عناصر الموضوع

مفهوم القوة

القوة في الاستعمال القرآني

الألفاظ ذات الصلة

الأسلوب القرآني في عرض القوة

مجالات القوة ومظاهرها

آثار القوة

القوة

مفهوم القوة

أولا: المعنى اللغوي:

المادة (ق و ي) لها أصلان متباينان في اللغة، الأول: يدل على الشدةٍ وخلاف الضعف، والثاني: يدل على خلاف هذا وعلى قلة خيرٍ.

فمن الأول القوة، والقوي: خلاف الضعيف. وأصل ذلك من القوى، وهي جمع قوةٍ من قوى الحبل.

ومن الأصل الثاني القواء: الأرض لا أهل بها. ويقال: أقوت الدار: خلت. وأقوى القوم: صاروا بالقواء والقي، وأقوى الرجل: إذا فني زاده، والقوة: الطاقة من الحبل، وجمعها قوًى، ورجل شديد القوى، أي شديد أسر الخلق1. والقوة المقصودة هنا مأخوذة من الأصل الأول، فالقوة: خلاف الضعف.

فالناظر يرى أن معنى القوة في اللغة يدل على خلاف الضعف، والقدرة على فعل الشيء.

ثانيًا: المعنى الاصطلاحي:

قال الجرجاني: «القوة هي تمكن الحيوان من الأفعال الشاقة، فقوى النفس النباتية تسمى قوى طبيعية، وقوى النفس الحيوانية تسمى قوى نفسانية، وقوى النفس الإنسانية تسمى: قوى عقلية. والقوى العقلية باعتبار إدراكاتها للكليات تسمى القوة النظرية، وباعتبار استنباطها للصناعات الفكرية من أدلتها بالرأي تسمى القوة العملية»2.

وقال الطاهر ابن عاشور: «والقوة حقيقتها حالةٌ في الجسم يتأتى له بها أن يعمل ما يشق عمله في المعتاد، فتكون في الأعضاء الظاهرة، مثل قوة اليدين على الصنع الشديد، والرجلين على المشي الطويل، والعينين على النظر للمرئيات الدقيقة. وتكون في الأعضاء الباطنة، مثل قوة الدماغ على التفكير الذي لا يستطيعه غالب الناس، وعلى حفظ ما يعجز عن حفظه غالب الناس»3.

القوة في الاستعمال القرآني

وردت مادة (قوي) في القرآن الكريم (٤٢)، يخص موضوع البحث منها(٤١) مرة4.

والصيغ التي وردت هي:

الصيغة

عدد المرات

المثال

مصدر

٣٠

( ) [الأنفال:٦٠]

صيغة المبالغة

١١

( ) [الأنفال:٥٢]

ذكر أهل الوجوه والنظائر أن القوة في القرآن على خمسة أوجه5، لكن بالتأمل في هذه الأوجه نجد أنها كلها تعود إلى معنى واحد، وهو المعنى اللغوي، وهو الشدة، خلاف الضعف6.

قال الله تعالى: ( ) [هود: ٨٠]. يعني: من أتقوى به من الجند، وما أتقوى به من المال7.

الألفاظ ذات الصلة

الشدة:

الشدة لغةً:

قال ابن فارس: «الشين والدال أصلٌ واحدٌ يدل على قوةٍ في الشيء، وفروعه ترجع إليه. من ذلك شددت العقد شدًا أشده. والشدة: المرة الواحدة»8.

الشدة اصطلاحًا:

هي «اسم من الاشتداد»9.

الصلة بين الشدة والقوة:

أن الشدة في الأصل هي مبالغة في وصف الشيء في صلابة، وليست هي من قبيل القدرة، أما القوة فمن قبيل القدرة10.

القسوة:

القسوة لغةً:

القسوة: الصلابة في كل شيءٍ، وحجر قاسٍ: صلب، وأرض قاسيةٌ: لا تنبت شيئًا، والقسوة في القلب تعني ذهاب اللين والرحمة والخشوع منه. وقسا قلبه قسوة وقساوة وقساء، وهو غلظ القلب وشدته، وأقساه الذنب، ويقال: الذنب مقساةٌ للقلب11.

القسوة اصطلاحًا:

قال الراغب: «القسوة: غلظ القلب»12.

الصلة بين القسوة والقوة:

أن القسوة تستعمل فيما لا يقبل العلاج؛ ولهذا يوصف بها القلب وإن لم يكن صلبًا13، أما القوة فهي ليست كذلك؛ بل هي القدرة على التمكن من فعل الشيء.

الضعف:

الضعف لغةً:

«الضعف والضعف: خلاف القوة. وقد ضعف فهو ضعيفٌ، وأضعفه غيره. وقومٌ ضعافٌ وضعفاء وضعفةٌ. واستضعفه، أي: عده ضعيفًا»14.

الضعف اصطلاحًا:

هو: «وهن القوة حسًّا أو معنى»15.

الصلة بين الضعف والقوة:

يتفقان في أن كلًّا منهما من فعل الله تعالى كما أن القوة من فعل الله تعالى، تقول: خلقه الله ضعيفًا أو خلقه قويًا16. ولكنهما متناقضان، فالضعف خلاف القوة.

الوهن:

الوهن لغةً:

هو الضعف وقد وهن ووهنه غيره، فالفعل يلزم ويتعدى17.

الوهن اصطلاحًا:

قال الراغب: «الوهن: ضعف من حيث الخلق، أو الخلق»18.

الصلة بين الوهن والقوة:

أن القوة هي القدرة على التمكن من فعل الشيء، والوهن أن يفعل الإنسان فعل الضعيف وهو قوي، فالوهن فيه انكسار للجسد بالخوف وغيره19، إذن فهي خلاف القوة.

الأسلوب القرآني في عرض القوة

أولًا: وصف الله نفسه بالقوة:

سمى الله تعالى ووصف نفسه بالقوة، وقد ورد تسمية الله تعالى بالقوي في القرآن في تسعة مواضع من الكتاب العزيز20.

ومن ذلك قوله تعالى: ( ﯫﯬ ﯯﯰ ﯶﯷ ) [الأنفال: ٥٢].

وقال تعالى: ( ﭛﭜ ﭩﭪ ) [الحديد: ٢٥].

وقال سبحانه: ( ﰗﰘ ) [المجادلة: ٢١].

وقال تعالى: ( )[هود: ٦٦].

وقال: ( ﮋﮌ ﮏﮐ )[الشورى: ١٩].

قال ابن جرير: «( ) [الأنفال: ٥٢]. لا يغلبه غالبٌ ولا يرد قضاءه رادٌ، ينفذ أمره ويمضي قضاؤه في خلقه، شديدٌ عقابه لمن كفر بآياته وجحد حججه»21.

وقال الزجاج: «القوي هو الكامل القدرة على الشيء، تقول: هو قادر على حمله. فإذا زدته وصفا قلت: هو قوي على حمله. وقد وصف نفسه بالقوة فقال عز قائلا: ( ) [الذاريات: ٥٨]»22.

قال ابن القيم23:

وهو القوي بقوة هي وصفه

وعليك يقدر يا أخا السلطان

ويقترن اسم الله تعالى (القوي) باسميه تعالى (المتين، والعزيز).

قال تعالى: ( ) [هود: ٦٦].

وقال: ( ﮋﮌ ﮏﮐ )[الشورى: ١٩].

وقال تعالى: ( ) [الذاريات: ٥٨].

قال الزجاج: «المتين أصله فعيل من المتن الذي هو العضو، ويقال: ماتنته على ذلك الأمر إذا قاويته مقاواة، وهو يفيد في الله سبحانه التناهي في القوة والقدرة»24.

وفي اللسان: «والمتين صفةٌ لقوله: ( ) وهو الله تبارك وتقدس، ومعنى ( ) ذو الاقتدار الشديد، والمتين في صفة الله القوي، قال ابن الأثير: هو القوي الشديد الذي لا يلحقه في أفعاله مشقةٌ ولا كلفة ولا تعبٌ، والمتانة: الشدة والقوة، فهو من حيث إنه بالغ القدرة تامها قوي، ومن حيث إنه شديد القوة متينٌ. قال ابن سيده: وقرئ (المتينِ) بالخفض على النعت للقوة، لأن تأنيث القوة كتأنيث الموعظة من قوله تعالى: ( )، أي: وعظٌ»25.

يقول الرازي: «قال: المتين وذلك لأن ذو القوة كما بينا لا يدل إلا على أن له قوةً ما فزاد في الوصف بيانًا، وهو الذي له ثباتٌ لا يتزلزل، وهو مع المتين من بابٍ واحدٍ لفظًا ومعنًى، فإن متن الشيء هو أصله الذي عليه ثباته، والمتن هو الظهر الذي عليه أساس البدن، والمتانة مع القوة كالعزة مع القوة؛ حيث ذكر الله تعالى في مواضع القوة مع العزة فقال: ( ) [الحديد: ٢٥].وقال: ( ) [هود: ٦٦].

وفيه لطيفةٌ تؤيد ما ذكرنا من البحث في القوي وذي القوة، وذلك لأن المتين هو الثابت الذي لا يتزلزل والعزيز هو الغالب، ففي المتين أنه لا يغلب ولا يقهر ولا يهزم، وفي العزيز أنه يغلب ويقهر ويزل الأقدام، والعزة أكمل من المتانة، كما أن القوي أكمل من ذي القوة، فقرن الأكمل بالأكمل وما دونه بما دونه، ولو نظرت حق النظر وتأملت حق التأمل لرأيت في كتاب الله تعالى لطائف تنبهك على عناد المنكرين وقبح إنكار المعاندين»26.

وقال البخاري: «باب قول الله تعالى: ( ) [الذاريات: ٥٨]»27.

وهذه الآية ونظائرها تدل بوضوح على أن الله تعالى موصوف بالصفات العليا، كما أنه مسمى بالأسماء الحسنى، فالقوة صفته، والرزاق اسمه، وتقدم أن كل اسم لابد أن يتضمن الصفة، وبذلك وغيره يرد على المنكرين للصفات28.

ومن مظاهر قوة الله تعالى:

  1. نصره سبحانه لرسله.

    قال تعالى: ( ﰗﰘ ) [المجادلة: ٢١].

    ومن ذلك نصره لأهل الإيمان يوم الأحزاب، قال تعالى: ( ﭽﭾ ﭿ ﮋﮌ ) إلى أن قال: ( ﭿﮀ ﮄﮅ ﮋﮌ ﮢﮣ ) [الأحزاب: ٩-٢٧].

  2. إهلاك الله تعالى للأمم الكافرة.

    قال تعالى: ( ﭼﭽ ﭿ ﮋﮌ ﮕﮖ ﮠﮡ ﯓﯔ ﯗﯘ ) [فصلت: ١٣-١٨].

  3. قوة الله تعالى في الآخرة.

    قال تعالى: ( ﭿ ﮇﮈ ﮋﮌ ﮍﮎ ) [البقرة: ١٦٥].

  4. قوة الله تعالى في خلقه.

    قال الله: ( ﮗﮘ ﮠﮡ ) [فاطر: ٤١].

    فالواجب على العباد أن يركنوا إلى قوة الله تعالى، وأن لا يركنوا إلى الذين ظلموا، لا بد أن يركنوا إلى الركن الشديد سبحانه وتعالى، ولذلك فعن أبي موسى قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفرٍ، فجعل الناس يجهرون بالتكبير، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أيها الناس، اربعوا على أنفسكم، إنكم ليس تدعون أصم ولا غائبًا، إنكم تدعون سميعًا قريبًا، وهو معكم) قال وأنا خلفه، وأنا أقول: لا حول ولا قوة إلا بالله. فقال (يا عبد الله بن قيسٍ، ألا أدلك على كنزٍ من كنوز الجنة؟)، فقلت: بلى، يا رسول الله. قال: (قل: لا حول ولا قوة إلا بالله)29.

    فإن المعنى: لا تحول للعبد من حالٍ إلى حالٍ ولا قوة له على ذلك إلا بالله، وهذه كلمةٌ عظيمةٌ، وهي كنزٌ من كنوز الجنة، فالعبد محتاجٌ إلى الاستعانة بالله في فعل المأمورات وترك المحظورات والصبر على المقدورات كلها في الدنيا وعند الموت وبعده من أهوال البرزخ ويوم القيامة، ولا يقدر على الإعانة على ذلك إلا الله عز وجل، فمن حقق الاستعانة عليه في ذلك كله أعانه.

    ومن ترك الاستعانة بالله واستعان بغيره وكله الله إلى من استعان به فصار مخذولًا. كتب الحسن إلى عمر بن عبد العزيز: لا تستعن بغير الله فيكلك الله إليه. ومن كلام بعض السلف: يا رب، عجبت لمن يعرفك كيف يرجو غيرك وعجبت لمن يعرفك كيف يستعين بغيرك؟!30.

    وهذه الكلمة لها تأثير عجيب في معالجة الأشغال الصعبة، وتحمل المشاق، والدخول على الملوك ومن يخاف، وركوب الأهوال31.

    ثانيًا: وصف ملك الوحي بالقوة:

    قال الله تعالى: ( ) [النجم: ٥-٧]32.

    قال الطبري: «يقول تعالى ذكره: علم محمدًا صلى الله عليه وسلم هذا القرآن جبريل عليه السلام، وعنى بقوله: ( ) [النجم: ٥] شديد الأسباب، والقوى: جمع قوةٍ، وعنى بالمرة: صحة الجسم وسلامته من الآفات والعاهات، والجسم إذا كان كذلك من الإنسان كان قويًا، وإنما قلنا: إن ذلك كذلك؛ لأن المرة واحدة المرر، وإنما أريد به: ذو مرةٍ سويةٍ، وإذا كانت المرة صحيحةً كان الإنسان صحيحًا»33.

    وقال ابن عاشور: «واتفق المفسرون على أن المراد به جبريل عليه السلام.

    والمراد ب (القوى) استطاعة تنفيذ ما يأمر الله به من الأعمال العظيمة العقلية والجسمانية، فهو الملك الذي ينزل على الرسل بالتبليغ»34.

    وقال تعالى: ( ) [التكوير: ١٩-٢١]35.

    قال ابن عاشور: «ووصف () بخمسة أوصافٍ:

    الأول: ()ٍ وهو النفيس في نوعه.

    والوصفان الثاني والثالث: ( )ٍ فالقوة حقيقتها مقدرة الذات على الأعمال العظيمة التي لا يقدر عليها غالبًا.

    والمكين: فعيلٌ، صفةٌ مشبهةٌ من مكن بضم الكاف مكانةً، إذا علت رتبته عند غيره.

    وتوسيط قوله: ( ) بين ( ) و() ليتنازعه كلا الوصفين على وجه الإيجاز، أي: هو ذو قوةٍ عند الله، أي جعل الله مقدرة جبريل تخوله أن يقوم بعظيم ما يوكله الله به مما يحتاج إلى قوة القدرة وقوة التدبير، وهو ذو مكانةٍ عند الله وزلفى.

    الوصف الرابع: ()أن يطيعه من معه من الملائكة كما يطيع الجيش قائدهم.

    والأمين36: الذي يحفظ ما عهد له به حتى يؤديه دون نقصٍ ولا تغييرٍ»37.

    وفي قوله تعالى: ( ) [التكوير: ٢٣].

    وقوله: ( ) [النجم: ١٣-١٥].

    ثبت عن مسروقٍ قال: كنت متكئًا عند عائشة، فقالت: يا أبا عائشة، ثلاثٌ من تكلم بواحدةٍ منهن فقد أعظم على الله الفرية. قلت: ما هن؟ قالت: من زعم أن محمدًا صلى الله عليه وسلم رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية. قال: وكنت متكئًا فجلست، فقلت: يا أم المؤمنين، أنظريني ولا تعجليني، ألم يقل الله عز وجل: ( ) [التكوير: ٢٣].

    ( ) [النجم: ١٣]؟ فقالت: أنا أول هذه الأمة سأل عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (إنما هو جبريل، لم أره على صورته التي خلق عليها غير هاتين المرتين، رأيته منهبطًا من السماء سادًّا عظم خلقه ما بين السماء إلى الأرض)38.

    وعن أبي إسحاق الشيباني قال: سألت زر بن حبيشٍ عن قول الله تعالى: ( ﭿ ) [النجم: ٩- ١٠]، قال: حدثنا ابن مسعودٍ: أنه (رأى جبريل، له ستمائة جناحٍ)39.

    وقال تعالى: ( ) [النجم: ١٨]40.

    عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، ( ) [النجم: ١٨].

    قال: (رأى رفرفًا أخضر سد أفق السماء)41.

    وعنه قال: (رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل في صورته، وله ستمائة جناحٍ، كل جناحٍ منها قد سد الأفق، يسقط من جناحه من التهاويل والدر والياقوت ما الله به عليمٌ)42.

    ومن مظاهر قوة جبريل عليه السلام:

  1. إهلاك الظالمين من قوم لوط.

    وعن مجاهدٍ قال: «أخذ جبرائيل عليه السلام قوم لوطٍ من سرحهم ودورهم، حملهم بمواشيهم وأمتعتهم حتى سمع أهل السماء نباح كلابهم ثم أكفأهم»43.

    وعنه قال: «أدخل جبرائيل جناحه تحت الأرض السفلى من قوم لوطٍ، ثم أخذهم بالجناح الأيمن، فأخذهم من سرحهم ومواشيهم ثم رفعها»44.

    وعنه قال: «فحملها على خوافي جناحه بما فيها، ثم صعد بها إلى السماء حتى سمع أهل السماء نباح كلابهم ثم قلبها، فكان أول ما سقط منها شرفها، فذلك قول الله: ( ) [هود: ٨٢].

    قال مجاهدٌ: فلم يصب قومًا ما أصابهم؛ إن الله طمس على أعينهم، ثم قلب قريتهم، وأمطر عليهم حجارةً من سجيلٍ»45.

    قال قتادة: «وبلغنا أن جبريل أخذ بعروة القرية الوسطى، ثم ألوى بها إلى السماء حتى سمع أهل السماء ضواغي كلابهم، ثم دمدم بعضها على بعضٍ، فجعل عاليها سافلها، ثم تبعتهم الحجارة»46.

  2. جهاده.

    عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحدٍ: (هذا جبريل آخذٌ برأس فرسه عليه أداة الحرب)47.

    وعن سعد بن أبي وقاصٍ قال: (لقد رأيت يوم أحدٍ عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن يساره رجلين عليهما ثيابٌ بيضٌ، يقاتلان عنه كأشد القتال، ما رأيتهما قبل ولا بعد)48.

    وعن عائشة قالت: أصيب سعدٌ يوم الخندق، رماه رجلٌ من قريشٍ يقال له: ابن العرقة، رماه في الأكحل، فضرب عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم خيمةً في المسجد يعوده من قريبٍ، فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخندق وضع السلاح، فاغتسل، فأتاه جبريل وهو ينفض رأسه من الغبار، فقال: وضعت السلاح؟ والله، ما وضعناه اخرج إليهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فأين؟) فأشار إلى بني قريظة، فقاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم الحكم فيهم إلى سعدٍ، قال: فإني أحكم فيهم أن تقتل المقاتلة، وأن تسبى الذرية والنساء، وتقسم أموالهم49.

    ثالثًا: الأمر بأخذ الأمور الحسنة بالقوة:

    قال الله تعالى: ( ) [البقرة:٦٣].

    ومعنى الآية: خذوا ما افترضناه عليكم في كتابنا من الفرائض فاقبلوه واعملوا باجتهادٍ منكم في أدائه من غير تقصيرٍ ولا توانٍ. وذلك هو معنى أخذهم إياه بقوةٍ بجدٍّ50.

    أمرهم أن يأخذوا ما فيه بقوة، وأن يعزموا فيه عزيمة، فأمر العقيدة لا رخاوة فيه ولا تميع، ولا يقبل أنصاف الحلول ولا الهزل ولا الرخاوة.. إنه عهد الله مع المؤمنين.. وهو جد وحق، فلا سبيل فيه لغير الجد والحق.. وله تكاليف شاقة، نعم! ولكن هذه هي طبيعته، إنه أمر عظيم، فلا بد أن تقبل عليه النفس إقبال الجاد القاصد العارف بتكاليفه، المتجمع الهم والعزيمة المصمم على هذه التكاليف، ولا بد أن يدرك صاحب هذا الأمر أنه إنما يودع حياة الدعة والرخاء والرخاوة51.

    وقال تعالى: ( ﭔﭕ ) [مريم:١٢].

    أي: بجدٍّ واجتهادٍ، وذلك بتفهم المعنى أولًا حتى يفهمه على الوجه الصحيح، ثم يعمل به من جميع الجهات، فيعتقد عقائده، ويحل حلاله، ويحرم حرامه، ويتأدب بآدابه، ويتعظ بمواعظه، إلى غير ذلك من جهات العمل به52.

    وقال تعالى: ( ﭰﭱ ) [الأعراف:١٤٥].

    فأمر الله موسى عليه السلام أن يأخذ الشرع بقوة، وأن يبلغه لقومه، والواجب على هؤلاء أن يتحركوا لنشر هذا الدين وتبليغه للعالمين.

    يقول الطاهر: «والقوة هنا في قوله: ( ) تمثيلٌ لحالة العزم على العمل بما في الألواح بمنتهى الجد والحرص دون تأخيرٍ ولا تساهلٍ ولا انقطاعٍ عند المشقة ولا مللٍ، بحالة القوي الذي لا يستعصي عليه عملٌ يريده. ومنه قوله تعالى: ( ﭔﭕ) [مريم:١٢].

    وهذا الأخذ هو حظ الرسول وأصحابه المبلغين للشريعة والمنفذين لها، فالله المشرع، والرسول المنفذ، وأصحابه وولاة الأمور هم أعوانٌ على التنفيذ، وإنما اقتصر على أمر الرسول بهذا الأخذ لأنه من خصائصه من يقوم مقامه في حضرته وعند مغيبه، وهو وهم فيما سوى ذلك كسائر الأمة.

    فقوله: ( ) تعريجٌ على ما هو حظ عموم الأمة من الشريعة وهو التمسك بها»53.

    رابعًا: الامتنان بالقوة، والتحذير من الاغترار بها:

    امتن الله تعالى على قوم هود بنعمة القوة، ولذلك قال لهم هود عليه السلام: ( ﯿ ) [هود:٥٢].

    يقول الرازي: «إنه عليه السلام قال: «إنكم متى فعلتم ذلك فالله تعالى يكثر النعم عندكم ويقويكم على الانتفاع بتلك النعم»، وهذا غاية ما يراد من السعادات، فإن النعم إن لم تكن حاصلةً تعذر الانتفاع، وإن كانت حاصلةً إلا أن الحيوان قام به المنع من الانتفاع بها لم يحصل المقصود أيضًا، أما إذا كثرت النعمة وحصلت القوة الكاملة على الانتفاع بها فههنا تحصل غاية السعادة والبهجة، فقوله تعالى: ( ) إشارةٌ إلى تكثير النعم، لأن مادة حصول النعم هي الأمطار الموافقة.

    وقوله: ( ) إشارةٌ إلى كمال حال القوى التي بها يمكن الانتفاع بتلك النعمة، ولا شك أن هذه الكلمة جامعةٌ في البشارة بتحصيل السعادات وأن الزيادة عليها ممتنعةٌ في صريح العقل، ويجب على العاقل أن يتأمل في هذه اللطائف ليعرف ما في هذا الكتاب الكريم من الأسرار المخفية»54.

    وقال الله تعالى: ( ) [الفجر:٦-٨].

    قال ابن كثير: «وقوله: ( ) لأنهم كانوا يسكنون بيوت الشعر التي ترفع بالأعمدة الشداد، وقد كانوا أشد الناس في زمانهم خلقةً وأقواهم بطشًا، ولهذا ذكرهم هودٌ بتلك النعمة وأرشدهم إلى أن يستعملوها في طاعة ربهم الذي خلقهم، فقال: ( ﭯﭰ ) [الأعراف: ٦٩].

    وقال تعالى: ( ﮋﮌ ﮕﮖ ) [فصلت: ١٥].

    وقال هاهنا: ( ) أي: القبيلة التي لم يخلق مثلها في بلادهم، لقوتهم وشدتهم وعظم تركيبهم»55.

    فهذه نعم أنعم الله بها عليهم وامتن عليهم بها، ولكنهم طغوا وتجبروا، فأهلكهم الله كما أهلك غيرهم.

    قال سبحانه: ( ﭿ ﮋﮌ ) [الفجر:٦-١٤].

    وقد جمع الله في هذه الآيات القصار مصارع أقوى الجبارين الذين عرفهم التاريخ القديم، مصرع:

    • «عاد إرم» وهي عاد الأولى، وقيل: إنها من العرب العاربة أو البادية، وكان مسكنهم بالأحقاف وهي كثبان الرمال، في جنوبي الجزيرة بين حضرموت واليمن، وكانوا بدوا ذوي خيام تقوم على عماد، وقد وصفوا في القرآن بالقوة والبطش، فقد كانت قبيلة عاد هي أقوى قبيلة في وقتها وأميزها: ( ) في ذلك الأوان.
    • ( ) وكانت ثمود تسكن بالحجر في شمال الجزيرة العربية بين المدينة والشام، وقد قطعت الصخر وشيدته قصورا كما نحتت في الجبال ملاجئ ومغارات.
    • ( )، وفرعون المشار إليه هنا هو فرعون موسى الطاغية الجبار.

      هؤلاء هم ( )، وليس وراء الطغيان إلا الفساد، فالطغيان يفسد الطاغية ويفسد الذين يقع عليهم الطغيان سواء، كما يفسد العلاقات والارتباطات في كل جوانب الحياة، ويحول الحياة عن خطها السليم النظيف المعمر الباني، إلى خط آخر لا تستقيم معه خلافة الإنسان في الأرض بحال.

      إنه يجعل الطاغية أسير هواه، لأنه لا يفيء إلى ميزان ثابت، ولا يقف عند حد ظاهر، فيفسد هو أول من يفسد، ويتخذ له مكانا في الأرض غير مكان العبد المستخلف، وكذلك قال فرعون: ( )، عندما أفسده طغيانه، فتجاوز به مكان العبد المخلوق، وتطاول به إلى هذا الادعاء المقبوح، وهو فساد أي فساد!

      ثم هو يجعل الجماهير أرقاء أذلاء، مع السخط الدفين والحقد الكظيم؛ فتتعطل فيهم مشاعر الكرامة الإنسانية وملكات الابتكار المتحررة التي لا تنمو في غير جو الحرية، والنفس التي تستذل تأسن وتتعفن، وتصبح مرتعا لديدان الشهوات الهابطة والغرائز المريضة، وميدانًا للانحرافات مع انطماس البصيرة والإدراك، وفقدان الأريحية والهمة والتطلع والارتفاع، وهو فساد أي فساد!

      ثم هو يحطم الموازين والقيم والتصورات المستقيمة؛ لأنها خطر على الطغاة والطغيان، فلا بد من تزييف للقيم، وتزوير في الموازين، وتحريف للتصورات كي تقبل صورة البغي البشعة وتراها مقبولة مستساغة.

      فلما أكثروا في الأرض الفساد كان العلاج هو تطهير وجه الأرض من الفساد: ( ﮋﮌ )، فربك راصد لهم ومسجل لأعمالهم، فلما أن كثر الفساد وزاد صب عليهم سوط عذاب، وهو تعبير يوحي بلذع العذاب حين يذكر السوط، وبفيضه وغمره حين يذكر الصب، حيث يجتمع الألم اللاذع والغمرة الطاغية على الطغاة الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد.

      ( ): يرى ويحسب ويحاسب ويجازي وفق ميزان دقيق لا يخطئ ولا يظلم ولا يأخذ بظواهر الأمور لكن بحقائق الأشياء56.

      وقد حذر الله من الاغترار بالقوة في غير ما آية، فقال تعالى: ( ) [الأحقاف:٢٦].

      يقول الرازي: «والمعنى أنا فتحنا عليهم أبواب النعم وأعطيناهم سمعًا فما استعملوه في سماع الدلائل، وأعطيناهم أبصارًا فما استعملوها في تأمل العبر، وأعطيناهم أفئدةً فما استعملوها في طلب معرفة الله تعالى، بل صرفوا كل هذه القوى إلى طلب الدنيا ولذاتها؛ فلا جرم ما أغنى سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من عذاب الله شيئًا.

      ثم بين تعالى أنه إنما لم يغن عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم لأجل أنهم كانوا يجحدون بآيات الله، وقوله: ( ) بمنزلة التعليل، ولفظ إذ قد يذكر لإفادة التعليل، تقول: ضربته (إذ) أساء. والمعنى ضربته لأنه أساء. وفي هذه الآية تخويفٌ لأهل مكة، فإن قوم عادٍ لما اغتروا بدنياهم وأعرضوا عن قبول الدليل والحجة نزل بهم عذاب الله، ولم تغن عنهم قوتهم ولا كثرتهم، فأهل مكة مع عجزهم وضعفهم أولى بأن يحذروا من عذاب الله تعالى ويخافوا»57.

      ولما اغتر قارون بقوته قال الله: ( ﭖﭗ ﭨﭩ ) [القصص:٧٨].

      يقول الطبري: «يقول جل ثناؤه: أولم يعلم قارون حين زعم أنه أوتي الكنوز لفضل علمٍ عنده علمته أنا منه فاستحق بذلك أن يؤتى ما أوتي من الكنوز أن الله قد أهلك من قبله من الأمم من هو أشد منه بطشًا، وأكثر جمعًا للأموال ولو كان الله يؤتي الأموال من يؤتيه لفضلٍ فيه وخيرٍ عنده ولرضاه عنه لم يكن يهلك من أهلك من أرباب الأموال الذين كانوا أكثر منه مالًا، لأن من كان الله عنه راضيًا فمحالٌ أن يهلكه الله وهو عنه راضٍ، وإنما يهلك من كان عليه ساخطًا»58.

      فالكلام تهديدٌ للمجرمين ليحذروا من أن يؤخذوا بغتةً، ويحتمل أن يكون السؤال بمعناه الحقيقي، أي: لا يسأل المجرم عن جرمه قبل عقابه؛ لأن الله قد بين للناس على ألسنة الرسل بحدي الخير والشر، وأمهل المجرم، فإذا أخذه أخذه بغتةً، وهذا كقوله تعالى: ( ) [ الأنعام: ٤٤]59.

      وقال الله محذرا أهل مكة: ( ) [محمد:١٣].

      وهذا تهديدٌ شديدٌ ووعيدٌ أكيدٌ لأهل مكة في تكذيبهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو سيد المرسلين وخاتم الأنبياء، فإذا كان الله عز وجل قد أهلك الأمم الذين كذبوا الرسل قبله بسببهم، وقد كانوا أشد قوةً من هؤلاء، فماذا ظن هؤلاء أن يفعل الله بهم في الدنيا والأخرى؟! فإن رفع عن كثيرٍ منهم العقوبة في الدنيا لبركة وجود الرسول نبي الرحمة فإن العذاب يوفر على الكافرين به في معادهم، ( ﭢﭣ ) [هود: ٢٠]60.

      وقال تعالى: ( ﭧﭨ ﭮﭯ ) [التوبة:٦٩].

      وقال: ( ﮋﮌﮍ ﮚﮛ ) [الروم:٩].

      وقال: ( ﯿ ﰊﰋ ﰖﰗ ) [فاطر:٤٤].

      فلما عرض وصف الأمم السابقة بأنهم أشد قوةً من قريشٍ في معرض التمثيل بالأولين تهديدًا واستعدادًا لتلقي مثل عذابهم أتبع ذلك بالاحتراس عن الطماعية في النجاة من مثل عذابهم بعلة أن لهم من المنجيات ما لم يكن للأمم الخالية، كزعمهم أن لهم آلهةً تمنعهم من عذاب الله بشفاعتها أو دفاعها، فقيل: ( ) أي: هبكم أقوى من الأولين أو أشد حيلةً منهم أو لكم من الأنصار ما ليس لهم، فما أنتم بمفلتين من عذاب الله؛ لأن الله لا يعجزه شيءٌ في الأرض ولا في السماء، كقوله: ( ﯫﯬ ) [العنكبوت: ٢٢]61.

      مجالات القوة ومظاهرها

      أولًا: القوة في الدين:

      والقوة في الدين تشمل أمورا كثيرة، ومن ذلك:

      ١. أخذ الدين بقوة.

      قال الله تعالى: ( ) [البقرة:٦٣].

      ومعنى الآية: خذوا ما افترضناه عليكم في كتابنا من الفرائض فاقبلوه واعملوا باجتهادٍ منكم في أدائه من غير تقصيرٍ ولا توانٍ. وذلك هو معنى أخذهم إياه بقوةٍ بجدٍ62.

      وقال تعالى: ( ﭔﭕ ) [مريم:١٢].

      أي: بجدٍّ واجتهادٍ، وذلك بتفهم المعنى أولًا حتى يفهمه على الوجه الصحيح، ثم يعمل به من جميع الجهات، فيعتقد عقائده، ويحل حلاله، ويحرم حرامه، ويتأدب بآدابه، ويتعظ بمواعظه، إلى غير ذلك من جهات العمل به63.

      ٢. الثبات على الدين.

      ومن القوة في الدين الثبات عليه، قال تعالى: ( ﯗﯘ ﯜﯝ ) [النحل:٩٢].

      يقول الطاهر: «وقد ذكر من قصتها أنها كانت امرأةً خرقاء مختلة العقل، ولها جوارٍ، وقد اتخذت مغزلًا قدر ذراعٍ وصنارة مثل أصبعٍ وفلكة عظيمة على قدر ذلك، فكانت تغزل هي وجواريها من الغداة إلى الظهر ثم تأمرهن فتنقض ما غزلته، وهكذا تفعل كل يومٍ، فكان حالها إفساد ما كان نافعًا محكمًا من عملها وإرجاعه إلى عدم الصلاح، فنهوا عن أن يكون حالهم كحالها في نقضهم عهد الله وهو عهد الإيمان بالرجوع إلى الكفر وأعمال الجاهلية. ووجه الشبه الرجوع إلى فسادٍ بعد التلبس بصلاحٍ»64.

      وهذا يشمل جميع ما عاهد العبد عليه ربه من العبادات والنذور والأيمان التي عقدها، إذا كان الوفاء بها برا، ويشمل أيضا ما تعاقد عليه هو وغيره، كالعهود بين المتعاقدين، وكالوعد الذي يعده العبد لغيره ويؤكده على نفسه، فعليه في جميع ذلك الوفاء وتتميمها مع القدرة، ولهذا نهى الله عن نقضها65.

      ٣. تبليغه للناس.

      ومن القوة في الدين تبليغه للناس، قال تعالى: ( ﭰﭱ ) [الأعراف:١٤٥].

      فأمر الله موسى عليه السلام أن يأخذ الشرع بقوة، وأن يبلغه لقومه، والواجب على هؤلاء أن يتحركوا لنشر هذا الدين،وتبليغه للعالمين.

      يقول الطاهر: «والقوة هنا في قوله: ( ) تمثيلٌ لحالة العزم على العمل بما في الألواح بمنتهى الجد والحرص دون تأخيرٍ ولا تساهلٍ ولا انقطاعٍ عند المشقة ولا مللٍ، بحالة القوي الذي لا يستعصي عليه عملٌ يريده. ومنه قوله تعالى: ( ) [مريم:١٢].

      وهذا الأخذ هو حظ الرسول وأصحابه المبلغين للشريعة والمنفذين لها، فالله المشرع، والرسول المنفذ، وأصحابه وولاة الأمور هم أعوانٌ على التنفيذ، وإنما اقتصر على أمر الرسول بهذا الأخذ لأنه من خصائصه من يقوم مقامه في حضرته وعند مغيبه، وهو وهم فيما سوى ذلك كسائر الأمة.

      فقوله: ( )[ الأعراف: ١٤٥].

      تعريجٌ على ما هو حظ عموم الأمة من الشريعة وهو التمسك بها» 66.

      ٤. أخذ الدين بشمولية.

      قال تعالى: ( ﭰﭱ ) [الأعراف:١٤٥].

      فالأمر الإلهي الجليل لموسى عليه السلام أن يأخذ الألواح بقوة وعزم، وأن يأمر قومه أن يأخذوا بما فيها من التكاليف الشاقة بوصفه الأحسن لهم والأصلح لحالهم.

      هذا الأمر على هذا النحو فضلًا على أنه يشي بضرورة هذا الأسلوب في أخذ هذه الطبيعة الإسرائيلية التي أفسدها الذل وطول الأمد بالعزم والجد لتحمل تكاليف الرسالة والخلافة، فإنه - كذلك - يوحي بالمنهج الواجب في أخذ كل أمة لكل عقيدة تأتيها.

      إن العقيدة أمر هائل عند الله سبحانه وأمر هائل في حساب هذا الكون، وقدر الله الذي يصرفه، وأمر هائل في تاريخ الإنسان وحياته في هذه الأرض وفي الدار الآخرة كذلك.

      والمنهج الذي تشرعه العقيدة في وحدانية الله سبحانه وعبودية البشر لربوبيته وحده منهج يغير أسلوب الحياة البشرية بجملتها، ويقيم هذه الحياة على أسلوب آخر غير الذي تجري عليه في الجاهلية، حيث تقوم ربوبية غير ربوبية الله سبحانه، ذات منهج للحياة كلها غير منهج الله الذي ينبثق من تلك العقيدة.

      وأمر له هذه الخطورة عند الله وفي حساب الكون وفي طبيعة الحياة وفي تاريخ الإنسان يجب أن يؤخذ بقوة، وأن تكون له جديته في النفس، وصراحته وحسمه، ولا ينبغي أن يؤخذ في رخاوة، ولا في تميع، ولا في ترخص، ذلك أنه أمر هائل في ذاته، فضلًا على أن تكاليفه باهظة لا يصبر عليها من طبيعته الرخاوة والتميع والترخص أو من يأخذ الأمر بمثل هذه المشاعر.

      وليس معنى هذا - بطبيعة الحال - هو التشدد والتعنت والتعقيد والتقبض! فهذا ليس من طبيعة دين الله.

      ولكن معناه الجد والهمة والحسم والصراحة وهي صفات أخرى ومشاعر أخرى غير مشاعر التشدد والتعنت والتعقيد والتقبض!

      ولقد كانت طبيعة بني إسرائيل - بصفة خاصة - بعدما أفسدها طول الذل والعبودية في مصر تحتاج إلى هذا التوجيه، لذلك نلحظ أن كل الأوامر لبني إسرائيل كانت مصحوبة بمثل هذا التشديد وهذا التوكيد، تربية لهذه الطبيعة الرخوة الملتوية المنحرفة الخاوية على الاستقامة والجد والوضوح والصراحة.

      ومثل طبيعة بني إسرائيل كل طبيعة تعرضت لمثل ما تعرضوا له من طول العبودية والذل والخضوع للإرهاب والتعبد للطواغيت، فبدت عليها أعراض الالتواء والاحتيال، والأخذ بالأسهل تجنبًا للمشقة.

      كما هو الملحوظ في واقع كثير من الجماعات البشرية التي نطالعها في زماننا هذا، والتي تهرب من العقيدة لتهرب من تكاليفها، وتسير مع القطيع لأن السير مع القطيع لا يكلفها شيئًا!67.

      فالواجب على العباد أن يأخذوا التكاليف كلها، كما قال تعالى: ( ﯘﯙ ) [البقرة:٢٠٨].

      فتأويل ذلك دعاءٌ للمؤمنين إلى رفض جميع المعاني التي ليست من حكم الإسلام، والعمل بجميع شرائع الإسلام، والنهي عن تضييع شيءٍ من حدوده68.

      ولما دعا الله الذين آمنوا أن يدخلوا في السلم كافة حذرهم أن يتبعوا خطوات الشيطان، فإنه ليس هناك إلا اتجاهان اثنان، إما الدخول في السلم كافة، وإما اتباع خطوات الشيطان، إما هدى وإما ضلال، إما إسلام وإما جاهلية، إما طريق الله وإما طريق الشيطان، وإما هدى الله وإما غواية الشيطان، وبمثل هذا الحسم ينبغي أن يدرك المسلم موقفه، فلا يتلجلج ولا يتردد ولا يتحير بين شتى السبل وشتى الاتجاهات.

      إنه ليست هنالك مناهج متعددة للمؤمن ليختار واحدًا منها، أو يخلط واحدا منها بواحد، كلا! إنه من لا يدخل في السلم بكليته، ومن لا يسلم نفسه خالصة لقيادة الله وشريعته، ومن لا يتجرد من كل تصور آخر ومن كل منهج آخر ومن كل شرع آخر، إن هذا في سبيل الشيطان، سائر على خطوات الشيطان.

      ليس هنالك حل وسط، ولا منهج بين بين، ولا خطة نصفها من هنا ونصفها من هناك! إنما هناك حق وباطل، هدى وضلال، إسلام وجاهلية، منهج الله أو غواية الشيطان، والله يدعو المؤمنين في الأولى إلى الدخول في السلم كافة ويحذرهم في الثانية من اتباع خطوات الشيطان، ويستجيش ضمائرهم ومشاعرهم، ويستثير مخاوفهم بتذكيرهم بعداوة الشيطان لهم، تلك العداوة الواضحة البينة التي لا ينساها إلا غافل، والغفلة لا تكون مع الإيمان69.

      إن الملاحظ في عامة أوساط الناس انحصار مفهوم الحديث في القوة الظاهرة المكتسبة في ظاهر بدن الإنسان، فتجد في الواقع أكثر الناس ممن لهم في ذلك الشأن أقوياء في البدن ضعفاء في الروح، بل ربما كانت هذه القوة مصدر شقاء هذه الأجساد في كثير من الأحيان، ترى ذلك في الواقع أكثر من أن تقدر على حصره.

      وثمة معنى عظيم الأثر في تحقيق أثر الإنسان في الأرض، وأكبر حادٍ له إلى صناعة المجد، وأقوى الأسباب في تحقيق غايات الإنسان وبناء تاريخه في الدنيا، هذا المعنى يغفل عنه الناس، ولا يأخذ من حياتهم الحيز الذي شغله معنى القوة الظاهرية في بناء أنفسهم، وهو لا يكلفهم مالًا، ولا يتطلب منهم مجهودًا كما يتطلب منهم المعنى الأول، ألا وهو معنى الصلة بالله تعالى.

      إن الصلة بالله تعالى تصنع في حياة الإنسان من النشاط والحركة والقوة والتأثير ما لا يصنعه بناء كمال الأجسام، ولا سبيل للمقارنة بين المعنيين، وأضرب لك لتقريب هذا المعنى الأمثلة التالية:

      المثال الأول: حين أراد الله تعالى أن يرسل نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم ليبلغ الناس هذا الدين أبلغه وصية نافعة وأرشده إلى الطريق الذي يتحمل به أعباء الدعوة، وشدد عليه في اعتناق ذلك المعنى بكل ما يملك، ( ) [المزمل:١-٧].

      وكل ذلك كان من أجل البلاغ، ( ) [المزمل:٥] كأن الله تعالى يقول به: إنه لا سبيل لك للقيام بهذه المهمة الشاقة الصعبة إلا بحسن الصلة ووطيد العلاقة وقوة الحياة في قلبك واستمدادك للقوة التي تحملك لبلاغ دين الله تعالى في الأرض.

      وكانت هذه الوصية فيما بعد هي زاد النبي صلى الله عليه وسلم الروحي والمعنوي الذي استوثق منه غاية وسعه، فاستقبل بعد ذلك الدعوة وهو في أوج روحه وعطائه وجهده، فذهب يعلي بها كلمة الله تعالى في الأرض، وما رحل من الدنيا حتى سجل أروع صور التاريخ أثرًا.

      المثال الثاني: عن أبي هريرة، أن فاطمة أتت النبي صلى الله عليه وسلم تسأله خادمًا وشكت العمل، فقال: (ما ألفيتيه عندنا) قال: (ألا أدلك على ما هو خيرٌ لك من خادمٍ؟ تسبحين ثلاثًا وثلاثين، وتحمدين ثلاثًا وثلاثين، وتكبرين أربعًا وثلاثين، حين تأخذين مضجعك)70.

      فتأمل هذه العلاقة بين شكوى فاطمة من الإرهاق الجسدي الذي تتعرض له كل يوم في بيتها وتأتي تسأل أباها عن ما يخفف تلك الآلام التي تعتري جسدها فلا يجد لها النبي صلى الله عليه وسلم إلا هذه الوصية المعنوية الروحية يسلي بها خاطرها، ويسل بها أثر تعبها وخدمتها، ولولا أن لهذا الذكر فائدة كبرى في تقوية الإنسان على عمله وجهاده في الحياة لما كانت الوصية به في هذا المقام.

      ثانيًا: الجهاد، والإعداد له، ومقاومة العدو:

      الحق له قوة ذاتية نابعة منه ومن تجافيه عن الباطل، ويستطيع دعاة الحق أن يصلوا به إلى عقول الناس بما احتواه من الحجج والبراهين الدالة عليه، ولا يحتاج الحق في إقناع الناس به إلى قوة تجبرهم أو تكرههم على القبول به واختياره؛ فإن قوته فيه، ومتى ما احتاج الحق إلى الإكراه لتحقيق الاقتناع بأدلته وبراهينه لم يكن حقًا؛ لذا جاء النص بنفي الإكراه في الدين.

      وذلك في قوله تعالى: (ﯿ ﰂﰃ ﰈﰉ ﰕﰖ ) [البقرة:٢٥٦].

      فالإسلام دين حق عليه دلائل يقينية كل من اطلع عليها لا يملك غير التسليم بها والإذعان لها؛ فلا حاجة إذن إلى الإكراه عليه. قال ابن كثير: «لا تكرهوا أحدًا على الدخول في دين الإسلام فإنه بينٌ واضحٌ جليٌ دلائله وبراهينه لا يحتاج إلى أن يكره أحدٌ على الدخول فيه، بل من هداه الله للإسلام وشرح صدره ونور بصيرته دخل فيه على بينةٍ، ومن أعمى الله قلبه وختم على سمعه وبصره فإنه لا يفيده الدخول في الدين مكرهًا مقسورًا. وقد ذكروا أن سبب نزول هذه الآية في قومٍ من الأنصار، وإن كان حكمها عامًا»71.

      ولعل مجيء الآية بلفظ: (ﯿ ) وليس بلفظ: لا إكراه على الدين، مما يوضح ذلك، ثم كان قوله تعالى: ( ) كالتعليل لما سبق.

      ورغم أن الحق منصور من داخله بأدلته وبراهينه، فلا بد له من قوة خارجية، لا لكي يفرض بها نفسه على الناس، وإنما يحتاج إليها لأمرين:

      الأول: لكي تدافع عنه ضد عدوان المعتدين وصيال الصائلين الذين ختم الله تعالى على قلوبهم، وأصبح نهجهم العناد والمكابرة، والعدوان على المخالفين.

      الثاني: جهاد الطغاة الظالمين الذين يصدون الناس بما لديهم من سلطان وقوة عن الاستجابة للنداء الحق، ويصرفونهم عن اتباعه، ويجبرونهم جبرًا وقسرًا على البقاء على دينهم الفاسد وعدم الإقبال على الدين الحق، ولأجل تلك الحقيقة شرع الله سبحانه الجهاد.

      لقد كانت مكة عند بداية الدعوة إلى الله دار كفر وكان الغالب على أهلها الكفر بالله تعالى، واستمر ذلك زمنًا طويلًا؛ لذلك لم يكن هناك من فائدة لإعداد العدة والقوة الحربية؛ لأنها في ظل موازين القوى غير المتكافئة لن تستخدم، ويكون استخدامها في ذلك الوقت المبكر من عمر الدعوة مدعاة للقول بأن الإسلام جاء من أجل قتال الناس، ولو قدر له الانتصار لقالوا: إنما انتشر بقوة السيف ودخله الناس مكرهين ولم يدخلوا مؤمنين.

      ثم إن ذلك قد يؤدي إلى أمر خطير لو قدر للدعوة أن تنهزم وهو استئصالها في مهدها ومنعها من النمو، كما أن شرع الجهاد في ذلك الوقت المبكر لن يساعد على تربية المسلمين الذين استجابوا لله والرسول ولدعوة الحق.

      ومع أن الإعداد الحربي في ذلك الوقت غير ممكن وغير مراد، لكن كان يجري هناك إعداد أهم بكثير من الإعداد الحربي، بل لا يقوم الإعداد الحربي إلا عليه، فكان هناك إعداد أكثر أهمية يجري على أرض الواقع على بصيرة وجد واجتهاد، مع الروية وعدم العجلة، وهو بناء المسلم من داخله: عقيدته، وتصوراته، وعبادته.

      وما إن انتقل المسلمون من دار الدعوة -مكة المكرمة- إلى دار الدولة -المدينة المنورة- حتى بدأت مرحلة جديدة من الإعداد وهو الإعداد الحربي، وجاء الأمر بذلك من الله -رب الخلق جميعهم-، فقال: ( ﯬﯭ ) [الأنفال:٦٠].

      قال ابن كثير: «أمر تعالى بإعداد آلات الحرب لمقاتلتهم حسب الطاقة والإمكان والاستطاعة، فقال: ( ) أي: مهما أمكنكم، ( )»72.

      وقال الطبري: «والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله أمر المؤمنين بإعداد الجهاد وآلة الحرب وما يتقوون به على جهاد عدوه وعدوهم من المشركين من السلاح والرمي وغير ذلك ورباط الخيل. ولا وجه لأن يقال: عنى بالقوة معنًى دون معنًى من معاني القوة، وقد عم الله الأمر بها. فإن قال قائلٌ: فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بين أن ذلك مرادٌ به الخصوص بقوله: (ألا إن القوة الرمي) قيل له: إن الخبر وإن كان قد جاء بذلك فليس في الخبر ما يدل على أنه مرادٌ بها الرمي خاصةً دون سائر معاني القوة عليهم، فإن الرمي أحد معاني القوة؛ لأنه إنما قيل في الخبر: (ألا إن القوة الرمي) ولم يقل دون غيرها. ومن القوة أيضًا السيف والرمح والحربة، وكل ما كان معونةً على قتال المشركين، كمعونة الرمي أو أبلغ من الرمي فيهم وفي النكاية منهم»73.

      وقال ابن عاشور: «والإعداد التهيئة والإحضار، ودخل في ما استطعتم كل ما يدخل تحت قدرة الناس اتخاذه من العدة.

      والخطاب لجماعة المسلمين وولاة الأمر منهم، لأن ما يراد من الجماعة إنما يقوم بتنفيذه ولاة الأمور الذين هم وكلاء الأمة على مصالحها.

      فقوة الجيش شدة وقعه على العدو، وقوته أيضًا سلاحه وعتاده، وهو المراد هنا، فاتخاذ السيوف والرماح والأقواس والنبال من القوة في جيوش العصور الماضية، واتخاذ الدبابات والمدافع والطيارات والصواريخ من القوة في جيوش عصرنا.

      وبهذا الاعتبار يفسر ما روى مسلمٌ74 عن عقبة بن عامرٍ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية على المنبر ثم قال: (ألا إن القوة الرمي)، قالها ثلاثًا، أي أكمل أفراد القوة آلة الرمي، أي في ذلك العصر. وليس المراد حصر القوة في آلة الرمي.

      وعطف رباط الخيل على القوة من عطف الخاص على العام، للاهتمام بذلك الخاص»75.

      فقد صار بالإمكان الآن - بعد تحيز المسلمين إلى دار تأويهم - استعمال العدة الحربية والاستفادة منها، وأصبح وجودها والتدرب عليها في هذه الحالة ضرورة لا بد منها حيث تحقق أهداف المسلمين، بعكس الحالة الأولى التي كان من الممكن أن تشكل عبئًا عليهم.

      وقد أطلقت الآية في بيان القوة التي ينبغي إعدادها من غير تقييد حتى يسمح إطلاقها بقبول ما يجد من آلات القوة مع تغير الأزمنة، وهذا الأمر يفرض على جماعة المسلمين الجد والاجتهاد والمثابرة في تحصيل القوة الممكنة في عصرهم التي من شأنها أن تردع الكفار المحاربين أعداء الله ورسله والمؤمنين.

      وفي الأمر بإعداد ما يستطاع من القوة نهي عن الإهمال والتقاعس عن امتلاك أقصى ما يمكن امتلاكه من القوة الحقيقية ووسائلها لا القوة الصورية أو الاستعراضية؛ فالأمة الإسلامية أمة رسالية، مطلوب منها تبليغ رسالة الله إلى العالمين.

      وقد بين نص الآية السبب الذي لأجله أمر المسلمون بإعداد ما يستطاع من القوة، وهو قوله تعالى: ( ) [الأنفال: ٦٠].

      فكان في إعداد القوة البالغة أمان للأمة من الأعداء المعروفين وغير المعروفين، حتى إنه ليخافها ويرهب جانبها من لا يعرفه المسلمون، مما يشكل رادعًا لمن تسول له نفسه مهاجمتهم أو التآمر عليهم، ويصير الإهمال في إعداد ما يستطاع من القوة مدعاة لأن يستخف بهم أعداؤهم ويتجرؤون عليهم.

      هذا النص القرآني في وجوب إعداد القوة التي تخيف الأعداء، بغرض تأمين الدعوة إلى الله في أرض الله، وتأمين دار الإسلام ضد عدوان المعتدين، يفتح باب التصنيع الحربي أمام المسلمين على مصراعيه؛ لأن إعداد المستطاع من القوة لا يتم إلا بذلك، ومن القواعد المشهورة عند أهل العلم أن (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب).

      وقد أشار القرآن إلى الصناعات الحربية في قوله تعالى: ( ) الآية، [الحديد: ٢٥].

      قال ابن كثير: «يعني: السلاح كالسيوف، والحراب، والسنان، والنصال، والدروع، ونحوها»76.

      والحديد لا يصير سيوفًا وحرابًا ونصالًا إلا بالتصنيع، وكذلك قال تعالى ممتنًا بتعليم الصناعة الحربية لعبده داود عليه السلام: ( ﯟﯠ ) [الأنبياء:٨٠].

      قال القرطبي: «قوله تعالى: ( ) يعني: اتخاذ الدروع بإلانة الحديد له، واللبوس عند العرب السلاح كله، درعًا كان أو جوشنًا أو سيفًا أو رمحًا»77.

      كما دلت النصوص على العناية بالمركبات الحربية التي يستخدمها المجاهدون، أو التي تنقلهم إلى ميادين الجهاد، مما يبين أن صناعة المركبات الحربية سواء كانت دبابات برية أو سفنًا وغواصات بحرية أو طائرات جوية، ينبغي أن تلقى العناية أيضًا؛ فإن الجهاد بغيرها متعذر أو مستحيل في أيامنا.

      ومن النصوص التي تحدثت عن المركبات الحربية قوله تعالى: ( ) فالخيل هي المركبات الحربية في زمن نزول القرآن.

      فإذا كانت النصوص الشرعية قد دلت على العناية بصناعة الأسلحة والمركبات الحربية، وعمل بذلك سلفنا الصالح، فإنه يكون من أكبر التقصير الذي تقع فيه الأمة اليوم أن تظل تعتمد في سلاحها الذي تحفظ به أمنها وتنشر به دعوة الله المكلفة بإيصالها للعالمين، على عدوها الذي لا يألوها خبالًا كما قال تعالى: (ﭿ ﮋﮌ ﮕﮖ ﮚﮛ ) [آل عمران: ١١٨].

      ولا شك أن اعتماد الأمة في سلاحها على الشراء فقط دون التصنيع، له مفاسد كثيرة، منها: المبالغ الضخمة التي تدفع في هذه الأسلحة التي تفوق بمراحل كثيرة قيمتها الفعلية، ومنها أن تلك الأسلحة لا يمكن أن تكون أسلحة متقدمة متطورة تغني في مواقع النزال مع أعداء الأمة، بل إن موردي السلاح من دول النصارى لا يعطون الأمة إلا الأسلحة التي لا تخل بميزان القوى بين الأمة وبين عدوها، بحيث تضمن تلك الدول للعدو أن يحقق التفوق الحربي على الدول العربية مجتمعة أثناء القتال، ومنه منع الإمداد بالسلاح أو الذخيرة وقت الحاجة إليه، فتقف الجيوش عاجزة عن التحرك، ويفرض على الأمة حينئذ ما يشاؤون من الحلول الانهزامية؛ وأمامنا ما حدث في قضية البوسنة والهرسك؛ حيث منع عنهم السلاح وهم يتعرضون للقتل الشديد من الصرب.

      ومن مفاسد الاعتماد في التسليح على الغير أن يكون قرار الأمة مغلولًا غير قادر على التحرر والاستقلالية، وهذا الوضع يؤدي إلى استخفاف كثير من الدول بالمسلمين.

      إن من الأمور الغريبة التي يعسر إيجاد تسويغ مقبول لها أن تكون الأمة التي جعل الله الجهاد في سبيله لتبليغ رسالة رب العالمين إلى الناس كافة أحد فرائض دينها، ثم هي تهمل آلته وما يساعد عليه، رغم امتلاكها لكل ما تحتاج إليه مما يمكن أن يقيم صناعة حربية متطورة تزود الدول الإسلامية جميعها بما تحتاج إليه.

      لقد أدى هذا الوضع إلى أن تنتقص بلاد المسلمين من أطرافها، ويحتلها الكفار من اليهود والنصارى وهم مطمئنون إلى عدم قدرة هذه الدول على الدفاع عن نفسها؛ لأنها لا تملك سلاحها الذي تدافع به عن نفسها.

      لقد تطورت صناعة الأسلحة بما فيها المركبات الحربية في أيامنا هذه تطورًا مذهلًا، وقد بات الآن من الأمور الواضحة في فقه السياسة الشرعية وجوب القيام بالتصنيع الحربي في جميع المجالات، وجوبًا لا يحتمل التأخير والمماطلة، وإذا كانت الأمة تعاني من تخلف كبير في هذا المجال فإنها يمكنها أن تتكامل في ذلك مع الدول الإسلامية المتقدمة في مجال التصنيع الحربي، وأن تبدأ من الآن، وتوجه الجهود، وتقيم مراكز الأبحاث، وترصد الأموال اللازمة، ومن سار على الدرب وصل ولو بعد حين.

      إنه ليس هناك ما يسوغ لأحد التقاعس أو الإهمال في إعداد العدة المناسبة لعصرها، وقد تبين لنا جميعًا أنه لا يمكن الاعتماد أو الركون إلى ما يسمونه تطمينات أو وعود أو نحو ذلك؛ فالخطط معدة، والانقضاض على بلادنا ليس إلا مسألة ظرف مناسب؛ فالبدار البدار؛ فإن الندم بعد وقوع المصاب لا يجدي، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني78.

      ثالثًا: البناء والعمران، والإصلاح والأعمال:

      قال تعالى: ( ﭛﭜ ﭩﭪ ) [الحديد:٢٥].

      يقول الرازي: «وأما الحديد ففيه البأس الشديد فإن آلات الحروب متخذةٌ منه، وفيه أيضًا منافع كثيرةٌ منها قوله تعالى: ( ) [الأنبياء: ٨٠].

      ومنها أن مصالح العالم، إما أصولٌ، وإما فروعٌ، أما الأصول فأربعةٌ: الزراعة والحياكة وبناء البيوت والسلطنة، وذلك لأن الإنسان مضطرٌ إلى طعامٍ يأكله وثوبٍ يلبسه وبناءٍ يجلس فيه، والإنسان مدنيٌ بالطبع فلا تتم مصلحته إلا عند اجتماع جمعٍ من أبناء جنسه يشتغل كل واحدٍ منهم بمهمٍ خاصٍ، فحينئذٍ ينتظم من الكل مصالح الكل، وذلك الانتظام لا بد وأن يفضي إلى المزاحمة، ولا بد من شخصٍ يدفع ضرر البعض عن البعض، وذلك هو السلطان.

      فثبت أنه لا تنتظم مصلحة العالم إلا بهذه الحروف الأربعة، أما الزراعة فمحتاجةٌ إلى الحديد، وذلك في كرب الأراضي وحفرها، ثم عند تكون هذه الحبوب وتولدها لا بد من خبزها وتنقيتها، وذلك لا يتم إلا بالحديد، ثم الحبوب لا بد من طحنها وذلك لا يتم إلا بالحديد، ثم لا بد من خبزها ولا يتم إلا بالنار، ولا بد من المقدحة الحديدية، وأما الفواكه فلا بد من تنظيفها عن قشورها، وقطعها على الوجوه الموافقة للأكل ولا يتم ذلك إلا بالحديد.

      وأما الحياكة فمعلومٌ أنه يحتاج في آلات الحياكة إلى الحديد ثم يحتاج في قطع الثياب وخياطتها إلى الحديد، وأما البناء فمعلومٌ أن كمال الحال فيه لا يحصل إلا بالحديد، وأما أسباب السلطنة فمعلومٌ أنها لا تتم ولا تكمل إلا بالحديد، وعند هذا يظهر أن أكثر مصالح العالم لا تتم إلا بالحديد.

      ويظهر أيضًا أن الذهب لا يقوم مقام الحديد في شيءٍ من هذه المصالح فلو لم يوجد الذهب في الدنيا ما كان يختل شيءٌ من مصالح الدنيا، ولو لم يوجد الحديد لاختل جميع مصالح الدنيا، ثم إن الحديد لما كانت الحاجة إليه شديدةً، جعله سهل الوجدان، كثير الوجود، والذهب لما قلت الحاجة إليه جعله عزيز الوجود، وعند هذا يظهر أثر وجود الله تعالى ورحمته على عبيده، فإن كل ما كانت حاجتهم إليه أكثر، جعل وجدانه أسهل.

      ولهذا قال بعض الحكماء إن أعظم الأمور حاجةً إليه هو الهواء، فإنه لو انقطع وصوله إلى القلب لحظةً لمات الإنسان في الحال، فلا جرم جعله الله أسهل الأشياء وجدانًا...»79.

      وممن ذكر الله قوتهم في البنيان والعمران، الجن في عهد سليمان عليه السلام.

      يقول سبحانه: ( ﮧﮨ ﮬﮭ ﯖﯗ ﯬﯭ ﯱﯲ ) [سبأ:١٢-١٣].

      فمنهم من هو مستعملٌ في الأبنية الهائلة من محاريب وتماثيل وجفانٍ كالجواب وقدورٍ راسياتٍ إلى غير ذلك من الأعمال الشاقة التي لا يقدر عليها البشر، وطائفةٌ غواصون في البحار يستخرجون مما فيها من اللآلئ والجواهر والأشياء النفيسة التي لا توجد إلا فيها80.

      ومن استخدام القوة في البنيان والإصلاح، ما قصه الله علينا في قصة ذي القرنين.

      قال تعالى: ( ﯿ ﰇﰈ ﰏﰐ ﭕﭖ ﭜﭝ ) [الكهف: ٩٣-٩٨].

      والإشارة بهذا إلى الردم، وهو رحمةٌ للناس لما فيه من رد فساد أمة يأجوج ومأجوج عن أمةٍ أخرى صالحة81.

      فقد استخدم ذو القرنين قوته في بناء السد العظيم، وفي ذلك من الإصلاح والعمران، والحفاظ على هؤلاء الصالحين ما فيه.

      رابعًا: القوة الجسمية والنفسية:

      قال تعالى: ( ﮬﮭ ) [القصص:٢٦].

      فهنا اجتماع القوتين، النفسية والجسمية، فالأولى المتمثلة في (الأمانة)، والثانية المتمثلة في (القوة).

      يقول الزمخشري: «والمعنى: أنه وصل إلى ذلك الماء وقد ازدحمت عليه أمة من أناس مختلفة متكاثفة العدد، ورأى الضعيفتين من ورائهم مع غنيمتهما مترقبتين لفراغهم، فما أخطأت همته في دين الله تلك الفرصة، مع ما كان به من النصب وسقوط خف القدم والجوع، ولكنه رحمهما فأغاثهما، وكفاهما أمر السقي في مثل تلك الزحمة بقوة قلبه وقوة ساعده، وما آتاه الله من الفضل في متانة الفطرة ورصانة الجبلة وفيه مع إرادة اقتصاص أمره وما أوتى من البطش والقوة وما لم يغفل عنه، على ما كان به من انتهاز فرصة الاحتساب، ترغيب في الخير، وانتهاز فرصه، وبعث على الاقتداء في ذلك بالصالحين والأخذ بسيرهم ومذاهبهم»82.

      وقال: ( ﮕﮖ ﮥﮦ ﮰﮱ ﯗﯘ ) [البقرة: ٢٤٧].

      فهم طعنوا في استحقاقه للملك بأمرين:

      أحدهما: أنه ليس من أهل بيت الملك.

      الثاني: أنه فقيرٌ.

      والله تعالى بين أنه أهلٌ للملك وقرر ذلك بأنه حصل له وصفان أحدهما: العلم والثاني: القدرة، وهذان الوصفان أشد مناسبةً لاستحقاقه الملك من الوصفين الأولين وبيانه من وجوه:

      أحدها: أن العلم والقدرة من باب الكمالات الحقيقة، والمال والجاه ليسا كذلك.

      والثاني: أن العلم والقدرة من الكمالات الحاصلة لجوهر نفس الإنسان والمال والجاه أمران منفصلان عن ذات الإنسان.

      الثالث: أن العلم والقدرة لا يمكن سلبهما عن الإنسان، والمال والجاه يمكن سلبهما عن الإنسان.

      والرابع: أن العلم بأمر الحروب، والقوي الشديد على المحاربة يكون الانتفاع به في حفظ مصلحة البلد، وفي دفع شر الأعداء أتم من الانتفاع بالرجل النسيب الغني إذا لم يكن له علمٌ بضبط المصالح، وقدرةٌ على دفع الأعداء، فثبت بما ذكرنا أن إسناد الملك إلى العالم القادر، أولى من إسناده إلى النسيب الغني83.

      آثار القوة

      أولًا: القوة وسيلة للوصول إلى غايات:

      إنه لا بد للإسلام من قوة ينطلق بها في الأرض لتحرير الإنسان.

      وأول ما تصنعه هذه القوة في حقل الدعوة: أن تُؤَمِّنَ الذين يختارون هذه العقيدة على حريتهم في اختيارها فلا يصدوا عنها، ولا يفتنوا كذلك بعد اعتناقها.

      والأمر الثاني: أن ترهب أعداء هذا الدين فلا يفكروا في الاعتداء على دار الإسلام التي تحميها تلك القوة.

      والأمر الثالث: أن يبلغ الرعب بهؤلاء الأعداء أن لا يفكروا في الوقوف في وجه المد الإسلامي، وهو ينطلق لتحرير «الإنسان» كله في «الأرض» كلها.

      والأمر الرابع: أن تحطم هذه القوة كل قوة في الأرض تتخذ لنفسها صفة الألوهية، فتحكم الناس بشرائعها هي وسلطانها، ولا تعترف بأن الألوهية لله وحده84.

      يقول عبد الرحمن حبنكة عن الجهاد - وهو نوع من أنواع القوة -: إن الجهاد المقدس يهدف إلى غاية نبيلة مثالية، هي العمل على نشر عقيدة دينية ربانية بين الناس، آمنت بها أمة، ودعاها إيمانها بها إلى أن تسعى في نشرها وتعميمها على الناس، حبًّا للخير، وغيرة على بني الإنسان، وطاعة لله، وهي أيضًا تمكين المؤمنين بها من إقامة الحق والعدل بين الناس، والحكم بينهم بما أنزل الله، والسعي في جلب الخير لهم، على حب ورحمة وإخاء.

      هذه هي غاية الجهاد المقدس في أصول تعاليم الأديان الربانية كلها، وليست غايته الأساسية طلبًا لثراء المؤمنين، أو رغبة بانتصارهم أو غلبتهم، أو سعيًا وراء السلطان والعلو في الأرض، إلا أن تكون هذه الأمور وسيلة للغاية الأساسية.

      وبناء على هذه الغاية الأساسية للجهاد المقدس يغدو المستجيبون الجدد لدعوته مثل المجاهدين الفاتحين، دون أي فروق بين حامل العقيدة الأول وحامل العقيدة الجديد، إلا الفروق التي تقتضيها طبيعة الأمور لدى كل أمة، وهي الفروق التي تعتمد على التفاوت في مقدار الثقة، والكفاءات الذاتية أو العلمية أو المكتسبة بالخبرات والمهارات العملية.

      ويدل على إقرار اعتبار ذلك قول الله تعالى: ( ﯨﯩ ﯷﯸ ﯿ ﰀﰁ ) [الأنفال:٧٤-٧٥].

      فهذا يشعر باعتبار فروق العمل لدى قياس نسب التفاوت بين الأفراد، ويدل عليه بوضوح أيضًا قول الله: ( ﭞﭟ ﭧﭨ ﭬﭭ ) [ النساء:٩٥].

      أما عند الله تعالى فالتفاوت في التكريم يستند إلى مقدار التفاوت في تقوى الله لا غير، وهو المقياس الذي يقاس به الجزاء الرباني يوم القيامة.

      ويدل عليه قول الله تعالى: ( ﮅﮆ ) [الحجرات:١٣].

      فأفضلية التكريم عند الله متناسبة طردًا مع أفضلية نسبة التقوى، ويلزم من ذلك عقلًا أن تتنازل الأفضلية بمقدار تنازل درجات التقوى.

      والغاية المثالية العظيمة التي هي هدف الجهاد المقدس لا يخدشها ما يلزم عنه من أمور مادية ترافق حركته، دون أن تكون مقصودة في الأصل لرسالته.

      فقد يفضي الجهاد إلى تحقيق بعض المغانم المادية، وقد يفضي إلى ضرورة بسط سلطان المجاهدين الفاتحين، لإقامة الحق والعدل والدعوة إلى الخير، وفعل الخير، وتأمين حرية انتشار دين الله، نظرًا إلى طبيعة الأحوال الإنسانية التي تقتضيها ظروف الجهاد والفتح من جهة، وظروف عناد أعداء دين الله وصراعهم للحق وكيدهم له من الجهة المضادة، مع إلحاح الدواعي المثالية التي توجب إضعافهم كبحًا لجماح الشر والفتنة.

      ومع ذلك فإن رسالة الجهاد المقدس تظل في جميع الأحوال رسالة مثالية، لا تهدف في أساسها إلى إرضاء شهوة الحكم عند أمة ضد أخرى، أو كسب مغانم لها، أو تسليط شعب على شعب.

      ومتى تحول الجهاد عن غايته الربانية إلى الغايات الإنسانية الأخرى، المتصلة بالمطامع المادية أو الغرائز النفسية، أمسى شكلًا من أشكال محاولات سيطرة بعض الشعوب على بعض. ولقد عرف التاريخ منها في بحر الزمن أمواجًا كثيرة مقبلة أو مدبرة، تبعًا لرياح المطامع والشهوات الإنسانية، مع الشعور بالقوة القادرة على التغلب والاستيلاء.

      وحينما ينحرف الجهاد عن غايته التي حددها الله في رسالاته، يكل الله القائمين به إلى أنفسهم، وإلى إمكاناتهم الإنسانية البحتة، ويحجب عنهم العون والمدد والتأييد، ويقذف في قلوبهم الرعب، ويطرحهم مع حشد الأمواج البشرية التي تتلاطم في حدود إمكاناتها المادية الخالية من القوى المعنوية المؤثرة الغلابة. وكذلك حينما يستثمر المجاهدون الفتح والنصر لغير الغاية التي قام الجهاد المقدس من أجلها، فإن الله يكل الفاتحين إلى أنفسهم، ويرفع عنهم يد التثبيت والمعونة، فتموج بهم الأرض التي فتحوها، وترتج بهم العروش التي اعتلوها، وتأتيهم إنذارات الانهيار، ليصلحوا نياتهم وأعمالهم، فإذا استمروا في الانحراف عن الطريق الذي حدده الله لهم، آذنهم بنقمته، وأنزل بهم عذابه، فدالت دولتهم، وانهارت قوتهم، وظفر بهم عدوهم85.

      ومن الغايات: التي يستخدم الإسلام القوة من أجلها.

    1. حماية الدين، وحراسة الأمة، وإرهاب الأعداء.

      قال تعالى: ( ﯬﯭ ) [الأنفال:٦٠].

      دلت الآية على وجوب إعداد القوة الحربية للدفاع عن الدين وعن الوطن وعن كل ما يجب الدفاع عنه؛ لأن أعداء الإسلام إذا ما علموا أن أتباعه أقوياء هابوهم، وخافوا بأسهم، ولم يجرؤوا على مهاجمتهم.

      قال القرطبي: «أمر الله سبحانه المؤمنين بإعداد القوة للأعداء بعد أن أكد تقدمة التقوى. فإن الله سبحانه لو شاء لهزمهم بالكلام والتفل في وجوههم وبحفنةٍ من ترابٍ، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم 86.

      ولكنه أراد أن يبتلي بعض الناس ببعضٍ بعلمه السابق وقضائه النافذ» 87.

      وقال بعض العلماء: دلت هذه الآية على وجوب إعداد القوة الحربية، اتقاء بأس العدو وهجومه، ولما عمل الأمراء بمقتضى هذه الآية أيام حضارة الإسلام، كان الإسلام عزيزًا، عظيمًا، أَبِّي الضيم، قويَّ القنا، جليل الجاه، وفير السنا، إذ نشر لواء سلطته على منبسط الأرض، فقبض على ناصية الأقطار والأمصار.

      أما اليوم فقد ترك المسلمون العمل بهذه الآية الكريمة، ومالوا إلى النعيم والترف، فأهملوا فرضًا من فروض الكفاية، فأصبحت جميع الأمة آثمة بترك هذا الفرض، ولذا تعاني اليوم من غصته ما تعاني.

      وكيف لا يطمع العدو في بلاد الإسلام، وهو لا يرى فيها معامل للأسلحة، وذخائر الحرب، بل كلها مما يشترى من بلاد العدو؟.

      أما آن لها أن تتنبه من غفلتها، فتعد العدة التي أمر الله بها لأعدائها، وتتلافى ما فرطت قبل أن يداهم العدو ما بقي منها بخيله ورجله.. ؟

      إن القوة التي طلب الله من المؤمنين إعدادها لإرهاب الأعداء، تتناول كل ما من شأنه أن يجعل المؤمنين أقوياء. كإعداد الجيوش المدربة، والأسلحة المتنوعة التي تختلف بحسب الأزمنة والأمكنة.

      إن المقصود من إعداد العدة في الإسلام إنما هو إرهاب الأعداء حتى لا يفكروا في الاعتداء على المسلمين، وحتى يعيش أتباع هذا الدين آمنين مطمئنين في ديارهم، وحتى يستطيعوا أن يبلغوا رسالة الله إلى خلقه من الناس دون أن يخشوا أحدا سواه عز وجل.

      وليس المقصود بإعداد العدة إرهاب المسالمين، أو العدوان على الآمنين، أو القهر والإذلال للناس واستغلالهم فيما يغضب الله سبحانه.

      ولذلك وجدنا الآية صريحة في بيان المقصود من هذا الإعداد، وهو كما عبرت عنه: ( ).

      والخلاصة: إن من تتبع آيات القرآن الواردة في القتال يجدها جميعها تقرر أن سبب القتال في الإسلام ينحصر في رد العدوان، وحماية الدعوة الإسلامية من التطاول عليها وتثبيت حرية العقيدة، وتطهير الأرض من الظلم والطغيان88.

      إذًا: فالغرض الأول من إعداد القوة: ( ).

      فهو إلقاء الرعب والرهبة في قلوب أعداء الله الذين هم أعداء العصبة المسلمة في الأرض، الظاهرين منهم الذين يعلمهم المسلمون ومن وراءهم ممن لا يعرفونهم، أو لم يجهروا لهم بالعداوة، والله يعلم سرائرهم وحقائقهم، وهؤلاء ترهبهم قوة الإسلام ولو لم تمتد بالفعل إليهم، والمسلمون مكلفون أن يكونوا أقوياء، وأن يحشدوا ما يستطيعون من أسباب القوة؛ ليكونوا مرهوبين في الأرض ولتكون كلمة الله هي العليا، وليكون الدين كله لله89.

    2. تعمير الأرض، وتحقيق الاستقرار.

      قال تعالى عن هود عليه السلام وهو يدعو قومه: ( ﯿ ) [هود:٥٢].

      والاستقرار يؤدي إلى القوة، ومن ثم النعيم والهناء، فإن كثرة الأموال لها أسبابٌ كثيرةٌ: منها طيب الأرض للزرع والغرس، ورعي الأنعام والنحل، ومنها وفرة التجارة بحسن موقع الموطن بين مواطن الأمم، ومنها الاقتراب من البحار للسفر إلى الأقطار وصيد البحر، ومنها اشتمال الأرض على المعادن من الذهب والفضة والحديد والمواد الصناعية والغذائية من النبات، كأشجار التوابل ولحاء الدبغ والصبغ والأدوية والزراريع والزيوت.

      وكثرة الأولاد تأتي من الأمن بسبب بقاء الأنفس، ومن الخصب المؤثر قوة الأبدان والسلامة من المجاعات المعقبة للموتان، ومن حسن المناخ بالسلامة من الأوبئة المهلكة، ومن الثروة بكثرة الأزواج والسراري والمراضع90.

      وكل ذلك لا بد له من قوة تحميه، وتقوم عليه، بل تأتي به.

      ثانيًا: صور من استعمال القوة في الخير، وآثارها:

      إن صور استعمال القوة في الخير كثيرة جدًّا، فالحقيقة أن أي عمل صالح، يحتاج إلى قوة، فإذا استخدم الإنسان تلك القوة في ذلك العمل، فهو نوع من استعمال القوة في الخير.

    1. التضحية في سبيل نشر الدين.

      قال الله سبحانه: ( ﯠﯡ ﯧﯨ ﯯﯰ ﯵﯶ ﯻﯼ ﯿ ) [التوبة:١١١].

      ومن الأمثلة الرائعة في ذلك:

      عن أنسٍ رضي الله عنه، قال: غاب عمي أنس بن النضر عن قتال بدرٍ، فقال: (يا رسول الله غبت عن أول قتالٍ قاتلت المشركين، لئن الله أشهدني قتال المشركين ليرين الله ما أصنع)، فلما كان يوم أحدٍ، وانكشف المسلمون، قال: (اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء - يعني: أصحابه - وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء، - يعني: المشركين - ثم تقدم).

      فاستقبله سعد بن معاذٍ، فقال: (يا سعد بن معاذٍ، الجنة ورب النضر إني أجد ريحها من دون أحدٍ)، قال سعدٌ: فما استطعت يا رسول الله ما صنع، قال أنسٌ: فوجدنا به بضعًا وثمانين ضربةً بالسيف أو طعنةً برمحٍ، أو رميةً بسهمٍ، ووجدناه قد قتل وقد مثل به المشركون، فما عرفه أحدٌ إلا أخته ببنانه.

      قال أنسٌ: (كنا نرى أو نظن أن هذه الآية نزلت فيه وفي أشباهه: ( ) [الأحزاب: ٢٣]. إلى آخر الآية)91.

    2. الرحمة بأهل الإيمان.

      قال تعالى: ( ﯘﯙ ﯟﯠ ) [المائدة:٥٤].

      وقال: ( ﭓﭔ ) [الفتح: ٢٩].

      يقول الألوسي: «والمعنى أن فيهم غلظة وشدة على أعداء الدين ورحمة ورقة على إخوانهم المؤمنين، وفي وصفهم بالرحمة بعد وصفهم بالشدة تكميل واحتراس فإنه لو اكتفى بالوصف الأول لربما توهم أن مفهوم القيد غير معتبر، فيتوهم الفظاظة والغلظة مطلقا فدفع بإرداف الوصف الثاني، ومآل ذلك أنهم مع كونهم أشداء على الأعداء رحماء على الإخوان»92.

    3. مساعدة المحتاج، ونصرة المظلوم.

      قال تعالى عن موسى عليه السلام: ( ﭗﭘ ﭭﭮ ﭺﭻ ﭿ ﮀﮁ ) [القصص:١٥].

      فلما ظن موسى عليه السلام أن الرجل مظلوم وقف بجانبه إذ كانت القوة معه، وهكذا يجب على صاحب القوة أن ينصر المظلوم، بل وأن ينصر الظالم بحجزه عن ظلمه.

      وفي مساعدة المحتاج، والوقوف بجانب الضعيف قال تعالى: ( ﭫﭬ ﭯﭰ ﭶﭷ ) [القصص:٢٣].

      قال الزمخشري: «والمعنى: أنه وصل إلى ذلك الماء وقد ازدحمت عليه أمة من أناس مختلفة متكاثفة العدد، ورأى الضعيفتين من ورائهم مع غنيمتهما مترقبتين لفراغهم، فما أخطأت همته في دين الله تلك الفرصة، مع ما كان به من النصب وسقوط خف القدم والجوع، ولكنه رحمهما فأغاثهما، وكفاهما أمر السقي في مثل تلك الزحمة بقوة قلبه وقوة ساعده، وما آتاه الله من الفضل في متانة الفطرة ورصانة الجبلة، وفيه مع إرادة اقتصاص أمره وما أوتى من البطش والقوة وما لم يغفل عنه، على ما كان به من انتهاز فرصة الاحتساب، ترغيب في الخير، وانتهاز فرصه، وبعث على الاقتداء في ذلك بالصالحين والأخذ بسيرهم ومذاهبهم»93.

      وروى ابن أبي شيبة94 عن عن عمر بن الخطاب، أن موسى عليه السلام لما ورد ماء مدين وجد عليه أمةً من الناس يسقون، فلما فرغوا أعادوا الصخرة على البئر، ولا يطيق رفعها إلا عشرة رجالٍ، فإذا هو بامرأتين تذودان، قال: ما خطبكما؟ فأخبرتاه، فأتى الحجر فرفعه ثم لم يستق إلا ذنوبًا واحدًا حتى رويت الغنم، ورجعت المرأتان إلى أبيهما فحدثتاه، وتولى موسى عليه السلام إلى الظل فقال: ( ) [القصص: ٢٤].

      قال: ( ) [القصص: ٢٥]. واضعةً ثوبها على وجهها، قالت: إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا، قال لها: امشي خلفي وصفي لي الطريق، فإني أكره أن تصيب الريح ثوبك فيصف لي جسدك، فلما انتهى إلى أبيها وقص عليه ( ﮬﮭ ) [القصص: ٢٦].

      قال: يا بنية ما علمك بأمانته وقوته؟ قالت: أما قوته فرفعه الحجر ولا يطيقه إلا عشرةٌ، وأما أمانته فقال لي: امشي خلفي وصفي لي الطريق؛ فإني أخاف أن تصيب الريح ثوبك فتصف جسدك، فقال عمر: فأقبلت إليه ليست بسلفعٍ95 من النساء لا خراجةٌ، ولا ولاجةٌ96، واضعة ثوبها على وجهها.

      فقد ساعد نبي الله موسى هاتين المرأتين لما رأى من ضعفهما، وهكذا ينبغي أن يكون كل قوي.

      وقال تعالى، عن عبده ذي القرنين: ( ﯿ ) [الكهف:٩٣-٩٥].

      قال ذو القرنين: الذي مكنني في عمل ما سألتموني من السد بينكم وبين هؤلاء القوم ربي ووطَّأَهُ لي، وقواني عليه، خيرٌ من جُعْلِكُم والأجرة التي تعرضونها علي لبناء ذلك، وأكثر وأطيب، ولكن أعينوني منكم بقوةٍ، أعينوني بفعلةٍ وصناعٍ يحسنون البناء والعمل97.

      يقول سيد قطب: «ونحن لا نستطيع أن نجزم بشيء عن المكان الذي بلغ إليه ذو القرنين «بين السدين» ولا ما هما هذان السدان، كل ما يؤخذ من النص أنه وصل إلى منطقة بين حاجزين طبيعيين، أو بين سدين صناعيين، تفصلهما فجوة أو ممر، فوجد هنالك قوما: ( ).

      وعندما وجدوه فاتحًا قويًا، وتوسموا فيه القدرة والصلاح عرضوا عليه أن يقيم لهم سدًّا في وجه يأجوج ومأجوج الذين يهاجمونهم من وراء الحاجزين، ويغيرون عليهم من ذلك الممر، فيعيثون في أرضهم فسادا ولا يقدرون هم على دفعهم وصدهم، وذلك في مقابل خراج من المال يجمعونه له من بينهم.

      وتبعًا للمنهج الصالح الذي أعلنه ذلك الحاكم الصالح من مقاومة الفساد في الأرض، فقد رد عليهم عرضهم الذي عرضوه من المال وتطوع بإقامة السد، ورأى أن أيسر طريقة لإقامته هي ردم الممر بين الحاجزين الطبيعيين فطلب إلى أولئك القوم أن يعينوه بقوتهم المادية والعضلية: ( ﯿ ﰇﰈ)، فجمعوا له قطع الحديد، وكومها في الفتحة بين الحاجزين، فأصبحا كأنهما صدفتان تغلفان ذلك الكوم بينهما، ( ) وأصبح الركام بمساواة القمتين ( ) على النار لتسخين الحديد ( ) كله لشدة توهجه واحمراره ( ) أي: نحاسًا مذابًا يتخلل الحديد، ويختلط به فيزيده صلابة.

      بذلك التحم الحاجزان، وأغلق الطريق على يأجوج ومأجوج ( ) ويتسوروه ( )[الكهف:٩٧].

      فينفذوا منه، وتعذر عليهم أن يهاجموا أولئك القوم الضعاف. فأمنوا واطمأنوا.

      ونظر ذو القرنين إلى العمل الضخم الذي قام به، فلم يأخذه البطر والغرور، ولم تسكره نشوة القوة والعلم، ولكنه ذكر الله فشكره، ورد إليه العمل الصالح الذي وفقه إليه، وتبرأ من قوته إلى قوة الله، وفوض إليه الأمر، وأعلن ما يؤمن به من أن الجبال والحواجز والسدود ستدك قبل يوم القيامة، فتعود الأرض سطحا أجرد مستويا.

      ( ﭕﭖ ﭜﭝ ) [الكهف:٩٨].

      وبذلك تنتهي هذه الحلقة من سيرة ذي القرنين، النموذج الطيب للحاكم الصالح، يمكنه الله في الأرض، وييسر له الأسباب، فيجتاح الأرض شرقًا وغربًا ولكنه لا يتجبر ولا يتكبر، ولا يطغى ولا يتبطر، ولا يتخذ من الفتوح وسيلة للغُنْم الماديِّ، واستغلال الأفراد والجماعات والأوطان، ولا يعامل البلاد المفتوحة معاملة الرقيق، ولا يسخر أهلها في أغراضه وأطماعه، إنما ينشر العدل في كل مكان يحل به، ويساعد المحتاجين، ويدرأ عنهم العدوان دون مقابل، ويستخدم القوة التي يسرها الله له في التعمير والإصلاح، ودفع العدوان وإحقاق الحق، ثم يرجع كل خير يحققه الله على يديه إلى رحمة الله وفضل الله، ولا ينسى وهو في إبان سطوته قدرة الله وجبروته، وأنه راجع إلى الله»98.

      فقد ساعد الرجل القوي القوم الضعفاء على أعدائهم الذين ظلموا وطغوا وتجبروا، فهو استعمال للقوة فيما يحب الله تعالى.

      وقال الله تعالى: ( ﮟﮠ ﮭﮮ ﯕﯖ ﯡﯢ ) [الحجرات:١٠].

      فهذا دليل على استعمال القوة ضد الباغي الجائر.

    4. صد أهل الباطل، ودحض باطلهم.

      قال تعالى: ( ﯩﯪ ﯯﯰ ﯷﯸ ﯿ ﰇﰈ ) [طه:٩٨].

      فها هو موسى عليه السلام قد استخدم قوته في رد الباطل الذي نشره السامري، فيجب على أهل الحق أن يحصلوا القوة التي بها يردعون الباطل وحزبه.

    5. الانتصاف للنفس.

      قال تعالى: ( ﮯﮰ ﯗﯘ ) [الشورى:٤١].

      فالإنسان لا ينبغي أن يرضى بالضيم بل يعفو عن قوة ومقدرة، لئلا يستهين به أحد، بل يكون قويًّا مهابًا في حلم ولين.

      فهذه صور لاستعمال القوة في الخير، فالواجب علينا أن نعيد القوة إلى أهلها الذين هم أهلها، لكي يستخدموها فيما ينفع الناس في دنياهم وأخراهم.

      ثالثًا: صور من استعمال القوة في الشر، ونتائجها:

    1. الاغترار بالجاه والسلطان، وسوء عاقبته.

      قال تعالى عن فرعون: ( ﭿ ﮂﮃ ﮋﮌ ﮡﮢ ) [الزخرف:٥١-٥٦].

      افتخر بملكه مصر عدو الله، وما قد مكن له من الدنيا استدراجًا من الله له، وحسب أن الذي هو فيه من ذلك ناله بيده وحوله، وأن موسى إنما لم يصل إلى الذي يصفه، فنسبه من أجل ذلك إلى المهانة محتجًّا على جهلة قومه بأن موسى عليه السلام لو كان محقًّا فيما يأتي به من الآيات والعبر، ولم يكن ذلك سحرًا، لأكسب نفسه من الملك والنعمة، مثل الذي هو فيه من ذلك، جهلًا بالله واغترارًا منه بإملائه إياه99.

      وحاصل الأمر أنه احتج بكثرة أمواله وقوة جاهه على فضيلة نفسه100.

      واستخفاف الطغاة للجماهير أمر لا غرابة فيه، فهم يعزلون الجماهير أولا عن كل سبل المعرفة، ويحجبون عنهم الحقائق حتى ينسوها، ولا يعودوا يبحثون عنها، ويلقون في روعهم ما يشاءون من المؤثرات حتى تنطبع نفوسهم بهذه المؤثرات المصطنعة، ومن ثم يسهل استخفافهم بعد ذلك، ويلين قيادهم، فيذهبون بهم ذات اليمين وذات الشمال مطمئنين! ولا يملك الطاغية أن يفعل بالجماهير هذه الفعلة إلا وهم فاسقون، لا يستقيمون على طريق، ولا يمسكون بحبل الله، ولا يَزِنونَ بميزان الإيمان. فأما المؤمنون فيصعب خداعهم واستخفافهم واللعب بهم كالريشة في مهب الريح. ومن هنا يعلل القرآن استجابة الجماهير لفرعون فيقول: ( ﮡﮢ ).

      ثم انتهت مرحلة الابتلاء والإنذار والتبصير وعلم الله أن القوم لا يؤمنون، وعمت الفتنة، فأطاعت الجماهير فرعون الطاغية المتباهي في خيلاء، وعشت عن الآيات البينات والنور، فحقت كلمة الله وتحقق النذير: ( )، يتحدث الله سبحانه عن نفسه في مقام الانتقام والتدمير، إظهارا لغضبه ولجبروته في هذا المقام. فيقول: ( ) أي: أغضبونا أشد الغضب ( ) يعني فرعون وملأه وجنده101.

    2. تكذيب الرسل.

      قال تعالى: ( ﮋﮌ ﮕﮖ ﮠﮡ ﯓﯔ ﯗﯘ ) [فصلت:١٥-١٦].

      وهذا الاستكبار فيه وجهان، الأول: إظهار النخوة والكبر، وعدم الالتفات إلى الغير والثاني: الاستعلاء على الغير. واستخدامهم، ثم ذكر تعالى سبب ذلك الاستكبار وهو أنهم قالوا: من أشد منا قوةً وكانوا مخصوصين بكبر الأجسام وشدة القوة، ثم إنه تعالى ذكر ما يدل على أنه لا يجوز لهم أن يغتروا بشدة قوتهم، فقال: ( ) يعني: إنهم وإن كانوا أقوى من غيرهم، فالله الذي خلقهم هو أشد منهم قوةً، فإن كانت الزيادة في القوة توجب كون الناقص في طاعة الكامل، فهذه المعاملة توجب عليهم كونهم منقادين لله تعالى، خاضعين لأوامره ونواهيه102.

      فلما طغوا وتجبروا أخذهم الله تعالى، وأخذه أليم شديد.

    3. البغي والتكبر.

      قال تعالى: ( ﮮﮯ ﯠﯡ ﯭﯮ ﯳﯴ ﯹﯺ ﯿﰀ ﭖﭗ ﭨﭩ ﭴﭵ ﭿ ﮋﮌ ﯘﯙ ﯠﯡ ﯲﯳ ) [القصص: ٧٦-٨٢].

      فلما أحس قارون بأن معه المال الذي يستتبع القوة والسلطان = بغى وتجبر، وتكبر على الله ثم على خلقه، فكانت عاقبته خُسْرًا.

    4. الاستخفاف بالأعداء.

      قال تعالى: ( ﮜﮝ ) [غافر:٨٢].

      وقال: ( ﮣﮤ ﮦﮧ ﯧﯨ ) [التوبة:٢٥-٢٦].

      فلا ينبغي للإنسان المسلم ولا الجماعة المسلمة أن تركن إلى القوة المادية فحسب، بل عليها أن تُحَصِّلَ القوتين معًا المادية والمعنوية، بالإيمان بالله وحده سبحانه وتعالى.

    5. التكبر على الخلق.

      فمن أسباب الكبر القوة البدنية وشدة البطش و الأخذ بالعنف، والتكبر بها جهلٌ أيضًا؛ إذ الحمار والبقر والجمل والفيل كل ذلك أقوى من الإنسان، ولو صلح ذلك لذلك لحريٌ تلك البهائم أن تتكبر على الكل، وأما ذلها للإنسان فلقوله تعالى: ( ) [يس: ٧٢] الآية.

      فمن نعمه تعالى التي توجب التواضع للشكر، وأي افتخارٍ في صفةٍ يسبقك البهائم فيها، ثم إنها تزول بحمى يومٍ ونحوها، فلا تنجبر في مدةٍ، بل لو توجع عرقٌ واحدٌ في يدك لصرت أعجز من كل عاجز،ٍ وأذل من كل ذليلٍ وأنه لو سلب الذباب منك شيئًا لا تستنقذه، وإن بقةٌ لو دخلت أنفك أو نملةٌ دخلت أذنك لقتلتك، وإن شوكةٌ لو دخلت رجلك لأعجزتك، فمن لا يطيق دفع أمثال هذه، فكيف ينبغي له أن يفتخر بقوته كما في الإحياء: (فلا تقدر على حفظها) أي: القوة. وقد قيل: حمى يومٍ تذهب نعيم سنةٍ (ولا على تحصيلها) بعد الزوال بأدنى علةٍ (بل هي كظلٍ زائلٍ) بالوصف (ونوم نائمٍ) في سرعة التقضي وعدم الحفظ103.

    6. الإفساد في الأرض.

      قال تعالى عن نبيه صالح عليه السلام: ( ﭡﭢ ) [الأعراف:٧٤].

      وقال عن هود ينصح قومه: ( ) [الشعراء:١٢٨-١٣١].

      فها هم أنبياء الله مَحَّضوا النصح لأقوامهم أن لا يغتروا بقوتهم، إذ هناك من هو أقوى منهم وأشد، وأن لا يستخدموا هذه القوة في الإفساد في الأرض، بل عليهم أن يتقوا الله تعالى.

    7. الاغترار بالقوة، وبالعدد والعدة.

      قال تعالى: ( ﮣﮤ ﮦﮧ ﯧﯨ ) [التوبة:٢٥-٢٦].

      فبين الله تعالى أن الاغترار بالكثرة مهلكة؛ ولذلك أكد على نصر الفئة القليلة إن كانت مؤمنة صابرة، فقال سبحانه وتعالى: ( ﭨﭩ ﭮﭯ ﭼﭽ ﭿ ﮋﮌﮍ ﮮﮯ ) [البقرة:٢٤٩-٢٥١].

      فهذه هي القاعدة في حس الذين يوقنون أنهم ملاقو الله.

      القاعدة: أن تكون الفئة المؤمنة قليلة؛ لأنها هي التي ترتقي الدرج الشاق حتى تنتهي إلى مرتبة الاصطفاء والاختيار، ولكنها تكون الغالبة؛ لأنها تتصل بمصدر القوى، ولأنها تمثل القوة الغالبة، قوة الله الغالب على أمره، القاهر فوق عباده، محطم الجبارين، ومخزي الظالمين وقاهر المتكبرين104.

      إن وعد الله بهزيمة الذين يكفرون ويكذبون وينحرفون عن منهج الله، قائم في كل لحظة، ووعد الله بنصر الفئة المؤمنة - ولو قل عددها - قائم كذلك في كل لحظة، وتوقف النصر على تأييد الله الذي يعطيه من يشاء حقيقة قائمة لم تنسخ، وسنة ماضية لم تتوقف.

      وليس على الفئة المؤمنة إلا أن تطمئن إلى هذه الحقيقة، وتثق في ذلك الوعد، وتأخذ للأمر عدته التي في طوقها كاملة، وتصبر حتى يأذن الله، ولا تستعجل ولا تقنط إذا طال عليها الأمد المغيب في علم الله، المدبر بحكمته، المؤجل لموعده الذي يحقق هذه الحكمة105.

      موضوعات ذات صلة:

      الاستكبار، التمكين، الحرب، الضعف، العزة، النصر، الوهن


1 انظر: تهذيب اللغة، الأزهري ٩/٢٧٤، الصحاح، الجوهري ٦/٢٤٦٩، مقاييس اللغة، ابن فارس ٥/٣٦-٣٧، لسان العرب، ابن منظور ١٥/٢٠٦، القاموس المحيط، الفيروزآبادى ١٣٢٧، تاج العروس من جواهر القاموس، الزبيدي ٣٩/٣٦٠.

2 التعريفات ص ١٧٩.

وانظر: التوقيف على مهمات التعاريف، المناوي ٢٧٦، الكليات، الكفوي ص ٧١٧، دستور العلماء، الأحمد نكري ٣/٦٨.

3 التحرير والتنوير ٩/٩٩.

4 انظر: المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، محمد فؤاد عبد الباقي، ص٥٨٧- ٥٨٨.

5 انظر: الوجوه والنظائر في القرآن العظيم، مقاتل بن سليمان ص٨٧-٨٨، الوجوه والنظائر، الدامغاني ص٣٨٧- ٣٨٨، نزهة الأعين النواظر، ابن الجوزي ص٤٨٩- ٤٩٠.

6 انظر: مقاييس اللغة، ابن فارس ٥/٣٦، لسان العرب، ابن منظور ١٥/٢٠٦.

7 انظر: المفردات، الراغب الأصفهاني، ص٤١٩.

8 مقاييس اللغة ٣/١٣٩.

9 الكليات، الكفوي ص ٥٤٠.

10 انظر: الفروق اللغوية، العسكري ص ٢٩٧.

11 انظر: لسان العرب، ابن منظور ١٥/١٨٠.

12 المفردات، ص ٦٧١.

13 الفروق اللغوية، العسكري ص ٤٢٩.

14 الصحاح، الجوهري ٤/١٣٩٠.

15 التوقيف على مهمات التعاريف، المناوي ص ٢٢٣.

16 انظر: الفروق اللغوية، العسكري ص ٣٣٠.

17 انظر: مختار الصحاح، الرازي ص ٣٤٦.

18 المفردات ص ٨٨٧.

19 انظر: الفروق اللغوية، العسكري ص ٣٣١.

20 انظر: النهج الأسمى، محمد الحمود النجدي ص ٣٣٤.

21 جامع البيان، الطبري ١١/٢٣٣.

22 تفسير أسماء الله الحسنى، الزجاج ص ٥٤.

23 توضيح المقاصد وتصحيح القواعد في شرح قصيدة الإمام ابن القيم، أحمد بن عيسى ٢/١٢٦.

24 تفسير أسماء الله الحسنى، الزجاج ص ٥٥.

وانظر: تهذيب اللغة، الأزهري ١٤/٣٠٦.

25 لسان العرب، ابن منظور ١٣/٣٩٩.

26 مفاتيح الغيب، الرازي ٢٨/١٩٧.

27 أخرجه البخاري في صحيحه، ٩/١١٥.

28 شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري، الغنيمان ١/٩٣.

29 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المغازي، باب غزوة خيبر، رقم ٤٢٠٥، وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب استحباب خفض الصوت بالذكر، رقم ٢٧٠٤.

30 جامع العلوم والحكم، ابن رجب ١/٤٨٢.

31 الوابل الصيب، ص ٧٧.

32 انظر: مدارج السالكين، ابن القيم ٣/٣٠٠، ففيه كلام نفيس.

33 جامع البيان، الطبري ٢٢/٨-١١.

34 التحرير والتنوير ٢٧/٩٥.

35 والرسول جبريل عليه السلام في قول جمهور المتأولين، وهو الصحيح.

انظر: المحرر الوجيز ٥/٤٤٤.

36 وهو الوصف الخامس.

37 التحرير والتنوير ٣٠/١٥٥-١٥٧، بتصرف شديد.

38 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب معنى قول الله عز وجل: (ولقد رآه نزلة أخرى)، وهل رأى النبي صلى الله عليه وسلم ربه ليلة الإسراء؟ رقم ١٧٧.

39 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب بدء الخلق، باب إذا قال أحدكم: آمين والملائكة في السماء، آمين، رقم ٣٢٣٢، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، بابٌ في ذكر سدرة المنتهى، رقم ١٤٧.

40 انظر: جامع البيان ٢٢/٤٤.

41 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب تفسير القرآن، باب (لقد رأى من آيات ربه الكبرى)، رقم ٤٨٥٨.

42 أخرجه أحمد في مسنده، رقم ٣٧٤٨، ٦/٢٩٤.

وإسناده ضعيف، وصح بشواهده.

43 انظر: جامع البيان ١٢/٥٣٣.

44 انظر: المصدر السابق ١٢/٥٣٤.

45 انظر: المصدر السابق.

46 انظر: عبد الرزاق في تفسيره ٢/١٩١، والطبري في التفسير ١٢/٥٣٥.

47 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المغازي، باب غزوة أحدٍ، رقم ٤٠٤١.

48 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المغازي، باب (إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا)، رقم ٤٠٥٤، ومسلم في صحيحه، كتاب الفضائل، بابٌ في قتال جبريل وميكائيل عن النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحدٍ، رقم ٢٣٠٦.

49 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المغازي، باب مرجع النبي صلى الله عليه وسلم من الأحزاب، ومخرجه إلى بني قريظة ومحاصرته إياهم، رقم ٤١٢٢، ومسلم في صحيحه، كتاب الجهاد والسير، باب جواز قتال من نقض العهد، وجواز إنزال أهل الحصن على حكم حاكمٍ عدلٍ أهلٍ للحكم، رقم ١٧٦٩.

50 جامع البيان، الطبري ٢/٥٣.

51 في ظلال القرآن، سيد قطب ١/٧٦.

52 أضواء البيان، الشنقيطي ٣/٣٧٨.

53 التحرير والتنوير ٩/١٠٠.

54 مفاتيح الغيب، الرازي ١٨/٣٦٣.

55 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٨/٣٩٤.

56 انظر: في ظلال القرآن ٦/٣٩٠٣-٣٩٠٥.

57 مفاتيح الغيب، الرازي ٢٨/٢٦.

58 جامع البيان ١٨/٣٢٦.

59 التحرير والتنوير ٢٠/١٨٢.

60 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٧/٣١٢.

61 التحرير والتنوير ٢٢/٣٣٨-٣٣٩.

62 جامع البيان، الطبري ٢/٥٣.

63 أضواء البيان، الشنقيطي ٣/٣٧٨.

64 التحرير والتنوير ١٤/٢٦٤.

65 تيسير الكريم الرحمن ص ٤٤٧.

66 التحرير والتنوير ٩/١٠٠.

67 في ظلال القرآن ٣/١٣٧١.

68 هذا قول من الأقوال في الآية.

انظر: جامع البيان، الطبري ٣/٦٠٠.

69 في ظلال القرآن ١/٢١١.

70 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب التسبيح أول النهار وعند النوم، رقم ٢٧٢٨.

71 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ١/٦٨٢.

72 المصدر السابق ٤/٨٠.

73 جامع البيان، الطبري ١١/٢٤٩.

74 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإمارة، باب فضل الرمي والحث عليه، وذم من علمه ثم نسيه، رقم ١٩١٧.

75 التحرير والتنوير ١٠/٥٥، بتصرف.

76 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٨/٢٨.

77 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ١١/٣٢٠.

78 انظر: إعداد القوة...الواقع والمأمول، محمد بن شاكر الشريف، مقال منشور بمجلة البيان العدد ٢٢٣، ربيع الأول: ١٤٢٧ هـ.

79 مفاتيح الغيب، الرازي ٢٩/٤٧٢.

80 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٧/٧٣.

81 التحرير والتنوير ١٦/٣٩.

82 الكشاف ٣/١٠٤.

83 مفاتيح الغيب، الرازي ٦/٥٠٤.

84 في ظلال القرآن ١/٢٥٩-٢٦٠.

85 أجنحة المكر الثلاثة ٦٩٩-٧٠١.

86 انظر: سيرة ابن هشام ١/٦٢٨.

87 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٨/٣٥.

88 انظر: التفسير الوسيط، محمد طنطاوي ٦/١٤١-١٤٤.بتصرف.

89 انظر: في ظلال القرآن ٣/١٥٤٤.

90 التحرير والتنوير ١٠/٢٥٧.

91 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجهاد والسير، باب قول الله تعالى: (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه)، رقم ٢٨٠٥، وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإمارة، باب ثبوت الجنة للشهيد، رقم ١٩٠٣.

92 روح المعاني ١٣/٢٧٦.

93 الكشاف، الزمخشري ٣/٤٠١.

94 في مصنفه، كتاب الفضائل، باب ما ذكر في موسى عليه السلام من الفضل، رقم ٣١٨٤٢، ٦/٣٣٤.

وصححه ابن كثير في تفسيره ٦/٢٢٦.

95 السلفعة: البذيئة الفحاشة القليلة الحياء.ورجلٌ سلفعٌ: قليل الحياء جريءٌ.

انظر: لسان العرب، ٨/١٦١.

96 أي: لا تكثر الخروج والدخول من البيت.

97 جامع البيان، الطبري ١٥/٤٠٣.

98 في ظلال القرآن ٤/٢٢٩٢.

99 جامع البيان، الطبري ٢٠/٦١٠.

100 مفاتيح الغيب، الرازي ٢٧/٦٣٧.

101 في ظلال القرآن ٥/٣١٩٤.

102 مفاتيح الغيب، الرازي ٢٧/٥٥٢.

103 بريقة محمودية، أبو سعيد الخادمي الحنفي ٢/٢١٩.

104 في ظلال القرآن ١/٢٦٩.

105 المصدر السابق ١/٣٧٢.