عناصر الموضوع
النجوم
أولًا: المعنى اللغوي:
النون والجيم والميم أصل صحيح يدل على طلوع وظهور، ونجم السن والقرن: طلعا، والنجم: اسم يقع على الثريا، وكل منزل من منازل القمر سمي نجمًا، وكل كوكب من أعلام الكواكب يسمى نجمًا، والنجوم تجمع الكواكب كلها.
وأنجمت السماء: بدت نجومها، والنجم من النبات: ما لم يكن له ساق، من نجم إذا طلع1.
نجم الشيء ينجم بالضم نجومًا: ظهر وطلع، وفلانٌ منجم الباطل والضلالة -بالفتح- أي: معدنه2.
أصل النجم: الكوكب الطالع، وجمعه: نجومٌ، ونجم: نجومًا ونجمًا، فصار النجم مرة اسما كالقلوب والجيوب، ومرة مصدرًا كالطلوع والغروب، واشتقوا منه فقالوا نجمت الدين بالتثقيل إذا جعلته نجومًا3 والنجمة: هي أخص من النجم، وكأنها واحدته، كنبتةٍ ونبت.
ونجمة الصبح: فرسٌ نجيبٌ، والنجم: نزول القرآن نجمًا نجمًا4.
ثانيًا: المعنى الاصطلاحي:
وبالنظر في الكتب والمراجع التي هي مظنة التعريف الاصطلاحي، والتي منها كتـاب (الكليات) للكفوي، وكتاب (التعريفات) للجرجاني، وكتاب (المفردات في غريب القرآن) للأصفهاني، وغيرها، فلم نجد فيها تعريفًا اصطلاحيًا للنجوم، وعليه فإنه من خلال المعنى اللغوي السابق، ومعاني الآيات التي وردت فيها لفظة النجوم نورد ما يأتي:
النجم عرفًا: أحد الأجرام السماوية المضيئة بذاتها، ومواضعها النسبية في السماء ثابتة، ومنها الشمس5.
وردت مادة (نجم) في القرآن الكريم (١٣) مرة6.
والصيغ التي وردت، هي:
الصيغة |
عدد المرات |
المثال |
المفرد |
٤ |
(ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ) [النجم:١-٢] |
الجمع |
٩ |
(ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ) [الأنعام:٩٧] |
وجاءت النجوم في الاستعمال القرآني على وجهين7:
الأول: الكواكب: ومنه قوله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ) [الطارق: ١- ٣]. يعني: الكواكب.
الثاني: النبات: ومنه قوله تعالى: (ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ) [الرحمن: ٦]. يعني بالنجم: كل شجرٍ مما لا ساق له من النبات، والشجر: ما له ساق.
الكوكب:
الكوكب لغةً:
من كب: الكاف والباء أصل صحيح يدل على جمع وتجمع، لا يشذ منه شيء، والكوكب يسمى كوكبًا من هذا القياس8.
والكوكب: واحد الكواكب، فالكوكب والكوكبة: النجم، وكوكب: اسم موضع9..
الكواكب اصطلاحًا:
«الكواكب: أجسام بسيطة مركوزة في الأفلاك، كالفص في الخاتم، مضيئة بذواتها، إلا القمر»10 أو: «جرم سماوي يدور حول الشمس ويستضيء بضوئها وأشهر الكواكب مرتبة على حسب قربها من الشمس عطارد الزهرة الأرض المريخ المشتري زحل يورانس نبتون بلوتون»11.
الصلة بين الكوكب والنجم:
إن الكوكب اسم للكبير من النجوم، وكوكب كل شيء معظمه، والنجم عام في صغيرها وكبيرها، ويجوز أن يقال: الكواكب هي الثوابت، ومنه يقال: فيه كوكب من ذهب أو فضة؛ لأنه ثابت لا يزول، والنجم الذي يطلع منها ويغرب12.
وقيل: النجم فيه مراعاة لمعنى من معاني النجوم والكواكب وهو الظهور والطلوع، أما الكوكب ففيه مراعاة لمعنى الإضاءة والبياض والعظمة13.
الشمس:
الشمس لغةً:
الشين والميم والسين أصل يدل على تلون وقلة استقرار، فالشمس معروفة، وسميت بذلك؛ لأنها غير مستقرة، ويقال: شمس يومنا وأشمس، إذا اشتدت شمسه14.
الشمس اصطلاحًا:
الشمس: هو كوكب مضيء نهاري15، يشع لنا حرارة وضياء.
الصلة بين الشمس والنجم:
الشمس: مضيئة في النهار، بينما النجم مضيء في الليل.
القمر:
القمر لغةً:
القاف والميم والراء أصل صحيح يدل على بياض في شيء، ثم يفرع منه. من ذلك: القمر الذي في السماء، وضوؤه القمراء، وسمي قمرًا: لبياضه16.
القمر اصطلاحًا:
هو كوكب في السماء معتم.
وقيل: جرم سماوي صغير معتم يدور حول كوكب أكبر منه ويكون تابعا له 17.
الصلة بين القمر والنجم:
القمر جسم معتم يستمد ضوءه من الشمس، بينما النجم مضيء.
أولًا: صور من تسخير النجوم:
النجوم من المخلوقات التي لها جرم كبير، وسرعة عالية، وقد أشار القرآن إليها في غير ما موضع؛ لأنها من الآيات العجيبات، والدلائل الواضحات على قدرة الباري وعظمته وقهره، وقد تحدث القرآن عن كونها مسخرة بأمر الله وخاضعة لمولاها في موضعين من كتابه.
قال تعالى: (ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ) [الأعراف:٥٤].
وهذه الآية جاءت في سياق التدليل على ربوبية الله وألوهيته، وأنه لا معبود سواه فهي سياحة «في ملكوت الله، يرتادها السياق بعد قصة النشأة الإنسانية، وبعد تصوير طرفي الرحلة، وبعد الحديث عن اتباع الشيطان، والاستكبار عن اتباع رسل الله، وبعد عرض التصورات الجاهلية، والتقاليد التي يشرعها البشر لأنفسهم بلا إذن من الله ولا شرع؛ ليرد البشر إلى ربهم الذي خلق هذا الوجود وسخره، والذي يحكمه بنواميسه ويصرفه بقدره، والذي له الخلق والأمر وحده»18.
وجاء ذكر النجوم في الآية وكونها مسخرة بأمر خالقها كأحد الشواهد على ربوبية الله وألوهيته واستحقاقه العبادة «والتسخير حقيقته تذليل ذي عمل شاق أو شاغل بقهر وتخويف، أو بتعليم وسياسة بدون عوض، فمنه تسخير العبيد والأسرى، ومنه تسخير الأفراس والرواحل، ويستعمل مجازًا في تصريف الشيء غير ذي الإرادة في عمل عجيب أو عظيم من شأنه أن يصعب استعماله فيه، بحيلة أو إلهام تصريفًا يصيره من خصائصه وشوؤنه»19.
فالإشارة بأن النجوم مسخرة إذًا فيه ما يدل على ضخامة شأنها، وأنه ما كان لأحد أن يستطيع تسييرها في نظام منضبط محدد إلا الله، فهي آية عظيمة على ربوبية الله وألوهيته؛ وما ذلك إلا لأنها أجرام تسبح في الفضاء بسرعات عالية، كما أن لها كتلًا ضخمة قد يعجز الإنسان عن تصورها، فالشمس وهي «نجمٌ متوسط الحجم إذا قيست بالنجوم الأخرى، تكبر الأرض بمليونٍ وثلاثمائة ألف مرةٍ حجمًا، وتبعد عنها مائةً وستةً وخمسين مليون كيلو متر وسطيًا، ويقطع ضوء الشمس هذه المسافة في ثماني دقائق.
وأما عن حرارتها فهي تصل إلى عشرين مليون درجة في مركزها، فلو ألقيت الأرض في جوف الشمس لتبخرت في وقتٍ قصيرٍ، ويزيد طول ألسنة اللهب المنطلقة من سطحها من نصف مليون كيلو مترٍ إلى مليون كيلو متر، وتنتج الشمس من الطاقة في كل ثانيةٍ ما يعادل إحراق ألفي مليار طنٍ من الفحم الحجري»20.
فهذه الشمس بكتلتها الكبيرة تدور حول نفسها كل خمسة وعشرين يومًا دورة، وتجري بسرعة مائتي كيلو متر في الثانية الواحدة.
وإذا كان هذا شأن الشمس وهي نجم متوسط «فهنالك في هذا الفضاء الذي لا يعرف البشر له حدودًا ملايين الملايين من النجوم، منها الكثير أكبر من الشمس، وأشد حرارة وضوءًا، فالشعرى اليمانية أثقل من الشمس بعشرين مرة، ونورها يعادل خمسين ضعف نور الشمس، والسماك الرامح حجمه ثمانون ضعف حجم الشمس، ونوره ثمانية آلاف ضعف، وسهيل أقوى من الشمس بألفين وخمسمائة مرة»21.
إن هذا يكشف لنا عن مدى عظم النجوم، وعظم شأن تسخيرها، فهي برغم هذه السرعات العالية «تتبع نظامًا دقيقًا لا تحيد عنه قيد أنملة مهما مرت بها الليالي، وتعاقبت عليها الفصول والأعوام والقرون، وتدور في أفلاكها بنظام يمكننا من التنبؤ بما يحدث من الكسوف والخسوف قبل وقوعه بقرون عديدة»22. فسبحان من هي مسخرة بأمره!
والآية الثانية التي ذكرت تسخير النجوم بأمره تعالى هي قوله تعالى: (ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞﮟ ﮠ ﮡ ﮢﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ) [النحل:١٢].
وهذه الآية أتت في سياق الاستدلال على وجود الباري، واستعراض عظمته، وإظهار قدرته، وما تفيض به على العالم من نعم فهو استدلال «بإتقان الصنع على وحدانية الصانع وعلمه، وإدماج بين الاستدلال والامتنان»23.
وفي هذه الآيات عدة أوجه للقراءات فقد «قرأ الجمهور جميع هذه الأسماء منصوبة على المفعولية لفعل (ﮙ) وقرأ ابن عامر: (ﭿ ﮀ ﮁ) بالرفع على الابتداء، ورفع: (ﮡ) على أنه خبر عنها، ونكتة اختلاف الإعراب الإشارة إلى الفرق بين التسخيرين.
وقرأ حفص برفع: (ﮠ) و (ﮡ)، ونكتة اختلاف الأسلوب الفرق بين التسخيرين من حيث إن الأول واضح، والآخر خفي لقلة من يرقب حركات النجوم»24.
فرفع النجوم إذًا يدل على أن «للنجوم شأنًا كشأن الشمس والقمر، وأنها مسخرة كالشمس والقمر، وإن كان الإنسان في غفلة عنها»25.
ولذلك أتت الخاتمة بقوله تعالى: (ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ) «لتلفت العقل إلى هذه الظاهرة، ظاهرة النجوم وحركاتها في السماء، وتسخيرها في مداراتها، وأن أصحاب العقول وحدهم هم الذين يرون هذه الظاهرة، ويتعرفون إلى آثار رحمة الله وقدرته، وأنه إذا التفت العقل إلى هذه النجوم التفاتًا جادًا متفحصًا وجد عالمًا رحيبًا لا حدود له، وأكوانًا عجيبة تذهل لجلالها العقول، وتخشع لروعتها القلوب؛ إذ ليست هذه النجوم التي تبدو وكأنها حبات من اللؤلؤ المنثور في السماء إلا أجرامًا أكبر من الشمس، وأن أصغر نجم فيها يعدل جرم الشمس آلاف المرات، وأن صغر حجمها، وقلة ضوئها بالنسبة للشمس إنما مرجعهما إلى بعدها البعيد عنا، حتى ليبلغ مدى هذا البعد مئات الألوف، وألوف الألوف من السنين الضوئية»26.
وهذا من صور تسخير النجوم التي أشار إليها القرآن.
يقول تعالى: (ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ) [الحج: ١٨].
وهذه الآية أتت في سياق ذكر اختلاف أهل الديانات وافتراقهم لتقرر بأنه «ما كان ينبغي لأهل الأديان المختلفة أن يختلفوا؛ لأن جميع العوالم خاضعة لسلطان الله وقدرته، وساجدة لعظمته طوعًا أو كرهًا»27.
وخصت الآية ذكر (ﭿ ﮀ ﮁ)؛ «لأنها قد عبدت من دون الله، فبين أنها تسجد لخالقها، وأنها مربوبة مسخرة» 28.
واختلف العلماء في المراد بالسجود على ضربين:
أحدهما: من يعقل، فسجوده عبادة.
الثاني: من لا يعقل، واختلفوا فيه على رأيين:
وعلى كلا القولين وسواء كان السجود حقيقة أو مجازًا فإنه لا شك دال على الخضوع والتسخير.
وهناك موضع ذكر فيه سجود النجم، وهو قوله تعالى: (ﮆ ﮇ ﮈ) [الرحمن:٦].
وفي المراد بالنجم هنا قولان:
أحدهما: أنه كل نبتٍ ليس له ساق، وهو مذهب ابن عباس والسدي ومقاتل واللغويين.
والثاني: أنه نجم السماء30.
وكثير من المفسرين رجح الرأي الأول؛ ولذا أحجمت عن الكلام فيه31.
وهكذا يظهر لنا كيف أن النجوم بأحجامها الضخمة وسرعاتها المذهلة مسخرة لربها، وخاضعة لخالقها، تنقاد لأمره، وتخضع لسلطانه ومشيئته، فسبحان من ألزمها مدارها، وقهرها في فلكها، وسيرها في نظام لا تشذ عنه ولا تحيد.
لخلق النجوم الكثير من المنافع التي أشار إليها القرآن، ومنها أنها علامات وإرشاد للناس في ظلمات البر والبحر، كما قال تعالى: (ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ) [الأنعام: ٩٧].
وفي هذه الآية يذكرنا تعالى «ببعض فضله في تسخير هذه النيرات»32: وذلك بجعله لنا النجوم أدلة «ليهتدي بها مسافرونا في البر والبحر حتى لا يضلوا طريقهم فيهلكوا»33.
قال قتادة: «إن الله تبارك وتعالى إنما خلق النجوم لثلاث خصال: جعلها زينة للسماء، وجعلها يهتدي بها، وجعلها رجومًا للشياطين، فمن تعاطى فيها غير ذلك فقد رأيه وأخطأ حظه وأضاع نصيبه وتكلف ما لا علم له به»3435.
«وفي إضافة الظلمات إلى البر والبحر إشارة إلى أن الظلام هو الذي يلبسهما، ويستولي عليهما، فكأن السائر في الليل يقطع قطعًا من الظلام، سواء أكان في البر أو البحر»36.
فأن تكون النجوم دليلًا للمرء في وسط هذه الظلمات فهذه لا شك منفعة كبيرة.
ومن الآيات التي أكدت على هذا قوله: (ﭝﭞ ﭟ ﭠ ﭡ) [النحل:١٦].
ففي هذه الآية يؤكد تعالى على كون النجوم تهدي «من ضلال الطريق في البر والبحر»37.
وهذه «هداية عظيمة في وقت ارتباك الطريق على السائر؛ ولذلك قدم المتعلق في قوله تعالى: (ﭟ) تقديمًا يفيد الاهتمام، وكذلك بالمسند الفعلي في قوله تعالى: (ﭠ ﭡ)»38.
والاهتداء بالنجوم ليس مقصورًا على مكان دون مكان، ولا زمان دون زمان، وإنما «تختلف وسائل الاهتداء بالنجوم ويتسع مداها بالكشوف العلمية والتجارب المنوعة»39.
لماذا النجوم علامات وإرشاد؟
قد يقول قائل: لماذا النجوم علامات وإرشاد دون القمر أو غيره مع أن القمر أكثر ضياء وأقرب مسافة؟ ولكن من تأمل تخصيصه عز وجل النجوم بهذه الهداية دون القمر ظهرت له حكم بديعة، فالقمر سريع الحركة والتنقل في الليلة الواحدة، وخلال ليالي الشهر والعام بخلاف النجوم التي تبدو أكثر ثباتًا في السماء مما يجعل معرفة منازلها أيسر، والقمر يغيب من السماء ويفقد ضياؤه في عدد من ليالي الشهر بخلاف النجم الذي لا يذهب نوره إلا ضوء النهار ونور الشمس، والقمر ينكسف وأما النجم فلا ينكسف؛ بل إن لذكر النجم دون غيره من الوسائل والأدوات التي استخدمها الناس منذ القدم حكمة بالغة؛ إذ النجم متاح لكل إنسان في كل مكان وفي كل ساعة من ساعات الليل ولا يملك حجبه أحد، وتعلم الاهتداء به ميسر، بينما تلك الوسائل غير متاحة لكثيرين، وقد يصعب استخدامها على كثيرين.
وهكذا يظهر لنا كيف أن النجوم جعلها الله علامات وإرشاد للناس تهديهم في ظلمات البر والبحر حتى لا يضلوا طريقهم ويهلكوا.
ثانيًا: النجوم زينة:
«مشهد النجوم في السماء جميل -ما في هذا شك-، جميل جمالًا يأخذ بالقلوب، وهو جمال متجدد تتعدد ألوانه بتعدد أوقاته، ويختلف من صباح إلى مساء، ومن شروق إلى غروب، ومن الليلة القمراء إلى الليلة الظلماء، ومن مشهد الصفاء إلى مشهد الضباب والسحاب، بل إنه ليختلف من ساعة لساعة، ومن مرصد لمرصد، ومن زاوية لزاوية، وكله جمال، وكله يأخذ بالألباب.
فهذه النجمة الفريدة التي توصوص هناك، وكأنها عين جميلة، تلتمع بالمحبة والنداء! وهاتان النجمتان المنفردتان هناك، وقد خلصتا من الزحام تتناجيان! وهذه المجموعات المتضامة المتناثرة هنا وهناك وكأنها في حلقة سمر في مهرجان السماء، وهي تجتمع وتفترق كأنها رفاق ليلة في مهرجان!»40.
فالنجوم زينة السماء، وقد جاء وصف النجوم بأنها زينة في القرآن لعدة فوائد ومنافع:
فإن تزيين السماء بهذه النجوم فيه من بديع التكوين، وجميل التنسيق ما يستدل به على خالقه، ويرغم عقول العباد على التفكر في صانعه وموجده، فهذه النجوم المتناثرة في السماء، المتفرقة في جو الفضاء التي ترنو للناظرين، وتزدان للمعتبرين في حلة بهية، ولوحة نقية، لا بد لها من قائم بأمرها، مدبر لأحوالها وشئونها.
قال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ) [الحجر:١٦].
أي: «وزينا هذه السماء بالنجوم»41. وهذه الزينة (ﭗ) «إلى حركاتها وأضوائها، أو للمتفكرين المعتبرين المستدلين بها على قدرة موجدها ووحدانيته»42.
فإنه لولا النجوم «لما كان للسماء هذا المنظر البهي والهيئة العجيبة، وهذا مما يدعو الناظرين إلى التأمل فيها، والنظر في معانيها، والاستدلال بها على باريها»43.
فتزيين النجوم للسماء آية عظيمة من آيات القدرة الإلهية التي تشهد بوحدانية الله تعالى وعظمته وجلاله، وتلفت الأنظار إلى بديع صنعه في كونه، وعجيب فعله في خلقه.
وبالنظر في السياق الذي وردت فيه الآية يتأكد هذا المعنى، فقد جاءت هذه الآية بعد ذكر عتو الكافرين واستكبارهم، وعماهم عن آيات الله.
يقول تعالى: (ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ) [الحجر:١٤-١٦].
فكأنه تعالى «لما ذكر كفر الكافرين وعجز أصنامهم ذكر كمال قدرته؛ ليستدل بها على وحدانيته، فقال: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ)»44.
وكأنه سبحانه أراد أن يبين أن في السماء من العجائب ما لا يحتاج إلى صعود وارتقاء، بل يدركها الواقفون على الأرض من أهل الاعتبار، من هذه العجائب تزيين السماء بالكواكب.
وكذا يقال في قوله: (ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ) [الصافات:٦].
فإنه تعالى لما ذكر وحدانيته على خلقه، وأنه رب السموات والأرض ورب المشارق بقوله: (ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ) [الصافات:٤-٥].
أردف ذلك بقوله: (ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ) [الصافات:٦].
وفي علاقة هذه الآية بما قبلها يقول ابن عاشور رحمه الله: «هذه الجملة تتنزل من جملة (ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ) منزلة الدليل على أنه رب السموات، واقتصر على ربوبية السموات؛ لأن ثبوتها يقتضي ربوبية الأرض بطريق الأولى»45.
وهكذا يظهر أن جعل النجوم زينة فيه دلالة على خالقها وعلى وحدانيته وعلى جلاله وكماله؛ لأنها تحرك في الإنسان التساؤل: من الذي خلق هذا الخلق البديع المتقن الذي يخلب الأنظار ويجذب القلوب؟ لابد أن وراء الإبداع مبدع، وخلف كل جمال جميل!
زينة النجوم جمال، والله جميل يحب الجمال، خلق هذا الكون فأحسن خلقه وأتقنه وجمله.
يقول صاحب الظلال رحمه الله: «القرآن يوجه النفس إلى جمال السماء، وإلى جمال الكون كله؛ لأن إدراك جمال الوجود هو أقرب وأصدق وسيلة لإدراك جمال خالق الوجود، وهذا الإدراك هو الذي يرفع الإنسان إلى أعلى أفق يمكن أن يبلغه؛ لأنه حينئذٍ يصل إلى النقطة التي يتهيأ فيها للحياة الخالدة، في عالمٍ طليق جميل، بريء من شوائب العالم الأرضي والحياة الأرضية»46.
من أجل هذا جعل الله في خلقه العديد من مشاهد الجمال والزينة، بل لا تجد خلقًا من خلق الله إلا وفيه جمال، ويدل على جمال!
ومن هذا الجمال الذي أبدعه الله جل جلاله؛ ليتأمله خلقه ويستروحون في ظلاله النجوم التي جعلها الله زينة للسماء.
قال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ) [الحجر:١٦].
وأن تكون النجوم زينة للسماء فهذا لا شك يشي «بأن الجمال غاية مقصودة في خلق هذا الكون، فليست الضخامة وحدها، وليست الدقة وحدها إنما هو الجمال الذي ينتظم المظاهر جميعًا، وينشأ من تناسقها جميعًا.
وإن نظرة مبصرة إلى السماء في الليلة الحالكة وقد انتثرت فيها الكواكب والنجوم توصوص بنورها، ثم يبدو كأنما تخبو، ريثما تنتقل العين لتلبي دعوة من نجم بعيد، ونظرة مثلها في الليلة القمرية والبدر حالم، والكون من حوله مهوم كأنما يمسك أنفاسه لا يوقظ الحالم السعيد!
إن نظرة واحدة شاعرة لكفيلة بإدراك حقيقة الجمال الكوني، وعمق هذا الجمال في تكوينه»47.
وهذا لا شك يوجه المؤمنين بأن من واجبهم أن «يجعلوا حياتهم مبنية على الجمال في الظاهر وفي الباطن؛ تأسيًا بسنة الله تعالى في خلق هذا الكون»48.
وهكذا يظهر لنا كيف أن كون النجوم زينة يلفت الأنظار بشدة لجمالية هذا الكون.
فمن منن الله على عباده ورحمته بهم وفضله عليهم أن جعل لهم المناظر البهية التي تروق لنفوسهم وتملؤها بهجة وسرورًا، يقول ابن عاشور رحمه الله في قوله تعالى: (ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ) [الصافات:٦]: «فيها منة على الناس بأن جعل لهم في السماء زينة الكواكب تروق أنظارهم؛ فإن محاسن المناظر لذة للناظرين»49.
فتزيين السماء بالنجوم والكواكب نعمة من الله على خلقه ككثير من نعمه التي لا تعد ولا تحصى، وحق على عباده الذين يستمتعون بالنظر إليها أن يعرفوا فضله فيها، ويشكروه عليها.
ثالثًا: النجوم رجوم للشياطين:
السماء عالم فسيح واسع ممتد، يستعصي على العقل حصره، وتعجز الفهوم عن الإحاطة به، والإلمام بجوانبه، وهو حافل بالأسرار، مليء بالعجائب التي يقف العقل البشري أمامها عاجزًا، لا يبدي جوابًا، ومن هذه العجائب النجوم وقد ذكر الله للنجوم في كتابه عددًا من المنافع، ومن هذه المنافع ما ذكره الله عز وجل من أنها رجوم للشياطين ما أن يحاولوا التسمع للملأ الأعلى حتى تنقض عليهم فتحرقهم، وتقضي عليهم.
عن عائشة رضي الله عنها أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الملائكة تنزل في العنان -وهو السحاب- فتذكر الأمر قضي في السماء، فتسترق الشياطين السمع فتسمعه، فتوحيه إلى الكهان، فيكذبون معها مائة كذبةٍ من عند أنفسهم)50.
فأن تكون النجوم رجومًا للشياطين أي: «شهبًا محرقة لمسترقي السمع من الشياطين»51 فهذا له فوائد عدة، منها:
بيان مدى شدة حفظ السماء، فالسماء منها أتى الوحي، وتنزل الأوامر والمقادير التي تضبط شأن العالم، فأن تكون محفوظة، وعليها حراسة شديدة فهذا من المقاصد العظيمة؛ ولقد ذكر القرآن أن من منافع النجوم أن الله جعلها رجومًا للشياطين الذين يحاولون الوصول إليها، ومعرفة ما يجري فيها؛ ليصلوا به إلى الكهان؛ ليخدعوا الناس به، ويفسدوا عليهم أمر حياتهم.
قال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ) [الحجر:١٦-١٨].
وها هنا يخبرنا الرب جل جلاله أن السماء محفوظة من كل شيطان رجيم حتى لا يصل إليها فظاهرها «مجمل بالنجوم النيرات، وباطنها محروس ممنوع من الآفات»52.
ومع هذا فإن بعض الشياطين في بعض الأوقات يسعى لاستراق السمع ومعرفة ما يدور في الملأ الأعلى، فآنئذٍ يتبعه (ﭤ ﭥ) أي: «بين منير يقتله أو يخبله»53.
قال الإمام البخاري عند تفسيره لهذه الآية: حدثنا سفيان عن عمرٍو عن عكرمة عن أبي هريرة رضي الله عنه يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانًا لقوله، كالسلسلة على صفوانٍ -قال عليٌ: وقال غيره: صفوانٍ ينفذهم ذلك- فإذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا للذي قال: الحق، وهو العلي الكبير، فيسمعها مسترقو السمع، ومسترقو السمع هكذا واحدٌ فوق آخر -ووصف سفيان بيده وفرج بين أصابع يده اليمنى نصبها بعضها فوق بعضٍ- فربما أدرك الشهاب المستمع قبل أن يرمي بها إلى صاحبه فيحرقه، وربما لم يدركه حتى يرمي بها إلى الذي يليه إلى الذي هو أسفل منه، حتى يلقوها إلى الأرض -وربما قال سفيان: حتى تنتهي إلى الأرض- فتلقى على فم الساحر، فيكذب معها مائة كذبةٍ، فيصدق فيقولون: ألم يخبرنا يوم كذا وكذا يكون كذا وكذا فوجدناه حقًا؟ للكلمة التي سمعت من السماء)54.
ومما يدل على شدة حراسة السماء وقوة حفظها تعبير القرآن بـ (ﭡ) «فهناك من سرق؛ وهناك من استرق؛ فالذي سرق هو من دخل بيتًا على سبيل المثال، وأخذ يعبئ ما فيه في حقائب، ونزل من المنزل على راحته لينقلها حيث يريد».
لكن إن كان هناك أحد في المنزل فاللص يتحرك في استخفاء خوفًا من أن يضبطه من يوجد في المنزل؛ وهكذا يكون معنى (ﭡ): الحصول على السرقة مقرونة بالخوف55. فأن تكون النجوم رجومًا للشياطين بهذه القوة التي تجعلهم فقط يسترقون السمع بكل وجل وخوف فهذا يدل على شدة حفظ السماء.
الاستدلال على عظمة الخالق:
تنتصب شواهد عدة للتدليل على عظمة الخالق وشدة قدرته وقهره، واتساع سلطانه، ومن الأمور التي ذكرها القرآن في هذا السياق هو كون النجوم رجومًا للشياطين.
قال تعالى: (ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ) [الملك:٥].
فهذه الآية أتت في بدايات سورة الملك التي تعنى بتفصيل مظاهر قدرة الرب الجليل، يقول صاحب الظلال: «ومفتاح السورة كلها ومحورها الذي تشد إليه تلك الحركة فيها هو مطلعها الجامع الموحي: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ) [الملك:١].
وعن حقيقة الملك وحقيقة القدرة تتفرع سائر الصور التي عرضتها السورة، وسائر الحركات المغيبة والظاهرة التي نبهت القلوب إليها، فمن الملك ومن القدرة كان خلق الموت والحياة، وكان الابتلاء بهما، وكان خلق السموات وتزيينها بالمصابيح، وجعلها رجومًا للشياطين»56.
وهذه الآية كما -يقول الإمام الرازي- دليل: «على كونه تعالى قادرًا عالمًا؛ وذلك لأن هذه الكواكب -نظرًا إلى أنها محدثة ومختصة بمقدار خاص، وموضع معين، وسير معين- تدل على أن صانعها قادر -ونظرًا إلى كونها محكمة متقنة موافقة لمصالح العباد من كونها زينة لأهل الدنيا، وسببًا لانتفاعهم بها- تدل على أن صانعها عالم»57.
وكذلك من دلائل قدرته عز وجل «أن جعل جزءًا منها رجومًا للشياطين بانفصال بعض الشهب عنها لرمي شياطين الجن الذين كانوا يحاولون التسمع إلى الملأ الأعلى، وهي آيات دالة على عظيم قدرته جل جلاله بصون السماء وما فيها من أخبار»58.
والرجوم: جمع رجم «وهو اسم لما يرجم به، أي: ما يرمي به الرامي من حجر ونحوه»59.
والذي جعل رجومًا للشياطين هو النجوم فـ«ضمير الغائبة في (ﮍ) المتبادر أنه عائد إلى المصابيح، أي: إن المصابيح رجوم للشياطين»60.
«والمصابيح هي النجوم العظيمة المضيئة»61 .
وليس كل النجوم رجومًا للشياطين وإنما معنى جعلها رجومًا «جارٍ على طريقة إسناد عمل بعض الشيء إلى جميعه، مثل إسناد الأعمال إلى القبائل لأن العاملين من أفراد القبيلة»62.
فكون النجوم بكتلها الضخمة وسرعاتها العالية رجومًا للشياطين فهذا لا شك من دلائل قدرة الله وشدة عظمته.
ومن الآيات التي أشارت لهذا قوله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ) [فصلت:١٢].
فهذه الآية تذكر عددًا من مظاهر قدرة الباري جل جلاله؛ ولذا ختمت بقوله: (ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ) ومن بين تلك الدلائل المذكورة قوله: (ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠﭡ) أي: «من الشياطين الذين يسترقون السمع»63.
والقرآن عالج الكثير من خرافات الجاهلية، وصور الشرك التي كانت منتشرة بينهم، وكشف زيفها، وفضح باطلها، وكان من بين هذه الأباطيل ما ادعاه أهل الجاهلية من أن الجن يعلمون الغيب، ويتصلون بالملأ الأعلى، وبينهم وبين الله نسبٌ، فرد القرآن على ذلك ببيان أن النجوم رجوم للشياطين، وأنها تمنعهم من استراق السمع.
قال تعالى: (ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ) [الصافات:٦-١٠].
فهذه الآيات أتت في سورة الصافات التي «تستهدف -كسائر السور المكية- بناء العقيدة في النفوس، وتخليصها من شوائب الشرك في كل صوره وأشكاله؛ ولكنها -بصفة خاصة- تعالج صورة معينة من صور الشرك التي كانت سائدة في البيئة العربية الأولى»64.
فهذه الآيات أتت «بعد ما عالج مطلع السورة شطر الأسطورة الخاص بالملائكة؛ ليعالج شطرها الثاني وهو الخاص بالشياطين، حيث أنهم كانوا يزعمون أن بين الله وبين الجنة نسبًا، وبعضهم كانوا يعبدون الشياطين على هذا الأساس، وعلى أساس أن الشياطين يعرفون الغيب لاتصالهم بالملأ الأعلى»65.
فبينت الآيات كيف أن السماء الدنيا مزينة (ﭪ ﭫ) [الصافات:٦].
أي: «بزينة هي النجوم»66 وكيف أن هذه النجوم تحفظ السماء (ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ) [الصافات:٧].
يعني: «المتمرد العاتي إذا أراد أن يسترق السمع أتاه شهاب ثاقب فأحرقه»67 ولذلك قال بعدها: (ﭳ ﭴ) [الصافات:٨].
أي: «لئلا يصلوا إلى الملأ الأعلى، وهي السموات ومن فيها من الملائكة، إذا تكلموا بما يوحيه الله مما يقوله من شرعه وقدره»68.
وتأمل كيف أنه قال: (ﭳ ﭴ) فهذا الفعل أصله «يتسمعون» وقد ضمن معنى الفعل يصغون أو يدنون؛ ولهذا عدى بحرف الجر (ﭵ) أي: لا يستطيعون أن يتسمعوا إلى الملأ الأعلى، وهم في إصغاء شديد حالة التسمع69.
وهذا يدل على شدة حراسة السماء بالنجوم، فإنهم مع حرصهم على السماع لا يستطيعون؛ ولذا قال الله في خاتمة الآية: (ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ) [الصافات:٨].
ثم أوضحت الآيات أن بعض الشياطين قد يتلقف شيئًا على وجه الخفية والسرعة (ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ) [الصافات:١٠].
«والخطف: ابتدار تناول شيء بسرعة، والخطفة المرة منه»70.
فيكون جزاؤه الإحراق (ﮇ ﮈ ﮉ) أي: «تارة يدركه قبل أن يوصلها إلى أوليائه، فينقطع خبر السماء، وتارة يخبر بها قبل أن يدركه الشهاب، فيكذبون معها مائة كذبة يروجونها بسبب الكلمة التي سمعت من السماء»71.
وهكذا ترد الآيات على المشركين معتقدهم الفاسد «في أن الشياطين يعلمون الغيب، وأنهم يتلقون ذلك باتصالهم بالملأ الأعلى، واستماعهم إلى ما يدور بين الملائكة هناك، مما يتصل بالعالم الأرضي»72.
وكذلك ترد عليهم خرافة اتخاذهم آلهة، وأن بينهم وبين الله نسبًا فلو «كان شيء من هذا صحيحًا لتغير وجه المعاملة؛ ولما كان مصير الأنسباء والأصهار -بزعمهم- هو المطاردة والرجم والحرق أبدًا!»73.
وهكذا يظهر كيف أن رجم النجوم للشياطين يكشف عن تهافت مزاعم المشركين وأباطيلهم.
قال تعالى حاكيًا قول الجن: (ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ) [الجن:٨-٩].
وفي هاتين الآيتين يخبر الجن أنهم حاولوا طلب أخبار السماء ولمسها وحقيقة المس: «الجس باليد، واستعير هنا؛ لطلب أخبار السماء؛ لأن الماس للشيء في العادة إنما يفعل ذلك طلبًا لاختباره ومعرفته»74. ولكنهم وجدوها (ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ) [الجن:٨].
أي: «ملئت بالملائكة الكثيرين الذين يحرسونها، وبالشهب المحرقة التي يرمى بها من يقترب منها»75.
ثم كشفوا عن شدة استغرابهم لذلك قائلين: (ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ) [الجن:٩].
أي: «مرصدًا له، معدًا لإتلافه وإحراقه»76.
وهذا لا شك يدل على «لطف الله بخلقه ورحمته بعباده، وحفظه لكتابه العزيز؛ ذلك أن الله لما شاء بعث نبيه وإرساله وإنزال القرآن عليه ملئت السماء حرسًا شديدًا، وحفظت من سائر أرجائها، وطردت الشياطين عن مقاعدها التي كانت تقعد فيها قبل ذلك لئلا يسترقوا شيئًا من القرآن، فيلقوه على ألسنة الكهنة، فيلتبس الأمر ويختلط، ولا يدرى من الصادق77.
يقول الإمام الرازي: «هذه الشهب كانت موجودة قبل المبعث إلا أنها زيدت بعد المبعث، وجعلت أكمل وأقوى؛ لأنه قال: (ﮠ ﮡ) [الجن:٨].
وهذا يدل على أن الحادث هو الملء والكثرة وكذلك قوله: (ﮨ ﮩ ﮪ) [الجن:٩].
أي: كنا نجد فيها بعض المقاعد خالية من الحرس والشهب، والآن ملئت المقاعد كلها، فكثرة الرجم، ومنع الاستراق بالكلية هي التي حملت الجن على الضرب في البلاد، وطلب السبب»78. فأن يزداد الرجم للشياطين، وأن تمنع من استراق السمع فهذا لا شك فيه بيان لمدى مكانة القرآن وشرفه ورفعته على سائر الكتب.
أولًا: نجوم ذكرت بأسمائها:
ذكر الله تعالى النجوم في كتابه في مواضع متعددة، لكن النجم الوحيد الذي ذكر باسمه هو الشعرى.
قال تعالى: (ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ) [النجم:٤٩].
فهذا هو الموضع الوحيد الذي ذكر فيه النجم بالاسم دون الوصف.
والشعرى: «كوكب وهاج مضيء يطلع بعد الجوزاء في شدة الحر»79 وقد يبدو من خلال النظر في الآية وسياقها أنه ذكر باسمه لتقرير التوحيد ونفي العقائد الشركية، فنجم الشعرى كان له مكانته الخاصة عند العرب، فهم كانوا في جاهليتهم يعبدونه من دون الله80. وكانوا ينسبون إليه الغنى والفقر، كما أشار إلى هذا الرازي81.
واختلف فيمن كان يعبده، فقال السدي: كانت تعبده حمير وخزاعة، وقال غيره: أول من عبده أبو كبشة أحد أجداد النبي صلى الله عليه وسلم من قبل أمهاته؛ ولذلك كان مشركو قريش يسمون النبي صلى الله عليه وسلم ابن أبي كبشة حين دعا إلى الله، وخالف أديانهم82.
ولذا ذكره القرآن باسمه لـ«تقرير عقيدة التوحيد، ونفي عقيدة الشرك الواهية المتهافتة»83 وذلك من خلال إعلامهم بأنه ربهم ورب هذا النجم الذي يعبدونه من دون الله (ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ) [النجم:٤٩].
وتأمل كيف أنه أتى بضمير الفصل الذي «يفيد قصر مربوبية الشعرى على الله تعالى؛ وذلك كناية عن كونه رب ما يعتقدون أنه من تصرفات الشعرى، أي هو رب تلك الآثار ومقدرها وليست الشعرى ربة تلك الآثار المسندة إليها في مزاعمهم»84.
وذكر ربوبية الله لنجم الشعرى لا شك يشير لعظم قدرة الله، فنجم الشعرى «أثقل من الشمس بعشرين مرة، ونوره خمسون ضعف نور الشمس، وهي أبعد من الشمس بمليون ضعف بعد الشمس عنا»85 فأن يكون مربوبًا لله جل جلاله فهذا لا شك يدل على شدة قدرة الخالق عز وجل، وأن تذكر ربوبية الله لنجم الشعرى العملاق في سورة النجم التي «تتحدث عن الرحلة إلى الملأ الأعلى»86.
تلك الرحلة التي قد تستبعدها بعض العقول وتستعظمها، فهذا لا شك له وزنه في بيان عظم قدرة الله في فعل ما يشاء.
ثانيًا: نجوم ذكرت بصفاتها:
وصف الله في كتابه النجوم بعدة أوصاف؛ لهذه الأوصاف دلالات متنوعة، وفيها إشارات، إما لبعض وظائف هذه النجوم أو لتوضيح ماهيتها وشكلها، فتارة يصفها بالثقوب، وتارة يصفها بالخنس والجريان والكنس، وتارة يصفها بالطروق.
وفيما يلي تفصيل هذا:
ورد هذا في قوله تعالى: (ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ) [الصافات:١٠].
وهذا ورد في معرض الحديث عن حفظ الله للسماء من تسلط الشيطان، بأن جعل فيها الكواكب التي من وظائفها أنها تتبع من استرق السمع من الشياطين فتحرقه وتهلكه.
وجاء هذا الوصف أيضًا في سورة الطارق حين أقسم الله بالطارق -بعد القسم بالسماء-، ثم وصف هذا الطارق وعرفه بأنه: النجم الثاقب.
قال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ) [الطارق:١-٣].
والثاقب يعني: النافذ بضوئه وشعاعه المنير87.
و«إنما وصف النجم بكونه ثاقبًا لوجوه:
أحدها: أنه يثقب الظلام بضوئه فينفذ فيه.
وثانيها: أنه يطلع من المشرق نافذًا في الهواء كالشيء الذي يثقب الشيء.
وثالثها: أنه الذي يرى به الشيطان فيثقبه، أي: ينفذ فيه ويحرقه.
ورابعها: النجم الثاقب هو النجم المرتفع على النجوم، والعرب تقول للطائر إذا لحق ببطن السماء ارتفاعًا: قد ثقب»88.
وقد وردت هذه الأوصاف مجتمعة في قوله تعالى: (ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ) [التكوير:١٥-١٦].
وتخنس أي: «ترجع، بينا يرى أحدها في آخر البروج كر راجعًا إلى أوله»89.
والجوار: «جمع جارية: وهي التي تجري، أي: تسير سيرًا حثيثًا»90.
وتكنس: «أي: تغيب في المواضع التي تغيب فيها»91. وقيل: «أي: تكنس بالنهار فلا ترى»92.
وفي وصف النجوم بهذه الأوصاف إشارة إلى الأسرار العظيمة التي جعلها الله في أحوالها العجيبة، فسيرها وظهورها ثم اختفاؤها وغيابها لهو دليل على وجود مدبر قادر، يرعى أحوالها، ويقوم على أمرها.
والتعبير عن النجوم بهذه الأوصاف «يخلع عليها حياة رشيقة كحياة الظباء، وهي تجري وتختبئ في كناسها، وترجع من ناحية أخرى، فهناك حياة تنبض من خلال التعبير الرشيق الأنيق عن هذه الكواكب، وهناك إيحاء شعوري بالجمال في حركتها، في اختفائها وفي ظهورها، في تواريها وفي سفورها، في جريها وفي عودتها، يقابله إيحاء بالجمال في شكل اللفظ وجرسه»93.
وما هذا العجب في أحوالها إلا مرتع خصب للتأمل والتفكر والاهتداء بها إلى خالقها وموجدها وراعي أمرها، وصدق ربنا حين أخبر عن أن زينة الكواكب آية للمعتبرين والمتفكرين: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ) [الحجر: ١٦].
وقد جاء هذا الوصف في سورة الطارق؛ وذلك قوله تعالى: (ﭑ ﭒ) [الطارق:١].
والطارق فسره الله تعالى بأنه: (ﭙ ﭚ) [الطارق:٣].
والوصف بالثقوب سبق بيانه.
وأما وصفه بالطارق «فلأنه يبدو بالليل وكل ما أتاك ليلًا سواء كان كوكبًا أو غيره فهو طارق، فلا يكون الطارق نهارًا»94. والمراد ها هنا: «الكوكب البادي بالليل، إما على أنه اسم جنس أو كوكب معهود، وقيل: الطارق النجم الذي يقال له: كوكب الصبح»95.
وقوله تعالى: (ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ) [الطارق:٢].
تنويه بشأنه إثر تفخيمه بالإقسام به، فالاستفهام مستعمل في تعظيم أمره96.
ووصف النجوم بالطروق يلفت الأنظار لعظيم أمرها حقًا؛ إذ النجوم بكتلها الثقيلة وسرعاتها العالية تتحرك في ظلام دامس حالك دون أن تتصادم أو ترتطم ببعضها البعض، وهذا لا شك يدل على عظمة خالقها، وعظيم تقديره وحفظه، وبهذا يظهر التناسب بين القسم بالطارق والمقسم عليه، وهو قوله: (ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ) [الطارق:٤].
فالذي يهيمن على تلك النجوم العظيمة التي تسبح في الليل بسرعاتها العالية، ويضبط حركتها كذلك لا يخفى عليه العلم والإحاطة بما تضمره النفوس وتخفيه.
ثالثًا: القسم بالنجوم:
المتأمل في القرآن الكريم يجد أن الله تعالى أقسم بأشياء عديدة في كتابه، والله يقسم بما يقسم به من مخلوقاته؛ «لتضمنه الآيات والعجائب الدالة عليه، وكلما كان أعظم آية وأبلغ في الدلالة كان إقسامه به أكثر من غيره»97. والنجوم من الأشياء التي أقسم بها القرآن كثيرًا في غير ما موضع؛ وذلك يدل على شدة دلالتها على عظمة خالقها، وقد تنوع الإقسام بالنجوم فتارة يكون بذواتها، وأخرى بأوصافها، وفيما يلي عرض لهذا:
١. القسم بذات النجوم
أقسم الله جل جلاله بذات النجوم، فقال تعالى: (ﭑ ﭒ) [الطارق:١].
فها هنا يقسم القرآن بالنجم، فالألف واللام للجنس أي: لا يقصد بهذه الكلمة نجمًا معينًا إنما جنس النجوم، تقول مثلًا: التفاح ذو قيمة غذائية عالية، أي: جنس التفاح. والقسم بالنجم هنا له فائدة جليلة وهي إظهار مدى شدة قدرة الله.
يقول الطاهر ابن عاشور: «والقسم بالنجم لما في خلقه من الدلالة على عظيم قدرة الله تعالى، ألا ترى إلى قول الله حكاية عن إبراهيم: (ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱﭲ ﭳ ﭴ ﭵ) [الأنعام:٧٦]»98.
٢. القسم بوصف أحوال النجوم.
إذا كان الله تعالى أقسم بذات النجوم صراحة فإنه أقسم كذلك ببعض أحوال النجوم وأوصافها، ومن هذه الأوصاف ما يلي:
وهذه من أوصاف النجوم التي أقسم الله تعالى بها.
قال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ) [النجم:١].
فها هنا يقسم الباري جل جلاله بالنجم عند هويه، أي: «سقوطه في الأفق في آخر الليل عند إدبار الليل وإقبال النهار»99 ولهذا القسم دلالات عدة، منها:
الأول: التأكيد على تسخير الله: يقول الطاهر ابن عاشور عن سر تقييد القسم بحالة هوي النجم: «تقييد القسم بالنجم بوقت غروبه لإشعار غروب ذلك المخلوق العظيم بعد أوجه في شرف الارتفاع في الأفق على أنه تسخير لقدرة الله تعالى »100. فالنجم بعدما كان في قمة الارتفاع وذروته يأفل ويغيب، وفي هذا ما يدل على أن خلف هذه الموجودات إله قوي قادر لا يغيب مسخر وقاهر لها تظهر متى شاء؛ وكذلك تأفل متى أراد.
وهكذا يظهر لنا أن القسم بالنجوم حال هويها من مقاصده الدلالة على عظيم قدرة الله تعالى في خلقه، وعلى عظيم قدرته في تسخير خلقه.
الثاني: التأكيد على صحة ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم:
ويظهر ذلك من معرفة المقسم عليه، وهو قوله تعالى: (ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ) [النجم:٢].
فكأن الله أقسم بالنجم حال هويه؛ للتأكيد على «صحة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الوحي الإلهي»101 وذلك لأن الله تعالى «لما جعل النجوم زينة للسماء كذلك جعل الوحي وآثاره زينة للأرض، فلولا العلم الموروث عن الأنبياء، لكان الناس في ظلمة أشد من الليل البهيم»102.
ولا غرو فإن «ظهور النبي صلى الله عليه وسلم -في مكة- كان في ظلمة ليل بهيم، أطبق على العالم بأسره، فكان ظهور دعوة النبي صلى الله عليه وسلم أشبه بالنجم الذي يرى منه المدلجون في الليل هاديًا، إذا هم رفعوا رؤوسهم إلى السماء، ومدوا أبصارهم إليه»103.
وهكذا يظهر لنا أن من دلالات القسم بالنجم حال هويه التأكيد على صحة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم.
ومما يؤكد هذا أيضًا قوله تعالى: (ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﭑ ﭒ ﭓ) [الواقعة:٧٥-٧٧].
فها هنا يقسم تعالى بمواقع النجوم، أي: «مساقطها في مغاربها»104.
والمقسم عليه «هو إثبات القرآن، وأنه حق لا ريب فيه، ولا شك يعتريه، وأنه كريم أي: كثير الخير، غزير العلم»105.
قال تعالى: (ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ) [التكوير:١٥-١٦].
وفي القسم بخنس النجوم وكنسها دلالات عدة منها:
الأول: التأكيد على قدرة الله تعالى وربوبيته.
أقسم الله جل جلاله بخنس النجوم وكنسها «لينوه بشأنها من جهة ما في حركاتها من الدلائل على قدرة مصرفها ومقدرها، وإرشاد تلك الحركات إلى ما في كونها من بديع الصنع، وإحكام النظام»106.
فالنجوم «تزيد على عدة بلايين نجم، منها ما يمكن رؤيته بالعين المجردة، وما لا يرى إلا بالمجاهر والأجهزة، وما يمكن أن تحس به الأجهزة دون أن تراه، هذه كلها تسبح في الفلك الغامض، ولا يوجد أي احتمال أن يقترب مجال مغناطيسي لنجم من مجال نجم آخر، أو يصطدم بكوكب آخر، إلا كما يحتمل تصادم مركب في البحر الأبيض المتوسط بآخر في المحيط الهادي، يسيران في اتجاه واحد وبسرعة واحدة، وهو احتمال بعيد، وبعيد جدًا، إن لم يكن مستحيلًا»107. فأن تكون النجوم بهذا الضبط وذاك النظام فهذا لا شك من أعظم دلائل قدرة الباري جل جلاله.
الثاني: من دلائل البعث والنشور.
ذكرت السورة في بدايتها انهدام الكون وخرابه، وعودة جميع الخلق إلى الرب تعالى للحساب والثواب والعقاب، وهذا يشير للبعث والنشور، فجاء القسم بخنس النجوم وكنسها؛ ليدل «على قدرة الله تعالى على بعث الموتى من القبور، وعلى إعادة هذه العظام البالية، وإلباسها لباس الحياة من جديد»108؛ إذ تنقل النجوم الهائلة ذات الأحجام الكبيرة من حال إلى حال، ومن وجود وظهور إلى عدم وخفاء من أعظم براهين القدرة، فالذي يفعل هذا بالنجوم فيخفيها بعد ظهور ويظهرها بعد خفاء لا يعجزه فعل هذا بالإنسان الضعيف.
رابعًا: النجوم وقيام الساعة:
أخبر الله تعالى عن النجوم -كما سبق معنا- أنها زينة، وجعل زينتها آية من آيات قدرته، ودلائل عظمته، ثم أخبرنا تعالى أيضًا- أن هذه النجوم يأتي عليها وقت فينمحي ضوؤها، ويذهب نورها، وينقلب حالها، فتتبدد وتتفرق وتضطرب، فتصير مدعاة للخوف والرعب بعدما كانت في الدنيا مدعاة للفرح والسرور والابتهاج.
وهذا الانقلاب في أحوال النجوم جعله الله علامة من علامات يوم القيامة التي تكشف عن مشاهد الرعب والفزع في هذا اليوم العظيم، والتي تبين اختلال النظام الكوني كله آنئذٍ.
وقد جاء هذا المعنى في ثلاث آيات من كتاب الله:
الأولى: قوله تعالى: (ﮨ ﮩ ﮪ) [المرسلات:٨].
وقد جاءت هذه الآية بعد قوله تعالى: (ﮤ ﮥ ﮦ) [المرسلات:٧].
لينبه أن طمس النجوم من علامات هذا اليوم الذي يلاقون فيه ما يوعدون.
«وطمست أي: ذهب ضوؤها ومحي نورها كطمس الكتاب، يقال: طمس الشيء إذا درس»109. فيكون أول أحوال النجوم المؤذنة بقيام الساعة أن يطمس نورها وينمحي.
الثانية: قوله تعالى: (ﭕ ﭖ ﭗ) [التكوير:٢].
وفي معنى الانكدار قولان للعلماء:
أحدهما: السقوط والتناثر.
وثانيهما: التغير.
يقول الطبري رحمه الله: «قوله: (ﭕ ﭖ ﭗ) [التكوير:٢].
يقول: وإذا النجوم تناثرت من السماء فتساقطت، وأصل الانكدار: الانصباب، وقال آخرون: انكدرت: تغيرت»110.
«وهذان القولان ليس بينهما تضاد، بل الثاني من لوازم الأول، والمعنى أنها إذا تساقطت كما قال تعالى: (ﭕ ﭖ ﭗ) [الانفطار:٢].
فإنها تتغير ويذهب ضوؤها»111.
الثالثة: قوله تعالى: (ﭕ ﭖ ﭗ) [الانفطار:٢].
والانتثار أيضًا من الأحوال التي تحدث للنجوم يوم القيامة، ومعناه: سقوطها من مواضعها متفرقة112. وأصل النثر: «رميك الشيء متفرقًا»113. يقال: «انتثر: تفرق»114.
وليس بينهما تعارض فالتناثر توضيح لهيئة أو صفة تساقطها أو من لوازمه؛ إذ يلزم من تساقطها تناثرها وتفرقها.
وبعد هذا العرض لمعاني الطمس والانكدار والانتثار نقول:
قد تكون هذه مراحل مختلفة متلاحقة تمر بها النجوم يوم القيامة، تبدأ بطمس نورها، ثم تناثرها متفرقة، وسقوطها على الأرض، يقول الزمخشري: «ويجوز أن يمحق نورها، ثم تنتثر ممحوقة النور»115.
ويكون الانكدار بيانًا للحال العامة للنجوم يومئذٍ، وهي تغير أحوالها من طمس نورها، وذهاب ضوئها، وتساقطها من جو السماء متناثرة.
وهكذا يظهر لنا كيف أن القرآن ذكر من أحوال النجوم ما هو علامات ودلائل على قيام الساعة، ونسأل الله النجاة من أهوال هذا اليوم.
موضوعات ذات صلة: |
الآيات الكونية، الأرض، الجبال، السماء، الشمس، القمر |
1 انظر: مقاييس اللغة، ابن فارس ٥/٣٩٦، مجمل اللغة، ابن فارس ١/٨٥٧، الكليات، الكفوي ١/٨٨٧، العين، الفراهيدي ٦/١٥٤.
2 انظر: الصحاح، الجوهري ٥/ ٢٠٣٩.
3 انظر: المفردات، الراغب الأصفهانى ١/٧٩١، المصباح المنير، الفيومي ٢/٥٩٤.
4 انظر: تاج العروس، الزبيدي ٣٣/٤٨٠، لسان العرب، ابن منظور ١٢/٥٦٨.
5 انظر: معجم لغة الفقهاء، محمد قلعجي، وحامد قنيبي ١/ ٤٧٥، القاموس الفقهي، سعدي أبو جيب ١/٣٤٨.
6 انظر: المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، محمد فؤاد عبد الباقي ص٦٨٨-٦٨٩.
7 انظر: نزهة الأعين النواظر، ابن الجوزي ص٥٨٠-٥٨١، الوجوه والنظائر، الدامغاني ص٤٤٤-٤٤٥.
8 انظر: مقاييس اللغة، ابن فارس ٥/١٢٤، مجمل اللغة، ابن فارس ١/٧٦٦.
9 انظر: المحكم والمحيط الأعظم، ابن سيده ٦/٦٧٠، شمس العلوم، نشوان الحميري ٩/٥٨٧٣، لسان العرب، ابن منظور ١/٧٢١، مختار الصحاح، الرازي ص٢٧١.
10 التعريفات، الجرجاني ص ١٨٨.
11 المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية ٢/٧٩٣.
12 الفروق اللغوية، أبو هلال العسكري ١/٤٥٩.
13 انظر: بصائر ذوي التمييز، الفيروزآبادي ٥/٢٠.
14 انظر: مقاييس اللغة، ابن فارس ٣/ ٢١٢، مجمل اللغة، ابن فارس ١/ ٥١١.
15 التعريفات، الجرجاني ص١٢٩.
16 انظر: مقاييس اللغة، ابن فارس ٥/٢٥.
17 - انظر: المعجم الوسيط ٢/ ٧٥٨.
18 في ظلال القرآن، سيد قطب ٣/١٢٩٥ بتصرف.
19 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٨/ ١٦٨-١٦٩ بتصرف.
20 موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة لمحمد راتب النابلسي ٢/٣٩.
21 في ظلال القرآن، سيد قطب ٦/ ٣٤٤٧-٣٤٤٨.
22 الله يتجلى في عصر العلم، نخبة من العلماء الأمريكيين ص ١٤٧.
23 التحرير والتنوير، ابن عاشور ١/١١٦.
24 المصدر السابق ١٤/١١٦.
25 التفسير القرآني للقرآن، عبد الكريم الخطيب ٧/ ٢٧٥ بتصرف يسير.
26 المصدر السابق.
27 التفسير المنير، الزحيلي ١٧/١٧٦ بتصرف يسير.
28 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٥/٤٠٣.
29 انظر: زاد المسير، ابن الجوزي ٢/ ٥٦٣-٥٦٤.
30 المصدر السابق ٤/٢٠٦.
31 انظر: جامع البيان، الطبري ٢٢/١٢، المحرر الوجيز، ابن عطية ٥/٢٢٤، أنوار التنزيل، البيضاوي ٥/١٧٠، إرشاد العقل السليم، أبو السعود ٨/١٧٧.
32 تفسير المنار ٧/٥٣٠.
33 أيسر التفاسير، الجزائري ٢/٩٦.
34 جامع البيان، الطبري ١٧/١٨٥.
35 قال القاسمي: مراده اعتقاد مناف للعقد الصحيح، لا اعتقاد حكم وأسرار غير الثلاث فيها، إذ فوائد المكونات غير محصور. وذكر حكمة في مكون لا ينفي ما عداها. محاسن التأويل ٤/٤٤٢.
36 التفسير القرآني للقرآن ٤/٢٤٧.
37 جامع البيان، الطبري ١١/٥٦١.
38 التحرير والتنوير ١٤/١٢٢.
39 في ظلال القرآن، سيد قطب ٢/١١٥٩.
40 في ظلال القرآن، سيد قطب ٦/٣٦٣٣.
41 التفسير الميسر ص٢٦٣.
42 محاسن التأويل، القاسمي ٦/٣٣٢.
43 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص ٤٣٠.
44 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ١٠/٩ بتصرف.
45 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٢٣/٨٧.
46 في ظلال القرآن، سيد قطب ٦/٣٦٣٤ باختصار.
47 في ظلال القرآن، سيد قطب ٤/٢١٣٣.
48 التفسير الوسيط، طنطاوي ٨/٢٧-٢٨.
49 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٢٣/ ٨٧.
50 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب بدء الخلق، باب ذكر الملائكة، ٤/١١١، رقم ٣٢١٠.
51 التفسير الميسر ص٥٦٢.
52 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص ٤٣٠ بتصرف.
53 المصدر السابق.
54 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، باب قوله: (إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين)، ٦/٨٠، رقم ٤٧٠١.
55 تفسير الشعراوي ١٢/٧٦٦٧.
56 في ظلال القرآن، سيد قطب ٦/٣٦٣٠-٣٦٣١.
57 مفاتيح الغيب، الرازي ٣٠/٥٨٣.
58 التفسير الموضوعي للقرآن، مجموعة مؤلفين ٨/٢٧٢.
59 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٢٩/٢١.
60 المصدر السابق.
61 انظر: التفسير الميسر ص٥٦٢.
62 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٢٩/٢١.
63 التفسير الميسر ص٤٧٨.
64 في ظلال القرآن، سيد قطب ٥/٢٩٨٠.
65 المصدر السابق ٥/٢٩٨٣ بتصرف.
66 التفسير الميسر ص٤٤٦.
67 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٧/٦.
68 المصدر السابق.
69 التفسير القرآني للقرآن، عبد الكريم الخطيب ١٢/٩٦٦.
70 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٢٣/٩٣.
71 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص ٧٠١.
72 التفسير القرآني للقرآن، عبد الكريم الخطيب ١٢/٩٦٦.
73 في ظلال القرآن، سيد قطب ٥/٢٩٨٤.
74 التفسير الوسيط، طنطاوي ١٥/١٣٥.
75 التفسير الميسر ص٥٧٢.
76 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص ٨٩١.
77 انظر: تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٨/٢٤٠.
78 مفاتيح الغيب، الرازي ٣٠/٦٧٠ بتصرف.
79 انظر: تفسير القشيري ٣/٤٩١، تفسير المراغي ٢٧/٦٧ بتصرف.
80 جامع البيان، الطبري ٢٢/٥٥٠.
81 مفاتيح الغيب، الرازي ٢٩/٢٨٣.
82 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ١٧/١١٩.
83 في ظلال القرآن، سيد قطب ٦/٣٤١٨.
84 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٢٧/١٥٢.
85 في ظلال القرآن، سيد قطب ٦/٣٤١٨.
86 المصدر السابق.
87 المحرر الوجيز، ابن عطية ٤/٤٦٧.
88 مفاتيح الغيب، الرازي ٣١/١١٧ بتصرف.
89 زاد المسير، ابن الجوزي ٤/٤٠٨.
90 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٣٠/١٥٢.
91 معاني القرآن وإعرابه، الزجاج ٥/٢٩١.
92 معالم التنزيل، البغوي ٨/٣٤٩.
93 في ظلال القرآن، سيد قطب ٦/٣٨٤١.
94 انظر: الكشاف، الزمخشري ٤/٧٣٤، مفاتيح الغيب، الرازي ٣١/١١٧.
95 إرشاد العقل السليم، أبو السعود ٩/١٤٠.
96 التفسير الوسيط، طنطاوي ١٥/٣٥٢.
97 مفتاح دار السعادة، ابن القيم ١/١٩٧.
98 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٢٧/٩٠ بتصرف.
99 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص٨١٨.
100 المصدر السابق.
101 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص٨١٨ بتصرف.
102 المصدر السابق.
103 التفسير القرآني للقرآن، عبد الكريم الخطيب ١٤/٥٨٦.
104 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص٨٣٦.
105 المصدر السابق.
106 المصدر السابق.
107 الله والعلم الحديث، عبد الرزاق نوفل ص ٣٣.
108 التفسير القرآني للقرآن، عبد الكريم الخطيب ١٤/٧٣٤.
109 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ١٩/١٥٧.
110 انظر: جامع البيان، الطبري ٢٤/٢٣٩.
111 تفسير جزء عم، مساعد الطيار ص ٦٤.
112 انظر: جامع البيان، الطبري ٢٤/١٧٤، معاني القرآن وإعرابه، الزجاج ٥/٢٩٥، المحرر الوجيز، ابن عطية ٥/٤٤٦، معالم التنزيل، البغوي ٥/٢١٩.
113 المحكم والمحيط الأعظم، ابن سيده ١٠/١٣٧.
114 المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية ٢/٩٠٠.
115 الكشاف، الزمخشري ٤/٦٧٨.