عناصر الموضوع
اللعب
أولًا: المعنى اللغوي:
اللعب واللعب: ضد الجد، لَعِبَ يَلْعَبُ لَعِبًا ولَعْبًا، ولَعَّبَ، وتَلاعَبَ، وتلعب مرة بعد أخرى1.
ويقال لكل من عمل عملًا لا يجدي عليه نفعًا: إنما أنت لاعبٌ2.
قال الراغب: (أصل الكلمة اللعاب، وهو البزاق السائل، وقد لعب يلعب لعبًا: سال لعابه، ولعب فلان: إذا كان فعله غير قاصد به مقصدًا صحيحًا، يلعب لعبًاواللعبة للمرة الواحدة، واللعبة: الحالة التي عليها اللاعب، ورجل تلعابةٌ: ذو تلعبٍ، واللعبة: ما يلعب به، والملعب: موضع اللعب) 3.
ثانيًا: المعنى الاصطلاحي:
وردت تعاريف كثيرة ومتعددة للفظة (اللعب)، نذكر منها:
اللعب ترك ما ينفع بما لا ينفع4.
اللعب ما يشغل الإنسان، وليس فيه منفعة في الحال ولا في المآل5.
اللعب عمل يشغل النفس وينفرها عما تنتفع به6.
اللعب: عملٌ أو قولٌ في خفةٍ وسرعةٍ وطيشٍ، ليست له غايةٌ مفيدةٌ، بل غايته إراحة البال، وتقصير الوقت، واستجلاب العقول في حالة ضعفها7.
وردت مادة (لعب) في القرآن الكريم (٢٠) مرة8.
والصيغ التي وردت هي:
الصيغة |
عدد المرات |
المثال |
الفعل المضارع |
٩ |
(ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ) [يوسف:١٢] |
المصدر |
٨ |
(ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ) [الأنعام:٣٢] |
اسم الفاعل |
٣ |
(ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ) [الأنبياء:١٦] |
وجاء اللعب في الاستعمال القرآني بمعناه اللغوي، وهو: ضد الجد9، وهو أيضًا:كل فعل لا يدل على مقصدٍ صحيحٍ10.
اللهو:
اللهو لغة:
قال ابن منظور: (اللهو: ما لهوت به ولعبت به وشغلك من هوًى وطربٍ ونحوهما. واللهو: اللعب. يقال: لهوت بالشيء ألهو به لهوًا وتلهيت به إذا لعبت به وتشاغلت وغفلت به عن غيره. ولهيت عن الشيء، بالكسر، ألهى، بالفتح، لهيًا ولهيانًا إذا سلوت عنه وتركت ذكره وإذا غفلت عنه واشتغلت)11.
اللهو اصطلاحًا:
هو الشيء الذي يتلذذ به الإنسان فيلهيه، ثم ينقضي12.
وقيل: هو كل باطل ألهى عن الخير وعما يعنى13.
وقيل: هو صرف القلب إلى ما لا يحصل به نفع أخروي14.
الصلة بين اللهو واللعب:
اللعب تقديم شيء على غيره من غير إهمال للثاني إنما يأتي بعده، مثال ذلك من يقول: بعد هذا الشغل، أشتغل بالعبادة والآخرة.
وأما اللهو فالاشتغال بشيء إلى حد الاستغراق فيه والإعراض عن غيره، فالدنيا للبعض لهو يشتغل به، وينسى الآخرة بالكلية15.
وكلاهما فيه انشغال عن المهمات من الأعمال بأخرى ليست ذات أهمية.
وكلاهما يخلو من مقصد يحقق منفعة حقيقيةً في الحياة.
وآثارهما لا تدوم؛ بل هي سريعة الزوال.
العبث:
العبث لغة:
يقول ابن فارس: (العبث، هو الفعل لا يفعل على استواءٍ وخلوص صوابٍ. تقول: عبث يعبث عبثًا، وهو عابثٌ بما لا يعنيه وليس من باله) 16.
وقد عبث يعبث عبثًا فهو عابث: لاعب بما لا يعنيه وليس من باله17.
العبث اصطلاحًا:
أن تعبث بالشيء، وقيل: العبث: ما لا فائدة فيه يعتد بها، أو ما لا يقصد به فائدة18.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (إن العبث هو الفعل الذي ليس فيه مصلحةٌ ولا منفعةٌ ولا فائدةٌ تعود على الفاعل)19.
الصلة بين العبث واللعب:
العبث من مرادفات اللعب، ومعناهما متقارب جدًا، ولذا يفسر كل منها بالآخر.
الرتع:
الرتع لغة:
قال الراغب الأصفهاني:(الرتع أصله: أكل البهائم، يقال: رتع يرتع رتوعًا ورتاعًا ورتعًا.
قال تعالى: (ﯦ ﯧ) [يوسف:١٢]، ويستعار للإنسان إذا أريد به الأكل الكثير) 20.
الرتع اصطلاحًا:
لا يخرج عن معناه اللغوي.
الصلة بين الرتع واللعب:
أن كلًا منهما يدل على الحركة والنشاط والانبساط.
قال تعالى: (ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ) [الدخان:٣٨].
قبل البدء بتنزيه الله عن اللعب، يجب علينا الحديث عن صفة الحكمة لله تعالى؛ لأن بإثبات هذه الصفة لله تعالى ننزهه عن اللعب والعبث.
والحكمة عبارةٌ عن معرفة أفضل الأشياء بأفضل العلوم. ويقال لمن يحسن دقائق الصناعات ويتقنها: حكيم21.
الحكمة عند العرب، هي ما منع من الجهل، وبذلك سمي الحاكم لمنعه الظالم22.
والحكيم: الذي لا يدخل تدبيره خللٌ ولا زللٌ23. أو هو العالم بوضع الأشياء في مواضعها24.
والحكمة صفة من صفات الله عز وجل، لذلك فإن الله تعالى لم يشرع حكما من الأحكام، وما خلق شيئًا من المخلوقات إلا له فيها حكمة عظيمة وغاية نبيلة، وهذه الحكمة التي خلق الله تعالى لها الخلائق مذكورة في كثير من الآيات في كتاب الله الكريم سواء كان بصريح العبارة أو بالتضمين، وكذلك يدل عليها اسم الله: الحكيم.
فـ (الحكيم) اسم من أسماء الله الحسنى يدل على الكمال وأن الله تعالى لم يفعل فعلا، ولم يخلق خلقا إلا له فيه حكمة وغاية.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (وقد أجمع المسلمون على أن الله موصوف بالحكمة، لكن تنازعوا في تفسير ذلك: فقال الأشاعرة والجهمية: الحكمة ترجع إلى علمه بأفعال العباد وإيقاعها على الوجه الذي أراده. ولم يثبتوا إلا العلم والإرادة والقدرة. وهم قد أطلقوا ألفاظها، ولكنهم لا يعنون بها معناها، بل يطلقونها لأجل مجيئها في القرآن. وهم يثبتون أنه مريد، وينكرون أن تكون له حكمة يريدها، وأنه لم يخلق شيئًا لشيء، وأنكروا الأسباب والطبائع والقوى الموجودة في خلق الله وأمره والحكم المقصودة بذلك. وقال أهل السنة: بل هو حكيم في خلقه وأمره. والحكمة ليست مطلق المشيئة، إذ لو كان كذلك، لكان كل مريد حكيمًا) 25.
والحكمة تناقض العبث واللعب، وأصحاب العقول السليمة والفطرة يدركون أن الله الخالق الموصوف بالحكمة لا بد أن يكون وراء تنظيمه لهذا الكون، ووضع الإنسان فيه غاية وحكمة، وتعالت حكمته أن يكون خلق هذا كله عبثًا.
وقد أشار سبحانه وتعالى إلى أن تكوين العالم وخلق السماوات والأرض وما بينهما من المخلوقات التي لا تعد ولا تحصى مؤسس على الحكم والغايات، ولم يأت اعتباطا ولعبا ولهوا، فقال تعالى: (ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ) [الأنبياء:١٦]. يعني: ما خلقناهما عبثًا.
وفي آية أخرى يؤكد سبحانه على أن خلق السماوات والأرض لم يكن عبثا بل كان بالحق والجد، فقال: (ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ)[الدخان:٣٨-٣٩].
وقال: (ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ) [الجاثية:٢٢].
وأشار سبحانه وتعالى إلى أن الذي لا يؤمن بالبعث والنشور شأنه شأن من لا يرى في خلق السماوات والأرض حكمة وغاية، حتى لو لم يصرحوا بأن الله خلقهما باطلا، ولكن لما أنكروا البعث والجزاء صار في ظنهم خلقهما باطلا، حيث قال جل جلاله: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ) [ص:٢٧- ٢٨].
وفي آية أخرى يذكر لنا أن في خلق السماوات والأرض وتعاقب الليل والنهار علامات ودلائل على قدرة الله تعالى وحكمته لمن كان ذا عقل ولب، من الذين يذكرون الله على كل حال، ويتفكرون في خلق السماوات والأرض وعجائب صنع الله فيهما، فيقولون معتقدين ومعترفين: ربنا وخالقنا ما خلقت هذا الكون والخلائق باطلا وعبثا وخاليًا عن حكمة، أنت منزه من أن يكون خلقك وفعلك عبثًا.
فقال: (ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ) [آل عمران:١٩٠- ١٩١].
وقد وبخ الله منكري البعث والحساب على تماديهم في الغفلة، بأسلوب الاستفهام الاستنكاري، فإنه يلزم من إنكارهم البعث أن يكون خلق الناس مشتملًا على عبثٍ فقال:(ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ)[المؤمنون:١١٥].
وهذا نظير قوله تعالى: (ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ) [القيامة:٣٦].
ثم نفى عن نفسه العبث فقال:(ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ)[المؤمنون:١١٦].
فالأدلة النقلية والعقلية تثبت بأن الله تعالى منزه عن اللعب والعبث واللهو والباطل.
وهنا قد ترد شبهة، وهي إن الله تعالى يذم الحياة الدنيا في كثير من الآيات، ويصفها بأنها لهو ولعب وزينة، ولا مَنْشِئ لها غيره سبحانه. فإن كانت الحياة الدنيا على هذا الوصف، وهي مخلوق لله تعالى، فكيف التوفيق بين هذا وبين كون الله تعالى لا يخلق عبثا؟
فالإجابة عن هذا من وجوه:
أولًا: على التقديم والتأخير مع الإضمار: كأنه قال: اعلموا أن مَثَلَ الحياة الدنيا وزينتها وتفاخرها وتكاثرها ولعبها ولهوها، كمثل الغيث أعجب الكفار نباته، ثم يصير إلى ما ذكر حتى لا ينتفع به؛ فهكذا هي حال الحياة الدنيا، والله أعلم.
ثانيًا: إنما الحياة الدنيا على ما هي عند كثير من الناس لهو ولعب و لأنهم لا يعرفون من الدنيا إلا التمتع والتزين والتفاخر والتكاثر، وكذا الذين لا يؤمنون بالبعث على ما يظنون أن الحياة الدنيا لم تكن إلا للإفناء والإهلاك، وعلى هذا الظن تكون لهوا ولعبا وعبثا، فأما الحياة الدنيا على ما هي عند أهل التوحيد فهي حكمة وحق وصواب، وارتقاء بسبب العبادة إلى المراتب العليا عند الله، والفوز بالجنة.
ثالثًا: لو أن الحياة الدنيا قوبلت بحياة الآخرة، لكانت عبثا ولهوا؛ لأن الدنيا بنيت على الفناء والانقطاع والزوال عن قريب، والآخرة على الدوام والبقاء، كما قال تعالى: (ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ) [النساء:٧٧].
فالآخرة باقية، والدنيا فانية. فالحياة الدنيا -مقارنة بالآخرة- قليل جدا، وفي القرآن الكريم إشارات كثيرة إلى هذه الحقيقة، كما في قوله تعالى: (ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬﮭ ﮮ ﮯ ﮰ) [الأنعام:٣٢].
وقوله: (ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ) [التوبة:٣٨].
وقوله: (ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ) [الرعد:٢٦].
وقوله: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ) [العنكبوت:٦٤].
وقوله: (ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ) [غافر:٣٩].
رابعًا: أو يقال: إن من جعل الحياة الدنيا للدنيا خاصة تكون لعبا ولهوا، ومن جعل الحياة الدنيا زادا للآخرة وبُلْغَةً إليها، فهي ليست بلعب، وهو ما قال تعالى: (ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ) [آل عمران:١١٧].
أخبر أن الإنفاق للدنيا كمثل ريح فيها صر - البرد الشديد-، شبه إنفاقهم بزرع اجتاحته جائحة أو أصابته ريح باردة فأهلكته.
وقال في النفقة التي تكون في الدنيا لحياة الآخرة: (ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ) [البقرة:٢٦١].
والله أعلم26.
أولًا: اللعب المباح
إن المتتبع والناظر في الآيات التي ذكر فيها (اللعب، ومشتقاتها)، يجد أن اللعب ليس بمذموم على إطلاقه، بل من اللعب ما هو مباح، كما في قوله تعالى، في قصة نبي الله يوسف عليه السلام، ذاكرا قول إخوة يوسف لأبيهم يعقوب عليه السلام وطلبهم منه أن يرسل معهم أخاهم يوسف: (ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ) [يوسف:١٢].
فقد ذكر المفسرون أن المراد باللعب المذكور في هذه الآية هو اللعب المباح، وهو مجرد الانبساط لانشراح الصدر، والاستجمام ورفع السآمة، أو هو اللعب الذي يتعلمون به الحرب ويتقوون به عليه، فقد كان أكثر لعب أهل البادية بالاستباق والانتضال والرمي بالعصى والسهام ونظائرها، مما يعد من باب التأهب للغزو أو رد العدو. بدليل: (ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ) [يوسف:١٧].
ولم يكن هذا من اللعب المحظور الذي هو ضد الحق وقرين اللهو، والدليل على ذلك: أن يعقوب عليه السلام لم ينكر عليهم لما قالوا: ونلعب-وفقا لقراءة أهل البصرة- وإنما سماه لعبًا؛ لشبهه به، وإنه في صورته27.
ونسبة اللعب - على جميع الاحتمالات-إلى يوسف لا حرج فيها؛ لأن يوسف حينها كان صبيا، ولم يكن نبيا بعد.
وفي السنة النبوية الشريفة ما يدل على اللعب أو اللهو المباح، فعن عقبة بن عامر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل ما يلهو به الرجل المسلم باطلٌ، إلا رميه بقوسه، وتأديبه فرسه، وملاعبته أهله، فإنهن من الحق) 28.
وإنما أبيحت هذه الثلاثة الأنواع؛ لأن في هذه الثلاثة عونا على الدين وقواما له، فالرجل يرمي بقوسه؛ لئلا تذهب عادته للرمي، ولا يتشنج أعضاؤه ومفاصله وكتفاه، ويؤدب فرسه؛ لئلا يجمح، ولا يكون مستوليا على النزع منه.
ويتعلم الفروسية؛ لئلا ينقطع عنه شجاعته، ويكون جريئا ذا قلب. فإذا ترك ذلك ضعف قلبه وجبن.
ويلاعب أهله ليسكن ما به وبها. وهذا كله وإن كان مُلْهيًا، فهو في الأصل حق. وإنما رخص للمؤمن في التلهي بهذا؛ لأن قلبه في أثقال العظمة، فإذا دام عليه ضاق به والتمس تفريجا وتخفيفا، فيلجأ إلى هذه الأشياء التي هي في الأصل حق حتى يكون مزاجا للمؤمن29.
وقد رأى جماعة من العلماء في مفهوم كلمة:(باطل)، في الحديث المذكور آنفا، أن الكلمة هذه لا تدل على تحريم ما سوى تلك الثلاثة، فقال ابن حجر العسقلاني:وإنما أطلق على ما عداها البطلان من طريق المقابلة، لا أن جميعها من الباطل المحرم30.
وقال الهروي والمباركفوري: في معنى:( باطل ): لا ثواب له) 31.
وقال الشوكاني:قال الغزالي: قلنا قوله صلى الله عليه وسلم: (فهو باطلٌ) لا يدل على التحريم، بل يدل على عدم فائدةٍ انتهى. وهو جوابٌ صحيحٌ؛ لأن ما لا فائدة فيه من قسم المباح، على أن التلهي بالنظر إلى الحبشة وهم يرقصون في مسجده صلى الله عليه وسلم كما ثبت في الصحيح خارجٌ عن تلك الأمور الثلاثة) 32.
و عن عطاء بن أبي رباحٍ قال: رأيت جابر بن عبد الله وجابر بن عميرٍ الأنصاريين يرميان قال: فأما أحدهما فجلس فقال له صاحبه: أكسلت؟قال: نعم فقال أحدهما للآخر: أما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:(كل شيءٍ ليس من ذكر الله فهو لعبٌ، لا يكون أربعةٌ: ملاعبة الرجل امرأته، وتأديب الرجل فرسه، ومشي الرجل بين الغرضين، وتعلم الرجل السباحة)33.
وهناك أنواع من اللعب المباح، منها مثلًا: المسابقة، فقد سابق النبي صلى الله عليه وسلم عائشة مرتين، سبقته في الأولى وسبقها في الثانية، عن عائشة، رضي الله عنها، (أنها كانت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفرٍ قالت: فسابقته فسبقته على رجلي، فلما حملت اللحم سابقته فسبقني فقال: (هذه بتلك السبقة)34.
وسابق النبي صلى الله عليه وسلم بناقته العضباء فسبقت، عن أنسٍ رضي الله عنه (كان للنبي صلى الله عليه وسلم ناقةٌ تسمى: العضباء، وكانت لا تسبق، فجاء أعرابيٌ على قعودٍ له فسبقها، فاشتد ذلك على المسلمين، وقالوا: سُبِقَتِ العضباءُ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن حقًّا على الله أن لا يرفع شيئًا من الدنيا إلا وضعه)35.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرخص في اللعب المباح كما رخص صلى الله عليه وسلم للحبشان، وأذن لعائشة النظر إليهم.
عن عائشة، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسًا فسمعنا لغطًا وصوت صبيانٍ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا حبشيةٌ تزفن والصبيان حولها، فقال: (يا عائشة تعالي فانظري). فجئت فوضعت لحيي على منكب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعلت أنظر إليها ما بين المنكب إلى رأسه، فقال لي: (أما شبعت، أما شبعت). قالت: فجعلت أقول: لا؛ لأنظر منزلتي عنده إذ طلع عمر، قالت: فَارْفَضَّ الناس عنها. قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إني لأنظر إلى شياطين الإنس والجن قد فروا من عمر) قالت: فرجعت)36.
ومن هنا يتبين لنا أن الإسلام أباح أنواع اللعب التي تفيد الذهن أو الجسم، أو ترفع عنهما السآمة والملل، أو تعيد إليهما النشاط والحيوية بشرط ألا تكون في هذا اللعب مخالفة شرعية أو إهدار للوقت فيما لا فائدة فيه، وأن لا يتضمن ضررا، ولا يكون فيه خسة ودناءة لا يليق بصاحب المروءة، ولا يشغل عن الواجبات والفرائض37.
قال العيني: إذا لم يشغله، أي: اللعب عن طاعة الله يكون مباحا، وعليه أهل الحجاز. لا يرى أن الشارع أباح للجاريتين يوم العيد الغناء في بيت عائشة من أجل العيد، كما مضى في كتاب العيدين، وأباح لها النظر إلى لعب الحبشة بالحراب في المسجد؟38.
ومن اللعب المباح الألعاب الرياضية التي تنشط البدن وتقوي الروح، وتساعد في علاج بعض الأمراض، بشرط أن لا تؤدي إلى إضاعة الصلاة أو أي فرض آخر، وأن لا تتسبب في حصول الحقد والكره والبغضاء والعداوة بين اللاعبين، وأن لا ينكشف فيها شيء من العورة، وأن لا تكون على عوض من مال، أو منفعة دنيوية.
قال ابن القيم الجوزية: والرياضة المعتدلة، هي التي تَحْمَرُّ فيها البشرة وتربو، و يتندى بها البدن، وأما التي يلزمها سيلان العرق فمفرطة. وأي عضو كثرت رياضته قوي فإن من استكثر من الحفظ قويت حافظته، ومن استكثر من الفكر قويت قوته المفكرة، ولكل عضو رياضة تخصه وأما ركوب الخيل ورمي النشب والصراع، والمسابقة على الأقدام، فرياضة للبدن كله، وهي قالعة لأمراض مزمنة، كالجذام، والاستسقاء، والقولنج 39.
اللعب الحرام:
الإسلام دين جاد، يريد من المسلمين أن يكونوا جادين في كل الأمور والشؤون، ولو تأملنا في أنواع اللعب التي أباحها الإسلام لرأينا أنها تحقق مقصدًا من مقاصد الشريعة، وحد الإسلام لها حدودها ضمن ضوابط وقواعد معينة، مثل: خلوها من المحرمات، وأن لا يفضي إلي ترك الواجبات، ولا إلى بث العداوة والكراهية والبغضاء والفساد، و فإذا أخل بهذه الضوابط والشروط تحول من الحل إلى الحرمة.
فقوله تعالى: (ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ) [التوبة:٦٥].
فيه إشارة إلى أن نوعا من اللعب يؤدي إلى الكفر، وهو اللعب على وجه الاستهزاء بالله وبالقرآن وبالرسول صلى الله عليه وسلم.
فقد روي عن قتادة في قوله تعالى: (ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ) [التوبة:٦٥].
قال: بينما النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك وركبٌ من المنافقين يسيرون بين يديه، فقالوا: يظن هذا أن يفتح قصور الروم وحصونها، فأطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم على ما قالوا، فقال: (علي بهؤلاء النفر) فدعاهم فقال: (قلتم كذا وكذا؟) فحلفوا: ما كنا إلا نخوض ونلعب 40.
يقول الفخر الرازي: (إِنَّهُ تعالى بين أن ذلك الاستهزاء كان كفرًا، والعقل يقتضي أن الإقدام على الكفر لأجل اللعب غير جائزٍ، فثبت أن قولهم: إنما كنا نخوض ونلعب ما كان عذرًا حقيقيًّا في الإقدام على ذلك الاستهزاء، فلما لم يكن ذلك عذرًا في نفسه نهاهم الله عن أن يعتذروا به؛ لأن المنع عن الكلام الباطل واجبٌ 41.
فاللعب الذي يؤدي إلى الكفر أو ارتكاب محرمٍ، أو تضييع واجبٍ، يكون حراما، وسياق الآيات القرآنية التي وردت فيها مادة: (لعب) ومشتقاتها كلها وردت في سياق الذم والتقبيح إلا ما وردت في سورة (يوسف الآية:١٢)، وإن أغلبها مقترنة بألفاظ تدل على الذم مثل: اللهو، والهزء، والخوض.
عن عقبة بن عامر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (كل ما يلهو به الرجل المسلم باطلٌ، إلا رميه بقوسه، وتأديبه فرسه، وملاعبته أهله، فإنهن من الحق) 42.
قال الكاساني الحنفي: واللعب حرامٌ في الأصل إلا أن اللعب بهذه الأشياء صار مستثنًى من التحريم شرعًا، واستثنى الملاعبة بهذه الأشياء المخصوصة فبقيت الملاعبة بما وراءها على أصل التحريم43.
وقال الخطابي: إن جميع أنواع اللهو محظورة، وإنما استثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الخلال من جملة ما حرم منها؛ لأن كل واحدة منها إذا تأملتها وجدتها معينة على حق، أو ذريعة إليه، ويدخل في معناها ما كان من المثاقفة بالسلاح، والشد على الأقدام، ونحوهما مما يرتاض به الإنسان، فيتوقح بذلك بدنه، ويتقوى به على مجالدة العدو. فأما سائر ما يتلهى به البطالون من أنواع اللهو كالنرد، والشطرنج، والمزاجلة بالحمام، وسائر ضروب اللعب، مما لا يستعان به في حق، ولا يستجم به لدرك واجب، فمحظور كله44.
إن الله تعالى وصف الدنيا باللهو واللعب في كثير من الآيات، وبأسلوب القصر؛ ليُفْهِم الخلق أن الدنيا مهما تزينت لأصحابها، وطال عمر الإنسان فيها، ومهما اجتمع للإنسان فيها من أسباب الغنى والثروة، ومهما كثر متاعها وزخرفها، فهي لا تعدو أن تكون لهوا ولعبا، وأنها لا تعدل عند الله جناح بعوضة، وأن الدار الآخرة خير منها.
وقد اختلف العلماء في المراد من الحياة الموصوفة باللعب واللهو في قوله تعالى: (ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ) [الأنعام:٣٢].
على قولين:
الأول: المراد منها حياة الكافر والمشرك، لأن حياة المؤمن يكثر فيها الأعمال الصالحة ويتقرب فيها إلى الله تعالى فهي مزرعتها لآخرته، وعليها يثاب بأجزل الثواب، وأعظم الجزاء. ويقل فيها اللغو والباطل، فلا توصف حياته باللعب واللهو. وأما الكافر فإن كل حياته في الدنيا وبال عليه. قال ابن عباس رضي الله عنهما: يريد حياة أهل الشرك والنفاق45.
والحياة في ذاتها غير مذمومة، بل في الحياة حكم عظيمة، يكفيها أنها من خلق الله، ليبلو بها بني آدم.
قال تعالى: (ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ) [الملك:٢].
ومعلوم أن لله تعالى حكمة في خلق كل مخلوقاته، ولم يخلق عبثًا.
قال تعالى: (ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ) [الأنبياء:١٦].
فدل مجموع ما ذكرنا على أن الحياة الدنيا غير مذمومة على إطلاقها من غير قيد، بل المراد أن من لم يستخدم هذه الحياة الدنيا في طاعة الله، بل صرفها إلى طاعة الشيطان ومتابعة الهوى فذاك هو المذموم46.
ومن خلال استقراء كلمة اللعب في القرآن الكريم يتبين لنا أن حياة المؤمن التقي والعالم حياة جد وعطاء، وليس حياة لهو ولعب وغفلة وعبث. لننظر إلى الآيات التي ورد فيها وصف الحياة الدنيا باللعب واللهو، كيف يصف الدار الآخرة ويحدد أهلها، في إشارة إلى أن لكل منهما أهلها.
قال تعالى: (ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬﮭ ﮮ ﮯ ﮰ) [الأنعام:٣٢].
وقال: (ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ) [محمد:٣٦].
وقال: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ) [العنكبوت:٦٤].
ففي هذه الآيات إشارة إلى أن المتقين والعالمين بالحقائق لا يعنيهم أمر اللعب واللهو في شيء، وأنهم بعيدون عنه كل البعد، وهم في طاعة مستمرة ابتغاء مرضاة الله تعالى.
قال تعالى: (ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ) [القصص:٥٥].
الثاني: أنها تشمل حياة المؤمن والكافر، فهي عامة؛ لأن الإنسان مسلمًا كان أو كافرًا، يلتذ باللعب واللهو، ثم عند انقضائه وانتهائه، تحصل له الحسرة والندامة؛ لأن اللذة الحاصلة من اللعب واللهو سريعة الزوال لا بقاء لها47.
ووجه تسمية الحياة الدنيا باللعب واللهو؛ لأن مدتها قليلة سريعة الانقضاء والانتهاء، كمدة اللعب واللهو؛ ولأن الإنسان في كثير من الأحيان يقع في المكاره والمتاعب بسبب الانشغال باللهو واللعب، كذلك الحال لمن انشغل بملذات الدنيا. أو لأن اللعب واللهو إنما يحصل للصبيان والمغفلين. وأما العقلاء والنبلاء فقلما يحصل لهم خوضٌ في اللعب واللهو وكذلك الالتذاد بطيبات الدنيا لا يحصل إلا للمغفلين الجاهلين بحقائق الأمور48.
ذكرت في القرآن الكريم بعضا من صور اللعب بالدين. نذكر جلها ضمن النقاط الآتية:
أولًا: اللعب بالآيات:
قال تعالى: (ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ) [الأنعام:٧٠].
في هذه الآية الكريمة يخاطب الله تعالى نبيه الكريم أن يذر ويترك الذين اتخذوا دينهم لعبًا ولهوًا، واغتروا بمباهج الحياة الدنيا وزخارفها ومتاعها ولذائذها، ووأمره أن يذكر الناس بالقرآن، كي لا ترتهن أو تحبس نفس بذنوبها وتصبح رهينة ما كسبت، في يوم ليس لها غير الله ناصر ينقذها من العذاب، ولا شافع يشفع لها عنده، ولا فدية تنفعها.
والأمر بترك هؤلاء يعني: عدم المبالاة بتكذيبهم واستهزائهم، أو هو تهديد لهم، فهو كقوله تعالى: (ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ) [المدثر:١١].
أو المراد به ترك معاشرتهم ومخالطتهم لا ترك الإنذار والتخويف؛ لأن هذا يناقض مهمة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم. ويدل عليه قوله تعالى: (ﭨ ﭩ)49.
وفي المراد بدينهم الذي اتخذوه لعبا ولهوًا وجوه50:
أولًا: دين الإسلام، فإنهم كلفوا وأمروا به، فاستهزؤوا به.
ثانيًا: اتخذوا ما هو لعبٌ ولهوٌ من عبادة الأصنام وغيرها دينًا لهم.
ثالثًا: اتخذوا أعيادهم لعبًا ولهوًا.
رابعًا: الملة، أي ما يتدينون به وينتحلونه ويتقربون به إلى الله.
والذي يبدو لي أن تفسير الدين بالإسلام الذي أخذ جل تعاليمه وأحكامه من القرآن والذي كان المشركون يستهزؤن به، يتناسب مع سياق الآيات السابقة، فإن الله تعالى خاطب نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم في حق الذين يخوضون في آيات الله من الكافرين والمشركين فقال: (ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ) [الأنعام:٦٨-٦٩].
ثم أمره بأن يذر الذين يتخذون دينهم لعبًا ولهوًا، وغرتهم الحياة الدنيا بزينتها، ثم أمره بأن يستمر بتذكير هؤلاء و غيرهم بالقرآن الكريم ولا يبالي باستهزائهم وتعنتهم.
وعلى هذا يكون المراد بالاسم الموصول (الذين) في قوله تعالى: (ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ) الكفار الذين يخوضون في آيات الله51:وقد قيل: إن الكفار كانوا إذا سمعوا القرآن لعبوا ولهوا عند سماعه52:
وقد فسر كل من الواحدي53، والبغوي54، وابن عادل 55، والألوسي56 قوله تعالى: (ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ) بالكفار الذين إذا سمعوا آيات الله استهزؤوا بها وتلاعبوا عند ذكرها.
يقول الخطيب الإسكافي: (فهؤلاء قوم حضروا النبي وسمعوا القرآن، وعبثوا عند سماعه ولعبوا بآياته، وأجروها مجرى أفعال يستروح إليها، ولا نفع في عقباها، ثم شغلوا بدنياهم عن تدبرها وألهتهم حلاوتها عن الفكر في صحتها)57.
وأما كيفية اتخاذهم دينهم لعبًا ولهوًا فإنهم بنوا أمر دينهم على التشهي، وتدينوا بما ليس فيه فائدة ونفع، كعبادتهم للأصنام، أو أن أعمال دينهم لم تكن واقعة موقعًا مما يرضي الله تعالى. فكانت إما صرفًا للوقت فيما لا نفع فيه فيكون لعبًا، وإما شاغلة عن بعض الشؤون فيكون لهوًا58.
ثانيًا: الشعائر الدينية:
ذكر الله سبحانه وتعالى نوعًا من اللعب الحرام، وهو اللعب والاستهزاء بالصلاة والنداء إليها، فقال: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ) [المائدة:٥٨].
أي: إذا أذن المؤذن للصلاة، فسمعه الكفار استهزءوا به. وإذا رأوهم يصلون ورأوا ركوعهم وسجودهم استهزءوا بذلك أيضا. وكان استهزاؤهم بسبب كونهم قوم لا يعقلون، وإنما نفى عنهم العقل؛ لأن لعبهم واستهزاءهم هذا من أفعال السفهاء والجهلة، فكأنه لا عقل لهم، أو لأنهم لم ينتفعوا بعقولهم في أمور دينهم59.
فقد أخبر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم عن سفه الكافرين والمشركين فيما صنعوا من السخرية والاستهزاء حين سماعهم الأذان ومشاهدتهم الصلاة.
فقد ذكر المفسرون عددًا من الروايات في سبب نزول هذه الآية، منها:
عن السدي: كان رجل من النصارى بالمدينة إذا سمع المنادي ينادي: «أشهد أن محمدًا رسول الله»، قال: «حرق الكاذب» فدخلت خادمهَ ذات ليلة من الليالي بنار، وهو نائم، وأهله نيام، فسقطت شرارة فأحرقت البيت، فاحترق هو وأهله60
وقال الكلبي: كان منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نادى إلى الصلاة وقام المسلمون إليها، قالت اليهود: قد قاموا لا قاموا وصلوا لا صلوا، ويضحكون على طريق الاستهزاء فأنزل الله هذه الآية61.
وقيل: كان المنافقون يتضاحكون ويتغامزون عند القيام إلى الصلاة تنفيرًا للناس عنها62.
وقال آخرون: إن الكفار لما سمعوا الأذان حسدوا رسول الله والمسلمين على ذلك، فدخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد لقد أبدعت شيئًا لم نسمع به فيما مضى من الأمم الخالية. فإن كنت تدعي النبوة فقد خالفت فيما أحدثت من هذا الأذان الأنبياء قبلك، ولو كان في هذا الأمر خير كان أولى الناس به الأنبياء والرسل قبلك، فمن أين لك صياح كصياح العنز؟ فما أقبح من صوت وما أسمج من أمر. فأنزل الله تعالى هذه الآية63.
وهذه الآية توكيد للآية السابقة وبيان لمن اتخذ الدين هزوًا ولعبًا.
قال تعالى: (ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ) [المائدة:٥٧].
فقد بين استهزاءهم بحكم خاص من أحكام الدين، بعد ذكر استهزائهم بالدين بوجه عام64.
وعلى هذا فتأخذ هذه الآية حكم سابقتها في عدم جواز موالاة من استهزأ بالأذان والصلاة، وعدم اتخاذهم أولياء؛ لأنهم بفعلهم هذا قد كفروا.
ثالثًا: الأنبياء وأتباعهم:
من صور اللعب بالدين هو الاستهزاء بالرسل وورثتهم من العلماء والدعاة، وهذه العادة قديمة معروفة عبر القرون.
قال تعالى: (ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ) [الحجر:١٠- ١١].
أي: لقد أرسلنا قبلك رسلًا إلى أممٍ قد مضت من قبل، وما أتى رسولٌ أمةً إلا كذبوه واستهزءوا به. فهذا دأب الأمم المكذبة لرسلها عبر التاريخ.
وفي القرآن الكريم آيات كثيرة تتحدث عن الاستهزاء بالرسل، منها: (ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ) [الأنعام:١٠].
و(ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ) [الحجر:١٠- ١١].
و(ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ) [الذاريات:٥٢].
و(ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ) [الكهف:١٠٦].
والرسل الكرام عليهم السلام تعرضوا للسخرية والاستهزاء، فصبروا وتحملوا، ولم يتركوا دعوة أقوامهم إلى الله تعالى، وكان نتيجة استهزاء هؤلاء الأقوام الهلاك والخسران.
واللعب على وجه الاستهزاء بالعلماء والقراء وأهل الخير والصلاح بمثابة الاستهزاء بالله وآياته ورسوله، كما ورد في سبب نزول قوله تعالى: (ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ) [التوبة:٦٤-٦٥].
عن عبد الله بن عمر قال: (قال رجل في غزوة تبوك في مجلس: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء، أرغب بطونًا، ولا أكذب ألسنًا، ولا أجبن عند اللقاء فقال رجل في المجلس: كذبت، ولكنك منافق لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ونزل القرآن. قال عبد الله ابن عمر: فأنا رأيته متعلقًا بحقب ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم تنكبه الحجارة، وهو يقول: (يا رسول الله، إنما كنا نخوض ونلعب)، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم) 65.
ففي هذا بيان أن الإنسان قد يكفر بكلمة يتكلم بها، أو بفعل يفعله، ومن ذلك الخوض واللعب في الباطل الذي يؤدي إلى الاستهزاء بالله والقرآن والرسول، وكذا المؤمنين على وجه العموم وأهل العلم على وجه الخصوص. وقد وصف الله من كان هذا شأنه بالمجرم، وأن عمله هذا يجعله كافرا، حيث قال: (ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ) [المطففين:٢٩-٣٤].
ومن الأدلة على أن الاستهزاء والسخرية بالمؤمنين من شأن أهل النار، فعندما ينادي أهل النار قائلين: (ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ) [المؤمنون:١٠٧].
يقول الله تعالى جوابًا لهم: (ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ) [المؤمنون:١٠٨-١١١].
فالاستهزاء بالمؤمنين لأجل إيمانهم، وبالعلماء لكونهم علماء يخدمون الشريعة الإسلامية، ومن أجل العلم الشرعي، فهذا كفر؛ لأنه استهزاء بدين الله تعالى.
وأخيرًا إن اللعب في الدين بالاستهزاء بالله وآياته ورسوله، وورثة الرسول من العلماء والدعاة يوصل إلى الكفر، ولا يعذر فاعله.
قال تعالى: (ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ) [التوبة:٦٥- ٦٦].
نجمل فيما يأتي أهم أسباب اللعب كما تفهم من الآيات القرآنية:
١. الكفر.
من البدهي أن يكون الكفر سببًا من أسباب اللعب واللهو في الحياة الدنيا؛ لأن الكافر لا يؤمن بالآخرة، فلا يجهد نفسه في الطاعات والعبادات، ولا يمسك نفسه عن المحرمات، فما تشتهيه نفسه يفعله.
قال تعالى: (ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ) [الفرقان:٤٣-٤٤].
وقال: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ) [الأعراف:١٧٩].
فالكافر يرى نفسه على الحق، وأن كفره بالله وباليوم الآخر هو عين الصواب، ومن يخالفه الرأي فهو جاهل أو مجنون أو مختل العقل، فيستهزيء بهم ويسخر منهم، وإذا قريء عليه القرآن أو دعي إلى الله اتخذها لعبًا وهزوًا، ويضحك منهم.
ويشير سبحانه وتعالى في القرآن الكريم إلى وجود علاقة ظاهرة بين الكفر وبين اتخاذ الدين لعبًا ولهوًا.
قال تعالى: (ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ) [الأنعام:٧٠].
ففي صدر الآية يتحدث عن من يتخذ الدين لعبًا ولهوًا، والحال غرتهم الحياة الدنيا، يذكر أن الذين أسلموا أنفسهم للهلاك بسبب كسبهم في الاستخفاف بالدين واتخاذه لعبًا ولهوًا، لهم شراب من حميم وعذاب أليم بسبب كفرهم.
وفي النتيجة: إن رسوخهم في الكفر أفسد فطرتهم حتى لم يبق فيهم استعداد للحق والخير66.
٢. الجهل.
الجهل نقيض العلم، وقد جهله فلانٌ جهلًا وجهالة، وجهل عليه. وتجاهل: أظهر الجهل، والتجهيل: أن تنسبه إلى الجهل، والجهالة: أن تفعل فعلًا بغير العلم67.
والجهل سبب من أسباب اللعب في الحياة الدنيا، فالجاهل لا يفرق بين الحق والباطل، وبين النفع والضر، وبين الجد والهزل.
والجهل هو المصدر الرئيس لفساد العقيدة وفعل المعاصي.
قال تعالى: (ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋﰌ ﰍ ﰎ) [الأنبياء:٢٤].
واللعب والهزء من أفعال الجاهلين، ألا ترى إلى جواب موسى عليه السلام لقومه في قصة ذبح البقرة؟
قال تعالى: (ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩﮪ ﮫ ﮬ ﮭﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ) [البقرة:٦٧].
حيث نفى الهزء، بنفي الجهل عن نفسه. فلو كان من الجاهلين - حاشاه - لصدق عليه اتخاذهم هزوا.
ثم إن جهل الناس بحقيقة الحياة الدنيا، ونظرهم السطحي إليها، وإعجابهم بظاهرها، دون البحث عن ما فيه خير لهم، ومن غير التفكر في الآخرة، جعلهم يلعبون ويلهون ويعبثون.
قال تعالى: (ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ) [الروم:٦-٧].
وقال: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ) [العنكبوت:٦٤].
فالعالم يستغل الحياة الدنيا الفانية، للفوز بالنعيم المقيم في الحياة الباقية في الآخرة، فلا يريد أن تذهب لحظات عمره في الدنيا سدى، فالدنيا عنده مزرعة الآخرة. فلا يقبل أن يخسر الحياة الأبدية في الجنة، مقابل الحياة الفانية المنغصة في الدنيا. فهو يؤمن إيمانا جازمًا بما قاله تعالى: (ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ) [التوبة:٣٨].
فلا يبيع آخرته بدنياه، بعكس الجاهل.
إذًا فالذي يقضي حياته في اللعب واللهو والاستهزاء، فيخسر آخرته، لم يقع في هذا الجرم والإثم إلا عن جهل. وجهله هذا إما أن يكون من جهة المستهزأ به، بحيث لا يعلم ما يجب عليه من حق الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ودين الإسلام، من التعظيم والتبجيل. وإما أن يكون الجهل من جهة حكم اللعب والاستهزاء، فلا يدري أن فعله هذا ولعبه يخرجه عن دائرة الإسلام68.
٣. الاغترار بالحياة الدنيا.
الاغترار: من غرر، انخدع بالشيء. وظن الشيء كما يتصوره لأمور فيه فإذا هو على غير ذلك69.
والتغرير: إيهام النفع والصلاح فيما هو ضرٌ وفساد70.
قال الخليل الفراهيدي: (غرر بماله أي: حمله على الخطر. والغرور من غر يغر فيغتر به المغرور. والغرور: الشيطان. والغار: الغافل) 71.
الاغترار بالحياة الدنيا سبب من أسباب اللعب، فينخدع الإنسان المغتر، ولا يجد في شيء ينتفع بها في الآخرة. فهمه الشاغل متع الدنيا وحطامها، وجمع المال بأية طريقة ووسيلة كانت. فيطمئن إلى الدنيا، وينسى حق الله عليه، فيلهو ويلعب كيفما شاء. وهذا الشأن يناقض الغاية التي خلق لها الإنسان.
لذلك حذر الله عباده من أن ينخدعوا ويغتروا بالحياة الدنيا، وخوفهم من أن يكونوا من أصحاب النار، يوم لا يجدون من دون الله وليًا ولا شفيعًا.
قال تعالى: (ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ) [الأنعام:٧٠].
قال الشيخ الشعراوي: (وقوله الحق:(ﭤ ﭥ ﭦ) هو تصوير لا يوجد أبرع منه؛ لأنهم أصحاب العقول التي تغتر بالحياة الدنيا فهي عقول تائهة، فالعقل الناضج يفهم الدنيا على أنها أقل شأنًا من أن تكون غاية، ولكنها وسيلة أو مجال وطريق ومزرعة إلى الآخرة) 72.
كما أن الاغترار بالحياة الدنيا يجعل الإنسان يتعدى حدود الله، وينسى مراقبة الله لعباده، فلا يرتدع عن معصية، ويجحد نعم الله وفضله عليه، فيهلك.
قال تعالى: (ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ) [الأعراف:٥٠-٥١].
وضرب تعالى المثل في قصر عمرها وزوالها، بل وخيبة آمال أهلها، كي لا تغرهم الحياة الدنيا، بقوله: (ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ) [يونس:٢٣-٢٤].
نستنتج من الآيات القرآنية التي تحدثت عن اللعب، أن الموقف من اللاعبين ينبغي أن يكون في الخطوات الآتية:
أولًا: إقامة الحجة وقطع المعذرة:
إن الله تعالى يحيي الناس ويبعثهم يوم القيامة للحساب والجزاء، وإنه يسألهم عن الصغيرة والكبيرة ولا يعزب عنه شيء.
قال تعالى: (ﮖ ﮗ ﮘﮙ ﮚ ﮛ ﮜﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ) [يونس:٤].
وقال: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠﭡ ﭢ ﭣ ﭤﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ) [يونس:٥٤].
فميزان يوم القيامة ميزان عدل وقسط. ولا يظلم أحد يوم القيامة.
قال تعالى: (ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ) [النساء:٤٠].
وقال تعالى: (ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ) [الكهف:٤٩].
ومن العدل إرسال الرسل عليهم السلام وإنزال الوحي، وتبليغ الناس شرع الله، وإقامة الحجة عليهم.
قال تعالى: (ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ) [النساء:١٦٥].
وبالتبليغ وإقامة الحجة يزال ويزاح كل علة، فلا يبقى أي عذر للمخالفة والتقصير والتكذيب والغفلة؛ لذا فمن خالف حكم الله تعالى وقصر فلا يلومن إلا نفسه، فيكون ما يلاقي من العذاب في الآخرة عدلًا، ولا يكون ظلمًا؛ لأنهم بلغوا وأخبروا، فكذبوا واستهزءوا وخاضوا ولعبوا، فاستحقوا جزاءهم.
فالله سبحانه وتعالى حين يصف الحياة الدنيا باللعب واللهو، وأنها زينة وتفاخر بين الناس وتكاثر في الأموال والأولاد (ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ) [الحديد:٢٠].
وأنها متاع الغرور (ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ) [الحديد:٢٠].
وأن متاعها قليل، وأن الحياة الآخرة أفضل وأحسن من الحياة الدنيا (ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ) [النساء:٧٧].
وتشبيه الحياة الدنيا بالغيث ينبت به الزرع، وما يجري على الزرع من التحولات (ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ) [الحديد:٢٠].
وفي هذه الآيات إشارة إلى إقامة الحجة، وإذا كانت الدنيا بهذه الصفات فلا تستحق الاغترار بها، ولا يحق التساهل في حق الآخرة والعمل لها.
ثانيًا: تركهم في خوضهم يلعبون:
إن الذي يلعب بالدين ويستهزئ به لابد أن يؤدب، ولا يجوز معاونته ومساعدته على الاستمرار في عمله هذا، ويجب تحقيره حتى يعرف قدره.
والله سبحانه وتعالى ذكر في كتابه العزيز كيفية التعامل مع الذين يخوضون في آيات الله ويلعبون بالدين وبشعائر الإسلام، فقال: (ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ) [الأنعام:٦٨].
فالله سبحانه يأمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يعرض عن المشركين إذا رآهم يخوضون في آيات الله بالباطل والتكذيب واللعب والاستهزاء، ويترك مجلسهم؛ احتقارا لهم واستنكارا لأفعالهم، وهذا الإعراض لأجل أن يتركوا الخوض في آيات الله، ويتحولوا إلى الخوض في مسائل أخرى. ثم يأمره بأنه إذا أنساه الشيطان ما أمر به من الإعراض عن المشركين وترك مجالستهم، فليبادر بالصرف عنهم حين تذكر الأمر.
وقال تعالى: (ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ) [الأنعام:٧٠].
وهذا خطاب آخر للنبي صلى الله عليه وسلم بترك الغافلين الذين اتخذوا دينهم الذي كلفوا به لهوًا ولعبًا، حيث كانوا يستهزئون بتعاليمه وأحكامه ويكفرون به. وكانوا منشغلين بزخارف الدنيا واغتروا بالحياة القليلة، ثم أمر نبيه أن يذكر هؤلاء وغيرهم بالقرآن الكريم.
والأمر بتركهم ليس المراد به ترك إنذارهم، وترك دعوتهم للإيمان، وإنما المراد به ترك مجالستهم ومعاشرتهم وملاطفتهم73.
وأعاد سبحانه وتعالى نهيه عن مجالسة المستهزئين في قوله: (ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻﯼ ﯽ ﯾ ﯿﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ) [النساء:١٤٠].
وفي هذه الآية إشارة إلى ما جاء في سورة الأنعام، الآيات (٦٨-٧٠).
قال أبو السعود:((ﯽ ﯾ ﯿ) جملةٌ مستأنفةٌ سيقت لتعليل النهي أي: لا تقعدوا معهم في ذلك الوقت، إنكم إن فعلتموه كنتم مثلهم في الكفر واستتباع العذاب وإفراد المثل) 74.
قال الشيخ محمد رشيد رضا: (وسبب هذا النهي أن الإقبال على الخائضين والقعود معهم أقل ما فيه أنه إقرار لهم على خوضهم وإغراء لهم بالتمادي فيه، وأكبره أنه رضاء به ومشاركة فيه، والمشاركة في الكفر والاستهزاء كفر ظاهر لا يقترفه باختياره إلا منافق مراء أو كافر مجاهر) 75.
ثالثًا: عدم اتخاذهم أولياء:
الولي: ضد العدو. يقال منه: تولاه. والمولى: المُعْتِقُ، والمُعْتَقُ، وابن العم، والناصر، والجار، والموالاة: ضد المعاداة.والولاية بالكسر: السلطان. والولاية: النصرة. يقال: هم على ولاية، أي: مجتمعون في النصرة76.
فكلمة الولي تأتى بمعنى المتولي للأمور المتصرف فيها، وتأتي بمعنى الناصر والخليل والمحب، فهي لفظ مشترك ولا يمكن تحديد المراد من معنى اللفظ المشترك إلا بقرينة تدل عليه، ويمكن ذلك بالرجوع إلى سياق الجملة، كما في معنى (أولياء) في قوله تعالى:(ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ) [المائدة:٥٧-٥٨].
وكذا كل ما ورد في القرآن الكريم من النهي عن موالاة الكافرين وأهل الكتاب، جاءت كلها في الموالاة التي ضد الكره، أي أنها جاءت بمعنى النصرة والمحاباة والمعونة.
فنجد أن الله تعالى ينهى المؤمنين عن اتخاذ أهل الكتاب والكفار أولياء وحلفاء وأنصارًا، يحبونهم ويتولونهم، مع أن هؤلاء يتخذون دين الإسلام هزوًا ولعبًا، ويسخرون من القرآن والرسول والمؤمنين، كما يسخرون من الأذان والصلاة ويتمنون زوال الإسلام. فكيف يصلح للعاقل أن يقابل كل هذه العداوة والكره والسخرية والاستهزاء واللعب بالموالاة لهم وحبهم ونصرتهم؟!
قال ابن عاشور: (فالذي يتخذ دين امريء هزوًا، فقد اتخذ ذلك المتدين هزوًا،ورمقه بعين الاحتقار؛ إذ عد أعظم شيء عنده سخرية، فما دون ذلك أولى. والذي يرمق بهذا الاعتبار ليس جديرًا بالموالاة؛ لأن شرط الموالاة التماثل في التفكير؛ ولأن الاستهزاء والاستخفاف احتقار، والمودة تستدعي تعظيم الودود)77.
واتخاذ أهل الكتاب والكفار أولياء مسألة في غاية الخطورة، فمن الجانب العقائدي أن موالاتهم يؤدي إلى الكفر، ويحسب الإنسان منهم، وحسابه كحسابهم، كما جاء في قوله تعالى:(ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ) [المائدة:٥١].
ومن الجانب الدنيوي، فإن الإنسان إذا اتخذ الكفار أولياء وأحباء، حينئذ يكون مطيعًا لأوامرهم، غير معترض لأفعالهم وأقوالهم، بل يكون مؤيدًا لهم ومدافعًا عنهم، وناصرهم ومعينهم على الإسلام وأهله، من حيث يدري أو لا يدري.
وقال الإمام الطبري في تفسير قوله تعالى: (ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ) [آل عمران:٢٨].
ومعنى ذلك: لا تتخذوا أيها المؤمنون، الكفار ظهرًا وأنصارًا توالونهم على دينهم، وتظاهرونهم على المسلمين من دون المؤمنين، وتدلونهم على عوراتهم، فإنه من يفعل ذلك (ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ)،يعني بذلك: فقد برئ من الله وبرئ الله منه، بارتداده عن دينه ودخوله في الكفر (ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ) إلا أن تكونوا في سلطانهم فتخافوهم على أنفسكم، فتظهروا لهم الولاية بألسنتكم، وتضمروا لهم العداوة، ولا تشايعوهم على ما هم عليه من الكفر، ولا تعينوهم على مسلم بفعل78.
بما أن الانشغال بالدنيا فوق الحد اللازم مذموم، وخاصة إذا كان على حساب الآخرة. وأنه ربما ينسيه حق الله تعالى، فيترك الواجبات الدينية أو يقصر فيها، ويقع في المحرمات طلبا لزيادة المال والجاه والشهوات، فلابد من علاج لهذه الآفة، وهذا الغرور. ويمكن لنا أن نستنتج من الآيات التي فيها ذكر اللعب بعضًا من تلك العلاجات، منها:
أولًا: الإيمان والتقوى:
إن لإيمان المرء وتقواه الأثر الكبير الفعال في تنبيه الناس من غفلة اللعب واللهو في الحياة الدنيا، فالمرء كلما كان إيمانه متينا وتقواه كثيرا ازداد من الله تقربًا، ولا يتقرب العبد من ربه إلا بما يرضى به الله تعالى من الأعمال والأقوال وصالح النيات، فينشغل بها، ويبتعد عن كل ما يلهيه ويشغله عن ذكر الله وعن الطاعات. فهو يجد لذته في العبادات، وتضيق صدره بالمعاصي والذنوب.
قال تعالى: (ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ) [محمد:٣٦].
فبعد أن أمر الله المؤمنين بالاستمرار في الجهاد ومقاتلة الأعداء نصرة للإسلام، وحثهم عليه بأن الله معهم بنصره فينتصرون، وأن المؤمنين هم الأعلون، فليس من الحق أن يطلبوا الصلح والهدنة مع العدو؛ خوفًا على الحياة الدنيا ولذاتها. فبين لهم حقيقة الدنيا بأنها كاللهو واللعب في سرعة زوالها، وانقضاء آجالها، وانتهاء لذاتها، فهي مشغلة عن صالح الأعمال، فلا ينبغي الحرص عليها، وترك الجهاد من أجلها، وترك الصدقات والإنفاق في سبيل الله حرصًا على جمع المال. فإن الجهاد والإنفاق في سبيل الله زاد يبقى للمؤمن المتقي، المؤمن بالله الذي لا يخفى عليه شيء، وهو خير ثوابا (ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ) [الكهف:٤٦].
والمتقي الذي يقف عند حدود الله، ويرجو رحمة ربه ويخاف عذابه، فالإيمان والتقوى في الحياة الدنيا هو الذي يغير حال الحياة الدنيا من اللعب واللهو إلى الجد. فالمؤمن المتقي لا يرى في جهاده وإنفاقه خسارة وإضاعة نفس ومال، وإنما ذلك عنده التحويل إلى دار مستقره، فيجده عند الله. والله تعالى يؤتيه أجره بأحسن ما كان يعمل.
إن الذي يقضي حياته الدنيا باللهو واللعب لا ينبغي أن يوصف بالتقوى، فالمتقي يعمل بجد وإخلاص، والعمل بهذه الصفة يكون مقبولًا عند الله ويجزي عامله خير الجزاء، فتكون الدار الآخرة خيرًا له من الحياة الدنيا.
قال تعالى: (ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬﮭ ﮮ ﮯ ﮰ) [الأنعام:٣٢].
ثانيًا: تذكر نعيم وعذاب الآخرة:
ومن الأسباب المانعة لاتخاذ الحياة الدنيا لعبًا ولهوًا تذكر نعيم وعذاب الآخرة، حيث إن الإنسان إذا تفكر في نعيم وثواب من صبر عن الحرام، ولم يقض أوقاته في اللهو واللعب، فإنه ينال رضا الله ورضوانه والفوز بالجنة، حينئذ يستقيم أمره وحاله، كما لو تفكر في مصيره يوم القيامة لو قضى أوقاته في اللعب واللهو، وأنه سيحاسب على تفريطه وإفراطه، وأنه يسأل عن عمره في الحياة الدنيا كيف قضاه وفيم أفناه، يرتدع ويرجع إلى الصواب ولا يضيع أوقاته في ما لا فائدة فيه، وفيما لا يرضي الله تعالى.
عن أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تزول قدما عبدٍ يوم القيامة، حتى يسأل عن عمره فيما أفناه، وعن علمه ما فعل به، وعن ماله من أين اكتسبه، وفيما أنفقه، وعن جسمه فيما أبلاه)79.
وفي القرآن الكريم تخويف لمن أضاع حياته الدنيا باللهو واللعب.
قال تعالى: (ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ) [الحديد:٢٠].
فبعد أن وصف الله تعالى الحياة الدنيا بما وصف بها في الآية الكريمة، وشبهها بالغيث المطر الذي أعجب الزراع والفلاحين نباته، ثم يهيج ذلك الزرع فيكون مصفرًا، ثم يكون يبسًا متحطمًا، كذلك حال الإنسان في الدنيا (ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉﮊ ﮋ ﮌ ﮍﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ) [الروم:٥٤].
ولما ذكر هذا المثل الدال على زوال الدنيا، وعلى أن الآخرة كائنة لا محالة، حذر من أمرها ورغب فيما فيها من الخير فقال: (ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ). ففي الآخرة عذاب شديد لمن لم يعمل لها، ومغفرة من الله ورضوان لمن استعد لها، وأطاع الله تعالى80.
وفي أخرى يأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يترك الذين اتخذوا دينهم لعبًا ولهوًا على وجه التهديد لهم، فإنهم سيلقون مصيرهم السيء.
قال تعالى: (ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ) [الأنعام:٧٠].
وقال: (ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ) [الزخرف:٨٣].
وفي سورة الأعراف يذكر الله سبحانه حال الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبًا وغرتهم الحياة الدنيا ونسوا اليوم الآخر، فلم يعملوا لها، أنه سبحانه يتركهم في جهنم يعذبون فيها.
قال تعالى: (ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ) [الأعراف:٥١].
قال الرازي: والأظهر أن حمل النسيان على الترك مجاز؛ لأن المنسي يكون متروكًا، فلما كان الترك من لوازم النسيان أطلقوا اسم الملزوم على اللازم81.
ثالثًا: فقه الأولويات:
قال الكفوي: (الأولى: بالفتح واحد الأوليان، والجمع الأولون، والأنثى الوليا، والجمع الوليات
والأولى: يستعمل في مقابلة الجواز، كما أن الصواب في مقابلة الخطأ
ومعنى قوله تعالى: (ﭭ ﭮ) فويل لهم، دعاء عليهم بأن يليهم المكروه، أو يؤول إليه أمرهم) 82.
قال محمد الوكيلي في تعريف فقه الأولويات: (فقه بأحكام الشرع ومراتبها، وبالأهم منها من المهم، وبالقطعي منها من الظني، وبالأصل منها من الجزء، وبالكبير منها من الصغير) 83. ويمكن القول بأنه: العلم بالأحكام التي لها حق التقديم على غيرها، فيقدم الأهم على المهم والأحسن على الحسن، بناءً على العلم بمراتبها.
ومن هذا المنطلق نجد أن الله تعالى ذكر الحياة الدنيا مع الآخرة في آيات كثيرة في القرآن الكريم، ويفضل الآخرة على الدنيا بلفظ صريح أو ضمني. فتقديم الآخرة على الدنيا يندرج تحت مصطلح فقه الأولويات.
والمثال على ذلك قوله تعالى: (ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ) [النساء:٧٧].
فلو نظرنا إلى الآية الكريمة بتدبر وتفكر، نرى أن الله تعالى فضل الآخرة على متاع الدنيا فقط لمن اتقى. وقال: (ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ) [الشورى:٣٦]. ولا يدرك هذه الخيرية إلا أصحاب العقول وأولو الألباب. فخيرية الآخرة من وجوه كثيرة، منها: إن نعم الدنيا قليلة ونعم الآخرة كثيرة، ومتاع الدنيا زائل، لكن متاع الآخرة دائم، الدنيا فيها ما ينغصها من الآلام والأوجاع والغم والهم، لكن الآخرة لا تنغيص فيها، إن نعم الدنيا مشكوكة، فلا يعلم أحد ماذا يكون حاله بعد ساعات، ونعم الآخرة يقينية، الدنيا دار بلاء والآخرة دار جزاء، وغير ذلك من الفوارق84.
يقول عبدالرحمن بن ناصر السعدي في تفسيره لقوله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ) [العنكبوت:٦٤].
(يخبر تعالى عن حالة الدنيا والآخرة، وفي ضمن ذلك، التزهيد في الدنيا والتشويق للأخرى، فقال:(ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ) في الحقيقة (ﭕ ﭖ ﭗ) تلهو بها القلوب، وتلعب بها الأبدان، بسبب ما جعل الله فيها من الزينة واللذات،ثم تزول سريعا، وتنقضي جميعًا، ولم يحصل منها محبها إلا على الندم والحسرة والخسران.
وأما الدار الآخرة، فإنها دار (ﭝ) أي: الحياة الكاملة، التي من لوازمها، أن تكون أبدان أهلها في غاية القوة، وقواهم في غاية الشدة؛ لأنها أبدان وقوى خلقت للحياة، وأن يكون موجودًا فيها كل ما تكمل به الحياة، وتتم به اللذات مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. (ﭟ ﭠ ﭡ) لما آثروا الدنيا على الآخرة، ولو كانوا يعقلون لما رغبوا عن دار الحيوان، ورغبوا في دار اللهو واللعب، فدل ذلك على أن الذين يعلمون، لا بد أن يؤثروا الآخرة على الدنيا؛ لما يعلمونه من حالة الدارين)85.
موضوعات ذات صلة: |
الأسرة، الحدود، النساء، النكاح |
1 انظر: لسان العرب، ابن منظور، ١/٧٣٩.
2 انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، ابن الأثير ٤/٢٥٣، لسان العرب، ابن منظور، ١/٧٣٩، تاج العروس، الزبيدي ٤/٢٠٩.
3 المفردات، الراغب الأصفهاني ص ٧٤١.
4 مدارك التنزيل، النسفي ١/٥٠٠، الدر المصون، السمين الحلبي ١/١٥٠.
5 فتح البيان، القنوجي ١٣/٧٩.
6 روح البيان، إسماعيل حقي ٣/٥٠.
7 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٧/١٩٣.
8 انظر: المعجم المفهرس الشامل لألفاظ القرآن الكريم، عبد الله جلغوم، ص١١٢٩.
9 انظر: لسان العرب، ابن منظور ١/٧٣٩، القاموس المحيط، الفيروزآبادي، ص١٣٤.
10 انظر: بصائر ذوي التمييز، الفيروزآبادي ٤/٤٣١.
11 لسان العرب، ابن منظور ١٥/٢٥٨.
12 التعريفات، الشريف الجرجاني ص ١٩٤.
13 الكشاف، الزمخشري ٣/٤٩٠.
14 البحر المديد، ابن عجيبة ٢/٢٢١.
15 انظر: الكليات، الكفوي ص ٧٩٩.
16 مقاييس اللغة، ابن فارس ٤/٢٠٥.
17 العين، الفراهيدي، ٢/١١١، تهذيب اللغة، الأزهري، ٢/١٩٩، تاج العروس، الزبيدي ٥/٢٩٥.
18 تاج العروس، الزبيدي ٥/٢٩٥.
19 مجموع فتاوى ابن تيمية ٨/٩٠.
20 المفردات، الراغب الأصفهاني ص ٣٤١.
21 النهاية في غريب الحديث والأثر، ابن الأثير ١/٤١٩.
22 مشارق الأنوار، القاضي عياض ١/١٩٤.
23 جامع البيان، الطبري ٢/٥٧٨.
24 اللباب في علوم الكتاب، ابن عادل ٢/٤٩٤.
25 النبوات، ابن تيمية ٢/٩٠٤.
26 انظر: تأويلات أهل السنة، الماتريدي ٩/٥٢٧- ٥٢٨.
27 انظر: الكشاف، الزمخشري ٢/٤٤٨، المحرر الوجيز، ابن عطية ٣/٢٢٤، تفسير العز بن عبد السلام ٢/١١١، غرائب القرآن، النيسابوري ٤/٦٨.
28 أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الجهاد، باب في الرمي، رقم ٢٥١٣، والنسائي في سننه، كتاب الخيل، باب تأديب الرجل فرسه، رقم ٣٥٧٨، والترمذي في سننه، كتاب فضائل الجهاد، باب ما جاء في فضل الرمي في سبيل الله تعالى، رقم ١٦٣٧.
قال الترمذي: هذا حديث حسن.
29 انظر: نوادر الأصول، الحكيم الترمذي ٤/٢٣٥.
30 فتح الباري، ابن حجر ١١/٩١.
31 انظر: مرقاة المفاتيح، الهروي ٦/٢٥٠٢، تحفة الأحوذي، المباركفوري ٥/٢١٩.
32 نيل الأوطار، الشوكاني ٨/١١٨.
33 أخرجه النسائي في السنن الكبرى، باب ملاعبة الرجل زوجته، رقم ٨٨٨٩.
وصححه الألباني في صحيح الجامع، ٢/٨٣٣، رقم ٤٥٣٤.
34 أخرجه أحمد في مسنده، ٤٣/٣١٣، رقم ٢٦٢٧٧، وأبو داود في سننه، كتاب الجهاد، بابٌ في السبق على الرجل، ٣/٢٩، رقم ٢٥٧٨.
وصححه الألباني في صحيح الجامع، ٢/١١٧٥، رقم ٢٣٤٤.
35 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الرقاق، باب التواضع، رقم ٦٥٠١.
36 أخرجه الترمذي، أبواب المناقب، باب في مناقب عمر بن الخطاب ٥/٦٢١، رقم ٣٦٩١.
قال الترمذي: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غريبٌ من هذا الوجه.
وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة، ٧/٨١٩.
37 انظر: بدائع الصنائع، الكاساني ٦/٢٠٦، فقه السنة، سيد سابق ٣/٥١٤، الموسوعة الفقهية الكويتية ٣٥/٢٦٨.
38 عمدة القاري، العيني ٢٢/٢٧٣.
39 الطب النبوي، ابن القيم ص ١٨٦.
40 جامع البيان، الطبري ١٤/٣٣٤..
41 مفاتيح الغيب، الرازي ١٦/٩٥.
42 سبق تخريجه.
43 بدائع الصنائع، الكاساني ٦/٢٠٦.
44 معالم السنن، الخطابي ٢/٢٤٢.
45 انظر: مفاتيح الغيب، الرازي ١٢/٥١٥، لباب التأويل، الخازن ٢/١٠٨، اللباب في علوم الكتاب، ابن عادل ٨/١٠٦، غرائب القرآن، النيسابوري ٣/٦٩.
46 انظر: مفاتيح الغيب، الرازي ١٢/٥١٥.
47 انظر: اللباب في علوم الكتاب، ابن عادل ٨/١٠٦، غرائب القرآن، النيسابوري ٣/٦٩.
48 انظر: مفاتيح الغيب، الرازي ١٢/٥١٥، اللباب في علوم الكتاب، ابن عادل ٨/١٠٦.
49 انظر: الكشاف، الزمخشري ٢/٣٦، لباب التأويل، الخازن ٢/١٢٣، البحر المديد، ابن عجيبة ٢/١٣١، التحرير والتنوير، ابن عاشور ٧/٢٩٥.
50 انظر: درة التنزيل وغرة التأويل، الخطيب الإسكافي ٢/٥١٨، مفاتيح الغيب، الرازي ١٣/٢٤، لباب التأويل، الخازن ٢/١٢٣، فتح القدير، الشوكاني ٢/١٤٧، التحرير والتنوير، ابن عاشور ٧/٢٩٥.
51 انظر: روح البيان، إسماعيل حقي ٣/٥٠.
52 لباب التأويل، الخازن ٢/١٢٣، روح البيان، إسماعيل حقي ٣/٥٠.
53 الوسيط في تفسير القرآن المجيد، الواحدي ٢/٢٨٦.
54 معالم التنزيل، البغوي ٢/١٣٣.
55 اللباب في علوم الكتاب، ابن عادل ٨/٢١٢.
56 روح البيان، إسماعيل حقي ٣/٥٠.
57 درة التنزيل وغرة التأويل، الخطيب الإسكافي ٢/٥١٨.
58 البحر المديد، ابن عجيبة ٢/١٣١، تفسير المنار، محمد رشيد رضا ٧/٤٣٢.
59 انظر: تأويلات أهل السنة، الماتريدي ٣/٥٤٧، الكشاف، الزمخشري ١/٦٥٠، مدارك التنزيل، النسفي ١/٤٥٧.
60 انظر: جامع البيان، الطبري ١٠/٤٣٢، تفسير ابن أبي حاتم ٤/١١٦٤.
61 انظر: المحرر الوجيز، ابن عطية ٢/٢١٠، زاد المسير، ابن الجوزي ١/٥٦٢، الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٦/٢٢٤، الدر المنثور، السيوطي ٣/١٠٧.
62 انظر: مفاتيح الغيب، الرازي ١٢/٣٨٨، الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٦/٢٢٤.
63 انظر: أسباب النزول، الواحدي ص ٢٠١، غرائب القرآن، نظام الدين النيسابوري ٢/٦٠٧.
64 انظر: تفسير السمعاني ٢/٤٨، إرشاد العقل السليم، أبو السعود ٣/٥٣، محاسن التأويل، القاسمي ٤/١٧٧.
65 انظر: جامع البيان، الطبري ١٤/٣٣٤، الكشف والبيان، الثعلبي ٥/٦٥.
66 انظر: تفسير المراغي ٧/١٦٣.
67 لسان العرب، ابن منظور ١١/١٢٩.
68 الاستهزاء بالدين أحكامه وآثاره،أحمد بن محمد القرشي ص٨٩-٩١.
69 معجم لغة الفقهاء، القلعجي والقنيبي ص ٧٨.
70 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٢٢/٢٥٨.
71 العين، الفراهيدي ٤/٣٤٦.
72 تفسير الشعراوي ٦/٣٧١٢.
73 مفاتيح الغيب، الرازي ١٣/٢٣.
74 إرشاد العقل السليم، أبو السعود ٢/٢٤٥.
75 تفسير المنار، محمد رشيد رضا ٧/٤٢١.
76 الصحاح، الجوهري ٦/٢٥٢٩.
77 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٦/٢٤١.
78 جامع البيان، الطبري ٦/٣١٣.
79 أخرجه الترمذي في سننه، أبواب صفة القيامة، باب في القيامة، ٤/٦١٢، رقم ٢٤١٧.
قال الترمذي: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
وصححه الألباني في صحيح الجامع، ٢/١٢٢١، رقم ٧٣٠٠.
80 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٨/٢٤.
81 مفاتيح الغيب، الرازي ٣/٦٣٧.
82 الكليات، أبو البقاء الكفوي ص ٢٠٨.
83 فقه الأولويات دراسة في الضوابط، محمد الوكيلي ص ١٦
84 انظر: مفاتيح الغيب، الرازي ١٠/١٤٤.
85 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص ٦٣٥.