عليه السلام وشرعوا يجمعون حطبًا من أماكن عدة، ثم عمدوا إلى جوبة عظيمة فوضعوا فيها ذلك الحطب، وأطلقوا فيه النار فاضطرمت وتأججت والتهبت وعلا لها شرر لم ير مثله قط، فانتشرت حرارتها في الفضاء بحيث لم يكن يحلق طائر في تلك الأجواء إلا سقط محترقًا، ثم أخذوا يقيدونه ويكتفونه وهو يقول: لا إله إلا أنت سبحانك لك الحمد ولك الملك لا شريك لك، فلما وضع الخليل عليه السلام في كفة المنجنيق مقيدًا مكتوفًا ثم ألقوه منه إلى النار قال: حسبنا الله ونعم الوكيل، وذكر بعض السلف أن جبريل عرض له في الهواء فقال: ألك حاجة فقال: أما إليك فلا. وعن ابن عباس وسعيد بن جبير أنه قال: جعل ملك المطر يقول: متى أؤمر فأرسل المطر114.

    ولكن الله سبحانه خص نجاة إبراهيم عليه السلام بنفسه فقال: ( ) [الأنبياء:٦٩].

    فكانت النجاة بأمره هو وبقوله هو لذا لم يتحدث النص القرآني عن الذات المقدسة (بالمضمر) بل جاء باسمه الأعظم (صريحًا) في قوله: ( ) [العنكبوت:٢٤].

    ولما كان أمره سبحانه أسرع في الوصول إلى النار من وصول إبراهيم عليه السلام إليها جيء بالفعل (أنجى) الذي يدل على حدوث الفعل لمرة واحدة وبسرعة أكبر مما لو استعمل الفعل (نجى).

    نستشف من هذه المواقف أن الله سبحانه قريب من عباده لا يبطئ في مساعدتهم وإنقاذهم من محنهم حين يجد فيهم ثباتًا وعزمًا وإيمانًا راسخًا، وأن على العبد أن يجعل كل ثقته بالله تعالى وبقدرته على أن يغير نواميس الكون لقاء خلاصه من شدته، وأن التوكل على الله وتسبيحه هو السبيل الأمثل لتحقيق النجاة من الشدائد.

    ثانيًا: نجاة نبي الله يوسف عليه السلام:

    وردت قصة نبي الله يوسف عليه السلام في القرآن الكريم كاملة في سورة واحدة من سوره المباركة لتعرض لنا صورة عن مسيرة حياته الحافلة بالشقاء والتعذيب، واللحظات الحياتية الحرجة التي لم يكن أحد ليستطيع إنقاذه منها لولا تدخل العناية الإلهية التي كانت سببًا رئيسًا في نجاته سبع مرات من مواقف مختلفة:

    الموقف الأول: إجماع إخوته على إلقائه في قعر الجب، فلما ألقوه فيه أوحى الله تعالى إليه أنه لابد لك من فرج ومخرج من هذه الشدة التي أنت فيها ولتخبرن أخوتك بصنيعهم هذا، وكانت نجاته من البئر بمعجزة، إذ جاءت سيارة «يسيرون من الشام فأخطؤوا الطريق وهاموا حتى نزلوا قريبًا من الجب، وكان الجب في قفرة بعيدة من العمران، إنما هو للرعاة والمجتاز، وكان ماؤه ملحًا فعذب حين ألقي فيه يوسف»115.

    فأرسلوا واردهم فلما أدلى بدلوه في الجب تعلق فيه يوسف، فاستخرج من البئر ونجا من غياهبه بتوفيق من الله تعالى.

    الموقف الثاني: مراودة امرأة العزيز له عن نفسه وطلبها منه ما لا يليق بحاله ومقامه، فأعدت واستعدت وهيأت وتهيأت، فصرفها الله عنه وأنجاه برؤية برهانه.

    قال تعالى: ( ﭿ ) [يوسف:٢٤].

    واختلف في ذلك البرهان فقيل في تفسيره ستة أقوال116 حاصل فكرتها جميعًا أن نجاته عليه السلام كانت بمعجزة إلهية خصه بها.

    الموقف الثالث: مصادفة العزيز لدى الباب، حيث كادت امرأته بيوسف عليه السلام لتبرئ عرضها وتنزه ساحتها ولتنكل به جراء عدم امتثاله لإرادتها، فتبادلا التهمة عند سيدها: ( - ) [يوسف:٢٥-٢٦].

    في هذه الأثناء تتدخل العناية الإلهية مرة أخرى لتخلص يوسف عليه السلام من مأزقه هذا بشهادة شاهد من أهلها قال ابن عباس كان صغيرًا في المهد117 فهداهم إلى تحكيم العقل والمنطق في التحقق من مسألة قد قميصه، فأنجاه الله بأن تيقن العزيز أن أمرأته هي التي راودت يوسف عليه السلام بعد أن رأى أن قميصه قد من دبر.

    الموقف الرابع: حين شاع خبر امرأة العزيز وافتضح أمرها فكثر اللغط والطعن بعفتها فأرسلت إلى نسوة المدينة وأعتدت لهن متكأ وأخرجته عليهن، فأعظمنه وأجللنه، ثم مدحته بالعصمة وتوعدته بالسجن إن لم يطع أمرها، فأخذن يحرضنه على السمع والطاعة لسيدته118.

    فخشي يوسف عليه السلام من أن تضعف نفسه أمام ما يتعرض له من تحريضهن فدعا ربه: ( ) [يوسف:٣٣].

    فكان له ما أراد إذ كتب الله له النجاة بدعائه الصادق قال تعالى: ( ) [يوسف:٣٤].

    المواقف الخامس والسادس والسابع: أودع يوسف عليه السلام السجن وأنزل به العذاب وضيق عليه، وكان من شدة ما نزل به من الأمر أنه أوصى من نجا من صاحبي السجن أن يذكر أمره عند ربه ويخبره أنه سجن بغير جرم، فأنساه الشيطان، فمكث في سجنه بين ثلاث إلى تسع سنين حتى كان ما كان من أمر رؤيا الملك التي فسرها فكان ذلك التفسير سببًا في نجاته من السجن وشدته من التهمة التي سجن حين برئ بقولها: ( ﯿ ) [يوسف:٥١].

    من الرق إلى السيادة حين أمر الملك فقال: ( ) [يوسف: ٥٦].

    ثالثًا: نجاة نبي الله عيسى عليه السلام :

    بعث عيسى عليه السلام في زمن الطبائعية الحكماء، فأرسله الله تعالى بمعجزات لا يستطيعونها ولا يهتدون إليها وعلى الرغم من أنه أقام عليهم الحجج، إلا أن أكثرهم استمسك بالضلالة والكفر، فانتدب الله تعالى من بينهم طائفة صالحة ينصرونه ويعينونه.

    قال تعالى: ( ) [الصف:١٤].

    فلما أعلن عن دعوته ورسالته مكروا به ووشوا به إلى ملك ذلك الزمان وكان اسمه داود بن يورا، فقالوا: إن هناك رجلًا يضل الناس ويصدهم عن طاعتك، ويفسد رعاياك، ويفرق بين الأب وابنه، فأمر بقتله وصلبه، فحصروه في دار ببيت المقدس، فلما حان وقت دخولهم ألقى الله شبهه على بعض أصحابه الحاضرين عنده ورفع عيسى من روزنة من ذلك البيت إلى السماء، فلما دخلوا البيت وجدوا ذلك الشاب الذي ألقي عليه شبهه، فأخذوه ظانين أنه عيسى فصلبوه119.

    وفي ذلك يقول تعالى: ( ﭽﭾ ﭿ ) [آل عمران:٥٥].

    ولا يهمنا هنا أن نبحث في كيفية التوفي والرفع بقدر ما يهمنا أن نصل إلى أن الله تعالى تدارك نبيه عيسى عليه السلام ونجاه بقدرته وحده، حيث ألقى شبهه على شخص آخر، فلم يصل إليه شرهم، بل كان عاقبة أمرهم أن الله تعالى مكر بهم وتركهم في ضلالهم يعمهون ظانين أنهم قتلوه ( ﭽﭾ ﭿ e ) [النساء:١٥٧-١٥٨].

  2. غير النبيين.

    أولًا: نجاة مؤمن آل فرعون:

    قيل: هو ابن عم فرعون كان يكتم إيمانه بالله من قومه خوفًا منهم على نفسه، ولكنه حين هم فرعون بقتل موسى عليه السلام وقال: ( ) [غافر:٢٦].

    خاف، فتلطف في رد فرعون بكلمة حق جمع فيها الترغيب والترهيب وألقاها على مسامع ذلك السلطان الجائر، قال: ( ﭶﭷ ﭽﭾ ﭿ ) [غافر:٢٨].

    ثم توجه إلى قومه مخاطبًا ومحذرًا أن يسلبوا ملكهم ويذلوا بتعرضهم لدين موسى عليه السلام ودعوته، مذكرًا بأحوال الأمم السالفة وما حل بأقوام نوح وعاد وثمود ومن بعدهم من هلاك بسبب عنادهم وكفرهم وصدهم عن سبيل الحق، وما ناله أولياء الله الذين صدقوا الرسل من رحمة ونجاة بسبب إخلاصهم الدين، فبالغ فرعون في الدفاع عن ألوهيته المزعومة وسخر من دعوة موسى عليه السلام وسعى إلى تكذيبه ليصد الناس عن الافتتان بدينه، ثم عاد مؤمن آل فرعون متوجهًا بالخطاب إلى قومه مطالبًا إياهم باتباع ما نهجه هو من سبيل الهدى مبينًا لهم فضل الدار الآخرة على الدنيا ومتاعها الذي يتمسكون به، ومبشرًا من يعمل صالحًا منهم بالجنة120.

    غير أن خطابه ودعوته الإيمانية هذه جوبهت بمحاولات قومه صده عن سبيل الهدى والعودة به إلى اتباع ربهم الأعلى والتسليم له بالربوبية، حرصًا على حياته من جهة، وذودًا عن سلطان فرعون الذي يخافون بطشه ويطمعون في جائزته من جهة أخرى، فكان مؤمن آل فرعون يشتد بأسه ويتصلب موقفه كلما احتدم الجدال ليعود فيخاطب عقولهم ويعقد مقارنة بين دعوته لهم التي يريد بها إخراجهم من الظلمات إلى النور، ودعوتهم له التي لن تودي به إلا إلى النار فيقول: ( + ; ﭽﭾ ﭿ ) [غافر:٤١-٤٣].

    فلما استيأسوا منه خافوا أن يتشجع العامة من الناس على أن يحذوا حذوه، فيرتدوا عن عبادة فرعون ويلتحقوا بدعوة موسى عليه السلام ، فمكروا به للخلاص منه، وكان مكر الله بهم أكبر ( ) [غافر:٤٥].

    وبنجاته من آل فرعون التحق بنبي الله موسى عليه السلام ليكون سببًا في خروجه من مصر ونجاته من القوم الظالمين، إذ أخبره بما يدبر له آل فرعون ( ﯿ ) [لقصص:٢٠].

    وبهذا يقدم لنا مؤمن آل فرعون صورة عظيمة للموقف الإيماني الراسخ المتسلح بالعقيدة الصادقة التي منحته القوة في مواجهة فرعون وملأه والتصريح بالدعوة إلى الله الواحد الأحد، فوهب الله له الخلاص وكتب له الخلود لشجاعة موقفه وصدق إيمانه.

    ثانيًا: نجاة صاحب نبي الله يوسف عليه السلام :

    وهو أحد الفتيين اللذين دخلا معه السجن، وكان الملك قد غضب منهما، لأنهما أغريا بتسميمه، فأمر بحبسهما، وكان يوسف عليه السلام معروفًا بإحسانه وتقواه، فقصده الفتيان ليعبر لهما رؤياهما، إذ ( ) [يوسف:٣٦].

    فعبرها لهما بقوله: ( ) [يوسف:٤١].

    وتفسير ذلك أنه قال للساقي: إنك ترد على عملك الذي كنت عليه من سقي الملك، وقال للخباز: وأما أنت فتصلب فتأكل الطير من رأسك121. وما هي إلا أيام حتى تحقق تعبير الرؤيتين، فصلب الخباز حتى هلك، ونجا الساقي بعفو الملك، وكما كانت نجاة مؤمن آل فرعون سببًا في خلاص موسى عليه السلام ، كانت نجاة الساقي سببًا في خلاص يوسف عليه السلام ولو بعد حين، فقد طلب من ذلك الناجي أن يذكره عند ربه بعد خروجه من السجن فأنساه الشيطان ذكر ربه، حتى كانت رؤيا الملك التي ذكرته بعهده ليوسف عليه السلام فكان ما كان من أمر تأويله لرؤيا الملك التي كتب الله بها له النجاة من السجن، ولمصر النجاة من الهلاك.

    ثانيًا: الناجون من الجماعات:

    أولًا: نجاة نبي الله هود عليه السلام والذين آمنوا معه:

    كان من قبيلة يقال لهم: عاد، كانوا عربًا يسكنون الأحقاف، وهم عاد الأولى الذين كانوا أول من عبد الأصنام بعد الطوفان، وأصنامهم ثلاثة صدا وصمودا وهرا، فبعث الله فيهم أخاهم هودًا عليه السلام ، قيل: إنه أول من تكلم بالعربية، وثاني الأنبياء - بعد نوح عليه السلام - الذين جابهوا فكرة الوثنية ودعوا إلى عبادة الله الواحد الأحد، فدعا قومه إلى تقوى الله تعالى وإلى إفراده بالعبادة والإخلاص له بقوله: ( É Ï ﯿ Ó Ö ) [الشعراء:١٣١-١٣٥].

    فكذبوه وخالفوه وتنقصوه وحاجوه أنك ما جئتنا بمعجزة تشهد لك بصدق دعوتك، وما نحن بتاركي عبادة أصنامنا، إن نظن إلا أصابك بعض آلهتنا بغضب فاعتراك جنون، فما كان منه إلا أن تبرأ من إشراكهم مفوضًا أمره إلى الله، أما قومه فقد ترقوا في عداوتهم له من رفضهم لنصائحه ودعواته واتهامهم له في عقله إلى تحديه: ( ) [الأعراف:٧٠].

    واستبعدوا المعاد وأنكروا قيام الأجساد بعد صيرورتها ترابًا وعظامًا وقالوا ( )؛ أي: بعيد بعيد هذا الوعد ( ) [المؤمنون:٣٧].

    ثم عارضوا عبادة الله تعالى بعبادة أصنامهم التي نحتوها وسموها من تلقاء أنفسهم فتوعدهم بالعذاب بقوله: ( ) [الأعراف:٧١].

    فاستجار بربه منهم واستعان به عليهم ودعاه إلى أن ينصره وينجيه: ( Ë ) [المؤمنون:٣٩-٤٠].

    يذكر أن عادًا كانوا ممحلين مسنتين، وبسبب رفضهم دعوة هود عليه السلام أمسك الله تعالى عنهم المطر ثلاث سنين حتى جهدهم ذلك فطلبوا الفرج والسقيا ( ) [الأحقاف:٢٤].

    فسخرها الله عليهم سبع ليال وثمانية أيام متواصلة، فلم تدع من عاد أحدًا إلا هلك.

    قال تعالى: ( ) [هود:٥٨].

    قيل: اعتزل هود عليه السلام في حظيرة هو ومن معه من المؤمنين ما يصيبهم إلا ما يلين عليهم الجلود ويلتذ الأنفس، وإنها لتمر على عاد بالطعن فيما بين السماء والأرض وتدمغهم بالحجارة122.

    قال تعالى: ( ﮯﮰ )[الأعراف:٧٢].

    فكانت نجاة هود عليه السلام ومن معه برحمة من الله تعالى خصهم بها.

    ثانيًا: نجاة نبي الله صالح عليه السلام والذين آمنوا معه:

    هو من قبيلة يقال: لها ثمود أو عاد الثانية، كانوا عربًا من العاربة يسكنون الحجر، وكانوا يعبدون الأصنام كأسلافهم من قوم عاد الأولى، فبعث الله فيهم صالحًا عليه السلام يدعوهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له وأن يخلعوا الأصنام التي يعبدونها، قال لهم: ( ) [الأعراف:٧٤].

    فآمنت طائفة منهم وكفر جمهورهم ونالوا منه بالمقال والفعال ( ) [هود:٦٢].

    لأنهم يرون أنه أصبح مسحورًا لا يدري ما يقول، ثم طالبوه بأن يأتيهم بآية على صدقه فقالوا له هلا أخرجت لنا من هذه الصخرة -وأشاروا إلى صخرة هناك- ناقة ذكروا أوصافًا لها كثيرة، فقال لهم النبي صالح عليه السلام: أرأيتم إن أجبتكم إلى ما سألتم، أتؤمنون بما جئتكم به وتصدقوني ورسالتي؟ قالوا: نعم. فأخذ مواثيقهم على ذلك ثم قام فصلى لله تعالى ما قدر له ثم دعا ربه أن يجيبهم إلى ما طلبوا، فأمر الله تعالى تلك الصخرة أن تنفطر عن ناقة عظيمة عشراء، على الوجه الذي طلبوه، قال: ( ) [الأعراف:٧٣].

    فلما عاينوها كذلك رأوا أمرًا عظيمًا ودليلًا قاطعًا، فآمن كثير منهم واستمر أكثرهم على كفرهم، فاتفق الحال على أن تبقى هذه الناقة بين أظهرهم ترعى حيث شاءت من أرضهم وترد الماء يومًا بعد يوم، فلما طالت عليهم الحال هذه اجتمع ملؤهم واتفق تسعة رهط من المفسدين منهم على أن يعقروا هذه الناقة ليستريحوا منها ويتوفر عليهم ماؤهم، وزين لهم الشيطان أعمالهم ( ) [الأعراف:٧٧].

    فأوعدهم بالعذاب، قال: (ﭽﭾ ﭿ ) [هود:٦٥].

    فلم يصدقوه في وعيده هذا، بل هموا بقتله وأرادوا فيما زعموا أن يلحقوه بالناقة ( ) [النمل:٤٩].

    فأرسل الله تعالى على أولئك الرهط حجارة رضختهم سلفًا وتعجيلًا قبل قومهم، وبينا بقية القوم ينتظرون ماذا يحل بهم من العذاب ولا يدرون ما سيفعل بهم ولا من أي جهة يأتيهم جاءتهم مع شروق اليوم الرابع صيحة من السماء من فوقهم ورجفة شديدة من أسفل منهم، ففاضت الأرواح وزهقت النفوس وخشعت الأصوات، فأصبحوا في دارهم جاثمين جثثًا لا أرواح فيها ولا حراك بها123، إلا صالح عليه السلام ومن آمن معه قال تعالى: ( ) [هود:٦٦].

    قال الطبري قوله: ( ) أي: «بنعمة وفضل من الله، ( )يقول: ونجيناهم من هوان ذلك اليوم وذلة ذلك العذاب»124.

    ثالثًا: نجاة نبي الله لوط عليه السلام وأهله:

    هو ابن أخي نبي الله إبراهيم عليه السلام وكان لوط قد نزح عن محلة بأمر عمه وإذنه، فنزل بمدينة سدوم ولها أهل من أفجر الناس وأردأهم سريرة وسيرة، وكانوا مع ذلك يقطعون الطريق ويأتون في ناديهم المنكر، ثم إنهم ابتدعوا فاحشة لم يسبقهم إليها أحد من بني آدم، فدعاهم لوط عليه السلام إلى عبادة الله تعالى وحده لا شريك له ونهاهم عن تعاطي هذه المحرمات والأفاعيل المستقبحات، فتمادوا في طغيانهم واستمروا على فجورهم وكفرانهم، فلم يستجيبوا له ولم يؤمن به رجل واحد منهم، وهموا بإخراجه من بين ظهرانيهم واستضعفوه وما كان حاصل جوابهم له إلا أن قالوا: ( ) [النمل:٥٦].

    فجعلوا غاية المدح ذمًا يقتضي الإخراج، فطلبوا من لوط عليه السلام وقوع ما حذرهم به من العذاب الأليم، فدعا عليهم سائلًا ربه أن ينصره على القوم المفسدين قال: ( j ) [الشعراء:١٦٩-١٧٠].

    إذ أرسل الله تعالى رسله فمروا بإبراهيم عليه السلام وبشروه بالغلام العليم وأخبروه أنهم مرسلون إلى قوم لوط عليه السلام فجادلهم في أمر عذابهم، فقالوا له: ( ) [هود:٧٥].

    فقال لهم: ( ) [العنكبوت:٣٢].

    وانطلق الملائكة إلى أرض سدوم في صورة شبان حسان اختبارًا من الله تعالى لقوم لوط عليه السلام وإقامة الحجة عليهم، فاستضافوه فخشي إن لم يضفهم يضيفهم غيره، وحسبهم بشرًا وسيء بهم وضاق ذرعًا بهم واشتد عليه بلاء يومه، وقد كان قومه نهوه أن يضيف رجلًا، فجاء بضيوفه فلم يعلم بهم أحد إلا أهل البيت فخرجت امرأته فأخبرت قومها فقالت: إن في بيت لوط رجالًا ما رأيت مثل وجوههم قط فجاءه قومه يهرعون إليه. حاول أن يرشدهم إلى عدم تعاطي ما لا يليق من الفاحشة، فأبوا إلا أن يمضوا إلى ما يبتغون فقال لهم: ( ) [هود:٨٠].

    قالت الملائكة: ( ﯿ ) [هود:٨١].

    ثم بثوا في نفسه الطمأنينة ووعدوه بالنجاة قائلين: ( ) [العنكبوت:٣٣].

    وأخبروه بأن يسري هو وأهله من آخر الليل قال تعالى: (ﭿ ﮁﮂ ) [القمر:٣٤].

    ( ) يعني: عند سماع صوت العذاب إذا حل بقومه أما قوله تعالى: ( ) فيحتمل أن يكون مستثنى من قوله: ( )، كأنه يقول إلا امرأتك فلا تسر بها. ويحتمل أن يكون من قوله: ( )125. فلما خرج لوط عليه السلام وخلصوا من بلادهم مع شروق الشمس ( ) [هود:٨٢].

    وهكذا كتب الله تعالى لنبيه لوط عليه السلام وأهله الخلاص وطهرهم منهم قال تعالى: ( ) [النمل:٥٧].

    فأخرجهم منها أحسن إخراج وتركهم في محلتهم خالدين وخصهم في القرآن الكريم بتكرار ذكر نجاتهم سبع مرات ليؤكد خلاصهم من تلك القرية وفواحشها وما ترتب عليها من عقوبة وهلاك خارق ليس له نظير منذ بدء الخليقة.

    رابعًا: نجاة نبي الله شعيب عليه السلام والذين آمنوا معه:

    أرسل شعيب بن ميكيل في قبيلة مدين التي استوطنت مدينة مدين وهي قرية من أرض معان من أطراف الشام مما يلي ناحية الحجاز قريبًا من بحيرة قوم لوط عليه السلام ، كان أهلها قومًا عربًا سكنوا بعد قوم لوط عليه السلام بمدة قريبة. وعن وهب ابن منبه أنه قال: شعيب وملغم ممن آمن بإبراهيم يوم أحرق بالنار وهاجرا معه إلى الشام فزوجهما بنتي لوط عليه السلام ، وكان بعض السلف يسمي شعيبًا خطيب الأنبياء يعني: لفصاحته وعلو عبارته وبلاغته في دعاية قومه إلى الإيمان برسالته.

    وكان أهل مدين كفارًا يقطعون السبيل ويخيفون المارة ويعبدون الأيكة، وكانوا من أسوء الناس معاملة يبخسون المكيال والميزان ويطففون فيها، يأخذون بالزائد ويدفعون بالناقص، فبعث الله فيهم رجلًا منهم وهو رسول الله شعيب عليه السلام فدعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له ونهاهم عن إتيان كل ما هو قبيح من بخس الناس أشياءهم وإخافتهم لهم في سبلهم وطرقاتهم فآمن به بعضهم وكفر أكثرهم.

    قال تعالى: ( ﭽﭾ ﭿ ) [الأعراف:٨٥].

    أي: دلالة وحجة واضحة وبرهان قاطع على صدق ما جئتكم به وهو ما أجرى الله على يديه من المعجزات التي لم تنقل إلينا تفصيلًا وان كان هذا اللفظ قد دل عليها إجمالًا ( ) [الأعراف:٨٥].

    فأمرهم بالعدل ونهاهم عن التطفيف وحذرهم سلب نعمة الله عليهم في دنياهم وتوعدهم بالعذاب على خلاف ذلك فما كان جوابهم إلا أنهم استهزؤوا بصلاته فرد عنادهم ذاك بالدعوة إلى الإصلاح مرة وبالترهيب مرة أخرى والتذكير بمصير أسلافهم من الأقوام التي هلكت بصدها عن سبيل الله، فتجاهلوا دعوته واستضعفوه ( ﭽﭾ ) [هود:٩١].

    وهذا من بليغ كفرهم أنهم لا يخافون الله بقدر ما يخافون قبيلته، فتوعدهم بعذاب الله وتوعدوه بأن يخرجوه والذين آمنوا معه أو يعودون في ملتهم، فأجابهم شعيب عليه السلام بلسان حاله ومن آمن به: ( ﭧﭨ ) [الأعراف:٨٨-٨٩].

    يذكر لهم فضل الله عليه في الإيمان والنجاة من فسادهم ونهجهم الظالم، والنجاة هنا كانت من الله لأنه هو من يهدي من يشاء ويضل من يشاء. ثم استفتح على قومه واستنصر ربه عليهم في تعجيل ما يستحقونه إليهم فقال: ( ) [الأعراف:٨٩].

    فاستجاب له ربه وأنزل فيهم ألوان العذاب فقال تعالى في عذاب الرجفة: ( ) [الأعراف:٩١].

    أي: رجفت بهم أرضهم وزلزلت زلزالًا شديدًا أزهقت أرواحهم من أجسادها وصيرت حيوانات أرضهم كجمادها وأصبحت جثثهم جاثية لا أرواح فيها ولا حركات بها ولا حواس لها، وقال في عذاب الصيحة: ( ) [هود:٩٤].

    وقال في عذاب يوم الظلة: ( ﭽﭾ ﭿ ) [الشعراء:١٨٩].

    ردًا على طلبهم أن يسقط شعيب عليهم كسفًا من السماء. فقد أصابهم حر شديد فهربوا إلى البرية، فأظلتهم سحابة، فاجتمعوا تحتها ليستظلوا بها فلما تكاملوا أرسلها الله ترميهم بشرر وشهب.

    قال تعالى: ( ) [هود:٩٤].

    والنجاة هنا كانت بفعل رحمة الله تعالى التي حلت بهم في مقابل نقمته على القوم الظالمين.

    وهكذا كانت سير الصالحين من عباد الله من أنبيائه ومن آمن معهم من أهلهم وأقوامهم الذين آلوا على أنفسهم أن لا يغادروا طاعة الله ولا يركنوا إلى الذين كفروا وصدوا عن سبيله مهما أوذوا في جنب الله ومهما استضعفتهم قوى الظلم والضلالة، فما كان الله تعالى ليضيع إيمانهم وهم يرجون رحمته ويرقبون نصره، بل خصهم بعنايته فكف أيديهم عنهم ووقاهم برحمته عذاب الخزي في الحياة الدنيا، ذلك بأنهم آمنوا بربهم وصدقوه عهدهم واتقوه حق تقاته فلم يهنوا ولم يرتابوا فاستحقوا النجاة في الدنيا والآخرة.

    لقد ساقت لنا آيات الله البينات تلك المواقف الخالدة في تاريخ البشرية لنتعرف على منهاج الصالحين الذين اختاروا طريق الله تعالى واستمسكوا بهديه فلم يرعبهم ظلم العباد ولم تضلهم فتنة الظالمين، ولتقتدي سيرنا بسيرهم فينقطع رجاؤنا إلى الله وحده فنصدقه العهد ونرخص له الأرواح والمهج في سبيل إعلاء كلمته ونصرة دينه، فلعلنا نبلغ رضاه ونفوز برحمته التي نجى بها عباده الصالحين.


1 العين، الفراهيدي ٦/١٨٦.

2 انظر: زاد المسير، ابن الجوزي ٤/٥١، الجواهر الحسان، الثعالبي ٣/٢٦٥.

3 جمهرة اللغة، ابن دريد ١/٤٩٧.

4 مقاييس اللغة، ابن فارس ٥/٣٩٧.

5 الكليات، الكفوي ص ٢٠١.

6 زاد المسير ٥/١٧٩.

7 نزهة الأعين النواظر، ابن الجوزي ص٥٨٢.

8 انظر: المعجم المفهرس الشامل لألفاظ القرآن الكريم، عبد الله إبراهيم جلغوم، ص ١٣٠٧-١٣٠٩.

9 انظر: الوجوه والنظائر، الدامغاني، ص ٤٣٨.

10 لسان العرب، ٥/٣٤٥٤.

11 معجم لغة الفقهاء، محمد قلعجي ص٨١.

12 تاج العروس، الزبيدي ٩/٤٩٠.

13 لسان العرب ٦/٤٥١٨.

14 المفردات، الراغب الأصفهاني ص٥٠٣.

15 تاج العروس ١٧/٥٦٣.

16 الفروق اللغوية، العسكري ص٥٣٢.

17 لسان العرب ٣/٢٠٧٧.

18 نزهة الأعين النواظر ص ٥٨٢.

19 المفردات ص ٢٣٩.

20 السلام مع الأعداء في ضوء الشريعة الإسلامية، خالد الشراري، مجلة البحوث الإسلامية: ع ٨٩، ١٤٣٤هـ، ص٣١٤.

21 انظر: مقاييس اللغة، ابن فارس ٤/ ٤٥٩.

22 المفردات، الراغب الأصفهاني ص ٦٤٧.

23 الفروق اللغوية ص ٥٣٢.

24 انظر: المصدر السابق.

25 انظر: الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٨/٣٨٤.

26 فتح القدير، الشوكاني ٢/٤٧٧.

27 التبيان في تفسير غريب القرآن، ابن الهائم ص٤٧.

28 فتح القدير ٤/٥١١.

29 انظر: برنامج لمسات بيانية، الحلقة ٢٢٧، د.فاضل السامرائي.

30 التحرير والتنوير ٢٤/٢٦٣.

وانظر: الكشاف، الزمخشري ١/١٧٩.

31 التحرير والتنوير ٢٤/٢٦٤.

32 المصدر السابق ١٩/٢٨٧.

33 انظر: جامع البيان ٢٢/٦٦.

34 جامع البيان ١٢/١٨٠-١٨١.

35 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٩/١١٤.

36 التحرير والتنوير ٩/١٥٢.

37 تفسير مجاهد ٢/٦٧١.

38 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ١٨/٧٧.

39 المصدر السابق.

40 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٨/٣٧٠.

41 المصدر السابق.

42 فتح القدير ٢/٤٦٦.

43 انظر: جامع البيان ٢٨/٢١٨.

44 انظر: فتح القدير ٥/٢٥٦.

45 فتح القدير ٥/٢٥٦.

46 انظر: المصدر السابق.

47 المفردات ٢٩٢.

48 انظر: جامع البيان ١٧/١٠٠-١٠٧، زاد المسير ٥/٢٦٥، الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ١١/٣٣٣، الدر المنثور ٤/٣٣٤، فتح القدير ٣/٤٢١.

49 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ١١/٣٣٣.

50 انظر: زاد المسير ٥/٢٦٥.

51 انظر: الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ١١/٣٣٤.

52 انظر: تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٣/٢٠٢.

53 الجواهر الحسان، الثعالبي ٤/٩٩.

54 انظر: جامع البيان ١٦/٢٠٥، فتح القدير ٣/٣٦٥.

55 تفسير مجاهد ١/٣٩٦.

56 زاد المسير ٥/١٩٨.

57 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ١١/١٩٨.

58 فتح القدير ٣/٣٦٥.

59 مقاييس اللغة ٥/١٦٤.

60 المفردات ص٥٥٣.

61 فتح الباري، ابن حجر ١١/١٢٢.

62 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٣/١٩٤.

63 ينظر جامع البيان ١٧/٦٦، ٢٣/٧٩.

64 انظر: جامع البيان ٢٣/١٠٧، زاد المسير ٦/٣٠٧، الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ١٥/١١٤.

65 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٤/٢١.

66 انظر: جامع البيان ٧/٢٩٤.

67 انظر: الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٧/٨.

68 انظر: مشكلة الفقر وكيف عالجها الإسلام يوسف القرضاوي ص ١٤.

69 المصدر السابق ص ١٩.

70 زاد المسير ٨/٤٠.

71 الكشاف ٣/٢٤١.

72 تهذيب الكمال، المزي ٢٩/٢٩١، والقول للإمام ميمون بن مهران.

73 انظر: الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ١٣/٢٥٩-٢٦٠.

74 مفاتيح الغيب، الرازي ٢٤/٢٣٧.

75 إصلاح الوجوه والنظائر ص ٢٩٢-٢٩٣.

وانظر: نزهة الأعين النواظر، ابن الجوزي ٤٠٧-٤٠٩.

76 مفاتيح الغيب، الرازي ١٧/٧٠.

77 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ١٣/٣٦٣.

78 مفاتيح الغيب، الرازي ٢٥/١٦٣.

79 انظر: المصدر السابق ١٣/٢٣.

80 انظر: إصلاح الوجوه والنظائر ص ٣١٩.

81 الروح، ابن قيم الجوزية ص٨٠.

82 المصدر السابق ص ٨١.

83 التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة، ص ٤١٣.

84 الروح ص ١١٠.

85 المصدر السابق ١٠٧-١٠٨.

86 جامع البيان ٢٧/٤٩.

87 المصدر السابق ١٦/٢٨٢.

88 انظر: الروح، ابن القيم ص ١١١.

89 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٩/٣٦٢.

90 التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة ص ٤٢٤.

91 جامع البيان ١٧/١٣٠-١٣١.

وانظر: تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٣/٢٠٨، الدر المنثور ٤/٣٣٩.

92 زاد المسير ٥/٢٧٢.

93 انظر: تحفة الأحوذي، المباركفوري ٥/٢٤٧.

94 الجواهر الحسان، الثعالبي ٤/١٠٣.

95 انظر: فتح القدير ٣/٤٢٩.

96 جامع البيان ١٦/٧٤.

97 الدر المنثور ٥/٣٠٨.

98 تأويل مشكل القرآن، ابن قتيبة ص ٥١٣.

وانظر: نزهة الأعين النواظر، ابن الجوزي ص ٢٥٠.

99 لوامع الأنوار البهية ٢/١٧١.

100 فتح القدير ٤/٤٣٨.

101 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الرقاق، باب من نوقش الحساب عذب، ٤/١٩٨، رقم ٦٥٣٦.

102 انظر: لوامع الأنوار البهية ٢/١٧٢.

103 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٩/٣١٠.

104 لوامع الأنوار البهية ٢/١٨٩.

105 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: (وجوه يومئذٍ ناضرة إلى ربها ناظرة)، ٤/٣٩٢، رقم ٧٤٣٩.

106 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب معرفة طريق الرؤيا، رقم ٢٩٩.

107 كيف تنجو من كرب الصراط، محمد النعيم ص٤.

108 انظر: المصدر السابق.

109 يوم القيامة ومشاهده في الكتاب والسنة، دوخي الحارثي، ص ٣١١.

110 المصدر السابق ص٢١٩.

111 التخويف من النار والتعريف بحال دار البوار، ابن رجب الحنبلي ص ٧- ٨.

112 انظر: التذكرة بأحوال الموتى والأمم الغابرة، ص ٧٦٠.

113 جامع البيان ١٦/١٤١.

114 انظر: انظر: جامع البيان، الطبري ٢٠/١٧١، البداية والنهاية، ابن كثير ١/١٦١ .

115 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٩/١٥٢.

وانظر: البداية والنهاية، ابن كثير ١/٢٣٢.

116 انظر: زاد المسير ٤/١٥٩.

117 انظر: قصص الأنبياء، ابن كثير ١/٣٢٠.

118 انظر: البداية والنهاية، ابن كثير ١/٢٣٢.

119 انظر: البداية والنهاية، ابن كثير ٢/١٠٨، قصص الأنبياء، ابن كثير ٢/٣٦٧.

120 انظر: البداية والنهاية، ابن كثير ١/٣٠٢-٣٠٥، الدر المنثور، السيوطي ٥/١٢٣.

121 انظر: الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٩/١٩٣.

122 انظر: البداية والنهاية، ابن كثير ١/١٣٨-١٤٩، قصص الأنبياء، ابن كثير ١/١٢٠.

123 انظر: البداية والنهاية، ابن كثير ١/١٥٠-١٦٠، زاد المسير، ابن الجوزي ٤/١٠٠.

124 جامع البيان، الطبري ١٢/٨٤.

125 انظر: البداية والنهاية، ابن كثير ١/٢٠٣-٢١٠.

وانظر: الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٩/٦٢.