عناصر الموضوع
الكره
أولا: المعنى اللغوي:
(«كره» الكاف والراء والهاء أصلٌ صحيحٌ واحد، يدل على خلاف الرضا والمحبة)1.
(وقيل: الكره: المشقة التي تنال الإنسان من خارج فيما يحمل عليه بإكراهٍ، والكره: ما يناله من ذاته وهو يعافه)2، (المكروه جمع مكاره، والمرأة مستكرهة أي: غصبت نفسها فأكرهت على ذلك، وحمل أمرا وهو له كاره، هو نقيض الحب، شيء كريه ومكروه وأكرهه عليه فتكارهه وتكره الأمر كرهه وأكرهته حملته على أمر هو له كاره وجمع المكروه مكاره وامرأة مستكرهة غصبت نفسها فأكرهت على ذلك وكره إليه الأمر تكريها صيره كريها إليه، نقيض حببه إليه، وما كان كريها ولقد كره كراهة، وأمر كريه: مكروه. ووجه كره وكريه: قبيح).3
وفي الحديث عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إسباغ الوضوء على المكاره)4، جمع مكره وهو ما يكرهه الإنسان ويشق عليه.
ومن خلال ما سبق تبين أن الكره يتمركز معناه اللغوي حول خلاف المحبة والرضا، والمشقة.
ثانيا: المعنى الاصطلاحي:
هو نفار النفس عن الشيء الذي ترغب عنه5.
والمتدبر في المعنيين يجد اتصالًا بينهما، حيث إن المعنى الاصطلاحي يعني نفار النفس عن الشيء الذي ترغب فيه، وهذا مرتبط بالمعنى اللغوي وهو عدم المحبة والرضا، فلا تنفر النفس عن شيء إلا لعدم محبتها ورضاها.
ووردت مادة (كره) في القرآن الكريم (٤١) مرة 6.
والصيغ التي وردت هي:
الصيغة |
عدد المرات |
المثال |
الفعل الماضي |
١٧ |
(ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ) [محمد:٩] |
الفعل المضارع |
٦ |
(ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ) [البقرة:٢١٦] |
المصدر |
١٠ |
(ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ) [الأحقاف:١٥] |
اسم الفاعل |
٧ |
(ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ) [المؤمنون:٧٠] |
اسم المفعول |
١ |
(ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ) [الإسراء:٣٨] |
الكره في اللغة بمعنى: المشقة، يدل على خلاف الرضا والمحبة7.
البغض:
البغض لغة:
البغض والبغضة نقيض الحب، والتباغض ضد التحاب ورجل بغيض، وقد بغض بغاضة وبغض فهو بغيض ورجل مبغض يبغض كثيرا، ويقال هو محبوب غير مبغض، وقد بغض إليه الأمر وما أبغضه إلي ولا يقال ما أبغضني له ولا ما أبغضه لي8.
البغض اصطلاحًا:
البغض: نفار النفس عن الشيء الذي ترغب عنه، وهو ضد الحب، فإن الحب انجذاب النفس إلى الشيء الذي ترغب فيه9.
الصلة بين الكره والبغض:
البغض من الألفاظ المقاربة لمعنى الكره، ولكن البغض أوسع، ويعبر عن شدة الكراهية، وتستعمل الكراهة فيما لا يستعمل في البغض10.
الإباء:
الإباء لغة:
مصدر من أبى يأبى، أي: امتنع، أبى الشيء يأباه إباء وإباءة11.
الإباء اصطلاحًا:
شدة الامتناع12.
الصلة بين الكره والإباء:
الإباء بمعنى شدة الامتناع، وهو من المعاني المقاربة للكره، فمن يكره شيئًا يأباه، فيمتنع عنه بشدة، ولكن من يأبى شيئا فليس من الضرورة أن يكرهه، كمن يمتنع عن أكل شيء معين، ولكن لا يكرهه13.
الإكراه:
الإكراه لغةً:
يقال: أكرهته، أي: حملته على أمرٍ هو له كارهٌ، والكره (بالفتح): المشقة، وبالضم: القهر، وقيل العكس، وأكرهته على الأمر إكراهًا: حملته عليه قهرًا. يقال: فعلته كرهًا «بالفتح» أي إكراهًا»14.
الإكراه اصطلاحًا:
الإكراه حمل الغير على ما يكرهه بالوعيد الشديد15.
الصلة بين الكره والإكراه:
الإكراه من الألفاظ المقاربة للكره، فالكره والإكراه بمعنى: الإجبار على فعل الشيء، ولكن إن كان الإجبار من الغير فيكون إكراها، وإن كان من الداخل فيكون كرها.
الحب:
الحب لغة:
(الحاء والباء، أصول ثلاثة، أحدهما اللزوم والثبات، والآخر الحبة من الشيء ذي الحب، والثالث وصف القصر)16.
الحب اصطلاحًا:
(انجذاب النفس إلى الشيء الذي ترغب فيه)17.
الصلة بين الحب والكره:
الحب من الألفاظ المقابلة للكره، فهما نقيضان، فالحب انجذاب النفس إلى الشيء المرغوب، والكره نفار النفس عن الشيء الذي ترغب عنه.
إن لله تعالى أسماء وصفات ثبتت في القرآن الكريم أو في سنة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم؛ والكره أحد هذه الصفات التي أثبتها الله في أكثر من آية، وكذلك أثبتها رسوله الكريم عليه الصلاة والسلام، فعلينا أن نثبت ما أثبته الله ورسوله بلا تعطيل ولا تثميل ولا تأويل، في دائرة قوله تعالى: (ﭡ ﭢ ﭣﭤ ﭥ ﭦ ﭧ) [الشورى:١١].
وردت صفة الكره في القرآن الكريم في ثلاثة مواضع:
وهناك أحاديث عدة أثبتت صفة الكره نذكر منها:
عن عبادة بن الصامت، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه)18.
وكتب معاوية إلى المغيرة بن شعبة أن اكتب إلي بشيء سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم فكتب إليه سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله كره لكم ثلاثا: قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال)19.
وانطلاقًا من قوله تعالى: (ﭡ ﭢ ﭣﭤ ﭥ ﭦ ﭧ) [الشورى:١١].
فإننا نثبت لله عز وجل صفة الكره كما يليق بجلاله وعظمته، إثباتا لما أثبته لنفسه، ولما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تعطيل ولا تمثيل ولا تأويل، وهذا هو مذهب السلف الصالح.
وفي ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (ومن الإيمان بالله الإيمان بما وصف به نفسه في كتابه وبما وصفه به رسوله من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل، بل يؤمنون بأن الله: (ﭡ ﭢ ﭣﭤ ﭥ ﭦ ﭧ) [الشورى:١١].
فلا ينفون عنه ما وصف به نفسه ولا يحرفون الكلم عن مواضعه ولا يلحدون في أسماء الله وآياته ولا يكيفون ولا يمثلون صفاته بصفات خلقه)20.
ومثل هذه الصفات التي هي في الحادث انفعالات نفسية كالمحبة والرحمة والرضا والغضب والكراهة، فالسلف يجرونها على ظاهرها مع تنزيه الله تعالى عن انفعالات المخلوقين، فيقولون: إن لله تعالى محبة تليق بشأنه ليست انفعالا نفسيا كمحبة الناس، والخلف يؤولون ما ورد من النصوص في ذلك فيرجعونه إلى القدرة أو إلى الإرادة فيقولون: الرحمة هي الإحسان بالفعل أو إرادة الإحسان، ومنهم من لا يسمي هذا تأويلا بل يقولون: إن الرحمة تدل على الانفعال الذي هو رقة القلب المخصوصة على الفعل الذي يترتب على ذلك الانفعال، وقالوا: إن هذه الألفاظ إذا أطلقت على البارئ تعالى يراد بها غايتها التي هي أفعال دون مباديها التي هي انفعالات، ولما كان العقل والنقل متفقين على تنزيه الله تعالى عن مشابهة البشر تعين أن نجمع بين النصوص فنقول: إن لله تعالى قدرة حقيقة ولكنها ليست كقدرة البشر، وإن له رحمة ليست كرحمة البشر، وهكذا نقول في جميع ما أطلق عليه تعالى جمعا بين النصوص، ولا ندعي أن إطلاق بعضها حقيقي وإطلاق البعض الآخر مجازي، فكما أن القدرة شأن من شئونه لا يعرف كنهه ولا يجهل أثره، كذلك الرحمة شأن من شئونه لا يعرف كنهه ولا يخفى أثره، وهذا هو مذهب السلف فهم لا يقولون إن هذه الألفاظ لا يفهم لها معنى بالمرة، ولا يقولون إنها على ظاهرها، بمعنى أن رحمة الله كرحمة الإنسان ويده كيده، وإن ظن ذلك في الحنابلة بعض الجاهلين، ومحققو الصوفية لا يفرقون بين صفات الله تعالى، ولا يجعلون بعضها محكما إطلاق اللفظ عليه حقيقي، وبعضها متشابها إطلاقه عليه مجازي، بل كل ما أطلق عليه تعالى فهو مجاز21.
إن أساس التفريق بين الكره الطبعي والكره العقلي أو الشرعي كان في مفردات القرآن للراغب ومن بعده جاء عالة عليه، وذلك حينما قال: على ضربين -الكره-:
أحدهما: ما يعاف من حيث الطبع.
والثاني: ما يعاف من حيث العقل أو الشرع.
ولهذا يصح أن يقول الإنسان في الشيء الواحد إني أريده وأكرهه بمعنى إني أريده من حيث الطبع وأكرهه من حيث الشرع، أو أريده من حيث العقل أو الشرع وأكرهه من حيث الطبع22.
فالكره الطبعي هو النفور الطبعي الجبلي عن الشيء، فكما أن الإنسان يحب أشياء بطبعه، كذلك يكره أشياء بطبعه، والله عز وجل هو الذي جبل البشر على الحب الطبعي والكره الطبعي، فلا تكتسب اكتسابا كالكره العقلي أو الشرعي، إذ العقل أو الشرع هو الذي يحدد ما يضره في الدنيا والآخرة، وذلك مثل كره الرجل القيام من نومه لصلاة الفجر أو قيام الليل، وكرهه الجهاد للتعرض للقتل أو الجرح أو القطع أو الضرب أو السجن، وكرهه إخراج شيء من ماله للغير، وكرهه الامتناع عن الطعام والشراب والجماع، فهذه الأمور كلها يكرهها الإنسان بطبعه، ولكن بما أن الله أمر بها فيتحول هذا الكره إلى عكسهن إرضاء لله عز وجل، لذلك عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (وحفت الجنة بالمكاره)23.
والكره الطبعي غير محاسب عليه الإنسان، أما العقلي أو الشرعي فمنه الكره المحمود والمذموم، فالذي لأجل الله هو كره محمود والذي لأجل الدنيا فهو كره مذموم، وسنفرق بإذن الله بينهما مع الأمثلة في مبحث خاص.
ومن خلال النظر والتدبر في الآيات التي تحدثت عن الكره، رأيت أنها فرقت بين الكره الطبعي والكره العقلي أو الشرعي:
أولا: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ) [البقرة:٢١٦].
الكره هنا كره طبعي؛ فالقتال مطبوع على كرهه وعدم حبه، وذلك لما فيه من المشقة على الجسم بما يحتمل تعرضه للجرح وبتر الأعضاء، والمشقة على النفس بذهابها، والمشقة بمفارقة الأهل والمال، فالنفس بطبعها تكرهه، ومع ذلك فالمسلم يحب حكم الله ولا يكرهه، وهذا أيضا مثل كره الزوجة من أن يتزوج عليها زوجها امرأة غيرها، وهي مع ذلك تحب حكم الله بالتعدد ولا تكرهه.
يقول د. صلاح الخالدي: تكليف القتال شاق على النفس، وقد تكرهه بعض النفوس وبخاصة ضعاف الإيمان، وقد تتباطأ وتتثاقل بعض النفوس وتتخلى عنه، ولكن النفس المؤمنة تنفر إليه وتقوم به رغم مشقته وصعوبته، فوصف القتال بالكره أي: أنه ثقيل وشاق لكنه مطلوب مراد من قبل المجاهدين الصادقين24.
وقال الزجاج: ومعنى كراهيتهم القتال أنهم إنما كرهوه على جنس غلظه عليهم ومشقته لا أن المؤمنين يكرهون فرض الله؛ لأن الله تعالى لا يفعل إلا ما فيه الحكمة والصلاح25.
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله في كتابه القيم مدارج السالكين: وليس من شرط الرضى ألا يحس بالألم والمكاره، بل ألا يعترض على الحكم ولا يتسخطه، ولهذا أشكل على بعض الناس الرضى بالمكروه، وطعنوا فيه: وقالوا: هذا ممتنع على الطبيعة، وإنما هو الصبر، وإلا فكيف يجتمع الرضى والكراهة؟ وهما ضدان، والصواب: أنه لا تناقض بينهما، وأن وجود التألم وكراهة النفس له لا ينافي الرضى، كرضى المريض بشرب الدواء الكريه، ورضى الصائم في اليوم الشديد الحر بما يناله من ألم الجوع والظمأ، ورضى المجاهد بما يحصل له في سبيل الله من ألم الجراح وغيرها26.
ويعرض سيد قطب في ظلال القرآن لحكمة الله من إيجاب القتال رغم مشقته وثقله إلى حكمة تهون هذه المشقة، فيقول: إن القتال في سبيل الله فريضة شاقة و لكنها فريضة واجبة الأداء، واجبة الأداء لأن فيها خيرا كثيرا للفرد المسلم وللجماعة المسلمة وللبشرية كلها وللحق والخير والصلاح، والإسلام يحسب حساب الفطرة فلا ينكر مشقة هذه الفريضة، ولا يهون من أمرها، ولا ينكر على النفس البشرية إحساسها الفطري بكراهيتها وثقلها ولكنه يعالج الأمر من جانب آخر ويسلط عليه نورا جديدا، إنه يقرر أن من الفرائض ما هو شاق مرير كريه المذاق، ولكن وراءه حكمة تهون مشقته، وتسيغ مرارته27.
لذا فثمة فرق بين من يكره القتال في سبيل الله ومن يقول القتال في سبيل الله هو أمر كريه، فالأول كره طبعي؛ فهو يكره ما يلحق بالقتال من الجرح والقطع والقتل، وهذه الكراهة كراهة طبعية جبلية، غير محاسب عليه، أما الثاني فالكره شرعي غير طبعي، لأنه يكره أمر الله عز وجل بغض النظر عن وجود أذى أو عدمه.
وفي قوله تعالى: (ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ)[البقرة:٢١٦].
وكذلك في قوله تعالى: (ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ) [النساء:١٩].
قاعدة إيمانية عظيمة في هدايتها وآثارها، مرتبطة بركن من أركان الإيمان الستة الذي لا يكتمل إيمان مسلم إلا به، ألا هو الإيمان بالقدر خيره وشره، فالمؤمن لا يجزع ولا يفزع إذا أصابه شر من المصائب أو الأحزان، فربما هي منحة بلباس المحنة، فلا يدري أحدنا ما الخير الذي سيأتي الله لنا، والعكس صحيح فأحدنا يبحث عن الخير ويطلبه بإصرار، ظنا بأن الخير في هذا الأمر لا في غيره، ولكن تكون الحقيقة مخالفة.
ومثل هذا من القرآن الكريم حينما ألقت أم موسى ولدها في البحر بأمر من الله عز وجل، وفي هذا الأمر شر ظاهر فهو البحر الذي لا يأمن الكبير على نفسه فما ظنك بطفل رضيع، ولكن الله يعلم أين الخير، فحفظ الله موسى في البحر ليبعده عن ظلم فرعون وجنوده.
ثانيًا: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ) [الأحقاف:١٥].
إن حمل المرأة بجنينها شاق صعب يضعف جسمها وقد يصيبها بالأمراض، وقد يودي بحياتها، وقل هذا في آلام المخاض وأوجاع الطلق ومشقة الوضع، لكن ألا ترغب المرأة في الحمل والإنجاب؟ ألا تتلذذ به وتستعذبه وتشتاق إليه، لهذا عبر القرآن عن حملها ووضعها بأنه كره أي: أنه فيه مشقة وصعوبة، وثقل، فيه آلام وأوجاع وأخطار، لكنه مع ذلك مرغوب عند المرأة ومطلوب ومراد28.
فكره المرأة للحمل والولادة لما فيه من التعب والمشقة، هو كره طبعي مجبولة عليه المرأة، ومع ذلك فإنها تحب الإنجاب والأطفال، وهذا حب طبعي، وقد يجتمع الحب الطبعي مع الكره الطبعي.
ويصور سيد قطب العناء الذي تعانيه الأم في صورة حسية فيقول: وتركيب الألفاظ وجرسها يكاد يجسم العناء والجهد والضنى والكلال: (ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ)، لكأنها آهة مجهد مكروب ينوء بعبء ويتنفس بجهد، ويلهث بالأنفاس! إنها صورة الحمل وبخاصة في أواخر أيامه، وصورة الوضع وطلقه وآلامه!
ويتقدم علم الأجنة فإذا به يكشف لنا في عملية الحمل عن جسامة التضحية ونبلها في صورة حسية مؤثرة، إن البويضة بمجرد تلقيحها بالخلية المنوية تسعى للالتصاق بجدار الرحم، وهي مزودة بخاصية أكالة، تمزق جدار الرحم الذي تلتصق به وتأكله فيتوارد دم الأم إلى موضعها، حيث تسبح هذه البويضة الملقحة دائمًا في بركة من دم الأم الغني بكل ما في جسمها من خلاصات وتمتصه لتحيا به وتنمو.
وهي دائمة الأكلان لجدار الرحم، دائمة الامتصاص لمادة الحياة، والأم المسكينة تأكل وتشرب وتهضم وتمتص، لتصب هذا كله دما نقيا غنيا لهذه البويضة الشرهة النهمة الأكول!
ثم الوضع، وهو عملية شاقة، ممزقة، ولكن آلامها الهائلة كلها لا تقف في وجه الفطرة ولا تنسي الأم حلاوة الثمرة، ثمرة التلبية للفطرة، ومنح الحياة نبتة جديدة تعيش، وتمتد، بينما هي تذوي وتموت!
ثم الرضاع والرعاية، حيث تعطي الأم عصارة لحمها وعظمها في اللبن، وعصارة قلبها وأعصابها في الرعاية، وهي مع هذا وذلك فرحة سعيدة رحيمة ودود، لا تمل أبدا ولا تكره تعب هذا الوليد، وأكبر ما تتطلع إليه من جزاء أن تراه يسلم وينمو29.
وفي آية أخرى يقول تعالى: (ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ) [لقمان:١٤].
فهنا حمل المرأة وهنا على وهن، وفي الآية الأولى: حملته كرها ووضعته كرها، والسر في ذلك هو أن في فترة الحمل تضعف المرأة وتزداد ضعفا كلما حملت أكثر من حمل، فاختار لفظة: (ﭻ) بمعنى: ضعفا، أما: (ﭚ) بمعنى: المشقة والتعب وهذا ليس خاصا في فترة الحمل فقط ولكن في الحمل والولادة، فالمشقة مرتبطة بالأم طول فترة الحمل، وفي وقت الولادة.
ومن مفهوم هاتين الآيتين فقد فهم العلماء أن أقل مدة الحمل هي ستة أشهر، وذلك حينما تنقص العامين من الثلاثين شهرا، يبقى ستة أشهر، فقالوا هي أقل مدة للحمل فإذا ولد الطفل قبل هذه الفترة فلن يبقى على قيد الحياة.
وقد اختلف القراء في لفظة: «كرها» بالفتح أو بالضم، الواردة في الآيات: ٢١٦، من سور البقرة، والآية: ١٩، من سورة النساء، والآية: ١٥، من سورة الأحقاف، فنقل ابن منظور هذا الخلاف عن أحمد بن يحيى، فقال:
وفي توجيه هذه القراءات الواردة في «كرها» يقول العلامة ابن زنجلة: (قرأ حمزة والكسائي: «أن ترثوا النساء كرها» بالضم، وقرأ الباقون بالنصب، واختلف الناس في الضم والفتح، قال ابن عباس: من قرأ: كرها بالضم أي: بمشقة، ومن قرأ: كرها بالفتح أي: إجبارا أي: أجبر عليه، جعل ابن عباس الكره فعل الإنسان والكره ما أكره عليه صاحبه، تقول كرهت الشيء كرها وأكرهت على الشيء كرها، قال أبو عمرو: والكره ما كرهته والكره ما استكرهت عليه، ويحتج في ذلك بقول الله جل وعز: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ)، وقال الأخفش: هما لغتان مثل: الضعف والضعف والفقر والفقر، وقال قوم: الكره المصدر تقول كرهته كرها مثل شربته شربا، والكره اسم ذلك الشيء)31.
ثالثًا: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫﭬ ﭭ ﭮﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ) [الحجرات:١٢].
الآية الكريمة تشبه الغيبة بأكل لحم الإنسان لأخيه الإنسان المكروه أكله طبعا، وذلك لاجتماع الكره الطبعي بينهما، فمن يغتاب أخيه كمن أكل لحمه ميتا، (فيه تنبيه على أن لحم الأخ شيء جبلت الأنفس على كراهته وإن تعاطته)32.
يقول الشوكاني في معنى الآية: (مثل سبحانه الغيبة بأكل الميتة؛ لأن الميت لا يعلم بأكل لحمه، كما أن الحي لا يعلم بغيبة من اغتابه، ذكر معناه الزجاج، وفيه إشارة إلى أن عرض الإنسان كلحمه، وأنه كما يحرم أكل لحمه يحرم الاستطالة في عرضه، وفي هذا من التنفير عن الغيبة، والتوبيخ لها، والتوبيخ لفاعلها، والتشنيع عليه ما لا يخفى، فإن لحم الإنسان مما تنفر عن أكله الطباع الإنسانية، وتستكرهه الجبلة البشرية، فضلًا عن كونه محرمًا شرعًا)33.
ويقول ابن عاشور: (الكراهة هنا للاشمئزاز والتقذروالمعنى: فتعين إقراركم بما سئلتم عنه من الممثل به (إذ لا يستطاع جحده) تحققت كراهتكم له وتقذركم منه، فليتحقق أن تكرهوا نظير الممثل وهو الغيبة، فكأنه قيل: فاكرهوا الممثل كما كرهتم الممثل به)34.
وفي الآية قراءة أخرى: (وقرأ أبو حيوة والجحدري: «فكرهتموه» بضم الكاف وتشديد الراء عدي بالتضعيف إلى ثانٍ، بخلاف قوله أولًا: (ﮆ ﮇ ﮈ) [الحجرات:٧].
فإنه وإن كان مضعفًا لم يتعد إلا لواحدٍ لتضمنه معنى بغض)35.
ولو نظرنا إلى مجالس المسلمين، أو حتى في مواقع التواصل الاجتماعي على الشبكة العنكبوتية، لوجدناها مليئة بالمنكرات، والغيبة أكثرها، فيتكلم الناس عن بعضهم البعض، دون أدنى نظرة إلى مدى بشاعة تشبيه الله للغيبة، فهل يحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا؟
وللأسف لم ينج من هذه المعصية إلا من رحم ربه، فقد فشت الغيبة وانتشرت بين الرجال والنساء، العالم والجاهل، البر والفاجر.
فالواجب أن نبتعد كل البعد عن الغيبة، وننصح المسلمين بالبعد، وأن لا نستمع لمن يغتاب، بل وترك المجلس الذي فيه غيبة، فسماعك وسكوتك هو غيبة، حتى لو لم تنطق بكلمة.
رابعًا: (ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ) [الأنفال:٥].
كما أخرجك ربك من المدينة، وإن فريقا من المؤمنين لكارهون الخروج معك كراهة الطبع لاحتمال المشقة.
فكره المسلم للقتال، وكره المرأة للحمل والولادة، وكذلك كره المسلم أكل لحم أخيه ميتا، كل هذه الأمور تكرهها طبيعة النفس البشرية، وهذا مثل كره المسلم للوضوء بالماء البارد في الطقس الشديد البرودة، وليس هذا من باب كره حكم الله بإيجاب الوضوء، لذلك عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إسباغ الوضوء على المكاره)36.
ومن باب التفريق بين الكره الطبعي والكره الشرعي، أسوق مثالا يجمع بينهما وهو كره الرجل زوجته الكتابية، فالله أمرنا أن نكره الكفر، وهذا كره شرعي، وفي الوقت ذاته لم يحرم حبهم الطبعي، فمن الطبيعي أن يحب الرجل زوجته حتى لو كانت على الكفر، وذلك مثل حب رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمه أبي طالب الذي مات على غير الإيمان، فحبهم حب طبعي غير مؤاخذ عليه، وكرههم كره شرعي، مجزي عليه، لأنه كره لأجل الله، وليس لأمر دنيوي.
من خلال التأمل في القرآن الكريم نستنتج أنواع الكره، وهما الكره المحمود والكره المذموم، فما كان لأجل الله فهو محمود، وما كان لأجل الدنيا فهو مذموم، والمحمود يثاب فاعله، أما المذموم فيعاقب فاعله، وسنفصل في هذا بما يأتي:
أولًا: الكره المحمود:
الكره المحمود هو الكره الذي يكون لأجل الله تعالى، وهذا واجب مأمور به، فيثاب فاعله، ويعاقب تاركه، وذلك مثل كره الكافر لكفره، وكره العاصي لمعصيته، والفاسق لفسقه، والمنافق لنفاقه، والدليل على هذا النوع من الكره: قول الله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ) [الأعراف:٨٨].
فهنا كره شعيب ومن آمن معه للعودة إلى الكفر هو كره محمود، فالمستكبرون خيروه والذين آمنوا معه، إما الخروج من القرية، وإما أن يعودوا إلى ملتهم أي: ملة الكفر، فرد شعيب عليه السلام بقوله: (ﭥ ﭦ ﭧ) أي: نخرج من ديارنا أو نعود إلى الكفر حتى ولو كنا كارهين! فالاستفهام هنا للإنكار.
وعن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان؛ أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار)37.
وقال تعالى: (ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ) [التوبة:٢٣].
والكره المحمود ينبني عليه عقيدة البراء الذي يعتبر شرطا من شروط الإيمان؛ والبراء هو: (بغض الطواغيت التي تعبد من دون الله تعالى: (من الأصنام المادية والمعنوية: كالأهواء والآراء)، وبغض الكفر (بجميع ملله) وأتباعه الكافرين، ومعاداة ذلك كله، لقول الله تعالى: (ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ) [آل عمران: ٢٨])38.
حسبنا الله في هذا الزمان الذي يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين، فلا تجد العزة عند بعض المسلمين بل الذلة والمهانة، فمنهم من يخجل من هويته الإسلامية، وآخر يخجل من لغته، وآخر يتباهى برفع صوت الأغاني باللغة الأجنبية أو حتى بلغة العدو، فنرى في بلاد فلسطين الكثير من هؤلاء نتيجة الضعف، وسيطرة الأعداء، والبعد عن الله، ولكن في المقابل وحتى لا نكون مجحفين، فإن هذه قلة قليلة دخيلة، أسأل الله لهم الهداية، فالكثير من المسلمين عندهم العزة في أقوالهم وأفعالهم، تطبيقا لقول الله تعالى: (ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ) [المنافقون:٨].
وقوله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ) [الفتح:٢٩].
ثانيًا: الكره المذموم:
هو الكره الذي يكون لأجل الدنيا، وهذا حرام منهي عنه، فيعاقب فاعله، ويثاب تاركه، مثل كرههم للموحدين لا لشيء إلا لتوحيدهم لله تعالى، وكرههم أهل الطاعة لطاعتهم لله تعالى.
والكره المذموم ينقسم إلى قسمين:
أولًا: كره مخرج من الملة، يتضمن الكراهية لأمر الله ورسوله، وذلك مثل كراهية شيء معلوم من دين الله، وكراهية وجوب أو تحريم شيء من دين الله، مع فعلها! وكراهية تطبيق حكم الله، بدليل قول الله تعالى: (ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ) [محمد:٩].
فالله عزوجل أحبط أعمالهم بعدما كرهوا ما أنزل الله على رسوله وهو القرآن، فهذا الكره هو الكره العقلي المذموم وليس كرهًا طبعيًا.
وقد كره الكافرون والمشركون والمجرمون للحق، سواء كان الحق هو القرآن الذي أنزله الله أو أي حق كان، لذلك قال الله عنهم في أكثر من آية؛ منها: قوله تعالى: (ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ) [محمد:٢٦].
القائلون هم المنافقون؛ والكارهون هم اليهود؛ فاليهود كرهوا ما نزل الله، فكرههم هو كره مذموم.
وقوله تعالى: (ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ) [محمد:٢٨].
أحبط الله أعمالهم؛ لأنهم كرهوا رضوانه واتبعوا ما أسخطه، وكرههم كره مذموم، لهذا أحبط الله أعمالهم.
وقوله تعالى: (ﯗ ﯘ ﯙ ﯚﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ) [المؤمنون:٧٠].
ومع أنه حق إلا أنهم كرهوه، فكرههم هذا هو كره عقلي مذموم وليس كرها طبعيًا، فسيحاسبهم الله عليه، وسيعذبهم به.
وقوله تعالى: (ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ) [الزخرف:٧٨].
جاء الله بالحق عن طريق الأنبياء والرسل، ولكن الأكثر يكرهونه، والنتيجة الطبيعية لمن يكره الحق هي العذاب الأليم في النار، فالكره هنا هو كره عقلي مذموم.
وقوله تعالى: (ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ) [التوبة:٥٤].
فهنا كرههم للإنفاق هو كره عقلي مذموم، وليس كرها طبعيا، فسيحاسبهم الله على هذه الكراهية؛ لأنهم كرهوا أمر الله لمصالحهم في الدنيا.
وقوله تعالى: (ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ) [التوبة:٨١].
وهذه من خصل المنافقين الكثيرة؛ وهي تخلفهم عن الجهاد بسبب كراهيتهم له، وهذه الكراهية ليست كراهية لما يلحق بالجهاد من نتائج بل لكرههم أوامر الله، فهذا الكره ليس كرها طبعيا وإنما هو كره عقلي، لذلك يحاسبهم الله على هذا الكره أشد الحساب.
ولو نظرنا إلى حال المسلمين في عصرنا هذا لوجدنا العجب العجاب، فكم ممن يدعي الإسلام لكنه يكره الإسلام وتطبيقه، ويكره أحكام الله كلها أو بعضها، وكم منهم يكره الإسلاميين، وكل من يلتزم سنة النبي عليه الصلاة والسلام باللحية، وكم منهم يقول أن القرآن كله حق لولا وجود آية الميراث، أو آية (تعدد الزوجات)، أو الحجاب، أو الجهاد، وغير ذلك الكثير، فهل هؤلاء مسلمون!
ثانيًا: كره غير مخرج من الملة، فصاحبه عاص.
الكراهية التي تتعلق بأمر من أمور الدنيا، والتي تؤدي إلى التباعد والتقاطع بين المسلمين مع أن الأصل الذي ينبغي أن يكون عليه المسلم هو المودة والمحبة، والتسامح، إلا أن المسلم قد يجد في نفسه شيئًا على أخيه المسلم، كالقريب الذي يكره قريبه، والجار الذي يكره جاره، والزميل يكره زميله، كل ذلك لأسباب دنيوية، فهذه معاص ينبغي للمسلم التوبة الصادقة للبعد عنها.
وقد كره الله للمسلمين القيل والقال وكثرة السؤال وإضاعة المال، فعن المغيرة بن شعبة يقول: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله كره لكم ثلاثًا: قيل وقال وإضاعة المال وكثرة السؤال)39.
إن لنوعي الكره -المحمود والمذموم- دوافع كثيرة؛ تؤدي إلى حصول الكره، ثم إلى الثواب أو العقاب، وسنذكر دوافع كل منهما على حدة:
أولًا: دوافع الكره المحمود:
إن اختلاف الدين يؤدي إلى اختلاف المشاعر فإن كان الدين واحد فالمشاعر مبنية على الحب، وإن كان الدين مختلف فالمشاعر مبنية على الكره، لذلك قال الله تعالى: (ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ) [الممتحنة:٤].
الآية تبين أن سبب العداوة والبغضاء بين الناس هي مبنية على الدين، فإن اختلف الدين صار العداوة والبغضاء، وإن اتفق الدين كان الحب والود، وكذلك تبين الآية أن المشاعر تتحول من البغض والكره إلى المحبة بعد تحول الكفار إلى الإيمان.
أما فيما يتعلق في كره العاصي، فنحب إيمانه ونكره معصيته، فنحبه بقدر إيمانه ونكرهه بقدر معصيته، لكن تبقى الأخوة الإيمانية، ويجب عدم لعنهم وسبهم، فرجل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم اسمه عبد الله وكان يجلده رسول الله في الخمر، فأتى به يوما فأمر فجلده، فقال رجل من القوم: اللهم العنه؛ ما أكثر ما يؤتى به، فقال النبي: (لا تلعنوه، فو الله ما علمت إنه يحب الله ورسوله)40.
(ذلك أن الحب القلبي لغير المسلمين ليس شيئا واحدا، فمنه ما ينقض (الولاء والبراء) من أساسه، ويكفر صاحبه بمجرده، ومنه ما ينقص من (الولاء والبراء) ولا ينقضه، فيكون معصية تنقص الإيمان ولا تنفيه، ومنه ما لا يؤثر في كمال الإيمان وفي معتقد (الولاء والبراء)، لكونه مباحا من المباحات، أما الحب القلبي الذي ينقض (الولاء والبراء) وينفي أساس الإيمان: فهو حب الكافر لكفره، وأما الحب القلبي الذي لا يصل إلى حد النقض، لكنه ينقص الإيمان، ويدل على ضعف في معتقد (الولاء والبراء)، فهو محبة الشخص (كافرا كان أو مسلما) لفسقه أو لمعصية يقترفها، فهذا إثم ولا شك، ولكنه لا يصل إلى درجة الكفر لكونه لا ينافي أصل الإيمان؛ إذ لا يزال في المسلمين من يحب المعاصي ويقترفها، ولم يكفرهم أحد من أهل السنة، وهذا الحب قد يكون كبيرة من كبائر الذنوب، وقد لا يكون كذلك، بحسب حال المحبوب ومعصيته، فمن أحب محبوبا لارتكابه الكبائر، فهذا الحب كبيرة، ومن أحبه لصغيرة يرتكبها، فلا يزيد إثمه على إثم من ارتكبها، وهذا التقرير واضح الالتئام، بين المأخذ، بحمد الله تعالى، وأما الحب المباح فهو الحب الطبيعي، وهو الخارج عما سبق، كحب الوالد لولده الكافر، أو الولد لوالديه الكافرين، أو الرجل لزوجه الكتابية، أو المرء لمن أحسن إليه، وأعانه من الكفار، فهذا الحب مباح، ما دام لم يؤثر في بغضه لكفر الكافرين، وفسق الفاسقين، ومعصية العاصين، أما إذا أثر في بغضه، فإنه يعود إلى أحد القسمين السابقين، بما فيهما من تفصيل)41.
ثانيًا: دوافع الكره المذموم:
١. أمراض القلوب.
الحسد، وهو من أهم أسباب الكراهية بين الناس، فإن الحاسد لم ولن يحب غيره فترى البعض من الناس لا يكره الخير لغيره، فقط؛ بل ويتمنى له الزوال، وهذا يولد الكراهية بين الناس، والحسد مرض من أمراض القلوب، قلما يخلو جسد من حسد، لكن على الكريم أن يخفيه، وهذا ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية: (والحسد مرض من أمراض النفس، وهو مرض غالب، فلا يخلص منه إلا القليل من الناس، ولهذا يقال: ما خلا جسد من حسد، لكن اللئيم يبديه، والكريم يخفيه)42.
وقد قال تعالى في ذم الحسد والحاسدين لأنه سيؤول إلى الكراهية والبغضاء بين المسلمين: (ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓﯔ ﯕ ﯖ ﯗﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ) [آل عمران:١١٩-١٢٠].
وقال: (ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ) [آل عمران:١١٨].
خبث النفس، وهذا من أكثر الأسباب سوءا؛ لأن الكراهية الناتجة عنه سبب متجذر في قلب صاحبه تكون معالجته صعبة للغاية، أما الكراهية بسبب طارئ فسرعان ما تزول.
وخبيث النفس منشغل بتتبع عورات الناس وأخطائهم؛ لأنه يكره الخير لغيره، ويحب لهم الشر والأذى؛ فهو سبب للعداوات بين أفراد المجتمع، يقول الغزالي: (خبث النفس وشحها بالخير لعباد الله تعالى، فإنك تجد من لا يشتغل برياسة وتكبر ولا طلب مال، إذا وصف عنده حسن حال عبد من عباد الله تعالى فيما أنعم الله به عليه يشق ذلك عليه، وإذا وصف له اضطراب أمور الناس وإدبارهم وفوات مقاصدهم وتنغص عيشهم فرح به فهو أبدا يحب الإدبار لغيره ويبخل بنعمة الله على عباده كأنهم يأخذون ذلك من ملكه وخزانته)43.
الغيبة والنميمة، قال بعض الحكماء: (النميمة تهدي إلى القلوب البغضاء، ومن واجهك فقد شتمك، ومن نقل إليك فقد نقل عنك، والساعي بالنميمة كاذبٌ لمن يسعى إليه، وخائن لمن يسعى به)44.
وقد نهى الله عز وجل عن الغيبة والنميمة، وبين رسولنا الكريم عذابهما الذي يعذبان به في قبريهما.
قال تعالى: (ﭟ ﭠ ﭡ ﭢﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫﭬ ﭭ ﭮﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ) [الحجرات:١٢].
فالله تعالى شبه الغيبة بأكل لحم المسلم لأخيه المسلم، وهل في ذلك أشد كراهة من أن يأكل لحم أخيه المسلم وهو ميت، فمن يغتاب غيره كمن يأكل لحم الميت، وهذا دليل على استقذار الغيبة، وقال: (ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ) [القلم:١٠-١٣].
والهماز كما قال ابن عباس وقتادة: يعني الاغتياب، والمشاء بنميم هو الذي يمشي بين الناس ويحرش بينهم، وينقل الحديث لفساد ذات البين وهي الحالقة، وعن ابن عباس قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبرين فقال: (إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستتر من البول، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة)45.
وعن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أتدرون ما الغيبة)؟ قالوا :الله ورسوله أعلم، قال: (ذكرك أخاك بما يكره)، قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول، قال: (إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهته)46.
الإعجاب والكبر: كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الكبر بطر الحق وغمط الناس)47.
وبطر الحق يعني: أن تَكَبُّرَهُ يَمْنَعُهُ من قبول الحق، وغمط الناس أي: استحقارهم، والمتكبر والمعجب بنفسه يكره الناس ويكرهه الناس، فلا يحتمل أن يرى غيره وغيره لا يحتملون لقاءه، وما سبب طرد الله لإبليس من الجنة إلا تكبره واستعلائه، وما سبب إغراق فرعون إلا الكبر، وما سبب إهلاك النمرود إلا الكبر، وكذلك كره الكفار رسول الله صلى الله عليه وسلم لتكبرهم، وقد خص الله كل من تكبر بسوء العذاب، فعن عبد الله بن مسعود، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة من كان في قبله مثقال ذرةٍ من كبر)48.
والفرق بين الكبر والإعجاب هو أن الكبر في المنزلة، بينما الإعجاب في النفس، وكلاهما منهي عنه، وكلاهما يولد الكراهية للمتكبر والمعجب بنفسه.
الظلم، سواء بين الأبناء، أو بين الزوجات، أو المعلم بين طلابه، أو الموظف مع مراجعيه، وغير ذلك، فإنه يولد الكراهية لا محالة، لذلك قال تعالى: (ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝﯞ ﯟ ﯠﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ) [المائدة:٨].
فالعدل واجب شرعي مع جميع الناس، حتى لو كان بينك وبينه بغض وعداوة.
التعدي على حقوق الآخرين، باستئثار المنافع، وعدم إعطائها لمن يستحقها، فإنه يولد الكراهية، وقد حذر الله ورسوله من الاعتداء على الآخرين فقال تعالى: (ﯵ ﯶﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ) [البقرة:١٩٠].
وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من ظلم قيد شبر من الأرض طوقه من سبع أرضين)49.
فمن اعتدى على غيره لا يمكن للآخرين أن يحبوه بل سيكرهونه لظلمه وسلبه حقوقهم.
الكذب والغش؛والكذب صفة مذمومة، وهي علامة نفاق لذلك فعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (آية المنافق ثلاث، إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان)50.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من غشنا فليس منا)51.
ولم يحدد رسولنا الكريم نوع هذا الغش بل هو عام في جميع أنواع الغش، سواء غش الناس في بيعهم وشرائهم، أو غشهم عند الزواج، أو غير ذلك، فمن كانت هذه صفاته فالناس سيكرهونه، فالكذابون والغشاشون مكروهون من الناس.
قسوة القلب والغلظة في التعامل، فالقسوة والغلظة في التعامل مع الناس تجلب الكراهية فتنفر الناس من حولهم، قال تعالى: (ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ) [آل عمران:١٥٩].
التجسس: فالذي يتجسس على الناس ليكشف عوراتهم وأخطاءهم، كيف لهم أن يحبوه، لذلك نهى الله ورسوله عن التجسس، فقال تعالى: (ﭝ ﭞ) [الحجرات:١٢].
وقد قال صلى الله عليه وسلم: (يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان إلى قلبه لا تتبعوا عورات المسلمين، فإن من تتبع عورات المسلمين تتبع الله عورته حتى يفضحه ولو في جوف بيته)52.
وقد قال ابن عثيمين: (التجسس أذية، يتأذى به المتجسس عليه، ويؤدي إلى البغضاء والعداوة)53.
الجدال: لذلك أمرنا الله تعالى أن تكون المجادلة بالتي هي أحسن في قوله تعالى: (ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ) [النحل: ١٢٥]؛ لأن المجادلة غير الحسنة؛ في نهاية الأمر، تؤدي إلى الكراهية.
كثرة العتاب واللوم، وورد في ذلك من أمثال العرب، (كثرة العتاب توجب البغضاء)54، فكثرة العتاب واللوم يولد الكراهية بين الناس، مع أنه لا بد من العتاب واللوم ولكن ليس على كل صغيرة وكبيرة، وتكون بأسلوب راقٍ بعيدا عن القدح والذم.
٢. ضعف الإيمان.
ويأتي ضعف الإيمان نتيجةً لعدم الالتزام بأوامر الله ورسوله، فعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث، ولا تجسسوا، ولا تحسسوا، ولا تباغضوا وكونوا إخوانا)55.
فقد جاء النهي عن التباغض ومع ذلك لا نجد التزاما، مما أدى إلى ضعف الإيمان؛ هو سبب لكل ظلم واعتداء على الآخرين، وسبب للكراهية والبغضاء، والحقد والحسد، وغير ذلك، لأنه حينها يكون الشيطان هو المتنفذ المتحكم في مثل هؤلاء، والشيطان لا يقرب إلا لما يحبه ويبعد عن كل ما يرضي الله، وكراهية المسلم لأخيه المسلم من الأمور التي يحرص عليها الشيطان فيقربها إلى كل ذي نفس ضعيفة بالإيمان.
٣. التفرق والاختلاف.
اختلف العلماء المسلمون في كثير من المسائل سواء في الفرعية، أي: في فروع الشريعة والتي أظهرت المذاهب الفقهية، أو في مسائل أصول الدين، وهو الخلاف العقدي والذي أظهر الفرق الإسلامية.
والخلاف الفقهي محمود، لذلك يقال: اختلاف الأئمة رحمة للأمة، وأما الخلاف العقدي فهو مذموم وعواقبه وخيمة على الأمة الإسلامية على مر العصور، وهذه الفرق أدت إلى الكره والتباغض بين المسلمين، وعدم قبول الآخر، لهذا نهى الله عن التفرق والاختلاف فقال: (ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ) [آل عمران:١٠٥].
ومن الأسباب التي أدت إلى التفرق والاختلاف: التعصب لغير الحق من خلال التحزب في الأحزاب الوطنية أو القومية وغيرها من الأحزاب، أو التحزب إلى إمام من الأئمة، أو عالم من العلماء، فالأتباع يكرهون بعضهم البعض، وكل منهم يتهم الطرف الآخر بدلا من أن يعمل الجميع لخدمة الإسلام والمسلمين وخدمة الوطن، مع أن الواجب علينا كمسلمين حب المسلم للمسلم لا كراهيته، بغض النظر عن حزبه.
٤. الدعوة إلى عصبية النسب والجاهلية.
والإسلام نبذ العصبية بشدة، وجعلها من عادات الجاهلية، وسبب نبذها هو ما فيها من آثار سلبية على الفرد والمجتمع، فهي تؤدي إلى الكره والتباغض بين أفراد المجتمع الواحد من جهة، وبينه وبين المجتمعات الأخرى من جهة أخرى، والعصبية غير مختصة بالعصبية القبلية بل بها وبغيرها مثل التعصب للحزب والجماعة، والتعصب العائلي، والتعصب للجنس واللون والبلد وغيرها، لذلك قال تعالى: (ﭼ ﭽ ﭾ ﭿﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ) [الحجرات:١٣].
وإننا إذ نتحدث عن آثار الكره على السلوك الإنساني فإن المقصود بالكره هو الكره المذموم، وله كغيره من الأخلاق السلبية العديد من الآثار الآثار السلبية الضارة، والعواقب المهلكة على الفرد والمجتمع، ولا بد من التنبيه عليها حتى نتجنبها ولا نقع فيها؛ وهي كما يلي:
أولًا: آثار كراهية أحكام الله:
فقد قال عز من قائل: (ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ) [محمد:٨-٩].
وقد وصفهم في بداية الآية بقوله: (ﯟ ﯠ) فمن يكره ما أنزل الله من الآيات لن يكون مؤمنا فكأن لم يعمل صالحا من قبل، فالمؤمن لا يمكن أن يكره آيات الله، لقول الله تعالى: (ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ) [النساء:٦٥].
ذلك لأنهم لم يحكموا شرع الله فيما شجر بينهم ولأنهم وجدوا حرجا شديدا من أوامر ونواهي الله ورسوله ولم يسلموا تسليما تاما لقضاء الله تعالى، فقد أقسم الله بأنهم غير مؤمنين فنفى عنهم الإيمان.
قال تعالى: (ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ) [محمد:٨-٩].
فلأنهم كرهوا ما أنزل الله فقد أحبط الله أعمالهم، لك أن تتصور من يبني عمارة، ثم بنفسه يهدمها! أو كمن تنقض ثوبا غزلته بعد تعب ومشقة، لذلك قال الله تعالى: (ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ) [النحل:٩٢].
ولأنهم قد كرهوا رضوان الله لكراهيتهم أحكام الإسلام، وكل مظهر من مظاهر الإسلام.
والله عز وجل لا يقبل من الكافرين عملًا طوعًا كان أو كرهًا ليس ذلك إلا لأنهم كفروا بالله ورسوله فأحبط الله أعمالهم، قال تعالى: (ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ) [التوبة:٥٤].
فالله عز وجل حكم على كل من يكره ما أنزل الله بالتعس، لقوله تعالى: (ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ) [محمد:٨-٩].
والتعس: الانحطاط والعثار، قال ابن السكيت: التعس أن يخر على وجهه، والنكس أن يخر على رأسه، قال: والتعس أيضا الهلاك، قال الجوهري: وأصله الكب، وهو ضد الانتعاش، وقد تعس (بفتح العين) يتعس تعسا56.
ويقول تعالى مؤكدا هذا الخزي الذي يلحق بمن يكره ما أنزل الله أو بعضه: (ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ) [البقرة:٨٥].
فالله أعد نار جهنم لكل من كره حكما من أحكام الله، لقوله تعالى: (ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ) [التوبة:٨١].
ثانيا: آثار كراهية المسلمين لبعضهم البعض:
أما المسلم الذي يكره غيره من المسلمين، كأخيه أو جاره أو زميله، لمصالح دنيوية، فآثار كرهه كثيرة على النفس وعلى المجتمع وهي كما يلي:
فعن الزبير بن العوام حدثه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (دب إليكم داء الأمم: الحسد والبغضاء؛ هي الحالقة لا أقول تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين، والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا أفلا أنبئكم بما يثبت ذلك لكم؟ أفشوا السلام بينكم).57
إن الأثر الأكبر للكراهية هي على نفس صاحبها، سواء على الناحية النفسية أو حتى الجسمية، من تعب للأعصاب وقلق البال، وهذا حتما يؤثر على جسمه بإضعافها، فلمجرد ذكر اسم من يكرهه أو يتذكر شيئا من أقواله أو أفعاله، فإن ناره تشتعل.
وهذا الشعور يؤدي إلى الكثير من الانحرافات السلوكية كالانطواء، والغضب، والعدوانية، والكذب، لذلك من نعيم أهل الجنة أن نزع الله الغل من صدورهم.
قال تعالى: (ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘﭙ ﭚﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ) [الأنفال:٤٦].
يقول تعالى: (ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ) [المائدة:٨].
موضوعات ذات صلة: |
الإكراه، الرضا، المحبة |
1 مقاييس اللغة، ابن فارس، ٥/١٧٢.
2 المفردات، الراغب الأصفهاني، ص٧٠٧.
3 لسان العرب، ابن منظور، ١٣/٥٣٤.
4 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الطهارة، باب فضل إسباغ الوضوء على المكاره، رقم ٢٥١.
5 المفردات، الراغب الأصفهاني، ص١٣٦.
6 انظر: المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، محمد فؤاد عبد الباقي، ص٦٠٣-٦٠٤، المعجم المفهرس الشامل، عبد الله جلغوم، باب الكاف ص١٠٢٠-١٠٢١.
7 انظر: مقاييس اللغة، ابن فارس، ٥/١٧٢-١٧٣، الصحاح، الجوهري، ٦/٢٢٤٧، لسان العرب، ابن منظور، ١٣/٥٣٤-٥٣٦، بصائر ذوي التمييز، الفيروزآبادي، ٤/٣٤٦-٣٤٧.
8 لسان العرب، ابن منظور، ٧/١٢١.
9 المفردات، الراغب، ص١٣٦.
10 انظر الفروق اللغوية، العسكري، ص١٢٩.
11 لسان العرب، ابن منظور، ١٥/٤١٧.
12 التوقيف على مهمات التعريف، المناوي، ص٢٧.
13 انظر الفروق اللغوية، العسكري، ص١٢٩.
14 انظر: لسان العرب، ابن منظور ١٣/٣٥٣، المصباح المنير، الفيومي ٢/٥٣٢.
15 التوقيف على مهمات التعريف، المناوي، ص٨٤.
16 مقاييس اللغة، ابن فارس، ٢/٢٦.
17 المفردات، الراغب، ص١٣٦.
18 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الرقاق، باب من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، رقم ٦١٤٣، ومسلم في صحيحه، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه، رقم ٢٦٨٣.
19 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الرقاق، باب ما يكره من قيل وقال، رقم ٦١٠٨، ومسلم في صحيحه، كتاب الأقضية، باب النهي عن كثرة المسائل من غير حاجة والنهي عن منع وهات وهو الامتناع من أداء حق لزمه أو طلب ما لا يستحقه، رقم ٥٩٣.
20 شرح العقيدة الواسطية، محمد هراس، ص٨.
21 تفسير المنار، محمد رشيد رضا ٣/١٦٧.
22 المفردات، الراغب الأصفهاني، ص٧٠٧.
23 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الرقاق، باب حجبت النار بالشهوات، رقم ٦١٢٢، ومسلم في صحيحه، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، واللفظ له، رقم ٢٨٢٢.
24 لطائف قرآنية، الخالدي ٨٢-٨٣.
25 لسان العرب، ابن منظور، ١٣/٥٣٤.
26 مدارج السالكين، ابن القيم، ٢/١٧٥.
27 في ظلال القرآن، سيد قطب، ١/٢٢٣.
28 لطائف قرآنية، الخالدي ص ٨٣.
29 في ظلال القرآن، سيد قطب ٦/٣٢٦٢.
30 لسان العرب، ابن منظور، ١٣/٥٣٤.
وانظر: الإتحاف، البناء، ص ٢٣٩، ٥٠٤، المبسوط في القراءات العشر، ابن مهران، ص١٧٧، حجة القراءات، ابن زنجلة، ١/٦٦٣-٦٤٦.
31 حجة القراءات، ابن زنجلة، ١/١٩٦.
32 عمدة الحفاظ،، السمين الحلبي ٣/٣٩٣.
33 فتح القدير، الشوكاني، ٥/٧٧.
34 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٢٦/٢١٣.
35 الدر المصون، السمين الحلبي، ١٠/١١.
36 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الطهارة، باب فضل إسباغ الوضوء على المكاره، رقم ٢٥١.
37 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الإيمان، باب حلاوة الإيمان، رقم ١٦، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب بيان خصال من اتصف بهن وجد حلاوة الإيمان، رقم ١٧٤.
38 الولاء والبراء بين الغلو والجفاء، حاتم العوني، ص٥.
39 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الرقاق، باب ما يكره من قيل وقال، رقم ٦١٠٨، ومسلم في صحيحه، كتاب الأقضية، باب النهي عن كثرة المسائل من غير حاجة، رقم ٥٩٣.
40 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الحدود، باب ما يكره من لعن شارب الخمر وأنه ليس بخارج من الملة، رقم ٦٣٩٨.
41 الولاء والبراء بين الغلو والجفاء، حاتم العوني، ص١٨-١٩.
42 أمراض القلب وشفاؤها، ابن تيمية، ص٢١.
43 إحياء علوم الدين، الغزالي، ٣/١٩٤.
44 بحر الدموع، ابن الجوزي، ١/١٣٠.
45 انظر: تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، ٨/١٩١.
46 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب البر والصلة والأدب، باب تحريم الغيبة، رقم ٦٧٥٨.
47 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب تحريم الكبر وبيانه، رقم ٩١.
48 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب تحريم الكبر وبيانه، رقم ٩١.
49 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب قصاص المظالم، باب إثم من ظلم شيئا من الأرض، رقم ٢٣٢١، ومسلم في صحيحه، كتاب المساقاة، باب تحريم الظلم وغصب الأرض وغيرها، رقم ١٦١٢.
50 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الإيمان، باب علامة المنافق، رقم ٣٣، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب بيان خصال المنافق، رقم ٥٩.
51 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب قول النبي صلى الله تعالى عليه وسلم من غشنا فليس منا، رقم ١٠١.
52 أخرجه الترمذي في سننه، أبواب البر والصلة، باب ما جاء في تعظيم المؤمن، ٣/٤٤٦، رقم ٢٠٣٢، وحسنه.
وصححه الألباني في صحيح الجامع، ٢/١٣٢٣، رقم ٧٩٨٥.
53 شرح رياض الصالحين، ابن عثيمين، ٦/٢٥١-٢٥٢.
54 المستطرف في كل فن مستظرف، الإبشيهي، ص ٦٩.
55 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب النكاح، باب لا يخطب من خطب أخيه حتى ينكح أو يدع، رقم ٤٨٤٩، ومسلم في صحيحه، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظن والتجسس والتنافس والتناجش ونحوها، رقم ٢٥٦٣.
56 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، ١٦/٢٣٣.
57 أخرجه الترمذي في سننه، أبواب صفة القيامة ، رقم ٢٥١٠.
قال الترمذي: هذا حديث صحيح.
وحسنه الألباني في صحيح الجامع ١/٦٣٤، رقم ٣٣٦١.