عناصر الموضوع

مفهوم اللهو

اللهو في الاستعمال القرآني

الألفاظ ذات الصلة

تنزيه الله تعالى عن اللهو

ضوابط اللهو

الملهيات الدنيوية

اللهو بالدين

الملهى عنه

علاج اللهو

عاقبة اللهو

اللهو

مفهوم اللهو

أولًا:المعنى اللغوي:

تدور كلمة لهو على معنى الانشغال عن شيءٍ بشيءٍ آخر، بما يؤدي إلى نسيانه، أو الإعراض عنه قصدًا أو بغير قصدٍ1.

والملاهي: آلات اللهو2.

ويأتي اللهو بمعنى: الإعراض عن الشيء، والدنو والاقتراب، ومحبة الشيء والتعلق به3.

ثانيًا: المعنى الاصطلاحي:

قال الراغب: اللَهْوُ: ما يشغل الإنسان عما يعنيه ويهمه4.

وقال الجرجاني: اللهو: هو الشيء الذي يتلذَذ به الإنسان فيلهيه، ثم ينقضي5.

اللهو في الاستعمال القرآني

وردت مادة (لـهو) في القرآن الكريم (١٦) مرة 6.

والصيغ التي وردت هي:

الصيغة

عدد المرات

المثال

الفعل الماضي

١

( ﮍ ﮎ ) [التكاثر:١-٢]

الفعل المضارع

٤

( ) [النور:٣٧]

المصدر

١٠

( ) [الجمعة:١١]

اسم الفاعل

١

( ) [الأنبياء:٣]

وجاء اللهو في القرآن على وجهين 7:

الأول: ما يتلهى به ويشغل، من زوج أو ولد أو مال أو غناء أو غير ذلك من الشواغل، على معناه اللغوي: ومنه قوله تعالى: ( ) [الأنبياء: ١٧]. يعني: زوجة، وقيل: ولدا.

الثاني: السخرية والاستهزاء: ومنه قوله تعالى: ( ) [الأنعام: ٧٠]. يعني: باستهزائهم به.

الألفاظ ذات الصلة

العبث:

العبث لغة:

يقول ابن فارس: (العبث، هو الفعل لا يفعل على استواءٍ وخلوص صوابٍ. تقول: عبث يعبث عبثًا، وهو عابثٌ بما لا يعنيه وليس من باله، وفي القرآن: ( ) [المؤمنون: ١١٥].

أي: لعبًا) 8.

وقد عبث يعبث عبثًا فهو عابث: لاعب بما لا يعنيه وليس من باله9.

العبث اصطلاحًا:

قال القشيري: (العبث: اللهو، واللعب والاشتغال بما يلهي عن الحق) 10.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (إن العبث هو الفعل الذي ليس فيه مصلحةٌ ولا منفعةٌ ولا فائدةٌ تعود على الفاعل)11.

الصلة بين العبث واللهو:

اللهو والعبث يشتركان في أن كل منهما يقصد من غير هدف، ومشغل عن أمور مهمة، ويخلوان عن النفع الديني، والدنيوي الجاد12 .

اللعب:

اللعب لغة:

اللعب واللعب: ضد الجد، لعب يلعب لعبًا ولعبًا، ولعب، وتلاعب، وتلعب مرة بعد أخرى13.

ويقال لكل من عمل عملًا لا يجدي عليه نفعًا: إنما أنت لاعبٌ14.

اللعب اصطلاحًا:

اسمٌ لقولٍ أو فعلٍ يراد به المزح والهزل لتمضية الوقت أو إزالة وحشة الوحدة، أو السكون، أو السكوت، أو لجلب فرحٍ ومسرةٍ للنفس، أو يجلب مثل ذلك للحبيب، أو يجلب ضده للبغيض، كإعمال الأعضاء وتحريكها دفعًا لوحشة السكون، والهذيان المقصود لدفع وحشة السكوت، ومنه العبث، وكالمزح مع المرأة لاجتلاب إقبالها ومع الطفل تحببًا أو إرضاءً له15.

الصلة بين اللعب واللهو:

اللعب تقديم شيء على غيره من غير إهمال للثاني إنما يأتي بعده، مثال ذلك من يقول: بعد هذا الشغل، أشتغل بالعبادة والآخرة.

وأما اللهو فالاشتغال بشيء إلى حد الاستغراق فيه والإعراض عن غيره، فالدنيا للبعض لهو يشتغل به، وينسى الآخرة بالكلية16.

وكلاهما فيه انشغال عن المهمات من الأعمال بأخرى ليست ذات أهمية.

وكلاهما يخلو من مقصد يحقق منفعة حقيقيةً في الحياة.

وآثارهما لا تدوم؛ بل هي سريعة الزوال.

تنزيه الله تعالى عن اللهو

إن من الأصول الواجب اعتقادها، أن الله تعالى منزه عن كل نقيصة، أو عيب في ذاته جل جلاله، وفيما يصدر عنه، سبحانه وتعالى، من خلق وأمر، وذلك ممكن الوصول إليه، والتعرف عليه نصًا وعقلا؛ فأما النصوص الدالة على ذلك فهي كثيرة، وقد تعددت الأساليب المستعملة في هذه النصوص، فمنها مثبت للخلق الحق منها قوله تعالى: ( ) [الحجر:٨٥].

وقوله تعالى: ( ﮣﮤ ) [الأحقاف: ٣].

ومنها ما جاء نافيا للعبثية، واللعب من مقصد هذا الخلق كما في قوله تعالى: ( ﭿ ) [الأنبياء: ١٦]( ﭗﭘ ﭜﭝ ) [ص: ٢٧].

وتتعدد مقاصد الخلق التي من أجلها خلق الله تعالى هذا الكون العظيم، ويظهر لك من خلال الأمور الآتية:

أولًا: دلائل الخلق المبثوثة في أرجاء السماوات والأرض وما بينهما، والمقصد من خلقها، إنما هو تحفيز العقول، واستنفار لطاقاتها؛ من أجل أن تجول في أنحاء هذا الكون فتبحث عن خالقه، وتعظمه في جميل خلقه وبديعه، كما جاء في قوله تعالى: ( ) [آل عمران: ١٩١].

«ومعنى ما خلقت هذا باطلًا أي: خلقًا باطلًا، أو ما خلقت هذا في حال أنه باطلٌ، فهي حالٌ لازمة الذكر في النفي وإن كانت فضلة في الإثبات، كقوله: (ﯿ ) [الدخان: ٣٨].

فالمقصود نفي عقائد من يفضي اعتقادهم إلى أن هذا الخلق باطلٌ أو خليٌ عن الحكمة، والعرب تبني صيغة النفي على اعتبار سبق الإثبات كثير»17.

يقول رشيد رضا أيضًا، في بيان هذه الآية: «أما معنى كون هذا الخلق لا يكون باطلًا، فهو أن هذا الإبداع في الخلق، والإتقان للصنع لا يمكن أن يكون من العبث والباطل، ولا يمكن أن يفعله الحكيم العليم لهذه الحياة الفانية فقط، كما أن الإنسان الذي أوتي العقل الذي يفهم هذه الحكم، ودقائق هذا الصنع، وكلما ازداد علمًا حتى إنه لا حد يعرف لفهمه وعلمه، لا يمكن أن يكون وجد ليعيش قليلًا، ثم يذهب سدًى، ويتلاشى فيكون باطلًا، بل لا بد أن يكون باستعداده الذي لا نهاية له قد خلق ليحيا حياةً لا نهاية لها، وهي الحياة الآخرة التي يرى كل عامل فيها جزاء عمله»18.

والتفكر من أعظم الأسباب الموصلة الدالة إلى أن منشئ هذه المصنوعات البديعة له القدرة التامة، والعلم، والأحدية، إلى سائر الصفات العلية.

ثانيًا: النواميس والقوانين التي خلقها الله لتنظيم أمور هذا الكون بجميع مكوناته، آية دالة على قدرته، وحكمته، سبحانه وتعالى، فكل شيء خلقه الله بقدر كما قال: ( ) [القمر: ٤٩].

وقوله تعالى: ( ) [الرعد: ٨].

«والمراد: أن خلق الله الأشياء مصاحبٌ لقوانين جاريةٍ على الحكمة»19.

وقد أسهب سيد قطب رحمه الله في ذكر كثير من الأمثلة الدالة على بديع خلق الله تعالى، ودقة صنعه، فذكر دقة التناسق بين أبعاد النجوم والأجرام السماوية، وأحجامها، وكتلها، وجاذبيتها لبعض، ما مكن العلماء من تحديد مواقع نجوم أخرى بناء على ذلك، وذكر التناسق البديع بين القوانين الأرضية؛ لتكون صالحة لحياة جميع المخلوقات على ظهرها دون اختلال لأي منها أو طغيان على آخر، يقول سيد: «كل شيء، كل صغير وكل كبير. كل ناطق وكل صامت. كل متحرك وكل ساكن. كل ماض وكل حاضر. كل معلوم وكل مجهول. كل شيء خلقناه بقدر قدر يحدد حقيقته. ويحدد صفته. ويحدد مقداره. ويحدد زمانه. ويحدد مكانه. ويحدد ارتباطه بسائر ما حوله من أشياء. وتأثيره في كيان هذا الوجود. وإن هذا النص القرآني القصير اليسير ليشير إلى حقيقة ضخمة هائلة شاملة، مصداقها هذا الوجود كله، حقيقة يدركها القلب جملة وهو يواجه هذا الوجود، ويتجاوب معه، ويتلقى عنه، ويحس أنه خليقة متناسقة تناسقًا دقيقًا. كل شيء فيه بقدر يحقق هذا التناسق المطلق، الذي ينطبع ظله في القلب جملة وهو يواجه هذا الوجود»20.

ثالثًا: تكرر ذكر ( ) في الآيات التي ذكرت خلق السماوات والأرض، وهذا يقصد به في المقام الأول، أشرف المخلوقات على الأرض وهو الإنسان؛ لأنه المخاطب بالعبادة والإعمار21، فخلقه ليس عبثا، ووجوده ليس سدًا، إنما هو خاضع للقوانين الإلهية التي تسير الكون، وتضبط حركته، فيجازى أو يعاقب بحسب حاله وليس هناك ثمة محاباة لأحد، فقد يمهل الظالمون برحمة من الله تعالى لحكمة استبقاء عمران جزء من الأرض زمانًا، ويهلكون حين يستوفون شروط الإهلاك والعذاب إحقاق لحكمة أخرى وهي العدل والاقتصاص من الظالم. لذا يكثر تعقيب نظام خلق السماوات والأرض بذكر الجزاء العاجل المتمثل بإهلاك الأمم الظالمة بعذاب إلهي فوري كالإهلاك بالطوفان والصيحة والريح الصرصر، أو متدرج كالأمراض الفتاكة والخلافات المفضية إلى الاقتتال الدامي. أو يعقب بذكر البعث والجزاء يوم القيامة تذكيرا بأنه لن يفلت أحد من الجزاء العدل عند الله سبحانه وتعالى22.

رابعًا: الأحكام والقواعد التي شرعها الله تعالى لتسيير مصالح عباده فيما فيه نفعهم وصلاحهم، من خلال إرسال الرسل وإنزال الكتب 23، فمن عدل الله تعالى وحكمته أن لا يترك الناس سدى يسيرون أمورهم وفق أهوائهم وشهواتهم، ذلك أن عقل الإنسان قاصر في كثير من الأحيان عن إدراك الأحكام والقوانين التي تحقق له المصالح الدنيوية والأخروية، فضلا عن أن اتجاهات التفكير لدى الناس متفاوتة نظرا لتفوات مداركهم، وطرق تفكيرهم واختلاف الظروف المحيطة بهم24.

ضوابط اللهو

أولًا: ضوابط اللهو:

بعد الوقوف أمام حقيقة اللهو في اللغة والاصطلاح، لا بد لنا، من التعرف على القواعد التي تضبط التصرفات والسلوكيات فيتميز من خلالها اللهو عن الجد، وقد سعى العلماء إلى تأصيل القواعد الواضحة الدالة على ذلك، مستندين إلى الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، وبعد البحث والتقصي، وجدت أن عمدتهم في ذلك، قول الله تعالى: ( ) [لقمان: ٦].

وأربعة من الأحاديث النبوية، وكان السبق في التقعيد للإمام البخاري رحمه الله وضع القاعدة الأولى وهي: أن لا يشغل السلوك أو التصرف عن طاعة وذلك واضح في ترجمته لأحد الأبواب بقوله: باب كل لهوٍ باطل إذا شغله عن طاعة 25 وتبعه في ذلك الإمام ابن بطال في شرحه للصحيح وزاد ضابطا آخر وهو: أن يكون اللهو قليلًا وليس بكثير! 26.

ويستدل لذلك بحديث عائشة في نظرها إلى الأحباش وهم يتلاعبون في المسجد، وغناء الجاريتين في بيتها يوم العيد27، وحضورها زفاف امرأة إلى رجل من الأنصار28.

ثم جاء الإمام الخطابي وأضاف ضابطا آخر، وهو: أن يكون التصرف أو السلوك معينًا على الحق أو ذريعة إليه، فإن لم يكن كذلك كان من اللهو 29.

وقد استنبط هذا الضابط من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:وكل ما يلهو به المرء المسلم باطلٌ، إلا رميه بقوسه، وتأديبه فرسه، وملاعبته امرأته، فإنهن من الحق)30.

وذهب ابن تيمية إلى أن اللهو له ضابطان، الأول: ليس فيه منفعة، والآخر: لا يكون محرمًا31.

كذلك قعد الشاطبي قاعدتين استخرجهما من حديث عامر بن عقبة هما: أن يكون الأمر مباحًا يخدم أمرًا ضروريًا كالنسل، والآخر: أن يكون مباحًا ويخدم أصلًا تكميليًا كاللعب بالسهام وتأديب الفرس32، فإن لم يتوفر أحد هذين الشرطين كان الأمر لهوًا.

وبذلك تتلخص الضوابط التي تحكم أن هذا الأمر لهوٌ أو جدٌ بالنقاط الآتية:

  1. إن التزيين نسب للشيطان.

    وذلك حين يتسلط على الكفار والضالين، فيحسن لهم كل ما يؤدي إلى الحرام، ويستر لهم قبح أعمالهم، فيواصلون غيهم، ويصدون عن سبيل الله القويم، وقد ورد ذلك، في عدة مواضع منها: قوله تعالى: ( ﯿ) لنحل: ٦٣].

    وقد قال تعالى في شأن قوم بلقيس، لما عبدوا الشمس من دون الله: ( ) [النمل: ٢٤] ( ﯣﯤ ) [العنكبوت: ٣٨].

  2. إن الله تعالى نسب التزيين إلى نفسه.

    ويأتي هذا التزيين على ضربين:

    الأول: يتعلق بأعمال الإنسان وكسبه، وقد ورد ذلك في عدة مواضع من القرآن الكريم؛ منها قول الله تعالى: ( ﯘﯙ ) [الأنعام: ١٠٨].

    وقوله أيضا: ( ) [النمل: ٤]وقوله تعالى:( ﭿ ) [الحجرات: ٧].

    والمقصود بالتزيين في الآيتين الأوليين: أن الله تعالى خلق في النفوس البشرية من المحبة للخير أو الشر والاتباع لطرقه45.

    «والبشر يستحسنون ما يجرون عليه ويتعودونه مما كان عليه آباؤهم أو مما استحدثوه بأنفسهم، فسبب التزيين في الأول أنسهم به كونه من شئون أمتهم، التي يعد مدحها مدحًا لها ولهم، وذمها عارًا عليها وعليهم، وزد على ذلك في الثاني ما يعطيه العلم من كون ذلك حقًا وخيرًا في نفسه يترتب عليه فضلهم على غيرهم فيه وفي الجزاء عليه، فيظهر بذلك أن التزيين أثرٌ لأعمال اختيارية لا جبر فيها ولا إكراه»46.

    وتزيين الله تعالى للإيمان في الآية الثالثة، يقصد به توفيقه لعباده المؤمنين لقبولهم الحق بما أودعه في قلوبهم من محبة القلب وإيثاره، وما رافق الحق من حجج قاطعة تدل عليه، فيستقيم في القلب راسخًا لا يتزحزح 47.

    الآخر: يتعلق بخلق الله تعالى، وبديع صنعه، والمتتبع لهذه الآيات يلحظ أن التزيين خصت به السماء في معظم الآيات، وهي على النحو الآتي:

    قال تعالى: ( ) [الحجر: ١٦].

    وقال تعالى: ( ) [الصافات: ٦].

    وقال تعالى: ( ) [ق: ٦].

    وقال تعالى: ( ﮏﮐ ) [الملك: ٥].

    ويبدو أن سبب التركيز على عرض زينة السماء، يعود إلى كون البروج العظيمة الدائرة فيها، لا تغيب عن ناظر أحد، فجعلت أشكالًا تقع موقع الحسن في الأنظار؛ للدلالة على عظيم قدرة الله، وبديع صنعه، وانفراده بالخلق، ولو صدق الكفار في دعواهم المستمرة بطلب المعجزات من أجل الإيمان، لكفتهم هذه المعجزة السماوية في تحقيق مطلبهم48.

  3. ذكر التزيين غير مسمى إلى فاعله.

    وقد ورد هذا، في تسعة مواضع؛ اختصت ثمانية منها للحديث عن تزيين الأعمال للكفار أو المنافقين، واختلفت أقوال المفسرين في إسناد فعل التزيين على عدة أوجه؛ فمنهم من قال: إن فعل التزيين منسوب إلى الله تعالى. وقال آخرون: إن إسناد الفعل للشيطان. في حين ذهب آخرون إلى أن المزين هم الرؤساء للمرؤوسين49.

    المقصود الإلهي من تزيين الدنيا وزخرفتها:

    قبل الحديث عن الحكمة الإلهية من تزيين الدنيا وزخرفتها، لا بد من تقرير قاعدة مهمة، وهي أن أصل الزينة في الحياة الدنيا أمرٌ ليس بمذمومٍ في نفسه وذاته إذا روعي فيه ما أوصى الله برعيه، دليل ذلك من المنقول، قول الله تعالى: ( ) [الأعراف: ٣٢].

    أما دليله من المعقول، فإن الناظر يرى، أن الله تعالى أودع في جنس البشر حبًا للعلم والمعرفة، وميلًا للشهوات الحسية والعقلية، والزينة الصورية والمعنوية، فانطلقوا تلبية لذلك نحو استكشاف كل مجهول يواجهونه في حياتهم، «فكانت غريزة حب الزينة وغريزة حب الطيبات من الرزق سببًا لتوسع البشر في أعمال الفلاحة والزراعة وما يرقيها من فنون الصناعة وسائر وسائل العمران، وإظهار عجائب علم الله وحكمته وقدرته في العالم ورحمته وإحسانه بالخلق»50، فكانت بذلك سببًا من أسباب التقدم والرقي؛ لذا فهي غير مذمومة في ذاتها، إنما تقترن بها أشياء تذم لأجلها؛ كالإسراف فيها، بحيث تشغل عن عبادة الله تعالى، أو عن معالي الأمور، وإضاعة الوقت الطويل في التلذذ بها، وسلوك سبل غير قويمة للحصول عليها، واستعمالها وسيلة للصد عن طاعة الله وعبادته.

    والأدلة على ذلك كثيرة منها: قوله تعالى: ( ) [يونس: ٨٨].

    وقوله تعالى: ( ﭴﭵ ﭽﭾ ﭿ ) [القصص: ٧٩].

    أما عن تزيين الدنيا، وما عليها من موجودات، فله حكم إلهية عديدة، جاءت في قوله تعالى: ( ) [الكهف: ٧ ].

    وقد فصل رشيد رضا، وابن عاشور، في تعداد هذه الحكم أثناء تفسيرهما هذه الآية، نجملها فيما يأتي51:

    • إن الإخبار عن خلق ما على الأرض زينة، يجمع الامتنان على الناس، والتذكير ببديع صنع الله تعالى، إذ وضع هذا العالم على أتقن مثال ملائم لما تحبه النفوس من الزخرف والزينة.
    • إن التأمل في زينة الدنيا، يحث العقول على النظر في وجود منشئ هذه الموجودات، ومقياس مدى الإيمان الداخلي الدافع لشكر الخالق سبحانه وتعالى، فيظهر حينئذ الجاحد لنفسه، والظالم لها، والمقتصد بالخيرات والسابق فيها.
    • امتحان الإنسان واختباره في كيفية استقباله لهذه الزينة وتعامله معها في الواقع، فإن الابتلاء والاختبار يقع بكل من حصولهما والحرمان منهما، وإن المالك لهما أقدر على شكر الله وتزكية نفسه ونفع غيره من الفاقد لهما52.

      خطورة الانجرار وراء الدنيا:

      حب الدنيا والغرور بزينتها، يصرفان جميع قوى النفس إلى التفاني في طلبها، والسعي في تحصيل متعها، وبذلك تنصرف عن النظر الصحيح في آيات الحق وبيناته، وتعمى عن سبيل الله وصراطه، فشهوة الزعامة تصرف صاحبها إلى المسارعة في حب الظهور، والامتياز، والشهرة، والاستعلاء على أقرانه، وشهوة المال تصرف صاحبها إلى تخطي كل الحدود لتكديس المزيد من الأموال في خزائنه، وهكذا في شأن كل متع الدنيا وزخرفها.

      لذا جاءت آيات عديدة تحذر من الاغترار بالدنيا، والتنبيه على سرعة انقضائها، وزوال نعيمها وملذاتها، وقد استعمل القرآن في سبيل ذلك، منبهات توقظ القلوب، فمن ذلك استعمال مصطلح «متاع» ثلاث عشرة مرة، في وصف الدنيا تنبيهًا أن لكل إنسان في الدنيا تمتعًا لمدة معلومة،53 كما في قوله تعالى: ( ) [آل عمران: ١٨٥].

      وها هو ذا، رشيد رضا يقول في تفسيره لهذه الآية: «وهي على كل حالٍ متاع الغرور؛ لأن صاحبها دائمًا مغرورٌ مخدوعٌ لها تشغله كل حينٍ بجلب لذاتها ودفع آلامها، فهو يتعب لما لا يستحق التعب، ويشقى لتوهم السعادة، ويتعب نقدًا ليستريح نسيئةً»54.

      ثانيًا: المال والبنون.

      محبوبات النفس البشرية:

      يعد المال والبنون، من أخطر الأشياء على النفس البشرية، وأشدها تأثيرًا على سلوك الإنسان، وتصرفاته، «وجعل القرآن الكريم نفس «الأموال والأولاد» فتنة لكثرة حدوث فتنة المرء من جراء أحوالهما مبالغةً في التحذير من تلك الأحوال وما ينشأ عنها، فكأن وجود الأموال والأولاد نفس الفتنة»55.

      فقال تعالى: ( ) [الأنفال: ٢٨].

      وقال أيضًا ( ﮠﮡ ) [التغابن: ١٥].

      كما عدهما القرآن الكريم، من أكثر المحبوبات إلى النفس البشرية، فقال تعالى: ( ﭕﭖ) [الكهف: ٤٦].

      وإنما ذكرهما دون غيرهما من الزينة؛ لأنهما الجالب لها، والحافظ عليها، ففي المال جمالٌ ونفعٌ، وفي البنين قوةٌ ودفعٌ56، وقد بين مدى تغلغل حب المال في قلب الإنسان، فقال تعالى: ( ) [الفجر: ٢٠].

      وقال تعالى: ( ) [البقرة: ١٧٧].

      لذلك فإن المال يستعمل كوسيلة إغراء، تستمال من خلالها القلوب، وتروض الأفكار، فتتطوع الأجساد، وتخضع الإرادات، وهذا ما فعلته ملكة سبأ حين أرسلت وفدًا إلى نبي الله سليمان ؛ وفدًا محملًا بالهدايا لاختباره، فإن كان ملكًا قبلها، وعرفت أن علاجه في بعض الخراج، والأموال تساق إليه كل عام، وإن كان نبيًا فلن يقبل منها شيئًا حتى تدخل هي وقومها في دينه57 فقالت: (ﯿ ) [النمل: ٣٥].

      والإمداد بالمال ليس دائما علامة رضا من الله تعالى، فالله يعطي الدنيا لمن يحب ولمن لا يحب، وقد يوسع الله على العاصي ويضيق على الطائع، فإذا اقترن الإمداد بحال الغفلة والعصيان، كان ذلك دلالة على الاستدراج إلى المعاصي، واستجرار إلى زيادة الإثم58.

      قال تعالى: ( ﯴﯵ ) [المؤمنون: ٥٥-٥٦].

      فها هو ذا، قتادة يقول: «مكر والله بالقوم في أموالهم وأولادهم، فلا تعتبروا الناس بأموالهم وأولادهم، ولكن اعتبروهم بالإيمان والعمل الصالح»59

      تقديم المال على الأولاد:

      ورد ذكر المال والأولاد في القرآن الكريم على صور مختلفة؛ فجاء ذكر المال مفردًا في ستة وأربعين موضعًا، واقترن مع ذكر الأولاد في ستة وعشرين موضعًا، أما الاقتران بالأنفس، فجاء في خمسة عشر موضعًا، وانفرد بموضع واحد مقترنًا بالأهل والديار لكل منهما على حدة.

      وبالتدقيق في المواضع القرآنية المشتملة على ذكر المال والأولاد تلاحظ الأمور الآتية:

    1. التركيز على التنبيه على خطورة الافتتان بالمال والأولاد، وتأثيراته على سلوكيات الإنسان، وتصرفاته، كما جاء في قوله تعالى: ( ) [الأنفال: ٢٨]. وكانت هذه الآية قد نزلت في حق أبي لبابة رضي الله عنه حين مال إلى اطلاع بني قريظة على حكم سعد؛ لأن ماله وولده كانت فيهم60؛ بل إن الافتتان بالمال والأولاد، يدفع الإنسان ليعتقد أن الله راض عنه، وليس بمعذبه، فيطغى ويتجبر، كما جاء على لسان الكفار، في قوله تعالى: ( ) [سبأ: ٣٥]. وقوله تعالى على لسان صاحب الجنتين: ( ﯿ ) [الكهف: ٣٤].
    2. تقدم ذكر المال على الولد في جميع المواضع، باستثناء موضعين اثنين، هما؛ قوله تعالى: ( ) [آل عمران: ١٤]. وقوله تعالى: ( ﭽﭾ ﭿ ) [التوبة: ٢٤]. ويظهر لنا، أن الحكمة من التقديم والتأخير بين الأموال والأولاد، هو السياق الذي وردت فيه الآيات؛ فإذا كان السياق في معرض ذكر الفتنة، والإغراء، والزينة، والإعجاب- قدم المال. في حين إذا كان السياق في معرض ذكر المحبوبات إلى القلب، قدم الولد على المال، وهذه بعض التفسيرات التي تبين سبب التقديم والتأخير:
      • قدم الأموال من باب السبب، فإنه إنما شرع النكاح عند قدرته على مؤونته، فهو سببٌ. والتزويج سببٌ للتناسل، ولأن المال سببٌ للتنعيم بالولد وفقده سببٌ لشقائه61.
      • الأموال لا تكاد تفارقها الفتنة، وليست الأولاد في استلزام الفتنة مثلها62.
      • إن إعجاب الناس يسبق إلى المال قبل الإعجاب بالولد.
      • إن المال فيه صفة الزينة، والإمداد لكلٍ من الآباء والأبناء في جميع الأوقات، أما البنون فزينتهم وإمدادهم إنما يكون بالنسبة إلى من بلغ مبلغ الأبوة، ثم إن المال أقدم وجودا من البنين، و المال مناطٌ لبقاء النفس، والبنين لبقاء النوع، ولأن الحاجة إليه أمس من الحاجة إليهم63.
      • أما عن تقديم البنين على المال، في الموضعين (آل عمران والتوبة) فيرجع ذلك، إلى أن شهوة حب الولد الجبلية،أقوى في القلب من شهوة المال، فالمال يبذل في سبيل تحصيل الزواج المسبب للولد، فكان التقديم ترتيب للمحبوبات64. قلت: ومما يقوي هذا، أن كثيرًا من الناس، ممن حرم الولد يبذل الغالي والنفيس في سبيل الإنجاب.

        حب المال مدعاة لارتكاب المحرمات وتربية الخصال السيئة في القلب:

        إن بريق الأموال وزينتها الأخاذة، تدفع النفس البشرية إلى السعي للحصول عليها، حتى لو اضطر بعض الناس إلى تخطي كثير من الحدود والمحرمات، وحب جمع المال يربي في النفس الكثير من الخصال السيئة ذات التأثير الخطير على شخصية محب المال والمجتمع من حوله، وقد ذكرت الآيات القرآنية صورًا عديدة لتلك المحرمات، والخصال السيئة، وهي على النحو الآتي:

      1. الاعتداء على أموال الضعفاء؛ كالأيتام، والنساء.

        فجاء الأمر الإلهي بإرجاع الحقوق إلى أصحابها كاملة، من غير نقصان، ولا استبدال، فقال تعالى: ( ﭷﭸ) [النساء: ٢].

        وقال أيضا: ( ) [النساء: ٤].

        ونهى عن استخدام أساليب تكره المرأة على التنازل عن مالها أو جزء منه فقال تعالى: ( ) [النساء: ١٩ ].

        وجاء الوعيد الإلهي شديدًا، وقاسيًا، لكل من تعدى على مال اليتيم ظلمًا، فقال تعالى: ( ﮎﮏ ) [النساء: ١٠].

      2. أكل حقوق الآخرين في الخصومات، ودفع الرشوة إلى الحكام للتغلب بأكل هذه الأموال65.

        قال تعالى: ( ) [البقرة: ١٨٨ ].

      3. الصد عن سبيل الله.

        لأن لذة جمع المال تطغى على العقل، حتى إنها تدفع صاحبها لمحاربة كل القيم والأخلاق الحميدة التي تقف حائلًا دون جمع المال الموصل إلى السيادة، والزعامة، واستمراريتها، وهذا ديدن الكافرين والظالمين في كل زمان، كما أخبر الله تعالى، عن ذلك في أكثر من موضع في القرآن الكريم، فقال تعالى: ( ﭽﭾ ﭿ) [الأنفال: ٣٦].

        وقال على لسان موسى: ( ﯷﯸ ﯿ ) [يونس: ٨٨ ].

        وكما يستعمل المال للصد عن سبيل الله، كذلك، فإن الأولاد يستعملون لإرهاب الناس، وتخويفهم من اتباع الحق، وقد بين هذا المنهج نبي الله نوح ؛ في شكواه إلى الله66، فقال:( ) [نوح: ٢١].

      4. التلاعب بالأحكام الشرعية بتحليل الحرام، وتحريم الحلال، وكتمان الحق؛ تلبية لرغبة أصحاب الأهواء، والشهوات، مقابل الحصول على مكافآت مالية.

        قال تعالى: ( ﯔﯕ ) [البقرة: ١٧٤].

      5. التكبر على خلق الله، والتعالي عليهم.

        المصحوب بخلق الغرور والعجب بما جمع من الأموال مع نسيان المنعم، وجحود نعمته، كل ذلك يفضي إلى طغيان يغمر النفسية البشرية، ويتخلل في كل أجزائها، كما قال تعالى: ( ) [العلق: ٦ - ٧ ].

        وقد ضرب القرآن الكريم لذلك مثلين:

        الأول: في قوله تعالى عن صاحب الجنتين: ( ﯿ ) [الكهف: ٣٤].

        والآخر: قارون صاحب خزائن المال الذي جحد نعمة الله عليه، فقال: ( ) [القصص: ٧٨]؛وخرج خرجة، مليئة بالزهو والصلف، كما قال تعالى: ( ) [القصص: ٧٩].

      6. الركون للدنيا والخلود إليها.

        قال تعالى: ( ) [الهمزة: ٢-٣].

        ذلك أن جمع المال يورث في الإنسان طول الأماني، فيعمل على تشييد البنيان، وغرس الأشجار، وجري الأنهار، ونحو ذلك عمل من يظن أن ماله أبقاه حيًا، ويمكن أن يحمل المعنى على الحقيقة، فمن أشرب قلبه حب المال وجمعه، أصيب بفرط الغرور، واشتغل بالجمع والتكاثر عما أمامه من قوارع الآخرة 67.

        خطورة إغراق القلب بحب المال:

        حذر الله تعالى عباده المؤمنين من التلبس بما تلبست الأقوام السابقة من الانصراف إلى تكثير الأموال والأولاد، فينشغلوا عن مصيرهم وآخرتهم،68 فقال تعالى: ( ) [التكاثر: ١ - ٢].

        ووصف الله تعالى، أن كل ما من شأنه الزينة لا ديمومة له، فهو غرور يمر ولا يبقى، كالهشيم المتكسر، فقال تعالى: ( ﭴﭵ ﭽﭾ ﭿ ﮁﮂ ﮊﮋ ) [الحديد: ٢٠].

        وفصل سبحانه وتعالى، في أكثر من موضع في القرآن الكريم، أن المال ليس هو السبيل النافع والمــنجي يوم القيامة، فقال تعالى: ( ) [الليل: ١١].

        ويوم القيامة يخاطب أهل النار بالقول: ( ) [الأعراف: ٤٨].

        وذكر جل جلاله، أن العمدة في النجاح والفلاح يوم القيامة، والقربة منه سبحانه وتعالى، قائم على الإيمان، والعمل الصالح المستقر في القلب السليم، وليس كثرة الأموال والأولاد69.

        فقال تعالى: ( ) [الشعراء: ٨٨-٨٩].

        وقال أيضا: ( ) [سبأ: ٣٧ ].

        وسيلة النجاة من فتنة المال وتبعاته الدنيوية والأخروية:

        بعد استقراء الآيات التي تناولت الحديث عن الجانب المالي في حياة الإنسان، ومعاملاته اليومية، تبين، أن شهوة المال، يمكن أن تطغى على القلب البشري فتودي به إلى المهالك، لكن القرآن الكريم، كما وصف لنا المشكلة، وحذرنا منها، فإنه كذلك يقدم الحلول الواقعية، والأدوية الناجعة، لمنع حدوث المرض، بل حتى علاجه إذا وقع، ومن خلال النظر في الآيات القرآنية ذات العلاقة، يتجلى بوضوح أن البلسم الشافي لعلاج شهوة حب المال، وإطفاء نارها من القلب، هو الإنفاق والصدقة، من ذلك قوله تعالى: ( ) [التوبة: ١٠٣].

        فالصدقة بعمومها -واجبها ونفلها- مطهرة من دنس البخل، والطمع، والدناءة، والقسوة على الفقراء البائسين، وما يتصل بذلك من الرذائل70، وتربي في النفس قيمة الشعور والمسؤولية تجاه الآخرين، ومشاركتهم بما من الله عليه من مال هو بالأصل مالكه، امتثالا لقوله تعالى: ( ﭽﭾ ﭿ ) [النور: ٣٣].

        بمعنى آخر، فإن الصدقة تصحح بوصلة القلب نحو الآخرة، والتعلق بما هو باق، وتخلصه من رق كنز المال الذي هو فان.

        وقد استعمل القرآن الكريم، الأساليب التشجيعية للحث على الصدقة؛ لأن إخراج المال ليس بالشيء السهل على النفس البشرية، وهذه الوسائل هي:

        • الوقاية من عذاب النار، لقوله تعالى: ( ) [الليل: ١٧-١٨].
        • مغفرة الذنوب ورفع الدرجات، لقوله تعالى: ( ) [التوبة: ١٠٣].
        • مضاعفة الأجر والثواب، لقوله تعالى: (ﭽﭾ ﭿ ﮍﮎ ﮒﮓ ) [البقرة: ٢٦١].
        • ضمان دخول الجنة، لقوله تعالى: ( ) [التوبة: ١١١].
        • الأمان من الخوف، والحزن في الدنيا والآخرة، لقوله تعالى: ( ) [البقرة: ٢٧٤].

          ثالثًا: الأمل:

          لقد ورد ذكر الأمل في القرآن الكريم مرتين اثنتين، هما:

          الأولى: في قوله تعالى: ( ﭥﭦ ) [الحجر: ٣].

          وفسر الأمل في هذه الآية على أوجه عدة، هي71:

        1. الطمع بهلاك النبي صلى الله عليه وسلم، وتمني هلاك ملكه وأمره.
        2. تقديرهم بامتداد حياتهم؛ ليبقى لهم الرياسة، والشرف، وذلك الذي كان يمنعهم من الإجابة عنه، والانقياد له.
        3. الطمع أن المشركين وآباءهم قد أصابوا الحق، فمنعهم ذلك الإجابة عن الآيات والحجج، والنظر فيها.

          وجاء الأمل في موضع الذم مع تعقيبٍ بالتهديد والوعيد؛ لأنه شغلهم عن الأخذ بحظهم من الإيمان والطاعة، ونسوا واجباتهم ومصائرهم الآخرة72.

          والتعبير القرآني، يصور الأمل بالمتحكم، بالقرارات والمسيطر على الأفعال، والحاجب عن رؤية الحق، حتى كأنه يحول صاحبه لمخلوق، همه الأكل، والتلذذ والتمتع، ويقول: هل من مزيد؟ يؤمل نفسه طول البقاء؛ ليزداد متعة، ولذة، فشابه الأنعام في أفعالها، ويمكن أن يطلق عليه، الأمل الكاذب.

          قال تعالى: ( ) [محمد: ١٢].

          الآخر: في قوله تعالى: ( ﭕﭖ ) [الكهف: ٤٦].

          في هذه الآية تعقد مقارنة بين ما هو باق، وما هو فان، بين الأمل الصادق، والأمل الكاذب، فيبين منطوق الآية أن المال والبنون وما سواهما من المتع، زينة للحياة الدنيا التي هي في النهاية فانية، ويعقبه بذكر الأمل الصادق الذي يفضي إلى منفعة حقيقة، ومصلحة متحققة في الدنيا والآخرة، موعود بها من صادق الوعد جل جلاله، وذكر الباقيات بعد الزينة دل على أنها ليست باقية73.

          وذهب كثير من العلماء، إلى أن المراد بالباقيات الصالحات، جميع أعمال الخير؛ لأنها تبقى لصاحبها يوم القيامة74،ففي الآية، توجيه إلهي لعباده المؤمنين، بضرورة الإكثار من أعمال الخير؛ لأنها الباقية الدائمة، متعددة النفع في الدنيا والآخرة.

          رابعًا: التجارة والبيع:

          أمر الله تعالى عباده بالسعي في الأرض، طلبا للرزق، والانتفاع مما هو مخلوق على وجه هذه الأرض، فقال تعالى: ( ﭯﭰ ) [الملك: ١٥].

          ويأتي هذا التوجيه الإلهي في إطار الحفاظ على عجلة الحياة في حركة دائمة منتجة، وتعد التجارة أبرز الأنشطة البشرية وقمتها في حركة الحياة؛ فهي قائمة على التبادلية بين منتج زارعٍ أو صانع، ومستهلك، وهي وسيلة عظيمة يستطيع الإنسان أن يحقق من خلالها الغنى والثراء، كما أنها تعد أحد أوجه القوة الفعالة المؤثرة في السياسات والقرارات الدولية.

          ولما كان للتجارة هذا القدر من الأهمية، نبه الله تعالى إلى ضرورة الموازنة بين متطلباتها من مال، ووقت، وجهد، ومتابعة مستمرة، وبين الواجبات العبادية، فلا يطغى الجانب المادي على الجانب الروحي، ولا تهمل المعاملة مع الخالق في سبيل المعاملة مع المخلوق. وذكر أن من صفات عباده المؤمنين عدم انشغالهم بمتطلبات التجارة عن الواجبات العبادية.

          فقال تعالى: ( ﭝﭞ ) [النور: ٣٧ ].

          ولعل تخصيص التجارة بذلك، يعود إلى أنها أقوى الصوارف للإنسان، وأشدها عن الواجبات العبادية؛ فكثرة الحديث عن حال السوق، والبضائع، وأسعار العملات، وغيرها من متعلقات التجارة، تصرف عن طاعة الله وذكره حتى يخلو القلب من ذلك، كما أن أمور البيع مما يشغل التاجر عن صلاته، فيؤخرها عن وقتها أو يضيعها أو لا يؤديها حقها؛ بإقامة أركانها، وتحقيق آثارها، وهي مانعة عن إخراج الزكاة، لأنه ينظر إليها على أنها تنقص من ماله75.

          وقد يتبادر إلى الذهن تساؤل: لما كان البيع داخلًا تحت جنس التجارة، فلم أعيد ذكره في الآية؟

          والجواب كما ذكر أهل التفسير: إن أثر البيع في الإلهاء أقوى وأعظم؛ لأن ربحه متيقن ناجز، وربح ما عداه متوقع76.

          لذلك نجد التوجيه الإلهي، يوصي المؤمنين ترك البيع حال النداء لصلاة الجمعة، والسعي إلى حضور الخطبة، والصلاة التي تذكر بالله تعالى، فتملؤ القلب بتعظيمه، وإجلاله.

          فقال: ( ﭟﭠ ) [الجمعة: ٩ ].

          «وأمر جل جلاله نبيه عليه السلام بأن يعظهم أن ما عند الله من الثواب على حضور الجمعة خيرٌ من فائدة التجارة ولذة اللهو. وكذلك ما أعد الله من الرزق للذين يؤثرون طاعة الله على ما يشغل عنها من وسائل الارتزاق جزاءً لهم على إيثارهم جزاءً في الدنيا قبل جزاء الآخرة، فرب رزقٍ لم ينتفع به الحريص عليه وإن كان كثيرًا، ورب رزقٍ قليلٍ ينتفع به صاحبه ويعود عليه بصلاحٍ»77.

          فقال تعالى: ( ﮊﮋ ) [الجمعة: ١١].

          خامسًا: الانشغال بالمفضول عن الفاضل.

          من صور اللهو الخفية التي تغيب عن بال الكثير من المكلفين، الانشغال بالمفضول من الأعمال الصالحة والطاعات على فاضلها، وهي حيلة يقصدها الشيطان إذا عجز عن جر ابن آدم إلى دوامة الدنيا ليغرقه في شهواتها وملذاتها، ويسعى بذلك إلى التشويش على المؤمن بإنقاص الأجر والثواب الذي يسعى إليه لنيل رضا الله تعالى78.

          ويعد الانشغال بالمفضول من الأعمال عن الفاضل، من اللهو الباطل، كما ذكر ابن حجر، تحت ترجمة كل لهو باطل فقال: «إذا شغله أي شغل اللاهي به عن طاعة الله أي كمن التهى بشيءٍ من الأشياء مطلقًا سواءٌ كان مأذونًا في فعله أو منهيًا عنه كمن اشتغل بصلاة نافلةٍ أو بتلاوةٍ أو ذكرٍ أو تفكرٍ في معاني القرآن مثلًا حتى خرج وقت الصلاة المفروضة عمدًا فإنه يدخل تحت هذا الضابط 79.

          وحتى يتجنب المؤمن الوقوع في مثل هذه الشراك الخفية،كان لا بد له أولًا، من السؤال الدائم لله سبحانه وتعالى، أن يرزقه البصيرة الدالة على الخير، وهذا لا يتأتى إلا بمتابعة النبي، وشدة عنايته بمراتب الأعمال عند الله، وأحبها إليه، وأرضاها له، وأنفعها للعبد وأعمها نصيحة لله تعالى، ولرسوله، ولكتابه، ولعباده المؤمنين80.

          سادسًا: الانشغال بما لا فائدة حقيقة فيه:

          تتعدد صور الملهيات في الحياة الدنيا، والمحيطة بالصراط المستقيم تتخطف الناس ذات اليمين وذات الشمال، وإن كانت جميعها تشترك في الهدف، إلا أنها مختلفة في نتائجها؛ فبعضها يقصده الإنسان من أجل فائدة يحسبها دائمة، لكنها حقيقة سرعان ما تزول وتنتهي، إما عاجلًا أو آجلا، فعلى سبيل المثال، من يشتغل بجمع المال، ويفني عمره في سبيل ذلك، فإنه يتلذذ ببريقه، ومنافعه إلى حين أن يموت، وعندئذ تنتهي تلك اللذة، وتنقطع تلك المتعة، لكن، هناك من الملهيات ما لا فائدة تجنى من السعي خلفه، وهذه هي المصيبة الكبرى، والطامة العظمى؛ لأن هذا يدل على مستوى الانحطاط الفكري الذي وصل إليه هذا اللاهي.

          وقد عرض القرآن الكريم، صورًا للهو الذي لا فائدة منه، من باب ضرب المثال لا الحصر، وهي الآتي:

        1. الانشغال بأساطير، وقصص الأمم السابقة.

          وهذا ما عبر عنه القرآن الكريم، بقوله تعالى: ( ﭽﭾ ﭿ ) [لقمان: ٦].

          ويلاحظ أن القرآن الكريم يبين قبيح فعل الكفار، وسوء صنيعهم، حيث إنهم تركوا الكتاب الحكيم، وانشغلوا بما لا فائدة فيه، وهذه أقبح من الأولى81.

          ويندرج تحت هذا الباب، في هذا الزمان، كثير من المواد الإعلامية المرئية؛ كمسلسلات الدراما، والأفلام السينمائية، والمسابقات الغنائية، وغيرها، وفي هذا دلالة على خطر الإعلام في نشر الملاهي غير النافعة في المجتمع.

        2. الضحك والسخرية من المؤمنين.

          وهذا منهج أهل النفاق والكفر على مر الأزمنة، لا يكاد يختلف إلا بالوسائل والآليات المستخدمة في سبيل ذلك، فيخبرنا القرآن الكريم عن ذلك، حين يقرع الكفار يوم القيامة، بقوله تعالى: ( ﭽﭾ ﭿ ) [المؤمنون: ١٠٩-١١٠].

          وقال أيضًا: ( ﯿ ) [المطففين: ٢٩-٣٣].

          قال ابن عاشور: «كانوا يضحكون» يدل على أن ذلك صفةٌ ملازمةٌ لهم في الماضي، وصوغ يضحكون بصيغة المضارع للدلالة على تكرر ذلك منهم وأنه ديدنٌ لهم 82.

          والمتدبر لآيات سورة المؤمنون يعقد مقارنة بين فريقين:

          فريق أول: انشغل بعمل يرجو منه فائدة حقيقة، وهو تعبيد النفس لله، وتعلقها به.

          وفريق آخر: أشغل نفسه بعمل لا طائل منه، ولا نفع، وهو السخرية والاستهزاء بالفريق الأول.

          وأي فائدة تجنى من إطلاق سهام السخرية والاستهزاء نحو إنسان يسعى لهدف نبيل، لذلك يعقب الله تعالى بقوله عن نتيجة سخرية الكافرين: ( ) [المطففين: ٣٤ -٣٦].

          والجذر (ل غ و) يدل على أصلين:

          الأول: ما لا يعتد به.

          والآخر: اللهج بالشيء 83.

          فعلى الأول، يطلق اللغو على السقط، وعلى كل ما لا يحصل منه على فائدة أو نفع، سواء كان كلامًا أو غيره. يقال: شاة لغو أي لا يعتد بها في المعاملة 84.

          وقد وضح البيهقي: مفهوم اللغو مع ضرب الأمثلة التي تزيد في بيانه وتفصيله، فعرفه بأنه: الباطل الذي لا يتصل بقيدٍ صحيحٍ، ولا يكون لقائله فيه فائدةٌ، وربما يكون وبالًا عليه 85.

          وقسمه إلى عدة أقسام وهي86:

          • أن يتكلم الرجل بما لا يعنيه من أمور الناس؛ فيفشي سرائرهم، ويهتك أستارهم، ويذكر أموالهم وأحوالهم من غير حاجةٍ به إلى شيءٍ من ذلك، عادة سوءٍ ألفها فلا يريد النزوح عنها.
          • الخوض فيما لا يحل من ذكر الفجار، والفجور، والملاهي.
          • الافتخار بالآباء الجاهلين، والتمدح بهم، والذكر للمعاملات المبنية على الاستطالة، ويكون فيه خوض المبطلين في القصائد فيما عندهم، وتفضيلهم إياه على ما عند غيرهم بالدعاوي، والتوسع في المقال في غير حاجةٍ.
          • إنشاد الأشعار المقولة في ضروب الأكاذيب فيما لا يجدي على أهلها نفعًا في العاجل، ولا في الآجل والاشتغال بها تضييعٌ للزمان.

            وقد امتدح الله عباده المؤمنين ببعدهم عن اللهو، واجتنابهم إياه، وعد ذلك سببًا من أسباب الفلاح، فقال تعالى: ( ) [المؤمنون: ١ - ٣].

            كما أن الله تعالى جعله من صفات عباد الرحمن، فقال تعالى: ( ) [الفرقان: ٧٢].

            في المقابل، فقد أخبر الله تعالى، أن الخوض في اللغو من صفات الجاهلين، كما ذكر على لسان عباده المؤمنين: (ﭿ ) [القصص: ٥٥].

            اللهو بالدين

            إن من الوسائل التي يتبعها أهل الباطل في حربهم على الحق، التعرض لثوابته بالسخرية والاستهزاء، واتخاذها لهوا ولعبًا، وما ذلك إلا لأجل هز صورة الدين في داخل قلوب المسلمين وزعزعتها، وتشكيكهم بثوابته وأصوله، فإذا ظفروا بذلك، سهل عليهم الولوج إلى الداخل؛ لتخريب هذا البناء وتشويهه، ومن ثم السيطرة على صاحبه، ليصبح أداة طيعة، ومسخًا مشوهًا ينفذ ما يملى عليه. والثوابت التي يتعرض لها أهل الباطل، هي:

          1. القرآن الكريم؛ مصدر النصوص الشرعية.
          2. النبي صلى الله عليه وسلم مبلغ الدين، وشارح نصوصه، ومن قام مقامه من العلماء والصالحين.
          3. الشعائر والأحكام الدينية.

            أولًا: اللهو بالآيات القرآنية:

            القرآن الكريم حجة الله على عباده، فيه من الحجج والبراهين الدالة على ألوهيته وربوبيته ما لا ينكره كل ذي لب، وفيه من الأحكام والقواعد، ما ينظم مسيرة الحياة الإنسانية بيسر وسلاسة، لذلك يعده أهل الباطل خصمهم اللدود، وعدوهم الأول؛ لأنه يقوض مصالحهم وسياساتهم التي تحقق لهم الكثير من المنافع، وتجلب لهم الكثير من المـــتع وتضمن لهم الاستمرارية في التحكم بمصائر البلاد والعباد.

            ولما كانت عقولهم وقواهم قاصرة عن الانتصار على هذا القرآن، ودحض حججه وبراهينه بالعقل والمنطق، فإنهم سلكوا سبلًا أخرى لمواجهته والصد عنه، ومنها:

            • حمل الآية على غير معناها، ومرادها استهزاءً، كقول أبي جهلٍ لما سمع ( ) [الدخان: ٤٣ -٤٤ ]. تجاهل بإظهار أن الزقوم اسم لمجموع الزبد والتمر فقال: «زقمونا»، وقوله: لما سمع قوله تعالى: ( ) [المدثر: ٣٠]: أنا ألقاهم وحدي87، ورد ذلك في قوله تعالى: ( ) [الكهف:٥٦]. وقوله تعالى: ( ﮩﮪ ) [الجاثية: ٩].
            • وصف القرآن بأوصاف غير لائقة؛ كعدم صلاحيته للحكم، أو جور أحكامه وتشريعاته، أو نسبته إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم دون الله، لذلك جاء النهي الإلهي صارمًا وحازمًا للمؤمنين بعدم حضور المجالس التي يستهزأ فيها بآيات الله، وإلا عد الحاضر من المشاركين، وكان عليه من الوزر والإثم ما على المباشرين للفعل، فقال تعالى: ( ﯻﯼ ﯿﰀ ) [النساء: ١٤٠].

              وذكر أهل العلم أن النهي عن القعود مطلقًا؛ بسبب ما تقتضيه المجالسة من المؤانسة، والمشاركة فيما يجرى من المحادثة في الغالب، وفي هذا تشجيع لأمثال هؤلاء بالدوام على هذا الأمر، وانتشار الظاهرة في المجتمع، لذا كان لا بد لمن حضر مجلسًا وقع فيه تحقير أو استهزاء بآيات الله ودينه؛ أن ينكر عليهم، ويقوم من فوره، حتى لا يكون مثلهم، كما ورد عن ابن عباس رضي الله عنه88.

              ثانيًا: اللهو بالشعائر الدينية:

              تعد الشعائر الدينية، التطبيق العملي للنصوص الشرعية، وتتمثل أهميتها في أنها تعكس مستوى الإيمان المخزون في القلب لدى الإنسان؛ فإذا ما شاب هذه التطبيقات خلل ما، ظهر أن هناك مشكلة حقيقية في الإيمان، ويتفاوت هذا الخلل بطبيعة المشكلة وحقيقتها، بمعنى؛ إن كانت طارئة أم دائمة، أم تمس أصل الإيمان أم لا.

              وعند استقراء الآيات القرآنية المتعلقة بالموضوع، ظهر أن اللهو بالدين يكون من أربعة أطراف رئيسة هي:

            1. مؤمن نقص مستوى الإيمان في قلبه.
            2. منافق ادعى الإيمان باللسان، وقلبه فارغ منه.
            3. كتابيٌ ادعى الإيمان، وفعله مخالف له.
            4. كافرٌ انتفى الإيمان من قلبه بالكلية.

              فالطرف الأول وجه إليه الخطاب الإلهي مضمنا بالتهديد والوعيد في سياق بيان حكم الطلاق حثا للمسلمين على احترام صلة الزوجية، وعدم الاستقواء على النساء لضعفهن، والحذر من اتخاذ مسألة الطلاق لهوا ولعبا كما كان عليه أهل الجاهلية89.

              فقال تعالى: ( ﭬﭭ) [البقرة: ٢٣١].

              والآية الكريمة، وإن تناولت حكمًا شرعيًا إلا أن النهي ينسحب على جميع الأحكام الشرعية، واللهو المنهي عنه يتخذ صورتين، هما:

              • المعصية للأمر وترك العمل به، وتفصيل ذلك أن من رضي بالله ربًا وبمحمد نبيًا وجب عليه طاعة أمرهما وما يصدر عنهما من توجيهات وأحكام، فإذا ظهر منه خلاف ذلك كان كالمستهزئ بها، إذ كيف يدعي الطاعة ثم لا ينفذ؟!90.
              • التسامح في أداء التكاليف، كما يتسامح فيما يكون من باب الهزل والعبث، جريًا على عادةٍ منتشرةٍ في المجتمع، أو مصلحةٍ توافق الهوى، أو شهوةٍ متمكنةٍ من القلب، فهو يعامل تكاليف الله معاملة تكاليف البشر91.

                ويمكن استخلاص أمر مهمٍ من هذه الآية، وهو أن الموجه الفعلي للتصرفات والسلوكيات، إنما هو الإيمان الذي وقر في القلب، وليس الأهواء، والشهوات، أو العادات التي تلبسها المرء في زمنٍ ما من حياته. كما أن صدق الإيمان من ضعفه، يظهر عند تطبيق الأحكام الشرعية، وبخاصة إذا كانت فيما يتعلق بحقوق العباد.

                أما بقية الأطراف، من منافقين، وأهل كتاب وكفار، فقد وجه الخطاب الإلهي للمؤمنين بالنهي عن اتخاذهم أولياء للهوهم في الدين، واستهزائهم به، لقوله تعالى: (ﯿ ﰐﰑ ﭗﭘ ) [المائدة: ٥٨].

                ويمكن حصر صور اللهو في التشريعات الدينية، بما يأتي:

              • إظهار المودة والاحترام للإسلام باللسان، واستبطان الكفر92، كقول الله تعالى عن المنافقين ( ) [البقرة: ١٤]. فكانوا يقولون: لعبنا بعقولهم، وضحكنا عليهم93، أو أداء الشعيرة على سبيل اللهو واللعب، كما كان المنافقون يتضاحكون، ويلعبون عند القيام إلى الصلاة تنفيرًا للناس عنها94.
              • تكذيبهم واستخفافهم بالإسلام، وأحكامه كاستهزاء الكفار، وأهل الكتاب بالصلاة أو النداء، فبعضهم ينعت الأذان بصياح العير، وآخرون يتندرون إذا رأوا صلاة المسلمين 95.
              • اعتقادهم أن لا فائدة في التشريعات الدينية، ولا منفعة منها في الدنيا والآخرة، فيزعمون أن مصدرها البيئة المحيطة، أو الأعراف السائدة في الزمن الغابر، فيجب إلغاؤها، واستبدالها بما هو أنسب وأفضل96.

                ثالثًا: اللهو بالشخصيات الاعتبارية:

                التعرض للشخصيات المهمة بالأذى والسخرية منهج قديم حديث، يسلكه أهل الباطل في مواجهة أهل الحق والصلاح؛ لصرف الناس عنهم، وتنفيرهم من دعوتهم، ولا يلجأ أهل الباطل إلى هذا الأسلوب، إلا لعجزهم عن دفع الحق وحججه الدامغة، فقال تعالى مسليًا نبيه عليه السلام: ( ) [الأنعام: ١٠].

                ولأنهم اتخذوه منهجًا، فقد صار جزءًا من حياتهم لا يفارقهم، حتى إنهم نسوا مقابل ذلك المقصد من خلقهم، فما عادوا يتفكرون ولو للحظة عل عقولهم تتنبه، وقلوبهم تستيقظ.

                فقال تعالى واصفًا ذلك: ( ﭽﭾ ﭿ ) [المؤمنون: ١٠٩-١١٠].

                وتنوعت صور اللهو والسخرية الموجه نحو شخوص الأنبياء؛ فاتهموهم بالجنون، والكذب، والضعف97.

                فقالوا عن نوح: ( ) [المؤمنون: ٢٥].

                وقالوا عن هود: ( ) [هود: ٥٤].

                وغير ذلك من الأمثلة كثير.

                ولم يختلف الأمر بشأن النبي صلى الله عليه وسلم فقد واجه الاستهزاء والسخرية من كل الأطراف التي عايشها في مكة والمدينة، من أهل الشرك، والكتاب، والنفاق؛ ففي مكة كان يتعمد كفارها إظهار السخرية من شخصه الكريم، فقد كان يقول بعضهم لبعض: أهذا الذي يذكر آلهتكم؟ لقوله تعالى: ( ) [الأنبياء: ٣٦].

                وسبب نزول هذه الآية: أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على أبي سفيان، وأبي جهل، وهما يتحدثان، فلما رآه أبو جهل، ضحك. وقال لأبي سفيان: هذا نبي بني عبد مناف، فغضب أبو سفيان، فقال: ما تنكرون أن يكون لبني عبد مناف نبي، فسمعها النبي صلى الله عليه وسلم فرجع إلى أبي جهل، فوقع به، وخوفه، وقال: (ما أراك منتهيًا حتى يصيبك ما أصاب عمك)، وقال لأبي سفيان: (أما إنك لم تقل ما قلت إلا حمية)98.

                والظاهر أن المشركين يرمون من اتخاذهم النبي صلى الله عليه وسلم مادة للعبث، واللهو، بصورة علنية لهدفين: الأول ضرب الروح المعنوية للنبي لقوله تعالى: ( ) [الأنعام: ٣٣]99، الآخر: إدخال الشك في قلوب الناس حول صواب ما يدعو إليه.

                وفي المدينة المنورة كان اللهو من جماعة المنافقين بمحاولة إظهار النبي عليه السلام -وحاشاه- بصورة الغر الساذج الذي يتلقف المعلومة دون تمحيص، أو اختبار، فيقبلها، ويصدقها. فقالوا هو أذن100.

                كما جاء في قوله تعالى: ( ﯡﯢ) [التوبة: ٦١].

                قال ابن عباس: نزلت الآية في جماعة من المنافقين، منهم: جلاس بن سويد، ومحشر بن خويلد، وأبو ياسر بن قيس، وذلك أنهم كانوا ينالون من رسول الله عليه السلام، فقال رجل منهم: لا تفعلوا فإنا نخاف أن يبلغه الخبر. فقال الجلاس: نقول ما نشاء، فإنما هو أذنٌ سامعة ثم نأتيه فيصدقنا101.

                ويسعى المنافقون من وراء هذا الاتهام، إلى تحقيق هدف خبيث، وهو النيل من ثقة النبي عليه السلام والطعن فيما ينقله ويبلغه، فلربما نقل أخبارًا زعم أنها من القرآن، وهي ليست كذلك، وعندئذ تتضعضع ثقة الناس به، فلا يستجيبون له، وهذا يوضح لنا حقيقة مهمة، وهي تبادلية الأدوار بين أهل الكفر والنفاق، وتنوع الأساليب المستخدمة في الهجوم على أهل الصلاح والعلم، ومحاولة زعزعة ثقة الناس بهم، وضرب مصداقيتهم.

                ولم يتوقف منهج اللهو والاستهزاء عند الأنبياء، بل شمل أتباعهم من المؤمنين، وعادة ما يلجأ أهل الكفر والنفاق إلى التركيز في استهزائهم على أمور دنيوية لا يملك المؤمن شأنًا من أمرها؛ كالفقر، واللون، والمرض، وقد وصف الله تعالى ذلك في قوله: ( ) [البقرة: ٢١٢].

                وذكر الرازي أسبابًا متعددة لنزول الآية، تشترك كلها في استهزاء أهل الكفر والنفاق من فقراء المسلمين وضعفائهم102، كذلك نجد المنافقين يستهزؤون من تسابق المسلمين للطاعات، ويشككون في نواياهم، ودوافعهم لفعلها، فينعتونهم بالرياء، أو طلب الشهرة، أو الغباء، وغير ذلك من الأوصاف.103 كما قال تعالى، واصفا حال المنافقين: ( ﯴﯵ ) [التوبة: ٧٩].

                وسبب نزول هذه الآية، كما أخرج مسلمٌ، عن أبي مسعود الذي قال: أمرنا بالصدقة- قال: كنا نحامل، في رواية: على ظهورنا- قال: فتصدق أبو عقيل بنصف صاعٍ. قال: وجاء إنسانٌ بشيءٍ أكثر منه فقال المنافقون: إن الله لغنيٌ عن صدقة هذا، وما فعل هذا الآخر إلا رياء.104

                والظاهر أن الدافع لذلك يكون شعور الكفار والمنافقين بالغيرة والحسد من المسلمين، أو نقص داخلي ومرض قلبي لا يستطيع المنافق الانفكاك عنه فيعبر عنه برمي الآخرين بالنقائص والسيئات.

                الملهى عنه

                اللهو عبارة عن عملية تفاعليه يشترك فيها طرفان: قلب الإنسان ملك الحواس والجوارح، وأحد الملهيات، تؤدي إلى الانشغال عن مقاصد مهمة خلق الإنسان من أجل تحقيقها، فتكون النتيجة انحراف الإنسان عن صراط الله تعالى المستقيم إلى سبل الشيطان، مما يؤدي إلى ظهور الكثير من الآثار السلبية التي تنعكس على حياة الفرد والمجتمع.

                وبعد استقراء للآيات القرآنية نستخلص أن الملهى عنه لا يخرج عن أحد المقصدين:

                الأول: مقصد عاجل في الدنيا، والذي من أجله خلق الخلق، وهو العبادة لقوله تعالى: ( ) [الذاريات: ٥٦].

                الآخر: مقصد آجل في الآخرة والذي يرتبط به المصير النهائي لكل مخلوق، لقوله تعالى: ( ) [آل عمران: ١٨٥].

                أولًا: اللهو عن العبادة:

                وصف الله سبحانه وتعالى ذاته العلية، في أكثر من موطن في القرآن الكريم، بالحكمة، وتجلت هذه الحكمة في مقصده من خلق المخلوقات جميعًا، وما أوكل من وظائف لكل صنف منها، فما خلقها سدى ولا عبثًا، بل خلقها بالحق، كما قال تعالى: ( ) [الحجر: ٨٥].

                وقال أيضًا: (ﯿ ) [الدخان: ٣٨].

                ومن أجل هذه المخلوقات وأشرفها، الإنسان الذي حصر الله مهمة وجوده بالعبادة، فقال تعالى: ( ) [الذاريات: ٥٦].

                وذلك إنما يدل على أهميتها، ومنزلتها العظيمة، فهي العهد القديم الذي أخذه الله من الإنسان، لقوله تعالى: ( ﭳﭴ ﭶﭷ ) [الأعراف: ١٧٢].

                وهي النداء الأول في كل رسالة بعثها الله لبني البشر، فما خاطب نبيٌ قومه إلا ابتدأهم بقوله: ( ) [نوح: ٣]105.

                وهي الأمر المؤكد عليه في القرآن الكريم لبني البشر في مواطن كثيرة، فقال تعالى: ( ) [الحجر: ٩٩].

                وقال أيضًا: ( ﮄﮅ ) [يس: ٦١].

                والمراد بالعبادة التي أمر بها الإنس والجن، أنها «اسمٌ جامعٌ لكل ما يحبه الله ويرضاه، من الأقوال، والأعمال الباطنة والظاهرة؛ فالصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، وبر الوالدين، وصلة الأرحام والوفاء بالعهود، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والجهاد للكفار، والمنافقين، والإحسان للجار، واليتيم، والمسكين وابن السبيل، والمملوك من الآدميين، والبهائم، والدعاء، والذكر، والقراءة، وأمثال ذلك من العبادة»106

                إذن فالعبادة بهذا التصور، أفقٌ رحبٌ، ودائرة واسعةٌ تشمل الشعائر الدينية الواجبة والتطوعية، ومنظومة الأخلاق والفضائل الإنسانية، وكذلك العلاقات الاجتماعية القريبة والبعيدة، وتشمل كذلك الأخذ بالأسباب كما قال ابن تيمية: «فكل ما أمر الله به عباده من الأسباب فهو عبادة»107 .

                فالنتيجة هي أن العبادة عبارة عن حركة الفرد والمجتمع بثبات واتزان، نحو هدف واضح المعالم مصحوبة بأفق واسع، يسودها المشاركة والتعاون في البناء والإعمار، لتحقق الصلاح العاجل، والآجل108.

                صور اللهو عن العبادة:

                تعددت المواضع القرآنية التي وردت فيها التحذيرات الإلهية، والتوجيهات الربانية، من الانزلاق في دوامة اللهو على حساب مقصد الخلق، وهو العبادة، وتنوعت الآيات الدالة على ذلك ما بين توجيه للمؤمنين إلى ضرورة المضي قدمًا لتحقيق مقصد وجودهم، وتهديد ووعيد للكافرين الذين انصرفوا يلهثون خلف شهواتهم، ونزواتهم متشاغلين لاهين عن سبب خلقهم ووجودهم، فوصفهم الله تعالى قائلًا: ( ) [محمد: ١٢].

                وانحصرت صور الملهى عنه، بالأمور الآتية:

              1. اللهو عن ذكر الله تعالى.

                وجه الله تعالى عباده المؤمنين إلى المحافظة على الصلة به، وطريق ذلك دوام ذكره سبحانه وتعالى، في كل الأحوال، والهيئات، واستحضار عظمته، وقدرته، فقال تعالى: ( ﮧﮨ ) [المنافقون: ٩].

                وذكر الله تعالى، عام في كل ما يذكر الإنسان بربه، ويبقيه على صلة به، سواء كان الصلوات الخمس أم قراءة القرآن وتدبر آياته، أم الدعاء، أم الجهاد في سبيل الله109، فهو يعين على الخضوع الكامل، والاستسلام التام لأمر الله تعالى المصاحب بالتعظيم، والامتنان والافتقار إليه سبحانه وتعالى، وذلك له أثر مهم على الإنسان في تصحيح مساره دائمًا، نحو تحقيق مراد الله تعالى من الاستخلاف في هذه الأرض.

                وقد امتدح الله تعالى، عباده المؤمنين بالثبات على الصراط المستقيم، دون أن يشغلهم شيء من متع الدنيا عن طاعته، وعبادته، فقال: ( ) [النور: ٣٧].

                ووجههم إلى ديمومة ذكره، والإكثار منه، والاحتراس من الانصباب، في أشغال الدنيا انصبابًا ينسي ذكر الله، أو يشغل عن الصلوات؛ لأن الفلاح يكون في الإقبال على مرضاة الله، فقال تعالى: ( ) [الجمعة: ١٠].

                والانشغال عن ذكر الله تعالى، بعمومه هو حال أهل الكفر والضلال، فقلوبهم لاهية عن تعظيم الله وشكره على نعمه، منصرفة عن تنفيذ أمره، غارقة في متع الدنيا وملذاتها، فصار مقصد حياتهم إشباع رغباتهم، والتلذذ بمتع الدنيا، وليس لهم همٌ سوى ذلك، فجعلهم الله تعالى في مصاف البهائم والأنعام، وتوعدهم بعذاب أليم يوم القيامة110 فقال تعالى: ( ) [محمد: ١٢].

                وقال أيضًا: ( ﭥﭦ ) [الحجر: ٣].

              2. اللهو عن الصلاة.

                الصلاة هي الرباط المتين الذي يربط العبد بربه، وهي أرفع صور العبادة، وأكمل وسيلة من وسائل الذكر؛ لأنها تعبر عن حالة الذل، والخضوع، والافتقار التي يتلبسها الإنسان ظاهرًا وباطنًا تعظيمًا لله تعالى الذي منحه من النعم ما لا يعد ولا يحصى111، فقال تعالى: ( ) [طه: ١٤].

                وهي الناهية للإنسان عن فواحش الأمور ومنكراتها، فقال تعالى: ( ﯡﯢ ) [العنكبوت: ٤٥].

                إذن هي المقومة لأفعاله وأقواله، الموجهة له نحو الخير والفضيلة.

                واللهو عن الصلاة، تضييع لجميع ما سبق ذكره من الخير، ويكون على الصور الآتية:

                • تضييع الجماعات أو تأخير الصلوات عن أوقاتها112.
                • الإخلال بشروطها وأركانها113.
                • الإنشغال عن خطبة الجمعة، وما فيها من تذكير بالنعم، وحثًا على استدامتها114.
              3. اللهو عن الزكاة.

                تمثل الزكاة إحدى وسائل التطهير القلبية، والتزكية النفسية للعبد من الأمراض المنضوية على حب المال، والتعلق به، لقوله تعالى: ( ) [التوبة: ١٠٣].

                وتعد الوقاية من الشح، سببًا من أسباب الفلاح، كما أخبر تعالى: ( ﮯﮰ ) [التغابن: ١٦ ].

                وحب المال والتعلق به، من أمات الخطايا التي تدعو صاحبها إلى الشح المــهـلك الباعث على حفظ المال وجمعه وازدياده وصيانته عن ذهابه في النفقات، وفي سبيل ذلك يتولد اللهو عن الإنفاق بالمعنى العام، والزكاة بالمعنى الخاص، وبهذا يكون قد شغل بجمع المال، والاستزادة منه وكنزه، على حساب الواجب العبادي المفضي إلى المحافظة على التآلف الاجتماعي.

              4. اللهو عن القرآن الكريم.

                القرآن كتاب الله الهادي إلى الصراط المستقيم، والدال على السبل الموصولة إلى الفوز والفلاح في الدنيا والآخرة، العاصم من الزلل والزيغ، الحافظ من الضلال، ولا يكون ذلك إلا باتباع هديه، وتطبيق توجيهاته، دلت على ذلك نصوص كثيرة من القرآن والسنة، منها:

                قوله تعالى: ( ) [الإسراء: ٩].

                وقوله تعالى: ( ) [البقرة: ١٨٥].

                واللهو عن القرآن الكريم، عبر عنه (بالهجر) لقوله تعالى: ( ) [الفرقان: ٣٠ ].

                يقول الإمام ابن القيم رحمه الله مبينا معاني الهجر الواردة في هذه الآية: هجر القرآن أنواع:

                أحدها: هجر سماعه والإيمان به والإصغاء إليه.

                والثاني: هجر العمل به والوقوف عند حلاله وحرامه وإن قرأه وآمن به.

                والثالث: هجر تحكيمه والتحاكم إليه في أصول الدين وفروعه واعتقاد أنه لا يفيد اليقين وأن أدلته لفظية لا تحصل العلم.

                والرابع: هجر تدبره وتفهمه ومعرفة ما أراد المتكلم به منه.

                والخامس:هجر الاستشفاء و التداوي به في جميع أمراض القلب وأدوائها فيطلب شفاء دائه من غيره ويهجر التداوي به 115.

                والتركيز على الأمور سالفة الذكر، لا يعني حصر اللهو فيها إنما فيه إشارات مهمة أراد الله سبحانه وتعالى توجيه نظر المؤمنين إليها، وهي على النحو الآتي:

                • من انشغل عن حقوق الله، ولهى عنها كان عن غيرها أشغل.
                • الأمور المذكورة، هي لب الأمور ورأسها، وهي شرائع تعلم العبد ترتيب الأولويات، والانضباط نحو تحقيق الهدف، فإذا شغل عنها كان إلى تضييع تحقيق المراد أقرب.

                  ثانيًا: اللهو عن الحساب وتبعاته:

                  من الحقائق المهمة التي تغيب عن قلب الإنسان وعقله، أن وجوده في هذه الحياة، إنما هو مؤقت بزمن محدد ومهمة معلومة، فإذا انتهى هذا الزمن انتقل من الحياة الدنيا إلى الحياة الآخرة، للحساب على ما أنجز في حياته الأولى، لذلك ينبه القرآن في مواطن كثيرة إلى ضرورة التنبه إلى هذه الحقيقة، وعدم الغفلة عنها، ومن ذلك قول الله تعالى: ( ﭣﭤ ﭨﭩ ) [فاطر: ٥].

                  لكن الواقع في حياة الكثيرين، يدل على الغفلة عن ذلك اليوم، وعدم الاستعداد الحقيقي لما بعد الموت، يصدق فيهم قول الله تعالى: ( ) [التكاثر: ١ - ٢].

                  والآية وإن نزلت في حق أهل مكة حين أشغلهم تكاثرهم بالمال والعدد حتى صاروا من أصحاب القبور، فإن هذا حال الكثيرين ممن هم على ظهر هذه الأرض 116.

                  وسبب غفلة الإنسان عن يوم المعاد يرجع إلى أمرين مترابطين ارتباطًا وثيقًا كلما ارتفعت وتيرة الأول ازدادت وتيرة الآخر، وهما: الغفلة عن ذكر الموت وأحواله، والاغترار بالحياة الدنيا وطول الأمل.

                  وتتمثل خطورة الغفلة عن ذكر الموت والحياة الآخرة، أنها تؤثر في حياة الإنسان الفكرية، والنفسية، والخلقية، سلبًا؛ فتدفعه إلى التمتع بملذات الحياة الدنيا، والإغراق فيها، بل يتعدى الأمر للخروج عن المــتع المألوفة للفطرة السليمة السوية، إلى تناول قبائح المحرمات والجرأة عليها، لقوله تعالى: ( ) [المؤمنون: ٧٤].

                  كما أنها تربي في قلب صاحبها صفة الكبر الذي ينكر كل ما يخالف هواه، ويرفض ما لا تهواه نفسه، لقوله تعالى: ( ) [النحل: ٢٢ ].

                  ومرد ذلك سببه الاعتقاد، عدم وجود حساب عن كل هذه الأفعال أو مساءلة، فإنما هي حياة، ثم موت، وفناء، هذا هو تفكير الكفار، ويبدو جليًا في الآية الكريمة: ( ) [المؤمنون: ٣٧].

                  فهذه الآية جاءت على لسان الكافرين، فأمثال هؤلاء متوعدين بالجزاء من جنس عملهم، وهو نسيانهم في نار جهنم، لقوله جل جلاله: ( ﯾﯿ ) ا[الأعراف: ٥١].

                  وقوله تعالى: ( ﯿ ) [الأحقاف: ٢٠].

                  علاج اللهو

                  لا بد لكل مرض علاج، ولكل داء دواء، فما أنزل الله من داء إلا أنزل معه شفاء!وأعظم دواء في العلاج، وأنجعه، وأكثره فعالية ما تنزل به القرآن الكريم، لقوله تعالى: ( ﮫﮬ ) [الإسراء: ٨٢].

                  ويتميز المنهج القرآني في علاج الإنسان؛ بقوته وفعاليته، فهو يقوم على انتزاع حب الدنيا المتجذر في القلب، مع تحجيم اندفاع الإنسان نحوها للاستزادة من لذائذها، ومتعها بما يؤدي إلى إلغاء طول الأمل لديه.

                  ويقوم العلاج القرآني على ركيزتين رئيسيتين، هما:

                  الأولى: علاج نفسي تربوي.

                  الثانية: علاج تطبيقي عملي.

                  أولًا: العلاج النفسي التربوي:

                  والمقصود بذلك، معالجة سلوكيات الأفراد المصابين بمرض اللهو من خلال إبطال المعتقدات الخاطئة الراسخة في عقولهم عن حقيقة الدنيا، وزيف متاعها وملذاتها، وعقوبة المخدوع بها، في المقابل يؤصل لمفاهيم جديدة، حول الحياة الأخرى، ودوام نعيمها، وجزاء العامل لها، مثال ذلك، قول الله تعالى: ( ﭗﭘ ﭝﭞ ) [العنكبوت: ٦٤].

                  واتبع القرآن الكريم، في هذا الشق العلاجي، مخاطبة العقل؛ لكونه محل إدراك ماهية الأمور، والقادر على التمييز بين صحيحها وسقيمها، ونافعها وضارها، والموجه إلى الصراط المستقيم، والمصحح حال الزيغ والضلال، وقد استعمل القرآن في مخاطبة العقل، الأمور الآتية:

                1. المقارنة بين الحياة الدنيا، والحياة الآخرة.

                  فقد وردت هذه المقارنة في القرآن الكريم، ثلاث مرات:

                  الأولى: قول الله تعالى: ( ﭗﭘ ﭝﭞ ) [العنكبوت: ٦٤].

                  وتركز هذه الآية، على مفهوم الحياة الحقيقية، وذلك من خلال استعمال لفظة «الحيوان»، بمعنى الحياة الباقية التي لا حياة سواها، وهذا منبه مهم وفعال يساعد على لفت انتباه الإنسان نحو هذه الحياة، وتنفيره من الحياة الدنيا الزائلة، ومنع الاستغراق فيها117.

                  الثانية: قول الله تعالى: ( ﮦﮧ ﮬﮭ ) [الأنعام: ٣٢].

                  ويلاحظ أن المقابلة في هذه الآية، هو بين نعيم الدنيا والآخرة، فنعيم الدنيا لعب ولهو يتشاغل به المتشاغلون عن الأكدار والهموم، وهو في نهاية المطاف فانٍ، في حين يكون نعيم الآخرة زمنه مديد ونعيمه مستمر 118.

                  الأخيرة: قول الله تعالى: ( ﮬﮭ )[محمد: ٣٦].

                  والسياق الذي وردت فيه هذا الآية ينضوي على تنبيه مهم للإنسان، وهو الحذر من أن تكون الحياة الدنيا صارفة عن الواجبات المفروضة، ويراد بالواجب هنا الجهاد في سبيل الله، وفي السياق أيضًا، إشارة إلى الحياة الدنيا إذا عمرت بالإيمان والتقوى، حملت خيرًا كثيرًا 119.

                  والفهم الخاطئ لهذه الآيات، يتسبب بإشكال ينتج عنه فكرين متضادين:

                  أحدهما: الدعوة للزهد في الدنيا، والانصراف عن الانتفاع بخيراتها، مما ينتج عنه معاداة لكل المظاهر الدنيوية، ويصل الأمر إلى محاربة الحاجات الفطرية عند الإنسان، فيؤدي إلى التخلف، والجمود، والجهل، ولعل أبرز مثال على ذلك، ما أورده القرآن الكريم، وهو الرهبانية التي ابتدعها النصارى، فقد قال تعالى: ( ) [الحديد: ٢٧].

                  والثاني: يهاجم الدين ويعاديه ويتهمه بالتحجر والتسبب بالتخلف والرجعية، وينتج عن هذا الاستغراق في متع الدنيا ولذائذها، وهجر كل ما له صلة بالدين، وخير مثال على ذلك من الزمن الماضي الثورة على الكنيسة في أوروبا والتحلل من كل القيم والمعتقدات الدينية.

                  والخلل كما أسلفت، إنما هو في الفهم والسلوك الذي يترتب عليه، وقد قدم القرآن المنهجية الواضحة الصحيحة في كيفية التعامل مع الدنيا، وجاء ذلك على لسان الصالحين من قوم قارون حين قدموا له النصح قائلين: ( ﯭﯮ ﯳﯴ ﯹﯺ ﯿﰀ ) [القصص: ٧٧ ].

                  وعلق سيد قطب على هذه الآية قال: والقرآن لا يعني بهذا أن يحض على الزهد في متاع الحياة الدنيا والفرار منه وإلقائه بعيدا. إن هذا ليس روح الإسلام ولا اتجاهه. إنما يعني مراعاة الآخرة في هذا المتاع، والوقوف فيه عند حدود الله. كما يقصد الاستعلاء عليه فلا تصبح النفس أسيرة له، يكلفها ما يكلفها فلا تتأبى عليه! والمسألة مسألة قيم يزنها بميزانها الصحيح. فهذه قيمة الدنيا وهذه قيمة الآخرة كما ينبغي أن يستشعرها المؤمن ثم يسير في متاع الحياة الدنيا على ضوئها، مالكا لحريته معتدلا في نظرته: الدنيا لهو ولعب، والآخرة حياة مليئة بالحياة 120.

                2. ضرب الأمثلة القرآنية.

                  من ذلك تشبيه الحياة الدنيا بالزرع الذي لا يفتأ أن يكبر ويخضر، وتزهو ألوانه، حتى يصفر ويتحطم، وقد ورد هذا النوع من الأمثال التشبيهية، في أربعة مواضع من القرآن الكريم، منها قول الله تعالى: ( ﯹﯺ ﯿ) [يونس: ٢٤].

                  وتكمن أهمية هذا المثل القرآني، في أنه يصور الحياة الدنيا تصويرًا حسيًا واقعيًا، قريبا إلى العقول والقلوب، يراه الناس في كل مكان من هذه الأرض، وقد بينا ابن القيم وجه التمثيل في هذا المثل القرآني، فقال: شبه سبحانه الحياة الدنيا في أنها تتزين في عين الناظر، فتروقه بزينتها وتعجبه، فيميل إليها ويهواها اغترارًا منه بها، حتى إذا ظن أنه مالك لها، قادر عليها، سلبها بغتة، أحوج ما كان إليها، وحيل بينه وبينها 121.

                  ثانيًا: العلاج التطبيقي العملي:

                  تظهر نجاعة العلاج القرآني، في معالجة الأخطاء والسلوكيات السلبية في التكامل التام، والانسجام الكامل في الخطط المقدمة لعلاجها، فهو يردفها بالتطبيقات العملية المساعدة على التخلص من كل ما من شأنه أن يؤثر سلبا في مقصد وجود الإنسان على هذه الأرض، وتقوم الخطط العلاجية العملية على ثلاثة محاور:

                1. الإنفاق.

                  أرشد الله عباده المؤمنين إلى الإنفاق، وحثهم عليه قبل مداهمة الموت لهم، فقال تعالى: ( ) [المنافقون: ١٠].

                  ويعد الإنفاق من أنجع وسائل التربية إذ يقوم على ركيزتين مهمتين، هما: التطهير والتزكية، ورد ذلك في قوله تعالى: ( ) [التوبة: ١٠٣ ].

                  فالتطهير يزيل من النفس مرض الأنانية والذي يتجسد بجمع المال وكنزه، واحتكاره لصالح أفراد معينين، ثم صرفه في وجوه العبث، واللهو بلا هدف نافع.

                  والتزكية ترسخ مبدأ التعاونية، والشعور بالآخر من خلال توجيه استعمال المال في منفعة البشر ودوام تطورهم، واستخدم القرآن في سبيل تعزيز الإنفاق الأساليب الآتية:

                  • التذكير بأن المال هو ملك لله وعاريته وهبه الله لبني البشر من أجل استعماله في تحقيق مقصد العبادة، ورد ذلك في مواضع متعددة في القرآن الكريم، فمن ذلك، قول الله تعالى: ( ﭽﭾ ﭿ ﮁﮂ) [النور: ٣٣]. وقوله أيضًا: ( ) [المنافقون: ١٠]. فها هو ذا يقول أبو السعود: إضافة المال إليه تعالى ووصفه بإيتائه إياهم للحث على الامتثال بالأمر بتحقيق المأمور به فإن ملاحظة وصول المال إليهم من جهته تعالى مع كونه هو المالك الحقيقي له من أقوى الدواعي إلى صرفه إلى الجهة المأمور بها122. وقال تعالى: ( ) [الحديد: ٧]. وفي هذه الآية تنبيه الغافلين بأن ما يجري في أيديهم من أموال، إنما هو لله تعالى، جعل الناس خلائف عنه في التصرف فيه مدة ما، فلما أمرهم بالإنفاق منها على عباده، كان حقا عليهم أن يمتثلوا لذلك 123.
                  • التحذير من عواقب كنز المال، وخزنه على الفرد في الدنيا والآخرة، فخازن المال تقتله الحسرة والندامة على تقصيره في الإنفاق، فيتمنى الرجعة حتى ينفق لما يرى من الثواب الذي فاته: ( ) [المنافقون: ١٠]. ويوم القيامة يذوق ألم الكي بالأموال المكنوزة التي كان يتلذذ بجمعها، ويحرم الفقراء من التمتع بشيء منها، فقال جل جلاله: ( ﮙﮚ ) [التوبة: ٣٥].
                2. مصاحبة الصالحين، والابتعاد عن اللاهين، ومقاطعة مجالسهم.

                  فالإنسان بطبعه مدني، فطره الله تعالى على حب المخالطة والنفور من الوحدة، والبيئة التي ينشأ فيها الإنسان تؤثر فيه سلبًا أو إيجابًا، لذلك،كان للصحبة أثر مهم جدًا في حياة الإنسان؛ فهي إما أن تكون عائقةً عن الخير مثبطةً عنه، داعمةً للشر، ومحفزة عليه، لذلك جاءت التوصيات الإلهية للنبي عليه السلام والمؤمنين من بعده بلزوم الرفقة الصالحة المقبلة على الله دومًا، الذاكرة له في كل الأوقات، لقوله تعالى: ( ﭚﭛ ﭣﭤ) [الكهف: ٢٨].

                  كما تعددت التوصيات الآمرة بالابتعاد عن الغافلين اللاهين، لقوله تعالى: ( ) [النساء: ١٤٠].

                  وقوله تعالى: ( ) [الأنعام: ٧٠].

                  وقوله أيضا: ( )[الكهف: ٢٨].

                  وها هو ذا الإمام الغزالي، يقول: مجالسة الحريص ومخالطته تحرك الحرص، ومجالسة الزاهد ومخاللته تزهد في الدنيا؛ لأن الطباع مجبولة على التشبه والاقتداء، بل الطبع يسرق من الطبع من حيث لا يدرى»124.

                3. التذكير الدائم بعاقبة اللهو الدنيوي والأخروي.

                  وفي ذلك فوائد منها إقامة الحجة على المعرضين، الثاني: إيقاظ النفس من غفلتها وسباتها، والأخير: تقوية الإيمان وزيادته في القلب.

                  لقد اتخذ التذكير في القرآن الكريم، صورًا عديدةً، هي:

                  • السير في الأرض، للاعتبار من مصير اللاهين.

                    قال تعالى: ( ﭧﭨ ) [التوبة: ٦٩].

                    وقال تعالى: ( ﮌﮍ ﮚﮛ ) [الروم: ٩].

                    والسير في الأرض يترك أثرا كبيرًا في القلب؛ لأنه يقرب المشاهد الواقعية من الإنسان، فيرى بأم العين ما حل بالأمم التي استغرقت في ملذاتها وشهواتها، مما يجعله يعيد حساباته من جديد حول أسلوب حياته وطريقتها 125.

                  • التذكير بالموت وما بعده.

                    قال تعالى: ( ) [التكاثر: ١-٢].

                    وقال تعالى: ( ﭽﭾ ﭿ ﮃﮄ ) [الأنعام: ٧٠].

                    وهذا له الأثر البالغ على النفس حين يعلم أنه سيغادر هذه الدنيا صفر اليدين كما دخلها، ويعزز هذا الشعور إذا شيع جنازة أو زار قبرًا، كما أن التذكير بيوم الحساب يردع النفس عن غيها، وإغراقها في المتع والملذات؛ لإدراك الإنسان أنه محاسب على أقواله وأفعاله.

                    عاقبة اللهو

                    اللهو داء خطير، ذو عواقب سيئة، تمتد آثارها السلبية، لتشمل الإنسان في حياته الدنيا وفي الآخرة، وذلك على النحو الآتي:

                    أولًا: عاقبة اللهو في الدنيا.

                    تتعدد صور الخسران الدنيوي الذي يلحق باللاهي، سواء كان فردا أو جماعة، ومن ذلك:

                  1. اللهو يؤدي إلى سلب صفة التكريم الإلهي التي وهبها الله تعالى للإنسان، بقوله: ( ) [الإسراء: ٧٠].

                    بيان ذلك أن هم اللاهي في الحياة الدنيا، ينصب نحو التمتع والتلذذ بما خلق الله، وأوجد على الأرض من غير أن يصاحب ذلك تحقيق أهداف ذات أثر جيد على الأرض، فيصبح شأنه شأن أي حيوان موجود على هذه الأرض، وقد وصف الله تعالى الكفار، ومن خطا خطاهم، بقوله: ( ) [محمد: ١٢] بل عدهم الله تعالى أقل درجة من الحيوانات، وأدنى رتبة منها، فقال تعالى: ( ﭜﭝ ) [الفرقان: ٤٤].

                    يقول سيد قطب: «إن للإنسان إرادة وهدفا وتصورا خاصا للحياة يقوم على أصولها الصحيحة، المتلقاة من الله خالق الحياة، فإذا فقد هذا كله، فقد أهم خصائص الإنسان المميزة لجنسه، وأهم المزايا التي من أجلها كرمه الله» 126 .

                  2. اللهو يؤدي إلى اندثار الأمم وزوالها.

                    وليس بالضرورة أن يكون ذلك بسنة كونية كزلزال، أو بركان، أو غيرها من الظواهر الطبيعية التي خلقها الله تعالى إنما المراد بذلك أن أي تجمع بشري لا يضع نصب عينيه المضي نحو أهداف حقيقية نافعة تقود نحو الرفعة والرقي، وينشغل بسفاسف الأمور، وأرذلها، فإنه حتما سيسقط في القاع ويهلك، وكم أخبرنا القرآن الكريم عن أمم خلت، قد هلكت، واندثرت لسلوكها سبيل اللهو؛ فعلى سبيل المثال، أخبرنا الله تعالى،عن قوم هود الذين كان همهم بناء الأبنية الشاهقة، والقصور الفارهة، لا لهدف سوى العبث، فقادهم ذلك إلى فساد أحوالهم، فأهلكهم الله تعالى، وقال عنهم: ( ﯿ ) [الشعراء: ١٢٨-١٣٥].

                    وقد عاب الله تعالى على من ترك خطبة النبي محمد صلى الله عليه وسلم وما تحمله في طياتها، من علوم عظيمة نافعة، في سبيل اللهو والتجارة 127.

                    فقال تعالى: ( ﭽﭾ ﭿ ﮀﮁ ﮊﮋ ) [الجمعة: ١١].

                  3. اللهو بالأحكام، والقواعد، والتعاليم، بحسب الأهواء، والشهوات، يؤدي إلى فوضى عارمة، تقود المجتمع إلى حياة الغاب.

                    وبالتالي غياب الأمان والاطمئنان، واندثار معاني الإنسانية من نفوس البشر، وبيان ذلك من وجهين: الأول: أن اللهو بالأحكام والتشريعات، نابع من توجهات بشرية، تسعى لتحقيق منافع شخصية، وهذا يؤدي إلى انتشار الأنانية، وضيق الأفق، وانعدام الرؤية الواضحة، واختلال البوصلة التي توجه نحو الهدف المقصود فتكون النتائج كارثية على الفرد والمجتمع؛ لأن معنى ذلك فوضى عارمة تجتاح حياة الإنسان، والمجتمع من حوله، والآخر: اللهو بالأحكام معناه فوضى تبدأ من تخلي الإنسان عن الخضوع لربه، وتنتهي بتحلله من كل القيم الأخلاقية، والفضائل الإنسانية وقيمها، فتقوده بذلك إلى هاوية الهلاك والدمار في الدنيا بالتشتت والاضمحلال، والانطوائية والعداوة والبغضاء، كما أخبرنا تعالى عن حال اليهود والنصارى، بعد تحريفهم لتعاليم دينهم، فقال تعالى: ( ﭣﭤ ) [المائدة: ١٤].

                  4. التبعية والخضوع لإرادات الأمم الناجحة والقوية.

                    فالأمة التي تعيش لتحقيق هدف حقيقي ما، تبذل كل ما في وسعها، وتسعى بكل جهدها للوصول إليه، وهذا يعني تحقيق كثير من الإنجازات خلال تلك المسيرة، في حين تكون الأمة اللاهية أمة بلا هدف حقيقي؛ لأن الحركة -التدافع- من السنن الإلهية التي تحكم هذا الكون فالضعيف يتبع القوي، والأمة اللاهية أمة ضعيفة لا بد لها أن تتبع الأمة القوية.

                  5. اللهو يضيع البركة والثواب من حياة اللاهي.

                    فالأعمال النافعة تلقي بظلالها الوارفة على حياة الأفراد والمجتمعات، في حين يؤدي الانشغال بتوافه الأمور وسفاسفها على حساب العبادة إلى الخسران الذي أخبر الله عنه بقوله: ( ﮧﮨ ) [المنافقون: ٩ ].

                    وقد أخبر سبحانه وتعالى أن ما عنده خير من كل متاع الدنيا، فقال: ( ﮊﮋ ) [الجمعة: ١١].

                    ثانيًا: عاقبة اللهو في الآخرة:

                    لا تتوقف عقوبة اللهو على حدود الحياة الدنيا، بل تمتد إلى الحياة الأخرى وتنتقل إليها، وسبب ذلك أن الحياتين مرتبطتان ببعضهما ارتباطًا وثيقًا؛ فالأولى دار عمل، والأخرى دار حساب، لقوله تعالى: ( ﭢﭣ ) [الملك: ٢].

                    فمن لها عن وظيفته الموكلة إليه في الدنيا، وقصر فيها، ناله ما يناسبه من العقاب يوم القيامة من الحكيم العليم، وجاءت صور الخسران الأخروي، على النحو الآتي:

                  1. الترك في النار من غير رحمة، ولا إجابة دعوة 128.

                    قال الله تعالى: ( ﯾﯿ ) [الأعراف: ٥١].

                    وهذا العذاب من باب المعاملة بالمثل؛ فكما أنهم تناسوا هذا اليوم، ولم يفتقدوه بالاستعداد له، لا يفتقدهم أحد، ولا يسأل عنهم، تحقيرًا لشأنهم 129، وليس هناك أشد وقعا على نفس الإنسان من إهماله، وعدم الاستجابة لطلباته، إذ يعد هذا من أشد أنواع العذاب النفسي.

                  2. العذاب المتعدد الصور والأشكال.

                    فقد تعددت الأوصاف التي وصف بها العذاب الذي توعد الله تعالى به اللاهين عن أحكامه وأوامره:

                    فتارة يصفه بالعذاب الشديد، ومثل ذلك قوله تعالى: ( ﭴﭵ ﭽﭾ ﭿ ﮁﮂ ﮊﮋ ) [الحديد: ٢٠].

                    وهذا يتناسب مع من انهمك في لذاتها، وانغمس في متعها دون استعداد لما ينتظره في حياته الأخرى.130

                    وتارة أخرى يصفه بالعذاب المهين؛ لأن اللاهي استهان بأمر الله، فهو يهان يوم القيامة، ويحقر فيها، لقوله تعالى ( ﭽﭾ ﭿ ) [لقمان: ٦].

                    وفي آية أخرى يصفه بالعذاب الأليم ( ﭦﭧ ﭽﭾ ﭿ ﮃﮄ ) [الأنعام: ٧٠].

                    موضوعات ذات صلة:

                    الاستهزاء، العزم، الغفلة، اللعب


1 انظر: مقاييس اللغة، ابن فارس ٥/٢١٣.

2 انظر: المحكم والمحيط الأعظم ٤/٤٢٣.

3 انظر: تهذيب اللغة، الأزهري ٦/٢٢٦، المحكم والمحيط الأعظم، ابن سيده ٤/٤٢٣.

4 انظر: المفردات، الراغب الأصفهاني ص٧٤٨.

5 التعريفات ص١٩٤.

6 انظر: المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، محمد فؤاد عبد الباقي، ص٥٩٨-٦٠٢، المعجم المفهرس الشامل، عبد الله جلغوم، ص١٠١٤-١٠١٩.

7 انظر: الوجوه والنظائر، الدامغاني، ص٤٠٦-٤٠٧، نزهة الأعين النواظر، ابن الجوزي، ص٥٣٤-٥٣٦.

8 مقاييس اللغة، ٤/٢٠٥.

9 العين، الفراهيدي، ٢/١١١، تهذيب اللغة، الأزهري ٢/١٩٩، تاج العروس، الزبيدي ٥/٢٩٥.

10 لطائف الإشارات، القشيري، ٢/٥٩١.

11 مجموع فتاوى ابن تيمية ٨/٩٠.

12 انظر: الفروق اللغوية، العسكري ص٢٥٤.

13 لسان العرب، ابن منظور، ١/٧٣٩.

14 النهاية في غريب الحديث والأثر، ابن الأثير ٤/٢٥٣، لسان العرب، ابن منظور ١/٧٣٩، تاج العروس، الزبيدي ٤/٢٠٩.

15 المصدر السابق ٢٧/٤٠١.

16 انظر: الكليات، الكفوي ص ٧٩٩.

17 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٤/١٩٨.

18 تفسير المنار، محمد رشيد رضا ٤/٢٤٧.

19 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٢٧/٢١٧.

20 في ظلال القرآن ٦/٣٤٣٦، ٣٤٣٧.

21 انظر: التحرير والتنوير، ابن عاشور ١٧/٣٢.

22 انظر: مفاتيح الغيب، الرازي ١٩/١٥٨، التحرير والتنوير، ابن عاشور ١٤/٧٥.

23 انظر: الكشاف، الزمخشري ٣/١٠٧

24 تهذيب معاني القرآن، الزجاج ٣/١٥.

25 فتح الباري، ابن حجر ١١/٩١.

26 شرح صحيح البخاري، ابن بطال ٩/٧١.

27 أخرجه البخاري في صحيحه، أبواب العيدين، باب الحراب والدراق يوم العيد، رقم ٩٤٩، ٩٥٠، ومسلم في صحيحه، صلاة العيدين، باب الرخصة في اللعب الذي لا معصية فيه أيام العيد، رقم ٨٩٢.

28 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب النكاح، باب الدعاء للنساء اللاتي يهدين للعروس والعريس، رقم ٩٤٩، ٩٥٠.

29 معالم السنن ٢/٢٤٢.

30 أخرجه الترمذي في سننه، أبواب فضائل الجهاد، باب ما جاء في فضل الرمي في سبيل الله، رقم ١٦٣٧، وابن ماجه في الجهاد، باب الرمي في سبيل الله، رقم ٢٨١١.

قال الترمذي: حديث حسن.

31 الاستقامة، ابن تيمية ص ٢٢٧.

32 الموافقات ١/٢٠٦.

33 التحرير والتنوير ٢١/١٤٣.

34 سبق تخريجه قريبًا.

35 فتح الباري، ابن حجر ١١/٩١.

36 انظر: شرح صحيح البخاري، ابن بطال ٩/٧١، معالم السنن، الخطابي ٢/٢٤٢.

37 انظر: جامع رسائل ابن تيمية ١/٢٠.

38 انظر: عارضة الأحوذي، ابن العربي ٧/١٣٦.

39 انظر: الموافقات، الشاطبي ٤/٣٣٤

40 انظر: التحرير والتنوير، ابن عاشور ١١/١٤٣.

41 مقاييس اللغة، ابن فارس ٣/٤١.

42 تهذيب اللغة، الأزهري ١٣/١٧٥.

43 المعجم الاشتقاقي، محمد حسن ص ٩٢٣.

44 المفردات، الراغب الأصفهاني ص ٢٨٨.

45 انظر: البحر المحيط، أبو حيان ٤/٦١٢، روح المعاني، الألوسي ٤/٣٢٨.

46 تفسير المنار، محمد رشيد رضا ٧/٥٥٧.

47 انظر: تفسير السمرقندي ٣/٣٢٥.

48 انظر: التحرير والتنوير، ابن عاشور ١٤/٢٩.

49 انظر: تفسير السمرقندي ١/١٢٩، مفاتيح الغيب، الرازي ١٩/٤٥.

50 تفسير المنار، محمد رشيد رضا ٨/٣٤٦.

51 انظر: تفسير المنار، محمد رشيد رضا ٨/٣٤٦، التحرير والتنوير، ابن عاشور ١٥/٢٥٧.

52 انظر: مفاتيح الغيب، الرازي ٢١/٤٢٦، تفسير المنار، محمد رشيد رضا ٨/٣٤٧.

53 انظر: المفردات، الراغب الأصفهاني ص ٥٩٥، المعجم الاشتقاقي، محمد حسن ص٢٢٥.

54 تفسير المنار، محمد رشيد رضا ٤/٢٢٣.

55 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٩/٣٢٥.

56 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ١٠/٤١٣.

57 انظر: جامع البيان، الطبري ١٩/٤٥٥.

58 انظر: البحر المحيط، أبو حيان ٧/٥٦٧.

59 الدر المنثور، السيوطي ٦/١٠٤.

60 الوجيز، الواحدي ١/٤٣٧.

61 البرهان في علوم القرآن، الزركشي ٣/٢٤٨.

62 المصدر السابق ٣/٢٦١.

63 إرشاد العقل السليم، السعود ٥/٢٢٥.

64 المصدر السابق ٣/٢٦١.

65 التحرير والتنوير ٢/١٩١.

66 انظر: المصدر السابق ٢٩/٢٠٧.

67 انظر: روح المعاني، الألوسي ٥/٤٦١.

68 انظر: الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ١٠/٤١٣.

69 انظر: روح المعاني، الألوسي ١١/٣٢٢.

70 التحرير والتنوير، ابن عاشور ١١/٢٠.

71 تأويلات أهل السنة، الماتريدي٦/٤٩.

72 انظر: تفسير القرآن العزيز، ابن زمنين ٢/٣٧٩، التفسير البسيط، الواحدي ٢/٣٧٩.

73 انظر: التحرير والتنوير، ابن عاشور ١٥/٣٣٣، تفسير الشعراوي ١٤/٨٩٢٧.

74 انظر: جامع البيان، الطبري ١٨/٣٥، التحرير والتنوير، ابن عاشور ١٥/٣٣٤.

75 انظر: روح المعاني، الألوسي ٩/٣٦٩، تفسير الشعراوي ١٧/١٠٨١.

76 انظر: مفاتيح الغيب، الرازي ٢٤/٣٩٧.

77 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٢٨/٢٢٩.

78 انظر: بدائع الفوائد، ابن القيم ٢/٢٦١.

79 فتح الباري، ابن حجر ١١/٩١.

80 انظر: بدائع الفوائد، ابن القيم ٢/٢٦١.

81 انظر: مفاتيح الغيب، الرازي ٢٥/١١٥.

82 التحرير والتنوير ٣٠/٢١٠

83 مقاييس اللغة، ابن فارس ٥/٢٥٥.

84 المحكم والمحيط الأعظم، ابن سيده ٦/٦١.

85 شعب الإيمان ١٣/٢٦٧.

86 المصدر السابق.

87 انظر: التحرير والتنوير، ابن عاشور ٢٥/٣٣٢.

88 انظر: التفسير البسيط، الواحدي ٧/ ١٥٥.

89 انظر: تفسير المنار، محمد رشيد رضا ٢/٣١٥.

90 انظر: جامع البيان، الطبري ٥/١٢، مفاتيح الغيب، الرازي ٦/٤٥٣.

91 انظر: تفسير المنار، محمد رشيد رضا ٢/٣١٥.

92 انظر: التفسير البسيط، الواحدي ٧/٤٤٠.

93 البحر المحيط، أبو حيان ٤/٣٠٢.

94 انظر: مفاتيح الغيب، الرازي ١٢/٣٨٨.

95 انظر: التفسير البسيط، الواحدي ٧/٤٤٠، مفاتيح الغيب، الرازي ١٢/٣٨٨.

96 انظر: مفاتيح الغيب، الرازي ١٢/٣٨٨.

97 انظر: أضواء البيان، الشنقيطي ١/٤٧٣.

98 تفسير ابن أبي حاتم ٨/٢٤٥٢.

99 انظر: جامع البيان، الطبري ١١/٣٣٠، مفاتيح الغيب، الرازي ١٢/٥١٨.

100 انظر: تفسير المنار، محمد رشيد رضا ١٠/٤٤٦.

101 معالم التنزيل، البغوي ٤/٦٧.

102 انظر: مفاتيح الغيب ٦/٣٦٧.

103 انظر: مفاتيح الغيب، الرازي ١٦/١١١، تفسير المنار، محمد رشيد رضا ١٠/٤٨٧.

104 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الزكاة، باب الحمل بأجرةٍ يتصدق بها، والنهي الشديد عن تنقيص المتصدق بقليل، رقم ١٠١٨.

105 انظر: العبادة في الإسلام، يوسف القرضاوي ص٢٠-٢٣.

106 العبودية، ابن تيمية ص٤٤.

107 المصدر السابق ٧٠.

108 انظر: في ظلال القرآن، سيد قطب ٦/٣٣٨٧، التحرير والتنوير، ابن عاشور ٢٧/٢٧.

109 انظر: المحرر الوجيز، ابن عطية ٥/٣١٥، مفاتيح الغيب، الرازي ٣٠/٥٥٠، التحرير والتنوير، ابن عاشور ٢٨/٢٥٠.

110 انظر: جامع البيان، الطبري ٢٢/١٦٤.

111 انظر: محاسن الشريعة، القفال ١/٢١٩، حجة الله البالغة، الدهلوي ١/١٣٧.

112 انظر: التحرير والتنوير، ابن عاشور ١٨/٢٤٨.

113 مفاتيح الغيب، الرازي ٢٤/٣٩٧.

114 انظر: التحرير والتنوير ١٨/٢٢٢.

115 الفوائد، ابن القيم ص ٨٢.

116 جامع البيان، الطبري ٣٤/٥٧٩.

117 مفاتيح الغيب، الرازي ٢٥/٧٥.

118 انظر: المنار، محمد رشيد رضا ٧/٣٠٤.

119 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٢٦/١٣٣.

120 في ظلال القرآن ٥/٢٧٥١.

121 الأمثال في القرآن، ابن القيم ص١٢.

122 إرشاد العقل السليم، أبو السعود ٦/١٧٣.

123 انظر: التحرير والتنوير، ابن عاشور ٢٧/٣٦٩.

124 مرقاة المفاتيح، الملا علي القاري ٨/٣١٤٢.

125 انظر: التحرير والتنوير، ابن عاشور ٢٠/٢٣٠.

126 في ظلال القرآن ٦/٣٢٩٠.

127 انظر: التحرير والتنوير، ابن عاشور ٢٨/٢٢٩.

128 مفاتيح الغيب، الرازي ١٤/٢٥٣.

129 انظر: تفسير المنار، محمد رشيد رضا ٨/٣٩٢.

130 انظر: روح المعاني، الألوسي ١٤/١٨٥.