عناصر الموضوع
القلب
أولًا: المعنى اللغوي:
قال ابن فارس: «القاف واللام والباء أصلان صحيحان: أحدهما: يدل على خالص شيءٍ وشريفه، والآخر على رد شيءٍ من جهةٍ إلى جهة، فالأول القلب: قلب الإنسان وغيره، سمي بهذا؛ لأنه أخلص شيء فيه وأرفعه، وخالص كل شيءٍ وأشرفه قلبه»1.
ومنه: قلب النخلة وقلبها: لبها وشحمتها، وأجود خوصها وأشده بياضًا، ويقولون: هو عربي قلب، أي: محض خالص، ويقولون: القلب: تحويل الشيء عن وجهه، وقلب الأمور: بحثها ونظر في عواقبها، وتقلب في الأمور وفي البلاد: تصرف فيها كيف شاء، ورجل قلبٌ يتقلب كيف شاء وتقلب ظهرًا لبطنٍ وجنبًا لجنبٍ: إذا تحول، والقلب: مضغةٌ من الفؤاد معلقةٌ بالنياط، والجمع أقلبٌ وقلوبٌ2.
ثانيًا: المعنى الاصطلاحي:
قال الجرجاني: «القلب: لطيفة ربانية لها بهذا القلب الجسماني الصنوبري الشكل المودع في الجانب الأيسر من الصدر تعلق، وتلك اللطيفة هي حقيقة الإنسان، ويسميها الحكيم: النفس الناطقة، والروح باطنه، والنفس الحيوانية مركبة، وهي المدرك، والعالم من الإنسان، والمخاطب، والمطالب، والمعاتب»3.
وقيل: هو محل النفس والعقل والعلم والفهم والعزم. وسمي قلبا لتقلبه في الأشياء بالخواطر والعزوم والاعتقادات والإرادات4، وقيل معناه: الروح. ولم يرتض الراغب هذا التعريف فقال: فأما العقل فلا يصح عليه ذلك5.
فالقلب في المعنى الاصطلاحي يمكن أن يحمل على أصليه الصحيحين في اللغة.
ورد (القلب) في القرآن الكريم (١٣٢) مرة6.
والصيغ التي وردت هي:
الصيغة |
عدد المرات |
المثال |
المفرد |
١٩ |
(ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ) [ق:٣٧] |
المثنى |
١ |
(ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ) [الأحزاب:٤] |
الجمع |
١١٢ |
(ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ) [آل عمران:١٥١] |
وجاء القلب في الاستعمال القرآني على ثلاثة أوجه7:
الأول: العقل: ومنه قوله تعالى: (ﭐﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ) [ق:٣٧]. يعني: عقل.
الثاني: الرأي: ومنه قوله تعالى: (ﭐﯗ ﯘ ﯙ ﯚ) [الحشر:١٤]. يعني: آراؤهم شتى.
الثالث: القلب بعينه الذي في الصدر: ومنه قوله تعالى: (ﭐﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ) [الحج:٤٦]. يعني: القلب الذي هو محل النفس.
العقل:
العقل لغةً:
هذه المادة تدل على حبسة في الشيء، ومنه العقل: وهو الحابس عن ذميم القول والفعل، وهو نقيض الجهل، يقال: عقل يعقل عقلا، إذا عرف ما كان يجهله قبل، أو انزجر عما كان يفعله، وجمعه عقول. ورجل عاقلٌ وقوم عقلاء وعاقلون ورجل عقول، إذا كان حسن الفهم وافر العقل8.
العقل اصطلاحًا:
قال الراغب: «العقل: يقال للقوة المتهيئة لقبول العلم، ويقال للعلم الذي يستفيده الإنسان بتلك القوة عقلٌ»9.
وقيل: العقل آلة التمييز. وعرفه الجزائري: قوة باطنية يميز بها المرء بين النافع والضار، والصالح والفاسد 10.
الصلة بين العقل والقلب:
ذهب الشافعي وأكثر المتكلمين إلى أن محل العقل هو القلب، وهو مستعد لأن تنجلي فيه حقيقة الحق في الأشياء كلها11.
الفؤاد:
الفؤاد لغةً:
التفؤد: التوقد. والفؤاد: القلب لتفؤده وتوقده، وهو مذكرٌ لا يأتي مؤنثًا12.
الفؤاد اصطلاحًا:
قال الراغب: «الفؤاد كالقلب لكن يقال له: فؤاد إذا اعتبر فيه معنى التفؤد، أي: التوقد»13.
الصلة بين الفؤاد والقلب:
قيل: الفؤاد هو باطن القلب، وقيل: هو غشاء القلب، والقلب حبته وسويداؤه، كما أن الفؤاد الرقيق تسرع إمالته، والقلب الغليظ القاسي لا ينفعل لشيء14.
فالأفئدة توصف بالرقة، والقلوب باللين؛ لأن الفؤاد غشاء القلب إذا رق نفذ القول فيه وخلص إلى ما وراءه15.
الصدور:
الصدور لغةً:
جمع (صدر) وصدر كل شيء: أوله، وصدر السهم: ما جاز من وسطه إلى مستدقه، وسمي بذلك؛ لأنه المتقدم إذا رمي. والصدر: الطائفة من الشيء، والصدرة من الإنسان: ما أشرف من أعلى صدره16.
الصدور اصطلاحًا:
قال المناوي: «الصدر: مسكن القلب، يشبه رئيس القوم، والعالي المجلس؛ لشرف منزلته على غيره من الناس»17.
الصلة بين الصدور والقلب:
يتبين أن القلب جزء من أجزاء الصدر وأعضائه.
أولًا: القلب السليم.
ويتصف هذا القلب السليم بعدة صفات، منها:
١. الاطمئنان .
وردت آيات متعددة تحمل وصف الاطمئنان لقلوب المؤمنين، من هذه الآيات قوله سبحانه وتعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘﭙ ﭚ ﭛ ﭜﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ) [البقرة:٢٦٠].
ومعني الآية الكريمة: اذكر يا محمد صلى الله عليه وسلم حين طلب إبراهيم عليه السلام من ربه كيفية البعث، حيث سأل مع إيمانه الجازم بالقدرة الربانية (ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ) فكان يريد أن يعلم بالعيان ما كان يوقن به بالوجدان؛ ولهذا خاطبه ربه سبحانه بقوله:(ﭛ ﭜ) أي: أو لم تصدق بقدرتي على الإحياء، قال: بلى آمنت ولكن سألتك لأزداد يقينا على يقيني، وعلما لا مجال فيه لتشكيك، وليسكن قلبي بالمعاينة المضمومة إلى الاستدلال برؤية ذلك فكان ما كان من أمر الله عز وجل له.
والطمأنينة والاطمئنان: السكون بعد الانزعاج18.
يقول القرطبي ـ رحمه الله تعالى ـ الطمأنينة: اعتدال وسكون. فطمأنينة الأعضاء معروفة، وطمأنينة القلب هي أن يسكن فكره في الشيء المعتقد.
فاليقين في شأن خليل الرحمن موجود كائن، ولكنه صلى الله عليه وسلم يريد سكون قلبه بمضامة العيان إلى الإيمان والإيقان بأن الله قادر على ذلك، إذن فالقلب المطمئن هو الذي امتلأ سكونًا وهيبة من عظمة الله عز وجل، قال سبحانه وتعالى: (ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ) [الرعد: ٢٨]19
فبمعرفة الله والإكثار من عبادته يكتسب القلب سكونه، يقول الإمام الغزالي: «الطاعات تزيد مرآة القلب جلاء وإشراقًا ونورًا وضياء حتى يتلألأ فيه جلية الحق وينكشف فيه حقيقة الأمر المطلوب في الدين، وهذا القلب هو الذي يستقر فيه الذكر»20. واستشهد بالآية الكريمة السابقة[الرعد ٢٨].
من معاني طمأنينة القلب في القرآن الكريم:
قال تعالى: (ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ) [آل عمران:١٢٤-١٢٦].
السكون وعدم الاضطراب، واستعيرت هنا ليقين النفس بحصول الأمر تشبيهًا للعلم الثابت بثبات النفس أي: عدم اضطرابها21.
قال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ) [الأنفال:٩-١٠].
قال الطبري: «لتسكن قلوبكم بمجيئها إليكم، وتوقن بنصرة الله لكم»22.
قال تعالى: (ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ) [النحل:١٠٦].
ومعنى (ﮆ ﮇ ﮈ): لم تتغير عقيدته، وفيه دليل على أن الإيمان هو التصديق بالقلب23.
٢. السكينة.
من صفات القلوب السليمة «السكينة» وقد وردت في القرآن في مواضع متعددة.
من ذلك قوله تعالى: (ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ) [الفتح:٤].
هذه الآية الكريمة تتحدث عن حدث له أهميته في حياة الإسلام والمسلمين، حيث معونة الله ونصرته لعباده الصادقين وقت الشدائد والمحن، وذلك أنه لما منع صلى الله عليه وسلم هو ومن معه من المسلمين من دخول مكة معتمرين كادت صفوف المسلمين تتفكك، وتذهب ريحهم لعظم أمر احتباسهم من المشركين والحيلولة دون دخول مكة. (فجاء عمر فقال: ألسنا على الحق وهم على الباطل؟! أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟! قال: بلى، قال: ففيم نعطي الدنية في ديننا ونرجع ولما يحكم الله بيننا؟ فقال: يا ابن الخطاب إني رسول الله ولن يضيعني الله أبدًا، فرجع متغيظًا فلم يصبر حتى جاء أبا بكرٍ فقال: يا أبا بكرٍ ألسنا على الحق وهم على الباطل؟! قال: يا ابن الخطاب إنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولن يضيعه الله أبدًا فنزلت سورة الفتح)24.
فأصل السكينة: الطمأنينة والوقار والسكون الذي ينزله الله في قلب عبده عند اضطرابه من شدة المخاوف، فلا ينزعج بعد ذلك لما يرد عليه، بل يوجب له زيادة الإيمان وقوة اليقين والثبات؛ ولهذا أخبر سبحانه بإنزالها على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى المؤمنين في مواضع القلق والاضطراب نحو:
أما السكون: فثبوت الشيء بعد تحرك.
وقد فسر الضحاك السكينة: بالرحمة. وقيل السكينة: الوقار، وقيل: الملائكة، وهي بحسب ورودها تنتظم كل هذه المعاني.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: كل سكينة في القرآن هي الطمأنينة إلا التي في البقرة (ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ) [البقرة:٢٤٧-٢٤٨]26.
وقد فسرت بزوال الرعب وهذا لا يبعد عن الطمأنينة.
٣. الخشوع و الإخبات.
من صفات القلب السليم «الخشوع» قال تعالى: (ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ) [الحديد:١٦].
الآية الكريمة «تحمل عتابًا مؤثرًا من المولى الكريم الرحيم، واستبطاء للاستجابة الكاملة من تلك القلوب التي أفاض عليها من فضله، فبعث فيها الرسول يدعوها إلى الإيمان بربها، ونزل عليه الآيات البينات ليخرجها من الظلمات إلى النور، وأراها من آياته في الكون والخلق ما يبصر ويحذر.
عتاب فيه الود، وفيه الحض، وفيه الاستجاشة إلى الشعور بجلال الله، والخشوع لذكره، وتلقي ما نزل من الحق بما يليق بجلال الحق من الروعة والخشية والطاعة والاستسلام، مع رائحة التنديد والاستبطاء في السؤال: (ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ).
وإلى جانب التحضيض والاستبطاء تحذير من عاقبة التباطؤ والتقاعس عن الاستجابة، وبيان لما يغشى القلوب من الصدأ حين يمتد بها الزمن بدون جلاء، وما تنتهي إليه من القسوة بعد اللين حين تغفل عن ذكر الله، وحين لا تخشع للحق (ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨﯩ ﯪ ﯫ ﯬ) وليس وراء قسوة القلوب إلا الفسق والخروج»27.
و(ﮰ) كيحن: آن يئين، كحان يحين لفظًا ومعنى»28.
(ﯕ): أي: تلين، وتسكن، وتخضع تضرع وتذل، وتطمئن لذكر الله.
والخشوع الخوف الدائم في القلب، ومصدر الخشوع هو القلب 29.
في ظلال هذه الآية يقول أديب العربية مصطفي صادق الرافعي: (ﮯ ﮰ) هذه الكلمة حث وإطماع وجدال وحجة، وهي في الآية تصرح أن خشوع القلب الذي تلك صفته هو كمال للإيمان، وأن وقت هذا الخشوع هو كمال العمر، وكيف يعرف المؤمن أنه سيأتي له أن يعيش ساعة أو ما دونها ؟!
إذن فالكلمة صارخة تقول: الآن الآن قبل ألا يكون آن، أى: البدار ما دمت في نفس من العمر فإن لحظة بعد «الآن» لا يضمنها الحي.
وإذا فني وقت الإنسان انتهى زمن عمله فبقى الأبد كله على ما هو، ومعنى هذا أن الأبد للمؤمن الذي يدرك الحقيقة، وإن هو إلا اللحظة الراهنة من عمره التي هي «الآن» فانظر ـ ويحك ـ وقد جعل الأبد في يدك، انظر كيف تصنع به.
تلك هي حكمة اختيار اللفظة من معنى «الآن» دون غيره.
ثم قال: (ﮱ ﯓ) وهذا كالنص على أن غير هؤلاء لا تخشع قلوبهم لذكر الله ولا للحق، فلا تقوم بهم الفضيلة، ولا تستقيم بهم الشريعة، وعالمهم وجاهلهم سواء، لا يخشعان إلا للمادة، وكأن إنسانهم إنسان ترابي، لا يزال يضطرب على مكر الليل والنهار بين طرفين من الحيوان عيشه وموته، وما تقسو الحياة قسوتها على الناس إلا بهم، وما ترق رقتها إلا بالمؤمنين.
وجعل الخشوع للقلوب خاصة، إذ كان خشوع القلب غير خشوع الجسم، فهذا الأخير لا يكون خشوعًا، بل ذلًا، أو ضعة، أو رياء أو نفاقًا، أو ما كان.
أما خشوع القلب فلن يكون إلا خالصًا مخلصًا محصن الإرادة، واشترط القلب كأنه يقول: إنما القلب أساس المؤمن، وإن المؤمن ينبع من قلبه لا من غيره، متى كان هذا القلب خاشعًا لله وللحق، فإن لم يكن قلبه على تلك الحال، نبع منه الفاسق والظالم الطاغية وكل ذي شر.
ما أشبه القلب تتفرع منه معاني الخلق بالحبة تنسرح منها الشجرة، فخذ نفسك من قلبك كما شئت، حلوًا من حلو، ومرًا من مر.
وخشوع القلب لله وللحق معناه السمو فوق حب الذات، وفوق الأثرة والمطامع الفاسدة، وهذا يضع للمؤمن قاعدة الحياة الصحيحة، ويجعلها في قانونين لا قانون واحد.
ومتى خشع القلب لله وللحق، عظمت فيه الصغائر من قوة إحساسه بها، فيراها كبيرة وإن عمي الناس عنها، ويراها وهي بعيدة منه بمثل عين العقاب يكون في لوح الجو ولا يغيب عن عينه ما في الثرى.
وقد تخشع القلوب لبعض الأهواء خشوعًا هو شر من الطغيان والقسوة فتقيد خشوع القلب «بذكر الله» هو في نفسه نفي لعبادة الهوى، وعبادة الذات الإنسانية في شهواتها، وما الشهوة عند المخلوق الضعيف إلا إله ساعتها)30.
ومما يورث الخشوع: ترقب آفات النفس والعمل ومطالعة عيوب ونقائص النفس من العجب والكبر والرياء، وضعف الصدق وقلة اليقين31.
الخشوع ـ بصفة عامة ـ في القرآن على أربعة أوجه:
الأول: التواضع؛ لقوله تعالى: (ﮰ ﮱ ﯓﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ) [البقرة:٤٥]. يعني: المتواضعين.
الثاني: الخوف؛ لقوله تعالى: (ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ) [الأنبياء:٩٠]. يعني: خائفين.
الثالث: سكون الجوارح ورمي البصر إلى موضع السجود؛ لقوله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ) [المؤمنون:١-٢].
الرابع: الذل والتذلل؛ لقوله تعالى في سورة طه: (ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ) [طه:١٠٨] يقول: ذلت كقوله تعالى في سورة الغاشية: (ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ) [الغاشية:٢].
مثلها في سورة القلم: (ﭑ ﭒ) [القلم:٤٣].
ونحوه في سورة القمر: (ﭑ ﭒ) [القمر:٧].
الإخبات:
ورد لفظ الإخبات في آيات ثلاث في القرآن الكريم، منها قوله تعالى: (ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ) [الحج:٥٢-٥٤].
يتحدث الحق جل وعلا عن حملة وحيه «الرسل» الذين يتمنون إيمان الناس بربهم وإسلامهم الوجه لله عز وجل، ويتحدث عن الشياطين وما جبلوا عليه من كراهية طريق الله عز وجل ووقوفهم وقفة الأعداء في وجه المرسلين، كما قال تعالى: (ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ) [الأنعام:١١٢].
جاءت هذه الآية تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم تقول له: «لا تحزن يا محمد على معاداة قومك لك فهذه سنة المرسلين، ثم يبين المولى عز وجل سنته أيضًا حيال مكر الشياطين، وأنه يبطله ثم يثبت آياته الدالة على وحدانيته، ويجعل وساوس الشياطين فتنة للمنافقين وللكافرين الذين لا تلين قلوبهم لذكر الله، وإن الكافرين لفي عداوة شديدة لله ولرسوله، وليعلم أهل العلم أن القرآن هو الحق الحقيق بالإيمان فيؤمنوا به فتخبت له أي: «تخشع وتسكن قلوبهم» بخلاف من في قلبه مرض، وإن الله لمرشد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم.
والإخبات: نزول الخبت وهو المكان المنخفض، وتفسيره بالإخلاص؛ لأنه لازم للتواضع والتذلل32.
وإخبات القلوب: يكون بالانقياد والخشية للقرآن على التخصيص، ولكل أوامر الله على التعميم33، قال تعالى: (ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ) [الحج:٣٤-٣٥].
ولقد ورد عن السلف تفسيراتٌ متعددة للمخبتين كلها ترجع إلى ما ذكرنا سابقًا وإن اختلفت العبارة.
قال سفيان: هم الراضون بقضاء الله، وقال الكلبي: المجتهدون في العبادة، وقال عمرو بن أوس: الذين لا يظلمون وإذا ظلموا لم ينتصروا34.
هذا وقد وصف الله تعالى المخبتين بصفات ذكرها في قوله سبحانه: (ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ)
والإخبات ورد في القرآن على وجهين:
الأول: الإخلاص ومنه قوله تعالى في سورة هود: (ﮃ ﮄ ﮅ) [هود:٢٣].
يعني: أخلصوا ومثلها في سورة الحج (ﮒ ﮓ) [الحج:٣٤].
يعني: المخلصين، والإخلاص محله القلب.
الثاني: الإخبات بمعنى القبول ومنه قوله تعالى في سورة الحج: (ﯢ ﯣ ﯤ) [الحج:٥٤].
يعني فتقبل له صدورهم35.
٤. التقوى، الوجل، والإنابة، والخيرية، والطهر، والاهتداء.
التقوى:
من صفات القلوب السليمة «التقوى» وهي كنز عزيز إن ظفرت به فكم تجد فيه من جوهر شريف، وعلقٍ نفيس، وخير كثير، ورزق كريم، وغنم جسيم وملك عظيم، فهي الخصلة التى تجمع خير الدنيا والآخرة، وعليها مدار القبول، وبها وصى سبحانه الأولين والآخرين فقال تعالى: (ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ) [النساء:١٣١].
ومن هنا علمنا أنها الغاية التى لا متجاوز عنها؛ لجمعها محض النصح والدلالة والإرشاد والتأديب والتعليم والتهذيب36.
والتقوى مشتقة من الوقاية وهي حفظ الشيء مما يؤذيه ويضره، يقال: وقاه وقيًا ووقاية: صانه.
والتوقية: الصيانة والحفظ.
والمتقي: هو من جعل بينه وبين المعاصي وقاية تحول بينه وبينها من قوة عزمه على تركها، وتوطين قلبه على ذلك؛ فلذلك قيل له: متق.
وتعريفها شرعًا: حفظ النفس عما يؤثم، وذلك بترك المحظور وبترك بعض المباحات37.
وقد ذكر أهل التفسير أن التقوى في القرآن على خمسة أوجه:
أحدها: التوحيد، ومنه قوله تعالى في سورة النساء: (ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ) [النساء:١٣١].
وفي الحجرات: (ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ) [الحجرات:٣].
والثاني: الإخلاص، ومنه قوله تعالى في الحج: (ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ) [الحج:٣٢] أراد من إخلاص القلوب.
والثالث: العبادة، ومنه قوله تعالى في النحل: (ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ) [النحل:٢].
وفي المؤمنين: (ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ) [الأنبياء:٩٢].
وفي الشعراء: (ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦﮧ ﮨ ﮩ ﮪ) [الشعراء:١٠-١١].
والرابع: ترك المعصية، ومنه قوله تعالى في البقرة: (ﮭ ﮮ ﮯ ﮰﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ) [البقرة:١٨٩].
والخامس: الخشية، ومنه قوله تعالى في سورة النساء: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ) [النساء:١].
وفي الشعراء: (ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ) [الشعراء:١٠٦] وكذلك في قصة هود وصالح وشعيب38.
ومحل التقوى هو القلب؛ لقوله تعالى: (ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ) [الحج:٣٢].
والنكتة في تخصيص القلب في الآية بالتقوى، أن حقيقة التقوى في القلب وهو منشؤها؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (التقوى ها هنا وأشار إلى صدره).39
أو للإشارة إلى أن التقوى تنقسم إلى قسمين: تقوى القلوب، وتقوى الأعضاء.
وتقوى القلوب: المراد بها التقوى الحقيقية الصادقة التي يتصف بها المؤمن الصادق وهي المثبتة هنا، وتقوى الأعضاء المراد بها التقوى الصورية الكاذبة التي يتصف بها المنافق الذي كثيرًا ما تخشع أعضاؤه وقلبه ساه لاه، وما في الآية شديد الشبه بقولهم: العفو من شيم الكرام، فمتى فهم منه كون العفو من أعظم أبواب الشيم فليفهم من ذلك كون التعظيم لشعائر الله من أعظم أبواب التقوى40.
الوجل:
وردت صفة الوجل في آيات كثيرة من القرآن العظيم، منها قوله تعالى: (ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ) [الأنفال: ٢].
الوجل: استشعار الخوف، يقال: وجل يوجل وجلًا فهو وجلٌ41.
والوجل في الاستعمال القرآني لا يكون إلا للقلب قال تعالى في شأن المؤمنين حقًّا: (ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ) [الأنفال:٢].
يقول الشيخ زاده: (ﭭ ﭮ) الوجل هو الخوف والفزع وهو ههنا متفرع على مجرد ذكر الله تعالى وملاحظة عظمته وجلاله، فإن هذا الخوف لا يزول عن قلب من ذكر الله تعالى عالمًا بنعوت جلاله وصفات كماله، سواء أكان ملكًا مقربًا أم نبيًا مرسلًا أم مؤمنًا تقيًا، فإن كل واحد منهم عند ذكر الله تعالى يلاحظ عظمة الله تعالى واستغناءه عن جميع ما سواه ويعلم احتياجه إليه في جميع مهماته، فلا جرم يهابه ويقشعر جلده، وتغلب عليه الدهشة بحيث يكاد يفنى وجوده»42.
وقال تعالى في شأن المتواضعين لربهم المبشرين على لسان نبيهم صلى الله عليه وسلم: (ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ) [الحج:٣٥].
وقال تعالى في شأن المشفقين من خشية الله: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ) [المؤمنون:٦٠-٦١].
وقال تعالى في شأن ضيف إبراهيم عليه السلام حين دخلوا عليه فسلموا، فرد عليهم السلام، ثم قدم لهم الطعام فلم يأكلوا، قال: (ﭗ ﭘ ﭙ) أي: فزعون. (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ) [الحجر:٥٢-٥٣].
وقد شبه الوجل في القلب باحتراق السعفة، فعن شهر بن شوحب، عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: الوجل في القلب كاحتراق السعفة أما تجد له قشعريرة؟ قال: بلى. قال: إذا وجدت ذلك في القلب فادع الله، فإن الدعاء يذهب بذلك43.
وقال سفيان الثوري سمعت السدي يقول في الوجل -بالكسر-: هو الرجل يريد أن يظلم، أو قال: يهم بمعصية. فيقال له: اتق الله فيجل قلبه»44.
فالمؤمن الوجل هو المؤمن حقا كما قال عز من قائل: (ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ) [الزمر:٢٣].
والوجل من الله ينقسم إلى قسمين:
وذلك لأنه تعالى غني لذاته عن كل الموجودات، وما سواه من الموجودات فمحتاجون إليه، والمحتاج إذا حضر الملك الغني يهابه ويخافه، وليست تلك الهيبة من العقاب بل مجرد علمه بكونه غنيًا عنه، وكونه محتاجًا إليه يوجب تلك المهابة، وذلك الخوف45.
الخطوات الموصلة إلى الوجل:
في سورة «المؤمنون» يبين الحق تبارك وتعالى الخطوات الموصلة إلى الوجل، فيقول عز من قائل: (ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ) [المؤمنون:٥٧-٦١].
فالخطوة الأولى فهي: الإشفاق من جلال الله وعظمته والخوف من عذابه. وذلك قوله: (ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ) ومثله: (ﯫ ﯬ ﯭ) [الأنبياء:٩٠].
أما الثانية فهي: التصديق بآيات الله القرآنية والكونية فكلها براهين على وجود الله عز وجل ينطق بذلك قوله تعالى: (ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ)
أما الثالثة فهي: عدم الإشراك بالله تعالى والمراد نفي الشرك بعامة ونفي الشرك الخفي بصفة خاصة، وذلك بالإخلاص في عبادة الله طلبًا لرضوانه ينطق بذلك قوله تعالى: (ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ)
أما الرابعة فهي: البذل والعطاء بسخاء، وذلك بإعطاء حق الله في الزكاة وغيرها بالتقرب بكل أنواع القربات مع الخوف أن لا يقبل الله منهم، وذلك في قوله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ)
فالخوف يبعث على الاجتهاد لإزالة أسبابه مع الحذر من التقصير والإخلال، روى الترمذي أن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ) قالت عائشة: هم الذين يشربون الخمر ويسرقون ؟ قال صلى الله عليه وسلم: لا يا بنت الصديق، ولكنهم الذين يصومون ويصلون، ويتصدقون، وهم يخافون أن لا يقبل منهم، أولئك الذين يسارعون في الخيرات)46.
يقول الفخر الرازي: وهذا الترتيب في غاية الحسن؛ لأن الصفة الأولى دلت على حصول الخوف الشديد الموجب للاحتراز عما لا ينبغي، والصفة الثانية دلت على ترك الرياء في الطاعات، والصفة الثالثة دلت على أن المستجمع لتلك الصفات الثلاثة يأتي بالطاعات مع الوجل والخوف من التقصير، وذلك هو نهاية مقامات الصديقين، رزقنا الله سبحانه الوصول إليها. آمين47.
والإمام القرطبي له ملحظ جدير بي أن أنقله يخص أدعياء ظنوا أنفسهم أنهم من الوجلين الخائفين وهم واهمون في حالهم.
يقول الإمام القرطبي عن الخوف في الآية: فهذه حالة العارفين بالله الخائفين من سطوته وعقوبته، لا كما يفعله جهال العوام والمبتدعة الطغام من الزعيق والزئير ومن النهاق الذي يشبه نهاق الحمير.
فيقال لمن تعاطى ذلك وزعم أن ذلك وجدٌ وخشوع: إنك لم تبلغ أن تساوي حال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا حال أصحابه في المعرفة بالله تعالى والخوف منه، والتعظيم لجلاله، ومع ذلك كانت حالهم عند المواعظ الفهم عن الله، والبكاء خوفًا من الله، وكذلك وصف الله تعالى أحوال أهل المعرفة عند سماع ذكره وتلاوة كتابه، ومن لم يكن كذلك فليس على هديهم ولا على طريقتهم.
قال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ) [المائدة:٨٣].
فهذا وصف حالهم وحكاية مقالهم، فمن كان مستنًا فليستن، ومن تعاطى أحوال المجانين والجنون فهو من أخسهم حالًا، والجنون فنون48.
مسألة يوهم ظاهرها الاختلاف والتناقض هي:
أنه جاء في قوله سبحانه وتعالى: (ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ) [الرعد: ٢٨] جاء في هذه الآية الوصف للمؤمنين بالاطمئنان وهو السكون والراحة، وجاء في قوله سبحانه وتعالى: (ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ) [الأنفال:٢].
الوصف بالوجل والخوف، وهو أيضًا للمؤمنين، فهل هناك اختلاف وتناقض؟
الجواب: إن المؤمنين إذا علموا ما أعده الله لهم في الجنة -دار الكرامة- مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر -إذا علموا ذلك- استبشروا وفرحوا واطمأنوا وتهيؤوا للنعيم المقيم، وعند هذا تكون الطمأنينة والسكينة.
وعلى المقابل: إذا علموا ما أعده الله للعاصين والظالمين في النار، التي ترمي بشرر كالقصر، وفيها من أصناف الإهانة ما فيها: المهل، والصديد، والمقامع من حديد، والتميز من الغيظ، والطمع في المزيد حتى يقول الله لها: هل امتلأت وتقول هل من مزيد ؟ فهي ممزوجة بغضب الجبار، أعاذنا الله منها.
إذا علم المؤمن ذلك خاف واقشعر واضطرب والتجأ إلى جناب الرحمن الرحيم ليقيه الشر والعذاب، وهنا يكون الوجل، والمؤمن الذي يحمل بين جنبيه قلبًا يطمع في رحمة الله ويخشى عذابه هو مؤمن تحققت فيه غاية أوصاف المؤمنين المتقين.
وقد جمع الله عز وجل هذه الأوصاف في قوله سبحانه وتعالى: (ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ) [الزمر:٢٣].
الإنابة:
من صفات القلوب السليمة «الإنابة» وهي كما يقول الراغب: «النوب: رجوع الشيء مرة بعد أخرى، يقال: ناب نوبًا ونوبة، وسميت النحل نوبًا لرجوعها إلى مقارها، والإنابة إلى الله تعالى: الرجوع إليه بالتوبة وإخلاص العمل49.
ووصف القلب بالإنابة التي هي الرجوع إلى الله تعالى؛ لأن الاعتبار بما ثبت منها في القلب50.
يقول الفخر: القلب المنيب هو القلب الخالي من الشرك، ومن سلم قلبه من الشرك ترك غير الله، ورجع إلى الله وحده فكان منيبًا. ومن أناب إلى الله برئ من الشرك فكان سليمًا51.
ولم تقترن الإنابة بالقلب في الاستعمال القرآني إلا مرة واحدة، في قوله تعالى: (ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ) [ق:٣١-٣٣].
والمعنى: وقربت الجنة للمتقين إكرامًا واحتفاءً بهم على سبيل المبالغة، ويقال لهم: هذا الذي ترونه من النعيم هو ما وعده الله لكل أواب رجاع إلى الله، حافظ لعهده، خائف مطيع طاعة متيقن، يعلم أن الله حري بذلك، وجاء هذا الخائف ربه بقلب خاضع خاشع لله مقبل على طاعته مخلص، فلا يشوب توحيده شائبة.
وعلامة القلب المنيب كما يقول أبو بكر الوراق: أن يكون عارفًا لحرمة الله، ومواليًا له، ومتواضعًا لجلاله وتاركًا لهوى نفسه52.
إذن فالرجوع الدائم لجناب الحق عين الإنابة التي هي صفة عظيمة من صفات القلب السليم.
الخيرية:
من صفات القلب السليم «الخيرية»، والخير: ما يرغب فيه من المستحسنات كالعقل والعدل والفضل والشيء النافع والخير يقابل به الشر مرة، والضر مرة أخرى، فمن الأول قوله تعالى: (ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ) [الزلزلة:٧-٨].
ومن الثاني قوله تعالى: (ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ) [الأنعام:١٧].
والخير يفسر على وجوه منها الإيمان كما في قوله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ) [الأنفال:٧٠].
قال ابن عباس: إن يعلم الله في قلوبكم إيمانًا وتصديقًا يؤتكم خيرًا مما أخذ منكم، نزلت في العباس بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أحد العشرة الذين ضمنوا أن يطعموا الناس الذين خرجوا من مكة إلى بدر، وكان قد خرج ومعه عشرون أوقية من ذهب؛ ليطعم بها إذا جاءت نوبته فكانت نوبته يوم الوقعة ببدر، فأراد أن يطعم ذلك اليوم فاقتتلوا فلم يطعم شيئًا وبقيت العشرون أوقية من ذهب معه.
فلما أسر أخذت منه، فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحسب العشرين أوقية من فدائه، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له: (أما شيءٌ خرجت به لتستعين به علينا فلا نتركه لك). وكان العباس قد فدى أخاه عقيل بن أبى طالب، ونوفل بن الحرث، فقال العباس: يا محمد تتركني أتكفف قريشًا ما بقيت؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فأين الذهب الذي دفعته لأم الفضل وقت خروجك من مكة به وقلت لها: إني لا أدرى ما يصيبني في وجهي هذا، فإن حدث بي حدث فهذا المال لك ولعبد الله ولعبيد الله وللفضل وقثم، يعنب بين بنيه). فقال العباس: وما يدريك يا ابن أخي؟ قال: (أخبرني به ربي). فقال العباس: أنا أشهد أنك صادق وأشهد أن لا إله إلا الله، وأنك عبده ورسوله، فإني أعطيتها إياه في سواد الليل، ولم يطلع عليه أحد إلا الله، وأمر ابني أخيه عقيلًا ونوفل بن الحرث فأسلما، فذلك قوله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ) يعني: الذين أسرتموهم وأخذتم منهم الفداء (ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ) يعني: إيمانًا وتصديقًا (ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ) يعني: من الفداء، (ﭤ ﭥ) يعني: ما سلف منكم قبل الإيمان (ﭧ ﭨ ﭩ) يعني: لمن آمن وتاب من كفره ومعاصيه، رحيم بأهل طاعته.
قال العباس: فأبدلني الله خيرًا مما أخذ منى عشرين عبدًا كلهم تاجر يضرب بمال كثير، أدناهم يضرب بعشرين ألفًا مكان العشرين أوقية، وأعطاني زمزم وما أحب أن لي بها جميع أموال أهل مكة، وأنا أنتظر المغفرة من ربي عز وجل53.
الطهر:
الطهارة في الأصل: الوضاءة والنظافة. يقال من ذلك: تطهر يتطهر فهو متطهرٌ ومطهر، والطهور: الماء، ويقال: فلان طاهر الثياب إذا كان نقيا من الدنس والوسخ.
وقد ذكر أهل التفسير أن الطهارة في القرآن على ثلاثة عشر وجها:
منها ما يتعلق «بطهارة القلب من الريبة. ومنه قوله تعالى في البقرة: (ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ) [البقرة:٢٣٢]يريد أطهر لقلب الرجل والمرأة من الريبة. وفي الأحزاب: (ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ) [الأحزاب:٥٣].
أي: وإذا سألتم نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجة من أواني البيت ونحوها فاسألوهن من وراء ستر؛ ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن من الريبة والدنس؛ فالرؤية سبب الفتنة؛ لأن العين روزنة القلب، أي: موصل صورة الأشياء إلى القلب. فإذا لم تر العين لا يشتهي القلب، فالقلب عند عدم الرؤية أطهر وعدم الفتنة حينئذ أظهر، ومن هنا كان فرض الحجاب، فالإسلام حريص على تجنيب أبنائه مخاطر الاختلاط إبعادًا لهم عن الريبة والتهمة، وذلك أحسن للحال، وأحصن للنفس54.
وحيث إن الآية السابقة قد احتوت على مطهرات القلوب؛ تعليمًا للمسلمين؛ وتبيينًا للموحدين؛ فإن آية سورة المائدة تبرز أوصاف قوم جنحوا إلى النفاق، واستقر في قلوبهم فكتب الله عليهم عدم طهارة القلب.
قال تعالى: (ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣﮤ ﮥ ﮦ ﮧﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ) [المائدة:٤١].
فالإشارة في (ﯭ) إلى المذكورين من المنافقين واليهود، وما في اسم الإشارة من معنى البعد للإيذان ببعد منزلتهم في الفساد، أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم، أي: من رجس الكفر وخبث الضلالة لانهماكهم فيهما، وإصرارهم عليهما، وإعراضهم عن صرف اختيارهم إلى تحصيل الهداية بالكلية، كما ينبئ عنه وصفهم بالمسارعة في الكفر أولًا، وشرح فنون ضلالهم آخرًا.
والجملة استئنافية مبينة لكون إرادته تعالى لفتنتهم منوطة بسوء اختيارهم، وقبح صنيعهم الموجب لها لا واقعة منه تعالى ابتداء55.
يقول ابن القيم: فهؤلاء وإخوانهم من الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم، فإنها لو طهرت لما أعرضت عن الحق، وتعوضت بالباطل عن كلام الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، كما أن المنحرفين من أهل الإرادة لما لم تطهر قلوبهم تعوضوا بالسماع الشيطاني عن السماع القرآني الإيماني، قال عثمان بن عفان رضي الله عنه: «لو طهرت قلوبنا لما شبعت من كلام الله»56.
فالقلب الطاهر ـ لكمال حياته ونوره وتخلصه من الأدران والخبائث ـ لا يشبع من القرآن ولا يتغذى إلا بحقائقه، ولا يتداوى إلا بأدويته، بخلاف القلب الذي لم يطهره الله تعالى فإنه يتغذى من الأغذية التي تناسبه، بحسب ما فيه من النجاسة، فإن القلب النجس كالبدن العليل المريض، لا تلائمه الأغذية التي تلائم الصحيح.
وقد دلت الآية على أن طهارة القلب موقوفة على إرادة الله تعالى، وأنه سبحانه لما لم يرد أن يطهر قلوب القائلين بالباطل المحرفين للحق لم يحصل لها طهارة.
ودلت الآية على أن من لم يطهر الله قلبه فلابد أن يناله الخزي في الدنيا والعذاب في الآخرة بحسب نجاسة قلبه وخبثه.
ولهذا حرم الله سبحانه وتعالى الجنة على من في قلبه نجاسة وخبث، ولا يدخلها إلا بعد طيبه وطهره، فإنها دار الطيبين؛ ولهذا يقال لهم: (ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ) [الزمر:٧٣].
أي: ادخلوها بسبب طيبكم، فالجنة لا يدخلها خبيث، ولا من فيه شيء من الخبث، فمن تطهر في الدنيا ولقي الله طاهرًا من نجاسته دخلها بغير معوق، ومن لم يتطهر في الدنيا فإن كانت نجاسته عينية كالكافر لم يدخلها بحال، وإن كانت نجاسته كسبية عارضة دخلها بعد ما يتطهر في النار من تلك النجاسة، ثم يخرج منها، والله سبحانه وتعالى بحكمته جعل الدخول عليه موقوفا على الطهارة، فلا يدخل المصلي عليه حتى يتطهر، وكذلك الجنة فيها طهارتان طهارة البدن، وطهارة القلب فطهارة البدن بالماء، وطهارة القلب بالتوبة، فالذي يجتمع له الطهران يصلح للدخول على الله تعالى، والوقوف بين يديه ومناجاته57.
وقد حمل جمهور المفسرين قوله تعالى: (ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ) [المدثر:١-٤].
حملوا الأمر بتطهير الثياب على تطهير القلب، يقول ابن القيم: «وجمهور المفسرين من السلف ومن بعدهم على أن المراد بالثياب هنا القلب والمراد بالطهارة إصلاح الأعمال والأخلاق58.
إذًا فطهارة القلب من أعظم صفات المدح والثناء، وعدم طهارته من أعظم أسباب الشقاء والازدراء.
الاهتداء:
من صفات القلب السليم: الاهتداء أي: التسليم لله تعالى والرضا بحكمه سبحانه.
والهداية: دلالة بلطف، ومنه الهدية، وخص ما كان دلالة بهديت، وما كان إعطاء بأهديت.
فإن قيل: كيف جعلت الهداية دلالة بلطف وقد قال الله تعالى: (ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ) [الصافات: ٢٣].
قيل: إن ذلك على سبيل التهكم والمبالغة في المعنى كقوله تعالى: (ﯤ ﯥ ﯦ) [آل عمران: ٢١]59.
وقد فسر العلماء هداية القلب على وجوه تختلف اختلاف تنوع فقالوا: (ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ) [التغابن١١].
أي: للثبات والاسترجاع عند حلول المصائب، وقد عمد البيضاوي إلى هذا التفسير؛ لأن المؤمن مهتد أصالة، وقال أهل المعاني: يهد قلبه للشكر عند الرخاء، والصبر عند البلاء60.
عن ابن عباس قال: (ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ) يعني: يهد قلبه لليقين، فيعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه61.
وخلاصة القول: أن هداية القلب تعني: انفساحه ورضاه بكل ما قدره الله عامة، وما ينزل من المكروه خاصة، كالموت والمرض والفقر والقحط، ونظيره قوله تعالى: (ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ) [البقرة:١٥٥-١٥٦].
وبهذه الصفة ننتهي من تناول صفات السلامة في القلب، لنشرع في تناول صفات القلب المريض.
ثانيًا: القلب المريض.
ويتصف هذا القلب المريض بعدة صفات، منها:
١. القسوة.
من صفات القلوب المريضة القسوة.
والقسوة: غلظ القلب، وأصله مأخوذ من قول القائل: هذا حجر قاسٍ، أي: صلب 62.
وقد وردت هذه الصفة في آيات متعددة من القرآن الكريم مرتبطة بالقلب:
مرتان (قست أشد قسوة) في قوله تعالى: (ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ) [البقرة:٧٤].
وردت هذه الآية الكريمة في معرض الحديث عن مخازي بني إسرائيل ومساويهم فقال سبحانه وتعالى: (ﮗ ﮘ ﮙ) أي: صلبت قلوبكم، فلا يؤثر فيها وعظ ولا تذكير (ﮚ ﮛ ﮜ) أي: من بعد المعجزات الباهرة التي رأيتموها بأم أعينكم، فهي كالحجارة أو أشد قسوة من الحجارة؛ لأن الحجارة قد تنصدع مسببة بذلك مصلحة للناس، أما قلوبكم فلا تلين ولا تتأثر.
والثالثة: في قوله تعالى: (ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ) [المائدة: ١٣].
فبسبب نقض هؤلاء اليهود لعهودهم المؤكدة طردهم الله من رحمته، وجعل قلوبهم غليظة لا تلين للإيمان.
والرابعة: في قوله تعالى: (ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ) [الأنعام:٤٣].
والخطاب في الآية الكريمة للأمم المكذبة الذين لم يلاقوا البلاء بالضراعة لله؛ ليرفع ما نزل بهم من بأس، بل لاقوه بالعناد والقسوة والصلابة.
والخامسة: في قوله تعالى: (ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ) [الحج:٥٢-٥٣].
والآيتان تثبتان أن الشيطان يلقي وساوسه أثناء قراءة كتاب الله على لسان كل نبي وكل رسول للصد عن اتباع الوحي، لكن الله يبطل كيد الشيطان ويثبت آياته، وما كان هذا الفعل من الشيطان إلا ليجعله الله اختبارًا للذين في قلوبهم شك ونفاق، ولقساة القلوب من المشركين الضالين.
والسادسة: في قوله تعالى: (ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡﯢ ﯣ ﯤ ﯥﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ) [المائدة:١٣].
والآية تتحدث عن بعض مخازي بني إسرائيل التي منها نقض الميثاق والتي تسببت في طرد الله إياهم من رحمته ولعنهم وجعل قلوبهم غليظة لا تلين للإيمان.
والسابعة: في قوله تعالى: (ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ) [الحديد:١٦].
الآية تحمل ترغيبا للمؤمنين على رقة القلب، والخشوع لله تعالى عند سماع وحيه الشريف، والحذر من التشبه باليهود والنصارى، في قسوة قلوبهم وغلظتها وفسقهم.
وقد أرشدنا العلماء إلى علاجٍ لهذا المرض العضال، ومن ذلك ما صوره العلامة الألوسي بقوله: «ولا تنظروا إلى ذنوب العباد كأنكم أرباب، وانظروا في ذنوبكم كأنكم عباد، والناس رجلان مبتلى ومعافى، فارحموا أهل البلاء، واحمدوا الله على العافية، ومن أحس بقسوة في قلبه فليهرع إلى ذكر الله تعالى وتلاوة القرآن، يرجع إليه حاله، كما أشار إليه قوله عز وجل: (ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ) [الحديد: ١٧].
فهو تمثيل ذكر استطرادًا لإحياء القلوب القاسية بالذكر والتلاوة بإحياء الأرض الميتة بالغيث؛ للترغيب في الخشوع، والتحذير عن القساوة»63.
من آثار القسوة:
يقول المحقق الألوسي: «فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا، هذا محمول على التوبيخ والتنديم، وهو يفيد الترك وعدم الوقوع؛ ولذا ظهر الاستدراك والعطف في قوله سبحانه وتعالى: (ﯮ ﯯ ﯰ).
والتضرع: التذلل بالتوبة من الكفر، وهو منفي هنا؛ لأن التضرع ناشئ من القلب، فنفيه نفيه.
فكأنه قيل: فما لانت قلوبهم ولكن قست65.
وهذا ليس بغريب على الكفار ولا على بني إسرائيل من لدن موسى عليه السلام وحتى عصرنا الحاضر، فلا عهد لهم ولا ميثاق ولا ذمة، الخيانة طبعهم، والنفاق صنيعهم، والغدر ديدنهم، والكفر أسهم وأصلهم.
مسألة: ذكر الله سبحانه وتعالى أن اطمئنان القلب لصيق الذكر ورفيقه، فكيف ينتج ذكر الله عز وجل قسوة، وذلك في قوله سبحانه وتعالى: (ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ) [الزمر:٢٢].
يجيب العلامة الفخر فيقول: «إن النفس إذا كانت خبيثة الجوهر كدرة العنصر بعيدة عن مناسبة الروحانيات، شديدة الميل إلى الطبائع البهيمية والأخلاق الذميمة فإن سماعها لذكر الله يزيدها قسوة وكدورةً.
وتقرير هذا الكلام بالأمثلة: فإن الفاعل الواحد تختلف أفعاله بحسب اختلاف القوابل، كنور الشمس يسود وجه القصار، ويبيض ثوبه، وحرارة الشمس تلين الشمع وتعقد الملح، وقد نرى إنسانًا يذكر كلامًا واحدًا في مجلس واحد فيستطيبه واحد ويستكرهه غيره، وما ذلك إلا ما ذكرناه من اختلاف جواهر النفوس، ومن اختلاف أحوال تلك النفوس، ولما نزل قوله سبحانه وتعالى: (ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ)[المؤمنون:١٢] وكان قد حضر هناك عمر بن الخطاب رضي الله عنه وإنسان آخر، فلما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قوله سبحانه وتعالى: (ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ) قال كل واحد منهما: (ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اكتب فهكذا نزلت) فازداد عمر إيمانًا على إيمان، وازداد ذلك الإنسان كفرًا على كفره.
إذا عرفت هذا لم يبعد أيضًا أن يكون ذكر الله يوجب النور والهداية والاطمئنان في النفوس الطاهرة الروحانية، ويوجب القسوة والبعد عن الحق في النفوس الخبيثة الشيطانية.
وإذا عرفت هذا فنقول: إن رأس الأدوية التي تفيد الصحة الروحانية ورئيسها هو ذكر الله سبحانه وتعالى، فإذا اتفق لبعض النفوس أن صار ذكر الله سببًا لازدياد مرضها فكان مرض تلك النفوس مرضًا لا يرجى زواله، ولا يتوقع علاجه، وكانت في نهايـة الشر والرداءة؛ فلهذا المعنى قال سبحانه وتعالى: (ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ) [الزمر:٢٢]66.
ولا غرابة أليس قد قال الله سبحانه وتعالى: (ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ) [الزمر:٤٥].
وقال أيضًا: (ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ) [فصلت:٤٤].
٢. الريب.
الريب في الأصل مصدر رابني الشيء إذا حصل فيك الريبة وهي قلق النفس واضطرابها، والريبة وإن اشتهرت في معنى الشك إلا أن معناها الأصلي قلق النفس واضطرابها إلا أنه عدل عن معناه المصدري واستعمل في معنى الشك في قوله تعالى: (ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ) [البقرة:٢٣].
وفي نظائره لكونه سببا لقلق النفس واضطرابها على طريق إطلاق اسم المسبب وإرادة السبب، والشك وقوف النفس بين شيئين متقابلين بحيث لا ترجح أحدهما على الآخر فتقع في الاضطراب والحيرة، ومن هنا فإنه لا ريب في القرآن صادر ممن آمن به؛ ولذلك نفى الله عز وجل عن المؤمنين الارتياب، فقال سبحانه وتعالى: (ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ) [المدثر: ٣١].
وقال سبحانه: (ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ) [الحجرات:١٥]67.
وقد جاء الريب مقترنا بالقلوب في مواضع كلها تخص المنافقين:
الموضع الأول: قوله تعالى: (ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ) [التوبة:٤٥].
هذه الآية الكريمة تتحدث عن المنافقين إذ هم الذين كانوا يستأذنون النبي صلى الله عليه وسلم في التخلف عن الجهاد معه، من غير عذر بينٍ، وهم الذين شكت قلوبهم في حقيقة وحدانية الله، وفي ثوابه أهل طاعته، وعقابه أهل معاصيه فهم في شكهم متحيرون، وفي ظلمة الحيرة مترددون، لا يعرفون حقًا من باطل، فيعملوا على بصيرة.
الثاني: قوله تعالى: (ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ) [النور:٤٨-٥٠].
في شأن المنافقين بين سبحانه أن من خصالهم الذميمة أنهم إذا دعوا في خصوماتهم إلى ما في كتاب الله وإلى رسوله؛ ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرض لا يقبل حكم الله وحكم رسوله، مع أنه الحق الذي لا شك فيه. ثم يستفهم القرآن استفهاما إنكاريا قائلا: أسبب الإعراض ما في قلوبهم من مرض النفاق، أم شكوا في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم؟!
الثالث: قوله سبحانه وتعالى في سورة التوبة: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ) [التوبة:١٠٧-١١٠].
ولنا وقفة مع هذه الآية الكريمة التي بينت حال المنافقين وأظهرت دينهم وديدنهم ــ وهم أهل الريب وأس التشكيك والشك ـ من خلال هذه الفعلة الآثمة التي فعلوها مع نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم وسجلها الله عز وجل في قرآنه لنحذرهم، ونعد العدة لفضح مؤامراتهم وعدم تصديقهم أو السير في ركابهم، هذه الفعلة التي فعلوها ببنائهم مسجد الضرار، فقد بناه المنافقون بهدف مضارة المؤمنين وكيدهم ونصرة الكفرة والكافرين.
وهذا الهدف لم يظهروه فلا ننس أنهم منافقون، وليقسمن ما أردنا ببنائه إلا الخير، والله يعلم كذبهم في ذلك، ثم يأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله: (ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ) لأن هذا المكان لم يبن إلا ليكون معقلًا للنفاق وأهله، ثم يذكر الحق سبحانه وتعالى ما يتعلق بمسجد قباء، وما على شاكلته من بيوت الله الخالصة له وحده، فيقول: لمسجد أسس على التقوى من بداية أمره أحق أن تقوم فيه؛ لأن فيه رجالًا مؤمنين أطهارًا، والله يحب من كان كذلك، والله يحب المطهرين.
ثم يعقب ذلك باستفهام إنكاري: أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان، كمن أسس بنيانه على طرف واد متصدع مشرف على السقوط فسقط به في نار جهنم؟! والله لا يوفق الظالمين إلى الرشاد، لا يزال بنيانهم الذي بنوه ريبة في قلوبهم.
يقول الفخر: المعنى: إن بناء ذلك البنيان صار سببًا لحصول الريبة في قلوبهم فجعل نفس ذلك البنيان ريبة لكونه سببًا للريبة؛ ولكونه سببًا للريبة وجوه:
منها: أن المنافقين عظم فرحهم ببناء مسجد الضرار، فلما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتخريبه ثقل ذلك عليهم وازداد بغضهم له، وازداد ارتيابهم في نبوته68.
وحاصل المعنى: لا يزال هدم بنيانهم الذي بنو سببًا للقلق والاضطراب والوجل في القلوب69.
هذه الريبة تمكنت من قلوبهم، ولن تخرج إلا بعد مفارقة الروح للجسد، قال سبحانه وتعالى: (ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ)أي: تتصدع قلوبهم فيموتوا.
وذلك كقوله سبحانه وتعالى: (ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ) [الحاقة:٤٦].
لأن الحياة تنقطع بانقطاع الوتين70.
فالاستثناء في (ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ) من أعم الأوقات أو من أعم الأحوال، وما بعد (ﮬ) في محل النصب على الظرفية، أي: لا يزال بنيانهم ريبة في كل وقت إلا وقت تقطع قلوبهم.
أو في كل حال إلا حال تقطعها، أي: تفرقها وخروجها عن قابلية الإدراك وإضمار الشرك بحيث لا يزول منها ما داموا أحياء إلا إذا انقطعت وفرقت، وحينئذ تخرج منها الريبة وتزول، وهو خارج مخرج التصوير والفرض.
وقيل: المراد بالتقطيع ما هو كائن بالموت من تفرق أجزاء البدن حقيقة، وروي ذلك عن بعض السلف.
وأخرج ابن المنذر وغيره عن أيوب، قال: كان عكرمة يقرأ: (إلا أن تقطع قلوبهم في القبور) 71.
وقيل: إلا بمعنى إلى، بدليل أنه قرئ بها شاذًا72.
وهذه الآية تؤكد ثوابت هذا البحث من أن القلب هو محل أمور الإنسان، يقول الفخر: «وارتابت قلوبهم: يدل على أن محل الريب هو القلب فقط، ومتى كان محل الريب هو القلب كان محل المعرفة والإيمان ـ أيضًا ـ هو القلب؛ لأن محل أحد الضدين يجب أن يكون محلًا للضد الآخر؛ ولهذا السبب قال تعالى: (ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ) [المجادلة: ٢٢]وإذا كان محل المعرفة والكفر القلب، كان المثاب والمعاقب في الحقيقة هو القلب، والبواقي تكون تبعًا له 73.
٣. الغل.
من الصفات المذمومة التي تمرض القلب وتجعله ذا علة «الغل».
الغل بالكسر مصدر غل يغل بمعنى غش وحقد، والغين واللام أصلٌ صحيحٌ يدل على تخلل شيءٍ، وثبات شيء، كالشيء يغرز. من ذلك قول العرب، غللت الشيء في الشيء إذا أثبته فيه، كأنك غرزته، ومن الباب الغل، وهو الضغن ينغل في الصدر74.
وقيد القرطبي الغل بالكمون في الصدر حيث قال: «الغل: الحقد الكامن في الصدر»75.
وهو العداوة، وغل يغل: إذا خان، وأغل: أي: صار ذا أغلال، أي: خيانة76.
وفي استعمال القرآن الكريم جاء الغل مرتبطا بالقلب صراحة في موضع واحد هو قوله تعالى: (ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ) [الحشر:٩-١٠].
وقد بين المولى سبحانه وتعالى في هذه الآية بعضًا من سجايا الأنصار وأخلاقهم، فيقول عز وجل: (ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ) أي: اتخذوا المدينة منزلًا وسكنًا، واعتقدوا الإيمان وأخلصوه من قبل كثير من المهاجرين يحبون من هاجر إليهم فيمدونهم بالأموال وينزلونهم منازلهم ويحتفون بهم أيما احتفاء، وفوق هذا كله لا يجدون حزازة و لا غيظًا مما أعطى المهاجرون من الغنيمة دونهم، ويفضلون غيرهم بالمال وغيره، ولو كانوا في غاية الاحتياج إليه، ومن حماه الله من البخل والجشع والطمع فأولئك هم الموفقون في الدنيا، المفلحون في الآخرة، والذين جاؤوا من بعدهم وهم التابعون لهم بإحسان في كل زمان ومكان يدعون ربهم قائلين: يا ربنا اغفر لنا ولإخواننا المؤمنين الذين سبقونا بالإيمان بك، ولا تجعل في قلوبنا بغضًا ولا حسدًا لأحد من المؤمنين الموحدين، ربنا إنك رؤوف رحيم فاستجب وتقبل منا يا ربنا.
وهاتان الآيتان بفضل الله تعالى استوعبتا جميع شرائح المؤمنين في الدنيا.
يقول الفخر الرازي رحمه الله تعالى: «اعلم أن هذه الآيات قد استوعبت جميع المؤمنين؛ لأنهم إما المهاجرون أو الأنصار أو الذين جاؤوا من بعدهم، وبين أن من شأن من جاء من بعد المهاجرين والأنصار أن يذكر السابقين -وهم المهاجرون والأنصار- بالدعاء والرحمة، فمن لم يكن كذلك، بل ذكرهم بسوء كان خارجًا من جملة أقسام المؤمنين حسب نص الآية» 77.
وفي الآية ذم للغل إذا كان على أحد من المؤمنين، وحث على الدعاء للصحابة، وتصفية القلوب من بغض أحد منهم.
سمع رجل وهو يتناول بعض المهاجرين، فدعي فقرأ عليه قوله تعالى: (ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ) [الحشر:٨] الآية.
ثم قيل له: هؤلاء المهاجرون أفمنهم أنت ؟ قال: لا، ثم قرأ عليه: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ) الآية. ثم قال أفمن هؤلاء أنت؟ قال: أرجو. فرد عليه: لا والله ليس من هؤلاء من سب هؤلاء، فكان أعظم ما تميز به الصحابة رضوان الله عليهم خلو قلوبهم من الغل.
وخلو القلب من الغل كان سببًا في أن الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ حاروا في رجل وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بأنه من أهل الجنة، وما كانت فيه ميزة أعظم من أنه يبيت وليس في قلبه غل ولا حقد ولا حسد لأحد من المسلمين.
(فعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ـ في أيام ثلاثة ـ (يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة) فطلع فيها رجل من الأنصار، فبات معه عبد الله بن عمرو بن العاص ثلاث ليال مستكشفًا حاله، فلم ير له كثير عمل، فأخبره الخبر، فقال له: ما هو إلا ما رأيت، غير أني لا أجد في نفسي غلًا لأحد من المسلمين، ولا أحسده على خير أعطاه الله تعالى إياه.
فقال له عبد الله: هذه التي بلغت بك، وهي التي لا نطيق.
وفي رواية أنه قال: لو كانت الدنيا لي فأخذت مني لم أحزن عليها، ولو أعطيتها لم أفرح بها، وأبيت وليس في قلبي غل على أحد.
فقال عبد الله: لكني أقوم الليل وأصوم النهار، ولو وهبت لي شاة لفرحت بها، ولو ذهبت لحزنت عليها، والله لقد فضلك الله تعالى علينا فضلًا بينًا) 78.
وبعـد:
فالغل من الأمراض الفتاكة بالقلوب، وعلاجه القناعة بقسم الله للعبد، وعدم التطلع إلى الغير؛ لأن ذلك يورث القلب همًا، والهم ينتج حقدًا وحسدًا، ولا يجوز لمسلم أن يحمل في صدره هذا الداء إلا في حالة واحدة، ويكون عين الداء أصل الدواء، هذه الحالة تكون عندما يوجه الحقد والغيظ والغل لأعداء الإسلام والمسلمين، لا من المسلم ضد أخيه المسلم.
٤. الغلظة.
من صفات القلوب المريضة: الغلظة.
الغلظة ضد الرقة، يقال: غِلْظَةٌ وغُلْظَةٌ، وأصله يستعمل في الأجسام، لكن قد يستعار للمعاني، قال سبحانه وتعالى: (ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ) [التوبة: ١٢٣] أي: خشونة أو قسوة79.
وأحسن ما قيل في الغلظة ما قاله القرطبي: «وغلظ القلب: عبارة عن تجهم الوجه، وقلة الانفعال في الرغائب، وقلة الإشفاق والرحمة.
وقد وردت هذه المادة في آي القرآن الكريم، من ذلك قوله سبحانه وتعالى: (ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ) [آل عمران: ١٥٩].
هذه الآية الكريمة وردت في معرض الحديث عن غزوة أحد، وذلك في سورة آل عمران، هذه الغزوة التي أصيب فيها المسلمون بمصيبة عدم النصر؛ وذلك لأمور متعددة يعلمها الله عز وجل منها عدم تطبيق الصحابة رضوان الله عليهم أوامر النبي صلى الله عليه وسلم، فكان حاله صلى الله عليه وسلم بين العقاب والعتاب للمخالفين، فأنزل الله سبحانه وتعالى (ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ) أي: فبسبب رحمة من الله أودعها قلبك يا محمد صلى الله عليه وسلم فألنت جانبك لأصحابك مع مخالفتهم، ولو كنت جافي الطبع، قاسي القلب لتفرقوا عنك، ونفروا منك، فاعف عنهم، واصفح واطلب المغفرة لهم، وأعد إليهم ثقتهم بالله، ثم بأنفسهم وذلك بمشورتك إياهم في الأمر، فإذا عزمت وصممت فتوكل على الله، إن الله يحب المتوكلين عليه، والآية يحمل مضمونها نفيًا صريحًا لكل معايب الأخلاق عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ومنها الفظاظة والغلظة كما بين عبد الله ابن عمرو في حديث البخاري في وصف النبي صلى الله عليه وسلم من أنه (ليس بفظٍ ولا غليظٍ ولا سخابٍ في الأسواق ولا يدفع بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويغفر) 80.
الفظاظة: الجفوة في المعاشرة قولًا وفعلًا.
والله سبحانه وتعالى منع نبيه صلى الله عليه وسلم من الغلظة، وأمره بالغلظة في قوله سبحانه وتعالى: (ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇﮈ ﮉ ﮊﮋ ﮌ ﮍ ﮎ) [التحريم:٩].
فهاهنا نهاه عن الغلظة على المؤمنين، وهناك أمره بالغلظة مع الكافرين، فهو كقوله سبحانه وتعالى: (ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ) [المائدة:٥٤].
وقوله سبحانه وتعالى: (ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛﭜ ﭝ ﭞ ﭟ) [الفتح:٢٩].
وتحقيق القول فيه: أن طرفي الإفراط والتفريط مذمومان، والفضيلة وسط، فورود الأمر بالتغليظ تارة وأخرى بالنهي عنه إنما كان لأجل أن نتباعد عن الإفراط والتفريط فيبقى الأمر وسطا وكذلك جعلناكم أمة وسطًا81.
والمراد بالوسطية العدل باستعمال الرأفة والرحمة من المؤمنين، والغلظة والشدة مع الكافرين لا سيما في الجهاد. إذن فالغلظة من أمراض القلوب التي يجب على المؤمن أن يتنزه عنها.
٥. اللهو.
من الصفات الممرضة للقلب: اللهو.
واللهو: ما يشغل الإنسان عما يعنيه ويهمه. يقال: لهوت بكذا، ولهيت عن كذا: اشتغلت عنه بلهو قال تعالى: (ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ) [محمد:٣٦].
(ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ) [العنكبوت:٦٤].
ويعبر عن كل ما به استمتاع باللهو. قال تعالى: (ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ) [الأنبياء:١٧].
وهو مأخوذ من قول العرب، لهيت عن ذكر الشيء إذا تركته وسلوت عنه، ألهى لهيًا ولهيانًا82.
فاللهو: سهو وإعراض وتشاغل وذهول وغفلة عن الحق، وقد جاء اللهو مقترنا بالقلب في الاستعمال القرآني في قوله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ) [الأنبياء:١-٣].
مطلع سورة الأنبياء يحمل تخويفًا وترهيبًا وإنذارًا، تحسبًا لقرب وقت حساب الناس على أعمالهم، وهم مستغرقون في شهواتهم غافلون عن اليوم الذي تشيب له النواصي.
وغفلتهم وإعراضهم لكونهم لا يعبؤون بالقرآن، فما يأتيهم من شيء من القرآن متجدد النزول فيه عظة لهم وتذكير إلا استمعوه وهم يلعبون استهزاءًا (ﭥ ﭦ)والمعنى: أنهم وإن فطنوا فهم في قلة جدوى فطنتهم كأنهم لم يفطنوا أصلًا، وثبتوا على رأس غفلتهم وسهوهم وذهولهم عن التأمل والتبصر بقلوبهم83.
فاللهو والتشاغل عن ذكر الله من صفات القلوب المريضة التي تحول بين القلب والجد، وإن كنا نرى اللهو في الجوارح، إلا أنه في الحقيقة لو لم يله القلب لما لهى عضو من أعضاء الجسد، أليس القلب رئيسه وسيده المطاع.
٦. الزيغ.
ورد الزيغ في القرآن العظيم في آيات متعددة بلغت ثمانيا منها أربعة متصلة بالقلب، ثنتان منها في سورة آل عمران هما قوله تعالى: (ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ) [آل عمران:٧-٨].
والثالثة في قوله تعالى: (ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ) [التوبة:١١٧].
والرابعة في قوله تعالى: (ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ) [الصف:٥].
ومعنى الزيغ: الميل عن الاستقامة، والتزايغ: التمايل، ورجل زائغ وقوم زاغة وزائغون84.
وعلى ذلك فالزيغ إذا أضيف إلى القلوب كان معناه ابتعادها عن الاستقامة، وابتعادها عن الاستقامة يعني: جنوحها إلى الضلال، وقد ورد دعاء المؤمنين ألا يميل سبحانه قلوبهم إلى الباطل بعد أن هداهم للإيمان الحق في قوله سبحانه وتعالى: (ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ) [آل عمران:٨].
ومعني (ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ) أي: امنحنا من فضلك وكرمك رحمة تثبتنا بها على دينك الحق، إنك أنت الوهاب المتفضل على عبادك بالعطايا والمنح.
وهذا الدعاء 85 يحتمل أن يكون من تمام مقالة الراسخين، ويحتمل أن يكون على معنى التعليم، أي: قولوا: (ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ) عن نهج الحق إلى اتباع المتشابه بتأويل لا ترتضيه بعد إذ هديتنا إلى معالم الحق من التفويض في المتشابه أو الإيمان بالقسمين أو التأويل الصحيح.
يقول الألوسي: (ﯬ ﯭ ﯮ) أي: لا تضلنا بعد الهداية؛ لأن زيغ القلوب في مقابلة الهداية، ومقابل الهداية الإضلال، وصحة نسبة ذلك إلى الله تعالى مذهب أهل السنة في أفعال العباد الظاهرة.
ومذهب أهل السنة: أن القلب صالح لأن يميل إلى الإيمان، وصالح لأن يميل إلى الكفر، ويمتنع أن يميل إلى أحد الجانبين إلا عند حدوث داعية وإرادة يحدثها الله تعالى، فإن كانت تلك الداعية داعية الكفر فهي الخذلان والإزاغة والصد والختم والطبع والرين والقسوة والوقر والكنان، وغيرها من الألفاظ الواردة في القرآن.
وإن كانت تلك الداعية داعية الإيمان فهي التوفيق، والرشاد، والهداية، والتسديد، والتثبيت، والعصمة، وغيرها من الألفاظ الواردة في القرآن الكريم.
وأخرج الحكيم الترمذي عن أبي الدرداء، قال: كان عبد الله بن رواحة إذا لقيني قال: اجلس بنا نؤمن ساعة. فيجلس نتذكر الله تعالى على ما يشاء، ثم قال: يا عويمر هذه مجالس الإيمان، إن مثل الإيمان ومثلك كمثل قميصك، بينا أنت قد نزعته إذ لبسته، وبينا أنت قد لبسته إذ نزعته، يا عويمر للقلب أسرع تقلبًا من القدر إذا استجمعت غليانًا86.
والإزاغة عقوبة ربانية لكل من اجترأ على الله عز وجل. يقول القرطبي: «هذه الآية تعم كل طائفة من كافر وزنديق وجاهل وصاحب بدعة، وإن كانت الإشارة بها في ذلك الوقت إلى نصارى نجران»87.
ومن عدله سبحانه وإحسانه أن رتب عقابه بالإزاغة على إجرام العبد في حق نفسه بالزيغ ابتداءً. قال الله تعالى: (ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ) [الصف:٥].
أي: فلما أصروا على الزيغ والانحراف عن الحق الذي جاء به عليه الصلاة والسلام واستمروا عليه (ﯫ ﯬ ﯭ) أي: صرفها عن قبول الحق والميل إلى الصواب لصرف اختيارهم نحو العمى والضلال88.
فهم أولًا مالوا عن الحق فكان المترتب عليه إمالة الله لقلوبهم عن الهدى.
وقيل: فلما تركوا ما أمروا به من احترام الرسول صلى الله عليه وسلم وطاعة الرب خلق الله الضلالة في قلوبهم عقوبة لهم على فعلهم89.
وفي هذا تنبيه على عظم إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم حتى إنه يؤدي إلى الكفر وزيغ القلوب عن الهدى90.
يقول العلامة الفخر: «اعلم أن تطهير القلب عما لا ينبغي مقدم على تنويره بما ينبغي، فهؤلاء المؤمنون سألوا ربهم أولًا أن لا يجعل قلوبهم مائلة إلى الباطل والعقائد الفاسدة، ثم إنهم ابتغوا ذلك بأن طلبوا من ربهم أن ينور قلوبهم بأنوار المعرفة وجوارحهم وأعضائهم بزينة الطاعة91.
ثالثًا: القلب الميت.
ويتصف هذا القلب المريض بعدة صفات، منها:
١. العمى.
من أمراض القلوب العمى، والعمى كما يقول الراغب: يقال في افتقاد البصر والبصيرة، ويقال في الأول: أعمى، وفي الثاني: أعمى وعمٍ، فمن الأول: (ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ) [عبس:٢].
ومن الثاني: ما ورد من ذم العمى في القرآن، نحو قوله سبحانه وتعالى: (ﭣ ﭤ ﭥ) [البقرة:١٨].
وقوله: (ﭕ ﭖ) [المائدة:٧١].
بل لم يعد افتقاد البصر في جنب افتقاد البصيرة عمى، وجمع أعمى: عميٌ وعميان، وهو يحتمل لعمى البصر والبصيرة معًا92.
وعند ابن فارس: «العين والميم والحرف المعتل أصل واحد يدل على ستر وتغطية93.
وقد ورد العمى مقترنا بالقلب في الاستعمال القرآني في قوله تعالى: (ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ) [الحج:٤٦].
يخاطب المولى تبارك وتعالى في هذه الآية الكريمة أهل مكة، وكل من على شاكلتهم، فيقول: أفلم يسيروا: أي: يسافروا ويرتحلوا ويسيحوا في الأرض؛ ليشاهدوا ما حل بالكافرين من هلاك ودمار فيعتبروا بهم وبما حل بديارهم، وهلا عقلوا ما يجب أن يعقل من الإيمان والتوحيد فتكون لهم آذان يسمعون بها المواعظ الزاجرة، فليس العمى على الحقيقة عمى البصر، ولكن العمى عمى البصيرة. فكم من مبصر حسيًا كزرقاء اليمامة 94 حدة في الإبصار، ولكنه أعمى في ذات الوقت فلا يرى الحق فيهتدي ولا الباطل فيجتنب.
ويعبر الإمام الغزالي بعباراته المتفردة عن العمى فيقول: «المعاصي دخان مظلم يتصاعد إلى مرآة القلب، ولا يزال يتراكم عليه مرة بعد أخرى إلى أن يسود ويظلم ويصير بالكلية محجوبًا عن الله.
ومهما تراكمت الذنوب طبع على القلوب، وعند ذلك يعمى القلب عن إدراك الحق وصلاح الدين، ويستهين بأمر الآخرة ويستعظم أمر الدنيا، ويصير مقصور الهم عليها، فإذا قرع سمعه أمر الآخرة وما فيها من الأخطار دخل من أذن وخرج من أذن، ولم يستقر في القلب، ولم يحركه إلى التوبة والتدارك أولئك (ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ) [الممتحنة:١٣]»95
أقوال العلماء في عمى القلب، أعاذنا الله منه.
يقول المحقق الألوسي أثناء تفسيره آية الحج السالفة: «لا يعتد بعمى الأبصار، وإنما يعتد بعمى القلوب، فكأن عمى الأبصار ليس بعمى بالإضافة إلى عمى القلوب، فالكلام تذييل لتهويل ما أبهم من عدم فقه القلب، وأنه العمى الذي لا عمى بعده، بل لا عمى إلا هو.
أو المعنى: أن أبصارهم صحيحة سالمة لا عمى بها، وإنما العمى بقلوبهم، فكأنه قيل: أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب ذات بصائر، فإن الآفة ببصائر قلوبهم لا بإبصار عيونهم، وهي الآفة التي كل آفة دونها، فكأنه يحثهم على إزالة المرض، وينعي عليهم تقاعدهم عنها»96.
قال قتادة: البصر الناظر جعل بلغةً ومنفعة، والبصر النافع في القلب.
وقال مجاهد: لكل عين أربع أعين [يعني لكل إنسان أربع أعين] عينان في رأسه لدنياه، وعينان في قلبه لآخرته، فإن عميت عينا رأسه وأبصرت عينا قلبه فلم يضره عماه شيئًا، وإن أبصرت عينا رأسه وعميت عينا قلبه فلم ينفعه نظره شيئًا.
نتابع الكلام حول قوله سبحانه وتعالى: (ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ)[الإسراء:٧٢].
سبق تفسير هذه الآية بما قاله الإمام القرطبي «من أن من كان في هذه الدنيا أعمى بقلبه عن الإسلام وإبصار الحق فهو في الآخرة في النار، وهذا عين الإنصاف؛ لأنه لا ذنب للأعمى فيما حل به.
قال عكرمة: جاء نفر من أهل اليمن إلى ابن عباس فسألوه عن هذه الآية فقال: اقرؤوا ما قبلها: (ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ) [الإسراء:٦٦-٧٠].
قال ابن عباس رضي الله عنه: من كان في هذه النعم والآيات التي رأى أعمى فهو عن الآخرة التي لم يعاين أعمى وأضل سبيلًا.
قال الحسن: من كان في هذه الدنيا أعمى عن حجج الله البالغة بعثه الله يوم القيامة أعمى، كما قال سبحانه: (ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ) [طه:١٢٤-١٢٦].
وقيل: فهو في الآخرة أعمى: أي: أشد عمى؛ لأنه من عمى القلب، ولا يقال مثله في عمى العين 97.
بقيت فائدة تخص ذكر الصدور وكونها مكان القلوب قوله سبحانه وتعالى: (ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ) ومعلوم أن القلب مكانه الصدر بداهة، فما الفائدة المترتبة على ذكر (ﯹ ﯺ ﯻ)؟
والجواب على ذلك يكفينيه جار الله الزمخشري طيب الله ثراه، فيقول:
«الذي قد تعورف عليه واعتقد أن العمى على الحقيقة مكانه البصر، وهو أن تصاب الحدقة بما يطمس نورها، واستعماله في القلب استعارة، فلما أريد إثبات ما هو خلاف المعتقد من نسبة العمى إلى القلوب حقيقة ونفيه عن الإبصار احتاج هذا التصوير إلى زيادة تعيين وفضل تعريف؛ ليتقرر أن مكان العمى هو القلوب لا الأبصار، كما يقول: ليس المضاء للسيف ولكنه للسانك الذي بين فكيك، فقولك: الذي بين فكيك تقرير لما ادعيته للسانه وتثبيت؛ لأن محل المضاء هو هو لا غير، وكأنك قلت: ما نفيت المضاء عن السيف وأثبته للسانك فلتة ولا سهوًا مني ولكن تعمدت به إياه بعينه تعمدًا»98.
إذن فذكر الصدر جاء على سبيل التأكيد وزيادة التعيين والتعريف، كما في قوله تعالى: (ﭶ ﭷ) [آل عمران:١٦٧].
وقولك: «نظرت بعيني رأسي».
نخلص إلى حقيقة الحقائق، وهي أن العمى على سبيل الحقيقة الشرعية هو في القلب، ويكون حسيًا في العين، ولكن لا أثر له مع نور القلب، أعاذنا الله من العمى والعمه، ونسأله أن ينور بصائرنا بنوره.
(ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ) [النور:٤٠].
٢. الران.
مما يميت القلب ـ والعياذ بالله ـ تغشيه بالران، وللإمام الفخر الرازي تفصيلات تخص معنى الران ذكرها من خلال أهل اللغة وأهل التفسير فيقول: «ولأهل اللغة في تفسير لفظة الرين وجوه، ولأهل التفسير وجوه أخر.
أما أهل اللغة فقال أبو عبيدة: ران على قلوبهم: غلب عليها، والخمر ترين على عقل السكران، والموت يرين على الميت فيذهب به.
قال الليث: ران النعاس والخمر في الرأس إذا رسخ فيه، وهو يرين رينًا وريونًا.
قال أبو زيد: يقال: رين بالرجل يران به رينًا إذا وقع فيما لا يستطيع الخروج منه.
قال أبو معاذ النحوي: الرين: أن يسود القلب من الذنوب، وهو كالصدأ يغشى القلب، ومثله العينين.
والطبع: أن يطبع على القلب، وهو أشد من الرين.
والإقفال: أشد من الطبع، وهو أن يقفل على القلب.
وأما أهل التفسير فلهم وجوه: منها: أنه هو الذنب على الذنب حتى تحيط الذنوب بالقلب وتغشاه، فيموت القلب.
ومنها أن القلب كالكف فإذا أذنب الذنب انقبض، وإذا أذنب ذنبًا آخر انقبض وضم أخرى ـ حتى ضم أصابعه كلها ـ ثم يطبع عليه، وهو الرين.
والإنسان إذا واظب على الإتيان ببعض أنواع الذنوب حصلت في قلبه ملكة نفسانية على الإتيان بذلك الذنب، ولا معنى للذنب إلا ما يشغلك بغير الله، وكل ما يشغلك بغير الله فهو ظلمة فإذن الذنوب كلها ظلمات وسواد، ولكل واحد من الأعمال السالفة التي أورث مجموعها حصول تلك الملكة أثرٌ في حصولها، فذلك هو المراد من قولهم: كلما أذنب الإنسان حصلت في قلبه نكتة سوداء حتى يسود القلب، ولما كانت مراتب الملكات في الشدة والضعف مختلفة لا جرم كانت مراتب هذا السواد والظلمة مختلفة، فبعضها يكون رينًا، وبعضها يكون طبعًا، وبعضها إقفالًا.
قال القاضي الباقلاني: ليس المراد من الرين أن قلبهم قد تغير وحصل فيه منع، بل المراد أنهم صاروا لإيقاع الذنب حالًا بعد حال متجرئين عليه، وقويت دواعيهم إلى ترك التوبة وترك الإقلاع فاستمروا وصعب الأمر عليهم؛ ولذلك بين أن علة الرين لا تمنع من الإقلاع والتوبة99.
ولقد فسرت السنة النبوية المطهرة الران بالسواد الذي يعلو القلب، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن العبد إذا أخطأ خطيئة نكتت في قلبه نكتة سوداء، فإذا هو نزع واستغفر وتاب صقل قلبه، وإن عاد زيد فيها حتى تعلو قلبه، وهو الران الذي ذكر الله (ﭹﭺ ﭻﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ)) 100.
إذن فالران ظلمة وسواد تحول بين القلب ومعرفة الحق أو الاعتراف به. نسأل الله العافية.
والران في الاستعمال القرآني جاء في معرض الحديث عن الفجار في قوله تعالى (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹﭺ ﭻﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ) [المطففين:٧-١٤].
تتحدث هذه الآيات عن الأشقياء الفجار، وتصور جزاءهم في الآخرة، فيقول الله عز وجل ردعًا وزجرًا للمطففين: (ﭹ) وهي للردع والزجر لهم عن غفلتهم عن البعث والجزاء، إن كتاب الأشقياء لفي مكان ضيق سحيق (ﭕ ﭖ) وهو مأخوذ من السجن، وهو الضيق (ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ) وهل تعلم ما هو سجين ؟ استفهام في غاية التهويل والتعظيم. ثم يجيب سبحانه وتعالى (ﭝ ﭞ) ومكتوب لا ينسى ولا يمحى.
(ﭠ ﭡ ﭢ) أي: هلاك ودمار للمكذبين الذين يكذبون بيوم الجزاء والحساب؛ لأنه لا يكذب به إلا كل متجاوز للحد في الكفر والضلال مبالغ في العصيان والطغيان.
هذا المكذب إذا تتلى عليه آيات القرآن قال: (ﭶ ﭷ) أي: حكايات وأقاصيص وخرافات الأوائل سطروها وحبروها في كتبهم، ثم يأتي الردع لهذا المعتدي الأثيم عن قوله المتجرئ فيه على ربه تكذيبًا له: (ﭹﭺ ﭻﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ) بيان ما أدى بهم إلى التفوه بتلك المقالة الباطلة: أي: ليس في آياتنا ما يصح أن يقال في شأنها مثل تلك المقالة الباطلة، بل ركب قلوبهم وغلب عليها ما استمروا على اكتسابه من الكفر والمعاصي حتى صار كالصدأ في المرآة، فحال ذلك بينهم وبين معرفة الحق؛ فلذلك قالوا ما قالوا101.
نسأل الله معافاته.
٣. الكفر.
من أخطر أسباب موت القلب الكفر.
وقد وردت مادة الكفر في القرآن العزيز مرتبطة بالقلب في قوله تعالى: (ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ) [البقرة:٩٣].
هذه آية من آيات كثيرة في القرآن الكريم تتحدث عن بني إسرائيل وفظائعهم الفاضحة، فقد أخذ الله عليهم العهد المؤكد ـ عن طريق رسله وأنبيائه ـ على العمل بما في التوراة، وقد تهددهم الله تعالى برفع الطور فوقهم فعلًا، قائلًا: (ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ) أي: بعزم وحزم، وإلا طرحنا الجبل فوقكم (ﯣ) سماع طاعة وقبول، فكان جوابهم: سمعنا قولك، وعصينا أمرك (ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ) أي: خالط حب العجل قلوبهم حتى امتزج بدمائهم، ودخل السويداء، كما يدخل الصبغ في الثوب، والماء في العود الأخضر، كل ذلك بسبب (ﯬ) قل لهم يا محمد صلى الله عليه وسلم: (ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ) كما تزعمون102.
يقول الألوسي: «وذكر القلوب لبيان مكان الإشراب، وذكر المحل المتعين يفيد المبالغة في الإثبات.
وأشربوا من الشراب، ومن عادة العرب أنهم إذا عبروا عن مخامرة حب أو بغض استعاروا له اسم الشراب، إذ هو أبلغ منساغ في البدن؛ ولذا قال الأطباء: الماء مطية الأغذية والأدوية ومركبها الذي تسافر به إلى أقطار البدن103.
وقريب منه «السلك» في الآية الأخرى، في قوله سبحانه وتعالى: (ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ) [الحجر:١٢].
والسلك: إدخال الشيء في الشيء، كإدخال الخيط في المخيط.
والمعنى: كذلك نسلكه -أي: الضلال والكفر والاستهزاء والشرك- في قلوب المجرمين من قومك، قاله الحسن وقتادة، أو نسلك القرآن في قلوبهم فيكذبون به.
وأعظم أنواع الكفر: جحود الوحدانية، أو النبوة، أو الشريعة، وهو ما ينطبق على الآية التي نحن بصددها، وعلى كلٍ فالكفر من أحط أمراض القلوب، فليس بعد الكفر ذنب، أعاذنا الله والمؤمنين منه104.
٤. النفاق.
من الأمراض التى تقضي على القلب فتؤدي به إلى الموت: النفاق، والنفاق يطلق على الدخول في الشرع من باب والخروج عنه من باب، وعلى ذلك نبه سبحانه وتعالى بقوله: (ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ) [التوبة:٦٧].
أي: الخارجون من الشرع، وجعل الله المنافقين شرًّا من الكافرين. فقال: (ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ) [النساء:١٤٥]105.
وقد وصف النفاق في الاستعمال القرآني بالمرض، والمرض يعرف بأنه: حالة خارجة عن الطبع ضارة بالفعل، وقد يطلق المرض لغة على أثره، وهو الألم، وعلى ضعف القلب وفتوره، وعلى كل ما يعرض للمرء مما يخل بكمال نفسه، كالبغضاء، والغفلة، والغل، والحسد، وسوء الاعتقاد والهوى، وغير ذلك من موانع الكمالات المشابهة لاختلال البدن المانع عن الملاذ، والمؤدية إلى الهلاك الروحاني، الذي هو أعظم من الهلاك الجسماني.
والمنقول عن ابن مسعود وابن عباس ومجاهد وقتادة وسائر السلف الصالح: حمل المرض في الآية على ما يخل بكمال النفس، ولا شك أن قلوب المنافقين كانت ملأى من تلك الخبائث التي منعتهم مما منعتهم، وأوصلتهم إلى الدرك الأسفل من النار106.
فالمرض: إما آفة في الإدراك، كسوء الاعتقاد والكفر، وإما الهيئة الباعثة على ارتكاب الرذائل، كالغل والحسد والبغض، أو المانعة عن اكتساب الفضائل، كالضعف والجبن والخور.
وكل ذلك كائن موجود في المنافقين، حيث تأصل فيهم سوء الاعتقاد الذي أدى إلى ارتكاب الرذائل، الذي يؤدي بدوره إلى المنع من اكتساب الفضائل، ففساد اعتقادهم أدى بهم إلى الحقد والغل والحسد لدرجة أن صدورهم كانت تغلي على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى المؤمنين غلًا وحنقًا، فهم الذين وصفهم الله سبحانه وتعالى بقوله: (ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ) [آل عمران:١٢٠].
(ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ) [آل عمران:١١٨].
ومن أفدح أنواع الأمراض وأخطرها مرض النفاق، وقد جاء في الاستعمال القرآني مقترنا بالقلب في آيات منها قوله تعالى: (ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ) [البقرة:٨-١٠].
هذه الآيات من سورة البقرة جاءت عقب ذكر صنفين من الناس.
يقول القاضي البيضاوي: «لما افتتح الله تعالى بشرح حال الكتاب، وساق بيانه، ذكر المؤمنين الذين أخلصوا دينهم لله، وواطأت فيه قلوبهم ألسنتهم، وثنى بأضدادهم الذين محضوا الكفر ظاهرًا وباطنًا، وثلث بالمذبذبين بين القسمين، وهم الذين آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم تكميلًا للتقسيم، وهم أخبث الكفرة، وأبغضهم إلى الله سبحانه وتعالى؛ لأنهم موهوا الكفر وخلطوا به خداعًا واستهزاءً؛ ولذلك طول في بيان خبثهم وجهلهم واستهزأ بهم، وتهكم بأفعالهم، وسجل عليهم عمههم وطغيانهم، وضرب لهم الأمثال، وأنزل فيهم: (ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ) [النساء:١٤٥]» 107.
فوائد مهمة متعلقة بالنفاق:
الفائدة الأولى: المرض جاء منونا في قوله تعالى: (ﮃ ﮄ ﮅ) [البقرة:١٠].
فما الحكمة من ذلك ؟ قلت: قال المحقق الألوسي: «جاءت كلمة (ﮅ) بالتنوين: للدلالة على أنه نوع غير ما يتعارفه الناس من الأمراض» 108 وقد زاد الله مرضى القلوب بآفة النفاق مرضا (ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ) فما سبب هذه الزيادة ؟ قلت: الجواب: أنه كلما نزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمعوه كفروا به فازدادوا كفرًا إلى كفرهم، أو كلما نصر الله نبيه صلى الله عليه وسلم ازدادوا حسدًا وغلًا وبغضًا، وازدادت قلوبهم ضعفًا وخورًا، وهذا زيادة في المرض109
الفائدة الثانية: معلوم أن مرض النفاق مجمع على ظهوره بالمدينة، فكيف تناوله القرآن المكي ؟
قال سبحانه وتعالى في سورة المدثر المكية: (ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ) [المدثر:٣١].
والجواب: أن الله تعالى أخبر في هذه الآية المكية عما سيقع من المنافقين، وعلى هذا نعتبر هذه الآية معجزة؛ لأنه إخبار عن غيب سيقع، وقد وقع على وفق الخبر، فيكون معجزًا، ويجوز أن يراد بالمرض: الشك؛ لأن أهل مكة كان أكثرهم شاكين، وبعضهم كانوا قاطعين بالكذب. 110 ويمكن أن يكون المراد بالمرض ما هو مترتب على عداوة الكفار للنبي صلى الله عليه وسلم من كراهية وغل وحقد وحسد وضغينة وحبٌ، لأن يغلب فكل هذه أمراض لا مانع من وجودها في القلب مع الكفر.
الفائدة الثالثة: كثيرًا ما يفسر النفاق بالشك في حين أن آية النور يقول منطوقها: (ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ) [النور:٥٠] ومعروف أن المرض مرض النفاق، فكيف نوفق بين حمل القرآن للمرض على أنه النفاق (ﮃ ﮄ ﮅ) أي: نفاق، وبين تفسير النفاق بالشك مع وجود هذه الآية الكريمة؟
يقول الألوسي: «هذا ترديد لسبب الإعراض المذكور، فمدار الاستفهام ما يفهم من الكلام كأنه قيل: أسبب إعراضهم عن المحاكمة إليه صلى الله عليه وسلم أنهم مرضى القلوب لكفرهم ونفاقهم، أم سببه أنهم ارتابوا وشكوا في أمر نبوته صلى الله عليه وسلم مع ظهور حقيقتها، أم سببه أنهم يخافون أن يحيف ويجور الله تعالى شأنه عليهم ورسوله صلى الله عليه وسلم والاستفهام إنكاري» 111.
ويقول الرازي: (ﯓ ﯔ ﯕ) إشارة إلى النفاق (ﯗ) إشارة إلى أنه حدث هذا الشك والريب بعد تقرير الإسلام في القلب112.
ففسر المرض بمرض يقوم بأعيانهم، أو المرض: الكفر، والريـب: النفاق، أو المرض: الكفر، والريب شيء حدث بعد تقرير الإسلام في القلب.
الفائدة الرابعة: ما معنى ذكر النفاق والمرض في موضع واحد ؟
قال سبحانه وتعالى: (ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ) [الأحزاب:١٢].
وقال أيضًا: (ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ) [الأحزاب:٦٠].
وظاهر العطف أن الذين في قلوبهم مرض قوم لم يكونوا منافقين، فقيل: هم قوم كان المنافقون يستميلونهم بإدخال الشبهة عليهم، وقيل: قوم كانوا ضعفاء الاعتقاد لقرب عهدهم بالإسلام.
وجوز أن يكون المراد بهم المنافقين أنفسهم، والعطف لتغاير الوصف كقولهم: «إلى الملك القرم وابن الهمام»سواء جعل العطف تفسيريًا، أو فسر مرض القلوب بالإحن والعداوات والشك مما هو غير النفاق، وعلى هذا فهم فريق واحد إلا أن لهم اعتبارات متعددة: المرض، الإرجاف، الارتياب، التردد.
وهذا نظير قوله سبحانه وتعالى: (ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ) [الأحزاب: ٣٥].
حيث ذكر أصنافًا عشرة كلهم يوجد في واحد منهم واحد بالشخص كثير بالاعتبار113.
خلاصة القول: أن المرض من أعظم آفات القلوب فتكًا بمن تمكن منه، وأكثر ما يفسر بالنفاق والشك والشهوة، وغير ذلك، ولكنه غلب على النفاق نسأل الله معافاته.
أولًا: سنة الله في أصحاب القلوب السليمة:
تناولنا فيما سبق صفات القلوب في الاستعمال القرآني من حيث السلامة والمرض والموت، ومما لا شك فيه أن القلوب ليست هي الغايات بل أصحابها بنص القرآن الكريم.
قال تعالى: (ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ) [الشعراء:٨٨-٨٩].
فالذي يحمل قلبا مخلصا لا شرك فيه ولا شبهة ينتفع به في الآخرة.
من هنا يجدر بنا أن نبين سنة الله وعادته في أصحاب القلوب على اختلاف أوصافها ليعيش المسلم بين الخوف والرجاء، الخوف من هلاك القلب وخسران صاحبه، والرجاء في مزيد من الطاعة ليفوز فوزًا عظيمًا.
وبناء على ما تقدم نستطيع استجلاء سنة الله وعادته مع أصحاب القلوب السليمة، وكونه سبحانه وتعالى يرزقهم من عطاياه الجزيل في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فيهبهم:
هذه نعم حياتية نستطيع استشفافها من خلال آيات القرآن الكريم التي تقدم ذكرها في صفات القلوب السليمة من هذا البحث.
أما في الآخرة: فكفى صاحب القلب السليم شرفًا وفضلًا أن الله أعد له الجنة، وأعد له فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، ومن كان جزاؤه الجنة فقد رضي الله عنه، وفاز فوزًا عظيمًا، قال الله سبحانه وتعالى: (ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ) [آل عمران:١٨٥].
ولما كان مآل أصحاب القلوب السليمة مفسرًا واضحًا فلا يحتاج إلى مزيد بيان وترغيب، اكتفيت بما ذكرته سابقًا مفصلًا، ولاحقًا مجملًا؛ لأسير على سنن القرآن وهديه، حيث إن الله عز وجل لم يفصل الحلال المباح ولكن فصل ما حرم علينا فحسب؛ لنتوقاه، وفي توقيه خروج من ضيق الحرام والمعصية إلى سعة الحلال الطيب.
ثانيًا: سنة الله في أصحاب القلوب المريضة:
اقتضت حكمة الله تعالى ألا يعاجل من عصاه بالنقمة، بل يمهله لعله يتوب ويتدارك أمره.
قال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ) [الأنعام:١٤٧].
وفي الصحيحين: (إن الله ليملي للظالم، حتى إذا أخذه لم يفلته). ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ) [هود:١٠٢] الآية114.
وقال الله تعالى: (ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ) [الحج:٤٨] فمن أقلع عما هو فيه من كفر أو عصيان، ورجع إلى الله وتاب إليه، تاب عليه، كما قال تعالى: (ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ) [النساء:١١٠].
ومن أمن العقاب أساء الأدب وكان جزاؤه ما يستحقه.
ومرضى القلوب إن لم يتداركوا مرضهم فإن سنة الله تعالى فيهم أن يزيد علتهم عللًا، وأمراضهم مرضًا، ويطمس على بصيرتهم بتسليط الرجس، والصرف على قلوبهم مما يفضي إلى هلاكها.
١. الرجس.
وهو عقاب يصيب به الله تعالى أصحاب القلوب المريضة ليزيدهم به مرضا على مرضهم، وقد اقترن بالقلب في قوله تعالى: (ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ) [التوبة ١٢٤-١٢٥].
في حق المنافقين نزلت هذه الآية وما بعدها، والمعنى: فإذا أنزلت سورة من سور القرآن فمن هؤلاء المنافقين من يقول استهزاءً: أيكم زادته هذه إيمانًا، فأما الذين آمنوا فزادتهم تصديقًا على ما فيهم من تصديق، وذلك بزيادة الأدلة والبراهين، وأما الذين في قلوبهم مرض النفاق والشك فزادتهم نفاقًا إلى نفاقهم وكفرًا إلى كفرهم، وماتوا على ذلك.
والقذر هنا في الاعتقاد الفاسد؛ لذا فسر الرجس في الآية بالعقائد الفاسدة الباطلة، أو الأخلاق المذمومة.
فإذا كان الأول كان المعنى: أنهم كانوا مكذبين بالسور النازلة قبل ذلك، والآن صاروا مكذبين بهذه السورة الجديدة، فقد انضم مرض عقدي إلى مرض عقدي.
وإن كان الثاني كان المراد أنهم كانوا في الحسد والعداوة واستبطان وجوه المكر والكيد، والآن ازدادت تلك الأخلاق الذميمة بسبب نزول هذه السورة الجديدة115.
وكفى بالقذر نهاية للقلوب المريضة والعياذ بالله.
٢. الصرف.
الصرف مرض يصيب القلب ليزداد ضلالًا.
وقد اقترن الصرف بالقلوب في قوله تعالى: (ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ) [التوبة:١٢٧].
والآية تخبر أن المنافقين كانوا إذا أنزلت سورة تفضح النفاق والمنافقين، وهم في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، ينظر بعضهم إلى بعض مستقرئين حال الجالسين، متحينين الفرصة للهرب والانصراف، فهم لا يطيقون سماع مذمتهم وفضيحتهم، فإذا وجدوا الأمر على ما يريدون انصرفوا وقاموا (ﮤ ﮥ ﮦ) وهذه جملة دعائية، أي: صرفها عن الهدى والإيمان(ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ) الحق ولا يتدبرون.
فالصرف هنا: دعاء عليهم بالخذلان وبصرف قلوبهم عما في قلوب أهل الإيمان من الانشراح بسبب أنهم قوم لا يفقهون116.
وهو خذلان وإضلال للمنافقين ومن على شاكلتهم من أصحاب القلوب المريضة.
ثالثًا: سنة الله في أصحاب القلوب الميتة:
سنة الله في أصحاب القلوب الميتة أنه سبحانه وتعالى يذيقها من صفات العذاب ما يزيدها عزلة واحتجابًا، حتى أصحابها فمن الإرعاب إلى الطبع إلى الختم إلى القفل و الكنان.
١. الرعب.
الرعب: أصله التقطيع، من قولهم: رعبت السنام ترعيبًا إذا قطعته مستطيلًا، كأن الخوف يقطع الفؤاد، أو يقطع السرور بضده، ورعب السيل الوادي إذا ملأه، كأن السيل قطع السلوك فيه، أو لأنه انقطع إليه من كل الجهات 117.
وقد ورد الإرعاب مقترنا بالقلب كعقوبة لأصحاب القلوب الميتة في قوله تعالى: (ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ) [الأنفال:١٢-١٣].
والمعنى: اذكر يا محمد وقت إيحاء الله للملائكة بقوله: (ﮎ ﮏ) بالعون والنصر (ﮐ ﮑ ﮒ) أي: ثبتوا المؤمنين وقووهم، سأقذف في قلوب الكافرين الخوف والفزع حتى ينهزموا، فاضربوهم على الأعناق واضربوا منهم كل بنان، وهذا في غزوة بدر الكبرى.
والمعنى عليه: سنملأ قلوب المشركين خوفًا ورعبًا، هذا الخوف والرعب يكاد يقطعهم عن الحياة لقسوته.
يقول الفخر الرازي مبينًا وجه الربط بين سابق هذه الآية واللاحق: «وهذا من النعم الجليلة؛ وذلك لأن أمير النفس هو القلب، فلما بين الله سبحانه وتعالى أنه ربط قلوب المؤمنين بمعنى أنه قواها وأزال الخوف عنها، ذكر أنه ألقى الرعب والخوف في قلوب الكافرين، فكان ذلك من أعظم نعم الله تعالى على المؤمنين118.
ومن فضل الله سبحانه وتعالى علينا جعله سبحانه الرعب في قلب كل من لا يسلم وجهه لله.
يقول الفخر: «وظاهر قوله: (ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ) [آل عمران:١٥١].
يقتضي وقوع الرعب في جميع الكفار، فذهب العلماء إلى إجراء هذا العموم على ظاهره؛ لأنه لا أحد يخالف دين الإسلام إلا وفي قلبه ضرب من الرعب من المسلمين، إما في الحرب وإما عند المحاجة»119.
ومن الملاحظ أن الإلقاء في آية آل عمران (ﭦ) وآية الأنفال (ﮔ) مفسر بالقذف في سورة الأحزاب، قال تعالى في معرض حديثه سبحانه عن غزوة الأحزاب : (ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ) [الأحزاب:٢٥-٢٦].
وأصل القذف: الرمي بقوة، أو من بعد، وعليه يكون المعنى: وأنزل الله الرعب في قلوب بني قريظة إنزالًا شديدًا كأنه قد قذف الحجارة فيها، وهذا ما حدث فعلًا عندما قذف الله الرعب في قلوب اليهود حتى أسلموا أنفسهم للقتل، وأهليهم وأولادهم للأسر حسبما نطق القرآن العزيز: (ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ) [الأحزاب:٢٦].
وما في سورة الأحزاب هو ما ازداد وضوحًا وبيانًا في سورة الحشر: (ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ) [الحشر:٢].
وقد كان هذا الإرعاب لليهود بقتل سيدهم كعب بن الأشرف، وكان مقتله في ربيع الأول من السنة الثالثة، وكانت غزوة بني النضير في ربيع الأول من السنة الرابعة، وسبب قتله أنه لما رأى ما وقع في غزوة بدر من عز الإسلام والمسلمين ازداد اللعين غيظًا وحسدًا، وكان شاعرًا فصار يهجو الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين بشعره، وذهب إلى مكة محرضًا قريشًا على حرب المسلمين وحزبهم، فجاؤوا في وقعة أحد، فلما ظهر أمره للنبي صلى الله عليه وسلم أرسل له محمد بن مسلمة ومعه أربعة، وكلهم من الأوس، فقتلوه في حصنه غيلة وخديعة، فألقى الله الرعب في قلوب بني النضير، وخافوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم خوفًا شديدًا، فغزاهم صلى الله عليه وسلم وأمكنه الله منهم.
وكان الإشراك سببًا لإلقاء الرعب وقذفه في قلوبهم، أليس الشرك من موجبات الخذلان، كما أن الإيمان من موجبات التوفيق والنصر ؟! 120.
والخلاصة أن الرعب يقذفه الله تعالى غالبا في قلوب أصحاب القلوب الميتة جزاءًا وفاقًا.
٢. الحسرة.
من سنن الله في أصحاب القلوب الميتة أن يجعل الحسرة والندامة صفة لهم تلازمهم، وذلك حين لا ينفع التحسر أو الندم، والحسرة: الغم على ما فاته، والندم عليه كأنه انحسر عنه الجهل الذي حمله على ما ارتكبه، أو انحسر قواه من فرط غم، أو أدركه إعياء من تدارك ما فرط منه 121.
وقد وردت الحسرة مقترنة بالقلب في قوله تعالى: (ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺﯻ ﯼ ﯽ ﯾﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ) [آل عمران:١٥٦].
معنى الآية: لما كان من طبيعة المنافقين تعيير المؤمنين على جهادهم مع الكفار بقولهم: (ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ) ثم إنه لما ظهر عند بعض المؤمنين فتور وفشل في الجهاد حتى وقع يوم أحد ما وقع، وعفا الله ـ بفضله ـ عنهم، ذكر في هذه الآية ما يدل على النهي عن أن يقول أحد من المؤمنين مثل مقالتهم، فقال: يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا لمن يريد الخروج إلى الجهاد: لو لم تخرجوا لما متم، وما قتلتم، فإن الله هو المحي والمميت، فمن قدر له البقاء لم يقتل في الجهاد، ومن قدر له الموت لم يبق، وإن لم يجاهد، وهو المراد من قوله: (ﯼ ﯽ ﯾ) وأيضًا الذي قتل في الجهاد حتى يستوجب الثواب العظيم كان ذلك خيرًا له من أن يموت من غير فائدة.
وهو المراد من قوله: (ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ) [آل عمران:١٥٧]122.
وذكر القلوب مع أن الحسرة لا تكون إلا فيها لإرادة التمكن والإيذان بعدم الزوال123.
أو الاهتمام على فائت لم يقدر بلوغه قال الله سبحانه وتعالى: (ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ) [الزمر: ٥٦].
وإسناد الفعل إلى الله تعالى (ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ) له نكتة، وهي كما يقول جار الله الزمخشري رحمه الله: «فإن قلتَ: ما معنى إسناد الفعل إلى الله تعالى؟
قلتُ: معناه: أن الله عز وجل عند اعتقادهم ذلك المعتقد الفاسد يضع الغم والحسرة في قلوبهم ويضيق صدورهم عقوبة، فاعتقادهم فعلتهم وما يكون عنده من الغم والحسرة وضيق الصدور فعل الله عز وجل كقوله: (ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ) [الأنعام:١٢٥].
ويجوز أن يكون ذلك إشارة إلى ما دل عليه النهي، أي: «لا تكونوا مثلهم ليجعل الله انتفاء كونكم مثلهم حسرة في قلوبهم؛ لأن مخالفتهم فيما يقولون ويعتقدون ومضادتهم مما يغمهم ويغيظهم» 124.
فالحسرة والندامة عقوبة لازمة لمن مات قلبه.
٣. الشد.
الشد على القلب عقاب لمن مرض قلبه حتى أجهز عليه فمات.
ومعنى الشد على القلوب: الاستيثاق منها حتى لا يدخلها الإيمان125.
وقد جاء الشد مقرونًا بالقلب في الاستعمال القرآن في قوله تعالى: (ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ) [يونس:٨٨-٨٩].
والمعنى: قال موسى يا ربنا إنك أعطيت فرعون وكبراء قومه زينة من متاع الدنيا وأنواعًا كثيرة من المال.
(ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ): اللام: للعاقبة، أي: آتيتهم تلك الأموال الكثيرة لتكون عاقبة أمرهم إضلال الناس عن دينك، ومنعهم عن طاعتك وتوحيدك، ربنا أهلك أموالهم وأزلها وبددها.
والطمس: إزالة أثر الشيء بالمحو.
(ﯽ ﯾ ﯿ) أي: اطبع عليها وقسها حتى لا تنشرح للإيمان فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم، وهذا دعاء عليهم بلفظ النفي، أي: اللهم فلا يؤمنوا حتى يذوقوا العذاب المؤلم، ويوقنوا به حيث لا ينفعهم ذلك، وإنما دعا عليهم موسى لطغيانهم ولعلمه بالوحي أنهم لن يؤمنوا.
قال الله سبحانه وتعالى: (ﭒ ﭓ ﭔ) على فرعون وأشراف قومه فكان الغرق لفرعون وقومه، وثبت الله موسى وأخاه هارون126.
قال الجمل: (ﯽ ﯾ ﯿ): أي: اربط على قلوبهم واطبع عليها وقسها حتى لا تلين ولا تنشرح للإيمان127.
وقال ابن عباس: (ﯽ ﯾ ﯿ) امنعهم الإيمان.
وقيل: اطبع عليها حتى لا تنشرح للإيمان128.
وكل هذه المعاني مختلفة اختلاف تنوع لا اختلاف تعارض بينها.
٤. الطبع.
من سنة الله في أصحاب القلوب الميتة أنه سبحانه يطبع عليها.
والطبع: يطلق على تأثير الشيء بنقش الطابع، وعلى الأثر الحاصل عن النقش، يقول الراغب: الطبع: أن تصور الشيء بصورة ما، كطبع السكة وطبع الدراهم، وهو أعم من الختم وأخص من النقش، والأكثرون على تفسيره بالختم مرادًا به المنع.
وجاء الطبع بمعنى: الدنس، ومنه طبع السيف لصدئه ودنسه129.
وقد سوى بعض العلماء بين الطبع والختم والرين كما يقول الفخر: «الطبع، والختم، والرين، والكنان، والغشاوة، والصد، والمنع، واحد» 130.
قلت: لعله أراد التوحد من حيث انتظام هذه الأوصاف تحت شيء واحد، ألا وهو العقاب لأصحاب القلوب الميتة، أما من حيث دلالات الألفاظ وما تحمله، فمن المقطوع به أن كل لفظ له دلالته وظلاله التي اختص بها.
وقد ترتب على الطبع عدة آفات، منها:
وبالتأمل وجدنا أن عدم السمع وعدم الفقه، وعدم العلم يعني: اتباع الهوى والغفلة التامة، والاعتداء على حدود الله، وذلك كله مردود إلى الطبع.
قال الله سبحانه وتعالى: (ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ) [محمد:١٦].
وقال سبحانه وتعالى في الغافلين: (ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ) [النحل: ١٠٨].
وقال سبحانه وتعالى في المعتدين: (ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ) [يونس:٧٤].
وكل ذلك كائن عند الكافرين الذين استجمعوا كل صفات المهانة والقبح، فقال عز من قائل: (ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ) [الأعراف:١٠١].
وقد ورد الطبع في الاستعمال القرآني في آيات كثيرة منها قوله تعالى: (ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ) [الأعراف:١٠٠-١٠١].
يخاطب الله سبحانه وتعالى كفار مكة وكل من يصلح له هذا الخطاب محذرًا بقوله: (ﮄ ﮅ) أي: أولم يتضح ويتبين للذين يخلفون الأرض من بعد هلاك أهلها الذين عمروها قبلهم أن لو أردنا إهلاكهم لأهلكناهم بسبب ذنوبهم كما أهلكنا من كان قبلهم، ونطبع: أي نختم (ﮓ ﮔ) فلا يقبلون موعظة ولا تذكيرًا لتعطلها.
تلك القرى نقص عليك يا محمد صلى الله عليه وسلم من أخبارها وما حصل لأهلها من صنوف النكال والعذاب ليعتبر بذلك من يسمع، ولقد جاءتهم رسلهم بالحجج البينات (ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ) أي: ما كانوا ليؤمنوا بما جاءتهم به الرسل؛ لتكذيبهم إياهم قبل مجيئهم بالمعجزات، وبعد مجيئهم بها، فحالهم واحد في العتو والضلال.
(ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ) أي: مثل ذلك الطبع الشديد المحكم نطبع على قلوب الكافرين، فلا تكاد تؤثر فيهم النذر والآيات.
أعاذنا الله بفضله وكرمه من الطبع ومن كل ما يقرب إليه من قول أو عمل.
[انظر: الطبع على القلوب: أسباب الطبع - نتائج الطبع على القلوب]
٥. الختم.
من سنة الله تعالى في أصحاب القلوب الميتة«الختم عليها».
تناول المفسر القرطبي الختم تناولا لغويا فقال: «مصدر ختمت الشيء ختمًا فهو مختوم، ومختم» شدد للمبالغة «ومعناه: التغطية على الشيء بطابع ونحوه للاستيثاق منه حتى لا يدخله شيء، ومنه: ختم الكتاب والباب، وما يشبه ذلك حتى لا يوصل إلى ما فيه، ولا يوضع فيه غير ما فيه، والختم يكون محسوسًا، ويكون معنويًا.
وكما يكون الختم على القلوب الذي يعني: عدم الوعي عن الحق سبحانه مفهوم مخاطباته والفكر في آياته، يكون على السمع: فيفسر بعدم السماع للحق، ويكون على الأبصار: ويفسر بعدم هدايتها للنظر في مخلوقات الله وعجائب مصنوعاته 131.
وسبب الختم استمراء المعاصي والولوغ فيها واستحسانها.
يقول الراغب: أجرى الله العادة أن الإنسان إذا تناهى في اعتقاد باطل وارتكاب محظور فلا يكون منه تلفت بوجه إلى الحق يورثه ذلك هيئة تمرنه على استحسان المعاصي، وكأنما يختم بذلك على قلبه، وعلى ذلك قوله سبحانه وتعالى: (ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ) [النحل:١٠٨].
إطلاقات الختم:
يطلق الختم على: المنع، والطبع، والحفظ، وبلوغ الآخر.
وقد فسر الختم في آية الأنعام، في قوله تعالى: (ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ) [الأنعام:٤٦].
بالطبع، فقال: طبع على قلوبهم فلم يعقلوا الهدى، أو أزال عقولكم حتى تصيروا كالمجانين، أو المراد بالختم الإماتة، أي: يميت قلوبكم، وكله في معنى الطبع133.
وقد وردت صفة الختم في آيات متعددة من القرآن الكريم مقترنة بالقلب، من ذلك قوله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢﭣ ﭤ ﭥ ﭦﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ) [البقرة:٦-٧].
والمعنى: إن الذين جحدوا بآيات الله سبحانه وكذبوا برسالة محمد صلى الله عليه وسلم يتساوى عندهم تحذيرك يا محمد إياهم من عذاب الله وتخويفك وعدم تحذيرك، فهم لا يصدقون بما جئتهم به، فلا تطمع في إيمانهم، ولا تذهب نفسك عليهم حسرات، وقد جاء هذا على سبيل التسلية للنبي صلى الله عليه وسلم عن تكذيب قومه له.
ولما حكم سبحانه وتعالى عليهم بأنهم لا يؤمنون ذكر عقيبه ما يجري مجرى العلة الموجبة له، فقال سبحانه وتعالى: (ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ) أي: طبع على قلوبهم فلا يدخلها نور (ﭡ ﭢﭣ ﭤ ﭥ ﭦ) وغطاء فلا يبصرون الهدى ولا يسمعون ولا يفقهون؛ لذلك يرون الحق فلا يتبعونه، ويسمعونه فلا يعونه، ولهم عذاب شديد لا ينقطع في الآخرة.
وقد شنع الإمام القرطبي على الفرق الضالة التي حادت عن الحق منتصرًا لأهل السنة والجماعة فيقول: «في هذه الآية أول دليل على أن الله سبحانه وتعالى خالق الهدى والضلال والكفر والإيمان، فاعتبروا أيها السامعون، وتعجبوا أيها المفكرون من عقول القدرية القائلين بخلق إيمانهم وهداهم، فإن الختم هو الطبع، فمن أين لهم بالإيمان ولو جهدوا؟! وقد طبع على قلوبهم وعلى سمعهم وجعل على أبصارهم غشاوة. فمتى يهتدون؟! أو من يهديهم من بعد الله إذا أضلهم وأصمهم وأعمى أبصارهم؟! (ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ) [الرعد: ٣٣].
وكان فعل الله ذلك عدلًا فيمن أضله وخذله، إذ لم يمنعه حقًا وجب له فتزول صفة العدل، وإنما منعهم ما كان له أن يتفضل به عليهم لا ما وجب لهم؛ ولأن الأمة مجمعة على أن الله سبحانه وتعالى قد وصف نفسه بالختم والطبع على قلوب الكافرين مجازاة لكفرهم، كما قال تعالى: (ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ)[النساء:١٥٥]»134.
وبناءً على ما تقدم نستطيع الجزم بأن الختم كما هو للحفظ والمنع يكون للطبع؛ عقوبة لصاحبه الذي أهمل قلبه حتى مات ثم استمرأ ذلك.
أعاذنا الله من الختم وما يقرب إليه من قول وعمل. آمين.
٦. الكنان.
من سنن الله سبحانه وتعالى في أصحاب القلوب الميتة أنه يضع الأغطية والأغلفة على هذه القلوب فلا تعي شيئًا من الخير البتة.
و الأكنة: الأغطية، جمع كنان، مثل: الأسنة والسنان، يقال كننت الشيء في كنه إذا صنته فيه، وأكننت الشيء أخفيته، والكنانة: معروفة جعبة السهام، والكنان للقلب كالجنة للنبل135.
وقد ورد الكنان مقترنا بالقلب في قوله تعالى: (ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ) [الإسراء:٤٦].
المعنى: وجعلنا على قلوب الكافرين أغطية وأغلفة؛ لئلا يفهموا القرآن مجازاة لهم على كفرهم، وجعلنا في آذانهم صمما، وإذا وحدت الله وأنت تتلو القرآن فر المشركون من ذلك هربًا من استماع التوحيد.
فكأن الكنان الذي كان على قلوبهم هو في الحقيقة كنان العناد والمكابرة مع تهيؤ نفوسهم للإسلام، وإلا لو غطى الله عليها بغطاء الطبع أو الختم فقد لا يؤمنون البتة ويموتون على الكفر كما حدث لغير من آمن في الوارد ذكرهم في هذا السبب.
وأمرهم هنا -كما قال بعض المحققين- تمثيلات معربة عن كمال جهلهم بشؤون النبي صلى الله عليه وسلم وفرط نبو قلوبهم عن فهم القرآن الكريم ومج أسماعهم له جيء بها بيانًا لعدم فقههم فصيح المقال136.
والأكنة التي هي الأغطية هي هي الأغلفة التي ورد لها ذكر في موضعين من القرآن، منهما قوله سبحانه وتعالى: (ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ) [البقرة: ٨٨].
والغلف: جمع أغلف، وهو الشيء المستور المغشى، قالها اليهود وقصدوا أننا جبلت قلوبنا على ذلك فلا يتوصل إليها بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، فقلوبنا لا تفقهه، مستعار من الأغلف، وهو الذي لم يختن137.
قال مجاهد: غلفٌ: عليها غشاوة. وقال عكرمة: عليها طابع138.
وقد يكون قول اليهود تعاليًا على النبي صلى الله عليه وسلم؛ ليظهروا أنهم ليسوا في حاجة إلى علمه صلى الله عليه وسلم، ويؤيد هذا المعنى قراءة (ﯨ) بضم اللام139.
قال ابن عباس رضي الله عنه: أي: قلوبنا ممتلئة علمًا لا تحتاج إلى علم محمد صلى الله عليه وسلم ولا غيره140.
وهذه الكلمة (ﯨ) كقول المشركين: (ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ) [فصلت: ٥].
قصد بنو إسرائيل إقناط النبي صلى الله عليه وسلم عن الإجابة، وقطع طمعه عنهم بالكلية.
(ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ) لما قالوه، وتكذيب لهم فيما زعموه.
والمعنى: أنها خلقت على فطرة التمكن من النظر الصحيح الموصل إلى الحق، لكن الله سبحانه وتعالى أبعدهم وأبطل استعدادهم الخلقي للنظر الصحيح بسبب اعتقاداتهم الفاسدة وجهالاتهم الباطلة الراسخة في قلوبهم141، فالأكنة والأغلفة جعلها الله عز وجل لمن مات قلبه، كما رأينا في المشركين واليهود.
٧. القفل.
جعل الله القفل واليبس والصلابة عقوبة لأصحاب القلوب الميتة بالكفر
وأصل القفل: اليبس والصلابة، يقال لما يبس من الشجر: القفل، وأقفله الصوم: أي: أيبسه.
وفي الاستعمال القرآني ورد القفل مقترنا بالقلب في قوله تعالى: (ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ) [محمد:٢٤].
المعنى: أفلا يتفهمون القرآن فيعلمون ما أعد الله للذين لم يتولوا عن الإسلام أم على قلوب أقفالها، أي: بل على قلوب أقفال أقفلها الله عز وجل عليهم فهم لا يعقلون.
فالأقفال هنا: إشارة إلى ارتتاج القلب وخلوه عن الإيمان، أي: لا يدخل قلوبهم ولا يخرج منها الكفر؛ لأن الله طبع على قلوبهم.
وقال: (ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ) بالتنكير؛ لتهويل حالها وتفظيع شأنها وأمرها في القساوة والجهالة، كأنه قيل: على قلوب منكرةٍ لا يعرف حالها، ولا يقادر قدرها في القساوة.
ولأنه لو قال: «على قلوبهم» لم يدخل قلب غيرهم في هذه الجملة.
والمراد: أم على قلوب هؤلاء، وقلوب من كانوا بهذه الصفة أقفالها142.
وإضافة الأقفال إليها (ﮗ) للدلالة على أنها أقفال مخصوصة بها مناسبة لها غير مجانسة لسائر الأقفال المعهودة، وهي أقفال الكفر والعناد143.
موضوعات ذات صلة: |
التدبر، التفكر، الحياة، الذكر، الطبع على العقل، القلوب، الموت، الوحي |
1 مقاييس اللغة ٥/١٧.
2 انظر: لسان العرب، ابن منظور ٥/٣٧١٣.
3 التعريفات ص١٧٨.
4 انظر: نزهة الأعين النواظر، ابن الجوزي: ص٤٨٢.
5 المفردات: ص٦٨٢.
6 انظر: المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، محمد فؤاد عبد الباقي ص٥٤٩- ٥٥١.
7 انظر: نزهة الأعين النواظر، ابن الجوزي ص ٤٨٣، الوجوه والنظائر، الدامغاني ص٣٨٥.
8 انظر: مقاييس اللغة، ابن فارس ٤/٥٦.
9 المفردات ص٥٧٧.
10 انظر: أيسر التفاسير، الجزائري ١/٥٠.
11 انظر: الكليات، أبو البقاء الكفوي ص٦١٩.
12 انظر: لسان العرب، ابن منظور ٣/٣٢٨.
13 المفردات ص٦٤٦.
14 انظر: الكليات، أبو البقاء الكفوي ص٦٩٦.
15 الفروق اللغوية، العسكري ص٤٣٣.
16 انظر: الصحاح، الجوهري ٢/٧٠٩.
17 التوقيف على مهمات التعاريف ص٢١٣.
18 المفردات، الراغب الأصفهاني ص٣٠٧.
19 الجامع لأحكام القرآن ٣/٣٠٠.
20 إحياء علوم الدين ٣/١٢.
قال بعض السلف: دواء القلب في خمسة أشياء: قراءة القرآن بالتدبر، وخلاء البطن، وقيام الليل، والتضرع عند السحر، ومجالسة الصالحين.
انظر: القلوب، البيانوني ص١٤١.
21 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٤/٧٨.
22 جامع البيان، ٩/٢٥٥.
23 انظر: أنوار التنزيل، البيضاوي ٥/٦٥٧.
24 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الشروط، باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب، ٥/٢٦٤.
25 انظر: المفرادت، الراغب الأصفهاني ص ٢٣٧.
26 انظر: الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ١٦/٢٦٤.
27 في ظلال القرآن، سيد قطب ٦/٣٤٨٩.
28 انظر: حاشية الشهاب ٩/٩٩.
29 الكشاف، الزمخشري ٤/٦٤.
30 انظر: وحي القلم ١/١٩٦،١٩٧.
31 انظر: الوجوه والنظائر، الدامغاني ١/٣١٦، بصائر ذوي التمييز، الفيروزآبادي ٢/٥٤٢.
32 حاشية الشهاب ٦/٥١٧.
33 روح المعاني، الألوسي: ١٧/١٧.
34 انظر: الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ١٢/٥٩.
35 الوجوه والنظائر، الدامغاني ١/٣٢٦.
36 بصائر ذوي التمييز، الفيروزآبادي ٥/٢٦١.
37 انظر: المفردات، الراغب الأصفهاني ص٥٣٠.
38 انظر: بصائر ذوي التمييز، الفيروزآبادي ٥/٢٥٧، نزهة الأعين النواظر، ابن الجوزي ص٢٢٠.
39 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب البر والصلة، باب تحريم ظلم المسلم وخذله، ٤/١٩٨٦، رقم ٢٥٦٤.
40 روح المعاني، الألوسي ١٧/١٥١.
41 المفردات، الراغب الأصفهاني ص ٨٥٥.
42 حاشية زاده على البيضاوي ٢/٢٩٥.
43 انظر: جامع البيان، الطبري ٩/٢٣٨.
44 انظر: تفسير القرآن، العظيم، ابن كثير ٢/٢٩٧، الدر المنثور، السيوطي ٣/١٧٦.
45 مفاتيح الغيب، الرازي ١٥/١٢٢.
46 أخرجه الترمذي في سننه، أبواب التفسير، باب ومن سورة المؤمنون، ٥/٣٠٥، رقم ٣٠٩٩.
وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، ١/٣٠٤، رقم١٦٢.
47 مفاتيح الغيب، الرازي ٢٣ /١٠٧-١٠٨.
48 انظر: الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٧/٣٦٦، ١٢/٥٩.
49 انظر: المفردات، الراغب الأصفهاني ص٥٠٨.
50 انظر: الكشاف، الزمخشري ٤/١١.
51 مفاتيح الغيب، الرازي ١٤/١٧٧.
52 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ١٧/٢١.
53 انظر: جامع البيان، الطبري١٠/٦٣.
54 انظر: الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ١٤/٢٢٧، مفاتيح الغيب، الرازي ٢٦/٢٢٦.
55 إغاثة اللهفان، ابن القيم ١/٥٥.
56 إرشاد العقل السليم، أبو السعود ٢/٥٨.
57 انظر: إغاثة اللهفان، ابن القيم ص٦٣-٦٤.
58 المصدر السابق ص٦٢.
59 المفردات، الراغب الأصفهاني ص٥٣٨.
60 مفاتيح الغيب، الرازي ١٥/٢٦.
61 انظر: جامع البيان، الطبري ١٤/١٥٧.
62 المفردات، الراغب الأصفهاني ص ٦٧١.
63 روح المعاني، الألوسي ٢٧/١٨١.
64 بصائر ذوي التمييز، الفيروزآبادي ٤/٢٧٠.
65 روح المعاني ١٧/١٧٤.
66 مفاتيح الغيب، الرازي ٢٦/٢٦٦-٢٦٧.
67 حاشية زاده على البيضاوي ١/٧٥.
68 مفاتيح الغيب، الرازي ١٦/٢٠٢.
69 روح المعاني، الألوسي ١١/٢٤.
70 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٨/٢٦٦.
71 روح المعاني، الألوسي ١١/٢٤.
72 انظر: حاشية الجمل ٣/٣٢٥.
73 مفاتيح الغيب، الرازي ١٦/٨٠.
74 مقاييس اللغة، ابن فارس ٤/٣٧٥.
75 الجامع لأحكام القرآن ٩/٢٢٢]
76 المفردات، الراغب الأصفهاني ص ٣٦٣.
77 مفاتيح الغيب، الرازي ٢٩/٢٨٩.
78 أخرجه أحمد في مسنده، ٣/١٦٦، رقم ٢٥٦.
وصححه الألباني في السلسة الصحيحة، رقم ٢٥.
79 المفردات، الراغب الأصفهاني ص ٣٦٤.
80 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، باب (إنا أرسلناك شاهدًا ومبشرًا ونذيرًا)، الفتح ٨/٤٧٥.
81 مفاتيح الغيب ٩/٦٦.
82 انظر المفردات، الراغب الأصفهاني ص ٧٤٨.
83 الكشاف، الزمخشري ٢/٥٦٢.
84 المفردات، الراغب الأصفهاني ص٢١٧.
85 .انظر: مفاتيح الغيب، الرازي ٧/١٩٣.
86 روح المعاني، الألوسي ٣/٩٠.
87 انظر: الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٤/١٣.
والمقصود بالآية في كلام القرطبي، آل عمران رقم ٨.
88 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٢٨/٨٥.
89 المصدر السابق ١٨/٨٢.
90 مفاتيح الغيب، الرازي ٢٩/٣١٣.
91 المصدر السابق ٧/١٩٦.
92 انظر: المفردات، الراغب الأصفهاني ص ٣٤٨.
93 مقاييس اللغة، ابن فارس ٤/١٣٣.
94 كانت امرأة عربية حادة البصر تنظر إلى مسافة بعيدة على غير قياس، فكانت مضرب المثل في قوة الإبصار.
انظر: خزانة الأدب ٢/٣١٩.
95 إحياء علوم الدين ٣/١٢.
96 روح المعاني، الألوسي ١٧/١٦٧.
97 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ١٠/٢٩٨.
98 انظر: الكشاف، الزمخشري ٣/١٧.
99 انظر: مفاتيح الغيب، الرازي ٣١/٩٥-٩٦.
100 أخرجه الترمذي في سننه، أبواب التفسير، باب ومن سورة ويل للمطففين، ٥/٤٣٤، رقم ٣٣٣٤.
قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
وصححه الألباني في صحيح الجامع، ١/٣٤٢، رقم ١٦٧٠.
101 انظر: روح المعاني الألوسي ٣٠/٧٢.
102 انظر: صفوة التفاسير، الصابوني ١/٧٩.
103 روح المعاني، الألوسي ١/٣٢٦.
104 انظر: المفردات، الراغب الأصفهاني ص٧١٤.
105 المصدر السابق ص٨١٩.
106 روح المعاني، الألوسي ١/١٤٩.
107 أنوار التنزيل ١/٤٦١.
108 روح المعاني ١/١٤٩.
109 الكشاف، الزمخشري ١/١٧٥.
110 مفاتيح الغيب، الرازي ٣/٢٠٧.
111 روح المعاني، الألوسي ١٨/١٩٦.
112 مفاتيح الغيب ٢٤/٢١.
113 انظر: الكشاف الزمخشري ١/١٧٦، روح المعاني الألوسي ٢١/١٥٨.
114 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، باب قوله: (وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمةٌ)، رقم ٤٣١٨، ومسلم في صحيحه، كتاب القدر، باب تحريم الظلم، رقم ٢٥٨٣.
115 مفاتيح الغيب، الرازي ١٦/٢٣٧.
116 الكشاف، الزمخشري ٢/٢٢٣.
117 انظر: المفردات، الراغب الأصفهاني ص١٩٧، الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٤/٢٣٢.
118 مفاتيح الغيب، الرازي ١٥/١٣٩.
119 المصدر السابق ٩/٣٣.
120 انظر: روح المعاني، الألوسي ٢٨/٤١.
121 المفردات، الراغب الأصفهاني ص ٢٣٥.
122 انظر: مفاتيح الغيب، الرازي ٩/٥٩.
123 روح المعاني، الألوسي ٤/١٠١.
124 الكشاف، الزمخشري ١/٤٧٤.
125 المصدر السابق ٢/٢٥٠.
126 صفوة التفاسير، الصابوني ١/٥٩٥.
127 الفتوحات ٣/٤٠٤-٤٠٥.
128 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٨/٣٧٤.
129 المفردات، الراغب الأصفهاني ص٣٠١.
130 مفاتيح الغيب، الرازي ٢/٥٧.
131 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ١/١٨٦.
132 انظر: الوجوه والنظائر ١/٣٢٠.
133 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ١٢/٢٣٩.
134 المصدر السابق ١/١٨٦.
135 انظر: المصدر السابق ١٥/٣٣٩، ٦/٤٠٤.
136 روح المعاني، الألوسي ١٥/٨٧.
137 انظر: الكشاف، الزمخشري ١/٢٩٥.
138 انظر: الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٢/٢٥.
139 قراءة اللؤلؤي عن أبي عمرو.
انظر: شواذ القرآن ص١٥.
140 انظر: الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٢/٢٥.
141 روح المعاني، الألوسي ١/٣١٨.
142 انظر: الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ١٦/٢٤٦-٢٤٧.
143 انظر: الكشاف، الزمخشري ٤/٥٣٦، مفاتيح الغيب، الرازي ٢٨/٦٦.