الكسب
أولًا: المعنى اللغوي:
كسب: الكاف والسين والباء: أصلٌ صحيحٌ، وهو يدل على ابتغاءٍ وطلبٍ وإصابةٍ. ويقال: كسب أهله خيرًا، وكسبت الرجل مالًا فكسبه. وهذا مما جاء على فعلته ففعل1. والكسب: ما يتحراه الإنسان مما فيه اجتلاب نفع، وتحصيل حظ، ككسب المال، وقد يستعمل فيما يظن الإنسان أنه يجلب منفعة، ثم استجلب به مضرة. والكسب يقال فيما أخذه لنفسه ولغيره2، وكسب: أصاب، واكتسب: تصرف واجتهد3، وتكسب، واكتسب: طلب الرزق، وأصله الجمع4.
ثانيًا: المعنى الاصطلاحي:
قال الجرجاني: «الكسب: هو المفضي إلى اجتلاب نفع أو دفع ضرر، ولا يوصف فعل الله بأنه كسب؛ لكونه منزهًا عن جلب نفع أو دفع ضرر»5.
وقال أبو حيان: «والكسب: أصله اجتلاب النفع، وقد جاء في اجتلاب الضر»6، وقال الطبري: «وأصل الكسب: العمل. فكل عامل عملًا بمباشرة منه لما عمل ومعاناة باحتراف، فهو كاسب لما عمل»7.
وبهذا يظهر أن الكسب هو جلب النفع، وقد يستخدم في الشر، وفي هذه الحالة يكون من باب التحقير والسخرية والاستهزاء، كما قال تعالى: (ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ) [البقرة: ٨١].
والكسب يقال فيما أخذه لنفسه ولغيره، والاكتساب لا يقال إلا فيما استفاده لنفسه. وكل اكتساب كسب، وليس كل كسب اكتسابًا8.
وردت مادة (كسب) في القرآن الكريم (٦٧) مرة9.
والصيغ التي وردت هي:
الصيغة |
عدد المرات |
المثال |
الفعل الماضي |
٤٣ |
(ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ) [المسد:٢] |
الفعل المضارع |
٢٤ |
(ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ) [النساء:١١١] |
وجاء الكسب في القرآن على أربعة أوجه10:
أحدها: الرشوة: ومنه قوله تعالى: (ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭾ ﭿ) [البقرة: ٧٩]. يعني: يرتشون.
الثاني: الولد: ومنه قوله تعالى: (ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ) [المسد: ٢]. يعني: وما ولد؛ قاله مجاهد.
الثالث: الجمع: ومنه قوله تعالى: (ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ) [البقرة: ٢٦٧]. أي: مما جمعتم.
الرابع: العمل: ومنه قوله تعالى: (ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ) [البقرة: ٢٨٦]. أي: عملت.
الكدح:
الكدح لغةً:
(كدح) الكاف والدال والحاء: أصلٌ صحيحٌ يدل على تأثيرٍ في شيءٍ. يقال: كَدَحَهُ وكَدِحَهُ: إذا خدشه. ومن هذا القياس كدح إذا كسب، يَكْدَحُ كَدْحًا فهو كادحٌ11، والكدح: عمل الإنسان من الخير والشر. ويكدح لنفسه، أي: يسعى12.
الكَدْحُ اصطلاحًا:
سعي الإنسان وجهده في الأمر من الخير والشر حتى يؤثر فيه13.
الصلة بين الكسب والكدح:
الكسب يكون بجهد وبغير جهد، وأما الكدح فلا يكون إلا بجهد14.
الخسران:
الخسران لغة:
خسر: الخَسْرُ: النقصان، والخُسْراِنُ كذلك، والفعل: خَسِرَ يَخْسَرُ خسرانًا، والخاسر: الذي وضع في تجارته، ومصدره: الخَسارَةُ والخَسْرُ. كِلْتُهُ ووَزَنْتُهُ فَأَخْسَرْتُهُ، أي: نقصته، وقوله عز وجل: (ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ) [الطلاق: ٩].
أي: نقصًا. وصفقة خاسرةٌ، أي: غير مربحة15.
الخسران اصطلاحًا:
هو فقدان الأعمال والأموال والأهل والأجر والثواب في الدنيا والآخرة، بسبب ضلال السعي والانحراف عن دين الله.
الصلة بين الكسب والخسران:
الكسب في الأصل يكون بالزيادة، والخسران بالنقص.
الإضاعة:
الإضاعة لغة:
(ضيع) الضاد والياء والعين: أصلٌ صحيحٌ يدل على فوت الشيء وذهابه وهلاكه، يقال: ضاع الشيء يَضِيُع ضياعًا وضيعةً، وأضعته أنا إضاعةً16.
الإضاعة اصطلاحًا:
الإهمال، تقول: أضعت الشيء، أي: أهملته فلم أحفظه17.
الصلة بين الكسب والإضاعة:
الكسب يقوم على الحصول على الشيء، والاضاعة على إتلافه.
إحاطة علم الله تعالى بكسب العباد
إن علم الله عز وجل محيط بكل شيء، لا يخفى عليه شيء؛ فهو عالم بما كان وما يكون، وما لو كان كيف يكون، ومن هذا العلم كسب الإنسان خيرًا كان أم شرًّا، فجاء هذا البحث يتحدث حول مدى علم الله وإحاطته بكسب العباد من خير وشر.
أولًا: علم الله بكسب العباد من خير وشر:
قال تعالى: (ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ) [الأنعام: ٣].
يقول تعالى ذكره: إن الذي له الألوهة التي لا تنبغي لغيره، المستحق عليكم إخلاص الحمد له بآلائه عندكم، أيها الناس، الذي يعدل به كفاركم من سواه، هو الله الذي هو في السموات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم، فلا يخفى عليه شيء18، فالله هو المألوه المعبود في السموات وفي الأرض، فأهل السماء والأرض متعبدون لربهم، خاضعون لعظمته، مستكينون لعزه وجلاله، والملائكة المقربون، والأنبياء والمرسلون، والصديقون، والشهداء والصالحون19.
وقد ذكر المولى عز وجل في هذه الآية وصفين جليلين فيهما تذكير وتبشير وإنذار:
أولهما: أنه (ﭹ ﭺ ﭻ) فإنه يعلم ما تظهره الجوارح وما تخفيه السرائر، يعلم ما يجري على الإنسان وما تخفي الصدور، فإن حاسب على ما يفعلون، فحسابه حساب اللطيف الخبير الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء أنى يكون، وهو مجاز على ذلك إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشرٌّ، وهو من بَعْدُ الغفور الرحيم.
الوصف الثاني: أنه (ﭼ ﭽ ﭾ) من خير أو شرٍّ، ولكل ذلك حسابه من هنا إلى يوم القيامة20.
يستفاد من الآية إثبات صفة العلم لله تعالى، وأنه تعالى: (ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ) [آل عمران: ٥].
(ﮟ ﮠ ﮡ) [طه: ٧].
فالحذر الحذر من مخالفته وعصيان أمره!!
وفي آية ثانية يذكر المولى - سبحانه وتعالى القديم الأزلي بمكر الماكرين وتآمر المتأمرين- مبينًا لنبيه صلى الله عليه وسلم أنَّ مكر هؤلاء هو يبور، فقال تعالى: (ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ)[الرعد: ٤٢].
أي: قد مكر الذين من قبل هؤلاء المشركين من قريشٍ من الأمم التي سلفت بأنبياء الله ورسله، فلله أسباب المكر جميعًا، وبيده وإليه، لا يضر مكر من مكر منهم أحدًا إلا من أراد ضُرَّهُ به، يقول: فلم يضر الماكرون بمكرهم إلا من شاء الله أن يضره ذلك، وإنما ضروا به أنفسهم؛ لأنهم أسخطوا ربهم بذلك على أنفسهم حتى أهلكهم، ونَجَّى رسله، فكذلك هؤلاء المشركون من قريش يمكرون بك، يا محمد، والله منجيك من مكرهم، وملحقٌ ضَرَّ مكرهم بهم دونك، فإن ربك يا محمد يعلم ما يعمل هؤلاء المشركون من قومك، وما يسعون فيه من المكر بك، ويعلم جميع أعمال الخلق كلهم، لا يخفى عليه شيء منها، وسيعلمون إذا قدموا على ربهم يوم القيامة لمن عاقبة الدار الآخرة حين يدخلون النار، ويدخل المؤمنون بالله ورسوله الجنة21.
وهذا وعيد شديد وتهديد لكل كافر ماكر، وتسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وأمان له من مكرهم22.
ثانيًا: كسب العباد في المستقبل غيب لا يعلمه إلا الله:
قال تعالى: (ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ) [لقمان: ٣٤].
هذه مفاتيح الغيب التي استأثر الله تعالى بعلمها، فلا يعلمها أحد إلا بعد إعلامه تعالى بها؛ فعلم وقت الساعة لا يعلمه نبي مرسل ولا ملك مقرب، قال تعالى: (ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ) [الأعراف: ١٨٧].
وكذلك إنزال الغيث لا يعلمه إلا الله، ولكن إذا أمر به علمته الملائكة الموكلون بذلك ومن شاء الله من خلقه. وكذلك لا يعلم ما في الأرحام مما يريد أن يخلقه الله تعالى سواه، ولكن إذا أمر بكونه ذكرا أو أنثى، أو شقيًّا أو سعيدًا، علم الملائكة الموكلون بذلك، ومن شاء الله من خلقه. وكذلك لا (ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ) في دنياها وأخراها، (ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃﰄ) في بلدها أو غيره من أي بلاد الله كان، لا علم لأحد بذلك. وقد وردت السنة بتسمية هذه الخمس: مفاتيح الغيب23.
ولما خصص هذه الأشياء، عمم علمه بجميع الأشياء فقال تعالى: (ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ)، محيط بالظواهر والبواطن، والخفايا والخبايا، والسرائر، ومن حكمته التامة، أن أخفى علم هذه الخمسة عن العباد؛ لأن في ذلك من المصالح ما لا يخفى على من تدبر ذلك24.
وفي آية ثانية بين المولى عز وجل علمه المطلق الشامل لعظائم الأشياء ودقيقها، فقال تعالى: (ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ) [الأنعام: ٥٩].
هذه الآية العظيمة، من أعظم الآيات تفصيلًا لعلمه المحيط، وأنه شامل للغيوب كلها، التي يطلع منها ما شاء من خلقه. وكثير منها طوى علمه عن الملائكة المقربين، والأنبياء المرسلين، فضلًا عن غيرهم من العالمين، وأنه يعلم ما في البراري والقفار من الحيوانات، والأشجار، والرمال والحصى، والتراب، وما في البحار من حيواناتها، ومعادنها، وصيدها، وغير ذلك مما تحتويه أرجاؤها ويشتمل عليه ماؤها. (ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ) من أشجار البر والبحر، (ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ) من حبوب الثمار والزروع، وحبوب البذور التي يبذرها الخلق وغيرها من أصناف النباتات إلا في اللوح المحفوظ25.
يستفاد من الآية: أن كل مدَّعٍ لمعرفة الغيب من الجن والإنس فهو طاغوت يجب لعنه ومعاداته، وأما من ادعى اليوم من أنه بواسطة الآلات الحديثة قد عرف ما في رحم المرأة فهذه المعرفة ليست داخلة في معنى الآية؛ لأنها بمثابة من فتح البطن ونظر ما فيه فقال: هو كذا، وذلك لوجود أشعة عاكسة، أما المنفي عن كل أحد إلا الله أن يقول المرء: إن في بطن امرأة فلان ذكرًا أو أنثى، ولا يقرب منها ولا يجربها في ولادتها السابقة، ولا يحاول أن يعرف ما في بطنها بأية محاولة26.
جاء في الصحيح: عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (مفتاح الغيب خمسٌ لا يعلمها إلا الله: لا يعلم أحدٌ ما يكون في غدٍ، ولا يعلم أحدٌ ما يكون في الأرحام، ولا تعلم نفسٌ ماذا تكسب غدًا، وما تدري نفسٌ بأي أرضٍ تموت، وما يدري أحدٌ متى يجيء المطر)27.
أنواع الكسب في القرآن وصور منه
لاشك أن أنواع الكسب كثيرة ومتعددة، وسيتم الاختصار في هذه السطور على صور من أنواع الكسب في القرآن الكريم من خلال كسب الصالحات، وكسب السيئات وكسب الأموال.
أولًا: كسب الصالحات:
قال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ) [الأنعام: ١٥٨].
يبين المولى عز وجل في هذه الآية أن كسب الصالحات متحقق ومقبول قبل طلوع الشمس من مغربها، أما بعد ذلك تصبح الأعمال اضطرارية لا اختيارية، فلا قيمة لها، حيث بين المولى عز وجل أنه في هذا اليوم يبطل التكليف الذي يترتب عليه الجزاء؛ لأنها حالة لا تمتنع نفسٌ من الإقرار بالله، لعظيم الهول الوارد عليهم من أمر الله، فحكم إيمانهم، كحكم إيمانهم عند قيام الساعة، وتلك حال لا يمتنع الخلق من الإقرار بوحدانية الله؛ لمعاينتهم من أهوال ذلك اليوم ما ترتفع معه حاجتهم إلى الفكر والاستدلال والبحث والاعتبار، ولا ينفع من كان بالله وبرسله مصدقًا، ولفرائض الله مضيعًا، غير مكتسب بجوارحه لله طاعة؛ إذا هي طلعت من مغربها أعماله إن عمل، وكسبه إن اكتسب؛ لتفريطه الذي سلف قبل طلوعها في ذلك28.
يستفاد من هذه الآية: أن على الإنسان أن يبادر بالأعمال الصالحة والتوبة النصوحة قبل أن يفجأه الموت أو أن يُغْلَقَ بابُ التوبة.
جاء في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا رآها الناس آمن من عليها، فذاك حين: (ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ))29.
وفي آية أخرى يبين المولى عز وجل حال المؤمن الذي يبتغي بعمله وجه الله، ويسعى لمرضات الله، فقال تعالى: (ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬﯭ ﯮ ﯯ ﯰ) [البقرة: ٢٠١-٢٠٢].
أي: ومنهم من يطلب خير الدنيا والآخرة جميعًا، لا حظوظ الدنيا وحدها كيفما كانت كالفريق الأول.
وقد اختلف المفسرون في تعيين الحسنة هل هي العافية، أو الكفاف، أو المرأة الصالحة، أو الأولاد الأبرار، أو المال الصالح، أو العلم والمعرفة أو العبادة والطاعة؟
والظاهر أن (ﯠ) وصفٌ لمحذوف أي: حياة حسنة، وانظر بم تكون حياة المرء حسنة فيكون سعيدًا في الدنيا، فمن دعا الله تعالى دعاء إجماليًّا فليدعه بسعادة الدنيا والآخرة، والحياة الطيبة فيهما يكن مهتديا بالآية. ومن كانت له حاجة خاصة فدعاه لها من حيث هي حسنة فهو مهتد بها، على أنهم اختلفوا في حسنة الآخرة أيضًا فقيل: الجنة، وقيل: الرؤية، واختلفوا في عذاب النار، وقد بينت الآية صريحًا أنهم يعطون ما دعوا الله تعالى فيه بكسبهم، وهذا نص في معنى الدعاء، وأنه لا بد أن يكون طلب اللسان مطابقًا لما في النفس من الشعور بالحاجة إلى الله تعالى بعد الأخذ بالأسباب، والسعي في الطرق التي مضت سنة الله تعالى ؛ ولهذا قال: (ﯫ ﯬ) ولم يقل: لهم ما طلبوا. والمعنى: أنهم لما كانوا يطلبون الدنيا بأسبابها ويسعون للآخرة سعيها، كان لهم حظ من كسبهم هذا في الدارين على قدره30.
يستفاد من الآية أن على الإنسان أن يأخذ بالأسباب ولا ينافي ذلك التوكل على الله؛ لأن التوكل الحقيقي على الله يكون بالأخذ بالأسباب مع التوكل على مسبب الأسباب وهو الله تعالى، وأن الاعتماد على الأسباب بالكلية قدح في الشرع، كما أن ترك الأسباب بالكلية قدح في العقل، والأخذ بالأسباب جزء من حقيقة التوكل على الله.
جاء في الصحيح عن أنسٍ، قال: كان أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنةً، وفي الآخرة حسنةً، وقنا عذاب النار)31.
ثانيًا: كسب السيئات:
قال تعالى: (ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤﮥ ﮦ ﮧ ﮨ) [البقرة: ٨١].
في هذه الآية يبين لنا المولى سبحانه وتعالى صورة من صور كسب السيئات، وهو الشرك بالله تعالى، حيث ذكر الكسب وهو جلب النفع، واستعماله هنا في السيئة هو من باب التهكم، وأنسب الأقوال في تفسير السيئة هنا هو الشرك؛ لأنه إذا أحاط بالإنسان فإنه يهلكه ولا مغفرة فيه، فهؤلاء لم يكونوا عصاة فقط، ولكنهم كانوا كافرين مشركين. والدليل هو قوله تعالى: (ﮦ ﮧ ﮨ) وأصحاب الصغائر أو الكبائر الذين يتوبون منها لا يخلدون في النار؛ ولكن المشرك بالله والكافر به هم الخالدون في النار32.
ومن صور كسب السيئات اتخاذ الدين لهوًا ولعبًا، والاغترار بالدنيا الفانية، فقال تعالى: (ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ) [الأنعام: ٧٠].
حيث بينت الآية الكريمة كيف أن الله تعالى سيحاسب المقصرين واللاهين المفتونين بالدنيا وزينتها بالافتضاح والمؤاخذة، والحبس يوم القيامة، حيث يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: (ﭞ) هؤلاء (ﭟ ﭠ) دين الله وطاعتهم إياه (ﭢ ﭣ)، فجعلوا حظوظهم من طاعتهم إياه اللعب بآياته، واللهو والاستهزاء بها إذا سمعوها وتليت عليهم، فأعرض عنهم، فإني لهم بالمرصاد، وإني لهم من وراء الانتقام منهم والعقوبة لهم على ما يفعلون، وعلى اغترارهم بزينة الحياة الدنيا، ونسيانهم المعاد إلى الله تعالى ذكره، والمصير إليه بعد الممات33.
يستفاد من الآية وجوب الإعراض عن المستهزئين المغرورين بالدنيا، والتحذير من مجالستهم والركون إليهم.
ومن صور كسب السيئات الغلول من الغنيمة فقال تعالى: (ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ) [آل عمران: ١٦١].
القراءات: «(يغل) فقرأ ابن كثيرٍ وأبو عمرٍو وعاصمٌ بفتح الياء وضم الغين. وقرأ الباقون بضم الياء وفتح الغين»34، «ومعنى القراءة بفتح الياء وضم الغين: ما كان لنبي أن يخون أصحابه ويأخذ من الغنيمة خفية، وعلى القراءة الأخرى بضم الياء وفتح الغين يكون المعنى: ما كان لنبي أن يخون فيتهم بالخيانة»35.
ففي هذه الآية ينفي المولى عز وجل عن أنبيائه صفة الغلول، وهي من الكبائر التي نهى الله عنها، وتوعد فاعلها بالعذاب الأليم، ثم ذكر تعالى جزاء وعقوبة من يفعل ذلك فأخبرهم تعالى أن من أغل شيئًا يأت به يوم القيامة يحمله حتى البقرة والشاة، ثم يحاسب عليه كغيره ويجزى به، كما تجزى كل نفس بما كسبت من خير أو شر ولا تظلم نفس شيئًا لغنى الرب تعالى عن الظلم وعدله36.
يستفاد من الآية: عصمة النبي من الصغائر والكبائر، ووجوب الدفاع عنه أمام الذين يسيئون إليه بأي شكل من الأشكال، وخاصة في زماننا من أعداء الإسلام الذين ينشرون الرسوم المسيئة له، فداك يا رسول الله بأبي وأمي!
جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة أنه قال: (لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعيرٌ له رغاءٌ، يقول: يا رسول الله، أغثني! فأقول: لا أملك لك شيئًا، قد أبلغتك)37.
ومن صور كسب السيئات التولي يوم الزحف، فقال تعالى: (ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ) [آل عمران: ١٥٥].
تتحدث الآية عن الصحابة الكرام، الذين انهزموا عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا القليل منهم، وقد حملهم الشيطان على الزلل، وهي الخطيئة بشؤم ذنوبهم بتركهم مركزهم الذي أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بعدم مغادرته، أو بقبولهم من الشيطان ما وسوس إليهم من الهزيمة38.
ويعتبر التولي يوم الزحف من الكبائر بل هو من الموبقات السبع التي حذر منها النبي صلى الله عليه وسلم، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اجتنبوا السبع الموبقات، قالوا: يا رسول الله وما هن؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات)39.
ومن صور الكسب السيِّئ كسب الذنوب والمعاصى عمومًا كما قال تعالى: (ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ) [النساء: ١١١].
أي: ومن يأت ذنبًا على عمدٍ منه له ومعرفة به، فإنما يجترح وبال ذلك الذنب وضره وخزيه وعاره على نفسه، دون غيره من سائر خلق الله40.
ومن صور كسب السيئات: اتهام الأبرياء والافتراء عليهم كما قال تعالى: (ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ) [النساء: ١١٢].
أي: من ارتكب خطيئة أو إثمًا ثم اتهم به بريئًا فقد ارتكب جريمة فظيعة، ونلاحظ من استخدام الحق هنا لكلمة (احتمل) وليس (حمل)، تؤكد لنا أن هناك علاجًا ومكابدة وشدة؛ ليحمل الإنسان هذا الشيء الثقيل؛ فالجريمة جريمتان وليست واحدة، لقد فعل الخطيئة ورمى بها بريئًا، وفاعل الخطيئة يندم على فعلها مرة، ويندم أيضًا على إلصاقها ببريء. إذن فهي حمل على أكتافه41.
ومن هذا الإيذاء والافتراء إيذاء المؤمنين بغير ما اكتسبوا، كما قال تعالى: (ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ) [الأحزاب: ٥٨].
أي: ينسبون إليهم ما هم برآء منه، لم يعملوه ولم يفعلوه، وهذا هو البهت البين، أن يحكى أو ينقل عن المؤمنين والمؤمنات ما لم يفعلوه، على سبيل العيب والتنقص لهم، ومن أكثر من يدخل في هذا الوعيد الكفرة بالله ورسوله، ثم الرافضة الذين يتنقصون الصحابة ويعيبونهم بما قد برأهم الله منه، ويصفونهم بنقيض ما أخبر الله عنهم؛ فإن الله، عز وجل، قد أخبر أنه قد رضي عن المهاجرين والأنصار ومدحهم، وهؤلاء الجهلة الأغبياء يسبونهم ويتنقصونهم، ويذكرون عنهم ما لم يكن ولا فعلوه أبدًا، فهم في الحقيقة منكوسو القلوب يذمون الممدوحين، ويمدحون المذمومين42.
قيل: إنها نزلت في منافقين كانوا يؤذون عليًّا رضي الله عنه، وقيل: في أهل الإفك، وقيل: في زناة كانوا يتبعون النساء وهن كارهات43.
جاء في الصحيح عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (أتدرون ما الغيبة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ذكرك أخاك بما يكره، قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول، فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهته)44.
ثالثًا: كسب الأموال:
الكسب الطيب والمال الحلال ينير القلب، ويشرح الصدر، ويورث الطمأنينة والسكينة والخشية من الله، ويعين الجوارح على العبادة والطاعة، ومن أسباب قبول العمل الصالح وإجابة الدعاء، أما الكسب الخبيث فإنه شؤم وبلاء على صاحبه، بسببه يقسو القلب، وينطفئ نور الإيمان، ويحل غضب الجبار، ويمنع إجابة الدعاء، المال الحرام مستخبث الأصول، ممحوق البركة والمحصول، إن صرفه صاحبه في برٍّ لم يؤجر، وإن بذله في نفعٍ لم يشكر، ثم هو لأوزاره محتمل وعليه معاقب.
ومن صور كسب الأموال قوله تعالى: (ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ) [البقرة: ٢٦٧].
يأمر تعالى عباده المؤمنين بالنفقة من طيبات ما يسر لهم من المكاسب، ومما أخرج لهم من الأرض، فكما مَنَّ عليكم بتسهيل تحصيله فأنفقوا منه شكرًا لله وأداء لبعض حقوق إخوانكم عليكم، وتطهيرًا لأموالكم، واقصدوا في تلك النفقة الطيب الذي تحبونه لأنفسكم، (ﮡ ﮢ) الرديء الذي لا ترغبونه ولا تأخذونه إلا على وجه الإغماض والمسامحة؛ فهو (ﮰ) عنكم، ونفع صدقاتكم وأعمالكم عائد إليكم، ومع هذا فهو (ﮱ) على ما يأمركم به من الأوامر الحميدة والخصال السديدة، فعليكم أن تمتثلوا أوامره؛ لأنها قوت القلوب، وحياة النفوس، ونعيم الأرواح45.
يستفاد من الآية: أن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا، ومن هنا ينبغي على الإنسان أن يتخير النفقة الحلال ينفقها في سبيل الله.
جاء في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أيها الناس، إن الله طيبٌ لا يقبل إلا طيبًا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: (ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ) [المؤمنون: ٥١].
وقال: (ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ) [البقرة: ١٧٢].
ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء، يا رب، يا رب، ومطعمه حرامٌ، ومشربه حرامٌ، وملبسه حرامٌ، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك؟!)46.
وجاء في الصحيح أيضًا أنه (كان لأبي بكرٍ غلامٌ يخرج له الخراج، وكان أبو بكرٍ يأكل من خراجه، فجاء يومًا بشيءٍ فأكل منه أبو بكرٍ، فقال له الغلام: أتدري ما هذا؟ فقال أبو بكرٍ: وما هو؟ قال: كنت تكهنت لإنسانٍ في الجاهلية، وما أُحْسِنُ الكهانةَ، إلا أني خدعته، فلقيني فأعطاني بذلك، فهذا الذي أكلت منه، فأدخل أبو بكرٍ يده، فقاء كلَّ شيءٍ في بطنه)47.
ومن صور كسب الأموال قوله تعالى: (ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ) [البقرة: ٧٩].
تتحدث الآية الكريمة عن تحريف اليهود لكتبهم، وزعمهم أنها من عند الله، طمعًا في عَرَضٍ زائل، فكان الوعيد والتهديد لأولئك العلماء الذين يكتبون الكتب بأيديهم، ويودعونها آراءهم، ويحملون الناس على التعبد بها قائلين: إن ما فيها من عند الله، ويمكن الاستغناء بها عن الكتاب الذي نفهم منه ما لا يفهم غيرنا، يخطبون بتلك الكتب ميل العامة وودهم، ويبتغون الجاه عندهم، ويأكلون أموالهم بالدين؛ وهو مال حقير قليل، وكل ما يباع به الحق ويترك لأجله فهو قليل؛ لأن الحق أثمن الأشياء وأغلاها، وأرفعها، فالهلاك والويل محيط بهم من أقطارهم، ونازل بهم من جانب الوسيلة ومن جانب المقصد48.
يستفاد من الآية: أنَّ الكتاب الذي بين يدي اليهود والنصارى لا سند له يمكن أن يعتمد عليه في صحة المعلومات الواردة فيه؛ فلهذا لا يمكن لليهود ولا للنصارى أن ينفوا إمكانية التحريف، والعبث فيه خاصة، وأن الذين استؤمنوا عليه وهم اليهود قد انحرفوا انحرافات خطيرة في الدين، وكفر كثير منهم، وأعرضوا عن دين الله، وتركوه رغبة عنه، وحبًّا للدنيا، وإيثارًا لها، وهذا ظاهر واضح لكل من طالع سجل تاريخهم وهو العهد القديم. فمع هذا الانحراف والفساد كيف يمكن أن تسلم التوراة من العبث والتحريف، هذا ما لا يقبله العقل السليم وواقع الإنسان49.
من صفات الله تبارك وتعالى العدل في محاسبة خلقه، فلا يحاسبهم إلا بما عملوا، ولا يعاجلهم بالعقوبة، ولا يؤاخذهم إلا بما تعمدت قلوبهم مع العفو عن الكثير، ومن هنا جاءت النقاط الآتية:
أولًا: كلٌّ مرهون بكسبه:
قال تعالى: (ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ) [البقرة: ٢٨٦].
من رحمة الله بعباده أنه لا يكلف نفسًا إلا وسعها، ولا يحاسبها إلا بما اجترحت وعملت من خير، فيكافئها عليه خيرًا، وبما عملت من شرٍّ فيجازيها عليه شرًا50.
جاء في الصحيح عن أبي مسعودٍ رضي الله عنه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من قرأ بالآيتين من آخر سورة البقرة في ليلةٍ كفتاه)51.
ومن صور ارتهان العبد بكسبه والتي تبين فضل الله على المؤمنين برفع درجات ذرية الصالحين إليهم، وليس كذلك لأبناء الكفار فلا يزيد من عذابهم بفعل آبائهم، فقال تعالى: (ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ) [الطور: ٢١].
وهذا من تمام نعيم أهل الجنة، أن ألحق الله بهم ذريتهم الذين لحقوهم بالإيمان الصادر من آبائهم، فصارت الذرية تبعا لهم بالإيمان، ومن باب أولى إذا تبعتهم ذريتهم بإيمانهم الصادر منهم أنفسهم، فهؤلاء المذكورون يلحقهم الله بمنازل آبائهم في الجنة وإن لم يبلغوها، جزاء لآبائهم، وزيادة في ثوابهم، ومع ذلك لا ينقص الله الآباء من أعمالهم شيئًا، وحتى لا يتوهم متوهم أن أهل النار كذلك، يلحق الله بهم أبناءهم وذريتهم، بَيَّنَ تعالى أنَ كلَّ امرئ مرتهن بعمله، فلا تزر وازرة وزر أخرى، ولا يحمل على أحد ذنب أحد52.
ومن الآيات التي تدلل على أن الكافر مرتهن بكسبه مغلولة به عنقه، قوله تعالى: (ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ) [المدثر: ٣٨-٤٠].
حيث يقول تعالى ذكره: إنَّ كلَّ نفس مأمورة منهية بما عملت من معصية الله في الدنيا، رهينة في جهنم موثقة بسعيها، قد ألزم عنقها، وغل في رقبتها، واستوجبت به العذاب إلا المؤمنين فإنهم غير مرتهنين، ولكنهم في جنات النعيم مطمئنين يتساءلون عن المجرمين53.
وقال تعالى: (ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ) [النساء: ١١١].
وقوله تعالى: (ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ) [الأنعام: ١٦٤].
في هذه الآيات تحديد المسئولية، حيث لا يؤخذ أحد بجرم غيره، ولن يخشى البريء أن يلقى عليه جرم المجرم، فإن أمر القضاء إلى عليم حكيم، يعلم عمل كل عامل من خير أو شر، فيجزى بالخير خيرًا، وبالشر شرًّا، كما يقضي بذلك عدله، وحكمته54.
ومن حكمة الله أنه يجازي كلَّ عامل بقدر عمله الذي عمله، فقال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ) [النور: ١١].
أي: إن الذين جاءوا بأشنع الكذب، وهو اتهام أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بالفاحشة جماعة منتسبون إليكم -معشر المسلمين- لا تحسبوا قولهم شرًّا لكم، بل هو خير لكم، لما تضمن ذلك من تبرئة أم المؤمنين ونزاهتها والتنويه بذكرها، ورفع الدرجات، وتكفير السيئات، وتمحيص المؤمنين. لكل فرد تكلم بالإفك جزاء فعله من الذنب، والذي تحمل معظمه، وهو عبد الله بن أبي ابن سلول كبير المنافقين -لعنه الله- له عذاب عظيم في الآخرة، وهو الخلود في الدرك الأسفل من النار55.
يستفاد من الآية حرمة الطعن بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه من الكبائر التي توعد الله فاعلها بالعذاب الأليم في الدنيا والآخرة، ومن هنا كان لا بد للأمة أن تنهض من تخاذلها، وتدافع عن عرض رسولها صلى الله عليه وسلم من أولئك الذين يطعنون في عرضه ويسيئون إليه.
وكما أن كل إنسان مرتهن بكسبه فكذلك الأمم، لا تؤاخذ أمة بجريرة أمة أخرى، فقال تعالى: (ﯴ ﯵ ﯶ ﯷﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ) [البقرة: ١٣٤].
حيث يخاطب المولى عز وجل اليهود والنصارى بقوله: يا معشر اليهود والنصارى، دعوا ذكر إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والمسلمين من أولادهم بغير ما هم أهله، ولا تنحلوهم كفر اليهودية والنصرانية، فتضيفونها إليهم، فإنهم أمة لها ما عملت من خير، ولكم يا معشر اليهود والنصارى مثل ذلك ما عملتم، ولا تؤاخذون أنتم بهم فتسألوا عما كانوا يعملون. فيكسبون من خير وشر؛ لأنَّ لكلِّ نفس ما كسبت وعليها ما اكتسبت. فدعوا انتحالهم وانتحال مللهم، فإن الدعاوى غير مغنيتكم عند الله، وإنما يغني عنكم عنده ما سلف لكم من صالح أعمالكم، إن كنتم عملتموها56.
يستفاد من الآيات أَنَّ سنة الله في الخلق أن المرء يجزى بعمله، ولا يسأل عن عمل غيره.
ثانيًا: العدل في الجزاء:
يتجلى العدل الإلهي في سنة المسئولية والجزاء، فالإنسان مسؤول عن فعله ومجـزًى به؛ إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر. ولكنه ليس مسئولًا عن فعل غيره، إلا في حدود تأثيره فيه.
فكل أفعال الله وأحكامه عدل وسداد وصواب، وهو سبحانه قد أوضح السبل وأرسل الرسل، وأنزل الكتب وأزاح العلل، ومكن من أسباب الهداية والطاعة بالأسماع والأبصار والعقول، وهذا عدله ووَفَّقَ من شاء بمزيد عنايةٍ، فهذا فضله، وخذل من ليس بأهل لتوفيقه وفضله، وخَلَّى بينه وبين نفسه، ولم يرد سبحانه أن يوفقه، فقطع عنه فضله، ولم يحرمه عدله.
وهنا لا بد من إبراز بعض المفاهيم المغلوطة فيما يتعلق بقضية التخيير والتسيير في كسب الإنسان، فذهبت فرقة الجبرية إلى أن الإنسان مسير مجبور على كل ما يعمله وليس لديه اختيار، وفي المقابل ذهبت فرقة القدرية وهم المنكرون للقدر إلى أن الإنسان مخير في كل ما يعمله، وأنكروا قدرة الله على كل شيء فجعلوه لم يخلق أفعال العباد، فأخرجوها عن قدرته وخلقه.
والحق الذي عليه أهل السنة والجماعة أن الإنسان مخير في أشياء وهي الإرادية وعليها يكون الجزاء والحساب، ومسير في أشياء غير الإرادية كالميل القلبي ونحوه فلا يحاسب عليها57.
قال الطاهر بن عاشور عند تفسير قوله تعالى: (ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ) [التكوير: ٢٩]: «وفي هذه الآية وآية سورة الإنسان إفصاح عن شرف أهل الاستقامة بكونهم بمحل العناية من ربهم إذا شاء لهم الاستقامة وهيأهم لها، وهذه العناية معنى عظيم تحير أهل العلم في الكشف عنه، فمنهم من تطوح به إلى الجبر، ومنهم من ارتمى في وهدة القدر، ومنهم من اعتدل فجزم بقوة للعباد حادثة يكون بها اختيارهم لسلوك الخير أو الشر، فسماها بعض هؤلاء قدرة حادثة، وبعضهم سماها كسبًا. وحملوا ما خالف ذلك من ظواهر الآيات والأخبار على مقام تعليم الله عباده التأدب مع جلاله، وهذا أقصى ما بلغت إليه الأفهام القويمة في مجامل متعارض الآيات القرآنية والأحاديث النبوية. ومن ورائه مسلك دقيق يشده قد تقصر عنه الأفهام»58.
قال تعالى: (ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ) [الجاثية: ٢٢].
يبين المولى عز وجل في هذه الاية الكريمة كمال قدرته وعدله من خلال خلق السموات والأرض بالحق، أي: إن الله أوجد وأبدع السموات والأرض بالحق المقتضي للعدل بين العباد، فلا يمكن أن يكون حال من اجترح السيئات، فعصاه وخالف أمره، كالذين آمنوا وعملوا الصالحات، في المحيا والممات، فلو لم يوجد البعث والحساب والجزاء، لما كان ذلك الخلق بالحق بل كان بالباطل، ومن العدل اختلاف الجزاء بين المحسن والمسيء؛ ليدل بهما على قدرته، ولكي تجزى كل نفس بما قدمت من عمل صالح أو سيِّئ، وهم -أي: المخلوقون- لا يظلمون بنقص ثواب أو زيادة عقاب، فلو ترك الظالم الذي ظلم غيره في الدنيا، ولم يقتص منه في الآخرة، لما كان خلق السموات والأرض بالحق59.
قال الطبري: «ليثيب الله كل عامل بما عمل من عمل المحسن بالإحسان، والمسيء بما هو أهله، لا لنبخس المحسن ثواب إحسانه، ونحمل عليه جرم غيره، فنعاقبه، أو نجعل للمسيء ثواب إحسان غيره فنكرمه، ولكن لنجزي كلًّا بما كسبت يداه، وهم لا يظلمون جزاء أعمالهم»60.
ولقد بين المولى سبحانه وتعالى عدله وسرعة حسابه بقوله: (ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ) [إبراهيم: ٥١].
والجزاء أمر طبيعي في الوجود، وحتى الذين لا يؤمنون بإله؛ ويديرون حركة حياتهم بتقنينات من عندهم، قد وضعوا لأنفسهم قوانين جزاء تحدد كل جريمة والعقاب المناسب لها.
وبطبيعة الحال لا يكون أمرًا غريبًا أن يضع خالق الكون نظامًا للجزاء ثوابًا وعقابًا، ولو لم يضع الحق سبحانه نظامًا للجزاء بالثواب والعقاب؛ لنال كل مفسد بغيته من فساده؛ ولأحس أهل القيم أنهم قد خدعوا في هذه الحياة، وما دام الجزاء أمرًا طبيعيًّا؛ فلا ظلم فيه إذن؛ لأنه صادر عمن قال: (ﭘ ﭙ ﭚ) [غافر: ١٧].
ولا يجازي الحق سبحانه الجزاء العنيف إلا على الجريمة العنيفة61.
ومن عدل الله حين ينكر أصحاب الذنوب الأعمال التي ارتكبوها أنه يجعل من أعضائهم من تشهد عليهم كما قال تعالى: (ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ) [يس: ٦٥].
هذا حال الكفار والمنافقين يوم القيامة، حين ينكرون ما اجترموه في الدنيا، ويحلفون ما فعلوه، فيختم الله على أفواههم، ويستنطق جوارحهم بما عملت62.
عن أنس بن مالكٍ، قال: (كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فضحك، فقال: (هل تدرون مم أضحك)؟ قال: قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: (من مخاطبة العبد ربه، يقول: يا رب ألم تجرني من الظلم؟ قال: يقول: بلى، قال: فيقول: فإني لا أجيز على نفسي إلا شاهدًا مني، قال: فيقول: كفى بنفسك اليوم عليك شهيدًا، وبالكرام الكاتبين شهودًا، قال: فيختم على فيه، فيقال لأركانه: انطقي، قال: فتنطق بأعماله، قال: ثم يخلى بينه وبين الكلام، قا: فيقول: بعدًا لكن وسحقًا، فعنكن كنت أناضل)63.
ومن عدل الله أنه لا يظلم أحدًا، كما قال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖﭗ ﭘ ﭙ ﭚﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ) [غافر: ١٧].
بَيَّنَ المولى عز وجل في هذه الآية أن كل َّنفس تجزى بما كسبت في الدنيا من خير وشر، وأن الظلم مأمون منه؛ لأنه ليس بظلام للعبيد، وأن الحساب لا يبطئ؛ لأنه لا يشغله حساب عن حساب، فيحاسب الخلق كله في وقت واحد، وهو أسرع الحاسبين64.
وأكد المولى عز وجل على هذه الحقيقة في آية أخرى، فقال تعالى: (ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ) [آل عمران: ٢٥].
أي: كيف يكون حال هؤلاء القوم الذين قالوا هذا القول، وفعلوا ما فعلوا من إعراضهم عن كتاب الله، واغترارهم بربهم، وافترائهم الكذب؟ وذلك من الله عز وجل وعيدٌ لهم شديد، وتهديدٌ غليظٌ.
فما أعظم ما يلقون من عقوبة الله وتنكيله بهم، إذا جمعهم ليوم يوفَّى كلُّ عامل جزاء عمله على قدر استحقاقه، غير مظلوم فيه؛ لأنه لا يعاقب فيه إلا على ما اجترم، ولا يؤاخذ إلا بما عمل، لا يخاف أحدٌ من خلقه منه يومئذ ظلمًا ولا هضمًا65.
ويؤكد المولى على هذه الحقيقة في آخر آية نزلت من القرآن، فقال تعالى: (ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ) [البقرة: ٢٨١].
أي: واحذروا أيها الناس يومًا ترجعون فيه إلى الله بسيئات تهلككم، أو بمخزيات تخزيكم، أو بفاضحات تفضحكم، فتهتك أستاركم، أو بموبقات توبقكم، فتوجب لكم من عقاب الله ما لا قبل لكم به، وإنه يوم مجازاة الأعمال، لا يوم استعتاب، ولا يوم استقالة وتوبة وإنابة، ولكنه يوم جزاء وثواب ومحاسبة، تُوَفَّى فيه كلُّ نفس أجرها على ما قدمت واكتسبت من سيئ وصالح، لا تغادر فيه صغيرة ولا كبيرة من خير وشر إلا أحضرت، فوفيت جزاءها بالعدل من ربها، وهم لا يظلمون. وكيف يظلم من جوزي بالإساءة مثلها، وبالحسنة عشر أمثالها؟!66.
يستفاد من الآية: أن اجتناب ما حرم الله من المكاسب الربوية، تكميل للإيمان وحقوقه من إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وعمل الصالحات.
ثالثًا: الجزاء على الكسب المتعمد:
من عدل الله ورحمته بالعباد أنه لا يؤاخذهم إلا بما تعمدوه من الأعمال، دون تلك التي تحدث من غير قصد، أو إرادة كما بينه النبي عليه السلام بقوله: (رفع القلم عن ثلاثةٍ: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يعقل)67.
قال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛﭜ ﭝ ﭞ ﭟ) [البقرة: ٢٢٥].
بين المولى عز وجل أن هذه الألفاظ التي تسبق إلى اللسان عادة ولا يقصد بها عقد اليمين لغو من القول، لا تعد أيمانًا حقيقية، فلا يؤاخذكم الله تعالى بها بفرض الكفارة عليها، ولا بالعقاب، (ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ) بأن تقصدوا جعل اسمه الكريم عرضة للابتذال، أو مانعًا لصالح الأعمال، فالقول الحشو الذي لا أثر له في القلب، ولا شأن له في العمل، مما يعفو عنه، ولا يعاقب عليه، ولا يتعجل بالعقوبة على هذا اللمم الذي يضعف العبد عن التوقي منه؛ ولذلك لم يكلف عباده ما يشق عليهم فيما لم تقصده قلوبهم ولم تتعمده نفوسهم؛ لأنه مما لا يدخل تحت سلطة الاختيار68.
يستفاد من الآية مدى حلم الله وعفوه مما يوجب على العبد شكره عليها.
رابعًا: عدم المعاجلة بالعقوبة:
إن الله سبحانه وتعالى بحلمه ومغفرته وسعة رحمته يمهل الكفرة والظلمة والعصاة والمجرمين ولا يعاجلهم بالعذاب، ولو عاجلهم به لأهلكهم جميعًا، حتى لا يبقى على وجه الأرض أحد، ومن الحكمة في عدم المعاجلة بالعقوبة أن الكفرة قد يؤمنون، وأن عصاة المؤمنين قد يتوبون ويستغفرون، ولكنه جعل لهم أجلًا لا مهرب لهم منه ولا محيد لهم عنه، فهو سبحانه وتعالى يملي للظلمة ويمهلهم ولكنه لا يهملهم، ويغفر للمؤمنين ما شاء أن يغفر.
قال تعالى: (ﮫ ﮬ ﮭ ﮮﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ) [الكهف: ٥٨].
فمن رحمة الله بالكفار أنه لم يعاجلهم بعذاب يستأصلهم، بل أمهلهم وتركهم؛ لأن لهم موعدًا لن يهربوا منه، ولن يفلتوا، ولن يكون لهم ملجأ يحميهم منه، ولا شك أن في إمهالهم في الدنيا حكمة لله بالغة، ولعل الله يخرج من ظهور هؤلاء من يؤمن به، ومن يحمل راية الدين ويدافع عنه، وقد حدث هذا كثيرًا في تاريخ الإسلام، فمن ظهر أبي جهل جاء عكرمة، وأمهل الله خالد بن الوليد، فكان أعظم قائد في الإسلام69.
قال تعالى في آية أخرى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ) [فاطر: ٤٥].
أي: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ) ولو أنه عجل العقاب وأخذ الناس بجميع ذنوبهم، لأهلك جميع أهل السموات والأرض، وما يملكونه من دواب وأرزاق، لشؤم معاصيهم؛ ولكن يؤجل عقابهم ومؤاخذتهم بذنوبهم إلى وقت محدد وهو يوم القيامة، فيحاسبهم يومئذ، ويوفي كل عامل بعمله، فيجازي بالثواب أهل الطاعة، وبالعقاب أهل المعصية، والله بصير بمن يستحق منهم الثواب، ومن يستحق منهم العقاب، لا يخفى عليه شيء من أمرهم70.
خامسًا: عفو الله عن كثير من الكسب:
من رحمة الله بعباده أنه لا يحاسب العباد بكل ما عملوا، بل يعفو عن كثير، قال تعالى: (ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ) [الشورى:٣٠].
حيث بين المولى عز وجل في هذه الآية أنه ما تقع من مصيبة في الناس في هذه الدنيا سواء كان في الأنفس أو الأهل أو الأموال فإنما يكون ذلك عقوبة من الله بما اجترحوه من الآثام مع عفو الله عن كثير منها71.
قال الزحيلي: «أي: وما أصابكم أيها الناس من المصائب -وهي الأحوال المكروهة كالآلام والأسقام والقحط والغرق والصواعق والزلازل ونحوها- فإنما هي بسبب سيئات اقترفتموها، ومعاصٍ اقتحمتموها، فهي عقوبات الذنوب وكفاراتها، ويعفو الله عن كثير من معاصي العباد، فلا يعاقب عليها، وقد يكون المصاب لغير ذنب، وإنما لزيادة الأجر ورفع الدرجة»72.
عن أبي هريرة أنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما يصيب المسلم، من نصبٍ ولا وصبٍ، ولا همٍّ ولا حزنٍ ولا أذًى ولا غمٍّ، حتى الشوكة يشاكها، إلا كَفَّرَ الله بها من خطاياه)73.
وأكد المولى سبحانه وتعالى على هذه الحقيقة في آية أخرى، حيث يقول تعالى: (ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ) [الشورى: ٣٣-٣٤].
أي: وإن يشأ يجعل الرياح عواصف فيهلك تلك السفن ويغرقها بمن فيها، بسبب ذنوب أصحابها، وهو على ذلك قدير، ويعفو عن كثير من الذنوب والخطايا، فلا يؤاخذ بها؛ إذ لو آخذ بكل ذنب ما بقي أحد على وجه الأرض لقلة من لا يذنب فيها74.
سادسًا: الجزاء العاجل والآجل:
من حكمة الله في خلقه أنه يمهل ولا يهمل، قال تعالى: (ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ) [الأنعام: ١٢٩].
بين المولى عز وجل في هذه الآية أنه سلط الجن المردة على أوليائهم من الإنس، وعقد بينهم عقد الموالاة والموافقة، بسبب كسبهم وسعيهم بذلك، وبَيَّنَ كيف أنه ولَّى على كل ظالمٍ ظالمًا مثله، يَؤُزُّهُ إلى الشر ويحثه عليه، ويزهده في الخير وينفره عنه، وذلك من عقوبات الله العظيمة، الشنيع أثرها، البليغ خطرها، والذنب ذنب الظالم، فهو الذي أدخل الضرر على نفسه، وعلى غيره، فالعباد إذا كثر ظلمهم وفسادهم، ومنعهم الحقوق الواجبة، ولى عليهم ظلمة، يسومونهم سوء العذاب، ويأخذون منهم بالظلم والجور أضعاف ما منعوا من حقوق الله، وحقوق عباده، على وجه غير مأجورين فيه ولا محتسبين.
كما أن العباد إذا صلحوا واستقاموا، أصلح الله رعاتهم، وجعلهم أئمة عدل وإنصاف، لا ولاة ظلم واعتساف75.
قال تعالى: (ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ- ﯿ ﰀ ﰁ ﰂﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ) [الرعد: ٣٣].
أي: أيكون الله الذي هو قائم رقيب على كل نفس صالحة أو طالحة بما كسبت، يعلم خيره وشره، ويعد لكل جزاءه، كمن ليس كذلك. أجعلتم له شركاء فسموهم له من هم ونبئوه بأسمائهم، أتنبئونه بشركاء لا يعلمهم في الأرض، وهو العالم بما في السموات والأرض، فإذا لم يعلمهم علم أنهم ليسوا بشيء يتعلق به العلم، والمراد نفى أن يكون له شركاء، وهذا الاحتجاج وأساليبه العجيبة التي ورد عليها تدلل على أنه ليس من كلام البشر لمن عرف وأنصف من نفسه، فتبارك الله أحسن الخالقين76.
لا شك أن للأعمال الصالحة عند الله ثوابًا عظيمًا في الدنيا والآخرة، أما الأعمال غير الصالحة فلها عقاب من عند الله، إما عقاب مستعجل في الدنيا، أو عقاب مؤجل إلى يوم القيامة.
أولًا: عاقبة كسب الصالحات في الدنيا والآخرة:
قال تعالى: (ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬﯭ ﯮ ﯯ ﯰ) [البقرة: ٢٠١-٢٠٢].
جمعت هذه الدعوة كلَّ خير في الدنيا، وصرفت كلَّ شرٍّ فإن الحسنة في الدنيا تشمل كل مطلوب دنيوي، من عافية، ودار رحبة، وزوجة حسنة، ورزق واسع، وعلم نافع، وعمل صالح، ومركب هنيء، وثناء جميل، إلى غير ذلك مما اشتملت عليه عبارات المفسرين، ولا منافاة بينها، فإنها كلها مندرجة في الحسنة في الدنيا. وأما الحسنة في الآخرة فأعلى ذلك دخول الجنة وتوابعه من الأمن من الفزع الأكبر في العرصات، وتيسير الحساب، وغير ذلك من أمور الآخرة الصالحة، وأما النجاة من النار فهو يقتضي تيسير أسبابه في الدنيا، من اجتناب المحارم والآثام وترك الشبهات والحرام77.
قال الطبري: «والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إن الله -جل ثناؤه- أخبر عن قوم من أهل الإيمان به وبرسوله، ممن حج بيته، يسألون ربهم الحسنة في الدنيا، والحسنة في الآخرة، وأن يقيهم عذاب النار. وقد تَجْمَعُ الحسنة من الله عز وجل العافية في الجسم والمعاش والرزق وغير ذلك، والعلم والعبادة. وأما في الآخرة، فلا شك أنها الجنة؛ لأن من لم ينلها يومئذ فقد حرم جميع الحسنات، وفارق جميع معاني العافية.
وإنما قلنا: إن ذلك أولى التأويلات بالآية؛ لأن الله عز وجل لم يخصص من معاني الحسنة شيئًا، ولا نصب على خصوصه دلالة دالةً على أن المراد من ذلك بعض دون بعض، فالواجب من القول فيه ما قلنا: من أنه لا يجوز أن يُخَصَّ من معاني ذلك شيء، وأن يحكم له بعمومه على ما عمه الله»78.
ثانيًا: عاقبة كسب السيئات في الدنيا والآخر:
لقد توعد الله الظالمين المفسدين في الأرض الذين يكسبون السيئات بالعذاب الأليم في الدنيا والآخرة كما قال تعالى: (ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ) [طه: ١٢٤- ١٢٧].
قال تعالى: (ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤﮥ ﮦ ﮧ ﮨ) [البقرة: ٨١].
يتوعد الله تبارك وتعالى بالعذاب الأليم أولئك المضللين من اليهود الذين يحرفون كلام الله، ويكتبون أمورًا من الباطل، وينسبونها إلى الله تعالى؛ ليتوصلوا بها إلى أغراض دنيوية سافلة، كما قال تعالى في آية أخرى: (ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ) [البقرة: ٧٩].
ينكر عليهم تبجحهم الفارغ بأنهم لا يعذبون بالنار مهما كانت ذنوبهم ما داموا على ملة اليهود إلا أربعين يومًا ثم يخرجون، وجائز أن يتم هذا لو كان هناك عهد من الله تعالى قطعه لهم به، ولكن أين العهد؟ إنما هو الادعاء الكاذب فقط، ثم يقرر العليم الحكيم سبحانه وتعالى حكمه في مصير الإنسان بدخول النار أو الجنة، ذلك الحكم القائم على العدل والرحمة، البعيد عن التأثير بالأنساب والأحساب، فيرد عليهم بأن الأمر ليس كما تدعون، وإنما هي الخطايا والحسنات فمن كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فخبثت نفسه ولوثتها، فهذا لا يلائم خبث نفسه إلا النار، أما الحسب والنسب والادعاءات الكاذبة فلا تأثير لها البتة79.
وفي هذا رد على ادعاء اليهود بأنهم شعب الله المختار، وأنهم إنما خلقوا ليكونوا سادة، وكل من ليس على دينهم فهم عبيد لهم، بل ويتهمون كل من اعترض على أفعالهم الخبيثة بأنهم معادين للسامية.
ومن عاقبة كسب السيئات في الدنيا والآخرة ضياع الأعمال التي لا يبتغى بها وجه الله فيقول تعالى: (ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ) [البقرة: ٢٦٤].
والصفوان: هو الحجر الأملس، الذي لا مسام له يمكن أن تدركها العين المدركة، إنما يدرك الإنسان هذه المسام بوضع الحجر تحت المجهر. وعندما يكون الشيء ناعمًا قد يأتي عليه تراب، ثم يأتي المطر فينزل على التراب وينزلق التراب من على الشيء الأملس، فالذي ينفق ماله رئاء الناس، كالصفوان يتراكم عليه التراب، وينزل المطر على التراب فيزيله، كله فيفقدوا القدرة على امتلاك أي شيء؛ لأن الله جعل ما لهم من عمل هباءً منثورًا.
وهؤلاء كالحجر الصفوان الذي عليه تراب فنزل عليه وابل، أي: مطر شديد فتركه صلدًا. تلك هي صفات من قصدوا بالإنفاق رئاء الناس، فيبطل الله جزاءهم؛ لأن الله لا يوفقهم إلى الخير والثواب80.
وقال تعالى في آية أخرى: (ﯤ ﯥ ﯦ ﯧﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ) [إبراهيم: ١٨].
هذا مثل ضربه الله تعالى لأعمال الكفار الذين عبدوا مع الله غيره، وكذبوا رسله، وبنوا أعمالهم على على غير أساس صحيح؛ فانهارت وعدموها أحوج ما كانوا إليها81.
ومن صور عقوبة كسب السيئات في الدنيا والآخرة ما توعد الله به المنافقين بالتحقير في الدنيا والعذاب الأليم في الآخرة كما قال تعالى: (ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹﭺ ﭻ ﭼﭽ ﭾ ﭿﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ) [التوبة: ٩٥].
أي: سيؤكدون لكم اعتذارهم بما يحلفون به من كاذب الأيمان إذا انقلبتم من سفركم ورجعتم إليهم؛ لتعرضوا عن العتب عليهم، والتوبيخ لهم على قعودهم مع الخالفين من العجزة والنساء والأطفال، وعلى البخل بالنفقة والمال، فأعرضوا عنهم إعراض الإهانة والتحقير، لا إعراض الصفح وقبول العذر؛ لأن فى نفوسهم قذرًا معنويًّا يجب الاحتراس منه خوف سريان عدواه، وميل النفوس إليه، كما يحترز صاحب الثوب النظيف من الأقذار الحسية التي ربما تصيبه إذا لم يحتط لها. وملجؤهم الأخير نار جهنم جزاء لهم بما كسبوا فى الدنيا من أعمال النفاق وغيرها، مما دنس نفوسهم، وزادهم رجسًا على رجسهم82.
ومن صور عقوبة كسب السيئات في الدنيا والآخرة عقوبة السارق والسارقة في الدنيا بقطع الأيدي، مع ما أعده الله لهم في الآخرة من العذاب المهين فقال تعالى: (ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨﭩ ﭪ ﭫ ﭬ) [المائدة: ٣٨].
أي: اقطعوا أيديهما جزاء لهما بعملهما وكسبهما السيِّئ نكالا وعبرة لغيرهما، ولا عبرة أعظم من قطع اليد، فهو الذي يفضح صاحبه طول حياته ويَسِمُهُ بميسم العار والخزي، ولا شك أن هذه العقوبة أجدر بمنع السرقة وتأمين الناس على أموالهم وأرواحهم، فالأرواح كثيرًا ما تتبع الأموال إذا قاوم أهلها السراق، وحاولوا منعهم من أخذها، والله عزيز فى انتقامه من هذا السارق والسارقة وغيرهما من أهل المعاصي، حكيم فى صنعه فهو يضع الحدود والعقوبات بحسب الحكمة التي توافق المصلحة، فما أمر بأمر إلا وهو صلاح، ولا نهى عن أمر إلا وهو فساد83.
ومن صور عقوبة كسب السيئات في الدنيا والآخرة عدم نزول البركات وقلة الخصب وكثرة الجدب، كما قال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ) [الأعراف: ٩٦].
لما ذكر تعالى أن المكذبين للرسل يبتلون بالضراء موعظة وإنذارًا، وبالسراء استدراجًا ومكرًا، ذكر أن أهل القرى، لو آمنوا بقلوبهم إيمانًا صادقًا صدقته الأعمال، واستعملوا تقوى الله تعالى ظاهرًا وباطنًا بترك جميع ما حرم الله، لفتح عليهم بركات السماء والأرض، فأرسل السماء عليهم مدرارًا، وأنبت لهم من الأرض ما به يعيشون وتعيش بهائمهم، في أخصب عيش وأغزر رزق، من غير عناء ولا تعب، ولا كد ولا نصب، ولكنهم لم يؤمنوا ويتقوا، فأخذوا بالعقوبات والبلايا ونزع البركات، وكثرة الآفات، وهي بعض جزاء أعمالهم، وإلا فلو آخذهم بجميع ما كسبوا، ما ترك عليها من دابة84.
والناظر إلى واقع المسلمين اليوم يجدهم يعيشون في أزمات وبلايا وفتن وفقر، على الرغم مما تملكه الدول العربية والإسلامية من خيرات، وكل ذلك بسبب بعدها عن الدين، وعدم تطبيقها لشرعه الحنيف، وصدق الله العظيم إذ يقول: (ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ) [الروم: ٤١].
أي: ظهرت المصائب والابتلاءات مثل القحط، وقلة الأمطار، وكثرة الحرق والغرق، ومحق البركات من كل شيء بسبب معاصيهم وشركهم؛ ليذيقهم وبال بعض أعمالهم في الدنيا قبل أن يعاقبهم بجمعها في الآخرة85.
ومن صور عقوبة كسب السيئات في الدنيا والآخرة وقوع التلاعن والتبري والعداوة بين أهل النار مع بعضهم البعض بين السادة والعبيد، بين الأتباع والمتبوعين فقال تعالى: (ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ) [الأعراف: ٣٩].
أي: يقول الرؤساء لأتباعهم: قد اشتركنا جميعًا في الغي والضلال، وفي فعل أسباب العذاب، فليس لكم علينا من فضل، ولكنه من المعلوم أن عذاب الرؤساء وأئمة الضلال أبلغ وأشنع من عذاب الأتباع، كما أن نعيم أئمة الهدى ورؤسائه أعظم من نعيم الأتباع، كما قال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ) [النحل: ٨٨].
فهذه الآيات ونحوها، دلت على أنهم متفاوتون في مقدار العذاب، بحسب أعمالهم وعنادهم وظلمهم وافترائهم، وأن مودتهم التي كانت بينهم في الدنيا تنقلب يوم القيامة عداوة وملاعنة86.
ومن صور عقوبة كسب السيئات في الدنيا والآخرة، إلباس الكافرين لباس الذلة والهوان، فهي مسودة كسواد الليل، قال تعالى: (ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼﭽ ﭾ ﭿ ﮀﮁ ﮂ ﮃ ﮄ) [يونس: ٢٧].
أي: الذين عملوا السيئات في الدنيا فكفروا وعصوا الله، لهم جزاء أعمالهم السيئة التي عملوها بمثلها من عقاب الله في الآخرة، هؤلاء تغشاهم ذلة وهوان، لا أحد يعصمهم من الله ويمنعهم من عقوبته، كأنما ألبست وجوههم أجزاء من سواد الليل المظلم. هؤلاء هم أهل النار ماكثون فيها أبدًا87.
ومن صور عقوبة كسب السيئات في الدنيا والآخرة أن الله توعد المنافقين المتخلفين عن رسول الله، الذين يضحكون كثيرًا في الدنيا بالبكاء الدائم والمستمر في نار جهنم، كما قال تعالى: (ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ) [التوبة: ٨٢].
أي: فرح هؤلاء المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله، فليضحكوا فرحين قليلًا في هذه الدنيا الفانية بمقعدهم خلاف رسول الله ولهوهم عن طاعة ربهم، فإنهم سيبكون طويلًا في جهنم مكان ضحكهم القليل في الدنيا؛ ثوابًا منا لهم على معصيتهم، بتركهم النفر إذ استنفروا إلى عدوهم، وقعودهم في منازلهم خلاف رسول الله88.
يستفاد من هذه الآيات أن الله سبحانه وتعالى يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، وأن الله يمهل ولا يهمل، وفي هذا تحذير للظلمة والمفسدين أعداء الدين من كفرة ومنافقين وحكام مفسدين من غضب الله وبطشه؛ فلا يغتروا بقوتهم؛ لأن قوة الله فوق قوتهم.
موضوعات ذات صلة: |
الجزاء، الرزق، السعي، العطاء، العمل |
1 انظر: مقاييس اللغة، ابن فارس، ٥/١٧٩.
2 انظر: العين، الفراهيدي ٥/٣١٥، تهذيب اللغة، الأزهري ١٠/٤٨، الصحاح، الجوهري ١/٢١٢.
3 انظر: القاموس المحيط، الفيروزآبادي ص ١٣٠.
4 انظر: تاج العروس، الزبيدي ٤/١٤٤.
5 التعريفات ص١٨٤.
وانظر: المفردات، الراغب الأصبهاني، ص ٧٠٩، التوقيف على مهمات التعاريف، المناوي ص ٢٨١، الكليات، الكفوي ص ٧٧٠.
6 البحر المحيط، ١/٤٣٦.
7 جامع البيان، الطبري ٢/٢٧٣.
8 انظر: بصائر ذوي التمييز، الفيروزآبادي ٤/٣٤٩.
9 انظر: المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، محمد فؤاد عبد الباقي ص٦٠٤-٦٠٥.
10 انظر: الوجوه والنظائر، الدامغاني ص٤٠٠.
11 انظر: مقاييس اللغة، ابن فارس، ٥/١٦٧.
وانظر: لسان العرب، ابن منظور ٢/٥٦٩.
12 انظر: العين، الفراهيدي، ٣/٥٩.
وانظر: المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية، ٢/٧٧٩.
13 انظر: معالم التنزيل، البغوي، ٥/٢٢٨.
14 انظر: الفروق اللغوية، العسكري، ص ١٣٨.
15 انظر: العين، الفراهيدي، ٤/١٩٥، مقاييس اللغة، ابن فارس، ٢/١٨٢، لسان العرب، ابن منظور، ٤/٢٣٨، المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية، ١/٢٣٣.
16 انظر: مقاييس اللغة، ابن فارس ٣/٣٨٠، المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية، ١/٥٤٧، لسان العرب، ابن منظور، ٨/٢٣١.
17 انظر: الدر المصون، الحلبي ٢/١٥٨.
18 انظر: جامع البيان، الطبري، ١١/٢٦١.
19 انظر: تيسير الكريم الرحمن، السعدي، ص ٢٥٠، تفسير المنار، محمد رشيد رضا ٧/٢٥٠.
20 انظر: زهرة التفاسير، أبو زهرة ٥/٢٤٣٥.
21 انظر: جامع البيان، الطبري، ١٦/٤٩٩، تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، ٤/٤٧٣.
22 انظر: التفسير المنير، الزحيلي، ١٣/١٩٤.
23 انظر: تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، ٦/٣٥٢.
24 انظر: تيسير الكريم الرحمن، السعدي، ص ٦٥٣.
25 انظر: المصدر السابق، ص ٢٥٩.
26 أيسر التفاسير، الجزائري ٤/٢٢٠
27 أخرجه البخاري في صحيحه، أبواب الاستسقاء، باب لا يدري متى يجيء المطر إلا الله، ٢/٣٣، رقم ١٠٣٩.
28 انظر: جامع البيان، الطبري، ١٢/٢٦٦- ٢٦٧، تفسير المنار، محمد رشيد رضا ٨/١٨٤.
29 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب تفسير القرآن، باب لا ينفع نفس إيمانها، ٦/٥٨ رقم ٤٦٣٥، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب بيان الزمن الذي لا يقبل فيه الإيمان، ١/٩٥، رقم ٣١٣.
30 انظر: تفسير المنار، محمد رشيد رضا ٢/١٩٠- ١٩٢.
31 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الدعوات، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ربنا آتنا في الدنيا حسنة)، ٨/٨٣، رقم ٦٣٨٩، ومسلم في صحيحه، كتاب الدعوات، باب أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم، ٨/٦٨، رقم ٦٩٣٩.
32 انظر: تفسير الشعراوي، ١/٤٢٦، التفسير المنير، الزحيلي، ١/٢٠٥.
33 انظر: تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، ٣/٢٧٩، جامع البيان، الطبري، ١١/٤٤١.
34 النشر في القراءات العشر، ابن الجزري، ٢/٢٤٣.
35 الحجة في القراءات السبع، ابن خالويه، ص ١١٦.
36 انظر: جامع البيان، الطبري، ٧/٣٥٤، أيسر التفاسير، الجزائري، ١/٤٠٤.
37 أخرجه مسلم في صحيحه، أبواب الإمارة، باب غلظ تحريم الغلول، ٦/١٠، رقم ٤٧٦٢.
38 انظر: معالم التنزيل، البغوي، ٢/١٣٢.
39 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الوصايا، باب قول الله تعالى: (إن الذين يأكلون أموال اليتامى)، ٤/١٠، رقم ٢٧٦٦، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب ما جاء في الكبائر، ١/٦٤، رقم ١٧٥.
40 انظر: جامع البيان، الطبري ٩/١٩٦.
41 انظر: تفسير الشعراوي ٥/٢٦١٨.
42 انظر: تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، ٦/٤٨٠- ٤٨١.
43 انظر: أنوار التنزيل، البيضاوي ٤/٢٣٨.
44 أخرجه مسلم، كتاب الآداب، باب تفسير الغيبة، ٨/٢١، رقم ٦٦٨٥.
45 انظر: تيسير الكريم الرحمن، السعدي، ص ١١٥.
46 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الزكاة، باب قبول الصدقة من الكسب الطيب، ٣/٨٥، رقم ٢٣٠٩.
47 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب مناقب الأنصار، باب أيام الجاهلية، ٥/٤٣، رقم ٣٨٤٢.
48 انظر: تفسير المنار، محمد رشيد رضا ١/٢٩٩.
49 انظر: دراسات في الأديان اليهودية والنصرانية ص ٩٤.
50 انظر: جامع البيان، الطبري، ٦/١٣١.
51 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل القرآن، باب فضل سورة البقرة، ٦/١٨٨، رقم ٥٠٠٨.
52 انظر: تيسير الكريم الرحمن، السعدي، ص ٨١٥.
53 انظر: المصدر السابق، ص ٨٩٧.
54 انظر: التفسير القرآني للقرآن، عبد الكريم الخطيب، ٣/٨٩٣، التفسير الوسيط، طنطاوي ٥/٢٣١.
55 انظر: التفسير الميسر، نخبة من أساتذة التفسير ١/٣٥١.
56 انظر: جامع البيان، الطبري، ٣/١٠٠.
57 انظر: شرح الطحاوية، ابن أبي العز ٢/٣٥٨.
58 التحرير والتنوير ٣٠/١٦٨.
59 انظر: التفسير المنير، الزحيلي ٢٥/٢٧٦.
60 جامع البيان ٢٢/٧٥.
61 انظر: تفسير الشعراوي ١٢/٧٦١٧.
62 انظر: تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، ٦/٥٨٥.
63 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الرقائق، باب شهود الجوارح على الإنسان بما عمل، ٨/٢١٦، رقم ٧٥٤٩.
64 انظر: مدارك التنزيل، النسفي، ٣/٢٠٤.
65 انظر: جامع البيان، الطبري ٦/٢٩٤.
66 انظر: المصدر السابق، ٦/٤١-٤٢.
67 أخرجه أبو داود في سننه، باب في المجنون يسرق، ٤/١٤١، ٤٤٠٣.
وصححه الألباني في الثمر المستطاب ١/٥٤.
68 انظر: تفسير المنار، محمد رشيد رضا ٢/٢٩٢.
69 انظر: تفسير الشعراوي ١٤/٨٩٤٥.
70 انظر: التفسير المنير، الزحيلي ٢٢/٢٨٤.
71 انظر: جامع البيان، الطبري، ٢١/٥٣٨، تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٧/٢٠٧.
72 التفسير المنير ٢٥/٧٢.
73 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المرضى، باب ما جاء في كفارة المرض، ٧/١١٤، رقم ٥٦٤١.
74 انظر: أيسر التفاسير، الجزائري ٤/٦١٣.
75 انظر: تيسير الكريم الرحمن، السعدي، ص ٢٧٣.
76 انظر: الكشاف، الزمخشري ٢/٥٣١.
77 انظر: تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، ١/٥٥٨.
78 جامع البيان ٤/٢٠٥.
79 انظر: تفسير المنار، محمد رشيد رضا ١/٢٩٩، أيسر التفاسير، الجزائري، ١/٧٦.
80 انظر: تفسير الشعراوي، ٢/١١٥٥.
81 انظر: تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، ٤/٤٨٦.
82 انظر: تفسير المراغي ١١/٥-٦.
83 انظر: المصدر السابق، ٦/١١٤- ١١٥.
84 تيسير الكريم الرحمن، السعدي، ص ٢٩٨.
85 انظر: مدارك التنزيل، النسفي، ٢/٧٠٣.
86 انظر: تيسير الكريم الرحمن، السعدي، ص ٢٨٨.
87 انظر: التفسير الميسر، مجمع الملك فهد ١/٢١٢.
88 انظر: جامع البيان، الطبري ١٤/٤٠١.