المن
أولًا: المعنى اللغوي:
جاء في كتب اللغة: مَنَّ عليه مِنَّةً أي: امتن عليه، يقال: المِنَّةُ تهدم الصنيعة، وفي الحديث (ما أحدٌ أَمَنَّ علينا من ابن أبي قحافة)1 أي: ما أحدٌ أجود بماله وذات يده، وفي التنزيل: (ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ) [البقرة: ٢٦٤].
فالمَنُّ ههنا أن تَمُنَّ بما أعطيت وتعتد به كأنك إنما تقصد به الاعتداد.
وقوله جل شأنه: (ﯜ ﯝ ﯞ) [المدثر:٦ ]. أي: لا تعط شيئًا مقدرًا لتأخذ بدله ما هو أكثر منه، وقد يطلق المنان على الذي لا يعطي شيئًا إلا مِنَّةً واعتد به على من أعطاه2.
ومن معاني المن في اللغة كذلك:الاعتداد، والعطاء،والقطع3.
ويأتي المن أيضًا بمعنى الإثقال بالنعمة، كما في قول الله تعالى(ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ) [آل عمران: ١٦٤]4.
ثانيًا: المعنى الاصطلاحي:
عرف المَنُّ في الاصطلاح بتعريفات مختلفة بحسب موضوعه، فمنه المحمود الذي يعني الإحسان إلى الناس وصنع الجميل لهم، ومنه المذموم الذي تبعه أذى أو طلب شكر أو منفعة كان مذمومًا مقطوعًا عن الأجر، وأورد هنا طرفا من تعريفات المن على هذا النحو:
فعرفه الغزالي بأنه: التحدث بالمعروف على الفقير وإظهاره وطلب المكافأة منه بالشكر والدعاء والخدمة والتوقير والتعظيم والقيام بالحقوق والتقديم في المجالس والمتابعة في الأمور5.
وردت مادة (مَنَّ) في القرآن الكريم (٥١) مرة، يخص موضوع البحث منها(٢٦) مرة6.
والصيغ التي وردت هي:
الصيغة |
عدد المرات |
المثال |
الفعل الماضي |
٨ |
(ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ) [آل عمران:١٦٤] |
الفعل المضارع |
٧ |
(ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ) [إبراهيم:١١] |
فعل الأمر |
١ |
(ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ) [ص:٣٩] |
اسم مفعول |
٤ |
(ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ) [القلم:٣] |
مصدر |
٦ |
(ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ) [محمد:٤] |
وجاء المن في القرآن على وجهين7:
الأول: العطاء: قوله تعالى: (ﭐﯜ ﯝ ﯞ ﯟ) [المدثر: ٦]. يعني: لا تعط شيئًا قليلًا تزدريه؛ لتعطى أكثر منه.
الثاني: المنة بعينها: قال تعالى: (ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ) [الحجرات: ١٧]. أي: المنة لله أن هداكم للإيمان.
العطاء:
العطاء لغة:
جاء في كتب اللغة:العطاء والعطية اسمٌ لما يعطى، والجمع عطايا وأعطية، وأعطياتٌ جمع الجمع، ويقال:إنه لجزيل العطاء، وهو اسمٌ جامعٌ فإذا أفرد قيل: العطية وجمعها العطايا، وأما الأعطية فهو جمع العطاء، يقال: ثلاثة أعطيةٍ ثم أعطياتٌ جمع الجمع، ويقال: رجلٌ معطاءٌ كثير العطاء، وامرأة معطاءٌ كذلك، ومفعالٌ يستوي فيه المذكر والمؤنث8.
قال الشاعر:أعطى وهنأنا ولم تك من عطيته الصغاره ومن العطية ما تعى جذماء ليس لها بذاره9.
العطاء اصطلاحًا:
والعطية عند الفقهاء ما يعطى بغير عوض هبة كان أو صدقة أو هدية10.
والمعنى في الاصطلاح لا يختلف عن المعنى اللغوي، حيث إن العطاء يدور معناه حول المناولة وهي في اللغة والاستعمال عبارة عن كل نفع أو ضر يصل من الغير إلى الغير كما ذكر ابن العربي عن حقيقة العطاء11.
الصلة بين المَنِّ والعطاء:
كلاهما يحقق معنى البذل بلا مقابل وفيهما المحمود الذي يوصف بالنفع، أو المذموم الذي يوصف بالضر.
الإيتاء:
الإيتاء لغة:
الإيتاء: الإعطاء، آتى يؤاتي إيتاءً، وآتاه إيتاءً، أي: أعطاه، ويقال: آتاه الشيء، أي: أعطاه إياه12.
ويرى الزبيدي أن الإيتاء أقوى من الإعطاء في إثبات مفعوله؛ لأن الإعطاء له مطاوع بخلاف الإيتاء تقول: أعطاني فعطوت ولا يقال: آتاني فآتيت، وإنما يقال: آتاني فأخذت، والفعل الذي له مطاوع أضعف في إثبات مفعوله مما لا مطاوع له 13.
الإيتاء اصطلاحًا:
إعطاء المال للغير على سبيل التمليك وحرية التصرف.
الصلة بين الإيتاء والمَنِّ:
أما الصلة بين المن والإيتاء فتتضمن معنى العطاء والدفع والأداء من شخص إلى آخر، وأن من الإيتاء ما هو تفضل مثل المن المحمود وليس واجبًا ملزمًا على المعطى.
الإحسان:
الإحسان لغة:
مصدر حسن، والحسن: ضد القبح ونقيضه، والإحسان: ضد الإساءة14
الإحسان اصطلاحًا:
هو: إتقان الأعمال والتطوع بالزائد عن الفرائض، ومقابلة الخير بأفضل منه، والشر بأقل منه15.
وقال الراغب: (الإحسان على وجهين: أحدهما: الإنعام على الغير، والثاني: إحسان في فعله، وذلك إذا علم علمًا حسنًا أو عمل عملًا حسنًا 16.
الصلة بين الإحسان والمن:
وتأتي الصلة بين الإحسان والمن في كونهما يتفقان في معنى الإنعام على الغير بما يحققه المن المحمود.
أولًا: التعريف باسم الله المنان:
ورد في بعض الأحاديث تسمية الله عز وجل بالمنان، فقد روي (عن أنسٍ أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسًا ورجلٌ يصلى ثم دعا اللهم إنى أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان بديع السموات والأرض يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم. فقال النبى صلى الله عليه وسلم (لقد دعا الله باسمه العظيم الذى إذا دعى به أجاب وإذا سئل به أعطى) 17.
وقد وردت أقوال للعلماء في التعريف باسم الله المنان منها ما يلي:
قال الزجاج: «(المنان) فعَّال، من قولك: مننت على فلان،إذا اصطنعت عنده صنيعة وأحسنت إليه، فالله عز وجل منان على عباده بإحسانه وإنعامه ورزقه إياهم، وفلان يمن على فلان: إذا كان يعطيه ويحسن إليه»18.
وقال الحليمي: «ومنها: (المنان) وهو عظيم المواهب، فإنه أعطى الحياة والعقل والنطق، وصور فأحسن الصور، وأنعم فأجزل، وأسنى النعم، وأكثر العطايا والمنح19.
قال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ) [إبراهيم:٣٤].
وقال أبو بكر الأنباري:«وفي أسماء الله تعالى الحنَّان المنَّان، أي: الذي ينعم غير فاخر بالإنعام، وقال في موضع آخر: «المنان: معناه: المعطي ابتداء ولله المنة على عباده، ولا منة لأحد منهم عليه، تعالى الله علوًّا كبيرًا» 20.
وقال ابن الأثير: « من أسماء الله تعالى: (المنَّان) هو المنعم المعطي، من المن: العطاء، لا من المنة. وكثيرًا ما يرد المن في كلامهم بمعنى الإحسان إلى من لا يستثيبه ولا يطلب الجزاء عليه، فالمنان من أبنية المبالغة، كالسَّفَّاك والوهَّاب»21.
والمنان تقدست أسماؤه جل وعلا، يقال: مَنَّ يَمُنُّ مَنًّا فهو المنان، والاسم: المنة، واشتقاقه في موضوع اللسان من المن، وهو العطاء دون طلب عوض، ومنه قوله تعالى: (ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ) [ص: ٣٩] في أحد وجوهه.
ويكون أيضًا مشتقًّا من: المنة، التي هي التفاخر بالعطية على المعطى، وتعديد ما عليه، والمعنيان في حق الله تعالى صحيحان، ويتصف أيضًا بهما الإنسان، لكن يتصف بالمعنى الواحد على طريق المدح، وبالمعنى الثاني على طريق الذم.
فالأول: الذي هو ممدوح، نحو أن يكون عطاؤه أو مَنُّهُ لوجه الله تعالى، ولا لنيل عوض من الدنيا.
ومن هذا القسم قوله عليه السلام فيما رواه أبو سعيدٍ الخدرى رضي الله عنه قال: (خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس وقال: (إن الله خَيَّرَ عبدًا بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ذلك العبد ما عند الله). قال: فبكى أبو بكرٍ، فعجبنا لبكائه أن يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبدٍ خيرًا. فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المخير، وكان أبو بكرٍ أعلمنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن من أَمَنِّ الناس عليِّ فى صحبته وماله أبا بكرٍ، ولو كنت متخذًا خليلًا غير ربى لاتخذت أبا بكرٍ، ولكن أخوة الإسلام ومودته، لا يبقين فى المسجد بابٌ إلا سد، إلا باب أبى بكرٍ) 22.
والثاني: وهو أنْ يَمُنَّ الإنسان بالعطية، أي: يذكرها ويكررها، فهو المذموم، ومنه قوله تعالى: (ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲﯳ) [البقرة: ٢٦٤].
والمنان: الذي لا يعطي شيئًا إلا منة، كذا جاء مفسرًا في حديث مسلم عن أبى ذرٍّ عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاثةٌ لا يكلمهم الله يوم القيامة: المنان الذى لا يعطي شيئًا إلا منه، والمنفق سلعته بالحلف الفاجر، والمسبل إزاره) 23.
والمنان أيضًا: الذي يمن على الله بعمله، وهذا كله في حق المخلوق حرام مذموم.
ولما كان البارئ سبحانه يدر العطاء على عباده منًّا عليهم بذلك وتفضلًا، كانت له المنة في ذلك، فيرجع المنان إذا كان مأخوذًا من المن الذي هو العطاء إلى أوصاف فعله.
ويرجع المنان إذا أخذته من المنة التي هي تعداد النعمة وذكرها، والافتخار بفعلها في معرض الامتنان، إلى صفة كلامه تعالى.
وبهذا يتبين أن كلمة المنان لها وجهان، وجه محمود ووجه مذموم، وذلك في حق البشر، أما في حق الله عز وجل، فلا تقتضي إلا المدح، وأنها اسم من أسماء الله تعالى، ولهذا تواترت آيات القرآن الكريم التي ورد فيها المن من الله تعالى على الناس على نحو ما سيأتي.
الثاني: المن على العرب بإرسال الرسول منهم:
من حكمة الله تعالى أنه أرسل الرسل والأنبياء لهداية الناس وإخراجهم من الظلمات إلى النور، وتلك نعمة كبرى تستحق الشكر، وقد أتى القرآن الكريم بمعنى من معاني المن ألا وهو الفضل والإيتاء، حيث أكرم الله تعالى العرب وأرسل إليهم رسولا من أنفسهم، وهو محمد صلى الله عليه وسلم، فقال جل شأنه: (ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ) [آل عمران: ١٦٤].
قال الإمام الطبري في تفسيره: « لقد تطول الله على المؤمنين، إذ بعث فيهم رسولا، حين أرسل فيهم رسولا من أنفسهم، نبيا من أهل لسانهم، ولم يجعله من غير أهل لسانهم، فلا يفقهوا عنه ما يقول، فيقرأ عليهم آي كتابه وتنزيله، ويطهرهم من ذنوبهم باتباعهم إياه، وطاعتهم له فيما أمرهم ونهاهم، ويعلمهم كتاب الله الذي أنزل عليه، ويبين لهم تأويله ومعانيه، ويبين لهم السنة التي سنها الله جل ثناؤه للمؤمنين على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، و إن كانوا من قبل أن يمن الله عليهم بإرساله رسوله الذي هذه صفته، لفي ضلال مبين، أي: في جهالة جهلاء، وفي حيرة عن الهدى عمياء، لا يعرفون حقًّا، ولا يبطلون باطلا »24.
وهناك أقوال في معنى المنة في الآية وقد ذكرها الإمام القرطبي في تفسيره بيانها على النحو التالي:
حيث قال: «منها أن يكون معنى (من أنفسهم) أي: بشر مثلهم، فلما أظهر البراهين وهو بشر مثلهم علم أن ذلك من عند الله. وقيل:(ﯬ ﯭ) منهم. فشرفوا به صلى الله عليه وسلم، فكانت تلك المنة.
وقيل:(ﯬ ﯭ) ليعرفوا حاله ولا تخفى عليهم طريقته. وإذا كان محله فيهم هذا كانوا أحق بأن يقاتلوا عنه ولا ينهزموا دونه. وقيل (ﯬ ﯭ) (بفتح الفاء) يعني: من أشرفهم؛ لأنه من بني هاشم، وبنو هاشم أفضل من قريش، وقريش أفضل من العرب، والعرب أفضل من غيرهم. ثم قيل: لفظ المؤمنين عام ومعناه خاص » 25.
وقد جعل الله سبحانه وتعالى منة إرسال الرسول للمؤمنين خاصة؛ ليبين لهم عظم هذه المنة عليهم، حيث أنهم المنتفعون به، فكان النبي صلى الله عليه وسلم واحد منهم ومثلهم، وقد ذكر الله تعالى ذلك في مواضع عدة من كتاب الله تعالى، أكثرها ليس بلفظ المنة، ولكن بلفظ إرسال الرسول من نفس المؤمنين، وموضع واحد بلفظ المنة وهو قوله تعالى: (ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ) [آل عمران:١٤٦].
روي عن عائشة رضي الله عنها:« (ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ) قالت: هذه للعرب خاصة. وقال آخرون: أراد به المؤمنين كلهم 26.
أما المواضع الأخرى التي فيها بيان نعمة إرسال الرسول من أنفسنا، وليست بلفظ المنة فهي:
قوله تعالى: (ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ) [البقرة: ١٥١-١٥٢].
وقوله جل شأنه: (ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ) [التوبة: ١٢٨].
وقوله تعالى: (ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ) [النحل: ٨٩].
وهذه الآية في معرض شهادة النبي عليه الصلاة والسلام علينا أو لنا يوم القيامة.
وقوله جل شأنه: (ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ) [الجمعة: ٢].
وقد حدثنا الله تبارك وتعالى عن نعمته علينا بإرسال رسول لنا يتلو علينا آيات الله، ويعلمنا الدين، وأن هذا الرسول منا نعرفه قبل أن يكلف بالرسالة، فقد آمن بسيدنا محمد من يعرفونه أكثر من غيرهم، ووضح هذا الأمر من خلال بيان القرآن الكريم لذلك.
قال تعالى: (ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ) [البقرة: ١٥١-١٥٢].
وقد فسر الشيخ الشعراوي هذه الآية فقال: « إن أول من آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم هم أولئك الذين يعرفونه أكثر من غيرهم، كأبي بكر الصديق، وزوجته صلى الله عليه وسلم السيدة خديجة، وابن عمه علي بن أبي طالب، هؤلاء آمنوا دون أن يطلبوا دليلا؛ لأنهم أخذوا الإيمان من معرفتهم برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يكلف بالرسالة، فهم لم يعرفوا عنه كذبًا قط. فقالوا: إن الذي لا يكذب على الناس لا يمكن أن يكذب على الله فآمنوا، فالله سبحانه وتعالى من رحمته أنه أرسل إليهم رسولا منهم أميًّا ليعلمه ربه»27.
ولذلك قال الحق تبارك وتعالى:: (ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ) [التوبة: ١٢٨].
ونعمة الله على العرب بإرسال سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم إنما ذكرنا الله تعالى بها كثيرًا من أجل أن نذكر نعمه دائما علينا وقت حياتنا، والله عز وجل يريد من عباده الصالحين أن يذكروه دائما كما جاء في الحديث القدسي المشهور عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يقول الله عز وجل: أنا عند ظن عبدي، وأنا معه حين يذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملإ ذكرته في ملإ خير منه، وإن اقترب إلي شبرا، تقربت إليه ذراعا، وإن اقترب إلي ذراعا، اقتربت إليه باعا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة)28.
فالعبد الصالح يدرك نعم الله عليه في الدنيا والدين، وأنه واجب عليه أن يشكره على هذه النعم الظاهرة والباطنة، وأن يحمده على ما علمه عن طريق رسوله صلى الله عليه وسلم.
ثالثًا: المن بالنبوة والرسالة:
أرسل الله تعالى الرسل والأنبياء لهداية الناس وإخراجهم من الظلمات إلى النور كما هو معروف، وأمد الله الرسل بالمعجزات الباهرة، وأيدهم بالحجج القوية، وآتاهم القوة المعنوية والروحية التي يحاجون بها خصومهم، وهذا لدى جميع الأنبياء، وأمدَّ بعضهم بالقوة الجسدية والثروة، وملهكم ملكًا عظيمًا كما هو الحال عند نبي الله سليمان عليه السلام.
وقد ورد في القرآن طرفًا من ذلك، والذي يعتبر نموذجا لمنة الله تعالى على أحد أنبيائه، ففي قصة موسى عليه السلام نجد مِنَّةَ الله تعالى عليه في جوانب متعددة:
أولها: المن عليه بالاصطفاء بالنبوة وإنجائه من فرعون وهو طفل وليد.
والثاني: إرساله إلى فرعون وملائه.
والثالث: إنعامه عليه بالنجاة من فرعون وهو كبير، حيث فر إلى مدين وأقام بها ما أقام ثم عودته إلى دياره. وغيرها من المنن المتعلقة بالنبوة والرسالة.
وبداية التذكير بهذه المنة نجده في أوائل سورة القصص، بلفظ إرادة المنة بتخليص المستضعفين من بطش فرعون وجنوده، حيث قال الله تعالى: (ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ) [القصص: ٥-٦].
ثم توالى ذكر المنن بعد ذلك في آيات مختلفة من سورة طه والصافات.
وفي موضع آخر يأتي ذكر منة الله تعالى على الأخوين موسى هارون في آيات جامعة لجملة من النعم التي أنعم الله تعالى عليهما بها، وذلك في قول الله تعالى: (ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ) [الصافات: ١١٤ -١٢٠].
قال الطبري في معناها:« ولقد تفضلنا على موسى وهارون ابني عمران، فجعلناهما نَبيَّيْن، ونجيناهما وقومهما من الغم والمكروه العظيم الذي كانوا فيه من عبودة آل فرعون، ومما أهلكنا به فرعون وقومه من الغرق»29.
وذكر الماوردي في معنى المنِّ هنا:
أحدهما: بالنبوة، قاله مقاتل.
والثاني: بالنجاة من فرعون، قاله الكلبي.
وأورد في معنى كلمة (ﮗ): قولين:
الأول: النجاة من الغرق.
والثاني: النجاة من الرق 30.
رابعًا: المن بالهداية بعد الإيمان:
الإيمان سلعة غالية ومطلب كبير، وسبب لفلاح الناس ونجاحهم فى الدنيا والآخرة، ولذلك ورد ذكره والتنويه بشأنه والتصريح بأهميته في آيات عدة من كتاب الله تعالى.
والله تعالى قد أرسل الرسل لهداية البشر، وجعل الرشاد في اتباعهم، والغي والضلال في مخالفتهم، وبين سبحانه وتعالى حال الأمم السابقة وحال البشر جميعا قبل هدايتهم للإيمان، ومنته تعالى عليهم بهذه النعمة، وقد جاء ذكر ذلك في موضعين:
الموضع الأول: في قول الله تعالى: (ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ) [النساء: ٩٤].
وفي سبب نزول الآية ما روي عن ابن عباس قال: (مر رجل من بني سليم على نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه غنم، له فسلم عليهم، قالوا: ما سلم عليكم إلا ليتعوذ منكم، فقاموا فقتلوه وأخذوا غنمه، فأتوا بها رسول الله صلى الله عليه و سلم فأنزل الله تعالى:(ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ)31.
وفي معنى قوله تعالى: (ﯣ ﯤ ﯥ) في الذي مَنَّ به أربعة أقوال:
الأول: أن المراد به الهجرة. قاله ابن عباس.
والثاني: أن المراد به إعلان الإيمان. قاله سعيد بن جبير.
والثالث: أن المراد به الإسلام. قاله قتادة ومسروق.
والرابع: أن المراد به التوبة على الذي قتل ذلك الرجل. قاله السدي 32.
وأيًّا كان المعنى فإن الله سبحانه وتعالى قد نبه المؤمنين وذكرهم بنعمته عليهم، وهي نعمة الإسلام التي كانوا محرومين منها.
وقال جل وعلا: (ﯳ ﯴ ﯵ ﯶﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ) [الحجرات: ١٧].
وفي معنى (ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ) يذكر الماوردي وجهين:
أحدهما: أن الله أحق أَنْ يَمُنَّ عليكم أن هداكم للإيمان حتى آمنتم. وتكون المنة هي التحمد بالنعمة.
والوجه الثاني: أن الله تعالى ينعم عليكم بهدايته لكم، وتكون المنة هي النعمة. وقد يعبر بالمنة عن النعمة تارة وعن التحمد بها أخرى 33.
وفي الآية لطائف تفسيرية أبرزها ما يلي:
اللطيفة الأولى: في قوله تعالى: (ﯳ ﯴ) زيادة بيان لقبيح فعلهم، وذلك لأن الإيمان له شرفان:
أحدهما: بالنسبة إلى الله تعالى وهو تنزيه الله عن الشرك وتوحيده في العظمة.
وثانيهما: بالنسبة إلى المؤمن فإنه ينزه النفس عن الجهل ويزينها بالحق والصدق، فهم لا يطلبون بإسلامهم جانب الله ولا يطلبون شرف أنفسهم، بل منوا ولو علموا أن فيه شرفهم لما منوا به بل شكروا.
اللطيفة الثانية: في قوله: (ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ) أي: الذي عندكم إسلام، ولهذا قال تعالى: ((ﮔ ﮕ ﮖ) ولم يقل: لم تؤمنوا ولكن أسلمتم؛ لئلا يكون تصديقًا لهم في الإسلام أيضًا كما لم يصدقوا في الإيمان.
اللطيفة الثالثة: في قوله: (ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ) يعني لا منة لكم، ومع ذلك لا تسلمون رأسًا برأس بحيث لا يكون لكم علينا ولا لنا عليكم منة، بل المنة عليكم.
وقوله تعالى: (ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ) حسن أدب حيث لم يقل لا تمنوا علي بل لي المنة عليكم؛ حيث بينت لكم الطريق المستقيم، ثم في مقابلة هذا الأدب قال تعالى: (ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ) [الشورى: ٥٢].34.
خامسًا: المن بالقوة بعد الضعف:
ذكر القرآن الكريم لنا نموذجًا رائعًا فيما مَنَّ الله به على المستضعفين في أرض مصر من بني إسرائيل، حيث إن الله خلصهم بإيمانهم من طغيان فرعون وتسلطه واصبحوا قادة للخير.
قال تعالى: (ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ) [القصص: ٥-٦].
قال الجزائري في تفسير الآية: « أن الله أراد أن يمن على الذين استضعفوا في الأرض أرض مصر وهم بنو إسرائيل، فَمَنَّ عليهم بإيمانهم وتخليصهم من حكم فرعون وتسلطه، وجعلهم قادة في الخير، وجعلهم أيضا الوارثين لحكم البلاد وسياستها بعد إهلاك فرعون وجنوده » 35.
جعل الله سبحانه وتعالى القوة سببا للانتصار، وفلاح الأمم وصلاحها، وازدهارها وتقدمها،والضعف سببًا للهزيمة والانكسار، وبَيَّنَ الله سبحانه وتعالى نعمته ومنته على الأمة بتوحيدهم بعد فرقة، وتقويتهم بعد ضعف، فقال جل شأنه: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ) [الأنفال: ٢٦].
قال الطبري: «وهذا تذكيرٌ من الله عز وجل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومناصحة. يقول: أطيعوا الله ورسوله، أيها المؤمنون، واستجيبوا له إذا دعاكم لما يحييكم، ولا تخالفوا أمره وإن أمركم بما فيه عليكم المشقة والشدة، فإن الله يهونه عليكم بطاعتكم إياه، ويعجل لكم منه ما تحبون، كما فعل بكم إذ آمنتم به واتبعتموه وأنتم قليلٌ يستضعفكم الكفار فيفتنونكم عن دينكم، وينالونكم بالمكروه في أنفسكم وأعراضكم، تخافون منهم أن يتخطفوكم فيقتلوكم ويصطلموا» 36.
وقال ابن عاشور: « عطف على الأمر بالاستجابة لله فيما يدعوهم إليه، وعلى إعلامهم بأن الله لا تخفى عليه نياتهم، وعلى التحذير من فتنة الخلاف على الرسول صلى الله عليه وسلم تذكيرهم بنعمة الله عليهم بالعزة والنصر، بعد الضعف والقلة والخوف، ليذكروا كيف يسر الله لهم أسباب النصر من غير مظانها، حتى أوصلهم إلى مكافحة عدوهم وأن يتقي أعداؤهم بأسهم، فكيف لا يستجيبون لله فيما بعد ذلك، وهم قد كثروا وعَزُّوا وانتصروا.
فالخطاب للمؤمنين يومئذ، ومجيء هذه الخطابات بعد وصفهم بالذين آمنوا إيماء إلى أن الإيمان هو الذي ساق لهم هذه الخيرات كلها، وأنه سيكون هذا أثره فيهم كلما احتفظوا عليه كفوه من قبل سؤالهم، ومن قبل تسديد حالهم، فكيف لا يكونون بعد ترفه حالهم أشد استجابة وأثبت قلوبًا»37.
سادسًا: المن بالاجتماع بعد التفرق:
جعل الله عز وجل القوة والغلبة في الاجتماع والتآلف، كما أنه جعل الضعف في الوحدة والتفرق وهذا ما أشارت إليه الآية في القرآن الكريم: (ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ) [آل عمران: ١٠٣].
فقد حث الله تعالى علي الاجتماع ونهى عن التفرق، وهذا من باب التذكير بهذه النعمة؛ حيث كانوا أعداء ثم ألف الله بين قلوبهم بالإسلام38.
والقرآن الكريم فيه كثير من النماذج التي تدل على فضل الله ونعمته على العبد بالاجتماع بعد التفرق، ففي قصة سيدنا يوسف أروع الأمثال في هذا الجانب.
فلقد رأينا ما أصاب سيدنا يوسف من بعده وتفرقه عن أهله وعن دياره، والتعرض للالقاء في البئر وبيعه في السوق، ونحو ذلك مما هو معروف لدينا من هذه القصة مما ابتلي به يوسف عليه السلام، وتأتي إرادة الله أن ينعم على يوسف بالعزة بعد الذلة وبالغنى بعد الفقر، ومكنه في الأرض وجعله ذا مكانة عالية في مصر وإليه مقاليد الأمور، وتمر الأيام ويأتي أخوة يوسف عليه السلام إليه طالبين حاجة مما أصابهم من فقر في أرض كنعان، ويدخلوا على يوسف ويعرفهم، ويجزل لهم العطاء ويكرمهم.
ويعتبر قدوهم عليه نعمة كبيرة أنعم الله تعالى عليه بها، وهي جمع شمل الإخوة بعد تفرق دام سنوات، ويتحدث يوسف بذلك صريحا في القرآن: (ﮉ ﮊ ﮋ ﮌﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ) [يوسف:٩٠].
وفي معنى قوله تعالى: (ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ) فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: المَنُّ بخير الدنيا والآخرة.
والثاني: المَنُّ بالجمع بعد الفرقة.
والثالث: المَنُّ بالسلامة ثم بالكرامة 39.
وقال الشيخ الصابوني في هذه الآية: «تتحدث الآيات عن مجيء أسرة يعقوب بأسرهم إلى مصر، ودخولهم على يوسف وهو في عِزِّ السلطان وعظمة الملك، وتحقيق الرؤيا بسجود إخوته الأحد عشر له مع أبيه وأمه، واجتماع الشمل بعد الفرقة، وحلول الأنس بعد الكدر»40.
سابعًا: المَنُّ بالطيبات:
خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان، وأسكنه الأرض، وأنعم عليه بنعم لا تعد ولا تحصى، وأباح له الأكل من هذه النعم شريطة أن يأكل الطيب ويجتنب الخبيث، وجاء هذا الأمر بأكل الطيب للأنبياء والرسل، وكذا لعامة الناس، وكذا المؤمنين منهم.
فقد قال الله تعالى للرسل: (ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ) [المؤمنون:٥١].
وقال للناس جميعًا: (ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ) [البقرة: ١٦٨].
وقال للمؤمنين: (ﭽﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ) [البقرة: ١٧٢].
وقال لبني إسرائل في مواضع: (ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ) [البقرة: ٥٧].
وقوله جل ثناؤه: (ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ) [طه: ٨١].
وكل هذه الآيات ونحوها جاءت لتبين مِنَّةَ الله تعالى على الخلق بإباحة هذه الطيبات والانتفاع بها، وبالتالي ينبغي على الخلق أن يشكروا الله تعالى.
وإذا كان الله تعالى قد بَيَّنَ لنا هذه النعم، ونحن على يقين منها، فإنه أوجب علينا شكر تلك النعم.
فيكون شكر المنعم سبحانه وتعالى فرض على كل مكلف كما ذهب إليه أكثر العلماء41، وقد ورد الأمر به في القرآن الكريم مرارًا لا سيما في المواضع التي فيها ذكر النعم من المأكل والمشرب.
قال تعالى: (ﭽﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ) [البقرة: ١٧٢].
وقال جل شأنه: (ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ) [النحل: ١١٤].
جاء في تفسير السلمي عند تفسير قوله تعالى(ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ): وفي الأكل آداب أربع:الحلال، والصافي، والقوام، والأدب، فالحلال الذي لا يعصى الله فيه، والصافي الذي لا ينسى الله فيه، والقوام ما يمسك به النفس ويحفظ العقل، والأدب شكر المنعم»42.
وإذا كانت الطيبات من نعم الله تعالى تقتضي منا شكرها، فإنه لا شك أن تناول الطيبات هذه يحقق للمرء منافع دنيوية وأخروية.
فالمأكولات الطيبة سبب لاستجابة الدعاء: كما ورد في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله طيبٌ لا يقبل إلا طيبًا، وإن الله تعالى أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: (ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧﮨ) وقال تعالى: (ﭽﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ) ثم ذكر الرجل يطيل السفر:أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء:يا رب يا رب، ومطعمه حرامٌ، ومشربه حرامٌ، وملبسه حرامٌ، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك؟)43.
وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (تليت هذه الآية عند رسول الله صلى الله عليه وسلم (ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ) [البقرة:١٦٨].
(فقام سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه فقال: يا رسول الله ادع الله أن يجعلني مستجاب الدعوة. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (يا سعد أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة، والذي نفس محمد بيده إن العبد ليقذف اللقمة الحرام في جوفه ما يتقبل منه عمل أربعين يوما، وأيما عبد نبت لحمه من سحت فالنار أولى به)44.
قال ابن رجب الحنبلي: «ومن أعظم ما يحصل به طيبة الأعمال للمؤمن طيب مطعمه، وأن يكون من حلال، فبذلك يزكو عمله، وفي هذا الحديث إشارةٌ إلى أنه لا يقبل العمل ولا يزكو إلا بأكل الحلال، وإن أكل الحرام يفسد العمل، ويمنع قبوله، وبعد ذكره لنص الحديث قال:والمراد بهذا أن الرسل وأممهم مأمورون بالأكل من الطيبات التي هي الحلال، وبالعمل الصالح، فما دام الأكل حلالًا، فالعمل صالح مقبولٌ، فإذا كان الأكل غير حلالٍ، فكيف يكون العمل مقبولًا ؟ وما ذكره بعد ذلك من الدعاء، وأنه كيف يتقبل مع الحرام، فهو مثالٌ لاستبعاد قبول الأعمال مع التغذية بالحرام»45.
كذلك تجد أن أكل الحلال وطيب المطعم أعون للمرء على العمل الصالح، وعلى الطاعة، وأن العمل الصالح لابد أن يكون مسبوقًا بأكل الحلال46.
قال ابن كثير: «يأمر تعالى عباده المرسلين، عليهم الصلاة والسلام أجمعين، بالأكل من الحلال، والقيام بالصالح من الأعمال، فدل هذا على أن الحلال عون على العمل الصالح، فقام الأنبياء، عليهم السلام، بهذا أتم القيام. وجمعوا بين كل خير، قولا وعملا ودلالة ونصحًا، فجزاهم الله عن العباد خيرًا» 47.
وروي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أربع خلالٍ إذا أعطيتهن فلا يضرك ما عزل عنك من الدنيا حسن خليقةٍ، وعفاف طعمةٍ، وصدق حديثٍ، وحفظ أمانةٍ)48.
ولا ينبغي أن يغفل المرء عن مدى تأثير أكل الطيبات على نمو الجسم وسلامته وصحته.وهذه لا تحتاج لبرهان، فإن الشارع الحكيم حين أمرنا بتناول الطيبات وتجنب الخبائث، فنظرًا لما في الطيب من مزايا النفع للبدن، وسلامته من الأمراض، والمحافظة على صحة الإنسان.
ثامنًا: المن بالنجاة:
النجاة من المهالك مطلب كل عاقل، بل هي مطلب كل مخلوق من الإنسان والحيوان وغيرهما، وقد ورد في كتاب الله تعالى ما يشير إلى مواقف تمنى الناس فيها أماني؛ اغترارًا منهم بفتنة غنى أو ثراء وقعت لغيرهم، فلم يقدرها الله تعالى لهم، فلما هلك المبتلى بتلك الفتنة رجعوا إلى رشدهم وصوابهم، وأيقنوا أن الخير يكمن فيما اختاره الله تعالى.
وذلك تجده واضحًا في قصة قارون، حيث أوتي من الكنوز ما أوتي، وخرج على قومه في زينته، فقال قوم: (ﭻ ﭼ ﭽﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ) [القصص: ٧٩].
فلما وقع لقارون ما وقع، ورأوا بأعينهم ذلك ندموا على تمنيهم، وتذكروا مِنَّةَ الله تعالى عليهم، فكان قوله جل شأنه (ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ) [القصص: ٨٢].
والمعنى في قوله (ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ) أي: بالايمان والرحمة وعصمنا من مثل ما كان عليه قارون من البغي والبطر (ﯟ ﯠ) 49.
وفي معرض آخر للنجاة والمن بها نجد هذه الآيات في سورة الطور (ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ) [الطور:٢٥-٢٧].
وقد ذكر الإمام الماوردي في قوله تعالى: (ﯡ ﯢ ﯣ) وجهين:
أحدهما: بالجنة والنعيم.
الثاني: بالتوفيق والهداية.
وفي قوله: (ﯤ ﯥ ﯦ) ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه عذاب النار، قاله ابن زيد، وقال الأصم: السموم اسم من أسماء جهنم.
الثاني: أنه وهج جهنم، وهو معنى قول ابن جريج.
الثالث: لفح الشمس والحّرِّ، وقد يستعمل في لفح البرد 50.
وأيًّا كان المعنى، فإن الله تعالى قد من عليهم بإنجاءهم من النار ولهيبها، وهذا من تمام نعم الله تعالى على عباده التي تستحق الشكر.
تاسعًا: المَنُّ بالأجر غير المقطوع:
أعد الله سبحانه وتعالى للمؤمنين الأجر العظيم جزاء لهم على إيمانهم وعملهم الصالح، ويعتبر إيمانهم وهداهم هذا فضل ونعمة من الله تعالى عليهم؛ لأنه تبارك وتعالى هو أعلم بالمهتدين، فقال جل شأنه: (ﯳ ﯴ ﯵ ﯶﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ) [الحجرات:١٧ ].
وتأتي المنة من الله بالأجر غير المقطوع علي النبي محمد صلى الله عليه وسلم في موضع، وعلى المؤمنين الذين يعملون الصالحات في مواضع ثلاثة، وهذا إنما يظهر مدى عطاء الله الوفير لهم.
أما المن على النبي محمد صلى الله عليه وسلم فقد جاء في سورة القلم في قول الله تعالى: (ﮉﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ) [القلم: ١-٣].
وفي معنى هذه الآية الأخيرة في حق النبي صلى الله عليه وسلم أربعة أوجه:
الوجه الأول: (ﮘ ﮙ) أي: غير محسوب، قاله مجاهد.
الوجه الثاني: (ﮘ ﮙ) أي: أجرًا بغير عمل، قاله الضحاك.
الوجه الثالث: (ﮘ ﮙ) أي: غير ممنون عليك من الأذى، قاله الحسن.
الوجه الرابع: (ﮘ ﮙ) أي: غير منقطع.
ويحتمل خامسًا: غير مقدر وهو الفضل؛ لأن الجزاء مقدر، والفضل غير مقدر51.
وأما المَنُّ على المؤمنين فقد جاء ذلك في أكثر من آية، منها:
قول الله تعالى: (ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ) [فصلت:٨].
وقوله جل شأنه: (ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ) [الانشقاق: ٢٢-٢٥].
وقوله تعالى: (ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ) [التين: ٤-٦].
قال الطبري: « يقول تعالى ذكره لهؤلاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات: ثواب غير محسوب ولا منقوص.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل، وأورد الطبري بسنده قول ابن عباس (ﭭ ﭮ ﭯ) يقول: غير منقوص. وقول مجاهد(ﭭ ﭮ ﭯ) يعني: غير محسوب52.
وفي موضع آخر يقول المولى جل وعلا (ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ) [فصلت:٨].
والمراد به أجر غير منقوص في الآخرة.
وأورد الماوردي في جملة (ﭭ ﭮ ﭯ) أربعة تأويلات:
أحدها: غير محسوب، قاله مجاهد.
والثاني: غير منقوص، قاله ابن عباس وقطرب.
الثالث: غير مقطوع، قاله ابن عيسى، مأخوذ من مننت الحبل إذا قطعته.
الرابع: غير ممنون عليهم به، قاله السدي53.
وقد أشار ابن عاشور في تفسيره إلى أن معنى الآية: « أنها تنويه بشأن المؤمنين بأن لهم جزاًء نافعًا عن العمل الصالح، أو هو ما يعطونه من نعيم الجنة، والممنون: مفعول من المن، وهو ذكر النعمة للمنعم عليه بها، والتقدير غير ممنون به عليهم، وذلك كناية عن كونهم أعطوه شكرًا لهم على ما أسلفوه من عمل صالح، فإن الله غفور شكور، يعني: أن الإنعام عليهم في الجنة ترافقه الكرامة والثناء فلا يحسون بخجل العطاء، وهو من قبيل قوله: (ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ) [البقرة: ٢٦٤].
فأجرهم بمنزلة الشيء المملوك لهم الذي لم يعطه إياهم أحد، وذلك تفضل من الله» 54.
أما من حيث ما يمن الله به عليه من الإيمان والعمل الصالح؛ فإنه يرتقي عن هذا.
قال تعالى: (ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ) [التين: ٤-٦].
فالإنسان الذي يمن الله عليه بالهدى; فإن الباطل الذي في قلبه يتناقص وربما يزول بالكلية؛ كعمر بن الخطاب، وخالد بن الوليد، وعكرمة بن أبي جهل، وغيرهم 55.
أولًا: المن الفعلي:
جعل الله عز وجل لكلِّ مؤمن نصيب من الابتلاء كما أخبرنا الله في كتابه العزيز (ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ) [العنكبوت: ١ - ٢].
وهذا الابتلاء تختلف صوره من عبد إلى آخر وكل على حسب إيمانه ضعفًا وقوة، فالأسر صورة واقع من صور الابتلاء، وفك الأسر مِنَّةٌ ونعمة من الله عزوجل، وهذا ما وصفه الله فى آياته قائلا في القرآن الكريم، (ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ) [محمد:٤].
وقد ذكر الماوردي في المن هنا قولين:
القول الأول: أنه العفو والإطلاق كما مَنَّ رسول الله صلى الله عليه على ثمامة بن أثال بعد أسره.
القول الثاني: أنه العتق، قاله مقاتل.
وذكر في الفداء وجهين:
أحدهما: أنه المفاداة على مال يؤخذ من أسير يطلق، كما فادى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بدر كل أسير بأربعة آلاف درهم، وفادى في بعض المواطن رجلًا برجلين.
الثاني: أنه البيع، قاله مقاتل 56.
ومن لطائف الآية: روي عن بعضهم أنه قال: «كنت واقفا على رأس الحجاج حين أتي بالأسرى من أصحاب عبدالرحمن بن الأشعث وهم أربعة آلاف وثمانمائة فقتل منهم نحوًا من ثلاثة آلاف حتى قدم إليه رجل من كندة فقال: يا حجاج، لا جازاك الله عن السنة والكرم خيرًا، قال: ولم ذلك؟ قال: لأن الله تعالى قال: (ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ) في حق الذين كفروا، فوالله ما مننت ولا فديت؟ وقد قال شاعركم فيما وصف به قومه من مكارم الأخلاق:
ولا نقتل الأسرى ولكن نفكهم
إذا أثقل الأعناق حمل المغارم
فقال الحجاج: «أفٍّ لهذه الجيف أما كان فيهم من يحسن مثل هذا الكلام؟ خلوا سبيل من بقي. فخلي يومئذ عن بقية الأسرى، وهم زهاء ألفين، بقول ذلك الرجل» 57.
ويتضح من خلال هذه الآية: أن الله تبارك وتعالى فَضَّلَ المَنَّ بفك الأسرى وقدمه على الفداء؛ لأنه من مكارم الأخلاق، ولهذا كانت العرب تفتخر به.
وقد وصانا النبي صلى الله عليه وسلم بمنة فك الأسرى، وجاءت في صورة الأمر وهي فريضة دينية، وقد كتبها الله عزوجل علينا وعلى من سبقنا، عن أبي موسى الأشعري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أطعموا الجائع، وعودوا المريض، وفكوا العاني) 58.
وهناك أقوال كثيرة عن العلماء تدل على وجوب العمل بهذه المنة، ألا وهي فك الأسرى سأكتفي بذكر بعض من هذه الأقوال:
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: «فكاك الأسارى من أعظم الواجبات، وبذل المال الموقوف وغيره في ذلك من أعظم القربات»59.
قال أبو بكر الجصاص رحمه الله: «وهذا الحكم من وجوب مفاداة الأسارى ثابت علينا »60.
وتتأتي صورة أخرى من صور المَنِّ الفعلي وهى العطاء، فالله سبحانه وتعالى هو المنان صاحب العطاء الكثير فيبدأ جل وعلا بالنوال قبل السؤال.
وتتمثل هذه المنة فيما فعله الله عزوجل مع نبيه سليمان عليه السلام، فقد أعطاه الله من خيره بلا حدود تكريمًا لنبيه عليه السلام، ولسليمان أن يعطي من هذا العطاء الكثير لمن يشاء ويمنعه عن من يشاء.
وجاء هذا الأمر واضح من خلال قوله سبحانه وتعالى: (ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ) [ص: ٣٤ - ٣٩].
قال أبو بكر الجزائري في تفسيره: «أي: أعطيناه ما طلب منا وقلنا له: هذا عطاؤنا لك فامنن، أي: أعط ما شئت لمن شئت، وامنع ما شئت عمن شئت بغير حساب مَنًّا عليك. وفوق هذا وإن لك عندنا يوم القيامة للقربة وحسن المرجع، وهو قوله تعالى: (ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ) [ص:٤٠]61.
هكذا بَيَّنَ الله جل وعلا إنعامه على عبده سليمان بالعطاء الوافر الذي لا يأتي إلا من عند الله وحده، ولا يقدر عليه أحدٌ إلا الله سبحانه وتعالى، فسبحانه يرزق من يشاء بغير حساب فهو المنان صاحب النعمة والفضل.
ثانيًا: المن القولي:
يعتبر الإنفاق صفة أساسية لدى المؤمن الصادق الذي يحب البذل والعطاء إخلاصًا وتقربًا إلى الله عزوجل فكان الجزاء والعوض من ربه أضعافًا مضاعفةً من الذي أنفقه ولا يماثله جزاء آخر، فالصدقة بعشرة أمثالها، وآيات القرآن خير باعث لكل مسلم على الإنفاق، فقال جل شأنه فى كتابه العزيز: (ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ) [البقرة: ٢٧٤].
والله عز وجل يعلم ما ينفقه العبد ابتغاء مرضاته، فيتقين أن ما ينفقه إنما سيخلفه الله له، فالخير واصل إلى صاحبه بلا محالة (ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ) [سبأ: ٣٩].
وورد من الحديث القدسي أن رب العزة قال: ( أنفق أنفق عليك) 62.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على بلال، فوجد عنده صبرا من تمر، فقال: (ما هذا يا بلال؟) فقال: تمر أدخره، قال: (ويحك يا بلال، أوما تخاف أن يكون له بخار في النار؟ أنفق يا بلال، ولا تخش من ذي العرش إقلالا) 63.
والمن في الإنفاق يبطل الثواب والأجر؛ لأن الله حذر منه حيث يجعل المحسن متطاولًا ومتفاخرا على من أحسن إليه، ويبين القرآن الكريم أن الإنفاق الذي يصاحبه المن والأذى إنما هو بغيض وقت الإنفاق وبعده.
قال تعالى: (ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ) [البقرة: ٢٦٢-٢٦٣].
وقد جاء في تفسير هذه الآية «أن الصدقة التي يعلم الله من صاحبها أنه يمن أو يؤذي، فإنه لا يتقبل صدقته. وذلك لأن من من أو آذى غيره كمن ينفق ماله للرياء والسمعة، والذي يرائي كمثل حجر أصم عليه تراب، وقد نزل عليه مطر شديد، فذهب التراب، وبقي الحجر أملس، وهكذا الذي يمن أو يرائي يلبس ثوبًا غير ثوبه، ثم لا يلبث أن ينكشف أمره، فيكون ما يلبس به كالتراب على الحجر الأملس الذي يذهب به الوابل المطر الشديد فلا يبقى من أثره شيء » 64.
أما المن بالإنعام فيأتي ليخبر المنعم عليه بما أنعم به المنعم؛ لأنه يذكره به، وهذا يتضح من خلال نموذجًا رائعًا تناوله القرآن فيما ورد عن قصة سيدنا موسى مع فرعون، فقد ذكره فرعون بأن كفر بالنعمة التي أنعم بها عليه وهي تربيته له، وكان رد سيدنا موسى عليه السلام: نعم هي نعمة علي أن عبدت الناس ولم تستعبدني.
قال تعالى: (ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ) [الشعراء: ١٨ -٢٢ ].
ذكر الطبري في تفسير هذه الآية: « يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل نبيه موسى صلى الله عليه وسلم لفرعون (ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ) يعني بقوله: وتلك تربية فرعون إياه، يقول: وتربيتك إياي، وتركك استعبادي، كما استعبدت بني إسرائيل نعمة منك تمنها علي بحق.» 65.
وإذا كان القرآن الكريم قد حذر من المَنِّ بالعطاء من المخلوق للمخلوق، فإنه يلحظ أنَّ المِنَّةَ إذا أتت من العبد فإنها تكون مذمومة؛ لأنها تفسد الصنيعة، لذلك ذم الله تعالى العبد الذي يمن على الناس ويكون جزاؤه أن يحبط عمله، ولا يقبل بسبب المن.
وقد أشار تبارك وتعالى في آياته فقال: (ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ) [البقرة: ٢٦٢-٢٦٤].
ومن خلال عرض هذه الآيات يتبين أن المَنَّ هو عطاء، ولكن يتحول هذا المعنى إلى معانٍ أخرى على قدر تصرف العبد، فإما أن يكون خيرًا، وإما أن يكون شرًّا، وأن المرء الحسن ينبغي عليه أن ينسى ما فعله من معروف مع غيره، وألا ينسى معروفًا فعله غيره معه.
موضوعات ذات صلة: |
الإحسان، الإنفاق، البر، الخير، السعة، العطاء |
1 أخرجه الإمام أحمد في مسنده، رقم ١٥٩٦٤، ٣/٤٧٨، والترمذي في سننه، أبواب المناقب، ٥/٦٠٧، رقم ٣٦٥٩.
قال الترمذي حديث غريب.
وضعفه الألباني في ضعيف سنن الترمذي، ص٤٩٠.
2 لسان العرب، ابن منظور١٣/٤١٥ بتصرف.
3 المصدر السابق بتصرف يسير.
4 بصائر ذوي التمييز، الفيروزآبادي١/١٤٣٣، تاج العروس، الزبيدي ٣٦/١٩٤.
5 إحياء علوم الدين، الغزالي١/٢١٧ بتصرف.
6 انظر: المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، محمد فؤاد عبد الباقي، ص٦٧٦- ٦٧٧.
7 انظر: الوجوه والنظائر، الدامغاني ص٤٣٣.
8 انظر: لسان العرب، ابن منظور ١٥/٦٨، تاج العروس، الزبيدي ١٠/١٤٧.
9 البيت لأبي دهبل الجمحي.
انظر: تاج العروس، الزبيدي١٠/١٤٧.
10 معجم لغة الفقهاء، قلعجي ص٣٧٨.
11 أحكام القرآن، ابن العربي ٤/٧٤.
12 مقاييس اللغة، ابن فارس ١/ ٥١، لسان العرب، ابن منظور ١٤/ ١٧.
13 تاج العروس، الزبيدي ٣٧/٣٤.
14 انظر: لسان العرب، ابن منظور ١٣/١١٧.
15 التفسير المنير ١٤/ ٢١٢.
16 المفردات ص ٢٣٦.
17 أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الصلاة، باب الدعاء، رقم ١٤٩٧، والنسائي في سننه، كتاب السهو، باب الدعاء بعد الذكر، رقم ١٣٠٠.
وصححه الألباني في صحيح أبي داود، الأم، ٥/٢٣٣.
18 اشتقاق أسماء الله، أبو القاسم الزجاجي ص ١٦٤.
19 الأسماء والصفات، البيهقي ص ٦٥.
20 لسان العرب، ابن منظور١٣/٤١٥.
21 النهاية في غريب الحديث، ابن الأثير ٤/٣٦٥.
22 أخرجه البخاري في صحيحه، في كتاب مناقب الصحابة، باب قول النبى صلى الله عليه وسلم: (سدوا الأبواب إلا باب أبي بكر)، رقم ٣٦٥٤.
23 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب اللباس باب بيان غلظ تحريم إسبال الإزار، رقم ٣٠٧.
24 جامع البيان، الطبري ٦/ ٢١٢.
25 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٤/ ٢٦٣.
26 انظر: شعب الإيمان، البيهقي ٢/١٦٣.
27 تفسير الشعراوي ١/٦٤٦.
28 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الدعاء، باب فضل الذكر والدعاء والتقرب إلى الله، رقم ٢٦٧٥.
29 جامع البيان ٢١/٩٣.
30 النكت والعيون ٥/٦٣.
31 أخرجه الترمذي في سننه، أبواب التفسير، باب ومن سورة النساء، رقم ٣٠٣٠.
قال الترمذي: حديث حسن.
وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة، ٩/١١٠.
32 انظر: زاد المسير، ابن الجوزي ٢/١٧٣.
33 النكت والعيون ٥/٣٨٨.
34 انظر: مفاتيح الغيب، الرازي ٢٨/١٢٠.
35 أيسر التفاسير، الجزائري ٤/٥٢.
36 جامع البيان ١٣/٤٧٦.
والاصطلام: معناه الاستئصال والإبادة من الجذور، اصطلم القوم أي أبيدوا.
انظر لسان العرب، ابن منظور ١٢/٣٤٠.
37 التحرير والتنوير ٩/٣١٨.
38 انظر: النكت والعيون، الماوردي ١/٤١٤.
39 زاد المسير، ابن الجوزي٢/٢٨١.
40 صفوة التفاسير، الصابوني ٢/٦١.
41 اللباب في علوم الكتاب، ابن عادل ١٠/١٢١.
42 حقائق التفسير ٢/٣٤.
43 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الزكاة، باب قبول الصدقة من الكسب الطيب، رقم ٢٣٩٣.
44 أخرجه الطبراني في الأوسط ٦٤٩٥، ٦/٣١٠.
وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة، ٤/٢٩٢، رقم ١٨١٢.
45 جامع العلوم والحكم ص١٠٠.
46 مفاتيح الغيب، الرازي ٢٣/٩١.
47 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٥/٤٧٧.
48 أخرجه البخاري في الأدب المفرد، رقم ٢٨٨، كتاب حسن الخلق، باب حسن الخلق إذا فقهوا، والبيهقي في شعب الإيمان رقم ٨٠٠٩، ٦/٢٤٠.
وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة رقم ٧٣٣.
49 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ١٣/٢١٩.
50 النكت والعيون ٥/٣٨٣.
51 انظر: النكت والعيون، الماوردي ٦/٦١، تفسير السمعاني ٦/١٧.
52 جامع البيان ٢٤/٣٢٧.
53 النكت والعيون، الماوردي٥/١٦٩.
54 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٢٤/٢٤١.
55 القول المفيد على كتاب التوحيد، ابن عثيمين ١/٣٨٣.
56 انظر: النكت والعيون، الماوردي ٥/٢٩٣.
57 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ١٦/٢٢٦.
58 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المرضى، باب وجوب عيادة المريض، رقم ٥٦٤٩، ٧/١١٥.
59 مجموع فتاوى ابن تيمية، ٢٨/٦٤٢.
60 أحكام القرآن، الجصاص، ٢/٤٤٠.
61 أيسر التفاسير، الجزائري، ٤/٤٥١.
62 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، باب قول الله تعالى: (يريدون أن يبدلوا)، رقم ٧٤٩٦، ٩/١٤٣.
63 أخرجه الطبراني في المعجم الكبير، رقم ١٠٢٤، ١/٣٤١.
وصححه الألباني في صحيح الجامع، ١/٣١٦، رقم ١٥١٢.
64 التفسير الوسيط، الزحيلي ١/١٥٣.
65 جامع البيان، الطبري ١٩/٣٤٢.