عناصر الموضوع
الموت
أولًا: المعنى اللغوي:
«الميم والواو والتاء أصل صحيح، يدل على ذهاب القوة من الشيء، منه الموت: خلاف الحياة »1.
والموت: ضد الحياة، مات يموت ويمات أيضًا فهو ميتٌ، وميتٌ مشددًا ومخففًا، وقومٌ موتى، وأمواتٌ، وميتون، مشددًا ومخففًا، ويستوي فيه المذكر والمؤنث2.
والميت الذي مات، والــميت والمائت: الذي لم يمت بعد، يقال: لمن لم يمت إنه مائتٌ عن قليلٍ، وميتٌ، ولا يقولون لمن مات: هذا مائتٌ، قيل: وهذا خطأٌ، وإنما ميتٌ يصلح لما قد مات، ولما سيموت3.
ثانيًا: المعنى الاصطلاحي:
تعددت التعريفات للفظة الموت، وسنوردها إن شاء الله على النحو الآتي:
الموت: صفة وجودية خلقت ضدًا للحياة4.
وقيل الموت: «انقطاع تعلق الروح بالبدن ومفارقته وحيلولة بينهما، وتبدل حال، وانتقال من دار إلى دار»5.
وقيل الموت: مفارقة الروح للجسد6.
وقيل الموت: «حال خفاء وغيب، يضاف إلى ظاهر عالم يتأخر عنه، أو يتقدمه، تفقد فيه خواص ذلك الظهور»7.
لا يخرج معنى الموت اصطلاحًا عن المعنى اللغوي، كلاهما يدلان على خلاف الحياة.
وردت مادة (موت) في القرآن الكريم (١٦٥) مرة 8.
والصيغ التي وردت هي:
الصيغة |
عدد المرات |
المثال |
الفعل الماضي |
٢٤ |
(ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ) [آل عمران:١٥٨] |
فعل المضارع |
٣٤ |
( ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ) [لقمان:٣٤] |
فعل الأمر |
٢ |
(ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ) [البقرة:٢٤٣] |
المصدر |
٥٠ |
(ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ) [المؤمنون:٩٩] |
المصدر الميمي |
٣ |
(ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ) [الأنعام:١٦٢] |
اسم المره |
٣ |
(ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ) [الدخان:٣٥] |
الصفة المشبه |
٤٩ |
(ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ) [الزمر:٣٠] |
وجاء الموت في القرآن على أربعة وجوه9:
الأول: الموت نفسه: ومنه قوله تعالى: (ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ) [آل عمران:١٨٥].
الثاني: النطفة: ومنه قوله تعالى: (ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢﲱ) [البقرة: ٢٨]. يعني: كنتم نطفًا في أصلاب الآباء فأحياكم بالخلق والإيجاد، أو كنتم نطفًا في الأرحام فأحياكم فيها.
الثالث: الضلال: ومنه قوله تعالى: (ﮗ ﮘ ﮙ) [الأنعام: ١٢٢] يعني: ضالًا فهديناه.
الرابع: الجدب وقلة النبات: ومنه قوله تعالى: (ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ) [يس: ٣٣]. يعني: الأرض الجدباء التي ليس عليها نبات أحييناها بالماء والنبات.
الفناء:
الفناء لغةً:
الفاء والنون والحرف المعتل. هذا باب لا تنقاس كلمه، ولم يبن على قياس معلوم، قالوا: فني يفنى فناء، والله تعالى أفناه، والفنا مقصور، والجمع أفنية10.
فنى الشئ فناء، وأفناه غيره. وتفانوا، أي: أفنى بعضهم بعضًا في الحرب11.
الفناء اصطلاحًا:
سقوط الأوصاف المذمومة، كما أن البقاء وجود الأوصاف المحمودة12.
الصلة بين الموت والفناء:
الموت: فيه رجعة مرة أخرى في الصغرى، ولا رجعة في الكبرى، الفناء: هو الانتهاء ولا رجعة فيها.
القتل:
القتل لغةً:
«القاف والتاء واللام أصل صحيح يدل على إذلال وإماتة، مصدر قتله قتلًا »13.
القتل معروف. وقتله قتلًا وتقتالًا. وقتله قتلة سوءٍ، بالكسر14.
القتل اصطلاحًا:
إزالة الروح بفعل المتولي له15.
الصلة بين الموت والقتل:
الموت: ينفي الحياة مع سلامة البنية، القتل: ينفي الحياة مع انتقاض البنية16.
الإعدام:
الإعدام لغةً:
العين والدال والميم أصل واحد يدل على فقدان الشيء وذهابه، من ذلك العدم، وعدم فلان الشيء إذا فقده، وأعدمه الله سبحانه وتعالى أي: أماته، جمعه على العدماء 17، عدمت الشيء بالكسر، أعدمه عدمًا، بالتحريك على غير قياس، أي: فقدته18.
الإعدام اصطلاحًا:
هي شنق الإنسان، وقتله على فعل شنيع قام بارتكابه.
الصلة بين الموت والإعدام:
الموت وقوعه على العباد من رب العباد، الإعدام: حصوله بيد الإنسان على المذنب
بمشيئة الله.
تنوعت أساليب القرآن في عرض حقائق الموت، وسوف نتناولها بالبيان فيما يأتي:
أولًا: حقيقة الموت والحكمة منه:
إن كنه الموت وحقيقته متعذرة معرفتها، قال الغزالي رحمه الله: «لا يمكن كشف الغطاء عن كنه حقيقة الموت؛ إذ لا يعرف الموت من لا يعرف الحياة، ومعرفة الحياة متوقفة بمعرفة حقيقة الروح في نفسها، وإدراك ماهية ذاتها» 19.
وقال سيد قطب رحمه الله: «إننا لا نعرف شيئًا عن حقيقة الحياة وحقيقة الموت حتى اللحظة الحاضرة، ولكننا ندرك مظاهرهما في الأحياء والأموات، ونحن ملزمون أن نكل مصدر الحياة والموت إلى قوة ليست من جنس القوى التي نعرفها على الإطلاق، قوة الله» 20.
إن كل أمر قدره الباري -جل وعلا- لابد فيه من حكمة، ظهرت أم خفيت، والموت من أعظم ما قدره الله تعالى على خلقه، فقد جعله الله تعالى فتنة للانتقال من الدنيا إلى الآخرة.
قال تعالى: (ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢﭣ ﭤ ﭥ ﭦ) [الملك: ٢].
وإنما قدم الموت هنا لأنه المخلوق أولًا، أو لأن أقوى الناس داعيًا إلى العمل من نصب موته بين عينيه21.
قال ابن كثير رحمه الله: ومعنى الآية: أنه أوجد الخلائق من العدم؛ ليبلوهم ويختبرهم أيهم أحسن عملًا؟ كما قال: (ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ) [ البقرة: ٢٨ ].
فسمى الحال الأول -وهو العدم- موتًا، وسمى هذه النشأة حياة. ولهذا قال: (ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ) [البقرة: ٢٨ ].
وعند ابن أبي حاتم عن قتادة، قال في قوله تعالى: (ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ): إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: (إن الله أذل بني آدم بالموت، وجعل الدنيا دار حياة ثم دار موت، وجعل الآخرة دار جزاء ثم دار بقاء)22.
ونظرًا لتعذر معرفة كنه الموت، فقد رتب أهل العلم الأحكام الشرعية المتعلقة به بظهور أماراته، قال ابن قدامة رحمه الله: «إذا اشتبه أمر الميت اعتبر بظهور أمارات الموت: من استرخاء رجليه وانفصال كفيه، وميل أنفه، وامتداد جلدة وجهه، وانخساف صدغيه» 23.
ثانيًا: الموت مصير كل حي:
إن الموت هو مصير محتوم لكل مخلوق حي، أوجده الله سبحانه؛ لقوله تعالى: (ﭽ ﭾ ﭿ ﮀﮁ ﮂ ﮃ ﮄ) [العنكبوت: ٥٧].
وقوله تعالى: (ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ) [الرحمن: ٢٦].
فهنا يخبر تعالى أن جميع أهل الأرض سيذهبون ويموتون، وكذلك أهل السموات، إلا من شاء الله، ولا يبقى أحد سوى وجهه الكريم، بل هو الحي الذي لا يموت أبدًا24.
ولو نجا من الموت أحد لنجا منه أكرم البرية عند ربها محمد صلى الله عليه وسلم، ولو خلد أحد لخلد سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، لكن الله كتبه عليه فقال: (ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ) [الزمر: ٣٠].
ثم واسى الله تعالى رسوله، فأخبره بأن هذه سنته في خلقه، فقال: (ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ) [الأنبياء: ٣٤]25.
وبعدها حذر المسلمين من النكوص على الأعقاب: (ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌﮍ ﮎ ﮏ ﮐ) [آل عمران: ١٤٤].
وكان من دعاء النبي عليه السلام: (أعوذ بعزتك الذي لا إله إلا أنت، الذي لا يموت، والجن والإنس يموتون)26. فسبحان من تفرد بالبقاء، و كتب على عباده الفناء.
إن تمني عدم ملاقاة الموت لن يجعل الإنسان في حلٍ منه بل هو ملاقيه لا محالة27.
قال الله: (ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ) [الجمعة: ٦-٨].
ولا ينفع الهرب من الموت.
قال الله: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ) [الأحزاب: ١٦].
ولن ينفع كذلك الالتجاء منه إلى بروج مشيدة: (ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ) [النساء: ٧٨].
والجمع هنا في كلمة (بروج) مقصود أي: لو كنتم جميعًا معتصمين ببرج، وهذا البرج محاط بآخر وثالث ورابع، فلن يحميكم من الموت، وهذا يبين بجلاء قدرة الحق سبحانه في إنفاذ أمره بالموت28.
ثالثًا: ندم الناس عند الموت:
كل الناس -مؤمنهم وكافرهم- سيندمون عند الموت، أما المؤمن فندمه على تفريطه في ساعة لم يذكر الله فيها، ويندم كذلك لعدم إكثاره من العمل الصالح، وعدم الحصول على الدرجات العليا من الجنة؛ ولذا أقسم الله بالنفس اللوامة فقال: (ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ) [القيامة: ٢].
قال مجاهد رحمه الله: «هي التي تلوم على ما فات، وتندم فتلوم نفسها على الشر لم عمله، وعلى الخير لم لم يستكثر منه»29.
وأقسم الحسن رحمه الله على أنها نفس المؤمن30.
أما الكافر فندمه بسبب تفريطه في جنب الله.
قال الله: (ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖﯗ ﯘﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ) [المؤمنون: ٩٩-١٠٠].
والمعنى: لعلي أستدرك ما ضيعت من الإيمان والطاعة31.
ولذا فإن الإنسان يتمنى الرجوع إلى دنياه ليتوب ويرجع عما اقترفه من قبل، لكن الله تعالى بين أن التوبة والإنابة لا تنفع فقط بعد الموت، بل حتى قبل خروج الروح، ومالم يغرغر الإنسان.
قال الله: (ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ) [النساء: ١٨]32. قال ابن كثير رحمه الله «فأما متى وقع الإياس من الحياة، وعاين الملك، وحشرجت الروح في الحلق، وضاق بها الصدر، وبلغت الحلقوم، وغرغرت النفس صاعدة في الغلاصم، فلا توبة متقبلة حينئذ، ولات حين مناص»33.
رابعًا: الموت كتاب مؤقت:
إن الله تعالى كتب الموت، وجعل له وقتًا لا يتقدم ولا يتأخر.
قال الله: (ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ) [المنافقون: ١١].
وقال: (ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧﮨ ﮩ ﮪ) [الأعراف: ٣٤].
والمعنى: سيأتي وقت محدود ينزل فيه عذابهم من الله أو يميتهم فيه34.
وذكر سبحانه أنه عجل الموت على خلق وأخره على آخرين، فمنهم المستأخر والمستعجل35.
قال الله: (ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ) [الواقعة: ٦٠].
وعند مسلم من حديث ابن مسعود: أن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى أمنا أم حبيبة رضي الله عنها بعد أن دعت الله بأن يمتعها بزوجها وأبيها وأخيها، فقال: (قد سألت الله لآجال مضروبة، وأيام معدودة، وأرزاق مقسومة، لن يعجل شيئًا قبل حله، أو يؤخر شيئًا عن حله)36.
وقد أخبر تعالى أن النفوس جميعها متعلقة بآجالها بإذن الله وقدره وقضائه، فمن حتم عليه بالقدر أن يموت مات ولو بغير سبب، ومن أراد بقاءه، فلو أتى من الأسباب بكل سبب، لم يضره ذلك قبل بلوغ أجله.
قال الله: (ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ) [آل عمران: ١٤٥].
وقال الله: (ﮰ ﮱ ﯓ) [الرعد: ٣٨].
ومع أن الله تعالى أقت للموت، إلا إنه جعل هذا الأجل مجهولًا عن صاحبه؛ ليدفعه للعمل، والاستمرار على الطاعة، والانتباه والحذر من ساعة الأجل، فقال: (ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃﰄ) [لقمان: ٣٤].
قال قتادة رحمه الله: «أشياء استأثر الله بهن، فلم يطلع عليهن ملكًا مقربًا، ولا نبيًا مرسلًا (ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ) فلا يدري أحد من الناس متى تقوم الساعة، في أي سنة أو في أي شهر، (ﯰ ﯱ) فلا يعلم أحد متى ينزل الغيث، ليلًا أو نهارًا، (ﯲ ﯳ ﯴ ﯵﯶ) فلا يعلم أحد ما في الأرحام، أذكر أم أنثى، أحمر أو أسود، (ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼﯽ) أخير أم شر، ولا تدري يا ابن آدم متى تموت؟ (ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃﰄ)، ليس أحد من الناس يدري أين مضجعه من الأرض، أفي بحر أم بر؟37.
خامسًا: الموت بيد من بيده الحياة:
الله تعالى هو خالق الحياة والموت، وجعلهما بيده سبحانه ومن أسمائه: الحي.
قال الله: (ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩﮪ) [البقرة: ٢٥٥].
والحي هو «الذي لم يزل موجودًا وبالحياة موصوفًا، لم تحدث له الحياة بعد موت، ولا يعترضه الموت بعد الحياة، وسائر الأحياء يعتورهم الموت والعدم» 38، وإذا قيل في حق الله: هو حي، فالمعنى «لا يصح عليه الموت، وليس ذلك إلا لله عز وجل » 39.
والناظر في الآيات يجد أن الله أسند الموت وأخذ الروح إلى نفسه تارة فقال: (ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰﭱ) [الزمر: ٤٢].
وأسنده مرة إلى الملائكة، فقال: (ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ) [النساء: ٩٧].
وقال: (ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ) [الأعراف: ٣٧].
وقال: (ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ) [الأنفال: ٥٠].
وأسنده إلى ملك الموت، فقال: (ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ) [السجدة: ١١].
فمن الذي يتوفى الأنفس حقيقة؟ وهل بين هذه الآيات تعارض؟.
قال الشنقيطي رحمه الله: « والجواب عن هذا ظاهر: وهو أن إسناده التوفي إلى نفسه؛ لأن ملك الموت لا يقدر أن يقبض روح أحد إلا بإذنه ومشيئته تعالى: (ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ) [آل عمران: ١٤٥].
وأسنده لملك الموت؛ لأنه هو المأمور بقبض الأرواح، وأسنده للملائكة؛ لأن ملك الموت له أعوان من الملائكة تحت رئاسته، يفعلون بأمره وينزعون الروح إلى الحلقوم، فيأخذها ملك الموت» 40.
وقيل جوابًا عليه أيضًا: إن الله تعالى هو المتوفي بخلق الموت، وأمر الوسائط بنزع الروح، والملآئكة المتوفون أعوان ملك الموت وهم يجذبون من الأظفار إلى الحلقوم، وملك الموت يتناول الروح من الحلقوم، فصحت بذلك الإضافات كلها41.
من عجائب القرآن أنه ركز على قضايا خاصة في حياة الناس، وحتى في أشد الظروف مرارة وقساوة، سواء في صحة أو سقم، في مرض أو موت، أو حرب أو سلم، فردًا أو جماعة، غنيًا أو فقيرًا، فسبحان من أودع العلوم في كتابه: (ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅﮆ) [الأنعام: ٣٨].
يتحدث القرآن عما يعتقده ذلك الكافر عند حضور الموت، واعتقاد المؤمن كذلك، ويتحدث عن توبة الإنسان عند موته، وعن وصية الإنسان وهو على عتبة الموت، ويعطي مثالًا رائقًا رائعًا عن وصية يعقوب لأبنائه عند موته. وسيكون بحثنا -بإذن الله -عن هذه المسائل:
أولًا: اعتقاد الكافر أن الموت نهاية المطاف:
يعتقد المكذبون بالبعث أن الموت هو النهاية العظمى وهو آخر المطاف، ولا بعث بعدئذ، حيث قالوا: (ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ) [المؤمنون: ٨٢-٨٣].
ثم اعتقدوا أن لا حياة بعد ذلك ولا نشورًا.
قال الله: (ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ) [الفرقان: ٤٠].
فزاد تكذيبهم وعنادهم وقالوا: (ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ)[الأنعام: ٢٩].
وقد سطرت الآيات الكريمة مشهدًا يصور منطق تلك العقلية التي نشأت على التكذيب بالبعث وظلم النفس والابتعاد عن الحق.
قال الله: (ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ) [يس: ٧٨-٨١].
روى ابن أبي حاتم بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: (جاء العاص بن وائل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعظم حائل، ففته بيده فقال: يا محمد أيحيي الله هذا بعدما أرم؟، قال: (نعم يبعث الله هذا، ثم يميتك، ثم يحييك، ثم يدخلك نار جهنم)42.
وقال الله: (ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ) [مريم: ٦٦].
واختلف هنا في من المقصود بالإنسان؟ هل هو عام، أم أنه قصد أحدًا بعينه؟. فقيل: العاص، وقيل: أبي بن خلف أو الوليد بن المغيرة43.
وأيًا كان، فكل من كان على هذه الشاكلة فهو مقصود، والمعنى: يقول المنكر للبعث، المستبعد لوقوعه: كيف يعيدني الله حيًا بعد الموت، وبعد ما كنت رميمًا؟44.
ولذا فإن الكافر بعد أن يعاين ما بعد الموت، يأخذ بالدعاء والتضرع بالرجوع إلى الدنيا مرة أخرى؛ ليستأنف عمله ويشرع بالحسنى، ولكن هيهات ساعتئذ.
قال الله: (ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖﯗ ﯘﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ) [المؤمنون: ٩٩-١٠٠].
وهو من كان يقول قبل: (ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ) [المؤمنون: ٣٥-٣٧].
ثانيًا: اعتقاد المؤمن أن الموت مرحلة:
وأما المؤمن، فإنه يعتقد بأن الموت ليس إلا طريقًا للدار الآخرة، وهو أول مراحلها؛ ولذا فقد أخبر الله تعالى أن مجيء الموت هو طريق لما بعده من نفخ الصور، ومجيء الشهود، ورؤية ما لم تره من قبل، فقال: (ﭳ ﭴ ﭵ ﭶﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ) [ق: ١٩-٢٢].
إن المخاطب بهذه الآيات هو الإنسان45، سواء كان مؤمنًا أم كافرًا، والمؤمن يقبله كعين يقين، فلا يشك بما جاء من عند الله.
ولما كانت نفرته منه وهربه من وقوعه بحفظ الصحة ودواء الأداء في الغاية، كان كأنه لا ينفر إلا منه، فأشار إلى ذلك بتقديم الجار فقال: (ﭻ ﭼ) 46.
قال أبو السعود رحمه الله: «بعدما ذكر استبعادهم للبعث والجزاء وأزيح ذلك بتحقيق قدرته تعالى وعلمه، وبين أن جميع أعمالهم محفوظة مكتوبة عليهم، أتبع ذلك ببيان ما يلاقونه لا محالة من الموت والبعث، وما يتفرع عليه من الأحوال والأهوال، وقد عبر عن وقوع كل منها بصيغة الماضي إيذانًا بتحقيقها وغاية اقترابها» 47.
وذكر سبحانه أن خروج الروح ما هي إلا مساق إليه، فليس خروجها نهاية الأمر، قال سبحانه: (ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ) [القيامة: ٢٦-٣٠].
قال السعدي رحمه الله: «يعظ تعالى عباده بذكر حال المحتضر عند السياق، وأنه إذا بلغت روحه التراقي، وهي العظام المكتنفة لثغرة النحر، فحينئذ يشتد الكرب، ويطلب كل وسيلة وسبب يظن أن يحصل به الشفاء والراحة، ولهذا قال: (ﭰ ﭱﭲ ﭳ) أي: من يرقيه؛ لأنهم انقطعت آمالهم من الأسباب العادية، فلم يبق إلا الأسباب الإلهية. ولكن قضاء الله إذا حتم فلا مرد له. (ﭵ ﭶ ﭷ) للدنيا. (ﭹ ﭺ ﭻ) أي: اجتمعت الشدائد والتفت، وعظم الأمر وصعب الكرب، وأريد أن تخرج الروح التي ألفت البدن ولم تزل معه، فتساق إلى الله تعالى، حتى يجازيها بأعمالها، ويقررها بفعالها»48.
ثم إن الموت إما جسر يمد للمؤمن إلى الجنة، أو جسر يمد للكافر إلى جهنم والعياذ بالله.
قال تعالى: (ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ) [الواقعة: ٨٣- ٩٥].
وبناء على ما تبين، فإن من الألفاظ التي نهى عنها أهل العلم: قول بعض الناس: (دفن فلان في مثواه الأخير)!! لأنه من المعلوم أن الموت والقبر ما هما إلا مرحلة بين الدنيا والآخرة، فبعدههما يأتي البعث ثم الحشر، ثم العرض في يوم القيامة ثم إلى جنة أو نار: (ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ) [الشورى: ٧].
ولذا فلو أطلقها إنسان معتقدًا ما ترمي إليه من المعنى الإلحادي الكفري المذكور؛ لكان كافرًا مرتدًا فيجب إنكار إطلاقها، وعدم استعمالها49.
ثالثًا: التوبة عند الموت:
التوبة: مأخوذة من (توب)، والتاء والواو والباء: أصل يدل على الرجوع 50. وتاب إلى الله تعالى من كذا وعن كذا: أناب ورجع عن المعصية إلى الطاعة51. والتوبة النصوح: هي توثيق العزم على أن لا يعود52.
والتوبة هي ترك الذنب مخافة الله، واستشعار قبحه، وندم على المعصية من حيث هي معصية، والعزيمة على ألا يعود إليها إذا قدر عليها، وتدارك ما أمكنه أن يتدارك من الأعمال53. وحقيقتها ليست فقط ترك الذنب، بل لابد فيها من التزام بأمر الله.
وقد أتت التوبة في القرآن على ثلاثة أوجه54:
أولًا: بمعنى الندم: كقوله تعالى: (ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ) [البقرة: ٥٤].
ثانيًا: بمعنى التجاوز: كقوله تعالى: (ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ) [التوبة: ١١٧].
ثالثًا: بمعنى الرجوع عن الشيء: كقول موسى عليه السلام: (ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ) [الأعراف: ١٤٣].
وقد أمر الله عباده بالتوبة فقال: (ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ) [النور: ٣١].
وبشرهم بقبولها بقوله: (ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ) [الشورى: ٢٥].
وفتح لهم باب الرجاء، بعفوه عنهم ومغفرته لهم، فقال: (ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ) [الزمر: ٥٣].
ولذا كان واجبًا على الخلق أن يبادروا بالتوبة إلى الله، بل واتفقت الأمة على ذلك 55، فإن فعلوا فقد أوجب الله على نفسه قبولها منهم في وقتها، فقال: (ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ) [النساء: ١٧].
وحتى تكون توبة العبد مقبولة عند الله، لابد وأن تكون في وقتها، ووقتها الذي قدره الله موسع، وهو من وقوع الذنب إلى ما قبل حضور الموت.
قال الله: (ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ) [النساء: ١٨].
يعني بذلك -جل ثناؤه-: وليست التوبة للذين يعملون السيئات من أهل الإصرار على معاصي الله حتى إذا حشرج أحدهم بنفسه، وعاين ملائكة ربه قد أقبلوا إليه لقبض روحه، ثم قال: وقد غلب على نفسه، وحيل بينه وبين فهمه، بشغله بكرب حشرجته وغرغرته: (ﮛ ﮜ ﮝ) يقول: فليس لهذا عند الله توبة؛ لأنه قال ما قال في غير حال توبة56.
وذكر هذا النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: (إن الله عز وجل ليقبل توبة العبد ما لم يغرغر)57، وقوله: (ما لم يغرغر) أي: ما لم تبلغ روحه حلقومه58.
ووقتها كذلك إلى ما قبل رؤية العذاب أو بعض علامات الساعة.
قال الله: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ) [الأنعام: ١٥٨].
وجمهور المفسرين على أن المقصود بقوله: (ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ) أي: طلوع الشمس من مغربها59.
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله: (لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا رآها الناس آمن من عليها، فذاك حين (ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ)). ثم قرأ الآية 60.
رابعًا: الوصية عند الموت:
الوصية في اللغة: أخذت هذه اللفظة من وصيت الشيء إذا أوصلته61.
أما شرعًا فتعني: تمليك مضاف إلى ما بعد الموت بطريقة التبرع62.
والوصية مشروعة بالكتاب والسنة وإجماع الأمة:
أما بالكتاب فلورود الآيات الكثيرة التي دلت على مشروعيتها.
قال الله: (ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩﯪ ﯫ ﯬ ﯭ) [البقرة: ١٨٠].
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه، يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده). قال ابن عمر: ما مرت علي ليلة منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك إلا وعندي وصيتي63.
ونقل ابن قدامة رحمه الله الإجماع على مشروعيتها64.
قال ابن عبد البر -رحمه الله: « أجمعوا على أن الوصية غير واجبة، إلا على من عليه حقوق بغير بينة، وأمانة بغير إشهاد، إلا طائفة شذت فأوجبتها » 65.
يخبرنا القرآن عن ذلك المشهد المؤثر بين يعقوب عليه السلام عندما حضرته الوفاة وأبنائه، ولنا أن نتخيل هذا المشهد بصورته المعهودة: أب مضطجع ومسجى في غطائه يكابد الموت، وأبناء حوله جلوس يرقبونه، ويتألمون لفراقه، عند ذلك يترك يعقوب الحديث عن الألم والفراق وينظر إلى ما هو أجل وأكمل.
ويسوق القرآن لنا هذا الحوار بين يعقوب وبنيه داعيا إلى تأمل الحوار.
قال الله: (ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ) [البقرة: ١٣٢- ١٣٣].
والكلمة التي وصى بها إبراهيم بنيه هي التي قال الله عنها: (ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ) [الزخرف: ٢٨]66، قال الطبري: «هي قوله: (ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ) [البقرة: ١٣١]67. قال ابن كثير: «وقد قرأ بعض السلف (ويعقوب) بالنصب عطفًا على بنيه، كأن إبراهيم وصى بنيه وابن ابنه يعقوب بن إسحاق وكان حاضرا ذلك»، ثم قال: «والظاهر -والله أعلم-، أن إسحاق ولد له يعقوب في حياة الخليل وسارة»68.
وكيف ينهاهم يعقوب عن الموت وليس الموت إليهم، فيصح أن ينهوا عنه؟.
والجواب: «أنهم لم ينهوا عن الموت، وإن كان اللفظ على ذلك، وإنما نهوا في الحقيقة عن ترك الإسلام؛ لئلا يصادفهم الموت عليه، فإنه لابد منه. وتقديره: اثبتوا على الإسلام؛ لئلا يصادفكم الموت وأنتم على غيره»69.
بعدها يبين الله مشهد يعقوب مع أبنائه الذين حضروا موته؛ ليوصيهم وصية مودع، لكنها على سبيل الاختبار، فلما سألهم أجابوه بما أطمأنت إليه نفسه، وقرت به عينه، بأنهم على دين التوحيد وأنهم لن يشركوا به، وسيعملون بما اعتقدوه (ﯰ ﯱ ﯲ) [البقرة: ١٣٣].
فجمعوا بذلك بين العلم والعمل 70. وبالرغم من كل ما قام به إخوة يوسف من جرائم إلا إنهم تمسكوا بدينهم. والحقيقة أن هذه أعظم الوصايا وأرفعها قدرًا وأعلاها شأنًا، كيف لا وهي مختصة بأرفع الأمور وهو توحيد الله، والبعد عن الشرك.
والموضع الآخر الذي ذكر الوصية عند الموت هو قوله تعالى: (ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ) [البقرة: ١٨٠-١٨١].
ومعنى الآية: فرض عليكم إذا حضرت لأحدكم مقدمات الموت وأسبابه وعلله، إن ترك مالًا أن يوصي للوالدين والأقارب، وهذا واجب على كل من يتقي الله71.
قال السعدي رحمه الله: «واعلم أن جمهور المفسرين يرون أن هذه الآية منسوخة بآية المواريث»72. «وليعلم أن الله لا يتعبد في وقت من الأوقات إلا بما فيه الحكمة البالغة»73.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «كان المال للولد، وكانت الوصية للوالدين، فنسخ من ذلك ما أحب، فجعل للذكر مثل حظ الأنثيين، وجعل للأبوين لكل واحد منهما السدس، للمرأة الثمن والربع، وللزوج الشطر والربع»74.
وأما الموضع الثالث فهو قول الله: (ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ) وفي الآية: (ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱﯲ) [النساء: ١١].
والآية التي تليها مباشرة (ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﮅ ﮆ ﮇ)، ثم: (ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ)، ثم: (ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ) [النساء: ١٢].
وهذه الآيات تبين أن الوصية أو الدين مقدمان على قسمة الميراث؛ لأن الدين حق على الميت والوصية حق له، وإذا كان الدين والوصية قد وقعا معا فيقدم الدين على الوصية75.
والموضع الأخير هو قوله تعالى: (ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ) [المائدة: ١٠٦].
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: خرج رجل من بني سهم مع تميم الداري وعدي بن بداء، فمات السهمي بأرض ليس بها مسلم، فلما قدما بتركته فقدوا جاما76 من فضة مخوصًا من ذهب، فأحلفهما رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- ثم وجدوا الجام بمكة، فقالوا: ابتعناه من تميم وعدي، فقام رجلان من أولياء السهمي، فحلفا لشهادتنا أحق من شهادتهما، وأن الجام لصاحبهم. قال: وفيهم نزلت هذه الآية: (ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ) [المائدة: ١٠٦]77.
قال ابن كثير رحمه الله: «الأكثرون على أن هذه الآية محكمة، وليس فيها نسخ، ومن ادعى النسخ فعليه البيان»78.
ومعنى الآيات يا أيها المؤمنون: إذا قرب الموت من أحدكم، فليشهد على وصيته اثنين أمينين من المسلمين، أو آخرين من غير المسلمين عند عدم وجود غيرهما من المسلمين، تشهدونهما إن أنتم سافرتم في الأرض فحل بكم الموت، وإن ارتبتم في شهادتهما فقفوهما من بعد الصلاة، فيقسمان بالله قسمًا خالصًا لا يأخذان به عوضًا من الدنيا، ولا يحابيان به ذا قرابة منهما، ولا يكتمان به شهادة لله عندهما، وأنهما إن فعلا ذلك فهما من المذنبين79.
ويمكن أن يستدل بهذه الآية الكريمة على عدة أحكام80:
أولًا: أن الوصية مشروعة، وأنه ينبغي لمن حضره الموت أن يوصي.
ثانيًا: تعظيم أمر الشهادة حيث أضافها تعالى إلى نفسه، وأنه يجب الاعتناء بها والقيام بها بالقسط.
ثالثًا: أنها معتبرة، ولو كان الإنسان وصل إلى مقدمات الموت وعلاماته، ما دام عقله ثابتًا.
رابعًا: أن شهادة الوصية لابد فيها من اثنين عدلين.
خامسًا: أن شهادة الكافرين في هذه الوصية ونحوها مقبولة لوجود الضرورة.
خامسًا: وقوع موت ثم حياة في الدنيا:
لما حصل إنكار من بعض البشر على قدرة الله في بعث الخلائق يوم القيامة، أعطى الله بعض الإشارات الواقعة في الدنيا؛ لتدل على صدق وقوعه في الآخرة، فأبانه الله حقيقة مشاهدة في أكثر من موطن، فأحيا بعض البشر، ومن قدر على هذا في الدنيا، هان عليه الأمر بعد.
وقد ذكرت سورة البقرة وحدها أمثلة متعددة على وقوع الموت ثم الحياة في الدنيا، وبيانه:
أخبر القرآن أن لا موت في الآخرة، وإنما هو خلود في الجنة أو النار، وسنوضح هذا المعنى فيما يأتي:
أولًا: حال الموت في الآخرة:
بعد كل هذا يبين لنا النبي صلى الله عليه وسلم نهاية الموت يوم القيامة وانتهاء أمره، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يؤتى بالموت كهيئة كبش أملح، فينادي مناد: يا أهل الجنة، فيشرئبون وينظرون، فيقول: هل تعرفون هذا؟، فيقولون: نعم، هذا الموت، وكلهم قد رآه. ثم ينادي: يا أهل النار، فيشرئبون وينظرون، فيقول: هل تعرفون هذا؟، فيقولون: نعم، هذا الموت، وكلهم قد رآه، فيذبح. ثم يقول: يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت. ثم قرأ: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ) (وهؤلاء في غفلة أهل الدنيا) (ﭚ ﭛ ﭜ) [مريم: ٣٩])81.
والمعنى من قوله عليه السلام: أن الموت سيجسد كهيئة كبش مختلط سواده ببياضه، وعندما ينادى الفريقان، سيرفعون أعناقهم ويمدونها للاطلاع على ما سيحدث من ذبح للموت.
وقول الله: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ) أي: وأنذرهم يوم القيامة، (ﭔ ﭕ ﭖ) أي: إذ فرغ من الحكم لأهل النار بالخلود فيها، ولأهل الجنة بمقام الأبد فيها، بذبح الموت. (ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ) أي: وهؤلاء المشركون في غفلة عما الله فاعل بهم يوم يأتونه خارجين إليه من قبورهم، من تخليده إياهم في جهنم، وتوريثه مساكنهم من الجنة غيرهم. (ﭚ ﭛ ﭜ) أي: وهم لا يصدقون بالقيامة والبعث، ومجازاة الله إياهم على سيئ أعمالهم، بما أخبر أنه مجازيهم به82.
والحكمة من الإتيان بالموت هكذا: إشارة إلى أنهم حصل لهم الفداء له كما فدي ولد إبراهيم بالكبش. والحكمة في جعله كبشًا أملح: حتى يجمع بين صفتي أهل الجنة والنار: وهي السواد والبياض83.
قال ابن القيم رحمه الله: «وهذا الكبش والإضجاع والذبح ومعاينة الفريقين حقيقة لا خيال ولا تمثيل، كما أخطأ فيه بعض الناس، وقال: الموت عرض، والعرض لا يتجسم فضلًا عن أن يذبح!. وهذا لا يصح؛ فإن الله سبحانه ينشئ من الموت صورة كبش يذبح، كما ينشئ من الأعمال صورًا معاينة يثاب بها ويعاقب...، ولا حاجة إلى تكلف من قال: إن الذبح لملك الموت!. فهذا كله من الاستدراك الفاسد على الله ورسوله، والتأويل الباطل الذي لا يوجبه عقل ولا نقل»84.
والحقيقة أن الله تعالى لا يعجزه شيء، وليس هذا بعزيز عليه، فهو قادر سبحانه أن ينشئ جسمًا من عرض، وأمثلته كثيرة في القرآن والسنة، ومنها:
جعل البقرة وآل عمران كالغمامتين85، والتسبيح والتحميد الذي يتعاطف حول العرش86، وتصوير العمل الصالح والسيئ في القبر87.
وبعد ذبح الموت بهذه الصورة، لك أن تتصور ذلك المشهد المهيب، وحالة كل من الفريقين: فريق في شقاء وتعاسة دائمين لا ينقطعان، وفريق في سعادة وحبور أبدي لا ينقطعان، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ينادي مناد: إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدًا، وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبدًا، وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبدًا، وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبدًا. فذلك قوله عز وجل: (ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ) [الأعراف: ٤٣])88.
ثانيًا: لا موت في الآخرة:
إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، وذبح الموت بينهما، فإنه لا موت بعدئذ، فأهل الجنة خلود فلا موت، وأهل النار خلود فلا موت.
وقد ساقت الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة الصورة العامة حيال هذا الخلود، ومعظم الآيات ساقت الكلام عن أصحاب النار.
قال الله في شأنهم: (ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ) [فاطر: ٣٦].
لذا فعذاب الدنيا إما أن تموت عنه، أو يموت عنك، أو يألفه البدن المعذب. أما عذاب الآخرة فلن تموت عنه، ولن يفنى عنك، ولن يألفه البدن؛ لأنه يلون ولا يخفف. (ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ) [النساء: ٥٦].
ويصور لنا القرآن ذلك المشهد النفسي الذي يعيشه الكافر في النار، حتى أنه يرى الموت يحيط به ويأتيه من كل مكان فيها، لكنه لن يذوقه.
قال الله: (ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ) [إبراهيم: ١٥- ١٧].
والحقيقة أن المشهد هنا عجيب، «إنه مشهد الخيبة لكل جبار عنيد، مشهد الخيبة في هذه الأرض. ولكنه يقف هذا الموقف، ومن ورائه تخايل جهنم وصورته فيها، وهو يسقى من الصديد السائل من الجسوم، يسقاه بعنف فيتجرعه غصبًا وكرهًا، ولا يكاد يسيغه؛ لقذارته ومرارته. والتقزز والتكره باديان، نكاد نلمحهما من خلال الكلمات!. ويأتيه الموت بأسبابه المحيطة به من كل مكان، ولكنه لا يموت؛ ليستكمل عذابه. ومن ورائه عذاب غليظ»89.
ولننظر هنا إلى كلمة (غليظ)، كم تعطي من دلالات مروعة لهذا المشهد المهيب، وأغلب ورود هذه الكلمة في القرآن في شأن العذاب أو الميثاق؛ لشدة وغلظ الأمرين، وأتت الكلمة كذلك مع قتال الكفار؛ ليجد هؤلاء الغلظة والعذاب الأليم من الثلة المؤمنة المجاهدة التي عقدت المواثيق بقتالهم: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ) [التوبة: ١٢٣].
ولذلك لو أن الموت يقدم إلى هذا المعذب في هذه اللحظات العصيبة، لكان أخف وطأة، ولكنه يراه يحوم حوله بأسبابه ودوافعه ودواعيه، دون أن يصيبه.
وبعد كل هذه الآلام والعذابات التي يتعرض لها هذا العنيد، يجد لنفسه مخرجًا من هذا البلاء، وهو أن يطلب من مالك -خازن النار- أن يشفع لهم عند الله، بأن يقضي عليهم.
قال الله: (ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪﭫ ﭬ ﭭ ﭮ) [الزخرف: ٧٧].
وإن قيل: كيف وصف أهل النار فيها بأنهم مبلسون؟، والبلس: هو الآيس من الرحمة والفرج 90، ثم قال بعدها: (ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ) الدال على طلبهم الفرج بالموت؟ فيجاب عنه: بأن كل منهما وقع في زمن؛ لأن أزمنة يوم القيامة متعددة91.
وهنا أتى بالفعل الماضي (ﭦ) لتحقق وقوعه، وقولهم: (ﭧ) هو خازن النار، وقد وردت أحاديث صحيحة في ذلك، منها: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (رأيت الليلة رجلين أتياني قالا: الذي يوقد النار مالك خازن النار، وأنا جبريل وهذا ميكائيل)92.
قال صديق خان: «قرأ الجمهور: (ﭧ) بغير الترخيم، وقرىء: (يا مال) بالترخيم، قيل لابن عباس: إن ابن مسعود قرأ: (يا مال)، فقال: ما أشغل أهل النار عن الترخيم»93.
قال الطبري رحمه الله: «ونادى هؤلاء المجرمون بعد ما أدخلهم الله جهنم، فنالهم فيها من البلاء ما نالهم، مالكًا خازن جهنم، (ﭧ ﭨ ﭩ ﭪﭫ) قال: ليمتنا ربك، فيفرغ من إماتتنا، فذكر أن مالكًا لا يجيبهم في وقت قيلهم له ذلك»94.
وروى الطبري كذلك بسنده قال: «(ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪﭫ) قال: فخلى عنهم أربعين عامًا لا يجيبهم، ثم أجابهم: (ﭭ ﭮ) قالوا: (ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ) فخلى عنهم مثلي الدنيا، ثم أجابهم: (ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ) قال: فوالله ما نبس القوم بعد الكلمة، إن كان إلا الزفير والشهيق»95. ويكفي الإشارة إلى باقي الآيات التي نفت موت الكفار في النار، وهي قوله تعالى على لسان السحرة: (ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ) [طه: ٧٤].
وقوله تعالى: (ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ) [الأعلى: ١٠- ١٣].
أما في شأن المؤمنين يوم القيامة ونفي الموت عنهم، فقد قال الله: (ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ) [الدخان: ٥٥-٥٧].
والمعنى: أنهم لا يذوقون فيها الموت ألبتة، سوى الموتة الأولى التي ذاقوها في الدنيا96.
وعلى هذا كيف يستثني الموتة الأولى التي ذاقوها في الدنيا من الموت الذي لن يحدث لهم في الجنة؟. والجواب على هذا من وجوه:
الأول: هو من باب التعليق بالمحال، كأنه قيل: إن كانت الموتة الأولى يستقيم ذوقها في المستقبل، فإنهم يذوقونها97.
الثاني: أن (إلا) هنا: بمعنى (لكن)، والتقدير: لا يذوقون فيها الموت، لكن الموتة الأولى قد ذاقوها.
الثالث: أن الجنة حقيقتها ابتهاج النفس وفرحها بمعرفة الله تعالى وبطاعته ومحبته، وإذا كان الأمر كذلك فإن الإنسان الذي فاز بهذه السعادة فهو في الدنيا في الجنة وفي الآخرة أيضًا في الجنة، وإذا كان الأمر كذلك فقد وقعت الموتة الأولى، حين كان الإنسان في الجنة الحقيقية التي هي جنة المعرفة بالله والمحبة.
الرابع: أن من جرب شيئًا ووقف عليه صح أن يقال: إنه ذاقه، فيكون المعنى هنا: إلا الذوق الحاصل بسبب تذكر الموتة الأولى98.
ثم كيف يوجه قول الله تعالى عن أهل النار وأهل الجنة أنهم خالدون فيها إلا ما شاء الله.
قال الله: (ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ) وقال في شأن أهل الجنة: (ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊﰋ ﰌ ﰍ ﰎ) [هود: ١٠٨].
فهل إيراد المشيئة هنا يدل على أنهم غير مخلدين فيها؟.
أجاب ابن قتيبة رحمه الله عن هذا الإشكال على ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: أراد أنهم خالدون فيها مدة العالم، سوى ما شاء الله أن يزيدهم من الخلود على مدة العالم. ثم قال: (ﰌ ﰍ ﰎ) [هود: ١٠٨]. أي: غير مقطوع.
الوجه الثاني: أن يكون المعنى: خالدين في الجنة وخالدين في النار دوام السماء والأرض، إلا ما شاء ربك من تعميرهم في الدنيا قبل ذلك.
الوجه الثالث: أن يكون المعنى: خالدين في النار ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك من إخراج المذنبين من المسلمين إلى الجنة، وخالدين في الجنة ما دامت السموات والأرض، إلا ما شاء ربك من إدخال المذنبين النار مدة من المدد، ثم يصيرون إلى الجنة99.
موضوعات ذات صلة: |
الإهلاك، البعث، الحذر، الحياة، الخلق، الخوف، القبر، القتل، الملائكة، اليوم الآخر |
1 مقاييس اللغة، ابن فارس ٥/٢٨٣.
2 انظر: مختار الصحاح، الرازي ١/٣٠١.
3 انظر: لسان العرب، ابن منظور ٢/٩١، تاج العروس، الزبيدي ٥/١٠٠.
4 انظر: التعريفات، الجرجاني ص٢٣٥.
5 التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة، القرطبي ص١١٢.
6 انظر: المجموع، النووي ٥/١٠٥.
7 التوقيف على مهمات التعاريف، المناوي ص ٣١٨.
8 انظر: المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، محمد فؤاد عبد الباقي، ص٦٧٨-٦٨٠، المعجم المفهرس الشامل، عبد الله جلغوم، ص١٢٩٢-١٢٩٦.
9 انظر: الوجوه والنظائر، الدامغاني، ص٤٢٠-٤٢١، نزهة الأعين النظائر، ابن الجوزي، ص٥٦٩-٥٧١، عمدة الحفاظ، السمين الحلبي، ٤/١٢٢-١٢٥.
10 انظر: مقاييس اللغة، ابن فارس ٤/٤٥٣.
11 الصحاح، الجوهري ٦/٢٤٥٧.
12 التوقيف على مهمات التعاريف، المناوي ص ٢٦٤.
13 مقاييس اللغة، ابن فارس ٥/٥٦.
14 الصحاح، الجوهري ٥/١٧٩٧.
15 انظر: التوقيف على مهمات التعاريف، المناوي ص٢٦٨.
16 انظر: الفروق اللغوية، العسكري ص١٠٤.
17 انظر: مقاييس اللغة، بن فارس ٤/٢٤٨.
18 انظر: الصحاح، الجوهري ٥/١٩٨٢.
19 إحياء علوم الدين، الغزالي ٤/٤٩٥.
20 في ظلال القرآن، سيد قطب ١/٢٩٨.
21 الكشاف، الزمخشري ٤/٥٧٥.
22 تفسير ابن أبي حاتم ١٠/ ٣٣٦٣.
23 المغني، ابن قدامة ٢/٣٠٧.
24 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٧/ ٤٩٤.
25 القيامة الصغرى، عمر الأشقر ص١٨.
26 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: (وهو العزيز الحكيم)، ٦/ ٢٦٨٨، رقم ٦٩٤٨.
27 أضواء البيان، الشنقيطي ٨/١٢٠.
28 تفسير الشعراوي٤/٢٤٣٦.
29 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ١٩/٩٣.
30 فتح القدير، الشوكاني ٥/٣٣٥.
31 التفسير الميسر، مجمع الملك فهد ص ٣٤٨.
32 انظر: تفسير ابن أبي حاتم ٣/٩٠٠.
33 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٢/٢٣٨.
34 فتح القدير، الشوكاني ٢/٢٠٢.
35 جامع البيان، الطبري ٢٣/١٣٧.
36 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب القدر، باب بيان أن الآجال والأرزاق وغيرها لا تزيد ولا تنقص عما سبق به القدر، ٤/٢٠٥٠، رقم ٢٦٦٣.
37 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٦/٣٥٥.
38 الأسماء والصفات، البيهقي ١/٦٣.
39 المفردات، الراغب الأصفهاني ص٢٧٩.
40 دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب، الشنقيطي ص١٨٤.
41 أنموذج جليل في أسئلة وأجوبة عن غرائب آي التنزيل، الرازي ص٤٠٩.
42 تفسير ابن أبي حاتم ١٠/ ٣٢٠٢.
وصححه الوادعي، في الصحيح المسند من أسباب النزول ص١٧٤.
43 فتح البيان، صديق خان ٨/١٨٣.
44 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص٤٩٨.
45 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٧/٣٩٩.
46 نظم الدرر، البقاعي ١٨/٤٢٣.
47 إرشاد العقل السليم، أبو السعود ٨/١٢٩.
48 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص٩٠٠.
49 المناهي اللفظية، بكر أبو زيد ٤٧٦.
50 مقاييس اللغة، ابن فارس ١/٣٥٧.
51 لسان العرب، ابن منظور ١/٢٣٣.
52 التوقيف على مهمات التعاريف، المناوي ص٢١٣.
53 التوبة إلى الله، صالح السدلان ص١٠.
54 قاموس القرآن، الدامغاني ص٩٠.
55 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٥/٩٠.
56 جامع البيان، الطبري ٨/٩٨-٩٩.
57 أخرجه الترمذي في سننه، أبواب الدعوات، ٥/٥٤٧، رقم ٣٥٣٧.
قال الترمذي: حسن غريب.
وحسنه الألباني في صحيح الجامع، ١/٣٨٦، رقم ١٩٠٣.
58 قوت المغتذي على جامع الترمذي، السيوطي ٢/٩٥٥، رقم ٣٥٣٧.
59 فتح البيان، صديق خان ٤/٢٨٣.
60 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، باب (لا ينفع نفسًا إيمانها)، ٦/٥٨، رقم ٤٦٣٥.
61 لسان العرب، ابن منظور ١٥/٣٩٤.
62 حاشية ابن عابدين ٦/٦٤٧.
63 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الوصايا، باب الوصايا، ٣/١٠٠٥، رقم ٢٥٨٧.
64 المغني، ابن قدامة ٦/١٣٧.
65 المجموع، النووي ١٥/٤٠١.
66 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ١/٤٤٦.
67 جامع البيان، الطبري ٣/٩٣.
68 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ١/٤٤٦.
69 النكت في القرآن الكريم، المجاشعي ص١٥٤.
70 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص٦٦.
71 معالم التنزيل، البغوي ١/١٩٢.
72 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص٨٥.
73 معاني القرآن، الزجاج ١/٢٥٠.
74 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الوصايا، باب لا وصية لوارث، ٣/ ١٠٠٨، رقم ٢٥٩٦.
75 انظر: النكت والعيون، الماوردي ١/٦٥٩.
76 الجام: الكأس أو الإناء. ومخوصًا أي: منقوشًا.
انظر: فتح الباري،ابن حجر ٥/٤١٠-٤١١.
77 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الوصايا، ٤/١٣، رقم ٢٧٨٠.
78 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٣/٢١٥.
79 التفسير الميسر، مجمع الملك فهد ص١٢٥.
80 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص٢٤٦.
81 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، باب تفسير سورة مريم، ٤/١٧٦٠، رقم ٤٤٥٣.
82 جامع البيان، الطبري ١٨/٢٠١-٢٠٢.
83 فتح الباري، ابن حجر ١١/٤٢٠.
84 حادي الأرواح، ابن القيم ص٤٠٢.
85 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل قراءة القرآن، ١ /٥٥٣، رقم ٨٠٤.
86 أخرجه أحمد في مسنده، ٣٠/ ٣١٢، رقم ١٨٣٦٢.
87 أخرجه أحمد في مسنده، ٤/٢٨٧، رقم ١٨٥٥٧.
88 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب في دوام نعيم أهل الجنة، ٨/١٤٨، رقم ٧٢٥٩.
89 في ظلال القرآن، سيد قطب ٤/ ٢٠٩٣.
90 لسان العرب، ابن منظور ٦/٣٠.
91 فتح الرحمن، ابن جماعة ص٥١٥.
92 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب بدء الخلق، باب إذا قال أحدكم: آمين، والملائكة في السماء فوافقت إحداهما الأخرى غفر له ما تقدم من ذنبه، ٣/ ١١٨٢، رقم ٣٠٦٤.
93 فتح البيان، صديق خان ١٢/ ٣٧٥.
94 جامع البيان، الطبري ٢١/٦٤٠.
95 المصدر السابق ٢١/ ٦٤٥.
96 معاني القرآن وإعرابه، الزجاج ٤/٤٢٩.
97 الكشاف، الزمخشري ٤/٢٨٣.
98 انظر: مفاتيح الغيب، الرازي ٢٧/٦٦٦.
99 تأويل مشكل القرآن، ابن قتيبة ص٥٣.