عناصر الموضوع
الكتب المنزلة
أولًا: المعنى اللغوي.
الكتب المنزلة: مركب من موصوف (الكتب) وصفة (المنزلة).
الكتب لغة: الكتب جمع كتاب، وهو من الفعل كتب، وأصل معناه: الضم والجمع، قال الراغب بعد أن بين كون أصل الكلمة من ضم الشيء للشيء: «والكتاب في الأصل مصدر، ثم سمي المكتوب فيه كتابا، والكتاب في الأصل اسم للصحيفة مع المكتوب فيه» 1.
وقال النحاس: «وقيل كتاب لما جمع فيه. يقال: كتبت الشيء أي: جمعته»2.
كما تدل مادة «كتب»: على الفرض والإيجاب والتقدير، قال تعالى: (ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐﮑ) [البقرة: ١٧٨].
المنزلة لغة: المنزلة اسم مفعول من الفعل نزل، فعل، مفعلة، والمنزلة: اسم مفعول من أنزل، أفعل، مفعلة. نزل بالمكان، «ونزله نزلةً واحدة، ونزل من علو إلى أسفل، ونزل في البئر، ونزل عن الدابة. وهذا منزل القوم. واستنزلوهم من صياصيهم، وأنزل الله الغيث، وأنزل الكتاب ونزله، وتنزلت الملائكة. 3 والنزول في الأصل: انحطاطٌ من علو. يقال: نزل عن دابته، ونزل في مكان كذا: حط رحله فيه، وأنزله غيره. قال تعالى: (ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ) [المؤمنون: ٢٩].
«ونزل بكذا، وأنزله بمعنًى، وإنزال الله تعالى نعمه ونقمه على الخلق: إعطاؤهم إياها، وذلك إما بإنزال الشيء نفسه كإنزال القرآن، وإما بإنزال أسبابه والهداية إليه، كإنزال الحديد واللباس، ونحو ذلك 4.
ثانيًا: المعنى الاصطلاحي
الكتب المنزلة هي الكتب التي أنزلها الله على أنبيائه لهداية الناس. فتشمل ما أخبرنا الله عنه: صحف إبراهيم، والتوراة والزبور والإنجيل، وكذلك القرآن الكريم، إضافة إلى ما أنزله الله ولم يقص علينا خبره.
القرآن:
القرآن لغة:
القاف والراء والياء أصل صحيح يدل على الشيء المجموع، وقرأت الشيء قرآنًا: جمعته، وضممت بعضه على بعض، وقرأت الكتاب قراءةً وقرآنًا، ومنه سمي القرآن؛ لأنه يجمع السور فيضمها5.
القرآن اصطلاحًا:
كلام الله تعالى، المنزل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، بواسطة سيدنا جبريل عليه السلام، المتعبد بتلاوته، المنقولُ إلينا بالتواتر، المقروءُ في المصاحف، المبدوء بسورة الفاتحة والمنتهي بسورة الناس» 6.
الصلة بين القرآن والكتب المنزلة:
القرآن الكريم آخر الكتب المنزلة من الله عز وجل إلى أنبيائه لهداية الناس.
التوراة:
التوراة لغة:
قال أبو حيان: «التوراة: اسمٌ عبرانيٌ، وقد تكلف النحاة في اشتقاقها، وفي وزنها، وذلك بعد تقرير النحاة أن الأسماء الأعجمية لا يدخلها اشتقاقٌ، وأنها لا توزن، يعنون اشتقاقًا عربيًا» 7.
التوراة اصطلاحًا:
«التوراة اسمٌ للكتاب المنزل على موسى عليه السلام»8.
الصلة بين التوراة والكتب المنزلة:
التوراة هو الكتاب الذي أنزله الله على موسى عليه السلام.
الإنجيل:
الإنجيل لغةً:
قال ابن منظور: «الإنجيل: كتاب عيسى، على نبينا وعليه -الصلاة والسلام-، يؤنث ويذكر، فمن أنث أراد الصحيفة، ومن ذكر أراد الكتاب» 9. ويجمع على أناجيل.
وقد اختلف العلماء في أصله اللغوي وهل هو عربي أو معرب، والراجح هو أن كلمة الإنجيل معربة.
الإنجيل اصطلاحًا:
كلمة إنجيل إذا أطلقت فلها معنيان:
الأول: الكتاب المنزل من عند الله تعالى على المسيح عليه السلام، وهو مفقود، ولم يبق منه إلا نتف قليلة مما بين أيدي النصارى الآن، قال الطاهر بن عاشور في تعريفه بهذا المعنى: «اسمٌ للوحي الذي أوحي به إلى عيسى عليه السلام فجمعه أصحابه» 10.
الثاني: الإنجيل الذي تعظمه النصارى الآن، وهو عبارة عن: «أربعة كتبٍ تعرف بالأناجيل الأربعة».
الصلة بين الإنجيل والكتب المنزلة:
الإنجيل هو الكتاب الذي أنزله الله على عيسى عليه السلام.
لا يمكن للبشرية في مسيرتها أن تحتكم لعقولها القاصرة ولا لأهوائها الجامحة المتباينة ولا لتجاربها المحدودة، ولا للحدس أو التخمين، أو غير ذلك من وسائل المعرفة والإدراك أو الظنون والأوهام أو الخرافات والأساطير، فمع أهمية العقل وضرورة الحواس وقيمة التجارب الإنسانية لكن ذلك لا يكفي ولا يشفي، إذ لا غنى للبشرية عن هداية السماء، ولا رشاد لهم إلا بدعوة الأنبياء، من هنا ندرك قيمة الكتب الإلهية المنزلة وأهميتها ومقاصدها، فلقد نزلت هداية ورحمة، ونورا وحكمة، وبيانا وتفصيلا، نزلت لإخراج الناس من ظلمات الجهل والكفر إلى نور الإيمان والعلم، نزلت هداية للبشرية وتبيانا، ومنهاجا ونبراسا لها في طريقها، نزلت بالأخبار والبشارات، للعظة والاعتبار، والترغيب والترهيب، وقد بين القرآن ذلك كله أصدق بيان وأجلى برهان.
أولًا: إخراج الناس من ظلمات الكفر والشرك إلى نور التوحيد:
الحكمة من إنزال الكتب هداية الناس وتبصيرهم، وإخراجهم من ظلمات الشرك إلى نور الإيمان.
قال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙﭚ) [البقرة: ٢٥٧].
فالله تعالى يتولى عباده المؤمنين ويخرجهم من ظلمات الكفر والشرك إلى نور الإيمان والتوحيد، بإرسال الرسل وإنزال الكتب.
وأنبياء الله تعالى جاءوا بالحجج النيرات والآيات الواضحات مؤيدين بالكتب التي تنير الطريق لهم ولمن اتبعهم.
قال تعالى: (ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ) [آل عمران: ١٨٤].
وبين تعالى أن غاية رسالة موسى عليه السلام إخراج قومه من ظلمات الكفر والجهل والظلم إلى نور الإيمان والعلم والعدل.
قال تعالى: (ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ) [إبراهيم: ٥].
قال الماتريدي: «وعلى ذلك بعث جميع الرسل والأنبياء، بعثوا ليخرجوا قومهم من الظلمات إلى النور»11.
إن وظيفة الرسل وغاية إنزال الكتب إخراج الناس من الظلمات التي تغشاهم وتحيط بهم إلى النور الذي يضيء لهم دروبهم ويهديهم سبلهم. قال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪﭫ) [الأنعام: ٩١].
وفي القرآن الكريم آياتٌ كثيرةٌ تبين لنا أن أعظم مقاصد القرآن إخراج الناس من الظلمات المدلهمة إلى النور السافر.
قال تعالى: (ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ) [الحديد: ٩].
(ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬﯭ) [الطلاق: ١١].
(ﭢﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ) [إبراهيم:١].
ألا ما أحوج الإنسانية لهذا النور الذي يضيء لهم دروب حياتهم المتشعبة، ويبصرهم حين يمشون بين الناس، ويكشف لهم ظلام الشك والشهوات.
قال تعالى: (ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨﮩ) [الأنعام: ١٢٢].
فلا يستغني الناس عن النور الذي يضيء لهم سبلهم، ومن حرم من النور الرباني عاش حياته متخبطا في الظلمات (ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ) [النور: ٤٠].
قال ابن القيم: «فالظلمات: جمع ظلمة، وهي ظلمة الجهل، وظلمة الكفر، وظلمة ظلم النفس بالتقليد واتباع الهوى، وظلمة الشك والريب، وظلمة الإعراض عن الحق الذي بعث الله تعالى به رسله صلوات الله وسلامه عليهم. والنور الذي أنزله معهم ليخرجوا به الناس من الظلمات إلى النور»12.
ثانيًا: التفريق بين الحق والباطل وإقامة العدل في حياة الناس:
من مقاصد إنزال الكتب إحقاق الحق وإبطال الباطل، فالكتب هي الفارقة بين الحق والباطل، والكتب هي الداعية إلى إقامة موازين العدل بين الناس.
قال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ) [الحديد: ٢٥].
عن مجاهدٍ، وقتادة: «الميزان هو العدل»13.
وقال القشيري: «أي: أرسلناهم مؤيدين بالحجج اللائحة والبراهين الواضحة، وأزحنا العلة لمن أراد سلوك الحجة المثلى، ويسرنا السبيل على من آثر اتباع الهدى والدليل، وأنزلنا معهم الكتب المنزلة، والميزان أي: الحكم بالقرآن، واعتبار العدل والتسوية بين الناس» 14.
وقال السعدي: «الميزان: العدل والاعتبار بالقياس الصحيح والعقل الرجيح، فكل الدلائل العقلية من الآيات الآفاقية والنفسية والاعتبارات الشرعية والمناسبات والعلل والأحكام والحكم داخلةٌ في الميزان الذي أنزله الله تعالى ووضعه بين عباده، ليزنوا به ما اشتبه من الأمور، ويعرفوا به صدق ما أخبر به وأخبرت رسله»15.
فكما أنزل الله الكتاب أنزل الميزان. قال تعالى: (ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ) [الشورى: ١٧].
وسميت التوراة بالفرقان لكونها فارقة بين الحق والباطل قال تعالى: (ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ) [البقرة: ٥٣].
(ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ) [الأنبياء: ٤٨].
كذلك سمي القرآن بالفرقان قال تعالى: (ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ) [آل عمران: ٣ - ٤].
(ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ) [الفرقان:١].
فالفرقان: «ما يفرق بين الحق والباطل، وبين المشتبه والواضح، وبين ما يؤتى ويتقى، وبين ما عليهم ولهم»16.
ثالثًا: بيان تكاليف العباد من العبادات والمعاملات وغيرها:
خلق الإنسان لعبادة ربه جل وعلا قال تعالى: (ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ) [الذاريات: ٥٦].
ولم تترك عبادة الله تعالى لاجتهادات الناس وأفكارهم، وإلا لذهب الناس فيها كل مذهب، وصارت لهم فيها فنونٌ؛ بل كانت العبادات وفق ما جاء به الرسل ونزلت به الكتب قال تعالى: (ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽﭾﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ) [النحل: ٣٦].
فأرسل الله رسله كما أنزل كتبه لأسمى الغايات وهي عبادته تعالى وتنظيم حياة الناس وإصلاح معاملاتهم. فجميع ما جاء به الأنبياء عليهم السلام خرج من مشكاة واحدة وقصد إلى غاية واحدة هي: هداية البشرية وإمدادها بالزاد الروحي والقبس الإيماني الذي يضيء دروب الحياة، ويصلح المعاش والمعاد.
قال تعالى: (ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ) [الشورى: ١٣].
عن قتادة (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحًا) قال: الحلال والحرام17.
وقال مجاهد: لم يبعث الله تعالى نبيا إلا أوصاه بإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة والإقرار لله بالطاعة. فذلك دينه الذي شرع لهم18.
فأصول الدين واحدة، لا تختلف في جميع الشرائع، وأما الفروع فمختلفة.
تحدث القرآن الكريم عن الكتب المنزلة حديثا شافيا، وبين ما جاء فيها من الهدى والحق، وتحدث القرآن عن نزولها ومقاصدها، كما بين أوصافها وفضائلها، وتحكيمها والعمل بها، وتصديق القرآن لها وهيمنته عليها.
ومن الكتب المنزلة التي تحدث القرآن عنها: التوراة، والزبور، والإنجيل، والقرآن، وصحف إبراهيم وموسى.
أولًا: التوراة:
التوراة: كتاب الله تعالى الذي أنزله على نبيه موسى عليه السلام 19.
ولقد تحدث القرآن عنها حديثًا مسهبًا، مما يدل على منزلتها، حدثنا القرآن عن نزولها وكتابتها، وعن مقاصدها، وما تضمنته من أوامر وأخبارٍ، ودعانا إلى الإيمان بها وبنزولها على موسى عليه السلام، وأنها نزلت بالخير والهدى.
تحدث القرآن عن نزولها في مواضع كثيرة.
قال تعالى: (ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬﭭ) [آل عمران: ٣].
فكما أنزل الله تعالى القرآن على نبيه محمدٍ صلى الله عليه وسلم مصدقا لما بين يديه، فقد أنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس، فالكتب الثلاثة خرجت من مشكاةٍ واحدةٍ؛ ومن ثم فهي متفقةٌ في مصدرها ومقاصدها، ومن هنا ندرك حكمة اقترانها في مواضع كثيرةٍ من القرآن، لأنها يصدق بعضها بعضا، ويكمل سابقها لاحقها، وهي كلها كلام رب العالمين، فضلا عن توافقها وتناسبها.
وقد جاء الحديث عن نزول التوراة في مواضع أخرى.
قال تعالى: (ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ) [آل عمران: ٩٣].
فتحدثت الآية عن توراتين، التوراة المنزلة من عند الله تعالى، والتوراة الموجودة في أيدي اليهود والتي فيها ما فيها من تحريفٍ وزيفٍ، لكنها لا تزال حجةً عليهم بما بقي فيها من حقائق تعضد ما جاء به القرآن، وتنقض ما هم عليه من أباطيل. ولو كانت توراةً واحدةً لناسب ذلك الإضمار تحاشيًا للتكرار، لكن الحديث عن توراتين.
قال تعالى: (ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳﭴ ﭵ ﭶ ﭷ).
ويأتي الحديث عن التوراة الحقيقية وعن نزولها ومضمونها وثمراتها الطيبة في سورة المائدة.
قال تعالى: (ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ) [المائدة: ٤٤].
فالتوراة منزلةٌ من عند الله تعالى بالهدى والنور، وهي شريعة الله تعالى التي حكم بها موسى عليه السلام ومن بعده من الأنبياء عليهم السلام، وعلى نهجهم سار الربانيون والأحبار، فأضاءوا بها دروب الحياة، ونعموا في ظلالها بحلاوة العدل وروح الإنصاف. وفي تكرار الحديث عن إنزالها: توكيدٌ وتقريرٌ بأنها نزلت من عند الله تعالى، وبيانٌ لشرفها وعظمتها، وبيانٌ لمقاصد نزولها، وهي الهداية والبيان.
أسماؤها وأوصافها وفضائلها:
تحدث القرآن عن أسمائها فهي التوراة، والفرقان، والكتاب، والألواح، والصحف.
وردت بهذا الاسم في القرآن في ستة عشر موضعا، وفي هذا ما يدل على تعظيم شأنها، فهي كلام رب العالمين.
أما التعبير عنها بالكتاب فقد ورد في أكثر من ثلاثين موضعا لكونها مكتوبة وكونها جامعة، وفي كل هذه المواضع يقرر السياق أنه كتاب موسى عليه السلام.
وردت في موضعين، في سورة النجم والأعلى، وفي هذا كله ما يدل على عظمة التوراة ورفعتها وجلال قدرها، (ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ) [النجم: ٣٦].
(ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ) [الأعلى: ١٨ - ١٩].
فهي كلام الله تعالى الذي أنزله على نبيه موسى الكليم، واصطفاه به على سائر الناس في زمانه.
قال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ) [الأعراف: ١٤٤].
أنزلها الله تعالى ضياء وذكرى للمتقين الذين ينتفعون بهديها، ويستنيرون بضيائها.
لأن الله تعالى فرق بها بين الهدى والضلال، والحق والباطل.
قال تعالى: (ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ) [الأنبياء: ٤٨].
وقد وردت في ثلاثة مواضع من سورة الأعراف.
قال تعالى: (ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ) [الأعراف: ١٤٥].
(ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜﭝ ﭞ ﭟ ﭠﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ) [الأعراف: ١٥٠].
(ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ) [الأعراف: ١٥٤].
في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن نبينا صلى الله عليه وسلم في محاجة آدم وموسى، وفيه: (فقال آدم: أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالته وبكلامه وأعطاك الألواح فيها تبيان كل شيءٍ، وقربك نجيًا، فبكم وجدت الله كتب التوراة قبل أن أخلق ؟ قال موسى: بأربعين عامًا، قال آدم فهل وجدت فيها (وعصى آدم ربه فغوى) ؟ قال نعم، قال أفتلومني على أن عملت عملًا كتبه الله علي أن أعمله قبل أن يخلقني بأربعين سنةً ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فحج آدم موسى) 20.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: (وكتبنا له في الألواح): يريد ألواح التوراة21.
مقاصدها:
نزلت التوراة هدايةً ورحمةً، ونورا وحكمةً، وضياء وذكرا، وتفصيلا وبيانا، وتبصرةً وفرقانا، نزلت بيانًا لأركان الإيمان وثمراته، كما نزلت مفصلةً للأحكام والآداب، والقصص والأمثال، والوصايا والبشارات.
نزلت هداية لبني إسرائيل، وإصلاحًا لعقيدتهم.
قال تعالى: (ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ) [الإسراء: ٢].
وقال تعالى: (ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ) [المؤمنون: ٤٩].
كما نزلت تبصرة لهم ورحمةً بهم لعلهم ينتفعون بها، ويتذكرون بأحكامها ومواعظها.
قال تعالى: (ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ) [القصص: ٤٣].
فبين تعالى أن التوراة هدى ونورٌ، وشرعةٌ ومنهاجٌ، وأنها بصائر للحق، وميزانٌ له، حكم بها الأنبياء، وقضى بها الربانيون والأحبار، وامتثل لها الصالحون، فهي بصائر بما اشتملت عليه من حجج وبينات، بصائر بما حوته من حكمٍ وأحكام، بصائر بما اشتملت عليه من مواعظ ورقائق، وقصص وأمثالٍ، وبشارات ونبوءات، بصائر بما حوته من علوم ومعارف تضيء الطريق وترشد إلى سبل الهدى.
وقال جل وعلا: (ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ) [الأنعام: ١٥٤].
فمن مقاصد التوراة، نزولها تماما وتفصيلا، وهدى ورحمة، فهي منهاجٌ تامٌ، وشريعةٌ كاملةٌ، وهدايةٌ جامعةٌ، ورحمةٌ عامةٌ، آتاها الله موسى جزاءً لإحسانه في الطاعة والعبادة وتبليغ الرسالة، ومثوبةً لمن أحسن من قومه؛ فهي من تمام الامتنان على أهل الإحسان، من الأنبياء والصالحين أي: أتممنا فضلنا عليهم بالكتاب.
قال الطبري بعد سرده لأقوال السلف: «وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب، قول من قال: معناه: ثم آتينا موسى الكتاب تمامًا لنعمنا عنده، على الذي أحسن موسى في قيامه بأمرنا ونهينا؛ لأن ذلك أظهر معانيه في الكلام، وأن إيتاء موسى كتابه نعمةٌ من الله عليه ومنة عظيمة. فأخبر جل ثناؤه أنه أنعم بذلك عليه لما سلف له من صالح عمل وحسن طاعة22.
ومن مقاصد نزولها كما في الآية: دعوتهم للإيمان باليوم الآخر وترسيخه في قلوبهم (ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ) فآتاه الله التوراة هدايةً ورحمةً وتماما وتفصيلا ووفاءً لجميع ما يحتاج إليه في شريعته، كما قال: (ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ) [الأعراف: ١٤٥].
وقوله تعالى: (ﭨ ﭩ ﭪ): «عامٌ في بابه، أي: مفصلًا لكل شيءٍ من أحكام الشريعة كالعبادات والمعاملات» 23.
(ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ) فالتوراة جامعةٌ للأحكام الشرعية والعقدية.
وبين تعالى من مقاصد التوراة: التفرقة بين الحق والضلال، قال تعالى: (ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ) [الأنبياء: ٤٨].
فالتوراة هي الفرقان، لأنها منهاجٌ للتفرقة بين الهدى والضلال، وهي ضياء وذكرى للمتقين الذين ينتفعون بهديها، ويستنيرون بضيائها.
ومن مقاصدها: إمامة الناس للهدى والخير.
قال تعالى: (ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦﮧ) [هود: ١٧].
فالتوراة شاهدٌ وبرهانٌ وسائقٌ ودليل إلى الإيمان بالقرآن، أنزله الذي أنزل التوراة على موسى إماما للمتقين ومنارة للسائرين ورحمة للمؤمنين.
قال ابن عاشور: «وعبر عن التوراة بـ (كتاب موسى) بطريق الإضافة دون الاسم العلم وهو التوراة لما تؤذن به الإضافة إلى اسم موسى من التذكير بأنه كتاب أنزل على بشر كما أنزل القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم تلميحا إلى مثار نتيجة قياس القرآن على كتاب موسى بالمشابهة في جميع الأحوال.» 24.
وتقديم (إماما) على (رحمة)؛ لأن الإمامة بمثابة الوسيلة أو الطريقة إلى الشيء، والرحمة بمثابة الغاية والثمرة، والغاية تقدم على الوسيلة، فالتوراة تقود إلى الرحمة، اقتدى بها الأنبياء والصالحون من بني إسرائيل فنالوا الرحمات.
مضمونها:
جاءت التوراة بالمواعظ والأحكام المفصلة، فهي في عمومها هدى ورحمة وبصائر.
قال جل وعلا (ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ) [القصص: ٤٣].
وقال سبحانه في سورة المائدة: (ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ) [المائدة: ٤٤].
فاشتملت التوراة على الهداية والبيان، والنور والرحمة، والبصائر والمواعظ. وقد بين القرآن بيانا مفصلا بعضا مما ورد في التوراة من عقائد وأحكام، وقصص وأمثال، وبشارات.
ومن ذلك بيان التوحيد.
قال تعالى: (ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ) [الإسراء: ٢].
فمن مقاصد ومعاني التوراة الأمر بالتوحيد، قال الشنقيطي رحمه الله: «فجعل التوراة هدى لبني إسرائيل مفسر بنهيهم عن اتخاذ وكيل من دون الله ؛ لأن الإخلاص كله في عبادته هو ثمرة الكتب المنزلة على الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه.»25.
وقوله تعالى: (ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ ﰘ ﰙ ﰚ ﰛ ﰜ ﰝ ﰞ ﰟ ﰠ ﰡ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ) [النجم: ٣٦ - ٤٩].
فقد اشتملت صحف موسى وهي التوراة على أصول الإيمان: الإيمان بالله تعالى وباليوم الآخر، فضلًا عن الإيمان بالرسل والكتب والملائكة والقدر.
ومن ذلك وعده تعالى لعباده المؤمنين بالجنة.
قال تعالى: (ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ) [التوبة: ١١١].
إذ جميع الكتب المنزلة متفقة في أصول التشريع كالصلاة والصيام والزكاة، وإن اختلفت في فروعها وجاءت شريعة القرآن مسك الختام وغاية التمام.
تأمل قوله تعالى: (ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ) [الأعلى: ١٤ - ١٩].
ففيها بيان اشتمال صحف إبراهيم وكذلك صحف موسى أي: التوراة على الترغيب في الزكاة والصلاة والتحذير من الافتتان بالدنيا وإيثارها على الآخرة.
ومن ذلك قوله تعالى في سورة المائدة: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ) [المائدة: ٣٢].
(ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ) [المائدة: ٤٤ - ٤٥].
فكشف الله تعالى لنا عن شيءٍ مما تضمنته التوراة، في جانب الأحكام الشرعية العادلة التي نزلت لحماية الإنسان وحفظ دينه، وروحه، وعقله، وبدنه، وماله، وعرضه.
مما تضمنته التوراة كما بين القرآن البشارة بخاتم النبيين صلى الله عليه وسلم.
قال تعالى: (ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ) [الأعراف: ١٥٧].
فلقد جاءت أوصاف نبينا صلى الله عليه وسلم مكتوبةً في التوراة والإنجيل وعلى إثرها وفي ضوئها آمن من آمن من علماء أهل الكتاب، وكان اليهود والنصارى يترقبون مجيء هذا النبي الأمي الذي يبعث بالرحمة ويرفع الله به الحرج ويضع عنهم الآصار التي أرهقتهم، ويحط الأغلال التي أثقلتهم، وكانوا يتواصون ويتعاهدون على نصرته ومؤازرته، فلما بعث آمن منهم من تجرد للحق وأخلص له، وأعرض من خاب وخسر.
جاءت الكتب الثلاثة بالأمثال التي تقرب المعاني إلى الأذهان وترسخها في النفوس، وتصورها في صورٍ حية، قال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽﭾ ﭿ ﮀ ﮁﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ) [الفتح: ٢٩].
فلم يقتصر الحديث في التوراة والإنجيل عن أوصاف النبي صلى الله عليه وسلم، بل ورد الحديث كذلك عن أوصاف أصحابه ومناقبهم، كما أشارت الآية الكريمة، أن الله تعالى ضرب لنبيه صلى الله عليه وسلم وصحابته رضوان الله عليهم أروع الأمثلة في التوراة والإنجيل، حيث بدأت دعوة الإسلام غريبةً، ولم تلبث أن قوي عودها وانتشر عبيرها وأورقت شجرتها وأينعت ثمارها بجهود الصحابة ومساعيهم.
ومن ذلك أيضًا قوله تعالى: (ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ) [التوبة: ١١١].
وعد الله تعالى في كتبه الثلاث المجاهدين الصادقين الذين نالوا شرف الجهاد والاستشهاد بأن لهم الجنة.
ثانيًا: الزبور:
أنزل الله الزبور على نبيه داود عليه السلام فكان من أعظم النعم وأجلها؛ إذ اشتمل على معانٍ سامية وأحكام راشدة ومواعظ وبشارات، وقد تحدث القرآن عنه في عدة مواضع بما عرفه لنا، وكشف لنا عن شيء مما ورد فيه.
وأصل كلمة الزبور: في اللغة العربية: من (ز ب ر)، والزبر: الكتابة في الحجر، وقيل: الزبر أي: الزجر، لأن الزبور والزبر: الكتب التي اشتملت على زواجر، أي: مواعظ تزجر عن الباطل، وقيل: هو من الفخامة والعظمة، ومنه زبر الحديد، أي: قطعه الكبيرة، وقيل: من الإتقان؛ لأنه كتابٌ محكمٌ 26.
وقد وردت بعض مشتقات هذه المادة في القرآن الكريم: فجاءت بمعنى: القطعة من الشيء. قال تعالى: (ﰅ ﰆ ﰇﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ ﰘ ﰙ ﰚ) [الكهف: ٩٦].
وزبر الحديد أي: قطعه الكبيرة. وجاءت بمعنى: التقطع والتفرق.
قال تعالى في سورة المؤمنون: (ﯘ ﯙ ﯚ ﯛﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ)، أي: تفرقوا إلى فرقٍ وأحزابٍ شتى. وجاءت بمعنى: الكتب والمواعظ والزواجر التي نزلت على الأنبياء 27.
قال تعالى: (ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ).
فالبينات هي: الحجج والمعجزات، والزبر هي: المواعظ والزواجر، والكتاب المنير: اسم جنس «يشمل جميع الكتب التي أنزلها الله على أنبيائه لهداية الناس وإرشادهم28.
وقال تعالى: (ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ) [الشعراء: ١٩٢-١٩٧].
والزبر: الكتب لأنها زبرت أي: رقمت، ومنه قوله تعالى: (ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ): أي: في كتب المتقدمين من الأنبياء، لأنها بشرت به، أو لأنه تضمن ما ورد فيها، وجاء مصدقًا بها.
وجاء الزبر: بمعنى اللوح المحفوظ أو كتاب الأعمال: قال تعالى: (ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ) [القمر: ٥٢-٥٣].
قال الطبري: «يعني في الكتب التي كتبتها الحفظة عليهم وقد يحتمل أن يكون مرادًا به في أم الكتاب» 29.
وفي عدة مواضع تحدث القرآن عن الزبور: الكتاب الذي أنزله الله تعالى على داود عليه السلام.
قال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ) [النساء: ١٦٣].
أوحى الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم كما أوحى لمن قبله من الأنبياء، والزبور وحيٌ من الله تعالى ومنةٌ على نبيه داود عليه السلام، والذي يؤمن بالزبور يلزمه الإيمان بالقرآن لأن مصدرهما واحدٌ، فحريٌ بأهل الكتاب الذين يؤمنون بالزبور أن يؤمنوا بالقرآن ختام الكتب وآخر الرسالات، والذي جاء مصدقا بما قبله.
وقال سبحانه: (ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ) [الإسراء: ٥٥].
فقد فضل الله داود عليه السلام بهذا الكتاب العظيم، وفي تكرار هذه العبارة في سورتين تقريرٌ لها، وتذكيرٌ بها، وبيانٌ لفضل داود عليه السلام، ودليلٌ على التفاضل بين الأنبياء، وبرهانٌ على وحي الله لأنبيائه، والزبور الموجود بين يدي أهل الكتاب المسمى عندهم بمزمور داود يشهد للنبي محمدٍ صلى الله عليه وسلم وأمته، وهذا ردٌ على أهل الكتاب الذين ينكرون نبوة النبي صلى الله عليه وسلم، ببيان أن ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، كما تفضل الله على النبيين من قبل عامةً وعلى نبيه داود عليه السلام خاصةً.
مقاصد الزبور:
أنزل الله الزبور على داود عليه السلام كما أنزل سائر الكتب على الأنبياء هداية وتذكرة وبيانا وبشارةً، وحجةً على الخلق.
قال الله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ) [النساء: ١٦٣].
ويفهم من سياق هذه الآية أيضًا أن نزول الزبور نعمة وفضيلة لنبي الله داود عليه السلام.
والبشارة في الزبور كما أخبر القرآن.
قال جل وعلا: (ﭼ ﭽﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ) [الأنبياء: ١٠٥ -١٠٧].
وهنا يكشف لنا المولى جل وعلا قبسا مما جاء في الزبور، حيث اشتمل على هذه البشارة العظيمة بالتمكين لعباد الله الصالحين، الذين يرثون الأرض وينشرون الرحمة في أرجائها.
والذكر: هو اللوح المحفوظ، وفيه أقدار الله وسننه، أو التوراة وفيها بشاراتٌ عديدةٌ لأمة الإسلام، وفي التنويه على وجود هذه البشارة في اللوح أو في التوراة تقريرٌ لها وتفخيمٌ لشأنها، والمتأمل في ما يدعى عند أهل الكتاب بمزامير داود يدرك هذه المعجزة القرآنية ! وقد جاء في المزمور السابع والثلاثين من المزامير المنسوبة لداود عليه السلام ما نصه: «والذين ينتظرون الرب هم يرثون الأرض، ١٠ بعد قليل ٍلا يكون الشرير، تطلع في مكانه فلا يكون، ١١ أما الودعاء فيرثون الأرض، ويتلذذون في كثرة السلامة.
وتعقيب هذه البشارة بقوله تعالى: (ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ). لفتةٌ بليغةٌ كي نقف خاشعين أمام إعجازٍ قرآني وبلاغٍ ربانيٍ.
ثالثًا: الإنجيل:
تحدث القرآن عن الإنجيل بما كشف لنا عن نزوله ومقاصده وفضائله، وما ورد فيه من أحكام وبشارات، فالإنجيل كلام الله تعالى الذي نزله على نبيه عيسى عليه السلام هداية وتذكرة لبني إسرائيل وامتدادا للتوراة وتصديقا بها ونسخا لبعض ما ورد فيها.
وأما تعريفه: فالإنجيل: علمٌ على الكتاب الذي أنزله الله على عيسى عليه السلام30.
أوصافه ونزوله وفضائله ومقاصده:
وصفه الله تعالى بأنه هدى ونورٌ، هدى للناس، ونورٌ يضيء لهم الدروب، وبين تعالى أنه مصدقٌ لما بين يديه من التوراة، فنزوله دليلٌ على صدقها، وامتدادٌ لها، ونسخٌ لبعض ما ورد فيها من أحكام، كذا كل نبيٍ وكل كتابٍ يصدق بما قبله.
قال تعالى: (ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ) [آل عمران: ١-٤].
فالتوراة والإنجيل كلاهما نزل من عند الله هدايةً للناس، وكذلك الفرقان.
وبينما صرح القرآن وأكد نزول الإنجيل من عند الله تعالى؛ لم أعثر في الأناجيل الأربعة على عبارةٍ واحدةٍ تصرح بنزولها من عند الله ! فمن فضائل عيسى عليه السلام ومناقبه الجليلة أن أنزل الله عليه الإنجيل هدى وموعظة وحياة للقلوب.
قال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ) [المائدة: ٤٦].
وهذه الآية تصرح بأن الإنجيل وحي من الله تعالى أكرم به عيسى عليه السلام، وكذلك قوله تعالى: (ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ) [الحديد: ٢٧].
فالإنجيل من أشرف الكتب التي أنزلها الله تعالى بدليل حديث القرآن عنه في مواضع كثيرة، واقتران ذكره بأوصاف جليلة ومقاصد عظيمة، فهو هدايةٌ ونورٌ، وموعظةٌ وذكرى، وقد ورد ذكره في اثني عشر موضعا من كتاب الله تعالى، وفي هذا أعظم دليلٍ على مزيته، سيما إذا قارنا ذلك بعدد ورود الإنجيل في الأناجيل الأربعة، حيث لم ترد كلمة الإنجيل إلا في سبعة مواضع: مرة في إنجيل متى، والباقي في إنجيل مرقص، بينما لم ترد في إنجيل يوحنا، ولا لوقا، ومع ذلك لم يقترن ذكره بالحديث عن مصدره أو فضائله أو مقاصد نزوله، أو الدعوة إلى تحكيمه، أو انتظامه في سلك ما سبقه من كتبٍ.
والإنجيل نعمةٌ عظيمةٌ أنعم الله تعالى به على عيسى عليه السلام ومن آمن به قال تعالى: (ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽﭾﭿ) [المائدة: ١١٠].
فالإنجيل نعمةٌ ومنحةٌ جليلةٌ من الله تعالى، وقال سبحانه: (ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ) [الحديد: ٢٧].
وفي ذكر الإنجيل خاصةً في هذا السياق؛ تنويهٌ بشرفه وتذكيرٌ بعظمته، وبيان كونه حلقةً في سلسلة الكتب التي أنزلها الله على رسله لهداية الإنسانية. نزل الإنجيل هدايةً للحائرين ونورًا للسائرين.
قال تعالى: (ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ) [المائدة: ٤٦].
فالإنجيل هدى ونورٌ، ومصدقٌ لما بين يديه من التوراة، وموعظةٌ للمتقين، وتكرار وصفه بالهدى، لتقرير هذا المعنى، ولبيان كونه هدايةً عامةً لبني إسرائيل، هداية بيانٍ وإرشادٍ، فوق أنه هدايةٌ خاصةٌ لمن انتفع به من المتقين، كذلك قال أولا: (ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ) أي: اشتمل على الهداية والنور، ثم وصفه ثانيةً، بأنه كله هدى (ﭩ ﭪ ﭫ) لأنهم وحدهم هم الذين ينتفعون بهديه ويعتبرون بمواعظه.
قال الرازي: معنى: «أن الإنجيل هدًى أنه اشتمل على الدلائل الدالة على التوحيد والتنزيه، وبراءة الله تعالى عن الصاحبة والولد والمثل والضد، وعلى النبوة وعلى المعاد، فهذا هو المراد بكونه هدًى، وأما كونه نورًا: فالمراد به كونه بيانًا للأحكام الشرعية ولتفاصيل التكاليف، وأما كونه مصدقًا لما بين يديه: فيمكن حمله على كونه مبشرًا بمبعث محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وبمقدمه، وأما كونه هدًى مرةً أخرى: فلأن اشتماله على البشارة بمجيء محمدٍ صلى الله عليه وسلم سببٌ لاهتداء الناس إلى نبوته»31.
وقال ابن كثير: «أي: هدًى إلى الحق ونورٌ يستضاء به في إزالة الشبهات، وحل المشكلات» 32.
اشتماله على جملةٍ من الأحكام:
قال تعالى: (ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽﭾ) [المائدة: ٤٦-٤٧].
فقد أنزل الله الإنجيل مشتملا على جملة من الأحكام أوجبها على أهل الإنجيل.
تصديقه للتوراة ونسخه لبعض ما جاء فيها:
قال تعالى في قصة عيسى عليه السلام مع قومه: (ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ) [آل عمران: ٥٠].
فأمر أتباع عيسى بالعمل بالتوراة باستثناء ما نسخ منها، تخفيفا وتيسيرا عليهم، فكم حرم الله على اليهود من طيباتٍ بظلمهم وعنادهم وتعنتهم وقسوة قلوبهم.
قال تعالى: (ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ) [النساء: ١٦٠ - ١٦١ ].
وقال تعالى: (ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺﯻ ﯼ ﯽ ﯾﯿ ﰀ ﰁ ﰂ) [الأنعام: ١٤٦].
قال ابن كثير: «والمشهور من قول العلماء أن الإنجيل نسخ بعض أحكام التوراة 33.
بشارته بخاتم الرسل وآخر الكتب:
كما جاء الإنجيل مصدقا بالتوراة التي سبقته فقد جاء مبشرا بخاتم النبيين والمرسلين الذي سيأتي بعده.
قال تعالى: (ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ) [الأعراف: ١٥٧].
فبينت الآية كيف جاءت التوراة وكذا الإنجيل بالبشارات الصريحة الجلية الدالة على نبوة النبي صلى الله عليه وسلم ووجوب اتباعه. فلقد بشرت التوراة والإنجيل بهذا النبي الأمي، وبينت أوصافه وأحواله ومناقبه صلى الله عليه وسلم، وأنه جاء لهم بالرحمة والتيسير، والخير والصلاح، ودعت إلى الإيمان به واتباعه، ومؤازرته ومناصرته، فذلك هو سبيل الفلاح.
رابعًا: القرآن:
حوى القرآن الكريم لب الكتب المنزلة، وأوعى معانيها، ونزل موائمًا لها، متممًا لمقاصدها، وانفرد بأحكامٍ ومعانٍ زيادةً على ما ورد فيها مع كونه من جنسها؛ لأنه رسالةٌ عامةٌ ودعوةٌ عالميةٌ باقيةٌ إلى يوم الدين، ومن ثم فمن وجوه هيمنته: استيعابه لما سبقه من الكتب بما يغني عنها، في حين أنها لا تغني عنه. وجاء القرآن الكريم ناسخا لما سبقه من كتب انتهى العمل بما تبقى فيها من أحكام بنزول القرآن الذي ليس بعده كتابٌ، وقد اتفق القرآن مع الكتب التي نزلت قبله في الأصول.
قال تعالى: (ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊﮋ) [المائدة: ٤٨].
ووقع الاختلاف في بعض الفروع، مراعاةً لاختلاف الزمان والمكان، ومراعاةً لعالمية دعوة القرآن وشمولها وقيامها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
قال تعالى: (ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ) [الفرقان: ١].
كما جاء القرآن ناسخا لما قبله من الكتب؛ فهو الحجة وهو المنهاج الذي يجب على البشرية أن تحتكم إليه، وتقتفي أثره، قال تعالى: (ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥﭦ) [الأنعام: ١٩].
وبنزول القرآن انتهى العمل بما سبقه من كتبٍ لأنها باتت منسوخةً، قال تعالى بعد أن تحدث عن شريعة التوراة والإنجيل: (ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐﮑ) [المائدة: ٤٨].
وتكفل الله بحفظه وهيأ الأسباب ويسر السبل المعينة على ذلك؛ فهو رسالة الله الخالدة، ونوره الذي لا ينطفئ، قال ابن الجزري رحمه الله: ثم إن الاعتماد في نقل القرآن على حفظ القلوب والصدور لا على حفظ المصاحف والكتب، وهذه أشرف خصيصةٍ من الله تعالى لهذه الأمة، وذلك بخلاف أهل الكتاب الذين لا يحفظونه لا في الكتب ولا يقرءونه كله إلا نظرًا لا عن ظهر قلبٍ، ولما خص الله تعالى بحفظه من شاء من أهله أقام له أئمةً ثقاتٍ تجردوا لتصحيحه وبذلوا أنفسهم في إتقانه وتلقوه من النبي صلى الله عليه وسلم حرفًا حرفًا، لم يهملوا منه حركةً ولا سكونًا ولا إثباتًا ولا حذفًا، ولا دخل عليهم في شيءٍ منه شكٌ ولا وهمٌ» 34.
فحفظ الله تعالى كتابه من التحريف والتبديل فسلم من التناقض والاضطراب الذي اعترى التوراة والإنجيل بسبب تحريفهما. قال تعالى: (ﭓ ﭔ ﭕ ﭖﭗ ﭘﭙ ﭚ ﭛ ﭜ) [البقرة: ٢].
وقال (ﭻ ﭼ ﭽﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ) [النساء: ٨٢].
وقال تعالى: (ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ) [فصلت: ٤١ -٤٢].
فالقرآن الكريم لا يتطرق إليه شكٌ ولا يقع فيه اختلافٌ ولا يتسرب إليه باطلٌ، ولا يضرب بعضه بعضا، ولا يتفاوت في بلاغته، فهو كتابٌ محكمٌ ومحفوظٌ بحفظ الله تعالى له.
ولقد جاء الأسلوب القرآني متميزًا عن الكتب السابقة؛ إذ مع كونه خرج كما خرجت من مشكاةٍ واحدةٍ، ونزل به الناموس الذي نزل على موسى عليه السلام وكذا على عيسى عليه السلام إلا أنه ينفرد عن تلك الكتب بمزايا تتناسب مع مقاصده؛ فهو الرسالة الخاتمة، والشرعة التامة، والمنهاج الكامل.
فالقرآن آيةٌ بينةٌ وحجةٌ ساطعةٌ ومعجزةٌ خالدة، تحدى الله به الناس كافة، وهو معجزٌ في ألفاظه ومعانيه، وأساليبه وتراكيبه، معجزٌ في كل ما جاء فيه من حقائق بيناتٍ، معجزٌ في أوصافه وأخباره، معجزٌ في بشاراته ونبؤاته، معجزٌ في قصصه وأمثاله، معجزٌ في روعته وجلاله، معجزٌ في تأثيره العجيب ونظمه الفريد، معجزٌ في تشريعاته الحكيمة، معجزٌ في واقعيته ومثاليته، معجزٌ في أصالته وثباته، مع مواكبته لكل جيلٍ وقبيلٍ، وتناسبه لكل عصرٍ ومصرٍ، معجزٌ في شتى جوانبه، فهو المعجزة الكبرى والآية المتجددة، والرسالة الخالدة.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من الأنبياء نبيٌ إلا أعطي ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيًا أوحاه الله إلي؛ فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة) 35.
تحدى الله به الإنس والجن، أن يأتوا بمثله أو بسورة من مثله، فما استطاعوا لذلك سبيلا:
قال تعالى: (ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁﰂ ﰃ ﰄ ﰅ) [البقرة: ٢٣ - ٢٤].
وقال جل وعلا: (ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ) [الإسراء: ٨٨].
وقال سبحانه: (ﭛ ﭜ ﭝﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ) [الطور:٣٣-٣٤].
فتحدى الله به الإنس والجان، على أن يأتوا بمثله، أو بسورة من مثله، أو بحديث مثله فما استطاعوا لذلك سبيلا، مع أن منهم من حاول ذلك فخاب سعيه، وأدرك عجزه عن مجابهة هذا التحدي، وما أكثر ما في القرآن من تحديات.
خامسًا: صحف إبراهيم وموسى:
ورد الحديث عن الصحف التي أنزلها الله تعالى على إبراهيم وموسى عليهما السلام في سورة النجم.
قال تعالى: (ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ ﰘ ﰙ ﰚ ﰛ ﰜ ﰝ ﰞ ﰟ ﰠ ﰡ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ) [ النجم: ٣٦ - ٥٦ ].
وفي سورة الأعلى: قال سبحانه (ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ) [الأعلى: ١٤ - ١٩].
كذلك جاءت إشارةٌ إلى الصحف الأولى بعمومها في قوله تعالى: (ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ) [ طه: ١٣٣ ].
عن مجاهد: قوله: ( ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ)، قال: التوراة والإنجيل36.
وعن قتادة، قوله: ( ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ) الكتب التي خلت من الأمم37.
وخص صحف إبراهيم لأنه أبو الأنبياء عليهم السلام، والعرب في الجاهلية كانوا يقرون بفضله ومكانته، وكذلك أهل الكتاب يقرون بنبوته وإمامته وأبوته للمؤمنين، فالكل يدعي اتباع أثره. كذلك لتقدمها وقدمها؛ وللمقدم أهميته وللعتيق مزيته، وخص صحف موسى لأنه من أولي العزم من الرسل، ولأن المشركين يعرفونه، وأهل الكتاب يدعون اتباعه والعمل بما جاء به، وصحف موسى هي: التوراة، وهي من الصحف الأولى باعتبار تقدمها على ما بعدها من الكتب، فقد نزل بعدها الزبور والإنجيل والقرآن.
وقال الثعلبي: بينة ما في الصحف الكتب الأولى: أي بيان ما فيها يعني القرآن أقوى دلالة وأوضح آية. وقال بعض أهل المعاني: يعني ألم يأتهم بيان ما في الكتب الأولى التوراة والإنجيل وغيرهما من أنباء الأمم التي أهلكناهم لما سألوا الآيات، فأتتهم فكفروا بها، كيف عجلنا لهم العذاب والهلاك بكفرهم بها38.
والآيات تكشف لنا عن بعض ما ورد في تلك الصحف: ففي سورة النجم: بيانٌ للعدل الذي قامت عليه السموات والأرض، أنه لا يتحمل أحدٌ وزر أحدٍ، وكل إنسانٍ مؤاخذٌ بسعيه، لا يتحمل وزر غيره، ولا ينال حق غيره، وسوف يرى ما قدم من خيرٍ أو شرٍ، وسيعرض عمله، ويجازى عليه جزاءً عادلا، وأن مصير الإنسان ومنتهاه لربه، وهو تعالى المدبر لهذا الكون، فلا فرح ولا حزن، ولا موت ولا حياة، إلا بأمره تعالى ومشيئته، فهو الخالق المدبر، وهو المبدئ المعيد، المغني المقني، المنظم لأمر الكون، المنتقم من الجبابرة الطغاة، والكفرة العتاة. أما آيات سورة الأعلى ففيها دعوةٌ لتزكية الأنفس، ومداومة الذكر، وإقام الصلاة، ونهيٌ عن إيثار الحياة الدنيا والاغترار بزخارفها الفانية، وترغيبٌ في الآخرة فهي خيرٌ وأبقى. فالآيات تتحدث عن الأصول العامة والقواعد الكلية: الخالق، الكون، الحياة، الإنسان، المنهج، المبدأ، المعاش، الزاد، المعاد. من هنا ندرك أن رسالات الله وكتبه نزلت لهداية الإنسان وإصلاحه، وتوجيهه للخير في عاجله وآجله.
ونخلص من ذلك إلى أن محور هذه الكتب المنزلة: هو الإنسان، هدايته وإصلاحه ورسالته وعلاقته بهذا الكون، والتصور الصحيح لحقيقة الدنيا والآخرة، كما جاءت الكتب الإلهية لإقامة موازين العدل في ربوع الكون، وبيان خطر المسئولية والجزاء. وقد وصفها الله تعالى بأنها من الصحف الأولى، والنذر الأولى: وهذا يعني كونها مكتوبةً، وأنها جاءت بالأخبار والمواعظ، أما وصفها بالأولى فإنه يفصح عن قيمتها ويبين عن أسبقيتها وقدمها؛ فللسابق مزيته، والشيء العتيق له قدره ونفاسته. و اختلف المفسرون في مرجع الإشارة (ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ) [الأعلى: ١٨].
فمنهم من قال: الإشارة لكل ما ورد في السورة من معانٍ وحكمٍ وأحكامٍ ونذر، ومنهم من قال: الإشارة إلى قوله تعالى: (ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ) [الأعلى: ١٤ - ١٧].
وأرى أن القول الأخير هو الأولى بالقبول لأنه هو القريب، والأصل في الإشارة أن تكون للقريب.
وقدمت صحف موسى مرة، وقدمت صحف إبراهيم أخرى: لمراعاة الأسبقية في الأفضلية، والأسبقية الزمانية، فإن للتوراة مكانتها العظيمة، وقد ورد الحديث عنها كثيرا في القرآن، هذا فضلا عما في التقديم والتأخير من تفننٍ في البيان، واستيعابٍ للمعاني، مع مراعاة الفاصلة في كلا الموضعين. وفي سورة الأعلى: لما أشار إلى الصحف جملةً، وأنها الأولى: ناسب ذلك ترتيبها حسب زمانها، فبدأ بصحف إبراهيم، وثنى بصحف موسى.
أما في سورة النجم: فلقد بدأ بصحف موسى لأنها أشمل وأوسع وأقرب عهدا، ولا زالت منها بقيةٌ باقيةٌ في أيدي أهل الكتاب، بينما اندرست صحف إبراهيم، فاستحقت صحف موسى التقديم.
قال الزركشي: «قدم ذكر صحف موسى لوجهين، أحدهما: أنه في سياق الاحتجاج عليهم بالترك، وكانت صحف موسى منتشرةً أكثر انتشارا من صحف إبراهيم، وثانيهما: مراعاة رؤوس الآي» 39.
بين القرآن الكريم ما يتوجب على الأمم نحو الكتب التي أنزلها على أنبيائهم، وهو الإيمان بها وتصديقها والعمل بما جاء فيها والتماس الهدايات منها، وواجبنا نحن أمة الإسلام أن نؤمن بالكتب السابقة كما حدثنا عنها ربنا، ونعظمها ونقدسها فضلا عن إيماننا بالقرآن الكريم آخر الكتب وأعظمها.
أولًا: الإيمان بها جميعًا:
دعا الله تعالى في كتابه الكريم إلى الإيمان بما سبقه من كتبٍ أنزلها على أنبيائه إجمالًا فيما أجمل، وتفصيلًا فيما فصل.
قال تعالى: (ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫﮬ) [البقرة: ٢٨٥].
وقال تعالى: (ﭻ ﭼ ﭽﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ) [النساء: ١٣٦].
والكتاب الذي أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم هو القرآن الكريم خاتم الكتب، نزل على خاتم النبيين، والكتاب الذي أنزل من قبل: المراد به التوراة باعتبارها آخر ما نزل قبل القرآن، وإنما لم يذكر الإنجيل؛ لأن التوراة هي الأصل، والإنجيل جاء متمما لها، أو المراد بالكتاب ما سبق من كتب، وإنما أفردها مع كثرتها باعتبار أنها كتابٌ واحدٌ، خرجت جميعها من مشكاةٍ واحدةٍ، ونزلت كلها لغاية واحدة هي توحيد الله تعالى وعبادته، وإقامة موازين القسط.
وقال تعالى: (ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ) [البقرة: ١٣٦].
فأمر الله بالإيمان الكامل والتصديق التام بكل ما أنزل على أنبيائه، دون تفريقٍ بين نبيٍ ونبيٍ، وأن نعلن التسليم المطلق له تعالى. والإيمان بكل ما أنزل من صفات المتقين كما جاء في مطلع سورة البقرة (ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ) [البقرة: ٤].
وفي ختام السورة دعوةٌ للإيمان بسائر الكتب.
قال تعالى: (ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫﮬ ﮭ ﮮ ﮯﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ) [البقرة: ٢٨٥].
وقال تعالى: (ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷﯸ) [الشورى: ١٥].
فالإيمان بسائر الكتب المنزلة واجبٌ على كل مؤمن لا يستقيم إيمانه ولا يتم إلا به. وقال تعالى: (ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ) [السجدة: ٢٣].
أي: فلا تكن في مرية من نزول التوراة عليه وتلقيه لها، أو من لقائه يوم القيامة حيث يجمع الله الرسل عليهم السلام، فما أجمله من لقاء40.
ومعنى الإيمان بالكتب: الإيمان بها على إطلاقها وأنها منزلةٌ من عند الله على أنبيائه ورسله، والإيمان بما ورد فيها من هدى ونور، وموعظة وذكرى، وتفصيل وبيانٍ، وفي حديث جبريل عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (فأخبرنى عن الإيمان. قال: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره). قال صدقت)41.
فالمؤمن مطالبٌ بأن يعلن عن موقفه من الكتب المنزلة، ويبين عن إيمانه بها، وهذه هي دعوة الإسلام، فالإيمان بالكتب المنزلة من الأركان الثابتة، والمبادئ الراسخة التي فرضها الإسلام، فكل كتابٍ أنزله الله تعالى، أخبرنا عنه القرآن، أو لم يرد خبره فنحن مكلفون بالإيمان بالكتب جملةً، ولا يتم إيمان العبد ولا يستقيم منهجه حتى يؤمن بالكتب المنزلة كلها، هذا هو منهج الإسلام الواضح، ودعوته الصادقة وطريقه المستقيم.
وقد بينت الآية الكريمة مع سياقها أن الإيمان بالكتب السابقة ركنٌ من أركان الإيمان، وأن الواجب على الأمة أن تعلن ذلك، وأن تقف ذلك الموقف في مقابل إنكار وتشكيك أعداء القرآن، وأن تعلن إيمانها بجميع الكتب المنزلة ولا يضرها كفر الكافرين، ولا يجوز مقابلة جحود أهل الكتاب للقرآن بجحود التوراة والإنجيل، بل الإيمان بالكتب المنزلة كلها ركنٌ من أركان الإيمان لا يتم بدونه، وهو إيمانٌ ثابتٌ لا يتبدل.
والتعبير بـ (من) الدالة على الاستغراق وتنكير الكتاب؛ لبيان وجوب الإيمان بكل كتاب أنزله تعالى، جملةً فيما أجمل وتفصيلا فيما فصل. قال أبو السعود رحمه الله: «بيانٌ لاتفاق الكتب في الأصول، وتأليفٌ لقلوب أهل الكتابين، وتعريضٌ بهم» 42. فقد كفروا بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، وكان لا يسعهم إلا الإيمان به.
قال الشيخ الحكمي في معارج القبول: «والركن الثالث: الإيمان «بكتبه المنزلة» على رسله، ومعنى الإيمان بالكتب التصديق الجازم بأن كلها منزلٌ من عند الله عز وجل على رسله إلى عباده بالحق المبين والهدى المستبين، وأنها كلام الله عز وجل لا كلام غيره، وأن الله تعالى تكلم بها حقيقةً كما شاء وعلى الوجه الذي أراد»43.
فالإيمان بالكتب السابقة ركن من أركان الإيمان ثابتٌ لا يتبدل ولا يتغير، يجب الإيمان بها إجمالا فيما أجمل، وتفصيلا فيما فصل، ومن مقتضيات تمام الإيمان بها معرفة مقاصدها وأسمائها وأوصافها.
ثانيًا: تصديق الكتاب المتأخر لما نزل قبله:
كتب الله تعالى يصدق بعضها بعضا، فكل رسالة تأتي مصدقة لما قبلها، فالكتب الإلهية يصدق بعضها بعضا. «ومعنى التصديق كونه موافقًا في التوحيد والنبوات وأصول الشرائع» 44.
وقد جاء الإنجيل مصدقًا لما بين يديه من التوراة.
قال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ) [المائدة: ٤٦-٤٧].
قال ابن كثير: «ومصدقًا لما بين يديه من التوراة، أي متبعًا لها غير مخالفٍ لما فيها، إلا في القليل مما بين لبني إسرائيل بعض ما كانوا يختلفون» 45.
كما جاء القرآن الكريم مصدقا للتوراة والإنجيل وما سبقهما.
قال تعالى: (ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ) [المائدة: ٤٨].
كذلك كل نبيٍ أخذ الله عليه العهد والميثاق أن يؤمن بكل من يليه من الأنبياء إن عاصره.
قال الله تعالى: (ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕﯖ ﯗ ﯘﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ) [آل عمران: ٨١].
قال الطبري: «وإذ أخذ الله ميثاق النبيين بما ذكر، فقال لهم تعالى ذكره: أأقررتم بالميثاق الذي واثقتموني عليه: من أنكم مهما أتاكم رسولٌ من عندي مصدق لما معكم «لتؤمنن به ولتنصرنه» «وأخذتم على ذلك إصري»؟ يقول: وأخذتم على ما واثقتموني عليه من الإيمان بالرسل التي تأتيكم بتصديق ما معكم من عندي والقيام بنصرتهم «إصري». يعني عهدي ووصيتي، وقبلتم في ذلك مني ورضيتموه.». «قالوا أقررنا»، فإنه يعني به: قال النبيون الذين أخذ الله ميثاقهم بما ذكر في هذه الآية: أقررنا بما ألزمتنا من الإيمان برسلك الذين ترسلهم مصدقين لما معنا من كتبك، وبنصرتهم. قال الله: (ﯛ)، أيها النبيون، بما أخذت به ميثاقكم من الإيمان بتصديق رسلي التي تأتيكم بتصديق ما معكم من الكتاب والحكمة، ونصرتهم على أنفسكم وعلى أتباعكم من الأمم إذ أنتم أخذتم ميثاقهم على ذلك، وأنا معكم من الشاهدين عليكم وعليهم بذلك 46.
ثالثًا: وجوب تحاكم النبي وأمته إلى الكتاب المنزل:
ما أرسل الله نبيا إلا وجعل له شريعة يدعو إليها ويأمر بها.
قال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛﭜ) [الحديد: ٢٥].
فما من رسول أرسله الله تعالى إلا وأرسله بالحجج النيرة والدلائل الواضحة والشريعة الغراء التي تقيم موازين العدالة بين الناس وترعى جميع الحقوق المشروعة.
قال أبو حيان: «ليقوم الناس بالقسط: الظاهر أنه علةٌ لإنزال الميزان فقط، ويجوز أن يكون علةً لإنزال الكتاب والميزان معًا، لأن القسط هو العدل في جميع الأشياء من سائر التكاليف، فإنه لا جور في شيءٍ منها»47.
وقال الشوكاني: «ومعنى ليقوم الناس بالقسط ليتبعوا ما أمروا به من العدل فيتعاملوا فيما بينهم بالنصفة»48.
وقال تعالى: (ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐﮑ) [البقرة: ٢١٣].
فكان لا بد من شريعة يحتكم الناس إليها، شريعةٌ لها قدسيتها وجلالها في النفوس، شريعة يجتمع حولها الناس ويرتضونها ولا سبيل لذلك إلا بالمنهج الرباني الذي يسع الجميع ويلزم الجميع ويذعن له الجميع، إذ القوانين البشرية لا قداسة لها ولا كرامة في النفوس، فضلا عن قصورها عن تحقيق العدالة والتوزان بين الحقوق.
فدعا الله تعالى كل أمة من الأمم للاحتكام بالكتاب الذي نزل على نبيهم أو لشريعة من سبقه من الأنبياء.
قال تعالى عن تحكيم التوراة: (ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ) [المائدة: ٤٤].
فالتوراة وحيٌ من الله تعالى وتنزيلٌ من لدنه، نزلت بالهدى والنور، هدى للناس ونور يضيء لهم دروب حياتهم وطريقهم إلى مرضاة ربهم، وسعادتهم الأبدية، وهي شجرةٌ ظليلةٌ مثمرةٌ استظل بها النبيون الذين انقادوا لأوامر الله ورضوا بحكمه، فهي شرعتهم ومنهاجهم. واقتطف منها واحتكم إليها أولئك الربانيون، الذين جمعوا بين تحصيل العلم النافع، والعمل الصالح، وبذلوا جهدهم في تعليم الناس وتربيتهم، فغايتهم وبغيتهم ربانيةٌ. والتوراة معينهم الذي منه ينهلون، وموردهم الذي عنه يصدرون. والأحبار هم العلماء الذين بلغوا في العلم رتبةً عاليةً، فهم جميعًا أمناء على كتاب الله، شهداء عليه، حراسٌ له، فهلا تأسى بهم من خلفهم من اليهود، وهل يسيرون على نهجهم ؟
فلا يخافون في الحق لومة لائمٍ، ولا يبيعون دينهم بعرضٍ زائلٍ، فيفرطون في آيات الله ويضيعونها لقاء ثمنٍ زهيدٍ (ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ) [المائدة: ٤٤].
وقال تعالى: (ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰﭱ) [الأعراف: ١٤٥].
فقد وصفها الله بأنها جامعةٌ لأصول الإيمان والمواعظ والأحكام، وأمر بالجد والعزم في أخذها49.
قال ابن العربي: «والصحيح عندي أن أحسن ما فيها: امتثال الأوامر واجتناب النواهي»50.
وقال الشوكاني: «ومن الأحسن: الصبر على الغير والعفو عنه، والعمل بالعزيمة دون الرخصة، وبالفريضة دون النافلة، وفعل المأمور به، وترك المنهي عنه» 51.
فالمراد علو الهمة في الاستمساك بها، والمسارعة إلى العمل بأحكامها، وأخذها بعزيمةٍ وقوةٍ، كما قال تعالى عن يحيى عليه السلام: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔﭕ) [مريم: ١٢].
وقد أمر الله يحيى عليه السلام وهو لا يزال في صباه أن يأخذ بها.
قال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ) [مريم: ١٢].
وبين الله تعالى شيئا مما تضمنته التوراة، في جانب الأحكام الشرعية العادلة التي نزلت لحماية الإنسان وحفظ دينه، وروحه، وعقله، وبدنه، وماله، وعرضه. قال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ) [المائدة: ٣٢].
أي: لجرم وشناعة قتل النفس البريئة والاعتداء على حقها في الوجود، أوجب الله على تعالى على بني إسرائيل في كتبه وعلى لسان رسله وألزمهم، أن من قتل من لا يستحق القتل لأنه لم يقتل أو يفسد في الأرض، فكأنما بجرمه هذا قتل الناس جميعا، ومن ساهم في إنقاذ نفسٍ فكأنما أحيا الإنسانية جميعا، ولقد أرسل الله رسله في بني إسرائيل بالحجج الباهرة والشرائع القويمة، لكن الكثير منهم بقي على فسقه وإسرافه في الأرض بإهدار الدماء وهتك الأعراض واستحلال الأموال.
وكتب الله تعالى نزلت لتحكم وتسود حياة الناس وتقضي بينهم، فهي العدل الذي فرضه الله، وفي تعطيلها الظلم الشنيع، قال تعالى: (ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ) [المائدة: ٤٤-٤٥].
وقد شدد الله عليهم في الأمر بتحكيمها بعد أن وقع منهم التساهل والتفريط وقال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ) [الأعراف: ١٧١].
فأمرهم الله تعالى بأن يأخذوا أحكام التوراة بجدٍ وعزمٍ وأن يتركوا ما كانوا عليه من تقاعسٍ وتهاونٍ، فكتب الله تعالى لن يقوى على العمل بها أصحاب النفوس الضعيفة والهمم المتدنية، وهذه الآية العظيمة داعيةٌ إلى تعظيم التوراة والقيام بحقها، ودليلٌ على قساوة قلوب اليهود حتى يؤاخذوا بهذه الطريقة.
قال مجاهد: وسبب رفع الجبل عليهم أنهم أبوا أن يقبلوا فرائض التوراة لما فيها من المشقة، فوعظهم موسى فلم يقبلوا، فرفع الجبل فوقهم وقيل لهم: إن أخذتموه بجد واجتهاد وإلا ألقي عليكم. قال ابن عباس، ومجاهد، وقتادة: فأخذوه بقوة ثم نكثوا بعد52.
ونعى القرآن عليهم كيف يدعون إلى الاحتكام لشريعة الحق ثم يعرضون عنها.
قال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ) [آل عمران: ٢٣].
فكان الإعراض عن القرآن نتيجةً لإعراضهم عن كتبهم التي يزعمون أنهم مؤمنون بها متمسكون بما فيها، وكان الحري بهم وقد أوتوا حظًا من العلم بكلام الله إذا دعوا إلى القرآن الذي خرج من المشكاة التي خرج منها التوراة والإنجيل أن يبادروا إلى الاستجابة له، وقبول أحكامه. وجاء الاستفهام ليحمل معنى التعجيب والإنكار، والتعبير ب «ثم» فيه معنى الاستبعاد، كيف يدعون إلى الحق فيعرضون عنه؟
وهذا التولي مصاحبٌ لموقفهم الثابت من هذا الكتاب وهو الإعراض التام الذي لا مبرر له سوى التمرد والجحود، والمفاهيم الخاطئة عن الآخرة.
قال تعالى: (ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ) [آل عمران: ٢٤].
ذلك التولي والإعراض بسبب زعمهم أنهم إن دخلوا النار فلن يمضوا فيها سوى أيام معدودات، فكانت تلك الفرية وغيرها من الفرى التي أقحموها في دينهم ودسوها في عقيدتهم من دواعي غرورهم وظنهم السيئ بربهم.
وحين بعث عيسى عليه السلام دعا الله تعالى أهل الكتاب إلى الاحتكام إلى الإنجيل مع التوراة التي نسخ بعض أحكامها.
قال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽﭾ) [المائدة: ٤٦ - ٤٧].
قال الشوكاني: «قوله: (ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳﭴ): هذا أمرٌ لأهل الإنجيل بأن يحكموا بما أنزل الله فيه، وذلك قبل البعثة المحمدية، وأما بعدها فقد أمروا في غير موضعٍ بأن يعملوا بما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم في القرآن الناسخ لكل الكتب المنزلة»53.
وقوله (ﭰ ﭱ ﭲ ﭳﭴ): حجةٌ على النصارى الذين يعرضون عن القرآن؛ فإذا كان تحكيمهم للإنجيل لأنه مما أنزل الله؛ فالقرآن كذلك مما أنزل الله ! فلماذا يتنكرون له ويعادونه !
وقوله: (ﭮ ﭯ) دليلٌ على أنه مؤقتٌ بمرحلةٍ معينةٍ، وموجهٌ لطائفةٍ محددةٍ، هم بنو إسرائيل خاصةً، ومن هنا فإنه لم يؤمن بالتوراة من لم يؤمن بالإنجيل، ولم يؤمن بموسى من لم يؤمن بعيسى عليهما السلام.
قرأ حمزة: (وَلِيَحْكُمَ) بكسر اللام، وفتح الميم، والمعنى: آتيناه الإنجيل ليحكم، فالإنجيل مع ما لم ينسخ من التوراة شرعةٌ ومنهاجٌ للنصارى، وقرأ الباقون بسكون اللام والميم على سبيل الأمر: (وَلْيَحْكُمْ)54.
وفيه وجهان:
الأول: أن يكون التقدير: وقلنا ليحكم أهل الإنجيل، فيكون هذا إخبارًا عما فرض عليهم في ذلك الوقت من الحكم بما تضمنه الإنجيل، ثم حذف القول لأن ما قبله من قوله: (ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ) [المائدة: ٤٥ - ٤٦].
يدل عليه، وحذف القول كثيرٌ كقوله تعالى: (ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ) [الرعد: ٢٣].
أي: يقولون سلامٌ عليكم.
والثاني: أن يكون قوله: (وليحكم) ابتداء أمرٍ للنصارى بالحكم في الإنجيل.
والمقصود: أن يحكموا بما أنزل الله فيه مما لا يزال باقيا لم يحرف، ومعيار ذلك موافقته للحق الذي جاء به القرآن. وقد لفت نظري تكرار كلمة الإنجيل كأنها تشير إلى أكثر من إنجيل، فالإنجيل الذي أنزله الله على عيسى عليه السلام هو الإنجيل الحق.
وهو المشار إليه بقوله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ) [المائدة: ٤٦].
بينما أشارت الآية الثانية إلى الإنجيل الموجود في أيدي النصارى، وهذا يجب أن يطبق منه ما دلت القرائن على أنه من بقايا الإنجيل الحق الذي أنزله الله بدليل قوله تعالى: (ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳﭴ) ولم يقل مثلا: وليحكم أهل الإنجيل به، فدل هذا على اشتمال الإنجيل على قدرٍ مرجعه للوحي والباقي من وضع البشر.
قال ابن حزمٍ: «وأما قوله تعالى: (ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳﭴ) فحقٌ على ظاهره لأن الله تعالى أنزل فيه الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم واتباع دينه، ولا يكونون أبدا حاكمين بما أنزل الله تعالى فيه إلا باتباعهم دين محمدٍ صلى الله عليه وسلم فإنما أمرهم الله تعالى بالحكم بما أنزل في الإنجيل الذي ينتمون إليه فهم أهله، ولم يأمرهم قط تعالى بما يسمى إنجيلا وليس بإنجيلٍ، ولا أنزله الله تعالى كما هو قط، والآية موافقة لقولنا، وليس فيها أن الإنجيل لم يبدل لا بنصٍ ولا بدليلٍ، إنما فيها إلزام النصارى الذين يتسمون بأهل الإنجيل أن يحكموا بما أنزل الله فيه، وهم على خلاف ذلك»55.
وعلى هذا فالآية حجةٌ على النصارى، وفيها تعجيزٌ لهم، فلا برهان لهم، ولا دليل، إلا في القرآن الذي حدثنا عن مضمون ومقصود الإنجيل الحقيقي، أو (ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳﭴ) ما لم ينسخ بالقرآن فيبطل العمل به، ومما ريب فيه أن الحكم بما في الإنجيل يقود ويفضي إلى الحكم بالقرآن لأن حقائق الإنجيل تقرر ما في القرآن.
أما القرآن الكريم فقد جاء بالشريعة الغراء الكاملة التي فرض الله عزوجل الإيمان بها والعمل بأحكامها.
قال تعالى: (ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪﮫ ﮬ ﮭﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ) [المائدة ٤٨ - ٥٠].
فأنزل الله آخر كتبه على خاتم رسله صلى الله عليه وسلم؛ امتدادا لما سبقه من الكتب وتصديقا بها؛ فنزوله دليلٌ على صدقها، وهو مهيمنٌ عليها: أمينٌ ورقيبٌ، وحكمٌ وشاهدٌ، ومبينٌ لما خفي منها، وموضحٌ لما أشكل فيها، وحافظٌ يقوم ما اعتراها من اعوجاجٍ، وينفي ما لابسها من أباطيل وخرافاتٍ، مستوعبٌ لما جاء في أصولها، ومتممٌ لها، هو المرجع الذي يحتكم إليه عند التنازع في شأنها، وأمر تعالى بتحكيم كتابه والعمل به، وتعظيمه، ونهى عن اتباع ما عليه أهل الضلال من أهواء، وقد جعل الله لكل أمةٍ شرعة تحتكم إليها ومنهاجا تسير عليه بما يحقق مصالحها ويلبي حوائجها، ولو شاء الله لجمع البشرية على منهجٍ واحدٍ وشرعةٍ واحدة.
ولكن اختلاف الناس وتباين مشاربهم وتوجهاتهم سنة الله ومشيئته ثم يأمر الله تعالى بتحكيم شرعه ففيه الخير والصلاح والرحمة بالإنسانية، وفيه البركة والسعد لكل من أذعن له ورضي به، وينهى عن اتباع ما عليه أهل الضلال من أهواءٍ يحتكمون إليها مع ما فيها من تعسفٍ وظلمٍ، ويحذر من كيد أعداء الدين وتحايلهم لصرف أهل الإسلام عن شريعتهم ومنهاجهم، والتلبيس عليهم وتعطيل الأحكام؛ لنشر الظلم وإشاعة الفوضى في المجتمعات.
وإذا كان الاستجابة لبعض دعواتهم والانقياد لهم والسقوط في شراكهم بتعطيل بعض ما أنزل الله فتنةٌ يجب الحذر منها، فإن أعرضوا وانصرفوا عن شرعة الله ومنهاجه الذي ارتضاه لعباده وجعل فيه صلاحهم، فاعلم أن الله تعالى يريد عقوبتهم وحرمانهم، وقد جبلت نفوس كثيرةٌ على الصدود والإعراض والانفلات عن شريعة الله تعالى والتحايل عليها والخروج عنها، ثم أنكر الله على من هجر شريعته ورضي بأهواء وأحكام الجاهلية مع ما تحمله من جهل وسفهٍ وتناقض وتخبط وظلم وقسوة، وحميةٍ ورجعيةٍ، مع ذلك تجد من ينادي بها ويطالب بتطبيقها.
وأنكر تعالى على من يعتقد خلاف ذلك، ويقرر تعالى أن حكمه تعالى هو المقدم، فلا يضاهيه ولا يضارعه حكمٌ، ولا يمتثل لشريعة الله إلا أهل اليقين، الذين وقر الإيمان في قلوبهم ونور بصائرهم وهيئ نفوسهم لقبول شرع الله والرضا بحكم الله.
رابعًا: اشتمال الكتب المنزلة جميعًا على وجوب الإيمان بخاتم النبيين:
ما بعث الله من نبي ولا أنزل من كتاب إلا وبشر فيه بخاتم النبيين، وجلى أوصافه للمؤمنين، فبشر به كل كتاب وأخبر عنه كل نبيٍ، وقد أخذ الله الميثاق على جميع أنبيائه بالإيمان بهذا النبي ومؤازرته إن أظلهم زمانه، ودعوة أتباعهم إلى ذلك.
قال جل وعلا: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ) [الأعراف: ١٥٦ - ١٥٧].
فلقد جاءت أوصاف نبينا صلى الله عليه وسلم مكتوبةً في التوراة والإنجيل وعلى إثرها وفي ضوئها آمن من آمن من علماء أهل الكتاب، وكان اليهود والنصارى يترقبون مجيء هذا النبي الأمي الذي يبعث بالرحمة ويرفع الله به الحرج ويضع عنهم الآصار التي أرهقتهم، ويحط الأغلال التي أثقلتهم، وكانوا يتواصون ويتعاهدون على نصرته ومؤازرته، فلما بعث آمن منهم من تجرد للحق وأخلص له، وأعرض من خاب وخسر.
وقال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽﭾ ﭿ ﮀ ﮁﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ) [الفتح: ٢٩].
فلم يقتصر الحديث في التوراة والإنجيل على أوصاف النبي صلى الله عليه وسلم، بل ورد الحديث كذلك عن أوصاف أصحابه ومناقبهم، كما أشارت الآية الكريمة، أن الله تعالى ضرب لنبيه صلى الله عليه وسلم وصحابته رضوان الله عليهم أروع الأمثلة في التوراة والإنجيل، حيث بدأت دعوة الإسلام غريبةً، ولم تلبث أن قوي عودها وانتشر عبيرها وأورقت شجرتها وأينعت ثمارها. ولا تزال الكتب السابقة تحفل بالبشارات التي بقيت شاهدة وهادية لطريق إمام المرسلين صلى الله عليه وسلم.
وقال جل وعلا: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ) [الصف: ٦].
فلقد جاء عيسى عليه السلام مصدقا بالتوراة ومبشرًا بخاتم الأنبياء.
القرآن الكريم والكتب المنزلة قبله
تحدث القرآن الكريم عن موقفه من الكتب المنزلة فقد جاء مصدقا لها داعيا للإيمان بها، مهيمنا عليها، حافظا وأمينا ومستوعبا لها، موثقا لها حيث انقطعت أسانيدها واندثرت أصولها وتعرضت للتحريف، فجاء القرآن بالحق فيها.
أولًا: القرآن مصدق لما بين يديه من الكتب:
جاء القرآن الكريم مصدقا لتلك الكتب، فبين أنها نزلت بالحق من عند الله تعالى، وأنها بشرت بالنبي العربي الأمي، وقد ورد الحديث عن تصديق القرآن الكريم بالكتب السابقة في أكثر من عشرة مواضع، تقرر تلك الحقيقة وتذكر بها، فقد جاء القرآن مصدقًا للكتب المنزلة قبله، مصدقًا بنزولها، وبما بقي في تلك الكتب التي بين أيديهم من حقائق لم تتبدل، فلا زالت بشاراتٌ كثيرةٌ باقيةٌ في كتبهم، شاهدةٌ للنبي صلى الله عليه وسلم وأمته.
ولقد جاء الحديث عن تصديق القرآن بالكتب السابقة في سياق بيان مقاصد القرآن ووجوب اتباعه، ودعوة أهل الكتاب إلى الإيمان به، والاحتجاج عليهم والرد على أقوالهم، قال تعالى: (ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐﮑ) [المائدة: ٤٨].
وتصديقه لها لأنها أخبرت بمجيئه، ووقوع المخبر به يدل على صدق من أخبر، ويدل كذلك على صدق القرآن، لأنه لو كان من عند غير الله لم يوافقها. عن ابن عباسٍ رضي الله عنه قوله: (ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ)، فهو القرآن شاهدٌ على التوراة والإنجيل مصدقًا بهما»، وروي عن قتادة، قال: «الكتب التي خلت قبله»56.
وقال ابن كثير: «وقوله: (ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ) أي: من الكتب المنزلة قبله من السماء على عباد الله والأنبياء، فهي تصدقه بما أخبرت به، وبشرت في قديم الزمان، وهو يصدقها لأنه طابق ما أخبرت به، وبشرت من الوعد من الله بإرسال محمد صلى الله عليه وسلم وإنزال القرآن العظيم عليه.» 57.
فالقرآن جاء مصدقا للتوراة والإنجيل، وسائر الكتب المنزلة من عند الله تعالى، ومصدقا بنزولها من عند الله تعالى ومصدقا لمقاصد تلك الكتب ومضمونها، ومصدقا على وجه الخصوص بما حدثت عنه.
وقال الرازي: «والمعنى أنه مصدقٌ لكتب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ولما أخبروا به عن الله عز وجل، ثم في الآية وجهان: الأول: أنه تعالى دل بذلك على صحة القرآن، لأنه لو كان من عند غير الله لم يكن موافقًا لسائر الكتب، لأنه كان أميًا لم يختلط بأحدٍ من العلماء، ولا تتلمذ لأحدٍ، ولا قرأ على أحدٍ شيئًا، والمفتري إذا كان هكذا امتنع أن يسلم عن الكذب والتحريف، فلما لم يكن كذلك ثبت أنه إنما عرف هذه القصص بوحي الله تعالى. الثاني: قال أبو مسلمٍ: المراد منه أنه تعالى لم يبعث نبيًا قط إلا بالدعاء إلى توحيده، والإيمان به، وتنزيهه عما لا يليق به، والأمر بالعدل والإحسان، وبالشرائع التي هي صلاح كل زمانٍ، فالقرآن مصدقٌ لتلك الكتب في كل ذلك»58.
فتصديق القرآن بما سبقه من كتبٍ دليلٌ على صدقه وصدقها، وبيان انتظامه في سلكها، وخروجه من المشكاة التي خرجت منها؛ وكتب الله تعالى يصدق بعضها بعضا. قال ابن القيم في هداية الحيارى: «لو لم يظهر محمدٌ بن عبد الله صلى الله عليه وسلم لبطلت نبوة سائر الأنبياء، فظهور نبوته تصديقٌ لنبواتهم، وشهادةٌ لها بالصدق، فإرساله من آيات الأنبياء قبله، وقد أشار سبحانه إلى هذا المعنى بعينه في قوله: (ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ) [الصافات: ٣٧].
فإن المرسلين بشروا به وأخبروا بمجيئه، فمجيئه هو نفس صدق خبرهم، فكان مجيئه تصديقًا لهم؛ إذ هو تأويل ما أخبروا به، ولا تنافي بين هذا وبين القول الآخر: إن تصديقه المرسلين شهادته بصدقهم، وإيمانه بهم، فإنه صدقهم بقوله ومجيئه، فشهد بصدقهم بنفس مجيئه، وشهد بصدقهم بقوله، ومثل هذا قول المسيح: (ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ) [الصف: ٦].
فإن التوراة لما بشرت به وبنبوته كان نفس ظهوره تصديقًا لها، ثم بشر برسولٍ يأتي من بعده، فكان ظهور الرسول المبشر به تصديقًا له، كما كان ظهوره تصديقًا للتوراة، فعادة الله في رسله أن السابق يبشر باللاحق، واللاحق يصدق السابق، فلو لم يظهر محمدٌ بن عبد الله ولم يبعث لبطلت نبوة الأنبياء قبله، والله سبحانه لا يخلف وعده، ولا يكذب خبره» 59.
ودعا الله تعالى أهل الكتاب للإيمان بالقرآن الذي جاء مصدقا لما معهم.
قال تعالى: (ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ) [النساء: ٤٧].
ومعنى كونه مصدقا لما معهم: أي بما في كتبهم من بشارات واضحة تدل على بعثته وتقرر نبوته صلى الله عليه وسلم.
قال ابن جرير: «ويعني بقوله: (ﮋ ﮌ ﮍ): أن القرآن مصدقٌ لما مع اليهود من بني إسرائيل من التوراة، فأمرهم بالتصديق بالقرآن، وأخبرهم جل ثناؤه أن في تصديقهم بالقرآن تصديقًا منهم للتوراة؛ لأن الذي في القرآن من الأمر بالإقرار بنبوة محمدٍ صلى الله عليه وسلم وتصديقه واتباعه نظير الذي من ذلك في الإنجيل والتوراة، ففي تصديقهم بما أنزل على محمدٍ تصديقٌ منهم لما معهم من التوراة، وفي تكذيبهم به تكذيبٌ منهم لما معهم من التوراة»60.
وقال ابن كثير رحمه الله: «فيه تصديق الأخبار التي بأيديهم من البشارات» 61.
وقال جل وعلا داعيا بني إسرائيل للإيمان بخاتم النبيين الذي جاء مصدقا بما معهم: (ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ) [البقرة: ٤١].
وهذه الآية دعوةٌ للإيمان بالقرآن العظيم وبنبوة النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم التي دلت عليها كتبهم فهي تصديقٌ لما جاء في كتبهم من بشاراتٍ، بدليل إسلام عديدٍ من الأحبار والرهبان وغيرهم، حينما طابقوا ما جاء في كتبهم بما شاهدوه وعاينوه من أوصاف وأحوال نبي الله محمد صلى الله عليه وسلم كعبد الله بن سلام 62، وغيره.
احتج عليهم ونعى كيف لم يؤمنوا بهذا الكتاب مع مجيئه مصدقا لما معهم !
قال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ) [البقرة: ٨٩].
فبين تعالى حال كثيرٍ من اليهود الذين جحدوا وكابروا، مع ظهور الحجج وجلاء البراهين، على صدق نبوة إمام المرسلين، فيما جاء به من عند رب العالمين، فسارعوا إلى الكفر، ومع طول انتظارهم لداعي الحق وترقبهم لمبعثه. ومع مجيء القرآن مصدقًا لما بين أيديهم من البشارات والأخبار وتأكد كثيرٍ منهم من أوصاف هذا النبي الذي ينتظرونه، مع ذلك كله فقد كفروا به بغيًا وحسدًا وكبرًا وعنادًا، وطمعًا في أعراض دنيا فانية.
قال ابن عباس: كان يهود خيبر تقاتل غطفان، فكلما التقوا هزمت يهود خيبر، فعاذت اليهود بهذا الدعاء، وقالت: اللهم إنا نسألك بحق النبي الأمي الذي وعدتنا أن تخرجه لنا في آخر الزمان إلا نصرتنا عليهم، قال: فكانوا إذا التقوا دعوا بهذا الدعاء، فهزموا غطفان، فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم كفروا به، فأنزل الله (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦﭧ) 63.
كما نعى القرآن عليهم عداوتهم لأمين الوحي جبريل عليه السلام مع كون ما نزل به مصدقا لما معهم، قال جل وعلا: (ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ) [البقرة: ٩٧].
فتصديق الكتب السابقة من مقاصد نزول القرآن الكريم، ومن صفاته اللازمة، فكيف يعادون جبريل عليه السلام وهو أمين الوحي، نزل بالكتاب الذي جاء مصدقًا لما بين يديه من الكتب !
عن أنسٍ رضي الله عنه قال: (سمع عبد الله بن سلامٍ، بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في أرضٍ يخترف، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني سائلك عن ثلاثٍ لا يعلمهن إلا نبيٌ: فما أول أشراط الساعة؟ وما أول طعام أهل الجنة؟ وما ينزع الولد إلى أبيه أو إلى أمه؟ قال: (أخبرني بهن جبريل آنفًا) قال: جبريل؟: قال: (نعم)، قال: ذاك عدو اليهود من الملائكة، فقرأ هذه الآية: (ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ)64.
وجاء القصص القرآني مصدقا بقصص التوراة والإنجيل وشاهدا على أنبياء الله قال تعالى: (ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ) [يوسف: ١١١].
أي: تصديقًا لما جاء في الكتب السابقة حيث تتفق القصص في مسارها العام، وإن اختلفت في تفاصيلها، فالقرآن الكريم هو القصص الحق لأنه من عند الله تعالى، وقد حفظ من التبديل، بينما الكتب السابقة وقع عليها التحريف والتبديل، وإن احتفظت بحقائق وأخبار صادقة، فجاء القصص القرآني مصدقا برسالات الله، داعيا للتأسي بالأنبياء والإيمان بما أنزل عليهم، كما جاء مصدقا بما تبقى في كتبهم من حقائق، أما ما حرف فقد صدق القرآن بأصله الحقيقي، وأصل لنا المنهج القويم في معرفة الحقائق من الأباطيل وتمييز الأصيل من الدخيل.
فكلام الله تعالى يصدق بعضه بعضًا، وكل كتاب نزل مصدقا لما قبله. وتصديقه بالكتب السابقة أنها نزلت من عند الله تعالى على الأنبياء عليهم السلام، وتصديقه بما ورد في هذه الكتب من بشاراتٍ عن مبعث النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم ونزول آخر الكتب، وبما ورد فيها من عقيدةٍ وأحكامٍ وآدابٍ وقصصٍ وأمثالٍ.
فالقرآن جاء مقررا لما ورد في هذه الكتب من حقائق ثابتةٍ. فحريٌ بأهل الكتاب أن يؤمنوا بالقرآن الذي جاء مصدقا لما معهم، ولذا تقترن دعوتهم للإيمان بالقرآن ببيان كونه مصدقا لما معهم، فهذا أدعى لتصديقه، وتصديقه بأصل الكتب المنزلة أنها كلها من عند الله، أما الكتب المحرفة فقد جاء القرآن بتصديق ما تبقى فيها من حقائق لم تتبدل وأحكام لا تزال.
ولا يعني تصديقه لما سبقه من الكتب التطابق التام بينهما، بل للقرآن هيمنته على ما قبله، وله سماته التي تفرد بها، والتي تتفق مع مقاصد نزوله وتتفق مع كونه آخر الكتب. كما لا يتعارض تصديقه بها مع نسخه لبعض أحكامها، واستقلاله بأحكامٍ لم ترد فيها، بل ونسخه العمل بها جملةً؛ فالإنجيل على سبيل المثال جاء مصدقا للتوراة مقرًرا لأحكامها وإن نسخ بعضها.
وتصديقه لما سبقه من الكتب دليلٌ على صدقه؛ إذ لو كان من عند غير الله لما وافق كلامه. وفي تصديقه ردٌ على مطاعن المشركين وأهل الكتاب وزعمهم بأنه مفترى، ولو كان كما يدعون فأي عبقريةٍ ! وأي براعةٍ تلك التي جعلت محمدا يحاكي كلاما لم يدرسه ولم يعهده من قبل، وهو العربي الأمي ! أي موافقةٍ هذه ؟ وأي توارد أفكار وإلهامٍ ذلك ! وأي عقلٍ يمكنه تصديق تلك الفرية العجيبة، بل إن نزوله موافقا ومصدقا للكتب المنزلة لبرهانٌ جليٌ على أنه كلام الله، أدرك ذلك وآمن به كل من سمعه أو قرأه ممن له معرفةٌ بالوحي الإلهي.
ثانيًا: القرآن هو المهيمن على الكتب السابقة جميعًا:
كما جاء القرآن مصدقا بما قبله من كتب فقد جاء مهيمنا عليها، حافظا ومؤتمنا، ومستوعبا ومبينا وحكما وإماما.
قال تعالى: (ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪﮫ ﮬ ﮭﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ) [ المائدة: ٤٨].
والهيمنة تعني: المراقبة والشهادة والحفظ والتمكن من الشيء، جاء في لسان العرب: «المهيمن اسمٌ من أسماء الله تعالى، وفي التنزيل: (ﮉ ﮊ)، قال بعضهم: معناه الشاهد، يعني وشاهدًا عليه، قال ابن عباس: المهيمن المؤتمن، وقال الكسائي: المهيمن الشهيد، وقال غيره: هو الرقيب، يقال: هيمن يهيمن هيمنة إذا كان رقيبًا على الشيء، وقيل: (ﮉ ﮊ): معناه وقَبَّانًا عليه، وقيل: وقائمًا على الكتب»65.
وقال الزمخشري: «هيمن الطائر على فراخه: رفرف عليها، وهيمن على كذا إذا كان رقيبًا عليه حافظًا، والله عز سلطانه المهيمن»66.
وقال الطبري: «وأصل الهيمنة: الحفظ والارتقاب، يقال إذا رقب الرجل الشيء وحفظه وشهده: قد هيمن فلانٌ عليه، فهو يهيمن هيمنةً، وهو عليه مهيمنٌ»67.
فالقرآن حافظٌ أمينٌ لها، حفظ لنا هذه الكتب فحدثنا عنها، وهو حافظٌ لها يكشف عما خالطها من تحريفٍ وداخلها من زيفٍ، فيقوم ما اعتراها من اعوجاجٍ، وينفي ما لابسها من أباطيل وخرافاتٍ68.
قال ابن جرير: القرآن أمينٌ على الكتب المتقدمة قبله، فما وافقه منه فهو حقٌ، وما خالفه منها فهو باطل، عن ابن عباس رضي الله عنه: «ومهيمنًا» أي شهيدًا: وكذا قال مجاهد وقتادة والسدي وقال العوفي عن ابن عباس: «ومهيمنًا» أي: حاكمًا على ما قبله من الكتب، وهذه الأقوال كلها متقاربة المعنى فإن اسم المهيمن يتضمن هذا كله فهو: أمين وشاهد وحاكم على كل كتاب قبله» 69.
والقرآن شاهدٌ عليها، وشاهدٌ على موقف أهل الكتاب منها، فالقرآن الكريم وعاءٌ للكتب السابقة، حيث حدثنا عن مقاصدها وصفاتها، وأخبرنا عما تضمنته من أحكام وآداب وقصص وأمثال ووعد ووعيد وأخبار ونبوءات ووصايا وبشارات، وهذا من حفظه لهذه الكتب وتوثيقه لها، قال ابن جريجٍ: «القرآن أمينٌ على ما قبله من الكتب» 70.
وقال الزمخشري: «(ﮉ ﮊ)ورقيبًا على سائر الكتب؛ لأنه يشهد لها بالصحة والثبات» 71.
كذلك جمع القرآن وحوى ما سبقه من الكتب، بل جاء متممًا لها، ناسخًا لبعض أحكامها؛ لذا فهو المرجع يحتكم إليه، عند التنازع في شأنها، والقرآن يغني عما سواه، ولا يغني ما سواه عنه.
قال ابن جرير: «جعل الله هذا الكتاب العظيم الذي أنزله آخر الكتب وخاتمها وأشملها وأعظمها وأكملها، حيث جمع فيه محاسن ما قبله وزاده من الكمالات ما ليس في غيره، فلهذا جعله شاهدًا وأمينًا وحاكمًا عليها كلها، وتكفل تعالى حفظه بنفسه الكريمة فقال تعالى: (ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ) [الحجر: ٩]» 72.
وقال السعدي: «مشتملا على ما اشتملت عليه الكتب السابقة، وزيادة في المطالب الإلهية والأخلاق النفسية، فهو الكتاب الذي تتبع كل حقٍ جاءت به الكتب فأمر به، وحث عليه، وأكثر من الطرق الموصلة إليه»73.
جاء القرآن الكريم ينفي عن التوراة انتحال المبطلين وإنكار الجاحدين، وتأويل الجاهلين، فعندما أنكر نفرٌ من اليهود نزول الوحي على الأنبياء أنزل الله تعالى قوله: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸﭹ ﭺ ﭻﭼ ﭽﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ) [الأنعام: ٩١].
وعندما ادعى اليهود أن لحم الإبل محرمٌ في دينهم وكتابهم أنزل الله تعالى قوله:(ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ) [آل عمران: ٩٣ - ٩٥].
وعندما سعوا لتعطيل حد الرجم في كتابهم والاحتيال على النبي صلى الله عليه وسلم وإخفاء ما ورد في كتابهم أنزل الله تعالى قوله: (ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣﮤ ﮥ ﮦ ﮧﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ) [المائدة: ٤١].
قال ابن عطية: «المهيمن على الشيء هو المعني بأمره، الشاهد على حقائقه، الحافظ لحاصله، ولأن يدخل فيه ما ليس منه والقرآن جعله الله مهيمنًا على الكتب يشهد بما فيها من الحقائق، وعلى ما نسبه المحرفون إليها، فيصحح الحقائق ويبطل التحريف، وهذا هو شاهدٌ ومصدقٌ ومؤتمنٌ وأمينٌ» 74.
لماذا هيمنة القرآن ؟
وقال الشيخ دراز رحمه الله في كتابه النبأ العظيم: «سر اختصاص القرآن بالخلود وعدم التحريف دون الكتب السابقة: أن سائر الكتب السماوية جيء بها على التوقيت لا التأبيد، وأن هذا القرآن جيء به مصدقًا لما بين يديه من الكتب ومهيمنًا عليها، فكان جامعًا لما فيها من الحقائق الثابتة، زائدًا عليها بما شاء الله زيادته، وكان سادًا مسدها، ولم يكن شيء منها ليسد مسده، فقضى الله أن يبقى حجة إلى قيام الساعة، وإذا قضى الله أمرًا يسر له أسبابه، وهو الحكيم العليم»78.
ولأنه أفضل الكتب وأعظمها أثرا وأعلاها رتبةً، قال ابن تيمية: «ومعلومٌ أن المهيمن على الشيء أعلى منه مرتبةً»79.
ثالثًا: القرآن مبين للحق الذي اختلف فيه أهل الكتاب أو كتموه:
جاء القرآن الكريم مبينا كثيرًا مما أخفاه أهل الكتاب من الكتاب من الحقائق والوقائع، وكشف عن كثير من الحوادث التي طمسوها أو تناسوها، أو اختلط فيها الحق بالباطل، كقصة البقرة، وقصة أصحاب السبت، وقصة إبراهيم، وقصة يوسف، وقصة موسى.
قال تعالى: (ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻﭼ ﭽﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ) [المائدة: ١٥].
فبعد أن تحدث القرآن عن أحوال الطائفتين وأبان عن حقائق وأمورٍ لا يمكن لنبيٍ عربيٍ أميٍ أن يعرفها، ولا سبيل لمعرفتها إلا بوحيٍ من الله تعالى، دعاهم إلى الإيمان بهذا النبي الذي جاء ليبين لهم كثيرا مما أخفوه من الحقائق التي وردت في التوراة والإنجيل والتي أخفاها بعض الأحبار والرهبان عن أتباعهم، ولا يزالون.
قال ابن عباس رضي الله عنه: «أخفوا آية الرجم من التوراة وبينها الرسول صلى الله عليه وسلم لهم، وهو لم يقرأ كتابًا ولم يتعلم علمًا من أحد، وهذه معجزةٌ، وأخفوا صفة محمد عليه الصلاة والسلام في الإنجيل، وغير ذلك، فلما أخبرهم بأسرار ما في كتابهم كان ذلك إخبارًا عن الغيب فيكون معجزًا» 80.
وقوله: (ﭹ ﭺ ﭻ) مما لا تدعو الحاجة لبيانه، أو لأن فيما بينه الكفاية والغنية، وهذا من أدبه صلى الله عليه وسلم ومن شيمه الكريمة أنه يرغب ويشوق، فتقبل القلوب وتصغي الآذان إلى حديثه الطيب، وأنه يعرض ويتغاضى حتى لا تمل العقول وتنفر النفوس. (ﭽﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ) فالنبي صلى الله عليه وسلم نور من الله تعالى؛ لأنه جاء بالهدى والحق، والقرآن نورٌ وكتاب مبينٌ لأنه أضاء للناس طريقهم، وأنار دروبهم، وأبان لهم ما خفي عليهم، وبدد ظلام الشك والحيرة، وأزال أسباب اللبس والإشكال.
فجاء القرآن بالبيان الجلي بعد فترة من انقطاع الرسل؛ لئلا يكون لأهل الكتاب عذر:
قال جل وعلا: (ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ) [المائدة: ١٩].
فلقد كان المؤمنون من أهل الكتاب يذوبون شوقًا وحنينًا لزمان بعثة هذا النبي الذي ينتظرونه، ولا شك أن نزوله بعد طموس الملل ودروس السبل، وفترةٍ من الرسل أدعى إلى المبادرة للإيمان به، ومناصرته ومحبته، لا إلى مناصبته العداء وجحوده والتآمر عليه. وقد جاء القرآن بالبيان القاطع والبرهان الساطع؛ لئلا يكون لهم على الله حجة ولا يبقى لهم عذرٌ.
وبيان القرآن الكريم يحسم الاختلاف الذي وقع فيه أهل الكتب السابقة.
قال جل وعلا: (ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ) [النحل: ٦٣-٦٤].
فلقد تسلط الشيطان عليهم بعد أن زين لهم سوء عملهم، مما أفضى بهم إلى الضلال وأوقع بينهم الخلاف، بعد أن لبس الباطل ثوب الحق، وارتدت الشياطين مسوح الرهبان؛ ليصدوا الناس عن الحق، من هنا كانت حاجة الإنسانية إلى الكتاب الراشد الذي يبين الحق، ويزيل الحيرة، ويفصل الآيات، ويحسم النزاعات، ويقطع الخلافات، ويبدد ظلام الشبهات، ويقيم الحجة والبرهان، ويبين طريق الهداية، وينشر بشائر الرحمات بين أهل الإيمان. «نورٌ يكشف معالم الطريق إلى الحق والخير، ويقيم لمن يهتدي به فهمًا صحيحًا للعقيدة التي يعتقدها.. فالقرآن الكريم ميزان عدلٍ وحقٍّ، وفيصل ما بين الحق والباطل وحكم ما بين الخير والشر.. فما استقام على ميزانه، فهو الحق والخير، وما انحرف عنه، فهو الباطل والضلال.. فعلى هديه يجتمع أهل الكتاب على كلمةٍ سواءٍ منه، فيما اختلفوا فيه، وإليه يحتكم أهل الهدى، فيقضي بينهم بما يرفع الخصام والشقاق فيما كان سببًا في خصامهم وشقاقهم» 81.
قال جل وعلا: (ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ) النمل: ٧٦].
فبعد ما مر في تلك السورة الكريمة من القصص الحق، قصة موسى عليه السلام مع فرعون وقومه، وقصة سليمان عليه السلام مع ملكة سبأ وقومها، وقصة صالح عليه السلام، وقصة لوط عليه السلام وبعدما أورد الله في السورة من دلائل التوحيد وشواهد القدرة ومشاهد العظمة الربانية، بين تعالى كيف تفرد هذا الكتاب المبين بالقول الفصل الذي يحسم الخلاف، فكما اختلف بنو إسرائيل في أصول الدين والشرائع، فقد اختلفوا في التوحيد والنبوة والبعث اختلافهم في شأن الملائكة، وغير ذلك من أركان الإيمان، وإنما انبثق الاختلاف عن تعصبهم وركوبهم متن الهوى، وركونهم وحبهم لمباهج الدنيا، ونسيانهم وجحودهم، وعنادهم وغفلتهم، وجمودهم وقسوتهم.
فجاء القرآن قولا فصلًا، وحكمًا عدلًا، وميزانًا قويمًا، ودعوةً لتوحيد الكلمة، ونبذ الخلاف، ومحو أسبابه، واجتثاث جذوره، وسد أبوابه، لجمع شتات القلوب، وتأليفها على كلمة سواء.
ومن أمثلة الاختلاف اختلافهم في شأن عيسى عليه السلام حتى تفرقوا وتحزبوا، فاليهود افتروا عليه وبهتوه وأمه، وغمطوه ومكروا به، والنصارى غالوا فيه وأطروه حتى عبدوه، مع اختلافهم الحاد في طبيعته، منهم من قال: إنه إله أو نصف إله، ومنهم من يزعم أنه ابن الإله، وبين ذلك وحوله أقوالٌ وأراءٌ لا تنحصر، كذلك اختلافهم في أمر البعث، هل يقع بالروح والجسد أم بالروح وحدها ؟
واختلافهم في حكم الرجم، ومثل اختلافهم في حكم الطلاق وتعدد الزوجات، وغير ذلك من وجوه الاختلاف وصوره التي لا حصر لها، والتي مرجعها إلى تحريفهم ونسيانهم وتبديلهم وكتمانهم ولجاجهم ونكوصهم، وتمردهم وعصيانهم وركوبهم متن الهوى وارتيادهم سبل الغواية.
قال الرازي: «بين الله تعالى أولًا كونه معجزة من وجوه، أحدها: أن الأقاصيص المذكورة في القرآن موافقة لما كانت مذكورة في التوراة والإنجيل، مع العلم بأنه عليه الصلاة والسلام كان أميًّا وأنه لم يخالط أحدًا من العلماء، ولم يشتغل قط بالاستفادة والتعلم؛ فإذن لا يكون ذلك إلا من قبل الله تعالى. واختلفوا فقال بعضهم: أراد به ما اختلفوا فيه وتباينوا، وقال آخرون: أراد به ما حرفه بعضهم، وقال بعضهم: بل أراد به أخبار الأنبياء. والأول أقرب» 82.
رابعًا: وجوب الإيمان بالقرآن من أتباع الكتب السابقة جميعًا:
لا يسع أهل الكتاب إلا أن يؤمنوا برسالة خاتم النبيين وكتاب رب العالمين الذي ختم به، فإيمانهم بخاتم النبيين من مقتضيات إيمانهم بمن سبقه من الأنبياء وبما قبله من الكتب، وبما فيها من بشارات، فمن ثمرات إيمان أهل الكتاب بالتوراة والزبور والإنجيل إيمانهم بخاتم النبيين والمرسلين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فمن عاش منهم قبل بعثة نبينا صلى الله عليه وسلم كان على أمل وشوقٍ لأن يستظل بزمانه فيؤمن به، ومن عاصره وتجرد للحق آمن به وصدقه وآزره، حيث قاده الإيمان بالبشارات والنبوءات للإيمان بالنبي الخاتم صلى الله عليه وسلم.
قال تعالى: (ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼﭽ) [آل عمران: ١٩].
(ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ) [آل عمران: ٨٥].
وفي الحديث عن أبى هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (والذي نفس محمدٍ بيده لا يسمع بي أحدٌ من هذه الأمة يهوديٌ ولا نصرانيٌ ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار) 83.
وقد صور لنا القرآن فرح مؤمني أهل الكتاب وشغفهم وابتهاجهم بالإسلام.
قال تعالى: (ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽﭾ ﭿ ﮀﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ) [الرعد: ٣٦].
حيث يعبر القرآن عن تلك السعادة الغامرة، والفرحة العارمة، التي يعيشها من قاده الإيمان بالتوراة والإنجيل، إلى دين الحق، ونبي الإسلام، وكتاب الله الخالد، الذي أحيا الله به القلوب، وشرح به الصدور، سيما وقد وجدوا القرآن مصدقا لما بين أيديهم، وأبصروا الرسول مطابقًا للبشارات، فنالوا مرادهم، وظفروا ببغيتهم، ورست سفينة البحث على مرفأ اليقين، فأضحت الحياة في ظلال الإيمان أفراحًا متواصلةً، أنوارًا من مصابيح الهدى، وأنداءً على أكاليل السكينة، ونفحاتٍ من أريج المحبة.
وإن كان هناك من حرم من هذه اللذة، وعزف عن هذا النعيم، حين تحزب للباطل، ووقف في صف الكفار، يقاسمهم العداوة، ويشاركهم التصدي للدين الحق، منكرين منه ما خالف أهواءهم، وبدد أوهامهم، ونقض أباطيلهم.
قال تعالى: (ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶﭷ) إنكارٌ لا برهان عليه، ولا مستند له إلا الركون للهوى وإيثار الباطل، لكن لا ينبغي أن يثني ذلك المؤمنين عن دعوتهم، ويصرفهم عن غايتهم.
قال تعالى: (ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽﭾ ﭿ ﮀﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ) فالمؤمن لا يضره كثرة الهالكين، ولا يضيره قلة السالكين، بل يحيا لغايةٍ ويعيش لرسالةٍ، هي تحقيق العبودية لله رب العالمين.
قال القاسمي: «(ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰﭱ) لأنه يحصل لهم به من المعاني والدلائل وكشف الشبهات ما لم يحصل لهم من تلك الكتب السالفة، قيل: عنى بهم الذين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب، كعبد الله بن سلام، فإنهم يفرحون بما أنزل من القرآن؛ لما يرون فيه من الشواهد على حقيته التي لا يمترى فيه، ومن المعارف والمزايا الباهرة التي لا تحصى» 84.
ويضرب الله المثل بموقف من آمن بأهل الكتاب فيقول تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ) [الإسراء: ١٠٥-١٠٩].
فإيمان من آمن من أهل الكتاب بالقرآن حريٌ أن يضرب به المثل، فإنه صادرٌ عن علمٍ صادقٍ، ونابعٌ من شوقٍ دافقٍ، فإذ بالجباه وقد سجدت عند سماع الحق، وإذ بالقلوب وقد أيقنت بوعد ربها على لسان رسله، وفي صفحات كتبه، وعده الذي تحقق ووعده الذي توقن بأنه سيتحقق، وإذ بالعيون وقد ذرفت فرحًا واستبشارًا، وهيبةً وإجلالا، مما يزيدهم خشوعا على خشوعهم.
وفي صورة مشرقة ومشهد رائع إيمان القساوسة والرهبان بكتاب الله تعالى الذي بشرت به الكتب السابقة يقول تعالى: (ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ) [المائدة: ٨٢ - ٨٥].
فقد سطر القرآن تلك الصفحات المضيئة في حياة المؤمنين من النصارى، وصور تلك السعادة التي تغمرهم عندما تطرق مسامعهم كلمات الله التي أنزلها على خاتم رسله في ختام كتبه، تسري تلك الكلمات إلى قلوبهم، بعد أن تدوي في حناجرهم، فيفيض الدمع من محاجرهم، فرحًا وابتهاجًا، ورهبةً وإجلالًا، فقد التقى القرآن مع ما سبقه من الكتب في سبيل الهدى وميدان الحق، فابتهجت القلوب ولهجت الألسنة: (ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ).
إنه إيمانٌ يقينيٌ وشعورٌ حقيقيٌ قائمٌ على علمٍ وبصيرةٍ، وماضٍ إلى تحقيق الثمرات المرجوة والآمال العظيمة (ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ)، إيمانٌ خالصٌ ورجاءٌ صادقٌ، (ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃﮄ ﮅ ﮆ ﮇ): حقق الله رجاءهم وبلغهم مرادهم؛ فهو الكريم يثيب بالإحسان إحسانًا، ويجزي بالإيمان نعيمًا ورضوانًا.
موضوعات ذات صلة: |
إبراهيم عليه السلام، الإنجيل، التوراة، داود عليه السلام، عيسى عليه السلام، محمد عليه السلام، موسى عليه السلام |
1 المفردات، الراغب الأصفهاني ص ٦٩٩
2 معاني القرآن، النحاس ١/٧٩.
3 انظر: بصائر ذوي التمييز، الفيروزآبادي ٥/٣٩، المفردات، الراغب ص ٧٩٩.
4 بصائر ذوي التمييز، الفيروزآبادي ٥/٣٩.
5 انظر: الصحاح، الجوهري ١/٦٤، مجمل اللغة، ابن فارس ١/٧٥٠.
6 انظر: التعليقات المختصرة على متن العقيدة الطحاوية، صالح الفوزان ص٦٦.
7 البحر المحيط ٣/٥.
8 المصدر السابق.
9 لسان العرب، ١١/٦٤٨.
10 التحرير والتنوير، ٣/١٤٩.
11 تأويلات أهل السنة، الماتريدي ٦/٣٦٣.
12 التفسير القيم، ابن القيم ص ٤٠٠.
13 تفسير مجاهد ص ٥٨٩.
14 انظر: لطائف الإشارات، القشيري ٧/٣٩٣.
15 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص٧٥٦.
16 تأويلات أهل السنة، الماتريدي ٧/٣٥٠.
17 جامع البيان، الطبري ٢١/٥١٣.
18 الكشف والبيان، الثعلبي ٨/٣٠٦.
19 ذكر الفراء أنها: من ورى الزند يري إذا خرجت ناره وأوريته يريد أنها ضياء، وقال أبو إسحق الزجاج: قال البصريون: توراةٌ أصلها فوعلة، وفوعلة كثيرٌ في الكلام مثل الحوصلة، وفي تاج العروس: وقد تعقب المحققون كلامهم بأسره وقالوا هو لفظٌ غير عربي، بل هو عبراني اتفاقًا، وإذا لم يكن عربيًا فلا يعرف له أصلٌ من غيره، إلا أن يقال إنهم أجروه بعد التعريب مجرى الكلم العربية وتصرفوا فيه بما تصرفوا فيها، والله أعلم.
انظر: غريب الحديث، ابن قتيبة ١/٢٤٥، تاج العروس، الزبيدي ٤٠/١٩١.
يقول الأستاذ عزة دروزة رحمه الله في التفسير الحديث ٢/٤٧٨: «والذي يسمى التوراة و يسمى أيضا باسم العهد القديم هو مجموعة ضخمة من أسفار عديدة منفصل بعضها عن بعض بأسماء متنوعة، و عددها عند فريق من الكتابيين الطبعة البروتستانتية تسعة وثلاثون، و عند فريق آخر الطبعة الكاثوليكية ستة وأربعون...».
ويقول في كتابه القرآن والمبشرون ص ١٨-٢١، والذي يرد فيه على كتابات أحد القساوسة: «كلمة التوراة عبرانية تعني التعليم أو الشريعة، وهي معربة، والمتبادر أن التعريب سابق لنزول القرآن، وأن اللفظ القرآني جاء كما كان مستعملا قبل نزول القرآن...والمقصود القرآني من كلمة التوراة: هو الكتاب المنزل من عند الله على موسى عليه السلام المحتوي للمبادئ والتعليمات والتشريعات والأحكام والحدود الربانية.في حين أن المتداول عند الكتابيين أن التوراة هي: مجموعة ضخمة من الأسفار منفصل بعضها عن بعض، تعرف بالعهد القديم...» بتصرف واختصار..
20 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأنبياء، باب وفاة موسى، وذكره بعد حديث ٣٢٢٨، وأخرجه مسلم في صحيحه، واللفظ له، كتاب القدر، باب حجاج آدم وموسى عليهما السلام، ٤/٢٠٤٢، رقم ٢٦٥٢.
21 انظر: معالم التنزيل، البغوي ٢/٢٣٣.
22 جامع البيان ١٢/٢٣٦.
23 انظر: المنار، محمد رشيد رضا ٨/١٨٠.
24 التحرير والتنوير ٢٦/٢١.
25 أضواء البيان، الشنقيطي ٣/١١
26 انظر: المحيط في اللغة، ابن عباد الطالقاني ٩/٤٥، المصباح المنير، الفيومي ١ /١٣١، القاموس المحيط، الفيروزآبادي ١/٥٠٩.
27 قال الطبري في تفسيره ١٤/٢٣١: «والزبر: هي الكتب، وهي جمع زبورٍ، من زبرت الكتاب إذا كتبته، عن مجاهدٍ: الزبر: الكتب».
28 قال الخازن: «وسمي الكتاب الذي فيه الحكمة زبورا، لأنه يزبر عن الباطل، ويدعو إلى الحق، والكتاب المنير: أي الواضح المضيء، وإنما عطف الكتاب المنير على الزبر لشرفه وفضله». لباب التأويل، الخازن ١/٣٢٨.
وقال أبو حيان: «قيل: والكتاب هو الزبر، وجمع بين اللفظين على سبيل التأكيد، أو لاختلاف معنيهما، مع أن المراد واحد، ولكن اختلف معنياهما من حيث الصفة، وقيل: الكتاب هنا جنسٌ للتوراة والإنجيل وغيرهما، ويحتمل أن يراد بقوله: والزبر: الزواجر من غير أن يراد به الكتب، أي: جاؤوا بالمعجزات الواضحة والتخويفات والكتب النيرة». البحر المحيط، أبو حيان ٣/٤٥٩.
29 جامع البيان ٢٢/١٦٤.
30 جاء في كتب المعاجم: الإنجيل لفظة مشتقة من نجلت الشيء إذا أخرجته، ومنه قيل لنسل الرجل: نجله كأنه هو استخرجه.وقيل للماء الذي يظهر من النز: نجل. يقال: قد استنجل الوادي، وإنجيل: إفعيل من ذلك كأن الحق كان قد دثر ودرس كثيرٌ من معالمه وكثر تحريف أهل الكتاب وخفي على الناس ما أحدثوه فأظهر الله جل وعز ذلك.مقاييس اللغة ٥/٣٩٦، مختار الصحاح ص ٣٠٥.والذي أراه أنها معربة لا اشتقاق لها.
وفي المعجم الوسيط ١/٢٩: الإنجيل: كتاب الله المنزل على عيسى عليه السلام، وهي كلمة يونانية معناها البشارة.
والموجود لدى النصارى الآن الأناجيل الأربعة وعدد من الرسائل والرؤى يطلق على مجموعها العهد الجديد، كما في نسخة الإنجيل.
انظر: كتاب الحياة.
31 مفاتيح الغيب، الرازي ١٢/٣٦٩.
32 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٥/٢٤٣.
33 المصدر السابق.
34 النشر في القراءات العشر، ابن الجزري ١/٦.
35 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل القرآن، باب كيف نزول الوحي وأول ما نزل، رقم ٤٦٩٦، وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمدٍ صلى الله عليه وسلم إلى جميع الناس ونسخ الملل بملته، ١/٩٢، رقم ١٥٢.
36 انظر: تفسير مجاهد ص ٤٦٨.
37 انظر: جامع البيان، الطبري ١٨/٤٠٦.
38 الكشف والبيان، الثعلبي ٦/٢٦٧.
39 البرهان في علوم القرآن، الزركشي ٣/٢٣٩.
40 انظر: تفسير السمرقندي ٣/٣٦.
41 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب معرفة الإيمان والإسلام والقدر وعلامة الساعة، ١/٣٦، رقم ٨.
42 إرشاد العقل السليم، أبو السعود ٨/٢٧.
43 معارج القبول ٢/٦٧٢ باختصار.
44 البحر المحيط، أبو حيان ٣/٢٤٢.
45 تفسير القرآن العظيم، ٣/١٢٦.
46 جامع البيان ٦/٥٦١.
47 البحر المحيط ١٠/١١٣.
48 فتح القدير، الشوكاني ٥/٢١٢.
49 انظر: تفسير المنار، محمد رشيد رضا ٩/١٦٤.
50 أحكام القرآن، ابن العربي ٤/١٩.
51 فتح القدير، الشوكاني ٣/٩٠.
52 النكت والعيون، الماوردي ٢/٢٧٦.
53 فتح القدير، الشوكاني ٢/٣١٧.
يعني بقوله: «فإنه قبل البعثة المحمدية حقٌ» أن العمل به قائم وإن حرف قبل بعثة نبينا صلى الله عليه وسلم، لكن بقي منه بقايا من الحق.
54 قرأ حمزة بكسر اللام، ونصب الميم، وقرأ الباقون بإسكان اللام والميم.
انظر: النشر في القراءات العشر ٢/٢٥٤، تحبير التيسير في القراءات العشر ١/٣٤٧.
55 الفصل في الملل والنحل، ابن حزم ١/١٥٩.
56 تفسير القرآن العظيم، ابن أبي حاتم ٤/٤٩٥.
57 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٣/٦.
58 المصدر السابق ١/٥٢٢.
59 هداية الحيارى، ابن القيم ٣/٢٩٧.
60 جامع البيان، الطبري ١/٥٩٩.
61 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٤/٩٧.
62 عبد الله بن سلام: قصة إسلامه الرائعة المشهورة في صحيح البخاري، كتاب مناقب الصحابة، باب مناقب عبد الله بن سلام رضي الله عنه، رقم ٣٦٠١.
63 انظر: أسباب النزول، الواحدي ٣/١٠.
وأخرجه ابن إسحاق في سيرته ٢/١٩٦، والطبري في تفسيره ١/٤١٠، وابن أبي حاتم في تفسيره ١/١٧٢ ٩٠٥.
64 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، باب من كان عدوا لجبريل، رقم ٤٤٨٠.
65 انظر: لسان العرب، ابن منظور ١٣/٤٣٦، والقبان الميزان.
66 أساس البلاغة ٢/٥.
67 جامع البيان، الطبري ٨/٤٨٦.
68 وقد أشار لهذا المعنى د.محمد عبد الله دراز في كتابه: الدين، ص ١٨٩.
69 انظر: جامع البيان، الطبري ٨/٤٩٠، تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٥/٢٤٦.
70 معالم التنزيل، البغوي ٣/٦٥.
71 الكشاف، الزمخشري ٢/٣٢.
72 انظر: جامع البيان، الطبري ٨/٤٩٠، تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٥/٢٤٦.
73 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص٢٣٤.
74 المحرر الوجيز، ابن عطية ٢/٢٩٩ باختصار.
75 إرشاد العقل السليم، أبو السعود ٣/٤٥.
76 معارج الوصول، ابن تيمية ص١٤.
77 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٤/٣٣٨.
78 النبأ العظيم، محمد عبد الله دراز ص٤٢.
79 رسالة جواب أهل العلم والإيمان أن قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن ص٢٠.
80 أخرجه الحاكم في المستدرك، ٤/٣٥٩، كتاب الحدود.
قال الحاكم: «هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه»، ولم يتعقبه الذهبي.
81 التفسير القرآني للقرآن، ألخطيب ١/٢٤٦.
82 مفاتيح الغيب، الرازي ٢٤/١٨٥.
83 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمدٍ صلى الله عليه وسلم إلى جميع الناس ونسخ الملل بملته، رقم ١٥٣.
84 محاسن التأويل، القاسمي ٦/٢٨٩.