عناصر الموضوع
الكتابة
أولًا: المعنى اللغوي:
(ك ت ب) الكاف والتاء والباء أصل صحيح واحد، يدل على جمع شيء إلى شيء1. والكتابة لغة: الضم والجمع2. يقال: كتبت الكتاب أكتبه كتبًا3. ومن ذلك الكتيبة: وهي الطائفة من الجيش العظيم4. وتكتبت الخيل، أي: تجمعت.
وتكتبوا: تجمعوا. ومنه: الكتب لجمع الحروف في الخط5. ومنه: المكاتبة: وهي أن يكاتب الرجل عبده أو أمته على مالٍ ينجمه عليه، ويكتب عليه أنه إذا أدى نجومه في كل نجمٍ كذا وكذا فهو حرٌ6. وإنما سمي هذا العقد بالكتابة لأنها بمعنى الجمع، ففي المكاتبة ضم حرية اليد إلى حرية الرقبة، أو لأن فيه جمعًا بين نجمين فصاعدًا، أو لأن كل واحد من العاقدين -أي: المولى والمملوك- يكتب الوثيقة عادة، وهو أظهر7.
ثانيًا: المعنى الاصطلاحي:
عرف الكفوي الكتابة بقوله: جمع الحروف المنظومة وتأليفها بالقلم8.
وجاء في معجم لغة الفقهاء: الكتابة: بكسر الكاف مصدر، (كتب) الكتاب خطه، ما يكتب في القرطاس من الكلام9. وهذه التعاريف للكتابة كصناعة وعلم.
وردت مادة (كتب) في القرآن الكريم (٣١٩) مرة10.
والصيغ التي وردت هي:
الصيغة |
عدد المرات |
المثال |
الفعل الماضي |
٣٠ |
( ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ) [البقرة:١٨٧] |
الفعل المضارع |
١٦ |
(ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ) [البقرة:٢٨٢] |
فعل الأمر |
٥ |
(ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ) [الأعراف:١٥٦] |
اسم الفاعل |
٦ |
(ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ) [البقرة:٢٨٢] |
المصدر |
٢٥٥ |
(ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ) [البقرة:٢] |
الجمع |
٦ |
(ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ) [الأنبياء:١٠٤] |
اسم المفعول |
١ |
(ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ) [الأعراف:١٥٧] |
وجاءت الكتابة في القرآن على أربعة أوجه11:
الأول: الفرض: ومنه قوله تعالى: (ﮌ ﮍ ﮎ) [البقرة:١٧٨]، أي: فُرِض.
الثاني: القضاء: ومنه قوله تعالى: (ﭐﰓ ﰔ ﰕ) [المجادلة:٢١]، أي: قضى الله.
الثالث: الجعل: ومنه قوله: (ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ) [المجادلة:٢٢]، أي: جعل.
الرابع: الأمر: ومنه قوله تعالى: (ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ) [المائدة:٢١]، أي: أمركم بدخولها.
القراءة:
القراءة لغة:
القراءة: مصدر قرأت الكتاب قراءةً12. وفي الصحاح: (قرأ) الكتاب (قراءةً) و(قرآنًا) بالضم، و(قرأ) الشيء (قرآنًا) بالضم أيضًا جمعه وضمه، ومنه سمي القرآن؛ لأنه يجمع السور ويضمها13. وقد تقرأ فلان: تنسك، واقرأ سلامي على فلان، وأقرأت المرأة: حاضت14.
القراءة اصطلاحًا:
لا يختلف معنى القراءة في الاصطلاح عن معناها في اللغة.
الصلة بين القراءة والكتابة:
الكتابة هي رسم المقروء، الدال على المقصود، فالمكتوب يكون بالقلم والرسم، والقراءة باللسان والنطق، ويعبر بكلٍ منهما عن الآخر، من تسمية الشيء بالمعنى الواقع عليه.
السطر:
السطر لغة:
(سطر) السين والطاء والراء أصل مطرد يدل على اصطفاف الشيء، كالكتاب والشجر، وكل شيءٍ اصطف15. يقال: سطرت الكتاب سطرًا -من باب (قتل) -كتبته16.
فالأصل في السطر: الخط والكتابة، قال الله تعالى: (ﮉﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ) [القلم:١]. أي: وما يكتبون17.
السطر اصطلاحًا:
لا يختلف معنى السطر في الاصطلاح عن معناه في اللغة.
في قوله تعالى: (ﮠ ﮡ ﮢ) [الطور:٢].
وصف الكتاب بأنه مسطور إشارة إلى أنه مكتوب كتابة في أسطر على نحو ما يكتب الكاتبون، وفي وصفه بأنه في رق منشور إشارة أخرى إلى أنه خفيف الحمل، سهل التداول، وأنه منشور، أي: مفتوح للقارئين، غير مطوي عنهم، وفي هذا كله تنويه بالكتابة، ورفع لقدرها، وأنها باب واسع من أبواب العلم، وطريق فسيح من طرق المعرفة18.
الصلة بين السطر والكتابة:
(السطر) الصف من كل شيء، يقال: سطر من الكتابة وسطر من الشجر، فهو على هذا أعم من الكتابة بمعناها الاصطلاحي الذي سبق القول إنها: ضم وجمع الحروف بعضها إلى بعض.
الخط:
الخط لغة:
(خ ط ط) خط الشيء بيده يخطه خطًا إذا خطه بقلم أو غيره19. وخط الكتاب يخطه، وكتاب مخطوط، واختط لنفسه دارًا إذا ضرب لها حدودًا؛ ليعلم أنها له20.
الخط اصطلاحًا:
الخط: تصوير اللفظ بحروف هجائية، وعند الحكماء: هو الذي يقبل الانقسام طولًا لا عرضًا ولا عمقًا، ونهايته النقطة21.
وقد وردت هذه المادة (خ ط ط) في القرآن الكريم مرة واحدة في قوله: (ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ) [العنكبوت:٤٨].
وهي هنا بمعنى: الكتابة.
الصلة بين الخط والكتابة:
الخط: الكتابة والشق22. فهو أعم من الكتابة، فقد يكون خطًا مقروءًا، وقد يكون غير ذلك، وقد يكون على قرطاس، أو على أرض، أو رملٍ، بينما الكتابة خلافه.
وفي القاموس: الخط: الطريقة المستطيلة في الشيء، أو الطريق الخفيف في السهل، والكتب بالقلم وغيره23.
أسند الله تعالى في القرآن الكريم الكتابة لنفسه في عدة آيات، بصيغ مختلفة (كتبنا، سنكتب، نكتب، كتب الله، كتبناها، كاتبون، إنا كنا نستنسخ، والله يكتب ما يبيتون، واكتب لنا، فاكتبنا).
وفي آيات أخرى جعلها من فعل الملائكة، كما قال: (ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ) [الزخرف:٨٠].
وقوله: (ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ) [يونس:٢١].
وقوله: (ﮃ ﮄ ﮅ) [الانفطار: ١١].
وفي آيات أخرى أطلق الكتابة ولم يسندها لأحد، كما في قوله: (ﯛ ﯜ ﯝ) [الزخرف:١٩].
وقوله: (ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ) [آل عمران:١٥٤].
وقوله: (ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ) [النساء: ٧٧].
وعلى هذا فالكتابة صفة من صفات الله الفعلية الثابتة بالكتاب والسنة24، وهي صفة تليق بجلاله وكماله سبحانه وتعالى، فهي من صفات الكمال والجلال، فهو سبحانه يكتب ما شاء، متى شاء، كما يليق بجلاله وعظيم شأنه.
وهذه الكتابة المنسوبة إلى الله تحتمل عدة معانٍ، منها:
يجوز أن يكون المعنى: أن الله أمر القلم أو غيره أن يكتب، فكتب ما أراد سبحانه كما قال الحافظ ابن حجر 25.
ويجوز أن يكون على ظاهره بأنه كتب سبحانه وتعالى بدون واسطة، ويجوز أن يكون قال: كن فكانت الكتابة، ولا محذور في ذلك كله26.
ويستثنى من ذلك ما جاء النص فيه أنه كتبه بيده، كما في حديث احتجاج آدم وموسى عليهما السلام أن آدم قال لموسى: (أنت موسى الذي اصطفاك الله بكلامه، وخط لك التوراة بيده)27.
فهذا ليس له إلا معنىً واحدٌ، وهو حمله على ظاهره، وهو أن الله تعالى كتب ذلك بنفسه.
ومما يكتبه الله تعالى:
١. كتابة القدر.
كتب الله سبحانه وتعالى مقادير الأشياء في اللوح المحفوظ، بعد علمه بها سبحانه وتعالى أزلًا، ومما يدل على هذا النوع من الكتابة قوله تعالى: (ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ) [التوبة:٥١].
فـ(كتب) هنا بمعنى قضى وقدر، وأصل الكتابة هنا ما كتبه الله تعالى في اللوح المحفوظ، قال الطبري: (ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ) أي: في اللوح المحفوظ، وقضاه علينا28. من خير أو شر، أو خوف أو رجاء، أو شدة أو رخاء، وفائدته أنه إذا علم الإنسان أن الذي وقع امتنع أن لا يقع -لأن خلاف معلوم الله ومقدوره محال- زالت عنه منازعة النفس، وهانت عليه المصائب، فيكون المقصود أن أحوال المسلمين وإن كانت مختلفة في الغم والسرور والمحنة إلا أن العاقبة والدولة تكون لهم، والظفر يقع في جانبهم، فلا معنى لفرح المنافقين في الحال29.
وعبر بقوله: (ﮍ) ولم يقل: (علينا) لنكتة بلاغية، أي: أن ما كتبه الله فهو خيرٌ، وإن كان في ظاهره مصيبة أو شرًا، لما فيه من الأجر لمن صبر، وجزيل الثواب لمن رضي بقضاء الله سبحانه.
والحاصل: أن مما يكتبه الله تعالى القدر، فالأقدار مكتوبة في الأزل، فلا راد لقضاء الله، ولا مبدل لكلماته.
فالقلم جف بما هو كائن إلى يوم القيامة، من خير وشر، فلا يقدر أحد أن يدفع عن نفسه مكروهًا نزل به، أو يجلب لنفسه نفعًا أراده لم يقدر له30. ولا يستطيع أحد أن يمحو شيئًا مما كتبه الله في اللوح المحفوظ، ولا يمكن أن يحصل هذا، كما في الحديث: (رفعت الأقلام، وجفت الصحف)31 فلا يمكن أن يغير فيها شيء.
ومن الآيات الدالة على أن الله كتب المقادير كلها قوله: (ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ) [الحديد:٢٢].
فقوله تعالى: (ﯙ ﯚ ﯛ) أي: إلا في أم الكتاب32. أي: اللوح المحفوظ.
قال ابن العثيمين: هذا الكتاب هو اللوح المحفوظ، كتب الله فيه مقادير كل شيء؛ لما خلق الله سبحانه وتعالى القلم قال له: اكتب قال: ربي وماذا أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة33، فكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة، سبحان الله! ما أعظم هذا اللوح الذي يسع كل شيء إلى يوم القيامة!
ولكن ليس هذا بغريب على قدرة الله عز وجل؛ لأن أمر الله تعالى إذا أراد شيئًا يقول له: كن فيكون؛ ولقد كان الإنسان يتعجب من قبل، ولكن لا يستبعد أن يكتب في هذا اللوح مقادير كل شيء، فقد ظهر الآن من صنع الآدمي قطعة صغيرة يسجل فيها آلاف الكلمات، وهي عبارة عن لوحة صغيرة كالقرص تسجل فيها آلاف الكلمات، وقد يسجل فيها جميع كتب الحديث المؤلفة، أو جميع التفاسير، أو جميع كتب الفقهاء، وهي من صنع الآدمي، فكيف بصنع من يقول للشيء كن فيكون؟!
ولما قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة كتب ما هو كائن إلى يوم القيامة، فالمصائب التي تصيب الناس هي في أمر سابق؛ ولهذا قال: (ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ) وقوله: (ﯟ) قيل: إنها تعود على المصيبة. وقيل: على الأرض.وقيل: على النفس. وقيل: على الجميع.والصحيح أنها على الجميع، أي: من قبل أن نبرأ كل هذه الأشياء، أي: أن نخلقها؛ وذلك لأن الله كتب مقادير كل شيء قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة34.
واسم الإشارة في قوله: (ﯡ ﯢ) يعود إلى الكتابة في الكتاب.
(ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ) يعني: إن كتابة هذه المصائب يسير على الله عز وجل؛ لأنه قال للقلم: اكتب فكتب، وهذا يسير، كلمة واحدة، حصل بها كل شيء35.
قال الرازي في قوله: (ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ) [الأنعام:٥٩].
فائدة هذا الكتاب أمور:
أحدها: أنه تعالى إنما كتب هذه الأحوال في اللوح المحفوظ لتقف الملائكة على نفاذ علم الله تعالى في المعلومات، وأنه لا يغيب عنه مما في السموات والأرض شيء، فيكون في ذلك عبرة تامة كاملة للملائكة الموكلين باللوح المحفوظ؛ لأنهم يقابلون به ما يحدث في صحيفة هذا العالم، فيجدونه موافقًا له.
وثانيها: يجوز أن يقال: إنه تعالى ذكر ما ذكر من الورقة والحبة تنبيهًا للمكلفين على أمر الحساب، وإعلامًا بأنه لا يفوته من كل ما يصنعون في الدنيا شيء؛ لأنه إذا كان لا يهمل الأحوال التي ليس فيها ثواب ولا عقاب ولا تكليف، فبأن لا يهمل الأحوال المشتملة على الثواب والعقاب أولى.
وثالثها: أنه تعالى علم أحوال جميع الموجودات فيمتنع تغييرها عن مقتضى ذلك العلم وإلا لزم الجهل، فإذا كتب أحوال جميع الموجودات في ذلك الكتاب على التفصيل التام امتنع أيضًا تغييرها، وإلا لزم الكذب، فتصير كتبة جملة الأحوال في ذلك الكتاب موجبًا تامًا، وسببًا كاملًا في أنه يمتنع تقدم ما تأخر، وتأخر ما تقدم، كما قال صلوات الله عليه: (جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة)36 37. أي: فرغ من الكتابة التي أمر بها حين خلقه وأمره أن يكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة.
ثم علل الله تعالى بعد ذلك سبب هذه الكتابة وهذا الإخبار بقوله: (ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ) [الحديد:٢٣].
والمعنى: فعل الله ذلك، وأخبركم به؛ لكيلا تتأسفوا على ما فاتكم، ومعنى لا تأسوا: لا تحزنوا، أي: فلا تحزنوا على ما فاتكم منها، ولا تفرحوا فيها38.
وهذا من مقتضى الإيمان بالقدر الذي معناه: أن تؤمن بالقدر خيره وشره من الله، وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك.
ومن الآيات الدالة على كتابة المقادير قوله تعالى: (ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ) [الرعد:٣٩].
وللمفسرين في معنى هذه الآية كلام طويل، لخصه الإمام الشوكاني تلخيصًا حسنًا، فقال: «وظاهر النظم القرآني العموم في كل شيء مما في الكتاب، فيمحو ما يشاء محوه من شقاوة أو سعادة، أو رزق أو عمر، أو خير أو شر، ويبدل هذا بهذا، ويجعل هذا مكان هذا، ولا يسأل عما يفعل، وهم يسألون.
وقيل: الآية خاصة بالسعادة والشقاوة.
وقيل: يمحو ما يشاء من ديوان الحفظة، وهو ما ليس فيه ثواب ولا عقاب، ويثبت ما فيه الثواب والعقاب.
وقيل: يمحو ما يشاء من الرزق.
وقيل: يمحو من الأجل.
وقيل: يمحو ما يشاء من الشرائع فينسخه، ويثبت ما يشاء فلا ينسخه.
وقيل: يمحو ما يشاء من الذنوب بالتوبة، ويترك ما يشاء منها مع عدم التوبة39.
فالمحو والإثبات على هذا يكون في الصحف التي بأيدي الملائكة، وأما اللوح المحفوظ فلا يقبل المحو، كما قال تعالى: (ﯛ ﯜ ﯝ) [الرعد:٣٩].
أي: الذي لا يقبل بعد ذلك محوًا ولا إثباتًا.
ومنهم من يقول: إن هذا المحو والإثبات في الكتابة لا يمنع أن يكون مما في اللوح المحفوظ من الكتابة الأصلية.
والمحو والإثبات إذا كان في الكتابة الأصلية فهو راجع إلى قدرة الله عز وجل وتقديره، وأن الله يعلم أن هذا سيكون، فلا يتعارض مع كتابته وتقديره وخلقه.
والقول الثاني أولى؛ لما تفيده (ما) في قوله: (ﯗ ﯘ) من العموم، مع تقدم ذكر الكتاب في قوله: (ﮰ ﮱ ﯓ) [الرعد:٣٨].
ومع قوله: (ﯛ ﯜ ﯝ) [الرعد:٣٩].
أي: أصله، وهو اللوح المحفوظ.
فالمراد من الآية أنه يمحو ما يشاء مما في اللوح المحفوظ، فيكون كالعدم، ويثبت ما يشاء مما فيه، فيجري فيه قضاؤه وقدره على حسب ما تقتضيه مشيئته، وهذا لا ينافي ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من قوله: (جف القلم)40 وذلك لأن المحو والإثبات هو من جملة ما قضاه سبحانه41.
وهذا هو الظاهر، كما سبق من كلام الشوكاني رحمه الله.
ومن الآيات الدالة على كتابة المقادير قوله تعالى: (ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ) [الأحزاب:٦].
فقوله: (ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ) أي: في اللوح المحفوظ (ﯷ) مكتوبًا42.
قال ابن كثير: أي: هذا الحكم، وهو أن أولي الأرحام بعضهم أولى ببعض حكم من الله مقدر مكتوب في الكتاب الأول، الذي لا يبدل ولا يغير، قاله مجاهد وغير واحد، وإن كان قد يقال: قد شرع خلافه في وقت؛ لما له في ذلك من الحكمة البالغة، وهو يعلم أنه سينسخه إلى ما هو جار في قدره الأزلي، وقضائه القدري الشرعي43.
ومن الآيات الدالة على الكتابة القدرية قوله تعالى: (ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ) [الأنفال:٦٨].
يقول: لولا قضاء من الله سبق لكم أهل بدر في اللوح المحفوظ بأن الله محلٌ لكم الغنيمة، وأن الله قضى فيما قضى أنه لا يضل قومًا بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون، وأنه لا يعذب أحدًا شهد المشهد الذي شهدتموه ببدر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ناصرًا دين الله؛ لنالكم من الله بأخذكم الغنيمة والفداء عذاب عظيم44.
وقال في اللباب: فقوله: (ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ) أي: لولا أنه تعالى حكم في الأزل بالعفو عن هذه الواقعة لمسهم عذاب عظيم، وهذا هو المراد من قوله: (ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ) [الأنعام:٥٤].
وقوله: (سبقت رحمتي غضبي)45 46.
ومن الآيات الدالة على كتابة القدر قوله تعالى: (ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ) [المجادلة:٢١].
والمعنى: قضى الله وخط في أم الكتاب لأغلبن أنا ورسلي من حادني وشاقني47.
وهذا نظير قوله: (ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ) [الصافات:١٧١-١٧٣].
وهذا الوعد لهم بالنصر والغلبة لا ينافيه انهزامهم في بعض المواطن، وغلبة الكفار لهم، فإن الغالب في كل موطن هو انتصارهم على الأعداء، وغلبتهم لهم، فخرج الكلام مخرج الغالب، على أن العاقبة المحمودة لهم على كل حال، وفي كل موطن، كما قال سبحانه: (ﯙ ﯚ) [الأعراف:١٢٨]48.
والمقصود بعد هذا: أن من أنواع الكتابة المسندة إلى الله تعالى كتابة مقادير الخلق في كتاب مبين، وهو الإمام المبين، وأم الكتاب، والذكر، والزبر، واللوح المحفوظ.
وقد ورد في هذا المعنى آيات كثيرة، ففي سورة يونس: (ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ) [يونس:٦١].
وفي سورة هود بعد بيان علمه بما يسرون وما يعلنون، وما في الصدور (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ) [هود:٦].
وفي سورة النمل: (ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ) [النمل:٧٥].
وفي سبأ: (ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ) [سبأ:٣].
وفي سورة طه: (ﰘ ﰙ ﰚ ﰛ ﰜ ﰝ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ) [طه:٥١-٥٢].
وفي سورة الأنبياء: (ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ) [الأنبياء:١٠٥].
ولهذا كان الإيمان بالكتابة من الأركان الأساسية في الإيمان بالقدر، فيجب الإيمان بأن الله عز وجل كتب مقادير كل شيء قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وقد ذكر العلماء أن للقدر درجتين:
الدرجة الأولى: أن الله تعالى علم الأشياء قبل وجودها، ثم كتبها في اللوح المحفوظ.
والدرجة الثانية: أن الله تعالى أراد الأشياء الموجودة، ثم خلقها.
فالدرجة الأولى: تتضمن العلم والكتابة، والدرجة الثانية تتضمن الإرادة والخلق49.
٢. كتابة أقوال وأفعال العباد.
ومما يكتبه الله تعالى ويحصيه أقوال العباد وأفعالهم، ومما يدل على ذلك قوله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ) [آل عمران:١٨١].
فقوله: (ﭝ ﭞ ﭟ) هو الكتابة في صحائف الأعمال (ﭠ ﭡ) بالنصب، أي: ونكتب قتلهم الأنبياء، فالكتابة هنا على ظاهرها.
وقيل: سنجازيهم عليه، وقيل: مقصود الكتابة الحفظ، أي: سنحفظ ما قالوا لنجازيهم50.
ولفظ الكتابة آكد من لفظ الحفظ؛ لما فيه من معنى الاستتباب، وأمن النسيان، وإنما ضم قتل الأنبياء، وهو أفظع جرائم هذا الشعب إلى الجريمة التي سبق الوعيد لأجلها؛ لبيان أن مثل هذا الكفر والتهور ليس بدعًا من أمرهم، فإنه سبق لهم أن قتلوا الهداة المرشدين بعدما جاءوهم بالبينات، فهم يجرون في هذا على عرقٍ، وليس هو بأول كبائرهم؛ وللإيذان بأن الجريمتين سيان في العظم، واستحقاق العقاب51.
فإن قيل: لماذا يكتب الله ما قالوا مع أن علمه أزلي لا ينسى؟ (ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ) [طه:٥٢].
والجواب: أن كلمة (ﭝ) جاءت حتى لا يؤاخذهم سبحانه وتعالى يوم القيامة بما يقول هو إنهم فعلوه، ولكن بما كتب عليهم ليقرؤوه بأنفسهم؛ وليكون حجة عليهم، كأن الكتابة ليست كما نظن فقط؛ ولكنها تسجيل للصوت وللأنفاس، ويأتي يوم القيامة ليجد كل إنسان ما فعله مسطورًا (ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ) [الإسراء:١٤].
وهذا القول يدل على أنه ساعة يرى الإنسان ما كتب في الكتاب سيعرف أنه منه، وإذا كنا نحن الآن نسجل على خصومنا أنفاسهم وكلماتهم أتستبعد على من علمنا ذلك أن يسجل الأنفاس والأصوات والحركات، بحيث إذا قرأها الإنسان ورآها لا يستطيع أن يكابر فيها أو ينكرها (ﭝ ﭞ ﭟ) وهم قالوا: (ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ) وهذه معصية في القمة، وتبجح على الذات العلية، ولم يكتفوا بذلك بل قتلوا الأنبياء الذين أرسلهم الله لهدايتهم؛ لذلك يقول الحق: (ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ)52.
وفي هذا الكلام تهديد شديد لهم؛ وذلك لأن المعنى: سنثبت عليهم في سجل الله تعالى قولهم هذا، وتجرؤهم عليه سبحانه، وليس المراد مجرد الكتابة، بل المراد نتيجتها وهو الحساب عليها، والجزاء من العذاب الأليم، والتعبير بالكتابة كناية عن العلم المستتر الثابت الذي تترتب عليه نتائجه وثمراته؛ ولما تضمنته الكتابة من معنى العقاب الرادع الذي لا مناص منه عبر بالمضارع، فقال سبحانه: (ﭝ ﭞ ﭟ) والتعبير بـ(ﭞ ﭟ) فيه إشارة إلى ما فيه من تجرؤ على الله تعالى، وتهجم على مقامه الأعلى سبحانه53.
ومن الآيات الدالة على كتابة الأعمال قوله تعالى: (ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ) [النساء:٨١].
فقوله تعالى: (ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ) فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: يكتبه في الأعمال التي تثبتها الملائكة، قاله مقاتل في آخرين.
والثاني: ينزله إليك في كتابه.
والثالث: يحفظه عليهم؛ ليجازوا به، ذكر القولين الزجاج54.
والحاصل: أنه يعلمه ويكتبه عليهم بما يأمر به حفظته الكاتبين، الذين هم موكلون بالعباد، يعلمون ما يفعلون، والمعنى في هذا التهديد أنه تعالى أخبر بأنه عالم بما يضمرونه ويسرونه فيما بينهم، وما يتفقون عليه ليلًا من مخالفة الرسول وعصيانه، وإن كانوا قد أظهروا له الطاعة والموافقة، وسيجزيهم على ذلك55.
ومن الآيات أيضًا الدالة على كتابة الأعمال قوله تعالى: (ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ) [يس:١٢].
فقوله: (ﯢ ﯣ ﯤ) أي: من الأعمال.
وفي قوله: (ﯥ) قولان:
أحدهما: نكتب أعمالهم التي باشروها بأنفسهم، وآثارهم التي أثروها من بعدهم، فنجزيهم على ذلك أيضًا، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر.
والقول الثاني: أن المراد بذلك آثار خطاهم إلى الطاعة أو المعصية.
وهذا القول لا تنافي بينه وبين الأول، بل في هذا تنبيه ودلالة على ذلك بطريق الأولى والأحرى، فإنه إذا كانت هذه الآثار تكتب فلأن تكتب تلك التي فيها قدوة بهم من خير أو شر بطريق الأولى56.
قال الزمخشري: (ﯢ) ما أسلفوا من الأعمال الصالحة وغيرها، وما هلكوا عنه من أثر حسن، كعلم علموه، أو كتاب صنفوه، أو حبيس حبسوه، أو بناء بنوه: من مسجد أو رباط أو قنطرة أو نحو ذلك، أو سيئ، كوظيفة وظفها بعض الظلام على المسلمين، وسكة أحدث فيها تخسيرهم، وشيء أحدث فيه صد عن ذكر الله من ألحان وملاهٍ، وكذلك كل سنة حسنة أو سيئة يستن بها57.
وقوله: (ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ) أي: جمعناه في كتاب مبين، والإمام المبين هو اللوح المحفوظ58.
وكذا في قوله تعالى: (ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ) [الإسراء:٧١].
أي: بكتاب أعمالهم الشاهد عليهم بما عملوه من خير وشر، كما قال تعالى: (ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ) [الزمر:٦٩].
وقال تعالى: (ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ) [الكهف:٤٩].59.
وجعل علم الله إمامًا؛ لأنه يجري على وفق تعلقات الإرادة الربانية والقدرة، فتكون جملة (ﯧ ﯨ ﯩ) على هذا تذييلًا مفيدًا أن الكتابة لا تختص بأعمال الناس الجارية على وفق التكاليف أو ضدها، بل تعم جميع الكائنات60.
ووصف هذا الكتاب بقوله: (ﯬ) أي: لا يخفى فيه شيء من جميع الأحوال والأقوال، فهو تعميم بعد تخصيص؛ لأنه تعالى يكتب ما قدموا وآثارهم، وليست الكتابة مقتصرة عليه، بل كل شيء محصي في إمام مبين، وهذا يفيد أن شيئًا من الأقوال والأفعال لا يعزب عن علم الله تعالى ولا يفوته، كقوله تعالى: (ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ) [القمر:٥٢-٥٣].
يعني: ليس ما في الزبر منحصرًا فيما فعلوه، بل كل شيء مكتوب لا يبدل، فإن القلم جف بما هو كائن، فلما قال تعالى: (ﯢ ﯣ ﯤ) بين أن قبل ذلك كتابة أخرى، فإن الله تعالى كتب عليهم أنهم سيفعلون كذا وكذا، ثم إذا فعلوا كتب عليهم أنهم فعلوه، قيل: إن ذلك مؤكد لمعنى قوله تعالى: (ﯢ) لأن من يكتب شيئًا في أوراق ويرميها قد لا يجدها، فكأنه لم يكتب، فقال تعالى: نكتب ونحفظ ذلك في إمام مبين، وهو كقوله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ) [طه:٥٢]61.
وفي الآية الأخرى أضاف السمع إلى نفسه والكتابة إلى ملائكته، فقال: (ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ) [الزخرف:٨٠].
فهو يسمع ومن يشاء من ملائكته، وأما الكتابة فرسله يكتبون، وأما في قوله: (ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ) [يس:١٢].
فأخبر بالكتابة (نحن) لأن جنده يكتبون بأمره، وفصل في تلك الآية بين السماع والكتابة؛ لأنه يسمع بنفسه، وأما كتابة الأعمال فتكون بأمره، والملائكة يكتبون، ولما كانت ملائكته متقربين إلى العبد بأمر الله، كما كانوا كاتبين عمله بأمره، فإن ذلك قربه من كل أحد بتوسط الملائكة، كتكليمه عبده بتوسط الرسل، كما قال تعالى: (ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ) [الشورى:٥١].
فهذا تكليمه لجميع عباده بواسطة الرسل؛ وذاك قربه إليهم عند الاحتضار، وعند الأقوال الباطنة في النفس والظاهرة62. ولا ينفي هذا أنه يكلم بعض رسله من وراء حجاب دون واسطة.
والحاصل أن في هذه الآية (ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ) أضاف الله عز وجل الكتابة والإحصاء إلى نفسه، ولما كان علم الله الشامل محيطًا بكل شيء، ولا يخفى عليه شيء من أعمال خلقه، وهو غني عن الاستعانة على ذلك بالراصدين والرقباء والكتاب والشهود، وإبراز ذلك يوم القيامة في صورة كتب توزع على الناس؛ ولما كان الناس قد اعتادوا في حياتهم تسجيل الأعمال ورصدها والشهادة عليها في مقام الاحتجاج على ما صدر منهم حتى لا يكون أي مجال للإنكار والمماراة؛ ولما كانت حكمة الله قد اقتضت أن تكون صور المشاهد الأخروية من مألوفات الناس في الدنيا، فيتبادر أن هذا من هذا الباب، وأنه قصد من ذكره بالأسلوب الذي ورد به تحذير الناس وتنبيههم إلى أن كل ما يفعلونه محصي مسجل عليهم، لا يمكن أن يماروا فيه حتى يظلوا مجتنبين ما فيه إثم وفاحشة، مجتهدين في الأعمال الصالحة التي يرضى الله عنها، وفي بعض الأحاديث ما يدعم هذا التوجيه، ويتسق مع هذا القصد63.
ومن الآيات الدالة على كتابة الأعمال قوله تعالى: (ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ) [القمر:٥٢-٥٣].
فقوله: (ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ) إشارة إلى أن الأمر غير مقتصر على إهلاكهم، بل الإهلاك هو العاجل والعذاب الآجل الذي هو معد لهم على ما فعلوه، مكتوب عليهم، والزبر هي كتب الكتبة الذين قال تعالى فيهم: (ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ) [الانفطار:٩-١١].
وقوله تعالى: (ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ) تعميم للحكم، أي: ليست الكتابة مقتصرة على ما فعلوه، بل ما فعله غيرهم أيضًا مسطور، فلا يخرج عن الكتب صغيرة ولا كبيرة.
وكما في قوله تعالى: (ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ) [سبأ:٣].
ففي قوله: (ﮕ) فائدة عظيمة، وهي أن من يكتب حساب إنسان فإنما يكتبه في غالب الأمر لئلا ينسى، فإذا جاء بالجملة العظيمة التي يأمن نسيانها ربما يترك كتابتها، ويشتغل بكتابة ما يخاف نسيانه، فلما قال: (ﮔ ﮕ) أشار إلى الأمور العظام التي يؤمن من نسيانها أنها مكتوبة أي: ليست كتابتنا مثل كتابتكم التي يكون المقصود منها الأمن من النسيان، فكذلك نقول: ها هنا، وفي قوله تعالى: (ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ) [الكهف:٤٩].
وفي جميع هذه المواضع قدم الصغيرة لأنها أليق بالتثبت عند الكتابة، فيبتدئ بها حفظًا عن النسيان في عادة الخلق، فأجرى الله الذكر على عادتهم64.
والحاصل أن كل ما فعله العباد، وما فعلته الأمم السابقة، أو الأمم اللاحقة، فإنه مكتوب (ﭢ ﭣ) أي: في الكتب، وكتابة الأعمال كتابة سابقة، وكتابة لاحقة، والكتابة السابقة كتابة على أن هذا سيفعل كذا، وهذه الكتابة لا يترتب عليها ثواب ولا عقاب؛ لأن المرء لم يكلف بها بعد، وكتابة لاحقة، وهي كتابة أنه فعل، فإذا فعل الإنسان حسنة كتبها الله، وإذا فعل سيئة كتبها الله، وهذه الكتابة اللاحقة هي التي يترتب عليها الثواب والعقاب.
فسبحان الله بعد مئات السنين التي لا يعلمها إلا الله يجدونه حاضرًا، لا يظلم ربك أحدًا (ﭥ ﭦ ﭧ) كل صغير وكبير مما يحدث في هذا الكون من المخلوقات وأوصافها وأعمالها (ﭨ) أي: مسطر في الكتاب العزيز، اللوح المحفوظ، كل صغير وكبير حتى الشوكة يشاكها الإنسان تكتب، حتى ما يزن مثقال ذرة من الأعمال يكتب، كل صغير وكبير، وإذا آمنت بذلك -ويجب عليك أن تؤمن به- فإنه يجب عليك الحذر من المخالفة، فإياك أن تخالف بقولك أو فعلك أو تركك؛ لأن كل شيء مكتوب، قال الله عز وجل: (ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ) [ق:١٨].
وما يفعل من فعل كذلك لديه رقيب عتيد؛ لأنه إذا كانت الأقوال تكتب وهي أكثر بآلاف المرات من الأفعال، فالأفعال من باب أولى، فعليك أن تتقي الله عز وجل، ولا تخالف الله، إذا سمعت الله يقول خبرًا، فقل: آمنت به وصدقت، وإذا سمعت الله يقول شيئًا أمرًا، فقل: آمنت به سمعًا وطاعة، نهيًا آمنت به، وسمعًا وطاعة65.
أشاد القرآن بفضل الكتابة، وحث على تعلمها وتعليمها، وأشار إلى مقاصدها وفوائدها؛ وذلك لما لها من مرتبة رفيعة، ومنزلة شريفة، ومما جاء في القرآن الكريم من فوائد ومقاصد الكتابة ما يأتي:
أولًا: حفظ حقوق العباد من الضياع:
من مقاصد الكتابة التي ذكرت في القرآن الكريم حفظ الحقوق من الضياع.
قال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦﯧ ﯨ ﯩ ﯪﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶﯷ ﯸ ﯹﯺ ﯻ ﯼﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ) [البقرة:٢٨٢].
فهذه الآية تسمى آية الدين، وهي أطول آية في القرآن الكريم، وقد ذكر الله فيها من الأحكام العظيمة توثيق الدين بالكتابة.
حيث أمر الله تعالى بكتابة الديون، وهذا الأمر قد يجب إذا وجب حفظ الحق كالذي للعبد عليه ولاية، كأموال اليتامى والأوقاف والوكلاء والأمناء، وقد يقارب الوجوب كما إذا كان الحق متمحضًا للعبد، فقد يقوى الوجوب، وقد يقوى الاستحباب بحسب الأحوال المقتضية لذلك.
وعلى كل حال فالكتابة من أعظم ما تحفظ بها هذه المعاملات المؤجلة لكثرة النسيان؛ ولوقوع المغالطات، وللاحتراز من الخونة الذين لا يخشون الله تعالى66. ومن فوائد الآية التي تتعلق بحفظ الحقوق:
وفي الأمر بكتابة الدين كما يقول ابن عرفة: مصلحة دنيوية، وهي حفظ المال، ومصلحة دينية، وهي السلامة من الخصومة بين المتعاملين68.
وليست فائدة كتابة الدين مقصورة على الدائن وحده، ولا المدين وحده، وإنما على الجانبين، قال الخازن: إن فائدة الكتابة هي حفظ المال من الجانبين؛ لأن صاحب الدين إذا علم أن حقه مقيد بالكتابة تعذر عليه طلب زيادة، أو تقديم المطالبة قبل حلول الأجل، ومن عليه الدين إذا عرف ذلك تعذر عليه الجحود أو النقص من أصل الدين الذي عليه، فلما كانت هذه الفائدة من الكتابة أمر الله تعالى بها69.
وبعد ذلك يريد الحق سبحانه وتعالى أن يحمي أيضًا الإنسان من نفسه؛ لأنه إن علم أن الدين الذي عليه موثق، ولا وسيلة لإنكاره حاول جاهدًا أن يتحرك في الحياة ليؤديه، وحين يتحرك الإنسان ليؤدي عن نفسه الدين؛ فإن ذلك يزيد الحركة في الحياة ويزداد النفع.
وهكذا نرى أن الله أراد بالتوثيق للدين حماية المدين من نفسه؛ لأن المدين قد تطرأ عليه ظروف فيماطل، وإذا ما ماطل فلن تكون الخسارة فيه وحده، ولكنه سيصبح أسوة عند جميع الناس، وسيقول كل من عنده مال: لا أعطي أحدًا شيئًا؛ لأن فلانًا الغني مثلي قد أعطى فلانًا الفقير وماطله وأكله، وعند ذلك تتوقف حركة الحياة.
ولكن إذا كان الدين موثقًا ومكتوبًا فإن المدين يكون حريصًا على أدائه، والله يريد أن يضمن لحركة الحياة دوامًا واستمرارًا شريفًا نظيفًا؛ ولذلك نجد في آية الدين أن كلمة (الكتابة) ومادتها (الكاف والتاء والباء) تتكرر أكثر من مرة، بل مرات كثيرة.
وهذا التكرار في هذه الآية لعملية الكتابة يؤصل العلاقة بين الناس؛ فالكتابة هي عمدة التوثيق، وهي التي لا تغش؛ لأنك إن سجلت شيئًا على ورقة فلن تأتي الورقة لتنكر ما كتبته أنت فيها، ولكن الأمر في الشهادة قد يختلف، فمن الجائز أن يخضع الشاهد لتأثير ما فينكر الحقيقة؛ ولذلك فإن الحق يعطينا قضية إيمانية جديدة حين يقول: (ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ) أي: أن يكتب الكاتب على وفق ما علمه الله70.
والحاصل أن الإسلام نظم شؤون المعاملات والعقود بين الناس على أساس من الحق والعدل والحكمة، وصان حقوق الناس وحفظ أموالهم، وندبهم إلى توثيق عقودهم ومعاملاتهم المؤجلة بالكتابة والسندات، والشهادة والشهود، على سبيل الاحتياط للناس، وتجنبًا من احتمال إنكار أصل الحق، أو عدم الاعتراف به، بسبب قلة التدين، وضعف اليقين، وفساد الذمة، واستبداد الطمع والجشع، جاء تنظيم المعاملات في أطول آية في القرآن الكريم، عناية بها، وحرصًا على المصالح، ومنع المنازعات والخصومات بسبب المال71.
وقد حث سبحانه وتعالى فيها على الاحتياط في أمر الأموال لكونها سببًا لمصالح المعاش والمعاد، قال تعالى: (ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ) [النساء:٥] الآية.
قال القفال -رحمه الله تعالى-: ويدل على ذلك أن ألفاظ القرآن جارية في الأكثر على الاختصار، وفي هذه الآية بسطٌ شديد، ألا ترى أنه قال: (ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ).
ثم قال ثانيًا: (ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ).
ثم قال ثالثًا: (ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ).
فكان هذا كالتكرار لقوله: (ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ) لأن العدل هو ما علمه الله.
ثم قال رابعًا: (ﭪ) وهذا إعادة للأمر الأول.
ثم قال خامسًا: (ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ).
وفي قوله تعالى: (ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ) كناية عن قوله: (ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ) لأن الكاتب بالعدل إنما يكتب ما يملى عليه.
ثم قال سادسًا: (ﭯ ﭰ ﭱ) وهذا تأكيد.
ثم قال سابعًا: (ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ) وهذا كالمستفاد من قوله: (ﭯ ﭰ ﭱ).
ثم قال ثامنًا: (ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ) وهو أيضًا تأكيد لما مضى.
ثم قال تاسعًا: (ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ).
فذكر هذه الفوائد التالية لتلك التأكيدات السالفة، وكل ذلك يدل على المبالغة، في التوصية بحفظ المال الحلال، وصونه عن الهلاك؛ ليتمكن الإنسان بواسطته من الإنفاق في سبيل الله، والإعراض عن مساخط الله تعالى من الربا وغيره، والمواظبة على تقوى الله72.
ومن الآيات الدالة على توثيق الدين، قوله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ) [البقرة:٢٨٣].
فقوله تعالى: (ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ) بعيدًا أو قريبًا (ﭖ ﭗ ﭘ) أو آلة الكتابة، أو ما يكتب عليه، ويكتب به، وأردتم أن تتعاقدوا أو تتداينوا (ﭙ ﭚ) لتثقوا على أموالكم، وليس الغرض جواز الرهن في السفر، وإنما الغرض التوثق من الدين في حالة عدم وجود الكاتب والشهود، وإلا فالرهن جائز سفرًا وحضرًا؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم رهن درعه عند أبي الشحم اليهودي، على طعام أخذه منه لأجل73.
وإنما أشار الله إليه مبالغة في تحفظ الناس على أموالها من أن يأخذها من لا يؤديها، فتسبب الأحقاد والأضغان بينهم؛ لأن المال عديل الروح، وكثيرًا ما يقتل الرجل عند ماله، أو من أجله74.
ولعل مما يدل أيضًا على التوثيق بالكتابة لحفظ الحقوق ما جاء في قوله تعالى: (ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ) [النور:٣٣].
ففي اشتقاق لفظ الكتابة هنا وجوه:
أحدها: أن أصل الكلمة من الكتب، وهو الضم والجمع، ومنه سميت الكتابة؛ لأنها تضم النجوم بعضها إلى بعض، وتضم ماله إلى ماله.
وثانيها: مأخوذ من الكتاب، ومعناه: كتبت لك على نفسي: أن تعتق إذا وفيت بمالي، وكتبت لي على نفسي أن تفي لي بذلك، أو كتبت عليك الوفاء بالمال، وكتبت علي العتق، قاله الأزهري.
وثالثها: سمي بذلك لما يقع فيه من التأجيل بالمال المعقود عليه؛ لأنه لا يجوز أن يقع على مال هو في يد العبد حين يكاتب؛ لأن ذلك مال لسيده اكتسبه في حال ما كانت يد السيد غير مقبوضة عن كسبه، فلا يجوز لهذا المعنى أن يقع هذا العقد حالًا، بل يقع مؤجلًا؛ ليكون متمكنًا من الاكتساب، ثم من آداب الشريعة أن يكتب على من عليه المال المؤجل كتاب؛ فلهذا المعنى سمي هذا العقد كتابًا لما فيه من الأجل، قال تعالى: (ﮰ ﮱ ﯓ) [الرعد:٣٨]75.
وقال الشوكاني: قيل: الكتاب ها هنا اسم عين للكتاب الذي يكتب فيه الشيء؛ وذلك لأنهم كانوا إذا كاتبوا العبد كتبوا عليه وعلى أنفسهم بذلك كتابًا، فيكون المعنى الذين يطلبون كتاب المكاتبة، ومعنى المكاتبة في الشرع: أن يكاتب الرجل عبده على مال يؤديه منجمًا، فإذا أداه فهو حر، وظاهر قوله: (ﭶ) أن العبد إذا طلب الكتابة من سيده وجب عليه أن يكاتبه بالشرط المذكور بعده، وهو إن علمتم فيهم خيرًا.
والخير هو القدرة على أداء ما كوتب عليه، وإن لم يكن له مال، وقيل: هو المال فقط، وقال النخعي: إن الخير الدين والأمانة، وقال عبيدة السلماني: إقامة الصلاة76.
وكتابة عقد المكاتبة فيه خير للسيد والعبد معًا، فالسيد يضمن أموال نجوم المكاتبة كاملة في أوقاتها، والعبد حتى لا ينكر السيد مكاتبته، فيبقى عبدًا، ويضيع عليه ما قدمه من مال.
والمقصود أن من مقاصد الكتابة، الكتابة لتوثيق الحقوق، وقد جاء منصوصًا على ذلك في القرآن في آية الدين، والأمر بالكتابة ليس خاصًا بكتابة الدين فقط، وإنما يشمل غيرها من المعاملات، وإن لم يذكرها القرآن فقد ذكرت السنة ذلك وفصلته.
ثانيًا: حفظ العلم وتدوينه:
ومن مقاصد الكتابة العظيمة كتابة العلم وتدوينه، فما دونت العلوم، ولا قيدت الحكم إلا بالكتابة، وقد ذكر الله من نعمه على خلقه أنه (ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ) [العلق:٤-٥].
وقد قيل: إن من كرامات الآدمي أن آتاه الله الخط، وتحقيق الكلام في هذا الباب: أن العلم الذي يقدر الإنسان على استنباطه يكون قليلًا، أما إذا استنبط الإنسان علمًا وأودعه في الكتاب، وجاء الإنسان الثاني واستعان بذلك الكتاب، وضم إليه من عند نفسه أشياء أخرى، ثم لا يزالون يتعاقبون، ويضم كل متأخر مباحث كثيرة إلى علم المتقدمين، كثرت العلوم، وقويت الفضائل والمعارف، وانتهت المباحث العقلية، والمطالب الشرعية إلى أقصى الغايات، وأكمل النهايات، ومعلوم أن هذا الباب لا يتأتى إلا بواسطة الخط والكتابة؛ ولهذه الفضيلة الكاملة قال تعالى: 77 (ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ) [العلق:٣-٥].
ففي قوله: (ﮊ ﮋ ﮌ) أي: علم الخط والكتابة بالقلم.
وتخصيص هذه الصفة بالذكر -وهي التعليم بالقلم- للإيماء إلى إزالة ما قد يخطر بباله صلى الله عليه وسلم من تعذر القراءة بالنسبة له لعدم معرفته بالكتابة، فكأنه تعالى يقول له: إن من علم غيرك القراءة والكتابة بالقلم قادر على تعليمك القراءة وأنت لا تعرف الكتابة؛ ليكون ذلك من معجزاتك الدالة على صدقك، وكفاك بالعلم في الأمي معجزة78.
فإن قلت: فإذا كان القلم والخط من المنن الإلهية فما باله -عليه الصلاة السلام- لم يكتب؟ فالجواب: لأنه لو كتب لقيل: قرأ القرآن من صحف الأولين، ومن كان القلم الأعلى يخدمه، واللوح المحفوظ مصحفه ومنظره لا يحتاج إلى تصوير الرسوم، وتشكيل العلوم بآلات جسمانية؛ لأن الخط صنعة ذهنية، وقوة طبيعية، صدرت بالآلة الجسمانية، وفيه إشارة بديعة إلى أن أمته بين الأمم هم الروحانيون، وصفهم سبحانه في الإنجيل: أمة محمد أناجيلهم في صدورهم79، لو لم يكن رسم الخطوط لكانوا يحفظون شرائعه -عليه الصلاة السلام- بقلوبهم؛ لكمال قوتهم، وظهور استعداداتهم80.
وفي قوله: (ﮋ ﮌ) وجهان:
أحدهما: أن المراد من القلم الكتابة التي تعرف بها الأمور الغائبة، وجعل القلم كناية عنها.
والثاني: أن المراد علم الإنسان الكتابة بالقلم، وكلا القولين متقارب؛ إذ المراد التنبيه على فضيلة الكتابة81.
فيكون في قوله: (ﮊ ﮋ ﮌ) إشارة إلى الأحكام المكتوبة التي لا سبيل إلى معرفتها إلا بالسمع82.
قال ابن القيم وهو يتكلم عن هذه الآيات، وأهمية الكتابة في حفظ العلم وتدوينه: ثم تأمل نعمة الله على الإنسان بالبيانين، البيان النطقي، والبيان الخطي، وقد اعتد بهما سبحانه في جملة من اعتد به من نعمه على العبد، ثم قال: والتعليم بالقلم الذي هو من أعظم نعمه على عباده؛ إذ به تخلد العلوم، وتثبت الحقوق، وتعلم الوصايا، وتحفظ الشهادات، ويضبط حساب المعاملات الواقعة بين الناس، وبه تقيد أخبار الماضين للباقين اللاحقين.
ولولا الكتابة لانقطعت أخبار بعض الأزمنة عن بعض، ودرست السنن، وتخبطت الأحكام، ولم يعرف الخلف مذاهب السلف، وكان معظم الخلل الداخل على الناس في دينهم ودنياهم إنما يعتريهم من النسيان الذي يمحو صور العلم من قلوبهم، فجعل لهم الكتاب وعاء حافظًا للعلم من الضياع، كالأوعية التي تحفظ الأمتعة من الذهاب والبطلان.
فنعمة الله عز وجل بتعليم القلم بعد القرآن من أجل النعم، والتعليم به وإن كان مما يخلص إليه الإنسان بالفطنة والحيلة، فإنه الذي بلغ به ذلك، وأوصله إليه عطية وهبها الله منه، وفضل أعطاه الله إياه، وزيادة في خلقه وفضله، فهو الذي علمه الكتابة، وإن كان هو المتعلم، ففعله فعل مطاوع لتعليم الذي علم بالقلم، فإنه علمه فتعلم، كما أنه علمه الكلام فتكلم.
هذا ومن أعطاه الذهن الذي يعي به، واللسان الذي يترجم به، والبنان الذي يخط به، ومن هيأ ذهنه لقبول هذا التعليم دون سائر الحيوانات، ومن الذي انطق لسانه، وحرك بنانه، ومن الذي دعم البنان بالكف، ودعم الكف بالساعد، فكم لله من آية نحن غافلون عنها في التعلم بالقلم.
فقف وقفة في حال الكتابة، وتأمل حالك! وقد أمسكت القلم وهو جماد وضعته على القرطاس وهو جماد، فتولد من بينهما أنواع الحكم، وأصناف العلوم، وفنون المراسلات والخطب والنظم والنثر، وجوابات المسائل، فمن الذي أجرى فلك المعاني على قلبك، ورسمها في ذهنك، ثم أجرى العبارات الدالة عليها على لسانك.
ثم حرك بها بنانك حتى صارت نقشًا عجيبًا معناه أعجب من صورته، فتقضى به مآربك، وتبلغ به حاجة في صدرك، وترسله إلى الأقطار النائية، والجهات المتباعدة، فيقوم مقامك، ويترجم عنك، ويتكلم على لسانك، ويقوم مقام رسولك، ويجدي عليك ما لا يجدي من ترسله سوى من علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم، والتعليم بالقلم يستلزم المراتب الثلاث، مرتبة الوجود الذهني، والوجود اللفظي، والوجود الرسمي، فقد دل التعليم بالقلم على أنه سبحانه هو المعطي لهذه المراتب83.
فإن الله تعالى أخرج الإنسان من بطن أمه لا يعلم شيئًا، وجعل له السمع والبصر والفؤاد، ويسر له أسباب العلم.
فعلمه القرآن، وعلمه الحكمة، وعلمه بالقلم، الذي به تحفظ العلوم، وتضبط الحقوق، وتكون رسلًا للناس تنوب مناب خطابهم، فلله الحمد والمنة، الذي أنعم على عباده بهذه النعم التي لا يقدرون لها على جزاء ولا شكور84.
والحاصل: أن الله تعالى جعل القلم سببًا، به يحفظ العلم، وبه يثبت، وبه يوصل إلى حفظ ما يخاف فوته ونسيانه، من أمر دينهم ودنياهم، ما لو لم يكن القلم لم يستقم أمر دينهم ولا دنياهم85.
والتعليم بالقلم أكثر ما يعتمد الشرع عليه؛ إذ أن الشرع يكتب ويحفظ، والقرآن يكتب ويحفظ، والسنة تكتب وتحفظ، وكلام العلماء يكتب ويحفظ86. وكما قال الشاعر87:
العلم صيد والكتابة قيده
قيد صيودك بالحبال الواثقة
فمن الحماقة أن تصيد غزالة
وتفكها بين الخلائق طالقة.
ثالثًا: حفظ أعمال العباد لمحاسبتهم عليها:
ومن مقاصد الكتابة حفظ أعمال العباد، قال تعالى: (ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ) [الانفطار:١٠-١١].
فأخبر الله تعالى أن على العباد حافظين؛ كاتبين لأعمالهم، والحكمة من أن الله جعل ملائكة تكتب أعمال بني آدم: أن المرء إذا كان عليه حافظٌ أداه ذلك إلى المراقبة؛ فيرتدع عن تعاطي ما يؤخذ عليه، فجعل عليه حافظين ليحتشم عنهم، ولا يأتي من الأمور ما يسوؤهم، ووصف أنهم كرام ليصحبهم صحبة الكرام، ومن صحبة الكرام أن يحترمهم، ويتقي مخالفتهم، ولا يتعاطى ما يسوؤهم، وفي ذكر الكرام فائدة أخرى؛ وذلك أن قوله: (ﮃ ﮄ) أي: كرام على الله تعالى، والكريم على الله تعالى هو المتقي؛ قال الله تعالى: (ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ) [الحجرات:١٣].
فيكون فيه أمان منهم: أنهم لا يزيدون ولا ينقصون في الكتابة، وإنما يكتبون على قدر أعمالهم، كما ذكر في وصف جبريل عليه السلام بالقوة والأمانة88.
والحكمة فى كتابة الأعمال وحفظها على العالمين أن المكلف إذا علم أن أعماله تحفظ عليه، وتعرض على رؤوس الأشهاد كان ذلك أزجر له عن الفواحش والمنكرات، وأبعث له على عمل الصالحات، فإن المرء إن لم يصل إلى مقام العلم الراسخ الذي يثمر الخشية لله والمعرفة الكاملة التي تثمر الحياء، ربما غلب عليه الغرور بالكرم الإلهي، والرجاء في المغفرة والرحمة، فلا يكون لديه من الخشية والحياء ما يزجره عن المعصية، كما يزجره توقع الفضيحة في موقف الحساب على أعين الخلائق وأسماعهم89.
وزاد الرازي احتمال أن تكون الفائدة في الكتابة أن توزن تلك الصحائف يوم القيامة؛ لأن وزن الأعمال غير ممكن، أما وزن الصحائف فممكن أن توزن تلك الصحف90. كذا قال.
والصحيح: أن وزن الأعمال ممكنٌ أيضًا؛ لأن الأمور المعنوية يمكن أن توزن، كما جاء في صحيح مسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان)91 الحديث.
وفي الصحيحين قوله صلى الله عليه وسلم: (كلمتان خفيفتان على اللسان، حبيبتان إلى الرحمن، ثقيلتان في الميزان، سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم)92.
وإما أن يكون ذلك على طريقة من يقول: إن المراد بكتابة الأعمال حفظ صورها وآثارها في النفس، فهي أنها تكون المظهر الأتم الأجلى لحجة الله البالغة، فإذا وضع كتاب كل أحد يوم الحساب، ونشرت صحفه المطوية في سريرة نفسه، تعرض عليه أعماله فيها بصورها ومعانيها، فتتمثل لذاكرته ولحسه الظاهر والباطن، كما عملها في الدنيا، لا يفوته شيء من صفاتها الحسية ولا المعنوية -كاللذة والألم- فيكون حسيبًا على نفسه، وعلى عين اليقين من عدل الله وفضله (ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ) [الإسراء:١٣-١٤].
(ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ) [الكهف:٤٩]93.
ومن الآيات التي تدل على أن من مقاصد الكتابة حفظ أعمال العباد قوله تعالى: (ﭟ ﭠ ﭡ ﭢﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ) [يونس:٢١].
فقوله: (ﭤ ﭥ) أي: الذين يحفظون أعمالكم، والإضافة للتشريف.
(ﭦ ﭧ ﭨ) أي: مكركم، أو ما تمكرونه، وهو تحقيقٌ للانتقام منهم، وتنبيهٌ على أن ما دبروا في إخفائه غير خافٍ على الحفظة فضلًا عن العليم الخبير، وصيغة الاستقبال في الفعلين للدلالة على الاستمرار التجددي94.
وفي الآية تصريح بأن للكفار حفظة، فإن قيل: فالذي يكتب عن يمينه أي شيء يكتب ولم يكن لهم حسنة؟ يقال: إن الذي عن شماله يكتب بإذن صاحبه، ويكون شاهدًا على ذلك؛ وإن لم يكتب95.
فثبت بهذا أن أفعال الناس وأقوالهم سواء كانوا مؤمنين أو كافرين مضبوطة مكتوبة للإلزام عليهم يوم القيامة، وأن المكر والحيلة لا مدخل له في تخليص الإنسان من مكروه، بل قد قالوا: إذا أدبر الأمر كان العطب في الحيلة، فمن ظن نجاته في المكر كان كثعلب ظن نجاته في تحريك ذنبه، وإنما المنجي هو القدم، وهو ها هنا العمل الصالح بعد الإيمان الكامل، والعاقل يتدارك حاله قبل وقوع القضاء، وقد قيل: وليس العاقل الذي يحتال للأمر إذا وقع فيه، ولكن العاقل الذي يحتال للأمور حذرًا أن يقع فيها96.
ونظير الآية السابقة قوله تعالى: (ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ) [الزخرف:٨٠].
وعطف (ﮇ ﮈ ﮉ) على (ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ) ليعلموا أن علم الله بما يسرون علم يترتب عليه أثر فيهم، وهو مؤاخذتهم بما يسرون؛ لأن كتابة الأعمال تؤذن بأنها ستحسب لهم يوم الجزاء، والكتابة يجوز أن تكون حقيقة، وأن تكون مجازًا، أو كناية عن الإحصاء والاحتفاظ، والرسل: هم الحفظة من الملائكة؛ لأنهم مرسلون لتقصي أعمال الناس؛ ولذلك قال: (ﮈ ﮉ) كقوله: (ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ) [ق:١٨].
أي: رقيب97. متهيئ متجهز للكتابة.
ومن الآيات كذلك قوله تعالى: (ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ) [النساء:٨١].
أي: يعلمه ويحفظه، فيجازيهم به، والكتابة ها هنا كالاستنساخ في قوله: (ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ) [الجاثية:٢٩].
ونسب الله تعالى ذلك إلى نفسه هنا، وإلى ملائكته في قوله: (ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ) [الزخرف:٨٠].
وفي قوله: (ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ) [يونس:٢١].
والله تعالى قد ينسب فعل أوليائه إلى نفسه تنبيهًا على ارتضائه، وكونه آمرًا، نحو قوله: (ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ) [السجدة:١١].
وقوله: (ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ) [الزمر:٤٢]98. انتهى من كلام الراغب مختصرًا.
فعلى كلام الراغب السابق يكون الاستنساخ بمعنى الكتابة، وفي (زاد المسير) لابن الجوزي يقول: قوله تعالى: (ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ) أي: نأمر الملائكة بنسخ أعمالكم، أي: بكتبها وإثباتها، وأكثر المفسرين على أن هذا الاستنساخ من اللوح المحفوظ، تستنسخ الملائكة كل عام ما يكون من أعمال بني آدم، فيجدون ذلك موافقًا ما يعملونه، قالوا: والاستنساخ لا يكون إلا من أصلٍ، قال الفراء: يرفع الملكان العمل كله فيثبت الله منه ما فيه ثواب أو عقاب، ويطرح منه اللغو، وقال الزجاج: نستنسخ ما تكتبه الحفظة، ويثبت عند الله عز وجل 99 انتهى كلامه.
ومن الآيات الدالة على هذا المقصد، قوله تعالى: (ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ) [الإسراء:١٣].
والمعنى: أن كل إنسان يعامل بعمله، من خير أو شر، لا ينقص له منه شيء، وهذا غير كتابة الأعمال التي ذكرت عقب هذا بقوله: (ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ) وعطف جملة: (ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ) إخبار عن كون تلك الأعمال المعبر عنها بالطائر تظهر يوم القيامة مفصلة معينة، لا تغادر منها صغيرة ولا كبيرة إلا أحصيت للجزاء عليها100.
ومن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى: (ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ) [ق:١٧-١٨].
قال الزمخشري: والتلقي: التلقن بالحفظ والكتبة101.
والمعنى واضح؛ لأن الملك يتلقى عمل الإنسان عند صدوره منه، فيكتبه عليه، والمتلقيان هما الملكان اللذان يكتبان أعمال الإنسان، وقد دلت الآية الكريمة على أن مقعد أحدهما عن يمينه، ومقعد الآخر عن شماله.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: (ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ) أي: ما ينطق بنطق، ولا يتكلم بكلام إلا لديه، أي: إلا والحال أن عنده رقيبًا، أي: ملكًا مراقبًا لأعماله، حافظًا لها، شاهدًا عليها، لا يفوته منها شيء.
عتيد، أي: حاضر ليس بغائب، يكتب عليه ما يقول من خير وشر، وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن الإنسان عليه حفظة من الملائكة يكتبون أعماله، جاء موضحًا في آيات كثيرة من كتاب الله، كقوله في سورة مريم: (ﭢﭣ ﭤ ﭥ ﭦ) [مريم:٧٩].
وفي سورة الزخرف قال: (ﯛ ﯜ ﯝ) [الزخرف:١٩].
وقوله: (ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ) [ق:١٦].
أي: نحن أقرب إليه من حبل الوريد في الوقت الذي يتلقى فيه الملكان جميع ما يصدر منه، والمراد أن الله الذي خلق الإنسان ويعلم ما توسوس به نفسه هو أقرب إليه من حبل الوريد في وقت كتابة الحفظة أعماله، فهو غني عن كتب الأعمال؛ لأنه أقرب إليه من حبل الوريد، والله غني عن أن يدون الملكان هذه الأشياء؛ لأن الله سبحانه وتعالى عالم بما كان وبما سيكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون، لا يغيب عنه شيء.
فالله تعالى لا حاجة له بكتابة الأعمال؛ لأنه عالم بها لا يخفى عليه منها شيء، وإنما أمر بكتابة الحفظة للأعمال لِحِكمٍ منها: إقامة الحجة على العبد يوم القيامة، كما أوضحه الله بقوله: (ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ) [الإسراء:١٣-١٤].
اقرأ بنفسك كتابك حتى تقوم عليك الحجة (ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ) [الإسراء:١٤].
والمقصود أن من مقاصد الكتابة حفظ أعمال العباد وإحصاءها، وفي الآيات السابقة تقرير عقيدة كتابة الأعمال حسنها وسيئها، والحساب بمقتضاها يوم القيامة، ويشهد لهذا الحديث الصحيح: (يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار)102 الحديث.
فالحفظة أو الكتبة من الملائكة الكرام يكتبون جميع ما يفعله العباد ويدبرونه، أو يخططون له، ويحصونه عليهم، ثم يعرضونه على الله عالم الغيب والشهادة، فيجازي كلًا منهم على الجليل والحقير، وفي هذا دلالة على تمام الحفظ والعناية، وعدم خفاء أعمالهم على الله تعالى.
لما كانت الكتابة إحدى الصنائع، وعلمًا من العلوم، ونعمة من النعم التي من الله بها على الإنسان، والتي يشرف بها، وتعلو منزلته بتعلمها، كان لا بد لها من ضوابط، ولا بد لمن يزاولها من آداب، وقد أشار القرآن الكريم إلى ما ينبغي أن يكون عليه الكاتب والكتابة، فذكر بعضًا من هذه الآداب والضوابط، منها:
أولًا: العدل
من ضوابط الكتابة العدل، وهو أن يكون الكاتب عدلًا فيما يكتب، فقد قال الله تعالى في آية الدين: (ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ) [البقرة:٢٨٢].
قال أبو جعفر: بالعدل، يعني: بالحق والإنصاف في الكتاب الذي يكتبه بينهما، بما لا يحيف ذا الحق حقه ولا يبخسه، ولا يوجب له حجة على من عليه دينه فيه بباطل، ولا يلزمه ما ليس عليه103.
وعن قتادة في قوله: (ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ) قال: «اتقى الله كاتب في كتابه، فلا يدعن منه حقًّا، ولا يزيدن فيه باطلًا»104. وبالعدل جار ومجرور متعلقان بـ(ﭞ) بمثابة الصفة له، أي: بكاتب مأمون على ما يكتب بالسوية والتحوط، لا يزيد على ما يجب أن يكتب ولا ينقص105.
فيكون في قوله: (ﭟ) وجوه:
الأول: أن يكتب بحيث لا يزيد في الدين ولا ينقص منه، ويكتبه بحيث يصلح أن يكون حجة له عند الحاجة إليه.
الثاني: إذا كان فقيهًا وجب أن يكتب بحيث لا يخص أحدهما بالاحتياط دون الآخر، بل لا بد وأن يكتبه بحيث يكون كل واحد من الخصمين آمنًا من تمكن الآخر من إبطال حقه.
الثالث: قال بعض الفقهاء: العدل أن يكون ما يكتبه متفقًا عليه بين أهل العلم، ولا يكون بحيث يجد قاضٍ من قضاة المسلمين سبيلًا إلى إبطاله على مذهب بعض المجتهدين.
الرابع: أن يحترز عن الألفاظ المجملة التي يقع النزاع في المراد بها، وهذه الأمور لا يمكن رعايتها إلا إذا كان الكاتب فقيهًا عارفًا بمذاهب المجتهدين، وأن يكون أديبًا مميزًا بين الألفاظ المتشابهة106.
وفي هذا الأمر (ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ) أي: ليكن فيكم كاتب للديون عادل في كتابته، يساوي بين المتعاملين، لا يميل إلى أحدهما، فيجعل له من الحق ما ليس له، ولا يميل عن الآخر فيبخسه من حقه شيئًا، فقوله تعالى: (ﭚ) أمر عام للمتعاملين، وفيهم الأميُّ الذي لا يكتب؛ ولذلك احتيج إلى هذه الجملة.
وقد ذكروا أن العدل في الكاتب يستلزم العلم بشروط المعاملات التي تحفظ الحقوق؛ لأن الكاتب الجاهل قد يترك بعض الشروط أو يزيد فيها، أو يبهم في الكتابة بجهله، فيلتبس بذلك الحق بالباطل، ويضيع حق أحد المتعاملين، كما يضيع بتعمد الترك أو الزيادة، أو الإبهام إذا لم يكن عادلًا107.
قال ابن عاشور: وقوله: (ﭟ) أي: بالحق، وليس العدل هنا بمعنى العدالة التي يوصف بها الشاهد، فيقال: رجل عدل؛ لأن وجود الباء يصرف عن ذلك، ونظيره قوله الآتي: (ﮅ ﮆ ﮇ) [البقرة:٢٨٢].
ولذلك قصر المفسرون قوله: (ﭚ) على أن يكتبه كاتب غير المتداينين؛ لأنه الغالب ولتعقيبه بقوله: (ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ) فإنه كالبيان لكيفية: (ﭚ) على أن كتابة المتعاقدين إن كانا يحسنانها تؤخذ بلحن الخطاب أو فحواه؛ ولذلك كانت الآية حجة عند جمهور العلماء لصحة الاحتجاج بالخط، فإن استكتاب الكاتب إنما ينفع بقراءة خطه108.
ومن فوائد السعدي على هذه الآية قوله: ومنها: أن الكاتب لا بد أن يكون عارفًا بالعدل، معروفًا بالعدل؛ لأنه إذا لم يكن عارفًا بالعدل لم يتمكن منه، وإذا لم يكن معتبرًا عدلًا عند الناس رضيًا لم تكن كتابته معتبرة، ولا حاصلًا بها المقصود الذي هو حفظ الحقوق109.
ومن مستلزمات العدل في الكتابة:
والمقصود أن من الصفات المطلوبة في الكاتب الذي يتولى كتابة الوثائق بين الناس أن يكتبها بالعدل، وأن يكتب برعاية حقوق الطرفين، ولا يميل مع أحد الطرفين، ولا ينقص أو يزيد في النصوص.
ثانيًا: العلم
ومن ضوابط الكتابة العلم بقواعد الكتابة وأصولها، وقد قال الله تعالى: (ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ) [البقرة:٢٨٢].
ففي قوله: (ﭦ ﭧ ﭨ) دليل على أن الكتابة علم من العلوم؛ فإذا كانت علمًا كان لها ضوابطها وقواعدها، ولا بد من العلم بهذه الضوابط والقواعد.
ولهذا بعد أن شرط الله في الكاتب العدالة شرط فيه العلم بالأحكام والفقه في كتابة الدين؛ إذ الكتابة لا تكون ضمانًا تامًّا إلا إذا كان الكاتب عالمًا بالأحكام الشرعية، والشروط المرعية عرفًا وقانونًا، وكان عادلًا حسن السيرة، لا غرض له إلا بيان الحق بلا محاباة.
وقدم صفة العدالة على صفة العلم؛ لأن العادل يسهل عليه أن يتعلم ما ينبغى أن يعلمه لكتابة الوثائق، ولكن من كان عالمًا غير عادل فالعلم بهذا وحده لا يهديه للعدالة، وقلما رأينا فسادًا من عدل ناقص العلم، ولكن أكثر الفساد من العلماء الذين فقدوا ملكة العدالة112.
فكاتب العقود والوثائق بمنزلة المحكمة الفاصلة بين الناس، وليس كل من يخط بالقلم أهلًا لذلك، وإنما أهله من يصح أن يكون قاضي العدل والإنصاف.
فما ذكر في وصف الكاتب إرشاد من الله تعالى لتلك الأمة الأمية إلى نظام معروف، وهو أن يكون كاتب الديون عادلًا، عارفًا بالحقوق والأحكام فيها حتى لا يقع التنازع بعد ذلك فيما يكتبه، وإرشاد للمسلمين إلى أنه ينبغي أن يكون فيهم هذا الصنف من الكتاب، فهذه قاعدة شرعية لإيجاد المقتدرين على كتابة العقود، وهو ما يسمونه اليوم: العقود الرسمية.
وفيه أيضًا أن الكاتب ينبغي أن يكون غير المتعاقدين -وإن كانا يحسنان الكتابة- لئلا يغالط أحدُهما الآخر أو يغشه، وكأن هذا أمر حتم، وعليه العمل الآن، فإن للعقود الرسمية كُتَّابا يختصون بها.
وفي قوله: (ﭡ ﭢ ﭣ) الخ، دليل على أن العالم بما فيه مصلحة الناس يجب عليه إذا دعي إلى القيام بها أن يجيب الدعوة؛ ولذلك لم يكتف بالنهي عن الإباء عن الكتابة، بل أمر بها أمرًا صريحًا، فقال: (ﭪ) وهذا ظاهر لا سيما على قول من قال من أهل الأصول: إن النهي عن الشيء ليس أمرًا بضده113.
قال ابن عاشور: وفي قوله: (ﭦ ﭧ ﭨ) أي: كتابة تشابه الذي علمه الله أن يكتبها، والمراد بالمشابهة المطابقة لا المقاربة، فهي مثل قوله: (ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ) [البقرة:١٣٧].
ومعنى: ما علمه الله أنه يكتب ما يعتقده، ولا يجحف أو يوارب؛ لأن الله ما عَلَّم إلا الحق، وهو المستقر في فطرة الإنسان، وإنما ينصرف الناس عنه بالهوى، فيبدلون ويغيرون؛ وليس ذلك التبديل بالذي علمهم الله تعالى، ويجوز أن تكون الكاف لمقابلة الشيء بمكافئه، والعوض بمعوضه، أي: أن يكتب كتابة تكافئ تعليم الله إياه الكتابة، بأن ينفع الناس بها شكرًا على تيسير الله له أسباب علمها، وإنما يحصل هذا الشكر بأن يكتب ما فيه حفظ الحق، ولا يقصر، ولا يدلس، وينشأ عن هذا المعنى من التشبيه معنى التعليل، كما في قوله تعالى: (ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ) [القصص:٧٧].
وقوله: (ﮆ ﮇ ﮈ) [البقرة:١٩٨]114.
والمقصود: أن من ضوابط الكتابة التي أشار الله إليها في هذه الآية العلم بها، وبما يتعلق بها، فإذا كان عالمًا بذلك ودعي للكتابة فليجب؛ ولهذا قال: (ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ) وهذا نهي لمن كان قادرًا على الكتابة من أن يمتنع عن الكتابة، فلا يصح لمن يحسن الكتابة من حيث جودة الخط واستبانته، ومن حيث العلم بفقه العقود، والقدرة على تحقيق العدالة بين العاقدين في وثيقة العقد؛ لا يصح له أن يمتنع عن الكتابة إذا دعي إليها، وإنه ليأثم إن تعين للكتابة، ولم يوجد موثوق به فيها سواه، وامتنع عن الكتابة؛ ولقد قال الفقهاء: إن الكتابة فرض كفاية بمعنى أنه إذا امتنع كُتَّابُ أهل قرية عن الكتابة أثموا، بل إنه يجب على أهل كل قرية أن يخصصوا ناسًا لكتابة الوثائق فيها.
وإنه على هذا يجب أن تعمل الدولة على تهيئة ناس لتوثيق العقود وكتابتها، وإن الكتابة لطلابها من التعاون على البر والتقوى، فهي صناعة، وهي علم، وواجب على الصانع أن يعين من لا يحسن، فقد عد النبي صلى الله عليه وسلم من أعمال الخير أن (تعين صانعًا، أو تصنع لأخرق)115.
والامتناع عن الكتابة ككتمان العلم، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (من سئل عن علم فكتمه، ألجم يوم القيامة بلجام من نار)116.
والكاف في قوله تعالى: (ﭦ ﭧ ﭨ) للتشبيه، لكن ما المعنى الذي يفيده هذا التشبيه؟
ذكر الزمخشري: أن معناه: إما أن يكون تشبيهًا بين علم الكتابة والواجب على الكاتب117، إي: أنه كما أن الله علمه الكتابة، ويسرها له، وجعله أهل خبرة، عليه واجب المعاونة بالكتابة لغيره، فالتشبيه تشبيه بين نعمة الكتابة والواجب المتعلق بها، فما من نعمة إلا تتولد عنها واجبات مساوية لها، فنعمة الكتابة يقابلها ويشابهها ويماثلها واجب معاونة غيره بها، وهو بقدرها، ويأثم عند الترك بمقدار علمه، هذا أحد وجهي التشبيه.
أما الوجه الآخر: فهو أن التماثل بين ما يكتب على القرطاس وما آتى الله الكاتب من فقه وعلم بالعقود والالتزامات؛ والمعنى على ذلك: لتكن كتابة وثيقة الدَّيْنِ على مقتضى العلم والفقه الذي فَقَّهَ الله به الكاتب، أي: تكون الكتابة على مقتضى أحكام الشرع، فلا تكون فيها شروط ليست في كتاب الله، أو لا يسوغها الشرع، أو لا يمكن تنفيذها118.
والحاصل: أن في هذه الجملة بيان صفة الكاتب، وأن الذي يكتب شخص يجيد الكتابة، وعنده فقهها وعلمها، بأن يكون على علم بشروط العقود وتوثيقها، وما يكون من الشروط سائغًا في الشرع، وما يكون غير سائغ، وقد ذكر في النص الكريم بوصف (ﭣ) للدلالة على مهارته في الكتابة، وكونها له كالمَلَكَة119.
قال الجصاص: ولذلك قال تعالى عقيب الأمر بالكتابة: (ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ) يعني -والله أعلم-: ما بينه من أحكام العقود الصحيحة والمداينات الثابتة الجائزة؛ لكي يحصل لكل واحد من المتداينين ما قصد من تصحيح عقد المداينة؛ ولأن الكاتب بذلك إذا كان جاهلًا بالحكم لا يأمن أن يكتب ما يفسد عليهما ما قصداه، ويبطل ما تعاقداه.
والكتاب وإن لم يكن حتمًا وكان ندبًا وإرشادًا إلى الأحوط، فإنه متى كتب فواجب أن يكون على هذه الشريطة، كما قال عز وجل: (ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ) [المائدة:٦].
فانتظم ذلك صلاة الفرض والنفل جميعًا، ومعلومٌ أن النفل غير واجب عليه؛ ولكنه متى قصد فعلها وهو محدث فعليه أن لا يفعلها إلا بشرائطها من الطهارة وسائر أركانها، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من أسلم فليسلم في كيلٍ معلومٍ، ووزنٍ معلومٍ، إلى أجلٍ معلومٍ)120.
والسلم ليس بواجب؛ ولكنه متى أراد أن يسلم فعليه استيفاء الشرائط؛ فكذلك كتاب الدين والإشهاد ليسا بواجبين؛ ولكنه متى كتب فعلى الكاتب أن يكتبه على الوجه الذي أمره الله تعالى به، وأن يستوفي فيه شروط صحته؛ ليحصل المعنى المقصود بكتابته121.
ثالثًا: الحفظ من التبديل والتحريف:
ومن ضوابط الكتابة حفظها من التبديل والتحريف، وقد مدح الله تعالى الربانيين والأحبار بكونهم استحفظوا كتاب الله فحفظوه، والحفظ يشمل ناحية العمل، وناحية حفظه، حفظ صدر، وحفظ كتاب، فقال تعالى: (ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ) [المائدة:٤٤].
فقوله: (ﮑ ﮒ) أي: بالذي استحفظوه من جهة النبيين، وهو التوراة، حيث سألوهم أن يحفظوها من التغيير والتبديل على الإطلاق، ولا ريب في أن ذلك منهم -عليهم السلام- استخلافٌ لهم في إجراء أحكامها من غير إخلالٍ بشيء منها، وفي إبهامها أولًا، ثم بيانها ثانيًا بقوله تعالى: (ﮓ ﮔ ﮕ) من تفخيمها وإجلالها ذاتًا وإضافةً، وتأكيد إيجاب حفظها، والعمل بما فيها ما لا يخفى.
وإيرادها بعنوان الكتاب للإيماء إلى إيجاب حفظها عن التغيير من جهة الكتابة122.
والأحبار: هم العلماء، جمع حبر، أو حبر، وهما لغتان، وهو مأخوذ من معنى التزيين والتحسين؛ لأن الحبر هو الأثر الحسن ذو الرونق، ويكون المعنى: الذين يجمعون العلم ويدرسونه ويزينونه بالقول الحسن، والتطبيق الجيد، أو هو مأخوذ من الحبر مادة الكتابة لعنايتهم بتدوين علمهم، وعرضه للناس، وإبقائه أثرًا خالدًا من بعدهم.
والمفسرون على أن الربانيين والأحبار نوعان، قد طبقوا حكم التوراة، فالأولون صَفَتْ نفوسهم، وربوها بالعلم والعبادة، والآخرون جمعوا العلم، ورتبوه وعرضوه، وعلى هذا التفسير الذي يجعلهم نوعين متغايرين، نوجه القول فيه: بأن الذين قاموا على التوراة صنفان:
أحدهما: جمع علمها، واستخرج ينابيعها، وأحاط بها.
وآخرون: طبقوها في الأقضية.
أي: إن الفقهاء وهم الأحبار قدموا خلاصة ما علموا نقيًّا محبرًا تحبيرًا جيدًا، والآخرون وهم الربانيون طبقوه مجردين أنفسهم من كل شهوة وهوى، فالضعيف عندهم قوي، حتى يأخذوا الحق له، والقوي منهم ضعيف حتى يأخذوا الحق منه، كما يفعل الربانيون من أمة محمد صلى الله عليه وسلم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وغيرهم رضي الله عنهم.
وقُدِّمَ الربانيون على الأحبار لأنهم الذين يطبقون العلم على العمل، والمقام في الآية هو مقام التطبيق، فالعمل الواضح هو عمل الربانيين؛ لأنهم الذين يحكمون بحكم التوراة.
وقد خص الله تعالى الفريقين بقوله تعالت كلماته: (ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ) فالباء هنا متعلقة بـ (ﮈ) أي: إن النبيين والربانيين والأحبار يحكمون بما في التوراة؛ لأنهم حملوا أمانة حفظ كتاب الله، بحيث لا يضيعونه، ولا يهملون أحكامه، وقد يقال: إنها متعلقة بالربانيين والأحبار، على معنى أنهم أوتوا هاتين المنزلتين منزلة الربانية والعلم، بسبب أنهم حملوا أمانة الكتابة.
و(ﮒ) بالبناء للمجهول فيه بيان أنهم بمقتضى ما منحوا من صفات عهد إليهم أمر المحافظة على كتاب الله المنزل على نبيه، والمراد بكتاب الله هنا التوراة، وعبر عنها بكتاب الله تعالى للإشارة إلى منزلتها إبان نزولها قبل تحريفها، وإلى شرف من يقومون بحفظها، وإلى مكان التكليفات والأحكام التي اشتملت عليها.
والاستحفاظ هو الحفظ المطلوب؛ إذ إن السين والتاء للطلب، والمعنى: إن الربانيين والأحبار حفظوا كتاب الله تعالى بإلهامهم طلب الحق والعلم، وتوجيههم نحو الخير، وكان حفظهم مؤكدًا؛ لأنه استجابة لطلب الله تعالى الخبير، وحفظ الكتاب بعلم ما اشتمل عليه، ومنعه من الضياع والتحريف، وتنفيذ الأحكام التي يأمر بها، وطاعته فيما ينهى.
وكان أولئك الربانيون والأحبار شهداء، أي رقباء، يحافظون على نصوصه كاملة، ويشهدون بصدق ما نزل من عند الله، ويردون المحرف، وكانوا أيضًا رقباء على تنفيذه، بحيث ينفذ من غير عوج123.
وكذلك في تسمية القرآن بهذين الاسمين: القرآن والكتاب إشارة إلى أن من حقه العناية بحفظه في موضعين لا في موضع واحد، أي: أنه يجب حفظه في الصدور والسطور جميعًا، فلا ثقة لنا بحفظ حافظ حتى يوافق الرسم المجمع عليه من الأصحاب، المنقول إلينا جيلًا بعد جيل، على هيئته التي وضع عليها أول مرة، ولا ثقة لنا بكتابة كاتب حتى يوافق ما هو عند الحفاظ بالإسناد الصحيح المتواتر.
وبهذه العناية المزدوجة التي بعثها الله في نفوس الأمة المحمدية؛ اقتداء بنبيها بقي القرآن محفوظًا في حرز حريز، إنجازًا لوعد الله الذي تكفل بحفظه، حيث يقول: (ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ) [الحجر:٩].
ولم يصبه ما أصاب الكتب الماضية من التحريف والتبديل وانقطاع السند، فإن الله لم يتكفل بحفظها، بل وكلها إلى حفظ الناس، فقال تعالى: (ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ) [المائدة:٤٤].
أي: بما طلب إليهم حفظه124.
والمقصود: إن في ذكر هذه الشروط في الكاتب والكتابة إرشادًا من الله للمسلمين أن يكون فيهم هذا الصنف من الكُتَّاب القادرين على الكتابة، فيما فيه مصلحة الناس؛ لأن الموضوع هام لتعلقه بحفظ الحقوق، ولا سيما لدى الأميين الذين خوطبوا به أولًا.
ولهذا قال: (ﭜ ﭝ ﭞ ﭟﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ) [البقرة:٢٨٢].
ففي هذا النص بيان لكيفية الكتابة المأمور بها، وتعيين من يتولاها، عقب الأمر بها على سبيل الإجمال.
أي: عليكم أيها المؤمنون إذا تعاملتم بالدين إلى أجل معين أن تكتبوا هذا الدين؛ وليتول الكتابة بينكم شخص يجيدها وعنده فقهها وعلمها، بأن يكون على معرفة بشروط العقود وتوثيقها، وما يكون من الشروط موافقًا لشريعة الإسلام، وما يكون منها غير موافق، وعلى هذا الكاتب أن يلتزم الحق مع الدائن والمَدين في كتابته؛ لأن الله تعالى يقول: (ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ) [المائدة:٨].
فالجملة الكريمة تحض المتعاملين بالدين أن يختاروا لكتابته شخصًا تتوافر فيه إجادة الكتابة، والخبرة بشروط العقود وتوثيقها، كما تتوافر فيه الاستقامة، وتحري الحق، ومفعول (ﭥ) محذوف ثقة بانفهامه، أي: وليكتب بينكم الكتابة كاتب بالعدل، والتقييد بالظرف (ﭝ) للإيذان بأنه ينبغي للكاتب ألا يسمح لنفسه بأن ينفرد به أحد المتعاقدين؛ لأن في هذا الانفراد تهمة يجب أن يربأ بنفسه عنها125.
أساليب القرآن في الحث على الكتابة
تظهر أهمية وقيمة الكتابة في اعتناء القرآن الكريم بالحديث عنها، حيث تنوعت أساليب القرآن الكريم في عرضه لهذا الموضوع، والدعوة إليه، ومن هذه الأساليب ما يأتي:
أولًا: القَسَمُ بالمكتوب والأداة:
من أساليب القرآن في الحث على الكتابة القسم بالمكتوب، وأداة الكتابة التي هي القلم، قال تعالى: (ﮉﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ) [القلم:١].
فأقسم تعالى بالقلم الذي يكتب الناس به العلوم والمعارف، فإن القلم أخو اللسان، ونعمة من الرحمن على عباده، والمعنى: أقسم بالقلم، وما يكتبه الكاتبون على صدق محمد وسلامته مما نسبه إليه المجرمون من السفه والجنون.
وفي القسم بالقلم والكتابة إشادة بفضل الكتابة والقراءة، فالإنسان من بين سائر المخلوقات خصه الله بمعرفة الكتابة؛ ليفصح عما في ضميره.
وحسبك دليلًا على شرف القلم أن الله أقسم به في هذه السورة تمجيدًا لشأن الكاتبين، ورفعًا من قدر أهل العلم، ففي القلم البيان كما في اللسان، وبه قوام العلوم والمعارف126.
قال ابن كثير: والظاهر من قوله تعالى: (ﮋ ﮌ ﮍ) أنه جنس من القلم الذي يكتب به، وهو قَسَم منه تعالى لتنبيه خلقه على ما أنعم به عليهم من تعليم الكتابة التي بها تنال العلوم؛ ولهذا قال: (ﮌ ﮍ) قال ابن عباس ومجاهد وقتادة: يعني: وما يكتبون127.
أما الطبري فقد قال: وأما القلم فهو القلم المعروف، غير أن الذي أقسم به ربنا من الأقلام القلم الذي خلقه الله تعالى ذكره، فأمره فجرى بكتابة جميع ما هو كائن إلى يوم القيامة128.
وقد أطال ابن القيم في شرح فوائد القلم، وبيان عظمته، حيث قال: فأقسم بالكتاب وآلته، وهو القلم الذي هو إحدى آياته، وأول مخلوقاته الذي جرى به قدره وشرعه، وكتب به الوحي، وقيد به الدين، وأثبتت به الشريعة، وحفظت به العلوم، وقامت به مصالح العباد في المعاش والمعاد، فوطدت به الممالك، وأمنت به السبل والمسالك، وأقام في الناس أبلغ خطيب، وأفصحه وأنفعه لهم وأنصحه، وواعظًا تشفي مواعظه القلوب من السقم، وطبيبًا يبرئ بإذنه من أنواع الألم، يكسر العساكر العظيمة على أنه الضعيف الوحيد، ويخاف سطوته وبأسه ذو البأس الشديد، بالأقلام تدبر الأقاليم، وتساس الممالك، والعلم لسان الضمير يناجيه بما استتر عن الأسماع، فينسج حلل المعاني في الطرفين، فتعود أحسن من الوشي المرقوم، ويودعها حكمه فتصير بوادر الفهوم والأقلام نظام الأفهام، وكما أن اللسان بريد القلب، فالقلم بريد اللسان، ويولد الحروف المسموعة عن اللسان كتولد الحروف المكتوبة عن القلم، والقلم بريد القلب ورسوله وترجمانه ولسانه الصامت129.
ثم عقد فصلًا في مراتب الأقلام، فجعلها اثني عشر قلمًا.
أولها: وأعلاها وأجلها قدرًا قلم القدر السابق الذي كتب الله به مقادير الخلائق، وقد أقسم به إعظامًا له.
ثانيها: قلم الوحي، يكتب به وحي الله تعالى إلى رسله وأنبيائه.
ثالثها: قلم الفقهاء والمفتين، ويتلوه على الترتيب التنازلي: قلم طب الأبدان، وقلم التوقيع عن الملوك والساسة، وقلم الحساب تضبط به الأموال، وقلم الحكم تثبت به الحقوق، وتنفذ القضايا، وقلم الشهادة تحفظ به الحقوق، وتصان عن الإضاعة، وقلم تعبير الرؤيا، ووحي المنام، وقلم التاريخ، وقلم اللغة، يشرح معاني ألفاظها ونحوها وتصريفها، وأسرار تراكيبها، ثم القلم الجامع، وهو قلم الرد على المبطلين130.
وقد أكثر الحكماء والبلغاء في وصف القلم ونفعه، فقال ابن الهيثم: من جلالة القلم أنه لم يكتب الله تعالى كتابًا إلا به؛ لذلك أقسم الله تعالى به، وقيل: الأقلام مطايا الفطن، ورسل الكرام، وقيل: البيان اثنان: بيان لسان، وبيان بنان، وفضل بيان البنان أن ما تثبته الأقلام باقٍ على الأيام، وبيان اللسان تدرسه الأعوام، وقال بعض الحكماء: قوام أمور الدين والدنيا شيئان: القلم والسيف، والسيف تحت العلم، وفيه يقول ابن الرومي131:
إن يخدم القلم السيف الذي خضعت
له الرقاب ودانت حذره الأمم
فالموت والموت لا شيء يغالبه
ما زال يتبع ما يجرى به القلم
كذا قضى الله للأقلام مذ بريت
إن السيوف لها مذ أرهفت خدم132
ومنه قول أبي الفتح البستي133:
إذا أقسم الأبطال يومًا بسيفهم
وعدوه مما يكسب المجد والكرم
كفى قلم الكتاب عزًّا ورفعة
مدى الدهر أن الله أقسم بالقلم
وفي القسم بما يسطر الكاتبون بالقلم إشارة إلى أن هذه الأداة المكرمة ينبغي ألا يكتب بها إلا ما كان من الحق والخير، وإلا ما كان دعوة إلى هدى وتوجيهًا إلى خير.
إنه أداة تسجيل العلوم والمعارف وحفظها، وهو ينقل عن الإنسان نتاج تفكيره، وثمرات عقله، ويقيم له بهذا ذكرًا خالدًا في الحياة، بقدر ما يحمل القلم عنه من خير، وما ينشر من نفع، فكان لهذا جديرًا بأن يصان من أن يخط باطلًا، أو يسجل لغوًا134.
قال ابن عاشور: وأكد ذلك بالقسم بما هو من مظاهر حكمة الله تعالى في تعليم الإنسان الكتابة، فتضمن تشريف حروف الهجاء والكتابة والعلم؛ لتهيئة الأمة لخلع دثار الأمية عنهم، وإقبالهم على الكتابة والعلم؛ لتكون الكتابة والعلم سببًا لحفظ القرآن، ومن فوائد هذا القسم أن هذا القرآن كتاب الإسلام، وأنه سيكون مكتوبًا مقروءًا بين المسلمين؛ ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر أصحابه بكتابة ما يوحى به إليه، وتعريف القلم تعريف الجنس، فالقسم بالقلم لشرفه بأنه يكتب به القرآن، وكتبت به الكتب المقدسة، وتكتب به كتب التربية ومكارم الأخلاق والعلوم، وكل ذلك مما له حظ شرف عند الله تعالى135.
ومن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى: (ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ) [الطور:١-٣].
فأقسم الله تعالى ها هنا فقال: (ﮠ ﮡ) والمسطور: المكتوب136.
و(ﮣ ﮤ) متعلق بمسطور، أي: مكتوب في رق، والرق: الجلد الرقيق، يكتب فيه، وقال الراغب: الرق ما يكتب فيه، شبه الكاغد137. فهو أعم من كونه جلدًا وغيره (ﮥ) أي: مبسوط، مهيأ للقراءة138.
والمراد بالمسطور أيضًا أنه: متقن الكتابة بسطور مصفوفة، في حروف مرتبة، جامعة لكلمات متفقة139.
وفي وصف الكتاب بأنه مسطور أيضًا إشارة إلى أنه مكتوب كتابة في أسطر على نحو ما يكتب الكاتبون.
وفي وصفه بأنه في رق منشور إشارة أخرى إلى أنه خفيف الحمل، سهل التداول، وأنه منشور، أي: مفتوح للقارئين، غير مطوي عنهم.
وفي هذا كله تنويه بالكتابة، ورفع لقدرها، وأنها باب واسع من أبواب العلم، وطريق فسيح من طرق المعرفة.
وليس هذا بالأمر المستغرب من رسالة افتتحت بهذا الأمر من رب العالمين إلى النبي الأمي في قوله تعالى: (ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ) [العلق ١-٥].
ثم تلا هذا الأمر قَسَمٌ بالكتابة، وأدواتها من حروف وأقلام، فقال تعالى: (ﮉﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ) [القلم:١].
فالكتابة نعمة من نعم الله العظمى على الإنسان، تكمل بها نعمة الكلمة التي وضعها سبحانه وتعالى في فم الإنسان، فلا عجب إذن أن يقسم الله سبحانه وتعالى بالكتاب من حيث هو جنس عام لكل ما يكتب، وأن ينظمه في نسق واحد، مع هذه المعالم المباركة التي أقامها الله سبحانه هدى ورحمة للناس، كالطور، والبيت المعمور، والسقف المرفوع، والبحر المسجور140.
ومما يستفاد أيضًا من تسميته رقًّا: أنه مرقق، وقد غلب الاستعمال على هذا الذي هو من جلود الحيوان141.
ومما يفيده وصف الكتاب بالمسطور أيضًا: أنه متسق الكتابة، منتظم الحروف، مرتب المعاني، فالمراد بالكتاب المكتوب، وبالمسطور: الذي سطرت حروفه وكلماته تسطيرًا جميلًا حسنًا، والأظهر أن المقصود به القرآن الكريم؛ لأن الله تعالى قد أقسم به كثيرًا.
فوصف الكتاب بثلاث صفات:
والمقصود: أن من أساليب القرآن في الحث على الكتابة: أنه أقسم بأداتها، وهي القلم، وما يكتبه ويسطره من كتابات، فقال: (ﮉﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ) [القلم:١].
فالآية لفتت إلى سر القلم من حيث هو أداة الكتابة التي يدون بها العلم ويحفظ، وينتقل على امتداد الزمان والمكان، وتتابع الأجيال، ولا يتسع المقام لكل ما عده المفسرون من شرف القلم، وفوائد الكتابة، على أن يظل للبيان القرآني دلالته في لفت النبي الأمي والعرب الأميين إلى جلال القلم، آية من آيات الخالق الذي خلق الإنسان من علق، وعلمه ما لم يكن يعلم، بما تعني من اختصاص الإنسان دون سائر الكائنات بالقلم، وكسب العلم، وهذا من الخصائص الإنسانية التي يضيف إليها الوحي من بعد ذلك ما يجلوها ويزيدها بيانًا؛ إذ يجعل العلم مناط تكريم آدم الإنسان الأول، وحقه في الخلافة في الأرض، ويسوق الآيات، ويضرب الأمثال للذين يعلمون، ويقصر خشيته تعالى على العلماء144.
ثانيًا: الأمر بالكتابة:
ومن أساليب القرآن في الحث على الكتابة الأمر بها، وقد سبق الكلام على قوله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ) [البقرة:٢٨٢].
ففي قوله: (ﭚ) وقوله: (ﭜ) أمران اثنان بالكتابة، وفي ذلك حث على تعلم الكتابة؛ إذ لا يتم امتثال الأمر بالكتابة إلا بتعلمها.
فشرعت الكتابة لحفظ ما يقع بين المتعاقدين إلى حلول الأجل؛ لأن النسيان يقع كثيرًا في المدة التي بين العقد، وحلول الأجل، وقد تطرأ عوارض من موت أو غيره، فشرع الله الكتابة لحفظ المال، وضبط الواقع، كما أنها شرعت لحفظ العلم وتقييده، ونقل العلوم من جيل إلى جيل.
وقد ذكر السعدي رحمه الله من فوائد آية الدين: أن فيها مشروعية كون الإنسان يتعلم الأمور التي يتوثق بها المتداينون كل واحد من صاحبه؛ لأن المقصود من ذلك التوثق والعدل، وما لا يتم المشروع إلا به فهو مشروع.
وفيها: أن تعلم الكتابة مشروع، بل هو فرض كفاية؛ لأن الله أمر بكتابة الديون وغيرها، ولا يحصل ذلك إلا بالتعلم145.
وظاهر هذه الآية الكريمة أن كتابة الدين واجبة؛ لأن الأمر من الله يدل على الوجوب؛ ولكنه أشار إلى أنه أمر إرشاد لا إيجاب بقوله: (ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ) [البقرة:٢٨٣] الآية؛ لأن الرهن لا يجب إجماعًا، وهو بدل من الكتابة عند تعذرها في الآية، فلو كانت الكتابة واجبة لكان بدلها واجبًا، وصرح بعدم الوجوب بقوله: (ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ) [البقرة:٢٨٣] الآية.
فالتحقيق أن الأمر في قوله: (ﭚ) للندب والإرشاد؛ لأن لرب الدَّيْن أن يهبه ويتركه إجماعًا، فالندب إلى الكتابة فيه إنما هو على جهة الحيطة للناس146.
ورجح ابن عاشور أن الأمر بالكتابة هنا للوجوب، فقال: والقصد من الأمر بالكتابة التوثق للحقوق، وقطع أسباب الخصومات، وتنظيم معاملات الأمة، وإمكان الاطلاع على العقود الفاسدة، والأرجح أن الأمر للوجوب، فإنه الأصل في الأمر، وقد تأكد بهذه المؤكدات.
وأن قوله: (ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ) الآية، رخصة خاصة بحالة الائتمان بين المتعاقدين، فإن حالة الائتمان حالة سالمة من تطرق التناكر والخصام؛ لأن الله تعالى أراد من الأمة قطع أسباب التهارج والفوضى، فأوجب عليهم التوثق في مقامات المشاحنة؛ لئلا يتساهلوا ابتداء، ثم يُفْضوا إلى المنازعة في العاقبة، ويظهر لي أن في الوجوب نفيًا للحرج عن الدائن إذا طلب من مدينه الكتب؛ حتى لا يَعُدَّ المدين ذلك من سوء الظن به، فإن في القوانين معذرة للمتعاملين.
وقال ابن عطية: الصحيح عدم الوجوب؛ لأن للمرء أن يهب هذا الحق ويتركه بإجماع، فكيف يجب عليه أن يكتبه، وإنما هو ندب للاحتياط147.
قال ابن عاشور: وهذا كلام قد يروج في بادئ الرأي؛ ولكنه مردود بأن مقام التوثق غير مقام التبرع، ومقصد الشريعة تنبيه أصحاب الحقوق حتى لا يتساهلوا، ثم يندموا، وليس المقصود إبطال ائتمان بعضهم بعضًا، كما أن من مقاصدها دفع موجدة الغريم من توثق دائنه إذا علم أنه بأمر من الله، ومن مقاصدها قطع أسباب الخصام148.
والمقصود: أن في هذا الأمر الإلهي بالكتابة دعوة إلى تعلمها، سواء كان أمرًا على الوجوب، أو على الندب، فالقدر المشترك بينهما طلب حصول الفعل، وهو الكتابة، وفي هذا حثٌ عليها، وطلبٌ لها.
ثالثًا: الثناء على أهل الكتابة:
ومن أساليب القرآن في الحث على الكتابة، الثناء على أهلها، فقد وصف الله تعالى الملائكة بأنهم كاتبون، فقال: (ﮃ ﮄ ﮅ) [الانفطار:١١].
والمراد بكونهم كاتبين، أي: أنهم قائمون على كتابة أعمال العباد، بأمر الله لهم.
ومما تجدر الإشارة إليه أن في وصف الحفظة هنا بهذه الصفات من كونهم حافظين، كرامًا، كاتبين، يعلمون، دليلًا على أنه اجتمع لهم كل صفات التأهيل، من حفظٍ، وعلو منزلةٍ، وعلم بما يكتبون؛ وكأنه توجيه لما ينبغي لولاة الأمور مراعاته في استكتاب الكُتَّاب والأمناء؛ ولذا قالوا: على القاضي أن يتخير كاتبًا أمينًا، حسن الخط، فاهمًا، ومن هذا الوصف يعلم أنه لا يختلط عليهم عمل يعمل، وكونهم حفظة لا يضيعون شيئًا، ولو كان مثقال ذرة149.
وفي تعظيم الكتبة بالثناء عليهم تعظيم لأمر الجزاء، وأنه عند الله من جلائل الأمور؛ ولولا ذلك لما وكل بضبط ما يحاسب عليه، ويجازي به الملائكة الكرام الحفظة الكتبة، وفيه إنذار وتهويل، وتشوير للعصاة150، ولطف للمؤمنين، وعن الفضيل أنه كان إذا قرأها قال: ما أشدها من آية على الغافلين151.
فالكرم صفتهم النفسية الجامعة للكمال في المعاملة، وما يصدر عنهم من الأعمال، وأما صفة الكتابة فمراد بها ضبط ما وكلوا بحفظه ضبطًا لا يتعرض للنسيان، ولا للإجحاف ولا للزيادة.
وأما صفة العلم بما يفعله الناس فهو الإحاطة بما يصدر عن الناس من أعمال، وما يخطر ببالهم من تفكير، مما يراد به عمل خير أو شر، وهو الهم.
واعلم أنه ينتزع من هذه الآية أن هذه الصفات الأربع هي عماد الصفات المشروطة في كل من يقوم بعمل للأمة في الإسلام من الولاة وغيرهم، فإنهم حافظون لمصالح ما استحفظوا عليه، وأول الحفظ الأمانة، وعدم التفريط.
فلا بد فيهم من الكرم، وهو زكاء الفطرة، أي: طهارة النفس، ومن الضبط فيما يجري على يديه، بحيث لا تضيع المصالح العامة ولا الخاصة، بأن يكون ما يصدره مكتوبًا، أو كالمكتوب مضبوطًا لا يستطاع تغييره، ويمكن لكل من يقوم بذلك العمل بعد القائم به، أو في مغيبه أن يعرف ماذا أجري فيه من الإعمال، وهذا أصل عظيم في وضع الملفات للنوازل والتراتيب، ومنه نشأت دواوين القضاة، ودفاتر الشهود، والخطاب على الرسوم، وإخراج نسخ الأحكام والأحباس وعقود النكاح.
ومن إحاطة العلم بما يتعلق بالأحوال التي تسند إلى المؤتمن عليها، بحيث لا يستطيع أحد من المخالطين لوظيفة أن يموه عليه شيئًا، أو أن يلبس عليه حقيقة؛ بحيث ينتفي عنه الغلط والخطأ في تمييز الأمور بأقصى ما يمكن152.
ومن الترغيب بالكتابة مدح الكتاب المكتوب، وانظر إلى قول الله تعالى على لسان بلقيس: (ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ) [النمل:٢٩].
فسليمان عليه السلام كتب كتابًا: من عبد الله سليمان بن داود، إلى بلقيس ملكة سبأ: بسم الله الرحمن الرحيم، السلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فلا تعلوا علي، وأتوني مسلمين.
قال ابن جريج: لم يزد سليمان على ما قص الله في كتابه -يعني أنه كان كتابًا مختصرًا- وقال قتادة: وكذلك كل الأنبياء كانت تكتب جملًا، لا يطيلون، ولا يكثرون، فلما كتب الكتاب طبعه بالمسك، وختمه بخاتمه، فقال للهدهد: (ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ) [النمل:٢٨].
قال عطاء والضحاك: سمته كريمًا لأنه كان مختومًا، وقال قتادة ومقاتل: (ﮣ ﮤ) أي: حسن، وهو اختيار الزجاج، وقال: حسن ما فيه، وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما: (ﮤ) أي: شريف لشرف صاحبه، وقيل: سمته كريمًا؛ لأنه كان مصدرًا ببسم الله الرحمن الرحيم، ثم بينت ممن الكتاب، فقالت: (ﮦ ﮧ ﮨ)153.
وقيل: كريم مضمونه، وقيل: كريم حيث أتى به طير154. أو لأنه من عند ملك كريم155.
والمقصود: وصفته بالكرم؛ لكرم مضمونه وشرفه، أو لكرم مرسله، وعلو منزلته، وعلمت ذلك بالسماع، أو بكون كتابه مختومًا باسمه على عادة الملوك والعظماء، أو بكون رسوله به الطير، أو لبداءته باسم الله عز وجل، أو لغرابة شأنه ووصوله إليها على منهاج غير معتاد، وقيل: إن ذلك لظنها إياه بسبب أن الملقي له طير أنه كتاب سماوي، وليس ذلك بشيء156. انتهى من روح المعاني مختصرًا.
أما: لم قدم سليمان اسمه على اسم الله؟ فالجواب: أنها لما وجدت الكتاب على وسادتها، ولم يكن لأحد إليها طريق، ورأت الهدهد علمت أنه من سليمان، وحين فتحت الكتاب رأت التسمية؛ ولذلك قالت ما قالت، أو لعل سليمان كتب على عنوان الكتاب (ﮦ ﮧ ﮨ) فقرأت عنوانه أولًا، ثم أخبرت بما في الكتاب، أو لعل سليمان قصد بذلك أنها لو شتمت لأجل كفرها، حصل الشتم لسليمان لا لله تعالى157.
والمقصود: أنها مدحت كتاب سليمان عليه السلام بالكرم والشرف، وفي هذا ترغيب بالكتابة، وبخاصة إذا كانت ذا مضمون شريف، وهدف نبيل كهذا الكتاب الذي كان الهدف منه الدعوة إلى الله، ونشر دينه، وإعلاء كلمته.
ومما يؤكد هذا المعنى أيضًا قول الله تعالى عن عيسى عليه السلام: (ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ) [المائدة:١١٠].
فقوله: (ﭹ ﭺ ﭻ) أي: الإنجيل الذي أنزلته عليك بعد أن علمتك الكتابة والقراءة، تتلو عليهم، وقيل: إنه علمه كتب الأولين النازلة على الأنبياء قبله؛ لأن فيها التوراة، مع أن التوراة ستأتي بعد؛ ولهذا فالأحسن الإيراد بالكتاب هنا الكتابة بالقلم158.
ففي هذا امتنان من الله تعالى على عيسى عليه السلام بتعليمه الكتابة، وفي هذا ترغيب بها، ودعوة إليها.
رابعًا: النهي عن الامتناع عن الكتابة:
ومن أساليب القرآن في الحث على الكتابة، النهي عن الامتناع عنها لمن احتيج إلى كتابته، وكان قادرًا عالمًا بالكتابة، قال تعالى: (ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ) [البقرة:٢٨٢].
وفي هذا نهي عن الامتناع عن الكتابة، وترغيب فيها.
و(ﭣ) نكرة في سياق النهي فتعم159. ثم النهي عن الامتناع عن الكتابة لكل كاتب إنما هو على سبيل الإرشاد والأولى؛ تحصيلًا لحاجة المسلم، وشكرًا لما علمه الله من كتابة الوثائق، فهو كقوله: (ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ) [القصص:٧٧].
وقيل: إنه على سبيل الإيجاب؛ ولكنه نسخ بقوله: (ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ)[البقرة:٢٨٢].
وقيل: إنه فرض كفاية، فإن لم يجد إلا كاتبًا واحدًا وجبت الكتابة عليه، وإن وجد أشخاصًا فالواجب كتابة أحدهم، وقيل: متعلق الإيجاب هو أن يكتب كما علمه الله، يعني أنه بتقدير: أن يكتب، فالواجب أن يكتب كما علمه الله، وأن لا يخل بشرط من الشروط، كيلا يضيع مال المسلم بإهماله -وقد سبق الإشارة إلى هذه الأوجه-.
والحاصل: أن من أساليب القرآن في الحث على الكتابة، والترغيب فيها، النهي لمن يعرف الكتابة أن يمتنع عن كتابة الدين أو غيره من مصالح المسلمين إذا دعي إلى كتابته، فقد أنعم الله عليه بأن علمه ما لم يكن يعلم، فلينفق من هذا الرزق الذي رزقه الله إياه في سبيل الخير، فذلك من زكاة هذه النعمة.
وفي قوله تعالى: (ﭪ) أمر آخر بالكتابة، يتوجه إلى من يحسنها، ويؤكد الواجب المدعو إليه في تلك الحال، فإن تخلى عنه كان ذلك منه عصيانًا عن عمد، وتحديًا صريحًا لأمر الله الذي بلغه في أبلغ بيان وآكده، بالأمر به، ثم بالنهي عن مخالفته، ثم بالأمر به مرة أخرى.
موضوعات ذات صلة: |
الأمية، الدَين، العلم، القدر، القرآن، القراءة |
1 مقاييس اللغة، ابن فارس ٥/١٥٨.
2 أنيس الفقهاء، القونوي ص٦١.
3 مقاييس اللغة، ابن فارس ٥/١٥٨.
4 أنيس الفقهاء، القونوي ص٦١.
5 أنيس الفقهاء، القونوي ص٦١.
6 لسان العرب، ابن منظور ١/٧٠٠.
7 دستور العلماء، الأحمد نكري ٣/٨٣-٨٤.
8 الكليات ص ٧٦٧.
9 معجم لغة الفقهاء، قلعجي ص ٣٧٧.
10 انظر: المعجم المفهرس الشامل لألفاظ القرآن، عبد الله جلغوم، ص١٠٠٤-١٠١٠.
11 انظر: الوجوه والنظائر، الدامغاني ص٣٩٢، نزهة الأعين النواظر، ابن الجوزي ص٥١٤.
12 أنيس الفقهاء، القونوي ص ٢٤.
13 مختار الصحاح، الرازي ص ٢٤٩.
14 أساس البلاغة، الزمخشري ٢/٦٣.
15 مقاييس اللغة، ابن فارس ٣/٧٢-٧٣.
16 المصباح المنير، الفيومي ١/٢٧٦.
17 تاج العروس، الزبيدي ١٢/٢٤.
وانظر: تفسير عبد الرزاق ٣/٣٢٩.
18 التفسير القرآني للقرآن، الخطيب ١٤/٥٤٣.
19 جمهرة اللغة، ابن دريد ١/١٠٥.
20 أساس البلاغة، الزمخشري ١/٢٥٦.
21 التعريفات، الجرجاني ص ٩٩.
22 دستور العلماء، الأحمد نكري ٢/٥٨.
23 القاموس المحيط، الفيروزآبادي ص ٦٦٥.
24 انظر: صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة، علوي السقاف ص ٢٨٩.
25 فتح الباري، ابن حجر ٦/٢٩١.
26 صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة، علوي السقاف ص ٢٨٩.
27 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب القدر، باب حجاج آدم وموسى، عليهما السلام ٤/٢٠٤٢، رقم ٢٦٥٢.
28 جامع البيان، الطبري ١٤/٢٩٠.
29 غرائب القرآن، النيسابوري ٣/٤٨٢.
30 لباب التأويل، الخازن ٢/٣٧٠.
31 أخرجه الترمذي في سننه، أبواب صفة القيامة والرقائق والورع، ٤/٦٦٧، رقم ٢٥١٦، وأحمد في مسنده، ٤/٤٠٩، رقم ٢٦٦٩.
وصححه الألباني في مشكاة المصابيح، ٣/١٤٥٩، رقم ٥٣٠٢.
32 جامع البيان، الطبري ٢٣/١٩٥.
33 أخرجه أبو داود في سننه، كتاب السنة، باب في القدر، ٤/٢٢٥، رقم ٤٧٠٠.
وصححه الألباني في صحيح الجامع، ١/٤٠٥، رقم ٢٠١٨.
34 تفسير القرآن الكريم، ابن عثيمين، الحجرات - الحديد ص ٤١٢-٤١٣.
35 تفسير القرآن الكريم، ابن عثيمين، الحجرات - الحديد ص ٤١٢-٤١٣.
36 أخرجه البخاري معلقًا ٨/١٢٢ عن أبي هريرة قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: جف القلم بما أنت لاق.
37 مفاتيح الغيب، الرازي ١٣/١٢.
38 التسهيل لعلوم التنزيل، ابن جزي ٢/٣٤٨.
39 فتح القدير، الشوكاني ٣/١٠٥.
40 أخرجه البخاري معلقًا ٨/١٢٢ عن أبي هريرة قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: جف القلم بما أنت لاق.
41 التفسير الوسيط، طنطاوي ٧/٤٩٥.
42 معالم التنزيل، البغوي ٥/١٠١.
43 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٦/٣٨٢.
44 جامع البيان، الطبري ١٤/٦٤.
45 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: (بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ)، ٩/١٦٠، رقم ٧٥٥٣، ومسلم في صحيحه، كتاب التوبة، باب في سعة رحمة الله تعالى وأنها سبقت غضبه ٤/٢١٠٨، رقم ٢٧٥١.
46 اللباب في علوم الكتاب، ابن عادل ٩/٥٧٣.
47 جامع البيان، الطبري ٢٢/٤٩٣.
48 فتح القدير، الشوكاني ٤/٤٧٧.
49 شرح كتاب الإبانة من أصول الديانة ٤٢/٢.
50 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٤/٢٩٤.
51 تفسير المنار، محمد رشيد رضا ٤/٢١٦.
52 تفسير الشعراوي ٣/١٩١١ بتصرف.
53 زهرة التفاسير ٣/١٥٢٨.
54 زاد المسير ١/٤٣٨.
55 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٢/٣٦٤.
56 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٦/٥٦٥.
57 الكشاف، الزمخشري ٤/٧.
58 تفسير السمعاني ٤/٣٧٠.
59 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٦/٥٦٨.
60 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٢٢/٣٥٧.
61 السراج المنير، الشربيني ٣/٣٤٠.
62 محاسن التأويل، القاسمي ٩/١٦ بتصرف.
63 التفسير الحديث، محمد عزت ٢/٢٣٣ بتصرف.
64 مفاتيح الغيب، الرازي ٢٩/٣٣٠ بتصرف.
65 تفسير القرآن الكريم، ابن عثيمين، الحجرات - الحديد ص٢٩٥.
66 انظر: تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص ٩٥٩.
67 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص ١١٨.
68 تفسير ابن عرفة ٢/٧٧٩.
69 لباب التأويل، الخازن ١/٢١٤.
70 تفسير الشعراوي ٢/١٢٢٢.
71 التفسير الوسيط، الزحيلي ١/١٦٢.
72 السراج المنير، الشربيني ١/١٨٩.
73 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الرهن، باب من رهن درعه، ٣/١٤٢، رقم ٢٥٠٩ دون ذكر اسم اليهودي.
74 بيان المعاني، العاني ٥/٢٦٣ بتصرف.
75 اللباب في علوم الكتاب، ابن عادل ١٤/٣٧٠.
76 فتح القدير، الشوكاني ٤/٣٤.
77 مفاتيح الغيب، الرازي ٢١/٣٧٣ بتصرف.
78 التفسير الوسيط، طنطاوي ١٥/٤٥٤.
79 أخرجه الطبراني في المعجم الكبير، ١٠/٨٩، رقم ١٠٠٤٦.
وضعفه الألباني في ضعيف الجامع ص ٥٠٨، رقم ٣٤٧٣.
80 روح البيان، إسماعيل حقي ١٠/٤٧٤.
81 هذا الأثر ذكره الرازي في تفسيره ٣٢/٢١٨ وابن عادل في اللباب ٢٠/٤١٥ والنيسابوري في غرائب القرآن ورغائب الفرقان ٦/٥٣٠ والخطيب الشربيني في السراج المنير ٤/٥٦١ ولم نجده في كتب السنة.
82 مفاتيح الغيب، الرازي ٣٢/٢١٨.
83 مفتاح دار السعادة ١/٢٧٨.
84 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص٩٣٠.
85 تأويلات أهل السنة، الماتريدي ١٠/٥٧٨ بتصرف.
86 انظر: تفسير القرآن الكريم، ابن عثيمين، جزء عم ص ٢٥٩.
87 البيتان نسبهما في إعانة الطالبين ٤/٥ للإمام مالك.
88 انظر: تأويلات أهل السنة، الماتريدي ١٠/٤٤٨.
89 تفسير المراغي ٧/١٤٨.
90 مفاتيح الغيب، الرازي ١٣/١٥.
91 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الطهارة، باب فضل الوضوء، ١/٢٠٣، رقم ٢٢٣.
92 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الدعوات، باب فضل التسبيح، ٨/٨٦، ٦٤٠٦، ومسلم في صحيحه، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب فضل التهليل والتسبيح والدعاء، ٤/٢٠٧٢، رقم ٢٦٩٤.
93 انظر: تفسير المنار، محمد رشيد رضا ٧/٤٠٣.
94 إرشاد العقل السليم، أبو السعود ٤/١٣٣.
95 أخرجه أبو الشيخ في العظمة ٣/٩٩٩، رقم ٥١٩.
وانظر: الدر المنثور، السيوطي ٧/٥٩٤.
96 انظر: روح البيان، حقي ٤/٣٠.
97 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٢٥/٢٦٣.
98 انظر: تفسير الراغب الأصفهاني ٣/١٣٤٦.
99 زاد المسير ٤/١٠٠-١٠١.
100 التحرير والتنوير ١٥/٤٨.
101 الكشاف، الزمخشري ٤/٣٨٤.
102 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب مواقيت الصلاة، باب فضل صلاة العصر، ١/١١٥، رقم ٥٥٥، ومسلم في صحيحه، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل صلاتي الصبح والعصر، والمحافظة عليهما، ١/٤٣٩، رقم ٦٣٢.
103 جامع البيان، الطبري ٦/٥١.
104 المصدر السابق ٥/٧٦.
105 انظر: إعراب القرآن وبيانه، درويش ١/٤٣٦.
106 انظر: مفاتيح الغيب، الرازي ٧/٩٢.
107 انظر: تفسير المنار، محمد رشيد رضا ٣/١٠٠.
108 التحرير والتنوير ٣/١٠١.
109 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص ٩٥٩.
110 زهرة التفاسير، أبو زهرة ٢/١٠٦٧.
111 أحكام القرآن، الجصاص ١/٥٨٧.
112 تفسير المراغي ٣/٧٣.
113 تفسير المنار، محمد رشيد رضا ٣/١٠١.
114 التحرير والتنوير ٣/١٠٢.
115 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب بيان كون الإيمان بالله تعالى أفضل الأعمال، ١/٨٩، رقم ٨٤.
116 أخرجه الترمذي في أبواب العلم، باب ما جاء في كتمان العلم، ٤/٣٢٦، رقم ٢٦٤٩، وابن ماجه في افتتاح الكتاب في الإيمان وفضائل الصحابة والعلم، باب من سئل عن علم فكتمه، ١/٩٨، رقم ٢٦٦.
قال الترمذي: حديث حسن.
وصححه الألباني في تعليقه على مشكاة المصابيح، ١/٧٧، رقم ٢٢٣.
117 الكشاف، الزمخشري ١/٣٢٥.
118 انظر: زهرة التفاسير، أبو زهرة ٢/١٠٦٩.
119 انظ: المصدر السابق ٢/١٠٦٧.
120 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب السلم، باب السلم في وزن معلوم، ٣/٨٥، رقم ٢٢٤٠، ومسلم في صحيحه، كتاب المساقاة، باب السلم، ٣/١٢٢٦، رقم ١٦٠٤.
121 أحكام القرآن، الجصاص ١/٥٨٧.
122 إرشاد العقل السليم، أبو السعود ٣/٤١.
123 انظر: زهرة التفاسير، أبو زهرة ٤/٢٢٠١.
124 انظر: علوم القرآن الكريم، نور الدين عتر ص ١٣.
125 انظر: التفسير الوسيط، طنطاوي ١/٦٤٥.
126 انظر: صفوة التفاسير، الصابوني ٣/٤٠١.
127 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٨/١٨٧.
128 جامع البيان، الطبري ٢٣/٥٢٦.
129 التبيان في أقسام القرآن، ابن القيم ص ٢٠٦-٢٠٧.
130 انظر:المصدر السابق ص ٢٠٨.
131 الأبيات في ديوانه، شرح أحمد حسن بسج ٣/٢٨٤.
132 الكشف والبيان، الثعلبي ١٠/٧.
133 البيت في ديوانه ص١٩٨-١٩٩.
134 التفسير القرآني للقرآن، الخطيب ١٥/١٠٧٨.
135 التحرير والتنوير ٢٩/٥٨.
136 جامع البيان، الطبري ٢٢/٤٥٤.
137 المفردات ص ٣٦١.
والكاغد: القرطاس، معربٌ.انظر: القاموس المحيط ص ٣١٥.
138 السراج المنير، الشربيني ٤/١١٠.
139 انظر: المصدر السابق.
140 التفسير القرآني للقرآن، الخطيب ١٤/٥٤٣.
141 روح البيان ٩/١٨٥.
142 روح المعاني، الألوسي ١٤/٢٨.
143 التفسير الوسيط، طنطاوي ١٤/٣٨.
144 انظر: التفسير البياني، بنت الشاطئ ٢/٢٣.
145 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص ١١٨.
146 أضواء البيان، الشنقيطي ١/١٨٤.
147 وعبارته: وهذا هو القول الصحيح، ولا يترتب نسخ في هذا، لأن الله تعالى ندب إلى الكتب فيما للمرء أن يهبه ويتركه بإجماع، فندبه إنما هو على جهة الحيطة للناس. المحرر الوجيز ١/٣٧٩.
148 التحرير والتنوير ٣/١٠٠-١٠١.
149 انظر: أضواء البيان، الشنقيطي ٨/٤٥١.
150 التشوير: التخجيل.
انظر: العين، الفراهيدي ٦/٢٨١.
151 الكشاف، الزمخشري ٤/٧١٦.
152 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٣٠/١٨٠-١٨١.
153 معالم التنزيل، البغوي ٣/٥٠١.
154 غرائب التفسير وعجائب التأويل، الكرماني ٢/٨٤٨.
155 مدارك التنزيل، النسفي ٢/٦٠٢.
156 روح المعاني، الألوسي ١٠/١٨٩.
157 غرائب القرآن، النيسابوري ٥/٣٠٣.
158 بيان المعاني، العاني ٦/٣٩٠.
159 البحر المحيط، أبو حيان ٢/٧٢٤.