عناصر الموضوع

مفهوم الليل

الليل في الاستعمال القرآني

الألفاظ ذات الصلة

الليل آية كونية

أوصاف الليل

أجزاء الليل

الليل والعبادة

الليل والعذاب

ليالٍ فاضلة ذكرت في القرآن

لمساتٌ إعجازية في الليل

الليل

مفهوم الليل

أولًا: المعنى اللغوي:

يطلق الليل اسمًا على الزمن، وهو أشهرها، ولذلك يقولون: هو ضد النهار وخلافه1. وهو الظلام الذي يحل فيه2. والليل: واحدٌ بمعنى جمع، وواحده ليلةٌ كـ تـمرةٌ وتـمرٌ3، والجمع: ليالٍ وليائل وليالي4، والليل اسمٌ لكل ليلة5، وعليه: يكون القصد منه الزمن.

ثانيًا: المعنى الاصطلاحي:

حد الليل عند المفسرين والفقهاء يختلف عنه عند أهل اللغة، وبناءً على ما سبق من تعريف الليل عند أهل اللغة، يتضح ارتباط المعنى اللغوي والاصطلاحي في كونه مدة زمنية، لها وقت ابتداء وانتهاء؛ فاتفقوا في وقت الابتداء وهو غروب الشمس، ووقع الاختلاف في تحديد مدة انتهاء الليل، فأهل اللغة حدوه إلى طلوع الشمس، والفقهاء حدوه إلى طلوع الفجر الصادق الثاني، وهو الموافق لنص القرآن الكريم كما جاء في آية الصيام.

ومن هنا فإن الليل هو عبارة عن: ظلام يـحل كل يومٍ عقب النهار، مبدؤه من غروب الشمس، إلى طلوع الفجر الثاني الصادق6.

وعليه؛ ففي التعريف قيدان:

الأول: حلول الظلام وذهاب الضياء، وهذا يتم تدريجيًّا بدخول أحدهما وذهاب الثاني، كما قال الإمام ابن جرير الطبري (رحمه الله ٣١٠هـ) في قوله تعالى: ( ) [يونس: ٦]. «إذا ذهب هذا جاء هذا، وإذا جاء هذا ذهب هذا»7.

الثاني: مدة زمن ابتداء الليلة وانتهائها، وهو من طلوع الشمس إلى طلوع الفجر الثاني.

الليل في الاستعمال القرآني

وردت مادة (ليل) في القرآن الكريم (٩٢) مرة 8.

والصيغ التي وردت هي:

الصيغة

عدد المرات

المثال

المفرد

٨٨

( ) [الزمر:٥]

الجمع

٤

( ) [الحاقة:٧]

وجاء الليل في القرآن الكريم بمعناه اللغوي الذي: هو ما يعقب النهار من الظلام؛ من غروب الشمس إلى طلوعها أو إلى طلوع الفجر9.

الألفاظ ذات الصلة

الظلمة:

الظلمة لغة:

والظلمة: ضد النور، وضم اللام لغةٌ، وجمع الظلمة (ظلمٌ) و(ظلماتٌ) و(ظلماتٌ) و(ظلماتٌ) بضم اللام وفتحها وسكونها، وقد (أظلم) الليل، و(الظلام) أول الليل، و(الظلماء) الظلمة، وربما وصف بها، يقال: ليلةٌ ظلماء، أي: (مظلمةٌ) و(ظَلِمَ) الليل بالكسر (ظلامًا) بمعنى (أظلم) وأظلم القوم دخلوا في الظلام10.

الظلمة اصطلاحًا:

قال الجرجاني: «الظلمة: عدم الضوء فيما من شأنه أن يكون مضيئًا»11.

الصلة بين الظلمة والليل:

هناك علاقة اقتران بين الظلمة والليل، فالظلام مقترن بالليل، كالضياء مقترن بالنهار.

النهار:

النهار لغة:

هو الضياء الواسع ممتد ما بين طلوع الفجر إلى غروب الشمس، والنهار ضد الليل، يقال: طرفي النهار: أي أوله وآخره 12 .

النهار اصطلاحًا:

قال الألوسي النهار هو: «ما بين طلوع الفجر الى غروب الشمس» 13.

وقال ابن باديس النهار: «هو الوقت الذي يتجلى على جانب الكرة المقابل للشمس فتضيؤه بنورها»14.

الصلة بين النهار والليل:

النهار من الألفاظ المقابلة للفظة الليل، وغالب آيات الليل جاءت مقرونة بلفظ النهار.

النور:

النور لغةً:

قال ابن فارس: «النون والواو والراء أصلٌ صحيح يدل على إضاءةٍ واضطراب وقلة ثبات. منه النور والنار، سُمِّيا بذلك من طريقة الإضاءة؛ ولأن ذلك يكون مضطربًا سريع الحركة»15.

النور اصطلاحًا:

قال الراغب: «النور: الضوء المنتشر الذي يعين على الإبصار»16.

الصلة بين النور والليل:

النور من الألفاظ المقابلة للفظة الظلام، فالنور عكس الظلمة، وأتي به هنا؛ لأنه خاصية للنهار كما أن الظلمة خاصية الليل.

الليل آية كونية

أولًا: الليل نعمة إلهية:

إن من رحمة الله عز وجل بخلقه أن سَيَّرَ ونَظَّمَ لهم أمور حياتهم، وجعل الليل والنهار شاهدين على ذلك، فقال تعالى: ( ﮞﮟ ﮢﮣ ) [النحل: ١٢].

«ووجه تسخير هذه الأشياء لنا: هو أن الله خلقها، وجعل فيها منافع للخلق؛ فجعل في النهار معاشًا للخلق وتقلبًا فيه يتعيشون، وجعل الليل راحةً لهم وسكنًا، ينتفعون بهما، وكذلك ما جعل في الشمس والقمر والنجوم من المنافع: من إنضاج الفواكه والثمرات، وإدراك الزروع وبلوغها، ومعرفة الحساب والسنين والأشهر، ومعرفة الطرق والسلوك بها، وغير ذلك من المنافع ما ليس في وسع الخلق إدراكه»17.

ولذلك قال الله تعالى بعد هذه الآية ( ﭭﭮﭯ ﭰﭱﭲﭳ ﭵﭶ) [النحل: ١٨].

فجعل الليل من ضمن النعم المحكية.

ولليل فوائد عظيمة ذكرها الله عز وجل في القرآن الكريم، ومن هذه الفوائد:

  1. أنه جعل الليل سكنًا ولباسًا، والنوم فيه سباتًا.

    وهذه منة عظيمة من الله تعالى؛ إذ السكون راحة لكل متحرك بالنهار، فتهدأ به النفوس من التعب وتستقر الأبدان18.

    قال تعالى: (ﭧﭨ ﭩ ﭪ ﭫ) [الأنعام: ٩٦].

    كما أنه سبحانه وتعالى جعل النوم سباتًا، أي: راحةً لأبدانكم بانقطاعكم عن الأشغال.

    قال تعالى ( ﭿ ) [الفرقان: ٤٧].

    وأصل السبات من التمدد. وقيل: للنوم سبات؛ لأنه بالتمدد يكون، وفي التمدد معنى الراحة19.

    وفي الآية «إشارة إلى أن النوم ظاهرة غير ظاهرة الراحة والسكون، فقد يستريح الإنسان ويسكن، ولكن وجوده كله حركة عن طريق العقل، الذي لا يكف عن العمل والتفكير، إلا بالنوم المستغرق، الذي يسكن فيه العقل، كما تسكن الجوارح، فالسبات هو السكون التام»20.

    ووصف سبحانه في الآية السابقة الليل بأنه كاللباس الذي يستر البدن ويواريه عن الأنظار، فكأن الليل إذا دخل بظلامه غطى كل شيء وستره لكي ترتاح معه خلايا الكائنات الحية وتستعد لمزاولة عملها بنشاط في النهار21.

    وقال تعالى: ( ﯣﯤ ) [النمل: ٨٦].

    وتكرر جعل الليل للسكن في سورة يونس (٦٧)، وسورة القصص (٧٣)، وسورة غافر (٦١).

    قال ابن كثير في قوله تعالى: ( ﯞﯟ ) «أي: فيه ظلامٌ تسكن بسببه حركاتهم، وتهدأ أنفاسهم، ويستريحون من نصب التعب في نهارهم»22.

  2. المصالح الدنيوية المترتبة على تعاقب الليل والنهار واختلافهما.

    وهذه المصالح مسخرة للإنسان لكي تستمر دورة الحياة لديه.

    ولذلك حث الله تعالى أولي الألباب على التفكر في اختلاف الليل والنهار.

    قال تعالى: ( ﮋﮌ ) [آل عمران: ١٩٠].

    قال السمين الحلبي (رحمه الله ٧٥٦هـ): «والمراد باختلاف الليل والنهار: تعاقبهما، وذهاب هذا ومجيء الآخر، كقوله: ( ) [الفرقان: ٦٢]»23.

    وفائدة تعاقب الليل والنهار وزيادة ساعات أحدهما على الآخر في فصول السنة الأربع: اختلاف الثمار وتنوعها بحسب الفصل التي هي فيه، فهناك ثمار لا تأتي إلا في الصيف، وأخرى في الشتاء، وهكذا.

    ولذلك قال ابن كثير في قوله تعالى ( ) [آل عمران: ٢٧].

    «أي: تأخذ من طول هذا فتزيده في قصر هذا فيعتدلان، ثم تأخذ من هذا في هذا فيتفاوتان، ثم يعتدلان، وهكذا في فصول السنة: ربيعًا وصيفًا وخريفًا وشتاءً»24.

    وقال سيد قطب: «وجعل حاجتهم إلى النشاط والعمل يلبيها الضوء والنهار، وحاجتهم إلى النوم والراحة يلبيها الليل والظلام، مثلهم مثل جميع الأحياء على ظهر هذا الكوكب على نسب متفاوتة في هذا ودرجات، وكلها تجد في نظام الكون العام ما يلبي طبيعتها ويسمح لها بالحياة»25.

  3. تجدد دورة الحياة واستمرارها.

    فلو كانت الحياة ليلًا لتعطلت مصالح الخلق، ولو كانت نهارًا لما وجد النوم والسكن والسبات، وكذلك الأمر في الكائنات الحية الأخرى كالنبات، فهي تحتاج للظلام كما تحتاج للنور، فتبارك الله أحسن الخالقين، وقد جاءت الإشارة في ذلك بقوله تعالى: ( ﭡﭢ ) [القصص: ٧١].

    فوجود الليل أو النهار للأبد بمفرده يترتب عليه حصول الضرر بالخلق، وحصول السآمة والملل والتعب26، فكان من حكمة الله وقضائه أن جعلهما متعاقبين.

  4. معرفة الأزمنة والأوقات، والاستدلال بها على الطرقات.

    قال تعالى: (ﭟ ﭠ ﭡ) [النحل: ١٦].

    وقال تعالى: ( ﯛﯜ ﯝﯞ ) [يونس: ٥].

    وقال تعالى ( ﮇﮈ ﮋ ﮌ ﮗﮘ ) [الإسراء: ١٢].

    ولا شك في أن لمعرفة الزمن والوقت فائدة عظمى للمسلم وهي تنظيم وقته، وتحديد أهدافه وأعماله في اليوم والليلة.

    قال ابن كثير: «يمتن تعالى على خلقه بآياته العظام، فمنها مخالفته بين الليل والنهار، ليسكنوا في الليل وينتشروا في النهار للمعايش والصناعات والأعمال والأسفار، وليعلموا عدد الأيام والجمع والشهور والأعوام، ويعرفوا مضي الآجال المضروبة للديون والعبادات والمعاملات والإجارات وغير ذلك»27.

    ثانيًا: التفكر في آية الليل:

    إن المتأمل في كتاب الله عز وجل يجد أنه حث على التدبر والتفكر في خلق الليل والنهار، وامتدح المتدبرين بأنهم أصحاب العقول والألباب، وتارة وصفهم بالمتقين، وما ذلك إلا لأهمية التفكر في خلقهما.

    وقد ورد الحث على التفكر في اختلاف الليل والنهار الذي هو بمعنى التعاقب في خمسة مواطن في القرآن الكريم.

    قال تعالى: ( ﭸﭹ ) [البقرة: ١٦٤].

    وقد جاءت هذه الآية بعد قوله: ( ﯿﰀ ) [البقرة: ١٦٣]؛ لتدل بالدليل القاطع على وحدانية الله واستحقاقه للعبادة، بعد ذكر صورٍ من مخلوقات الله وقدرته فيها وتسخيرها للخلق.

    ويتكرر المشهد مرة أخرى في القرآن عند قوله تعالى: (ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮒ ﮓ) [آل عمران: ١٩٠]؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما أنزلت عليه الآية: (ويلٌ لمن قرأها ولم يتفكر)28.

    وقد «جعل الله آية الليل والنهار للتدبر والنظر المؤديين إلى الاستدلال على قدرة صانعها، المدبر لأمرها»29.

    وسئل الأوزاعي (رحمه الله ١٥٧هـ): ما غاية التفكر فيهن؟ قال: يقرؤهن وهو يعقلهن30.

    وكذلك الأمر في آية سورة يونس، بعدما ذكر الحكمة في التفريق بين وصف الشمس بالضياء، وبين وصف القمر بالنور.

    والتفكر في آية الليل والنهار يزداد روعةً حينما يربط القرآن بينهما وبين الحياة والممات، فقال تعالى: ( ﮋﮌ ﮏﮐ ) [المؤمنون: ٨٠].

    «ثم إنه سبحانه حذر من ترك النظر في هذه الأمور فقال: ( )؛ لأن ذلك دلالة الزجر والتهديد»31.

    وبَيَّنَ سبحانه وتعالى أنه يلبس الليل النهار بظلامه، ويلبس النهار الليل بضيائه، وجعلها من الآيات التي من تفكر فيها دلت عليه، فقال تعالى: ( ﮉﮊ ﮋﮌ ﮑﮒ ﮕﮖ ) [الرعد: ٣].

    كما أخبر سبحانه بأن نعمة الليل والنهار تستوجب الشكر والتذكر، فقال تعالى: ( ) [الفرقان: ٦٢].

    وجعل الاتعاظ بتعاقب الليل والنهار من خصال ذوي البصيرة.

    قال تعالى: ( ﭔﭕ ) [النور: ٤٤].

    والخلاصة: أن القرآن مليء بالآيات التي حثت على التفكر والتدبر في آية الليل والنهار، والنظر فيها بعين البصيرة والبصر؛ لتقود المرء إلى تقوية إيمانه بالله تعالى، وشكر نعمته فيهما.

    ثالثًا: علاقة الليل بالنهار:

    إن علاقة الليل بالنهار والنهار بالليل تدور بين التلازم من ناحية، وبين التضاد من ناحية أخرى.

  1. علاقة التلازم.

    ومن خلال ما سبق يظهر بأن الليل والنهار آيتان متلازمتان يكمل كل منها الآخر، كما أنهما لا ينفكان عن بعضهما البعض، إذا ذهب هذا جاء الآخر، والعكس كذلك، وهذا ما يشير إليه لفظ القرآن في قوله تعالى: ( ) [فاطر: ١٣].

    وقوله تعالى: ( ) [الأعراف: ٥٤].

    أي: يورد الليل على النهار فيلبسه إياه حتى يذهب بنوره، وكل ذلك يكون بسرعة كبيرة32.

    قال ابن كثير: «كل منهما يطلب الآخر طلبًا حثيثًا، يتعاقبان لا يفتران، ولا يفترقان بزمان غيرهما»33.

    وقال تعالى: ( ﭔﭕ ) [النور: ٤٤].

    قال ابن جرير: «يعقب الله بين الليل والنهار ويصرفهما، إذا أذهب هذا جاء هذا، وإذا أذهب هذا جاء هذا، وفي تقليبه الليل والنهار لعبرة لمن اعتبر به، وعظةً لمن اتعظ به، ممن له فهم وعقل»34.

    وقد سبق التنويه بأن لفظ الليل في غالب القرآن الكريم وأكثره جاء مقرونًا بالنهار، وهو من الدلائل الدالة على التلازم، فالتلازم اللفظي بينهما في القرآن يحرك المشاعر والعقول لإيجاد الحكمة من كثرة ذكرهما متعاقبين، ليصل إلى حقيقة سبب جعلهما آيتين: وهي العظة والعبرة والتفكر والتأمل في خلقهما، وشكر الباري سبحانه على نعمته فيهما، ومعرفة عظمة الله الخالق جل جلاله، وأنه المستحق للعبادة والخضوع والتذلل.

  2. علاقة التضاد.

    ومع كون العلاقة بين الليل والنهار متلازمة من حيث التتابع والتعاقب؛ إلا أنهما متضادان يختلف كل منها عن الآخر من ناحيتين:

    الأولى: من حيث الوصف بالظلمة والضياء، فالليل يأتي معه الظلام، والنهار يأتي معه الضياء، وشتان بينهما، ولكلٍّ فوائد.

    الثانية: أنهما لا يجتمعان في وقت واحد35، فهو من المحال الكوني وقوعه في سنن الله تعالى، وهذا ما يشهد له الواقع، وكذلك قوله تعالى: ( ﯾﯿ ) [يس:٤٠].

    قال الحسن: «لكل واحدٍ منهما سلطان، للشمس سلطانٌ بالنهار، وللقمر سلطانٌ بالليل»36.

    ومن هنا يستشعر المرء عظمة الله جل جلاله وحكمته في تدبير الخلق، فمع هذا الاختلاف الواضح بينهما يكونا متلازمين بتلازم حركة الأفلاك الدائرية، وتوالي أحدهما على الآخر، من غير اختلالٍ في النظام الكوني الفسيح، فسبحان الله رب العالمين، وأحكم الحاكمين.

    أوصاف الليل

    إن الوصف يزيد الموصوف ظهورًا ووضوحًا، ويبين ماهيته، ويضيف فوائد من جراء ذلك الوصف.

    ولقد وصف الله تعالى الليل بأوصافٍ عديدة في القرآن الكريم، بيانها في التقسيم التالي:

    ١. السُّبات.

    والسُّبات: هو الراحة والسكون؛ ولذلك سمي السبت سبتًا، لأنه يوم راحةٍ ودعة37.

    قال تعالى: ( ﭿ ) [الفرقان: ٤٧ ].

    وقال تعالى: ( ) [النبأ: ٩].

    والملاحظ في الآيتين السابقتين أن السبات وصفٌ للنوم لا لليل، وللإجابة عليه يرد احتمالان:

    الاحتمال الأول: أنه عطف النوم على الليل، والعطف متعلق بالجملة الفعلية، وهذا الملاحظ من آية الفرقان.

    الاحتمال الثاني: الإشارة والتنبيه على أن الراحة والسكون والنوم يكون بالليل، وهذا هو الأصل، ولذا كان من رحمة الله وحكمته أن جعل الراحة والنوم بالليل، فقد اكتشف العلماء أن في الدماغ غددًا صنوبرية تقوم بإفراز مادة هرمونية تسمى الميلاتونين التي تؤثر وتساعد في عملية النوم، ويزداد إفرازها أكثر في الظلام38.

    وقد «أظهرت دراسة حديثة أن استخدام الكومبيوتر أو ألعاب الفيديو ليلًا قد يحرم صاحبه النوم أثناء تلك الليلة، ويعود السبب في ذلك إلى أن الضوء الساطع لشاشة الكومبيوتر يمكن أن يغير موعد النوم من الناحية البيولوجية ويثبط الإفراز الطبيعي لهرمون الميلاتونين التي يعتبر مهمًّا لدورة النوم والاستيقاظ لدى الناس. ويقول الباحثون: إن التعرض للضوء يؤثر على كمية الميلاتونين التي ينتجها الجسم، والذي يؤدي بدوره إلى اضطراب النوم وخاصةً بين كبار السن»39.

    كما أن العلماء اكتشفوا أن النوم بالنهار يؤثر على الجهاز العصبي بعكس الليل؛ كل هذا له حكمة في دورة حياة الإنسان، فسبحان الله أحكم الحاكمين.

    وفي آية الفرقان يأتي تساؤل من جراء خلق الليل لباسًا والنوم سباتًا وكلاهما وجدا للراحة والسكون، فهل هناك من فائدة زائدة؟!

    لا شك في أن الليل والنوم يشتركان في كونهما محطةً زمنية لراحة الأبدان والأجساد؛ ولكن النوم يزيد على ما ذكر في أنه راحة للعقل، إذ إن العقل هو المحرك للبدن، ولا بد له من راحة حتى يستعيد نشاطه، وهذ ما يجعل لذكر النوم بعد الليل فائدة، والله سبحانه أعلم بمراده فيها.

    ٢. السجو.

    السين والجيم والواو أصل يدل على سكون وإطباق، يقال سجا الليل، إذا اِدْلَهَمَّ وسكن40.

    وهذا الوصف ورد مرة واحدة في القرآن الكريم، قال تعالى ( ) [الضحى: ٢].

    وجاء في معنى الآية ثلاثة أقوال:

    القول الأول: والليل إذا أقبل، وبه قال سعيد ابن جبير41.

    القول الثاني: والليل إذا ذهب، وبه قال ابن عباس رضي الله عنهما.

    القول الثالث: والليل إذا استوى وسكن، وبه قال مجاهد، وقتادة، والضحاك، وابن زيد. وهو اختيار الطبري42، وابن قتيبة43.

    فيكون المعنى: والليل إذا سكن واستوى بظلامه، أو عبارة عن استكنان المخلوقات فيه.

    وقد سبق الحديث عن هذه الآية من منحى آخر في آيات القسم.

    ٣. السكن.

    والسكن: هو الراحة والهدوء، خلاف الاضطراب والحركة44.

    وقد ورد ذكره في القرآن في سبعة مواضع، منها:

    قال تعالى: ( ﮘﮙ ) [الأنعام: ١٣].

    وقال تعالى: ( ﭮﭯ ) [الأنعام: ٩٦].

    وهذه الآيات تدل دلالة واحدة على أن الحكمة من خلق الليل وإيجاده هو السكن والراحة وقطع الأشغال والأعمال - إلا من عبادة وضرورة -، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يكره النوم قبل العشاء والحديث بعدها45.

    وفي الآية الأولى إشارة إلى امتلاكه سبحانه لكل ساكنٍ في الليل والنهار، وجعل ذلك تمهيدًا لسعة علمه وإحاطته بكل شيء في جميع الأوقات.

    وإنما خص الليل بالذكر لأن الساكن في ذلك الوقت يزداد خفاءً، وعطف النهار عليه لتحقيق تمام الإحاطة والعلم46.

    وقيل: لأنه أغلب الحالين على المخلوق من الحيوان والجماد، ولأن كل متحرك يصير إلى السكون47.

    «وقد جاء قوله: ( ) كالنتيجة للمقدمة؛ لأن المقصود من الإخبار بأن الله يملك الساكنات التمهيد لإثبات عموم علمه، وإلا فإن ملك المتحركات المتصرفات أقوى من ملك الساكنات التي لا تبدي حراكًا، فظهر حسن وقع قوله: وهو السميع العليم عقب هذا»48.

    وفي الآيات أيضًا امتنانٌ من الله تعالى على خلقه، بأن جعل الليل رحمة لهم، ونعمة تستوجب الشكر؛ ولكن أكثر الناس لا يشكرون.

    وبين سبحانه لعباده أن آية الليل هي محض فضلٍ منه تعالى لا عن استحقاق منهم، ولذلك قال: ( ) [غافر: ٦١].

    كما أن الآيات الكريمة كانت في سورٍ مكية لتدلنا على حقيقة تلك التعبيرات القرآنية المليئة بالقوة والجزالة، والمحاجة بالبراهين الكونية والعقلية التي توصل إلى نتيجة واحدة، وهي أن لهذا الكون إلاهًا ومدبرًا واحدًا يستحق العبادة والتوحيد.

    ٤. الغشي.

    الغين والشين والحرف المعتل أصلٌ صحيحٌ يدل على تغطية شيء بشيء49.

    وهذا المعنى هو المقصود من قوله ( ) [الليل:١]50.

    وقيل: إذا غشي الخليقة بظلامه51.

    وعلى أي تفسير كان عليه هذا اللفظ، فإن المقصود منه الوصف الحاصل كل يوم بغشيان ظلام الليل وتغطيته لضوء النهار52.

    ومن ذلك أيضًا: قوله تعالى: ( ﮋﮌ ﮜﮝ ﮡﮢ ) [الأعراف: ٥٤].

    وقوله عز وجل: ( ﮉﮊ ﮋﮌ ﮑﮒ ﮕﮖ ) [الرعد: ٣ ].

    قال السمرقندي: «يعني: إن الليل يأتي على النهار فيغطيه، ولم يقل يغشي النهار الليل؛ لأن في الكلام دليلًا عليه. وقد بين في آية أخرى: ( ) [الزمر: ٥].

    فكذلك هاهنا معناه يغشي النهار الليل ويغشي الليل النهار؛ يعني: إذا جاء النهار يذهب بظلمة الليل، وإذا جاء الليل يذهب بنور النهار»53.

    وجاء في قراءة عاصم من رواية أبى بكر، وقراءة حمزة، والكسائي54: (يغشي) بالتشديد احتجاجًا بقوله تعالى ( ) [النجم: ٥٤].

    فالتشديد يوجب التكرير، وكذلك هو فعلٌ يتكرر ويتردد؛ وذلك أن كل ليلة غير ليل اليوم الآخَرِ، فالتغشية مكررة لمجيئها يومًا بعد يوم، وليلة بعد ليلة55؛ ولذلك كانت أبلغ من قراءة التخفيف مع أن معناهما واحد56.

    وفي آية الأعراف، عقب ذكر غشيان الليل النهار بالطلب الحثيث، وهو السريع، «لأن سرعة تعاقب الليل والنهار تجعل كل واحد منهما كالطالب لصاحبه»57.

    وفي آية الرعد، عقب ذكر غشيان الليل النهار بالتدبر والتفكر في آية الله فيهما، وقد ضمن ذلك المدح للمتفكرين عن غيرهم ممن عطل هذه العبادة القلبية العظيمة.

    ٥. اللباس.

    إن اللباس في الأصل جعله الله تعالى صفة لبني آدم.

    قال تعالى: ( ) [الأعراف: ٢٦].

    ولكن اللباس استعير لوصف الليل بجامع الستر والتغطية، فكما أن اللباس يستر عورة بني آدم، فكذلك الليل يستر الخلائق بظلامه؛ لكي يرتاح من المشقة التي كانت في نهاره، «ولما في هذا الستر من فوائد كثيرة لقضاء الحوائج التي يجب إخفاؤها»58؛ ولذلك قال تعالى: ( ﭿ ) [الفرقان: ٤٧].

    وقال عز وجل: ( ) [النبأ: ١٠].

    وقد ذكر الرازي بعض وجوه النعم من كون الليل ساترًا ولباسًا، فقال: «وأما وجه النعمة في ذلك، فهو أن ظلمة الليل تستر الإنسان عن العيون إذا أراد هربا من عدو، أو بياتًا له، أو إخفاء ما لا يحب الإنسان إطلاع غيره عليه.

    قال المتنبي:

    وكم لظلام الليل عندي من يدٍ

    تخبر أن المانوية تكذب

    وأيضًا فكما أن الإنسان بسبب اللباس يزداد جماله وتتكامل قوته، ويندفع عنه أذى الحر والبرد، فكذا لباس الليل بسبب ما يحصل فيه من النوم يزيد في جمال الإنسان، وفي طراوة أعضائه، وفي تكامل قواه الحسية والحركية، ويندفع عنه أذى التعب الجسماني، وأذى الأفكار الموحشة النفسانية، فإن المريض إذا نام بالليل وجد الخفة العظيمة»59.

    ٦. النشوء.

    النون والشين والهمزة أصلٌ صحيحٌ يدل على ارتفاع في شيء، وأنشأه الله: رفعه. ومنه: ( ) [المزمل: ٦].

    يراد بها والله أعلم القيام والانتصاب للصلاة60.

    جاء عن ابن أبي مليكة قال: سألت ابن عباس وابن الزبير عن ناشئة الليل قالا: قيام الليل. وعن ابن مسعود في قوله: ( ) قال: هي بالحبشية قيام الليل61.

    وقيل: إن الناشئة ما بين المغرب والعشاء، قاله أنس بن مالك. وقيل: ما بعد العشاء الآخرة، قاله الحسن ومجاهد. وقيل: إنها ساعات الليل؛ لأنها تنشأ ساعة بعد ساعة، قاله ابن قتيبة. وقيل: أنه بدء الليل، قاله عطاء وعكرمة. وقيل: أن الليل كله ناشئة، قاله ابن عباس رضي الله عنهما62.

    ولا تعارض يظهر -والله أعلم- بين هذه الأقوال؛ لأنها من باب اختلاف التنوع لا التضاد، فسواءٌ أكان الليل كله، أو ساعة منه، أو بدايته، أو بعد العشاء؛ كل ذلك يشمله قيام الليل.

    ومن هنا تأتي الحكمة في سر اختيار الله تعالى الليل على النهار في القيام بالعبادة، فالقلب يكون فيه أكثر خشوعًا، والبال والبدن أكثر هدوءًا، ولا يمكن حدوث ذلك مع النهار الذي يصحبه الصخب والتعب؛ ولذلك قال الله تعالى: ( ) [المزمل: ٦ ].

    وقال تعالى لنبيه في آيةٍ أخرى: ( ) [الشرح: ٧ - ٨ ].

    قال ابن جرير الطبري: «ناشئة الليل أشد ثباتًا من النهار وأثبت في القلب، وذلك أن العمل بالليل أثبت منه بالنهار»63.

    وقد ورد في قوله تعالى: ( ) قراءتان:

    الأولى: (وطئًا) مقصورة، وهي قراءة ابن كثير، ونافع، وعاصم، وحمزة، والكسائي.

    الثانية: (وطاء) ممدودة، وهي قراءة أبي عمرو وابن عامر64.

    قال الماتريدي: «فمن قرأ: (وطاء) بالمد، فتأويله من المواطأة، وهي الموافقة، أي: موافق للسمع، والبصر، والفؤاد؛ لأن القلب يكون أفرغ بالليالي عن الأشغال التي تحول المرء عن الوصول إلى حقيقة درك معاني الأشياء، وكذلك السمع والبصر يكون أحفظ للقرآن، وأشد استدراكًا لمعانيه.

    ومن قرأه: (وطئًا)، فهو من الوطء بالأقدام؛ فتأويله: أنه أشد على البدن وأصعب؛ لأن المرء قد اعتاد التقلب والانتشار في الأرض بالنهار، ولم يعتد ذلك بالليل، بل اعتاد الراحة فيه، فإذا كلف القيام والانتصاب برجليه في الوقت الذي لم يعتد فيه القيام، كان ذلك أشد عليه وأصعب على بدنه»65.

    والخلاصة في أوصاف الليل المذكورة في القرآن: أنها صرحت وألمحت بأهمية الليل في استمرارية الحياة، وذكرت فوائده على الخلق والإنسان، وحثت على حسن استغلاله.

    أجزاء الليل

    وقد ورد في القرآن الكريم ألفاظ تدل على أجزاء من الليل، ولكنها ترجع إلى ثلاثة أجزاء موزعة بين أوله وأوسطه وآخره، سأذكرها في المطالب الآتية:

    أولًا: الغروب.

    وهو أول الليل، والغروب: غياب الشمس، ولذلك يقال: غربت الشمس، أي: غابت في الغرب66.

    وقد ورد ذكر الغروب في القرآن في قوله تعالى: ( ﮋﮌ ﮑﮒ ) [طه: ١٣٠].

    وقوله عز وجل: ( ﭿ ) [ق: ٣٩].

    والتسبيح هنا المقصود به الصلاة عند الجمهور67، والصلاة التي قبل الغروب اختلف في تحديدها على قولين:

    القول الأول: أنها صلاة الظهر والعصر، قاله ابن عباس رضي الله عنه.

    القول الثاني: أنها صلاة العصر، قاله قتادة68.

    وعلى كلٍّ؛ فإن في الآية لفت الانتباه إلى فضيلة هذين الوقتين المذكورين، والتقوي بالصلاة والذكر فيهما على مواجهة أمور الدنيا نهارًا، وشكر نعمة الله ليلًا.

    وأول أجزاء الليل يشمل الشفق، والزلفة، وكلاهما ذكرا في القرآن الكريم.

    قال الله تعالى: ( ﮯﮰ ﯕﯖ ) [هود: ١١٤].

    وقال الله عز وجل: ( ) [الانشقاق: ١٦].

    والشفق: هو الحمرة في الأفق من ناحية الغرب ،وهي ضياءٌ من شعاع الشمس، وتكون من بعد غروب الشمس إلى صلاة العتمة (العشاء)69، هذا على أرجح الأقوال70. وهو إيذانٌ بدخول الليل؛ ولهذا جاء الليل معطوفًا على الشفق ( ) [الانشقاق: ١٦ - ١٧]71.

    والقسم بالشفق يدل على أهمية هذا الوقت، وأن له منزلة في اليوم والليلة؛ لكي يؤدي المسلم فيه صلاته، ويلتفت إلى ذكر الله بقلبه ولسانه، فيكون دائم الصلة به جل جلاله.

    والشفق هو الوقت الخاشع - الساكن - المرهوب بعد الغروب، يحس القلب بمعنى الوداع وما فيه من أسىً صامت وشجىً عميق، كما يحس برهبة الليل القادم، ووحشة الظلام الزاحف. ويلفه في النهاية خشوعٌ وخوفٌ خفي وسكون!72

    والزلفة: هي بضع ساعاتٍ من الليل، وقيل: المنزلة، ومنه سميت مزدلفة؛ لأنها منزلة بعد عرفة، وقيل: القربة73.

    وقد أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم، الخطاب يتناول أمته؛ لأن المأمور به من الواجبات- في هذه الآية بإقامة الصلاة في طرفي النهار وطائفة من الليل، والأمر يقتضي الوجوب، ولا يكون ذلك إلا للصلوات المفروضة74.

    والمقصود بها في الآية الكريمة: صلاة العتمة (العشاء)75؛ لأنها تصلى بعد مضي زلفٍ من الليل76.

    وعلى أي تفسيرٍ فسرت به الآية الكريمة، فإن المعنى المستفاد منها: أن أداء الصلاة المفروضة وإقامتها على الوجه الأكمل سببٌ في تحصيل الحسنات وتكفير السيئات؛ سواءٌ أكان المقصود منها الصلوات الخمس أم بعضها.

    ويظهر ذلك من خلال التعبير عن الصلاة بالحسنات -على وجه الخصوص لا العموم-.

    ثانيًا: الغسق.

    والغسق أنه أول ظلمة الليل، وقد غسق الليل يغسق، أي: أظلم. والمقصود بالظلمة هنا اشتدادها؛ ولذلك عرف الغاسق بأنه: الليل المظلم إذا غاب الشفق، ومنه قوله تعالى: ( )[الفلق: ٣]77، أي: من شر ظلام الليل إذا دخل وهجم على الخليقة78.

    واشتملت سورة الفلق على ثلاثة أصول: الاستعاذة، والمستعاذ به، والمستعاذ منه.

    فالاستعاذة تدل على التحرز والتحصن والنجاة، وحقيقة معناها: الهروب من شيء تخافه إلى من يعصمك منه.

    والمستعاذ به وهو الله وحده رب الفلق الذي لا ينبغي الاستعاذة إلا به، ولا يستعاذ بأحدٍ من خلقه، بل هو الذي يعيذ المستعيذين، ويعصمهم ويمنعهم من شر ما استعاذوا من شره79.

    والمستعاذ منه الظلام أو الليل إذا دخل.

    والظلمة ليست شرًّا ليستعاذ منها - وكذلك الليل -؛ وإنما للشرور والأضرار المتوقع حصولها فيها، «فأمر بالتعوذ مما يكون فيها، لا أن يكون منها»80.

    وذكر التعوذ من الغاسق بعد الاستعاذة من شر المخلوقات هو من ذكر الخاص بعد العام.

    ومن آيات الغسق في القرآن، قوله تعالى ( ﭮﭯ ﭵﭶ ) [الإسراء: ٧٨].

    ثالثًا: السحر.

    السحر: هو الوقت الذي قبل طلوع الفجر، وهو ثلث الليل الآخر، ومنه السحور، وهو الطعام المأكول في وقت السحر81.

    وقال الزجاج: «السحر أول إدبار الليل إلى أن يطلع الفجر الظاهر البين»82.

    وقد وردت أقوال كثيرة في تقسيم وقت الليل، وأظهرها ما جاء في السنة المطهرة من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلةٍ إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر يقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له)83. فدل على أن الليل ثلاثة أقسام من حيث المدة الزمنية.

    وهذا الوقت من الأوقات الفاضلة التي خصها الله بالصلاة والذكر والدعاء، لبيان فضل العبادة فيها.

    قال تعالى: ( ) [آل عمران: ١٧].

    وقال عز وجل: ( ) [الذاريات: ١٨].

    والمقصود من هاتين الآيتين مدح المتعبدين بالليل، والحث على قضاء الليل بالعبادة سواءٌ أكانت ذكرًا واستغفارًا، أم صلاةً، وقراءة للقرآن، وتفكرًا وتدبرًا، والأفضل: الجمع بين العبادات قدر المستطاع، فصلاة الليل فيها قراءةٌ للقرآن ودعاء، ومن ثم تفكرٌ واستغفار ومناجاة.

    فينبغي للمؤمن أن يجعل لنفسه وقتًا في اليوم والليلة لكي يراجع نفسه، وأن يخصص ليله ببعض العبادات القلبية والعملية؛ لكي يزداد قلبه إيمانًا ويقينًا، وجسده قوة واستعدادًا لمواجهة الأشغال صباحًا.

    الليل والعبادة

    إن الله تعالى هو الأعلم بما يصلح عباده ويصلح لهم، فهو الحكيم في أمره ونهيه؛ ولذلك فرض عليهم أمورًا، وخصص أوقاتًا لها لحصول المنفعة لهم، وكان من ذلك: جعله سبحانه الليل ظرفًا زمنيًّا أوفر حظًّا من النهار في فعل العبادة بجميع أنواعها، وبين فضل ذلك وحث المؤمنين عليه.

    ولهذا كان شعار النبي صلى الله عليه وسلم حين قالت له عائشة رضي الله عنها، وقد كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه - لم تصنع هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: (أفلا أكون عبدًا شكورًا)84.

    وعلى طريق القدوة مشى الصحابة والتابعون ومن تبعهم من الصالحين، فعرفوا فضل هذه المدة الزمنية من بين ساعات اليوم، فشمروا عن ساعد الجد، وأخذوا يهتبلون الفرصة فيه بفعل الطاعات والأنس بالله جل جلاله.

    ولقد تحدث القرآن الكريم عن عباداتٍ كثيرة تفعل بالليل، ومن ذلك: القيام، والتهجد، والذكر، والتفكر، وقراءة القرآن.

    أولًا: قيام الليل:

    إن المتتبع لآيات القرآن الكريم يجدها تأمر بقيام الليل وتحث عليه، وقد «كان قيام الليل واجبًا على النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى أمته حولًا، ثم نسخ في حق الأمة وجوبه، ثم بعد ذلك نسخ الله تعالى ذلك كله ليلة الإسراء بخمس صلوات»85.

    قال تعالى: ( ) [المزمل: ٢ - ٦].

    والناشئة هي القيام، وسبق شرح هذه الآية في معنى النشوء، ويفاد من قوله تعالى في ختام الآية السابقة ( ): التحريض على قيام الليل لكثرة الأجر فيه86.

    وقال سبحانه: ( ﭿ ) [الإسراء: ٧٩].

    ففي هذه الآية أمرٌ خاصٌّ للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يتهجد بقراءة القرآن في صلاة الليل من باب الزيادة على المفروضات التي فرضها الله عليه، وهو لأمته ندبًا. والتهجد: التيقظ والسهر بعد نومةٍ من الليل87.

    والضمير في «به» عائدٌ على القرآن؛ لأنه روح الصلاة وقوامها88.

    فـ«قيام الليل والناس نيام، والانقطاع عن غبش الحياة اليومية وسفسافها والاتصال بالله، وتلقي فيضه ونوره، والأنس بالوحدة معه والخلوة إليه، وترتيل القرآن والكون ساكن؛ هو الزاد لاحتمال القول الثقيل، والجهد المرير الذي ينتظر الرسول وينتظر من يدعو بهذه الدعوة في كل جيل! وينير القلب في الطريق الشاق الطويل»89.

    ولذلك عرف السلف رحمهم الله ما لصلاة الليل والمصلين من فضلٍ، فتجد جنوبهم مرتفعة بعيدة عن مواضع الاضطجاع، كما قال تعالى: ( ) [السجدة: ١٦].

    وقال تعالى: ( ) [الذاريات: ١٧].

    فنومهم بالليل قليل بسبب مكابدتهم للقيام وتلاوة القرآن والذكر؛ خوفًا منه سبحانه ومحبة وأنسًا؛ فهم يستحقون نعت المحسنين.

    ووصفهم الله وصف تشريفٍ بأنهم عباد الرحمن أي: الصفوة من عباده بسبب عدة صفات اتصفوا بها، ومنها: أنهم يقضون ليلهم قائمين ساجدين وخائفين.

    قال تعالى: ( ﯢﯣ) [الفرقان: ٦٤].

    وبين سبحانه وتعالى أن غاية كمال المرء تكون بالعلم والعمل، فقال: ( ﯱﯲ ﯺﯻ ﯿ) [الزمر:٩].

    وبدأ بالعمل لأنه الأهم، مع كون العمل لا يصدر إلا عن علم صحيح وَقَرَ قلب صاحبه.

    وفي هذه الآية ربط عجيبٌ بين القنوت في الليل والعلم، فالعلم الصحيح لا بد وأن يدل صاحبه على العمل والخشية ( ) [فاطر: ٢٨ ].

    كما أن المرء مهما امتلأ قلبه من العلم فإنه يحتاج إلى ساعاتٍ من القيام والمناجاة والتذلل بين يدي الله تعالى؛ شكرانًا لنعمه العظيمة، وتلذذًا بالعبودية له سبحانه.

    والقرآن الكريم لم ينزل إلا للعمل به، وقيام الليل من العمل بالقرآن، فهو أشد وطئًا للقلب وأقوم قيلًا، وأنفع لحال المرء مع ربه خاصة مع سكون الليل بظلامه وخلود الخلق إلى النوم، فلا عين تلاحظ، ولا أذن تسمع، ولا شيء هناك إلا مناجاة العظيم، والإخلاص له.

    وأشارت الآية السابقة إلى أن «الانتفاع بالعمل إنما يحصل إذا كان الإنسان مواظبًا عليه»90.

    ثانيًا: ذكر الله:

    وجاء في آيات الذكر الحكيم مدح المؤمنين الذين يشغلون ليلهم بذكر الله سبحانه وتعالى من تسبيح واستغفار.

    قال عز وجل: ( ) [الذاريات: ١٨].

    وأمر الله نبيه بالتسبيح في أي وقتٍ من الليل - على قول بعض المفسرين أن الأمر للتسبيح91 - ( ﮋﮌ ) [ق: ٤٠].

    وقوله تعالى: ( ) [الطور: ٤٩].

    وجمع الله عز وجل بين الأمر بالصلاة والتسبيح ليلًا في قوله تعالى: ( ) [الإنسان: ٢٦].

    طويلًا: أي في أكثر الليل92.

    إن توجيه القرآن الحكيم لاستغلال الليل بذكر الله تعالى جاء لكي يحقق للقلب راحته وطمأنينته التي لا تكون بالليل، فمن المعلوم أن بذكر الله تطمئن القلوب، ولكن ثمة استعدادٌ للقلب والبدن لا يكون في أعلى درجاته من الخشوع والتدبر وصفاء الذهن وإخلاص العبادة لله فيها؛ إلا بالليل.

    فحريٌّ بنا - نحن المسلمين - أن نلتزم منهج السلف الصالح في قضاء الليل بالمحبب من العبادات؛ لأنها زاد المؤمن الحقيقي لمواجهة الحياة بمغرياتها وفتنها، واستعدادًا لعمل الصالحات فيها.

    ثالثًا: التدبر والتفكر:

    التدبر والتفكر في ملكوت الله تعالى من أعظم العبادات القلبية، وبما أن الليل والنهار من آيات الله تعالى، فالتفكر فيهما من المهمات؛ ولذلك حث الله الخلق على التفكر في خلق الليل والنهار وتعاقبهما، وجعل فيهما عظةً للمتعظين، وحمدًا للشاكرين ( ﮬﮭ ) [الفرقان: ٦٢].

    كما أن القرآن الكريم امتدح المتفكرين والمتدبرين في خلق السماوات والأرض، وتعاقب الليل والنهار بأنهم أصحاب العقول السليمة ( ﮋﮌ ) [آل عمران: ١٩٠].

    وجعل من أسباب تحصيل التقوى: التفكر في خلق الليل والنهار، قال تعالى ( ) [يونس: ٦].

    إلى غير ذلك من الآيات التي تدعو صراحة إلى التفكر في خلقهما، واستغلال العمر في تدبر آيات الله تعالى الكونية؛ لتقود المرء إلى توحيد الله، وتقوية الإيمان به، والخشية منه، وتحقيق تقواه.

    وقد عرف السلف فضل التفكر فقال بعضهم: «الفكرة تذهب الغفلة، وتحدث للقلب الخشية، كما يحدث الماء للزرع النبات، وما خلت القلوب بمثل الأحزان، وما استنارت بمثل الفكرة»93.

    رابعًا: تلاوة القرآن الكريم:

    سبق الحديث عن التفكر في آية الليل والنهار الكونية، وهنا الحديث يختص بالآيات المقروءة المتلوة من كتاب الله تعالى.

    حيث جاء القرآن الكريم ممتدحًا من الناس من صفتهم أنهم قائمون بالليل يتلون آيات القرآن في صلواتهم، ويكثرون التهجد94، قال تعالى ( ﮭﮮ ) [آل عمران: ١١٣].

    وأصل نزول الآية كان لعمل مقارنةٍ بين من أسلم من أهل الكتاب ومن لم يسلم95، وجعل من الموازين التي تقتضي المفاضلة تلاوة القرآن في الليل، سواءٌ أكانت في صلاة أم بدونها.

    وآناء الليل: يعني: ساعاته96، وعبر عن بالسجود بدلًا من التهجد والقيام؛ لأنه يدل على صورة فعلهم، فهو أبلغ وأبين97.

    كما جاء في آيةٍ أخرى مدح الذين يقرؤون كتاب الله تعالى، ووعدهم الله على ذلك: توفية الأجور، والزيادة من فضله، فقال عز من قائلٍ ( ﯹﯺﯻ ﯿﰀ ﰁﰂ ) [فاطر: ٢٩- ٣٠].

    ورد في معنى التلاوة قولان98:

    القول الأول: أنها القراءة.

    القول الثاني: أن المقصود منها الاتباع؛ أي أنهم متبعون لآيات القرآن علمًا وعملًا.

    وفي هذه الآية ملمحٌ يختص بأهل القرآن وحفظته والمهتمين به، بأنهم يداومون على قراءة القرآن، فالفعل المضارع يدل على الاستمرار؛ أي أنهم تلوا ويتلون، فهم دائمي التلاوة.

    وهذا ما ينبغي أن يكون ديدنًا لمن أكرمه الله تعالى بحفظ القرآن الكريم، أو التعلق بحب تلاوته آناء الليل وأطراف النهار؛ أداء لتزكيته، وعملا بما فيه، نسأل الله من فضله العظيم.

    الليل والعذاب

    لقد ارتبط الليل - فيما سبق - بأصنافٍ من العبادة كالقيام والذكر والتدبر وتلاوة القرآن، وفي هذا المبحث سيتم الحديث عن كون الليل آية وجند من جنود الله سبحانه وتعالى في هذا الكون؛ شأنه شأن جميع المخلوقات من حيث الانقياد لأوامر خالقها سبحانه وتعالى.

    حديث القرآن الكريم عن الليل ارتبط بتنزيل العذاب على الأمم السابقة، كقوم عاد، وقوم لوط، وقوم فرعون.

    لذا كان الأمر لأنبيائهم بالخروج مع من آمن من قومهم ليلًا؛ لكيلا يُدْرَكوا، وما ذاك إلا لحكمٍ عظيمة، منها ما هو مخفيٌ، ومنها ما هو ظاهرٌ للخلق.

    ولاشك أن لليل خاصية على النهار في الأمور الحربية التي فيها فرٌّ وكرٌّ، تظهر في كون الليل لباسًا، أي: ساترًا عن الأعين عمومًا، والملاحقة المتربصة خصوصًا، ومن هنا أمر موسى عليه السلام بأن يسري بأهله وقومه ليلًا لكيلا يدركوا، قال سبحانه: ( ) [الدخان: ٢٣].

    فالسرى: هو السير بالليل99، أمرهم الله به وأكده بقوله: ()زيادة للبيان، «وأن يكون له من سعة الوقت ما يبلغون به إلى شاطئ البحر الأحمر قبل أن يدركهم فرعون بجنوده»100.

    وكان خروج موسى عليه السلام مع أتباعه من بين أظهر أعدائهم ليلًا آية من آيات الله، تدل على قدرته سبحانه في تدبير الأمور، ومع ذلك أمر بالخروج والسير ليلًا من باب أخذ الحيطة والحذر، والتخفي عن أعين العدو الأكثر عدة وعتادًا.

    وتكرر الأمر مع نبي الله لوط عليه السلام حينما أمرته الملائكة أن يسري بأهله في بقيةٍ من الليل قبل طلوع الصبح - وهو وقت السحر -، وأخبروه أن موعد نزول العذاب عليهم صباحًا.

    قال تعالى: ( ﯿ ﰁﰂ ﰍﰎ ﰒﰓ ﰖﰗ ) [هود: ٨١].

    وقال سبحانه: ( ) [الحجر: ٦٥].

    والعلة في المشي ليلًا هنا من أجل عدم حصول الممانعة والرفض من قومه وزوجته فيشق عليه دفاعهم، بدليل إخبار الملائكة له بأنهم لن يصلوا إليه (ﯿ )، فكانت الجملة مطمئنة لنبي الله لوط عليه السلام بأنهم لن يدركوا101.

    ومن الآيات التي اجتمع فيها الليل والعذاب قوله تعالى: ( ) [الحاقة: ٦ - ٧].

    حيث بين سبحانه وقوع العذاب في الليل واليوم على قوم عاد الظالمين المكذبين لنبيهم هود عليه السلام، فكان معنى اليوم بمعنى النهار المقابل لليل.

    وعليه: فقد اختار بعض العلماء أن النهار يسبق الليل من خلال هذه الآية، فقد كان النهار أكثر من الليل في العدد.

    والملاحظ من خلال الآيات السابقة: أن الليل جعل سببًا ووسيلةً لنجاة المؤمنين من الطغاة الكافرين، كما أنه جعل ظرفًا زمنيًّا لنزول العذاب، بحكم أن اليوم متكونٌ منه ومن النهار.

    ليالٍ فاضلة ذكرت في القرآن

    تحدث القرآن الكريم عن ليالٍ مخصوصةٍ، وبين فضلها والأحداث التي حصلت فيها؛ ليدل على أهميتها وشرفها عن غيرها.

    وسوف يتم الحديث عن هذه الليالي في النقاط الآتية:

    أولًا: ليلة القدر:

    ليلة القدر هي الليلة الشريفة التي أمرنا بتحريها في ليالي شهر رمضان المبارك، وبالأخص في العشر الأواخر منه، عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رجالًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، أروا ليلة القدر في المنام في السبع الأواخر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر، فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر)102.

    كما أن الله تعالى زاد من تشريف هذه الليلة بإنزال كلامه فيها.

    قال تعالى ( ﭚﭛ ) [الدخان: ٣]103.

    وقال تعالى ( ) [القدر: ١].

    ويزيد القرآن الكريم الوضوح حول هذه الليلة عندما أخبر أنها في شهر رمضان، ( ) [البقرة: ١٨٥].

    كل هذه الآيات مع الأحاديث الشريفة مجتمعة تدل على أن ليلة القدر ليلةٌ شريفةٌ؛ فيها نزل القرآن من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا جملةً واحدة.

    عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «فصل القرآن من الذكر، فوضع في بيت العزة في السماء الدنيا، فجعل جبريل عليه السلام ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم يرتله ترتيلًا»104.

    قال الحافظ ابن حجر: «وما تقدم من أنه نزل جملةً واحدةً من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا، ثم أنزل بعد ذلك مفرقًا هو الصحيح المعتمد»105.

    وخص الله تعالى هذه الليلة الشريفة بالبركة؛ لكثرة نزول الخيرات والرحمات والبركات من السماء فيها، فالله عز وجل جعلها في ميزان الأعمال خيرٌ من ألف شهر، قال تعالى ( ) [القدر: ٣].

    ورجح الإمام الطبري أن المقصود من الآية معنى آخر، وهو أن ليلة القدر خير من ألف شهر، ليس فيها ليلة القدر106.

    وعلى كلٍّ، فإن الآية فيها شحذ الهمم لتحري ليلة القدر والاهتمام بها، والحرص على عمل الصالحات فيها، وبالخصوص القيام وتلاوة القرآن.

    قال الرازي: «والمقصود الأصلي من الكل جر المكلف إلى الطاعة وصرفه عن الاشتغال بالدنيا، فتارةً يرجح البيت وزمزم على سائر البلاد، وتارةً يفضل رمضان على سائر الشهور، وتارةً يفضل الجمعة على سائر الأيام، وتارةً يفضل ليلة القدر على سائر الليالي»107.

    وليلة القدر هي ليلة كتابة الأقدار والأرزاق والآجال.

    قال تعالى: ( ﭚﭛ ) [الدخان: ٣ - ٤].

    قال ابن كثير: «أي: في ليلة القدر يفصل من اللوح المحفوظ إلى الكتبة أمر السنة، وما يكون فيها من الآجال والأرزاق، وما يكون فيها إلى آخرها. وهكذا روي عن ابن عمر، وأبي مالك، ومجاهد، والضحاك، وغير واحدٍ من السلف»108.

    ولما «كانت تلك الأفعال والأقضية دالة على حكمة فاعلها؛ وصفت بكونها حكيمة»109. وجاء التنكير في قوله: ()للتعظيم، ووصفها بـ(المباركة) تنويهًا بها وتشويقًا لمعرفتها110.

    وخلاصة القول: أن ليلة القدر ليلة شريفة مباركة من وجهين:

    الوجه الأول: تصريح القرآن بذلك، وكذلك أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم الكثيرة.

    الوجه الثاني: نزول القرآن الكريم إلى بيت العزة جملة واحدة في تلك الليلة، وابتداء نزوله على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فيها.

    ثانيًا: ليلة الإسراء والمعراج:

    ليلة الإسراء: هي الليلة التي سار فيها النبي صلى الله عليه وسلم على ظهر الدابة (البراق) من المسجد الحرام بمكة إلى المسجد الأقصى بالشام، وهي من آيات النبي صلى الله عليه وسلم الثابتة في القرآن الكريم.

    قال تعالى: ( ﭡﭢ ) [الإسراء: ١].

    ففي الآية دعوة للتعجب مما أسداه الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم من النعمة111.

    وكانت آيةً في ذلك الوقت؛ لأن المدة المتعارف عليها للسير من مكة للشام هي شهر؛ ولكن الله قضى أن يكون ذلك السير في ليلةٍ واحدة آيةً لحبيبه ومصطفاه صلى الله عليه وسلم، وامتحانًا لقلوب عباده عمومًا، فكان منهم المصدق ومنهم المكذب.

    وكان الإسراء بروحه وجسده على الصحيح من أقوال أهل العلم؛ لأن الله عز وجل قال: () ولم يقل: (بروح عبده)، والأصل ألا يعدل عن الحقيقة والظاهر إلى التأويل إلا عند الاستحالة، كما أنه لو كان منامًا لما كانت فيه آية ومعجزة للخلق، ولما قال الله تعالى ( ) [النجم: ١٧ - ١٨]112.

    وأما المعراج: فهو العروج والصعود بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد الانتهاء من الإسراء إلى السماء بصحبة أمين الوحي جبريل عليه السلام.

    وكل ذلك كان على الحقيقة كما هو ظاهر نص القرآن، ولذلك قال الله تعالى بعد ( ﭡﭢ). فرؤية الآيات، والصلاة إمامًا بالأنبياء، وحديثه مع موسى عليه السلام، وقصة فرض الصلاة؛ كل ذلك كان من الآيات العظيمة التي سخرها الله تعالى لنبيه وأكرمه بها.

    ويزيد تلك الليلة شرفًا - مع حدوث تلك الأحداث العظام - ما حدث من تغيرٍ في مجرى التاريخ بفرض الصلوات الخمس، ومراجعة النبي صلى الله عليه وسلم ربه فيها بعد أن كانت خمسين صلاة، كما دل عليه حديث أنس بن مالك رضي الله عنه في الصحيح113.

    لقد كانت ليلة الإسراء والمعراج شريفةً لاحتوائها الشرف من كل صنفٍ، ففي الآيات حَوَتْ أعظم الآيات من صعود لسدرة المنتهى ومقابلة الله تعالى إلخ، وفي البشر حَوَتْ على أفضلهم وخيرتهم، فوجود النبي محمد صلى الله عليه وسلم فيها والأنبياء عليهم السلام في الأرض وفي السماء، كما حوت شرف المكان من خلال الإسراء من مكة لبيت المقدس، والعروج إلى السماء؛ فهي من أشرف ليالي التاريخ.

    ثالثًا: الليالي العشر:

    امتدح الله تعالى عشر ليالٍ في كتابه الكريم فقال ( ) [الفجر: ١ - ٢].

    والفجر هنا هل يقصد به النهار أم صلاة الصبح؟ قولان. والأهم: أن الله تعالى أقسم به وبالليالي العشر ليبين أهميتهما وفضلها. واختلف في معناها على أقوال ثلاثة114:

    القول الأول: أنها عشر ذي الحجة إلى يوم النحر، وهو قول ابن عباس، وابن الزبير، وغيرهما.

    القول الثاني: أنها العشر الأول من المحرم.

    القول الثالث: أنها العشر الأواخر من رمضان. وصوب الطبري القول الأول ونسبه للإجماع115.

    ولاشك أن الليالي العشر التي هي عشر ذي الحجة كانت عظيمة مباركة؛ لاشتمالها على أعظم الأعمال والطاعات؛ كالإحرام، والطواف بالبيت، والمبيت بمنى ومزدلفة، ويوم عرفة، والأضحية، وذكر الله تعالى فيها. وعدل عن تعريفها مع أنها معروفة؛ ليتوصل بترك التعريف إلى تنوينها المفيد للتعظيم116.

    وكان السلف يستغلون تلك الليالي بكثرة قراءة القرآن وذكر الله تعالى والعبادة، ذكر محمد بن نصر المروزي: «عن أبي عثمان - النهدي - كانوا يعظمون ثلاث عشراتٍ؛ العشر الأول من المحرم، والعشر الأول من ذي الحجة، والعشر الأواخر من رمضان»117.

    قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما العمل في أيامٍ أفضل منها في هذه؟) قالوا: ولا الجهاد؟ قال: (ولا الجهاد، إلا رجلٌ خرج يخاطر بنفسه وماله، فلم يرجع بشيءٍ)118.

    رابعًا: ليالي موسى عليه السلام مع ربه عز وجل:

    قال الله تعالى: ( ) [البقرة:٥١].

    وقال تعالى: ( ﮠﮡ ) [الأعراف: ١٤٢].

    ذكر في الآيتين السابقتين نبأ موسى عليه السلام مع قومه بعد النجاة من فرعون وجنوده، وكان قد وعدهم موسى عليه السلام بأن يأتيهم بكتابٍ من عند الله تعالى، فواعده الله أربعين ليلة119.

    واقتصر على ذكر الليالي دون الأيام، وإن كانت الأيام تبعًا معها؛ لأن أول الشهور الليالي، فصارت الأيام لها تبعًا120.

    وسبب بركة هذه الليالي هو مقابلة الله تعالى لموسى عليه السلام بجانب الطور، وأخذه الألواح وفي نسختها هدى ورحمة.

    واختار أكثر المفسرين إنها كانت في ذي القعدة وعشر ذي الحجة، وقال بعضهم: أنها ذي الحجة وعشرٌ من المحرم121.

    وبهذا نكون قد انتهينا من مبحث الليالي المخصوصة بالذكر في القرآن الكريم، مع بيان فضائلها، وسبب خصوصيتها، نسأل الله تعالى أن يشملنا برحمته.

    لمساتٌ إعجازية في الليل

    من خلال ما سبق من عرضٍ لموضوع الليل وآياته في القرآن الكريم، نجد أنها تضمنت الإعجاز العلمي والبياني، ومن أجل ذلك دعا الله جل جلاله العباد إلى التفكر في آية الليل وكذلك آية النهار، وامتدحهم بذلك.

    وسوف أذكر في هذا المبحث بعضًا من اللمسات الإعجازية المستنبطة من آيات الليل في مطلبين اثنين:

    أولًا: الإعجاز العلمي في آيات الليل:

    إن المتدبر لآيات الليل والنهار في القرآن الكريم، يجدها دعت صراحةً للتدبر والتفكر فيهما؛ وما ذلك إلا لوجود حقائق كونية علمية تتعلق بخلقهما، فالتفكر وإعمال العقل البشري في خلقهما يوصل إلى نتيجة واحدة وهي قدرة الله الصانع وعظمته في الكون.

    ومن هذا المنطلق تفانى العلماء والفلكيون في إبراز تلك الحقائق العلمية من خلال دراساتهم وأبحاثهم.

    وفي هذه العجالة سأتطرق للإعجاز العلمي في آيات الليل من خلال محورين:

    المحور الأول: تعاقب الليل والنهار.

    إن الليل والنهار مرتبطٌ بالشمس والقمر، وفي القرآن إشارة إلى ذلك إما بالعطف أو بدونه.

    قال تعالى: ( ) [لقمان: ٢٩].

    وقال عز وجل: ( ﯜﯝ ) [فصلت: ٣٧].

    وقال سبحانه: ( ﯾﯿ ) [يس: ٤٠].

    وقال جل جلاله: ( ﭔﭕ ) [النور: ٤٤].

    إن هذه الآيات -وغيرها- مجتمعة تدل على وجود علاقة بين الليل والقمر من جهة، وبين النهار والشمس من جهة أخرى، فالليل مظلمٌ والقمر معتم، والنهار منيرٌ والشمس ضياء.

    والذي يعنينا هنا هو كيفية تعاقب الليل والنهار، وعلاقة ذلك بالشمس التي هي أساس النظام المجري، والقمر الذي هو نور.

    وبيان ذلك: أن الأرض كوكبٌ منطفئ يدور أمام منبعٍ ضوئيٍ كبيرٍ ملتهبٍ وهو الشمس، ولولا أن الأرض تدور حول محورها غير المتوازي لمستوى دورانها أمام الشمس؛ لما كان هناك ليلٌ ولا نهار.

    لأن هذا هو التصور العقلي الذي يوصل إلى نتيجة تعاقب الليل والنهار، فدوران الأرض حول محورها، ودورانها حول الشمس، وميلان محورها؛ كل هذه معًا كنظامٍ تولد منه اختلاف الليل والنهار وتعاقبهما طبقًا للوصف القرآني، وهنا يكمن الإعجاز القرآني.

    فكلٌّ له مسارٌ يسبح فيه ويتحرك، ولا مجال لإدراك أحدهما على الآخر، ولا يسبق الليل النهار، وفق نظامٍ كونيٍّ دقيق، فتبارك الله أحسن الخالقين.

    ويلاحظ أن هناك وقتين يتداخل فيهما الليل والنهار بحكم دخول أحدهما على الآخر، وسبب هذا التداخل كون الأرض كروية فلا بد من نقطة التقاء بين ظلام الليل وضياء النهار، وهذا ما يظهر من إيلاج الليل في النهار والعكس.

    قال ابن عاشور: «وحقيقة () تدخل وهو هنا استعارة لتعاقب ضوء النهار وظلمة الليل، فكأن أحدهما يدخل في الآخر، ولازدياد مدة النهار على مدة الليل وعكسه في الأيام والفصول عدا أيام الاعتدال، وهي في الحقيقة لحظات قليلة ثم يزيد أحدهما، لكن الزيادة لا تدرك في أولها فلا يعرفها إلا العلماء»122.

    ويتضح ذلك جليًّا «عندما تصعد الشمس شمالًا في الصيف، يزداد طول النهار تدريجيًّا، بينما يحدث العكس في النصف الجنوبي، إذ يتقلص طول النهار تدريجيًّا»123.

    وهناك عاملان رئيسان يتسببان في طول النهار والليل أو قصرهما، وهما ميل الشمس عن خط الاستواء والعرض الجغرافي، فالشمس عندما تكون على خط الاستواء فإن الليل والنهار يتساويان في جميع أنحاء المعمورة، وكذلك فإن الموقع الجغرافي الذي يقع على خط عرض صفر أي على خط الاستواء فإن الليل والنهار يتساويان فيه طول السنة، وكلما ابتعدنا عن خط الاستواء زاد الفرق في طول النهار أو الليل وفي قصرهما، وفي الواقع إن طول النهار في حال الانقلاب الخريفي أو الربيعي أطول بدقائق124.

    كما أن التعبير بتقليب الليل والنهار فيه معنى اختلاف الليل والنهار، فـ«تقليب الليل والنهار هو تغيير الأفق من حالة الليل إلى حالة الضياء، ومن حالة النهار إلى حالة الظلام، فالمقلب هو الجو بما يختلف عليه من الأعراض؛ ولكن لما كانت حالة ظلمة الجو تسمى ليلًا، وحالة نوره تسمى نهارًا: عبر عن الجو في حالتيه بهما، وعدي التقليب إليهما بهذا الاعتبار»125.

    ويلحق بمسألة تعاقب الليل والنهار مسألة أخرى تتعلق بالظلمة وهي ما ذكره العلماء من أن الأصل في الخلق الظلمة، واستدلوا بقوله تعالى ( ) [يس: ٣٧].

    فظاهر النص يفيد أن الأصل في الكون الظلمة، بدلالة التعبير بلفظ (الانسلاخ) الذي جاء الفعل فيه مضارعًا إشارة لتكرره، فالسلخ يكون للنهار ثم يعود على الأصل وهو الظلمة. قال الألوسي:

    المحور الثاني: أثر وجود الليل في حياة الإنسان والحيوان والنباتات.

    سبق ذكر شيءٍ من ذلك الأثر عبر موضوعين، ويمكن تلخيص ذلك في النقاط الآتية:

    أولًا: أن الله تعالى جعل الليل والنهار متلازمين ومكملين لبعضهما، وجميع الكائنات الحية تفيد من هذا التلازم، فالإنسان كائنٌ حيٌّ له طاقةٌ محدودة يحتاج معها إلى راحة وطمأنينة وسكينة، ومن أجل ذلك وجد الليل.

    فالنهار جعل لقضاء المعاشات والأعمال والسعي في الأرض؛ فكان من حكمة الله أن يخلق الليل لهذه الحكمة.

    ففي الليل تتجدد خلايا الإنسان ويرتاح جسده بسبب النوم أو الراحة؛ لكي يستعيد نشاطه وقوته فيستعين بها في النهار.

    ثانيًا: اكتشف العلماء مؤخرًا أن النوم بالنهار له تأثيرٌ على الجهاز العصبي بسبب قلة إفراز مادة الميلاتونين من قبل الغدة الصنوبرية في الدماغ، وقد سبق شرح ذلك.

    وهذا ما يفسر حالة القلق والكآبة الحاصلة لبعض الناس، والتي من أهم أسبابها السهر بالليل وعدم النوم، فمخالفة الفطرة التي فطر الله الناس عليها في ذلك يوصل القلق خاصةً في ظل قضاء الليل بالملهيات والبعد عن عبادة الله تعالى.

    ثالثًا: أن باجتماع ظلام الليل وضوء النهار حياة للنباتات، وسببٌ في دوام استمرارها.

    قال تعالى: ( ﮉﮊ ﮋﮌ ﮑﮒ ﮕﮖ ) [الرعد: ٣].

    وفي الآية إشارةٌ إلى أن تتابع الليل والنهار له علاقة مهمةٌ في حياة النباتات وإنتاج الثمار، ويظهر الإعجاز في ذلك من خلال عملية البناء الضوئي، «ففي النهار يقوم النبات بعملية البناء الضوئي، وبها يستطيع النبات تحويل الطاقة الضوئية للنهار إلى طاقة كيماوية مخزنة في الروابط بين جزيئات المواد الغذائية الناتجة في النبات، وتخزينها في مخازن الطاقة في النبات في جزيئات، أي: الادينوزين ثلاثي الفوسفات، والادينوزين ثنائي الفوسفات.

    وفي البناء الضوئي يثبت النبات ثاني أكسيد الكربون الجوي على هيئة ذرات كربون في المواد الغذائية النباتية مثل السكريات والدهون.

    يلي تفاعلات الضوء تفاعلات الظلام في دورة منتظمة، وتكون المحصلة النهائية لتفاعلات الضوء وتفاعلات الظلام تكوين المواد الكربوهيدراتية التي منها ينتج باقي المواد والمركبات النباتية»126.

    ثانيًا: الإعجاز البياني في آيات الليل:

    لاشك أن القرآن الكريم نزل بلسان عربيٍ مبين، وقد تحدى الله تعالى الناس قاطبة بأن يأتوا بآيةٍ على نفس بيانه ونظامه، فلم ولن يستطيعوا فعل ذلك، وما ذلك إلا لأنه كلام الله المعجز البليغ الفصيح.

    وكانت آيات الليل في القرآن الكريم ذات نصيبٍ وافرٍ من تلك الوجوه البيانية، ومن ذلك:

    أولًا: استخدام أسلوب الاقتران، وهو الأكثر في القرآن كما سبق، بأن يذكر الليل والنهار مع بعضهما البعض في آيةٍ واحدة، بفاصل أو بدونه وهو الأغلب127.

    وكثرة الاقتران بينهما في القرآن جاء ليرشدنا إلى أهمية التفكر والتدبر في هاتين الآيتين العظيمتين، مع ما جاء من الحث الصريح على التفكر فيهما.

    ثانيًا: إفراد أحدهما على الآخر في الذكر، وقد كان لليل قصب السبق هنا، لتعدد الليالي المخصوصة المذكورة في القرآن، ولأهميته وخصوصيته ببعض العبادات والتفرغ عن الأشغال، بخلاف النهار الذي لم يفرد بالذكر إلا في ثلاثة مواضع128.

    ومن هذه الليالي المذكورة: ليلة القدر، وليلة الإسراء، والليالي العشر، وليلة الصيام، وليالي موسى عليه السلام، والليلة التي أمر الله تعالى فيها موسى عليه السلام أن يسري ببني إسرائيل ابتعادًا من عدو الله فرعون، وكذا ليلة لوط عليه السلام.

    كما انفرد الليل بالقيام والتهجد عن النهار، وذلك بيانًا لفضل صلاة الليل، وحثًّا على استغلال تلك الدقائق والساعات كل ليلة، كما قال تعالى ( ) [المزمل: ٦].

    ثالثًا: استخدام أسلوب التقديم والتأخير، وهو «ظاهرةٌ لطيفةٌ، وفقهٌ بلاغيٌّ رفيع في التعبير القرآني، يعتبر دليلًا واضحًا على الإعجاز البياني في القرآن.

    ومن المعلوم في صياغة الجملة في اللغة العربية: أن كلَّ كلمةٍ فيها لها ترتيبٌ خاصٌّ فيها بحسب وضعها، المبتدأ مقدمٌ على الخبر، والفعل مقدمٌ على الفاعل هذا هو الأصل في صياغة الجملة.

    وقد تدعو بعض الأسباب والمقتضيات إلى العدول عن هذا الأصل، ونقل بعض الكلمات من مواضعها الأصلية في الجملة إلى مواضع أخرى، بتقديمها أو تأخيرها، وذلك لتحقيق غرضٍ بلاغيٍّ مراد، والتركيز على معنى بيانيٍ ملحوظ.

    واستخدم القرآن أسلوب التقديم والتأخير على أرفع صورةٍ بيانيةٍ، وبدقةٍ عجيبةٍ معجزة، ورصف الألفاظ في الجملة بجنب بعض، بطريقة متناسقةٍ رائعةٍ»129.

    وقد جاء هذا الأسلوب في اثنين وخمسين موضعًا بتقديم الليل على النهار، والحكمة من ذلك هي السبق الزماني، وقد بينها السيوطي بقوله: «السبق، وهو إما في الزمان باعتبار الإيجاد، كتقديم الليل على النهار، والظلمات على النور، وآدم على نوح، ونوح على إبراهيم.الخ»130.

    رابعًا: استخدام أسلوب الاستعارة، وهي: اللفظ المستعمل في غير ما وضع له، لعلاقة المشابهة، مع قرينةٍ مانعةٍ من إرادة المعنى الوضعي، أو قل: هو تشبيهٌ حذف أحد طرفيه131.

    وقد جاءت الاستعارة في قوله تعالى: ( ) [يس: ٣٧].

    «استعارة محسوس لمحسوس بوجهٍ عقلي»132، وإجراء الاستعارة: «شبه كشف الضوء عن الليل، بكشط الجلد عن نحو الشاة، بجامع ترتب ظهور شيءٍ على شيءٍ في كلٍّ، واستعير لفظ المشبه به وهو «السلخ» للمشبه، وهو كشف الضوء، واشتق منه «نسلخ» بمعنى نكشف، على طريق الاستعارة التصريحية التبعية»133.

    خامسًا: استخدام أسلوب التوشيح، وهو نوعٌ من أنواع البديع، عرف بأنه: ما دلَّ أول الكلام على آخره.

    وجاء هذا الأسوب في قوله تعالى ( ) [يس: ٣٧].

    «فإن من كان حافظًا لهذه السورة متفطنًا إلى أن مقاطع آيها النون المردفة، وسمع في صدر الآية انسلاخ النهار من الليل علم أن الفاصلة «مظلمون »، لأن من انسلخ النهار عن ليله أظلم، أي دخل في الظلمة، ولذلك سمي توشيحا، لأن الكلام لما دل أوله على آخره نزل المعنى منزلة الوشاح، ونزل أول الكلام وآخره منزلة العاتق والكشح اللذين يجول عليهما الوشاح»134.

    سادسًا: استخدام أسلوب اللف والنشر، وهو أن يذكر متعدد، ثم يذكر ما لكلٍ من أفراده شائعًا من غير تعيين، اعتمادًا على تصرف السامع في تمييز ما لكلٍّ واحدٍ منها، ورده إلى ما هو له.

    وقد جاء هذا الأسلوب في حديث القرآن عن الليل بنوعيه:

    الأول: أن يكون الترتيب في النشر على ترتيب اللف أو الطي، قال تعالى ( ﭿ ) [القصص: ٧٣].

    فالسكون راجعٌ إلى الليل، والابتغاء إلى النهار، والأمر على الترتيب.

    الثاني: أن يكون الترتيب في النشر على خلاف ترتيب اللف أو الطي، قال تعالى ( ﮇﮈ ﮋﮌ ﮗﮘ ) [الإسراء: ١٢].

    حيث ذكر ابتغاء الفضل للثاني، وعلم الحساب للأول، على خلاف الترتيب135.

    سابعًا: استخدام أسلوب الطباق أو المطابقة، وهو الجمع بين المتضادين في الجملة136، وقد ورد ذلك كثيرًا فيما يختص بآيات الليل والنهار مجتمعان، ومن ذلك قوله تعالى: ( ﭔﭕ ) [النور: ٤٤].

    ثامنًا: إطلاق اسم الجزء على الكل، وهو من علم المعاني، ومن ذلك قوله تعالى ( ) [المزمل: ٢].

    ( ) [الطور: ٤٩]137، أي: ومن الليل، أي: زمنا هو بعض الليل138.

    تاسعًا: إطلاق اسم الحال على المحل، وهو من علم المعاني أيضًا، ومثاله: قال تعالى ( ) [سبأ: ٣٣]139، فالليل والنهار لا يصدر منهما المكر، ولكن المعنى وقوع مكرهم في الليل والنهار.

    عاشرًا: استخدام أسلوب التعريف والتنكير، وقد وردت لفظة الليل مفردة معرفة كما في قوله تعالى ( ) [آل عمران: ٢٧ ].

    وكقوله تعالى ( ﮘﮙ ) [الأنعام: ١٣].

    وجاءت مفردة منكرة (ظرف زمان) كما في قوله تعالى ( ) [يونس: ٢٤ ].

    وقوله تعالى ( ) [نوح: ٥].

    موضوعات ذات صلة:

    الآيات الكونية، الشمس، الظلمات، القمر، النهار، الوقت


1 انظر: تهذيب اللغة، الأزهري، ١٥/٣١٨، مقاييس اللغة، ابن فارس، ٥/٢٢٥، لسان لعرب، ابن منظور، ٨/١٧٨.

2 انظر: تهذيب اللغة، الأزهري ١٥/٣١٨، لسان لعرب، ابن منظور ٨/١٧٨.

3 لسان لعرب، ابن منظور ٨/١٧٨.

4 المفردات، الراغب الأصفهاني ٢/٥٨٩، لسان لعرب، ابن منظور ٨/١٧٨.

5 تهذيب اللغة، الأزهري ٦/١٤٩.

6 انظر: الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٢/١٩٣، لسان العرب، ابن منظور ١١/٦٠٧، نظم الدرر، البقاعي ٩/٧٧، التوقيف على مهمات التعاريف، المناوي ص٢٩٣.

7 انظر: جامع البيان، الطبري ١٥/٢٤.

8 انظر: المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، محمد فؤاد عبد الباقي، ص٦٥٦-٦٥٧، المعجم المفهرس الشامل، عبد الله جلغوم، ص١١٦١-١١٦٢.

9 انظر: مختار الصحاح، الرازي، ص٢٨٧، عمدة الحفاظ، الحلبي ٤/٦٠-٦١، بصائر ذوي التمييز، الفيروزآبادي ٤/٤٧١.

10 انظر: مقاييس اللغة، ابن فارس ٣/٤٦٨، مختار الصحاح، الرازي ١/١٩٧.

11 التعريفات ص١٤٤.

12 انظر: تاج العروس، الزبيدي ١٤/٣١٨، معجم اللغة العربية المعاصرة، أحمد عمر ٣/٢٢٩٢، معجم وتفسير لغوي لألفاظ القرآن، محمد حسن الجمل ٥/١٢٢.

13 روح البيان، ٦/٢٢٢.

14 انظر: تفسير ابن باديس، ص٤٥.

15 مقاييس اللغة ٥/٢٩٤.

16 المفردات ص٨٢٧.

17 تأويلات أهل السنة، الماتريدي ٦/٤٨٣ بتصرف.

18 انظر: جامع البيان، الطبري ١١/٥٥٧، الهداية إلى بلوغ النهاية، مكي بن أبي طالب ٣/٢١١٣.

19 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ١٣/٣٨ بتصرف.

20 التفسير القرآني للقرآن، الخطيب ١٠/٣٥.

21 انظر: في ظلال القرآن، سيد قطب ٥/٣٠٩٣.

22 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٦/٢١٥.

23 القول الوجيز في أحكام الكتاب العزيز، تحقيق سورة آل عمران، ص ٣٧٥.

24 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٢/٢٩.

25 في ظلال القرآن، سيد قطب ٥/٢٧٦٤.

26 انظر: تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٦/٢٥٢.

27 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٥/٤٩.

28 أخرجه ابن حبان في صحيحه، ٢/٣٨٦، رقم ٦٢٠، باب التوبة، وأبو القاسم الأصبهاني في الترغيب والترهيب ١/٣٨٧.

29 القول الوجيز، الحلبي ص ٢٧٤.

30 الفتح السماوي، المناوي ١/٢٠٥.

31 مفاتيح الغيب، الرازي ٢٣/٢٨٩.

32 جامع البيان، الطبري ١٢/٤٨٣.

33 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٥/٤٨٨.

34 جامع البيان، الطبري ١٩/٢٠٣.

35 انظر: مقاييس اللغة، ابن فارس ٣/٣٦٠.

36 انظر: تفسير ابن أبي حاتم ١٠/٣١٩٦.

37 انظر: جامع البيان، الطبري ٢٤/١٥١.

38 انظر: مقالة لـ د.جابر بن سالم القحطاني في جريدة الرياض، نشرت في يوم الاثنين ٢٨ ربيع الأول ١٤٢٨هـ، ١٦أبريل ٢٠٠٧م، العدد ١٤١٧٥.

39 مقالة من موقع د.جمال عبد العظيم، نشرت في ٨ ديسمبر ٢٠١٠م.

40 مقاييس اللغة، ابن فارس ٣/١٣٧.

41 انظر: تفسير ابن أبي حاتم ١٠/٣٤٤٢.

42 انظر: جامع البيان، الطبري ٢٤/٤٨٢-٤٨٤.

43 انظر: غريب القرآن، ابن قتيبة ص٤٥٩.

44 انظر: مقاييس اللغة، ابن فارس ٣/٨٨.

45 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب مواقيت الصلاة، باب وقت العصر، ١/١١٤، رقم ٥٤٧.

46 انظر: التحرير والتنوير، ابن عاشور ٧/١٥٥.

47 معترك الأقران، السيوطي ١/٢٤٢.

48 التحرير والتنوير ٧/١٥٥- ١٥٦.

49 مقاييس اللغة، ابن فارس ٤/٤٢٥.

50 انظر: الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٢٠/٨٠.

51 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٨/٤١٧.

52 انظر: النكت والعيون ٢/٢٣٠.

53 تفسير السمرقندي ١/٥٢١.

54 السبعة، ابن مجاهد ص٢٨٢.

55 الهداية إلى بلوغ النهاية، مكي بن أبي طالب ٤/٢٣٩٧.

56 الحجة في القراءات السبع، ابن خالويه ص١٥٦.

57 النكت والعيون، الماوردي ٢/٢٣٠.

58 التحرير والتنوير، ابن عاشور ١٩/٤٥.

59 مفاتيح الغيب، الرازي ٣١/١٠.

60 مقايس اللغة، ابن فارس ٥/٤٢٨.

61 انظر: تفسير ابن أبي حاتم ١٠/٣٣٨٠.

62 المصدر السابق.

63 جامع البيان، الطبري ٢٣/٦٨٤.

64 السبعة، ابن مجاهد ص ٦٥٨.

65 تأويلات أهل السنة ١٠/٢٧٣.

66 لسان العرب، ابن منظور ١/٦٣٨.

67 انظر: جامع البيان، الطبري ٢٢/٣٧٦.

68 انظر: زاد المسير، ابن الجوزي ٤/١٦٥.

69 التفسير القرآني للقرآن، الخطيب ١٦/١٥٠٧.

70 وممن رجح ذلك الطبري في تفسيره ٢٤/٣١٨، والبغوي في تفسيره ٨/٣٧٥ ونسبه إلى ابن عباس وأكثر المفسرين.

71 انظر: التحرير والتنوير ١٢/١٧٧- ١٧٩.

72 في ظلال القرآن، سيد قطب ٦/٣٨٦٨.

73 انظر: جامع البيان، الطبري ١٥/٥٠٥، مقاييس اللغة ٣/٢١.

74 انظر: التحرير والتنوير ١٢/١٧٧- ١٧٩.

75 هذا على القول الراجح، وهو قول ابن عباس ومجاهد.

أما القول الآخر: فهو أن المقصود بها صلاة المغرب والعشاء.

انظر: جامع البيان، الطبري ١٥/٥٠٦.

76 جامع البيان، الطبري ١٥/٥٠٦ ورجح أنها صلاة العتمة للعلة المذكورة.

77 انظر: تأويلات أهل السنة ١٠/٦٥٦، الصحاح، الجوهري ٤/١٥٣٧.

78 جامع البيان، الطبري ٢٤/٧٠٢ ورجح أن المقصود بدخول المظلم: الليل، لا أنه كوكب الثريا، أو القمر.

79 بدائع الفوائد، ابن القيم ٢/٢٠٠- ٢٠٣ مختصرًا.

80 تأويلات أهل السنة، الماتريدي ١٠/٦٥٦.

81 انظر: مفاتيح الغيب، الرازي ٧/١٦٧.

82 معاني القرآن، الزجاج ١/٣٨٥.

83 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التهجد، باب الدعاء في الصلاة من آخر الليل، ٢/٥٣، رقم ١١٤٥.

84 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب تفسير القرآن، باب (ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر)، ٦/١٣٥، رقم ٤٨٣٧.

85 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٧/٤٠٩.

86 معترك الأقران، السيوطي ٢/٤٢.

87 انظر: جامع البيان، الطبري ١٧/٥٢٣.

88 في ظلال القرآن، سيد قطب ٤/٢٢٤٧.

89 المصدر السابق ٦/٣٧٤٥.

90 مفاتيح الغيب، الرازي ٢٦/٤٢٨.

91 نسب القول بأن الأمر للتسبيح على حقيقته إلى أبي الأحوص.

انظر: النكت والعيون ٥/٣٥٧، و ٥/٣٨٧.

92 جامع البيان، الطبري ٢٤/١١٦.

93 هذا الكلام منسوبٌ لابن عونٍ، وهو في: الكشف والبيان ٣/٢٣١، ومعالم التنزيل ٢/١٥٢، والكشاف ١/٤٥٤، ومفاتيح الغيب، الرازي ٩/٤٦١، والقول الوجيز، للسمين الحلبي، سورة آل عمران ٣٨٨ واللفظ منه.

94 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٢/١٠٥.

95 انظر: جامع البيان، الطبري ٧/١١٨.

96 التصاريف، يحيى بن سلام ص١٩٩.

97 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٤/٥٨.

98 انظر: زاد المسير، ابن الجوزي ٣/٥١٠.

99 مقاييس اللغة، ابن فارس ٣/١٥٤.

100 التحرير والتنوير، ابن فارس ٢٥/٢٩٩.

101 المصدر السابق ١٢/١٣٢.

102 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فضل ليلة القدر، باب التماس ليلة القدر في السبع الأواخر، ٣/٤٦، رقم ٢٠١٥.

103 وهو اختيار الجمهور من المفسرين والعلماء، بأن الليلة المباركة هنا ليلة القدر، وهناك قول آخر: أنها ليلة النصف من شعبان.

انظر: جامع البيان، الطبري ٢٢/٧، ٨، زاد المسير، ابن الجوزي ٤/٨٧، مفاتيح الغيب، الرازي ٢٧/٦٥٢.

104 أخرجه النسائي في الكبرى، كتاب فضائل القرآن، باب كم بين نزول أول القرآن وبين آخره، ٧/٢٤٧، رقم ٧٩٣٧، وابن أبي شيبة في مصنفه ٦/١٤٤، والحاكم في المستدرك، ٢/٢٤٢، رقم ٢٨٨١ وصحح إسناده، ولم يتعقبه الذهبي.

105 فتح الباري ٩/٤.

106 جامع البيان، الطبري ٢٤/٥٣٣.

107 مفاتيح الغيب، الرازي ٣٢/٢٣٢.

108 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٧/٢٤٦.

109 مفاتيح الغيب، الرازي ٢٧/٦٥٥.

110 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٢٥/٢٧٧.

111 زاد المسير، ابن الجوزي ٣/٧.

112 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ١٠/٢٠٨.

113 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الصلاة، باب كيف فرضت الصلاة في الإسراء، ١/٧٨، رقم ٣٤٩.

114 انظر: جامع البيان، الطبري ٢٤/٣٩٦، زاد المسير، ابن الجوزي ٤/٤٣٧.

115 جامع البيان، الطبري ٢٤/٣٩٧.

116 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٣٠/٣١٣.

117 مختصر قيام الليل، المقريزي ٢٤٧.

118 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب أبواب العيدين، باب فضل العمل في أيام التشريق، ٢/٢٠، رقم ٩٦٩.

119 انظر: مفاتيح الغيب، الرازي ٣/٥١١، تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ١/٢٦١.

120 انظر: النكت والعيون، الماوردي ١/٢٠، مفاتيح الغيب، الرازي ٣/٥١١.

121 انظر: الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ١/٣٩٥، البحر المحيط، أبو حيان ١/٣٢٢.

122 التحرير والتنوير ٣/٢١٤.

123 الأرض في القرآن، شاهر جمال ص٧١.

124 من مقال للدكتور: خالد الزعاق، منشور في جريد سبق بتاريخ: ٢٠/١١/١٤٣٤.

125 التحرير والتنوير، ابن عاشور ١٨/٢٦٤.

126 مقال لـ أ.د نظمي خليل أبو العطا موسى بعنوان: (يغشي الليل النهار) معجزة قرآنية، في موقع: موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة.

127 وقد تقدم ذكر الليل على النهار في القرآن أكثر من خمسين مرة.

128 وهذه المواضع هي: الأحقاف:٣٥، ويونس: ٤٥، وآل عمران:٧٢.

129 إعجاز القرآن البياني، صلاح الخالدي ص٢٦١.

130 معترك الأقران، السيوطي، ١/١٣٣.

131 انظر: تلخيص المفتاح ص١٥١ بتصرف.

132 انظر: الإتقان في علوم القرآن، السيوطي ٣/١٥١.

133 جواهر البلاغة، الهاشمي ص٢٦٩ حاشية رقم ١.

134 معترك الأقران، السيوطي ١/٣٩.

135 انظر: معترك الأقران ١/٣١١، جواهر البلاغة، الهاشمي ص ٣١٠.

136 معترك الأقران ١/٣١٤.

137 المصدر السابق ١/١٨٧.

138 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٢٧/٨٥.

139 معترك الأقران ١/١٩٠.