عناصر الموضوع

مفهوم القرآن

القرآن الكريم في الاستعمال القرآني

الألفاظ ذات الصلة

القرآن الكريم آية وهداية

حفظ الله للقرآن

القرآن حجة الله على الناس

حديث القرآن عن مواقف الناس منه

الأدب مع القرآن

أثر القرآن على المكلفين والجمادات

القرآن الكريم

مفهوم القرآن

أولًا: المعنى اللغوي:

القاف والراء والياء أصل صحيح يدل على الشيء المجموع، ومن هذا المعنى تطلق كلمة قرءٍ على الحيض وعلى الطهر، فهي من الأضداد، يقال: قرأت المرأة حيضةً أو حيضتين.

والقُرْءُ انقضاء الحيض، على قول البعض، وقال بعضهم: ما بين الحيضتين، والقارئ: الوقت، تقول: أَقْرَأَتِ الرِّيحُ: إذا دخلت في وقتها.

واستقرأ الجمل الناقة: إذا تاركها؛ لينظر ألقحت أم لا، وقرأت الشيء قرآنًا: جمعته، وضممت بعضه على بعض، وقرأت الكتاب قراءةً وقرآنًا، ومنه سمي القرآن؛ لأنه يجمع السور فيضمها1.

ثانيًا: المعنى الاصطلاحي:

حاصل ما تم دراسته من تعريفات مصطلح القرآن الكريم هو أنه: كلام الله تعالى القديم، المنزل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، بواسطة سيدنا جبريل عليه السلام، وهو غير مخلوق؛ إذ أنه جزء من صفة الذات العلية، وهو معجزٌ ببيانه، متعبدٌ بتلاوته، منقولٌ إلينا بالتواتر، مقروءٌ في المصاحف، مبدوء بسورة الفاتحة ومنتهٍ بسورة الناس2.

وهذا التعريف شرحه على النحو الآتي:

(كلام الله تعالى القديم): خرج منه أي كلام غير كلام الله تعالى من قول النبي صلى الله عليه وسلم، أو غير ذلك، وهو قديم؛ إذ إنه أصيل من عند الله تعالى لا يعتريه نقص ولا مشكلة.

(المنزل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم): خرج منه أية شبهة تقول بأنه أنزل جملة واحدة، أو أنه مخلوق؛ لأنه نزل من الله تعالى إلى قلب النبي محمد صلى الله عليه وسلم.

(بواسطة سيدنا جبريل عليه السلام): ووساطة سيدنا جبريل عليه السلام تعني أن الكلمات القرآنية نزلت بأمر الله تعالى على لسان سيدنا جبريل عليه السلام، كما علمه الله تعالى.

(وهو غير مخلوق؛ إذ أنه جزء من صفة الذات العلية): بيان سبب أنه غير مخلوق، وهو أن الكلام القرآني جزء من صفة الخالق، وليس منفكًّا عنه، وبالتالي فإن ما كان جزءًا من الخالق ليس مخلوقًا.

(وهو معجز ببيانه، متحدىً به، متعبدٌ بتلاوته): خرج منه الحديث القدسي، أو أي قولٍ لله تعالى غير القرآن؛ لأن القرآن -وحده- هو المعجز والمتحدى به، وبالذات في وجهه الأصيل وهو البيان، والقرآن -وحده- دون غيره يتعبد به في التلاوة.

(منقول إلينا بالتواتر): إن القرآن -وحده- دون غيره، هو الذي لا يقبل منه أية كلمة منه إلا إذا سمعتها الأمة عبر تواتر أجيال السند؛ إذ لا يكفي خبر الآحاد في النقل، ولو بوجه من وجوه أحكامه.

(مقروء في المصاحف): من هذه الفقرة يتبين أن هناك فرقًا بين القرآن الذي هو كلام الله تعالى، وبين المصحف الذي هو الأوراق المكتوب فيها كلام الله تعالى، أي: القرآن، وعلى هذا فإنه لا يجوز أن يجمع القرآن؛ لأنه واحد، وفي المقابل فإنه يجوز أن يجمع المصحف؛ لأنه أوراق بداخلها القرآن.

(مبدوءٌ بسورة الفاتحة، ومنتهٍ بسورة الناس): وفي هذا إشارة إلى أن القرآن الكريم يتكون من (١١٤) سورة، تبدأ من سورة الفاتحة، وتنتهي إلى سورة الناس، وترتيب السور القرآنية على الراجح توقيفي، أما ترتيب الآيات فإنه بالإجماع توقيفي.

ويظهر أن معنى الجمع والضم في اللغة يتناسب مع ما سمي به القرآن؛ لأنه يجمع السور فيضمها، وهذه السور هي كلام الله عز وجل، بالتالي فالمعنى الاصطلاحي خص بأحد المعاني اللغوية للقرآن.

القرآن الكريم في الاستعمال القرآني

وردت مادة (قرأ) في القرآن الكريم (٨٨)مرة، يخص موضوع البحث منها (٦٨) مرة3.

والصيغ التي وردت هي:

الصيغة

عدد المرات

المثال

الاسم

٦٨

( ) [البقرة:١٨٥]

وجاء القرآن في الاستعمال القرآني بمعنى: الكتاب المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم 4.

الألفاظ ذات الصلة

الكتاب

الكتاب لغةً:

الحكم، ومنه قوله: كتاب الله، أي: حكم الله، وكتاب الله: القرآن5.

الكتاب اصطلاحًا:

«الحجة الثابتة من جهة الله تعالى»6، وقد وردت في القرآن بمعنى التوراة واللوح المحفوظ، والقرآن.

الصلة بين الكتاب والقرآن:

الكتاب هو كلمة تشمل القرآن الكريم وغيره، أما القرآن فهو تلك المعجزة الخالدة، أما إذا عرف الكتاب بـ(الـ) التعريف، فإنها تكون معهودةً على القرآن الكريم.

الكلام:

الكلام لغةً:

اسم جنسٍ يقع على القليل والكثير من الحديث7.

الكلام اصطلاحًا:

«إظهار ما في الباطن على الظاهر لمن يشهد ذلك بنحو من أنحاء الإظهار» 8.

الصلة بين الكلام والقرآن:

الكلام الذي ورد في الاصطلاح لا ينطبق على القرآن؛ لأن القرآن ليس مخلوقًا مع أنه كلام؛ ولذلك فإن كلام الله تعالى ليس ككلام البشر، فهو جزء من صفة الذات العلية، كما أن القرآن الكريم هو محل التدبر والاتعاظ، ولا يكون هذا في كلام البشر.

الذكر:

الذكر لغة:

مصدر ذكر الشيء يذكره ذِكرًا وذَكرًا، وأصل الذكر في اللغة التنبيه على الشيء، ومن ذكرك شيئا فقد نبهك عليه، وإذا ذَكَّرته فقد نبهته عليه9.

الذكر اصطلاحًا:

قال ابن علان: «أصل وضع الذكر هو ما تعبدنا الشارع بلفظه مما يتعلق بتعظيم الحق والثناء عليه»10.

الصلة بين الذكر والقرآن:

القرآن الكريم جزء من الذكر، وهو أشمل من الذكر في جزئية الإعجاز، والذكر أشمل من القرآن في جزئية أن كل ما تعبدنا الشارع بلفظه مما يتعلق بتعظيم الحق والثناء عليه، فيدخل فيه ما ورد في السنة المطهرة من النصوص الصحيحة الثابتة.

القرآن الكريم آية وهداية

اختصاص الله سبحانه وتعالى محمدًا صلى الله عليه وسلم بآية من آياته كاف في الدلالة على نبوته قائم مقام معجزات من سواه من الأنبياء، جعله الله هداية لخلقه إلى كل خير، وهذا ما سنتناوله بالبيان فيما يأتي:

أولًا: القرآن الآية الشاهدة بالنبوة:

لما ابتعث الله رسله عليهم السلام إلى الناس يدعونهم إلى الحق ويهدونهم إليه أيدهم بآيات تدل على صدقهم كعصا موسى التي تنقلب حية، أو ناقة صالح التي أخرجت من الصخر11، غير أن هذه الآيات المصدقات كانت محدودة بالزمان والمكان، والسبب في ذلك أن رسالات هؤلاء الأنبياء كانت رسالات لقومهم خاصة، وأن الحجة تقوم عليهم بمعاينتها ثم بنقل خبرها إليهم نقلا لا يدع مجالا للشك فيها عمن عاينها، على قرب عهدهم بها. ثم إن هذه المعجزات تتناسب مع ما برع فيه كل قوم؛ لتكون الحجة أبين وأقوم.

قال الباقلاني: «جرت سنة الله في ابتعاث رسله إلى خلقه؛ لتبصيرهم بعظمته وجمعهم على عبادته، أن يؤيدهم بأمور حسية تخالف السنن الكونية، وتشذ عن النواميس الطبيعية، وتكون من قبيل ما استحكم في زمانهم، وغلب على خاصتهم، وعظم في نفوس عامتهم؛ لتكون معجزة الرسول المرسل إليهم مفحمة لأعجب الأمور في أنظارهم، ومبطلة لأقوى الأشياء في حسبانهم؛ ولئلا يجد المبطلون متعلقا يتشبثون به، ولا سبيلا يتخذونه إلى اختداع الضعفاء؛ فقد أيد الله -جل جلاله- موسى -عليه السلام- وكان عصره عصر سحر، بفلق البحر، وانقلاب العصا حية تسعى، وانبجاس الحجر الصلد بعيون الماء الرواء. وأيد عيسى -عليه السلام- وكان عهده عهد طب، بإبراء الأكمه والأبرص وخلق الطير من الطين، وإحياء الموتى بإذنه»12.

ولما بعث الله نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم، جعله الدرة الأخيرة في عقد النبوة، واللبنة المتممة لبنيانها؛ فهو النبي الخاتم الذي لا نبي بعده: (ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ) [الأحزاب: ٤٠].

ولذلك وجب حفظ كتاب نبوته من التبديل، وهو الرسول الذي تعم رسالته الناس جميعًا: (ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ) [الأعراف: ١٥٨].

ولذلك وجب أن تظل معجزته الدالة على صدقه قائمة بينهم يعاينونها ويشهدونها فتقوم عليهم الحجة بها. وهذا الأمر نص عليه النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من الأنبياء نبيٌ إلا أعطي ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيت وحيًا أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة)13.

فكانت معجزته صلى الله عليه وسلم عقلية لا حسية، ومستمرة لا آنية، ولذلك يبقى مفعولها دائمًا وتبقى الاستجابة لها مستمرة، قال السيوطي: «هذه الشريعة لما كانت باقية على صفحات الدهر إلى يوم القيامة خصت بالمعجزة العقلية الباقية؛ ليراها ذوو البصائر، كما أنه صلى الله عليه وسلم قال: (ما من الأنبياء نبيٌ إلا أعطي ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيت وحيًا أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة).

قيل: إن معناه أن معجزات الأنبياء انقرضت بانقراض أعصارهم فلم يشاهدها إلا من حضرها، ومعجزة القرآن مستمرة إلى يوم القيامة وخرقه العادة في أسلوبه وبلاغته وإخباره بالمغيبات، فلا يمر عصر من الأعصار إلا ويظهر فيه شيء مما أخبر به أنه سيكون يدل على صحة دعواه.

وقيل: المعنى أن المعجزات الواضحة الماضية كانت حسية تشاهد بالأبصار كناقة صالح وعصا موسى ومعجزة القرآن تشاهد بالبصيرة، فيكون من يتبعه لأجلها أكثر؛ لأن الذي يشاهد بعين الرأس ينقرض بانقراض مشاهده، والذي يشاهد بعين العقل باق يشاهده كل من جاء بعد الأول مستمرًّا»14.

وتجدر الإشارة إلى أنه عليه -الصلاة والسلام- قد جرت على يديه معجزات وخوارق كثيرة، غير أن الآية الوحيدة التي جعلت شاهدًا على صدقه ودليلًا على نبوته هي القرآن الكريم، فإنه سبحانه «لما أرسل رسوله محمدًا، صلى الله عليه وسلم، إلى الناس أجمعين، وجعله خاتم النبيين أيده بمعجزات حسية كمعجزات من سبقه من المرسلين، وخصه بمعجزة عقلية خالدة، وهى إنزال القرآن الكريم، الذى لو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثله لم يستطيعوا ولم يقاربوا، ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا» 15.

وقد وقع التحدي بهذا القرآن للخلق جميعًا، وما زال قائمًا إلى يوم القيامة، لا يجد الناس له معارضًا، ولو بالجزء الأيسر منه «سورة لا تجاوز ثلاث آيات قصيرات من مثل سورتي العصر والكوثر».

ولقد نصت الآيات نصًّا صريحًا على أن القرآن الكريم كاف في الدلالة وحده على صدق ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم.

قال تعالى: (ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ) [العنكبوت: ٥٠-٥١].

فقوله: (ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝﯞ).. جواب لقولهم (ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩﮪ) أي: أو لم يكف المشركين من الآيات هذا الكتاب المعجز الذي قد تحديتهم بأن يأتوا بمثله، أو بسورة منه فعجزوا، ولوا أتيتهم بآيات موسى وعيسى لقالوا: سحر، ونحن لا نعرف السحر16، وفي الآية إخبار: «بأن الكتاب آية من آياته كاف في الدلالة قائم مقام معجزات غيره وآيات من سواه من الأنبياء»17.

ويلاحظ أن التحدي بالقرآن الكريم تدرج بصفة تنازلية على مستويات:

  1. إظهار بعضه وكتمان بعضه.

    وقد دل على ذلك قول الله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸﭹ ﭺ ﭻﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ) [الأنعام: ٩١].

    فنصت الآية على أنهم كانوا يفرقون الكتاب في صحف أو قراطيس، وقوله: (ﭮ ﭯ ﭰﭱ) صفة لقراطيس، أي: تبدون بعضها وتخفون كثيرًا منها، ففهم أن المعنى: تجعلونه قراطيس لغرض إبداء بعض وإخفاء بعض. وهذه الصفة في محل الذم، فإن الله أنزل كتبه للهدى، والهدى بها متوقف على إظهارها وإعلانها، فمن فرقها؛ ليظهر بعضًا ويخفي بعضًا فقد خالف مراد الله منها»43.

    وجلي أن المقصود من ذلك: إظهار ما يوافق الهوى وكتمان ما يخالفه «أي: يجعلها حملتها قراطيس، أي: قطعًا يكتبونها من الكتاب الأصلي الذي بأيديهم ويحرفون فيها ما يحرفون ويبدلون ويتأولون، ويقولون: (ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ) [البقرة: ٧٩].

    أي: في كتابه المنزل، وما هو من عند الله»44.

  2. كتابة ما ليس منه فيه ونسبته إلى الله.

    وقد دل على ذلك قوله تعالى: (ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ) [البقرة: ٧٩].

    فـ: «توعد تعالى المحرفين للكتاب، الذين يقولون لتحريفهم وما يكتبون: (ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ) وهذا فيه إظهار الباطل وكتم الحق، وإنما فعلوا ذلك مع علمهم ( ﭳ ﭴ ﭵﭶ) والدنيا كلها من أولها إلى آخرها ثمن قليل، فجعلوا باطلهم شركًا يصطادون به ما في أيدي الناس، فظلموهم من وجهين: من جهة تلبيس دينهم عليهم، ومن جهة أخذ أموالهم بغير حق، بل بأبطل الباطل، وذلك أعظم ممن يأخذها غصبًا وسرقة ونحوهما، ولهذا توعدهم بهذين الأمرين فقال: (ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ) أي: من التحريف والباطل (ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ) من الأموال، والويل: شدة العذاب والحسرة، وفي ضمنها الوعيد الشديد»45.

    وقوله: (): «تأكيد وهذا الموضع مما يحسن فيه التأكيد كما تقول لمن ينكر معرفة ما كتبه: يا هذا كتبته بيمينك. أما قوله تعالى: (ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ) فالمراد: أن من يكتب هذه الكتابة ويكسب هذا الكسب في غاية الرداءة؛ لأنهم ضلوا عن الدين وأضلوا، وباعوا آخرتهم بدنياهم، فذنبهم أعظم من ذنب غيرهم، فإن من المعلوم أن الكذب على الغير بما يضر يعظم إثمه، فكيف بمن يكذب على الله ويضم إلى الكذب الإضلال، ويضم إليهما حب الدنيا والاحتيال في تحصيلها، ويضم إليها أنه مهد طريقًا في الإضلال باقيًا على وجه الدهر؟! فلذلك عظم تعالى ما فعلوه. (وقد) حكى عنهم أمرين. أحدهما: كتبة الكتاب، والآخر: إسناده إلى الله تعالى على سبيل الكذب».

  3. تأوله على غير معناه.

    وشاهده قوله تعالى: (ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ) [البقرة: ٧٨].

    وفي معنى الأماني ثلاثة أقوال ترجع في جملتها إلى تأول اللفظ على غير معناه:

    «أحدها: أنها الأكاذيب. قال ابن عباس: إلا أماني: يريد إلا قولًا يقولونه بأفواههم كذبًا. وهذا قول مجاهد واختيار الفراء. وذكر الفراء أن بعض العرب قال لابن دأب وهو يحدث: أهذا شيء رويته، أم شيء تمنيته؟ يريد: افتعلته.

    والثاني: أن الأماني: التلاوة، فمعناه: لا يعلمون فقه الكتاب، إنما يقتصرون على ما يسمعونه يتلى عليهم.

    قال الشاعر46:

    تمنى كتاب الله أول ليلة

    تمني داود الزبور على رسل

    وهذا قول الكسائي والزجاج.

    والثالث: أنها أمانيهم على الله، قاله قتادة»47.

  4. كتمانه والتواصي بذلك.

    كما قال تعالى: (ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋﰌ ﰍ ﰎ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ) [البقرة: ٧٦-٧٧].

    ومعنى: (ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ) «يعني: منافقيهم. قالوا آمنا بأنكم على الحق، وإن رسولكم هو المبشر به في التوراة (ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ) أي: الذين لم ينافقوا منهم عاتبين على من نافق (ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ) بما بين لكم في التوراة من نعت محمد صلى الله عليه وسلم، أو الذين نافقوا أعقابهم، إظهارًا للتصلب في اليهودية، ومنعًا لهم عن إبداء ما وجدوا في كتابهم، فينافقون الفريقين»48.

    وفي إنكار بعضهم على بعض هذا التحديث دليل على هذه الصورة من التواصي بالكتمان.

    وقد تضافرت هذه الصور الأربعة على تحريف الكتاب وجعله في قراطيس يبدون بعضها ويكتمون بعضًا، وكتابتهم ما ليس من الوحي فيها، وتأولهم لصحيحها على غير مراد الله منه، أو كتمانهم للحق كتمانًا كاملًا والتواصي بذلك لا مجرد إظهار بعضه تضليلًا وكتمان بعض. ولقد سهل عليهم ذلك بسبب استئثارهم بها، أو استئثار فئة خاصة منهم بها من دون سائر الناس. فلما أنزل الله القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم وأمته جعله محفوظًا في صدور صبيانهم قبل كتب علمائهم.

    ثالثًا: أسباب حفظ القرآن الكريم:

    على خلاف الكتب السابقة، نزل القرآن الكريم على أمة أمية تعتمد على الحفظ أكثر من الكتابة، ثم إن نزوله مفرقًا؛ ليقرأه النبي صلى الله عليه وسلم على الناس على مكث قد جعله محفوظًا عند عامتهم لا تستأثر به طائفة: (ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ) [الإسراء: ١٠٦].

    أي: «قطعناه آيةً آية وسورةً سورة في عشرين سنة (ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ) تؤدة وترسلٍ؛ ليفهموه (ﭣ ﭤ) نجومًا بعد نجومٍ وشيئًا بعد شيءٍ»49.

    وبناء على ذلك فقد علم بالحجة العقلية القاطعة الحاصلة من التواتر الذي لا يختلف فيه العقلاء «أن القرآن، الذى هو متلو محفوظ مرسوم في المصاحف، هو الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه هو الذي تلاه على من في عصره ثلاثًا وعشرين سنة.

    والطريق إلى معرفة ذلك هو النقل المتواتر، الذي يقع عنده العلم الضروري به. وذلك أنه قام به في المواقف، وكتب به إلى البلاد، وتحمله عنه إليها من تابعه، وأورده على غيره ممن لم يتابعه، حتى ظهر فيهم الظهور الذي لا يشتبه على أحد، ولا يخيل أنه قد خرج من أتى بقرآن يتلوه، ويأخذه على غيره، ويأخذه غيره على الناس، حتى انتشر ذلك في أرض العرب كلها، وتعدى إلى الملوك المصاقبة لهم، كملك الروم والعجم والقبط والحبش، وغيرهم من ملوك الأطراف.

    ولما ورد ذلك مضادًّا لأديان أهل ذلك العصر كلهم، ومخالفًا لوجوه اعتقاداتهم المختلفة في الكفر وقف جميع أهل الخلاف على جملته، ووقف جميع أهل دينه الذين أكرمهم الله بالإيمان على جملته وتفاصيله، وتظاهر بينهم، حتى حفظه الرجال، وتنقلت به الرحال، وتعلمه الكبير والصغير؛ إذ كان عمدة دينهم، وعلمًا عليه، والمفروض تلاوته في صلواتهم، والواجب استعماله في أحكامهم. ثم تناقله خلف عن سلف هم مثلهم في كثرتهم وتوفر دواعيهم على نقله، حتى انتهى إلينا، على ما وصفناه من حاله. فلن يتشكك أحد، ولا يجوز أن يتشكك مع وجود هذه الأسباب، في أنه أتى بهذا القرآن من عند الله تعالى»50.

    ويؤيد ذلك أنه تحداهم به ولم يزل عجزهم عن معارضته قائمًا مع علمهم به واطلاعهم عليه، فلو جاز أن يكون القرآن الموجود بين أيدينا غير الذي تحدوا به؛ لنقل عنهم ذلك.

    قال الباقلاني: «وإذا ثبت هذا الأصل وجودًا، فإنا نقول: إنه تحداهم إلى أن يأتوا بمثله، وقرعهم على ترك الإتيان به، طول السنين التي وصفناها، فلم يأتوا بذلك، فقد ثبت بما بيناه أنه تحداهم إليه، ولم يأتوا بمثله.

    وفي هذا أمران:

    أحدهما: التحدي إليه.

    والآخر: أنهم لم يأتوا له بمثل.

    والذي يدل على ذلك النقل المتواتر الذي يقع به العلم الضروري، فلا يمكن جحود واحد من هذين الأمرين»51.

    ويضيف الباقلاني أن العدد العظيم من الناس الذين أخذوا القرآن وتعلموه لدواع مختلفة ولو كانوا غير مسلمين، قد دل اتفاقهم على هذا القرآن أنه هو نفسه الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من عند الله، ولا يمكن أن يتشكك في ذلك عاقل، كيف والعقلاء لا يجيزون ذلك في مثل شعر امرئ القيس الذي لو زيد فيه لفظ؛ لتبرأ منه أصحابه؟!

    قال: «وإن قال قائل: لعله لم يقرأ عليهم الآيات التي فيها ذكر التحدي، وإنما قرأ عليهم ما سوى ذلك من القرآن، كان ذلك قولًا باطلًا، يعلم بطلانه بمثل ما يعلم به بطلان قول من زعم أن القرآن أضعاف هذا! وهو يبلغ حمل جمل! وأنه كتم، وسيظهره المهدي! أو يدعي أن هذا القرآن ليس هو الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما هو شيء وضعه عمر أو عثمان، رضي الله عنهما، حيث وضع المصحف، أو يدعي فيه زيادة أو نقصانًا.

    وقد ضمن الله حفظ كتابه أن يأتيه الباطل من بين يديه أو من خلفه، ووعده الحق، وحكاية قول من قال ذلك يغني عن الرد عليه؛ لأن العدد الذين أخذوا القرآن في الأمصار وفي البوادي، وفي الأسفار والحضر، وضبطوه حفظًا، من بين صغير وكبير، وعرفوه حتى صار لا يشتبه على أحد منهم حرف لا يجوز عليهم السهو والنسيان، ولا التخليط فيه والكتمان، ولو زادوا أو نقصوا أو غيروا؛ لظهر، وقد علمت أن شعر امرئ القيس وغيره على أنه لا يجوز أن يظهر ظهور القرآن، ولا أن يحفظ كحفظه، ولا أن يضبط كضبطه، ولا أن تمس الحاجة إليه إمساسها إلى القرآن لو زيد فيه بيت، أو نقص منه بيت، لا، بل لو غير فيه لفظ؛ لتبرأ منه أصحابه، وأنكره أربابه.

    فإذا كان ذلك مما لا يمكن أن يكون في شعر امرئ القيس ونظرائه، مع أن الحاجة إليه تقع لحفظ العربية، فكيف يجوز أو يمكن ما ذكروه في القرآن، مع شدة الحاجة إليه في الصلاة التى هي أصل الدين، ثم في الأحكام والشرائع، واشتمال الهمم المختلفة على ضبطه، فمنهم: من يضبطه؛ لإحكام قراءته ومعرفة وجوهها، وصحة أدائها، ومنهم: من يحفظه؛ للشرائع والفقه، ومنهم: من يضبطه؛ ليعرف تفسيره ومعانيه، ومنهم: من يقصد بحفظه الفصاحة والبلاغة، ومن الملحدين: من يحصله؛ لينظر في عجيب شأنه.

    وكيف يجوز على أهل هذه الهمم المختلفة والآراء المتباينة -على كثرة أعدادهم، واختلاف بلادهم، وتفاوت أغراضهم- أن يجتمعوا على التغيير والتبديل والكتمان؟! ويبين ذلك: أنك إذا تأملت ما ذكر في أكثر السور مما بينا، ومن نظائره في رد قومه عليه ورد غيرهم، وقولهم: (ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮﮯ)، وقول بعضهم: إن ذلك سحر، وقول بعضهم: (ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ) إلى الوجوه التي يصرف إليها قولهم في الطعن عليه»52.

    فالحجة العقلية الحاصلة من التواتر تشهد بأن نصوص القرآن الكريم محفوظة من التبديل أو التزييف أو التحريف، ولقد هيئت له عناية إلهية خاصة منذ أزف نزوله واقترب، فإذا الجن تلحظ تغيرًا لم تألفه في السماء حين صارت تجد شهبًا قد ملئت بها جوانبها تترصدها كلما اقتربت على خلاف عهدها السابق: (ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ) [الجن: ٨-١٠].

    ثم إنهم علموا أنهم قد عزلوا عن السماع لأجل أمر عظيم: (ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ) [الشعراء٢١٠-٢١٢].

    ولقد اختير لهذه المهمة العظيمة أمين كريم ذو قوة مكين ومطاع في أهل السماء: (ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ) [الشعراء: ١٩٢-١٩٤].

    وكما اختير أمين في السماء اختير أمين في الأرض، وتولى الله تنقية سريرته وتصفية أمانيه: (ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ) [التكوير: ١٩-٢١].

    وأعلن في الناس أنه لو أراد أن يبدله أو يحرفه -وحاشاه أن يفعل- ما استطاع ذلك: (ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ) [الحاقة: ٤٤-٤٧].

    كما وعد بجمعه في صدره ثم يقرأه على الناس فلا يخطئ منه حرفًا: (ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ) [القيامة: ١٦-١٩].

    وأعلن سبحانه في العالمين أنه هو من يتولى حفظه: (ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ) [الحجر: ٩].

    وأن الباطل لا يقربه: (ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ) [فصلت: ٤١-٤٢].

    وأن أحدًا لن يستطيع له تبديلًا: (ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ) [الكهف: ٢٧].

    ولقد نزل منجمًا فحفظ ونقل تواترًا كما سلف، وهو الكتاب الأوحد الذي ما يزال دليل صدقه -إعجازه- قائمًا فيه.

    القرآن حجة الله على الناس

    بين الله في كتابه أن القرآن الكريم هو حجته الدامغة على الناس، وسوف نتناول بيان ذلك فيما يأتي:

    أولًا: القرآن منذر لمن بلغه:

    لحكمةٍ ما شاء الله سبحانه وتعالى أن تكون معجزة النبي عليه الصلاة والسلام وحيًا، وأن ينزل بلسان عربي، وأن يظل قائمًا ومحفوظًا، وأن يكون حجة على الناس جميعًا، وأن يكون النبي صلى الله عليه وسلم بسببه أكثر الأنبياء تابعًا يوم القيامة، كما في الحديث: (ما من الأنبياء نبيٌ إلا أعطي ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيت وحيًا أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة) 53.

    قال ابن حجر -وهو يستعرض الأقوال في معنى الحديث-: «وقيل: المراد أن معجزات الأنبياء انقرضت بانقراض أعصارهم، فلم يشاهدها إلا من حضرها، ومعجزة القرآن مستمرة إلى يوم القيامة، وخرقه للعادة في أسلوبه وبلاغته وإخباره بالمغيبات، فلا يمر عصر من الأعصار إلا ويظهر فيه شيء مما أخبر به أنه سيكون يدل على صحة دعواه، وهذا أقوى المحتملات وتكميله في الذي بعده»54 أي: قوله صلى الله عليه وسلم: (فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة).

    وهذا الذي ذكره ابن حجر يفيد بأن الله عز وجل قد أودع في هذا القرآن ما يجعله معجزة مستمرة يتساوى في إدراكها السابق واللاحق، وقد نصت آية سورة الأنعام على أن لمن بلغه القرآن الكريم حكم من رأى النبي صلى الله عليه وسلم من قيام الحجة عليه بالبلاغ، كما قال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕﭖ ﭗ ﭘﭙ ﭚ ﭛ ﭜﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭﭮ ﭯ ﭰ ﭱﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ) [الأنعام: ١٩].

    قال ابن جرير: «يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل لهؤلاء المشركين الذين يكذبونك: (ﭘﭙ ﭚ ﭛ ﭜﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ) عقابه، وأنذر به من بلغه من سائر الناس غيركم، إن لم ينته إلى العمل بما فيه، وتحليل حلاله وتحريم حرامه، والإيمان بجميعه نزول نقمة الله به»55.

    ثم ذكر عن حسن بن صالح قال: «سألت ليثًا: هل بقي أحدٌ لم تبلغه الدعوة؟ قال: كان مجاهد يقول: حيثما يأتي القرآن فهو داعٍ، وهو نذير. ثم قرأ: (ﭢ ﭣ ﭤ ﭥﭦ ﭧ ﭨ)»56.

    وقال محمد بن كعب القرظي: «من بلغه القرآن فكأنما قد رأى محمدًا صلى الله عليه وسلم وسمع منه. وفي الخبر أيضًا: من بلغته آية من كتاب الله فقد بلغه أمر الله أخذ به أو تركه. وقال مقاتل: من بلغه القرآن من الجن والإنس فهو نذير له»57.

    وهذا المعنى مستفاد من قوله: ( ﭥﭦ): فأما قوله: (ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ) فالمراد: أنه تعالى أوحى إلي هذا القرآن؛ لأنذركم به، وهو خطاب لأهل مكة، وقوله: (ﭤ ﭥ): عطف على المخاطبين من أهل مكة، أي: لأنذركم به، وأنذر كل من بلغه القرآن، من العرب والعجم، وقيل من الثقلين، وقيل: من بلغه إلى يوم القيامة.

    وعن سعيد بن جبير: من بلغه القرآن، فكأنما رأى محمدًا صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا التفسير فيحصل في الآية حذف، والتقدير: وأوحي إلي هذا القرآن؛ لأنذركم به، ومن بلغه هذا القرآن، إلا أن هذا العائد محذوف؛ لدلالة الكلام عليه، كما يقال الذي رأيت زيد، والذي ضربت عمرو»58.

    وحمل قوله: سبحانه (ﭤ ﭥﭦ) على أن المراد منه: من بلغه القرآن هو الأشهر والأوفق للسياق، ولذلك اقتصر عليه كثير من المفسرين ولم ينصوا على أنه قد يراد من الآية معنى غيره، «وقيل: ومن بلغ الحلم. ودل بهذا على أن من لم يبلغ الحلم ليس بمخاطب ولا متعبد» 59. قال الرازي: «وفي تفسير قوله: () قول آخر، وهو أن يكون قوله: (ﭤ ﭥ) أي: ومن احتلم وبلغ حد التكليف، وعند هذا لا يحتاج إلى إضمار العائد، إلا أن الجمهور على القول الأول»60.

    هذا ويستفاد من معنى الآية أن أمة محمد صلى الله عليه وسلم قائمة مقامه من بعده في تبليغ القرآن الكريم وبه تقوم الحجة على من بلغه، قال القرطبي: «وتبليغ القرآن والسنة مأمور بهما، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتبليغهما، فقال: (ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁﮂ)، وفي صحيح البخاري عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم: (بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار)61.

    كما ينبني على ذلك أيضًا أن رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ممتدة زمانًا ومكانًا خلافًا لرسالات الرسل قبله، فهي تعم من بلغه القرآن الكريم في سائر البلاد ولو لم ير النبي صلى الله عليه وسلم في وقت كونه صلى الله عليه وسلم حيًّا كالنجاشي الذي آمن به ولم يره وتوفي مؤمنًا وصلى عليه عليه الصلاة والسلام صلاة الغائب، كما تعم «كل من يبلغه القرآن في جميع العصور»62.

    ومن ذلك ما ذكر ابن جرير في تفسيره: «قال ابن زيد، في قوله: (ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ) قال: النبي النذير. وقرأ: (ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ) وقرأ: (ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ) قال: رسل. قال: المنذرون: الرسل. قال: وكان نذيرًا واحدًا بلغ ما بين المشرق والمغرب، ذو القرنين، ثم بلغ السدين، وكان نذيرًا، ولم أسمع أحدًا يحق أنه كان نبيًّا. (ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥﭦ) قال: من بلغه القرآن من الخلق، فرسول الله نذيره. وقرأ: (ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ) وقال: لم يرسل الله رسولًا إلى الناس عامة إلا نوحًا، بدأ به الخلق، فكان رسول أهل الأرض كلهم، ومحمد صلى الله عليه وسلم ختم به»63.

    وعليه، فإن هذا القرآن حجة الله القائمة على خلقه إلى يوم القيامة، هو معجزة النبي -عليه الصلاة والسلام- شاء الله أن يظل قائمًا ومحفوظًا، ومن بلغه فكأنما رأى محمدًا صلى الله عليه وسلم، وأمته أمينة على تبليغه من بعده قائمة مقام نبيها، ولأجل ذلك فالمسلمون أكثر أتباع الأنبياء يوم القيامة.

    ثانيًا: سماع القرًان وأثره في قيام الحجة:

    نصت سورة التوبة على أن سماع القرآن الكريم كاف في إقامة الحجة على المشركين ورفع العذر عنهم، كما قال تعالى: (ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ)[التوبه: ٦].

    قال ابن جرير في بيان معناها: «يقول تعالى ذكره لنبيه: وإن استأمنك، يا محمد، من المشركين، الذين أمرتك بقتالهم وقتلهم بعد انسلاخ الأشهر الحرم، أحدٌ؛ ليسمع كلام الله منك -وهو القرآن الذي أنزله الله عليه- ()، يقول: فأمنه حتى يسمع كلام الله وتتلوه عليه (ﯰ ﯱ ﯲﯳ)، يقول: ثم رده بعد سماعه كلام الله إن هو أبى أن يسلم، ولم يتعظ لما تلوته عليه من كلام الله فيؤمن إلى مأمنه، يقول: إلى حيث يأمن منك وممن في طاعتك، حتى يلحق بداره وقومه من المشركين (ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ)، يقول: تفعل ذلك بهم، من إعطائك إياهم الأمان؛ ليسمعوا القرآن، وردك إياهم إذا أبوا الإسلام إلى مأمنهم؛ من أجل أنهم قوم جهلة لا يفقهون عن الله حجة، ولا يعلمون ما لهم بالإيمان بالله لو آمنوا، وما عليهم من الوزر والإثم بتركهم الإيمان بالله» 64.

    والمقصود بسماعه: «فهم المقصود من دلالته على النبوة، وفهم المقصود به من التكليف، ولم يكن يخفى على العرب وجه الإعجاز فيه، وطريق الدلالة على النبوة، لكونه خارجًا عن أساليب فصاحة العرب في النظم والنثر، والخطب والأراجيز، والسجع والأمثال، وأنواع فصل الخطاب؛ فإن خلق الله له العلم بذلك، والقبول له صار من جملة المسلمين، فإن صد بالطبع، ومنع بالختم، وحق عليه بالكفر القول رد إلى مأمنه»65.

    ولئن مال أكثر المفسرين إلى أن هذا متحقق في شأن مشركي العرب خاصة؛ لما تهيأ لهم من معرفة وجه الإعجاز فيه، فإن سورة المائدة قد وصفت طائفة من القسيسين والرهبان بأنهم إذا سمعوه سارعوا إلى الاستجابة له، كما قال: جل وعلا: (ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ) [المائدة: ٨٢-٨٣].

    فقد وصفت الآية هؤلاء الذين هم أقرب الناس مودة للذين آمنوا بجملة من الصفات:

    «منها: (ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ) أي: علماء متزهدين، وعبادًا في الصوامع متعبدين. والعلم مع الزهد وكذلك العبادة مما يلطف القلب ويرققه، ويزيل عنه ما فيه من الجفاء والغلظة؛ فلذلك لا يوجد فيهم غلظة اليهود، وشدة المشركين.

    ومنها: (ﯨ ﯩ ) أي: ليس فيهم تكبر ولا عتوٌّ عن الانقياد للحق، وذلك موجب لقربهم من المسلمين ومن محبتهم، فإن المتواضع أقرب إلى الخير من المستكبر.

    ومنها: أنهم (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ) محمد صلى الله عليه وسلم، أثر ذلك في قلوبهم وخشعوا له، وفاضت أعينهم بسبب ما سمعوا من الحق الذي تيقنوه، فلذلك آمنوا وأقروا به فقالوا: (ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ) وهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم، يشهدون لله بالتوحيد، ولرسله بالرسالة وصحة ما جاؤوا به، ويشهدون على الأمم السابقة بالتصديق والتكذيب»66.

    ويهمنا في هذا المقام ما وصفتهم به الآية من أن أعينهم تفيض من الدمع الذي هو دليل معرفة وإذعان، «وفيض العين من الدمع: امتلاؤها منه، ثم سيلانه منها، كفيض النهر من الماء، وفيض الإناء، وذلك سيلانه عن شدة امتلائه»67.

    وتكرر هذا الوصف في قوله تعالى: (ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ) [الإسراء: ١٠٦-١٠٩].

    فقد جعلت الآية من صفة هؤلاء الذين أوتوا العلم أنهم يخرون ساجدين وباكين حين تتلى عليهم آيات القرآن الكريم، وقد اشتملت الآية على وصفين ذكرا في الآية السابقة يتفرع أحدهما عن الآخر وينتج الثاني الأول، وهو حصول علم سابق يؤدي إلى البكاء والسجود، ولذلك قال تعالى: (ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ)، وقال: (ﭜ ﭝ ﭞ ﭟﭠ):. ففيض دموعهم، لمعرفتهم بأن الذي يتلى عليهم من كتاب الله الذي أنزله إلى رسول الله حقٌ68.

    وقد تضمنت آية سورة الإسراء أثرًا آخر وهو السجود، قال تعالى: ( ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ).

    ومعنى الآية: «فـ: () لمن كذب به وأعرض عنه: (ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫﭬ) فليس لله حاجة فيكم، ولستم بضاريه شيئًا، وإنما ضرر ذلك عليكم، فإن لله عبادًا غيركم، وهم الذين آتاهم الله العلم النافع: (ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ) أي: يتأثرون به غاية التأثر، ويخضعون له. (ﭺ ﭻ ﭼ) عما لا يليق -بجلاله-، مما نسبه إليه المشركون.

    (ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ)، () بالبعث والجزاء بالأعمال () لا خلف فيه ولا شك. (ﮃ ﮄ) أي: على وجوههم (ﮅ ﮆ) القرآن ()»69.

    ويبدو أن سبب هذا السجود رغبة تلقائية تحصل في نفوسهم من استشعار عظمة منزل هذه الآيات. ومما يؤكد حصول هذه الرغبة التلقائية قصة سجود المشركين عند نزول آيات سورة النجم، ففي صحيح البخاري عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: (أول سورةٍ أنزلت فيها سجدةٌ (والنجم)، قال: فسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وسجد من خلفه إلا رجلًا رأيته أخذ كفًّا من ترابٍ فسجد عليه! فرأيته بعد ذلك قتل كافرًا، وهو أمية بن خلفٍ) 70.

    وعن ابن عباسٍ رضي الله عنهما، قال: (سجد النبي صلى الله عليه وسلم بالنجم وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس)71.

    فالمشركون أنفسهم على كونهم مجاهرين بالعداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومكذبين بالوحي، لم يتمالكوا أنفسهم حين سمعوه -عليه الصلاة والسلام- يتلو سورة النجم، فلما بلغ موضع السجدة منها سجد فخروا معه ساجدين، وهذا يدل على أن استشعار روعة هذه الآيات يحرك في نفس سامعها رغبة خفية في أن يخر ساجدًا باكيًا بين يدي بارئه وفاطره.

    وعليه، فإن لسماع القرآن سرًّا يجعل سامعه أو طائفة من سامعيه يستشعرون عظمة منزله ويسارعون إلى الإيمان به، وقد يحصل له تأثير حتى على قلوب المعاندين له، وإن كان كبرهم يغلب عليهم في النهاية فيصرون على الصد عنه.

    أما الذين زين الله قلوبهم بالإيمان وحلاهم بكماله وأذاقهم حلاوته فإن سماع القرآن يؤثر فيهم تأثيرًا خاصًّا، كما قال تعالى: (ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ) [الزمر: ٢٣].

    «أي: الله تعالى نزل بفضله ورحمته عليك -يا محمد- (ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ) أي: يشبه بعضه بعضًا في فصاحته وبلاغته، وفي نظمه وإعجازه، وفي صحة معانيه وأحكامه، وفي صدقه وهداياته وإرشاداته إلى ما يسعد الناس في دنياهم وآخرتهم.

    () أي: تثنى وتكرر فيه القصص والمواعظ، والأمثال والأحكام والوعد والوعيد، كما تثنى وتكرر قراءته فلا تمل على كثرة الترداد، وإنما يزداد المؤمنون حبًّا وتعلقًا بتلاوته كلما أكثروا من هذه التلاوة.

    وسمى سبحانه كتابه حديثًا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحدث به قومه، ويخبرهم بما كان ينزل عليه منه. فلفظ الحديث هنا بمعنى المحدث به لا بمعنى كونه مقابلا للقديم.

    ولفظ: (): بدل من قوله: (ﭪ ﭫ). وقوله: (ﭭ ﭮ) صفتان للكتاب ووصف بهما وهو مفرد، وكلمة: () جمع، باعتبار اشتماله على الكثير من السور والآيات والقصص والمواعظ والأحكام.

    أي: الله تعالى أنزل أحسن الحديث كتابًا مشتملًا على السور والآيات والمواعظ. التي يشبه بعضها في الإعجاز، والتي تثنى وتكرر فلا تمل على كثرة التكرار.

    وقوله: ()من الاقشعرار، وهو الانقباض الشديد للبدن. يقال: اقشعر جسد فلان، إذا انقبض جلده واهتز، وهو هنا كناية عن الخوف الشديد من الله تعالى.

    أي: أن هذا الكتاب العظيم عند ما يقرؤه أو يسمعه المؤمنون الصادقون الذين يخشون ربهم تقشعر جلودهم من شدة ما اشتمل عليه من زواجر ونذر. ثم تلين جلودهم وقلوبهم إذا ما قرؤوا أو استمعوا إلى آيات الرحمة والمغفرة»72.

    وبناء على ما سبق، فإن لسماع القرآن تأثيرًا خاصًّا يتفاوت باختلاف السامعين له، وأقل ذلك دلالته العقلية الظاهرة على الحق، وارتفاع الحجة عمن سمعه -والله أعلم-.

    حديث القرآن عن مواقف الناس منه

    تحدث القرآن عن مواقف الناس منه، وهذا ما سوف نوضحه فيما يأتي:

    أولًا: المستجيبون له:

    قد تقدم أن القرآن الكريم قد وصف الذين أوتوا العلم بالسجود والبكاء عند سماع آيات القرآن الكريم، وذلك منهم إقرار به وإذعان له.

    قال تعالى: (ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ) [الإسراء: ١٠٦-١٠٩].

    «ففيض دموعهم؛ لمعرفتهم بأن الذي يتلى عليهم من كتاب الله الذي أنزله إلى رسول الله حقٌ» 73، وسجودهم إذعان منهم لمُنزله.

    كما ورد هذا الوصف في حق طائفة من القسيسين والرهبان: (ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ) [المائدة: ٨٢-٨٣].

    قال مجاهد: «هم الوفد الذين جاؤوا مع جعفر وأصحابه من أرض الحبشة، وروي عن عطاء نحو ذلك» 74.

    وعن سعيد بن جبير قال: بعث النجاشي وفدًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقرأ عليهم النبي صلى الله عليه وسلم فأسلموا. قال: فأنزل الله تعالى فيهم: (ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗﯘ)، إلى آخر الآية. قال: فرجعوا إلى النجاشي فأخبروه، فأسلم النجاشي، فلم يزل مسلمًا حتى مات. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أخاكم النجاشي قد مات، فصلوا عليه! فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، والنجاشي ثم»75.

    وقد روي أن قوله تعالى: (ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ)» [القصص: ٥٢-٥٥]. نزل فيهم أيضًا.

    واختار ابن جرير أن تكون الآية قد أخبرت بذلك عن قوم هذه صفتهم من غير تعيين ولا قصر على قوم مخصوصين أو في زمن مخصوص، قال: «والصواب في ذلك من القول عندنا أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبر عن النفر الذين أثنى عليهم من النصارى بقرب مودتهم لأهل الإيمان بالله ورسوله، أن ذلك إنما كان منهم؛ لأن منهم أهل اجتهاد في العبادة، وترهب في الديارات والصوامع، وأن منهم علماء بكتبهم وأهل تلاوة لها، فهم لا يبعدون من المؤمنين؛ لتواضعهم للحق إذا عرفوه، ولا يستكبرون عن قبوله إذا تبينوه؛ لأنهم أهل دين واجتهاد فيه، ونصيحة لأنفسهم في ذات الله، وليسوا كاليهود الذين قد دربوا بقتل الأنبياء والرسل، ومعاندة الله في أمره ونهيه، وتحريف تنزيله الذي أنزله في كتبه»76.

    وقال ابن كثير: «يخبر تعالى عن العلماء الأولياء من أهل الكتاب أنهم يؤمنون بالقرآن، كما قال تعالى: (ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ) [البقرة: ١٢١].

    وقال: (ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ) [آل عمران: ١٩٩].

    وقال: (ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ) [الإسراء: ١٠٧-١٠٨].

    وقال: (ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ) [المائدة: ٨٢، ٨٣]»77.

    وزيادة على إيمانهم به فقد أخبر القرآن عنهم أنهم يفرحون به، كما قال تعالى: (ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ) [الرعد: ٣٦].

    و«قوله تعالى: (ﭪ ﭫ ﭬ) فيه ثلاثة أقوال:

    أحدها: أنهم مسلمو اليهود، قاله أبو صالح عن ابن عباس. وقال مقاتل: هم عبد الله بن سلام وأصحابه.

    والثاني: أنهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قاله قتادة.

    والثالث: مؤمنو أهل الكتابين من اليهود والنصارى، ذكره الماوردي: (ﭘ ﭙ) القرآن، فرح به المسلمون وصدقوه، وفرح به مؤمنو أهل الكتاب؛ لأنه صدق ما عندهم»78.

    وقد نص القرآن الكريم على أن الذين أوتوا العلم يرون نصوصه حقًّا وتنزيلًا من الله وهادية إلى صراطه، قال تعالى: ( ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ) [سبأ: ٦].

    قال السعدي: «لما ذكر تعالى إنكار من أنكر البعث، وأنهم يرون ما أنزل على رسوله ليس بحق، ذكر حالة الموفقين من العباد، وهم أهل العلم، وأنهم يرون ما أنزل الله على رسوله من الكتاب، وما اشتمل عليه من الأخبار، هو الحق، أي: الحق منحصر فيه، وما خالفه وناقضه، فإنه باطل؛ لأنهم وصلوا من العلم إلى درجة اليقين.

    ويرون أيضًا أنه في أوامره ونواهيه (ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ) وذلك أنهم جزموا بصدق ما أخبر به من وجوه كثيرة: من جهة علمهم بصدق من أخبر به، ومن جهة موافقته للأمور الواقعة، والكتب السابقة، ومن جهة ما يشاهدون من أخبارها، التي تقع عيانًا، ومن جهة ما يشاهدون من الآيات العظيمة الدالة عليها في الآفاق وفي أنفسهم ومن جهة موافقتها لما دلت عليه أسماؤه تعالى وأوصافه.

    ويرون في الأوامر والنواهي، أنها تهدي إلى الصراط المستقيم، المتضمن للأمر بكل صفة تزكي النفس، وتنمي الأجر، وتفيد العامل وغيره، كالصدق والإخلاص وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والإحسان إلى عموم الخلق، ونحو ذلك. وتنهى عن كل صفة قبيحة، تدنس النفس، وتحبط الأجر، وتوجب الإثم والوزر، من الشرك، والزنا، والربا، والظلم في الدماء والأموال، والأعراض.

    وهذه منقبة لأهل العلم وفضيلة، وعلامة لهم، وأنه كلما كان العبد أعظم علمًا وتصديقًا بأخبار ما جاء به الرسول، وأعظم معرفة بحكم أوامره ونواهيه، كان من أهل العلم الذين جعلهم الله حجة على ما جاء به الرسول، احتج الله بهم على المكذبين المعاندين، كما في هذه الآية وغيرها»79.

    وقد دلت هذه الآيات على أن المتصفين بالعلم، الذين لم يعم الكبر والعناد قلوبهم، إذا سمعوا آيات الله تتلى عليهم شهدوا بصدقها وأقبلوا عليها خاشعين مذعنين مطيعين مستجيبين.

    ثانيًا: الصَّادُّونَ عنه:

    قص القرآن الكريم عن المشركين أنهم في خضم معاندتهم للحق وصدهم عنه قالوا إن قلوبهم مغلفة فلا يصل الحق إليها، وفي آذانهم صمم فلا يسمعون ما يتلو النبي صلى الله عليه وسلم، ومن بينهم وبينه حجاب فلا يرونه.

    قال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ) [فصلت: ١-٥].

    () أي: هؤلاء المعرضون عنه، مبينون عدم انتفاعهم به، بسد الأبواب الموصلة إليه: (ﭩ ﭪ ﭫ) أي: أغطية مغشاة ( ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ) أي: صم فلا نسمع لك (ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ) فلا نراك.

    القصد من ذلك، أنهم أظهروا الإعراض عنه، من كل وجه، وأظهروا بغضه، والرضا بما هم عليه، ولهذا قالوا: (ﭶ ﭷ ﭸ) أي: كما رضيت بالعمل بدينك، فإننا راضون كل الرضا بالعمل في ديننا، وهذا من أعظم الخذلان، حيث رضوا بالضلال عن الهدى، واستبدلوا الكفر بالإيمان، وباعوا الآخرة بالدنيا»80.

    وكما أخبروا عن أنفسهم أنهم لا يسمعون تيئيسًا للنبي صلى الله عليه وسلم، فقد تواصوا بعدم السماع للقرآن الكريم وأمر بعضهم بعضًا بذلك: (ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ) [فصلت: ٢٦].

    وهي: عطف على جملة (ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ) عطف القصة على القصة، ومناسبة التخلص إليه أن هذا القول مما ينشأ عن تزيين قرنائهم من الإنس، أو هو عطف على جملة (ﮕ ﮖ) وهذا حكاية لحال أخرى من أحوال إعراضهم عن الدعوة المحمدية بعد أن وصف إعراضهم في أنفسهم انتقل إلى وصف تلقينهم الناس أساليب الإعراض، فالذين كفروا هنا هم أئمة الكفر يقولون لعامتهم: (ﮰ ﮱ ﯓ )81.

    وعلى هذا فإنهم مع زعمهم أن القرآن الكريم لن يؤثر فيهم؛ لأنهم لا يسمعونه وقلوبهم مغلفة عن أن يصل إليها، فإنهم لم يستطيعوا الصبر عليه بحيث تواصوا باللغو فيه وتناهوا عن سماعه، وما ذلك منهم إلا مخافة لتأثيره في بعضهم: «فإنهم علموا أن القرآن كلام هو أكمل الكلام، شريف معاني وبلاغة تراكيب وفصاحة ألفاظ، وأيقنوا أن كل من يسمعه وتداخل نفسه جزالة ألفاظه وسمو أغراضه قضى له فهمه أنه حق اتباعه، وقد أدركوا ذلك بأنفسهم، ولكنهم غالبتهم محبة الدوام على سيادة قومهم فتمالؤوا ودبروا تدبيرًا لمنع الناس من استماعه، وذلك خشية من أن ترق قلوبهم عند سماع القرآن فصرفوهم عن سماعه.

    وهذا من شأن دعاة الضلال والباطل أن يكمموا أفواه الناطقين بالحق والحجة، بما يستطيعون من تخويف وتسويل، وترهيب وترغيب ولا يدعوا الناس يتجادلون بالحجة ويتراجعون بالأدلة؛ لأنهم يوقنون أن حجة خصومهم أنهض، فهم يسترونها ويدافعونها لا بمثلها ولكن بأساليب من البهتان والتضليل، فإذا أعيتهم الحيل ورأوا بوارق الحق تخفق خشوا أن يعم نورها الناس الذين فيهم بقية من خير ورشد، عدلوا إلى لغو الكلام ونفخوا في أبواق اللغو والجعجعة لعلهم يغلبون بذلك على حجج الحق، ويغمرون الكلام القول الصالح باللغو، وكذلك شأن هؤلاء. فقولهم: (ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ) تحذيرًا واستهزاء بالقرآن، فاسم الإشارة مستعمل في التحقير كما فيما حكي عنهم (ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ) [الأنبياء: ٣٦].

    وتسميتهم إياه بالقرآن؛ حكاية لما يجري على ألسنة المسلمين من تسميته بذلك. وتعدية فعل () باللام؛ لتضمينه معنى: تطمئنوا أو تركنوا.

    واللغو: القول الذي لا فائدة فيه، ويسمى الكلام الذي لا جدوى له لغوًا، فمعنى (ﯕ ﯖ): قولوا أقوالًا لا معنى لها أو تكلموا كلامًا غير مراد منه إفادة»82.

    في غمرة هذا العناد لم يشعر هؤلاء المعاندون أنه قد طبع على قلوبهم حقًّا وجعلت عليها أكنة وأغلفة مانعة من وصول الحق إليها فلا يفقهون معانيها، وأن آذانهم قد صمت عن سماع الحق، سماع من يستجيب له.

    كما قال سبحانه وتعالى: (ﯣ ﯤ ﯥ ﯦﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ) [الأنعام: ٢٥].

    وقال أيضًا: (ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ) [الإسراء: ٤٥-٤٦].

    «وقوله: (ﯙ ﯚ ﯛ): جمع (كنان)، الذي يغشى القلب () أي: لئلا يفهموا القرآن (ﯞ ﯟ ﯠﯡ) وهو الثقل الذي يمنعهم من سماع القرآن سماعًا ينفعهم ويهتدون به 83.

    وهؤلاء يصل القرآن إلى آذانهم ولكنهم لا يسمعونه: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ) [الفرقان: ٤٤].

    ويصير القرآن الذي هو نور عمًى عليهم: (ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝﯞ ﯟ ﯠﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ) [فصلت: ٤٤].

    ولأجل ذلك فهم لا ينتفعون بما فيه من تذكير ومواعظ: (ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ) [الكهف: ٥٧].

    ولا تنشرح صدورهم لآياته: (ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ) [الحج: ٥٥].

    ويغضبون إذا تليت عليهم: (ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈﰉ ﰊ ﰋ) [الحج: ٧٢].

    وهؤلاء الصادون قد جحدوا بآيات الله، وقد استيقنتها قلوبهم بما خالطها من مرض وكبر وعناد، فهم يجادلون بكل باطل؛ ليدحضوا به الحق، فإذا تقطعت بهم السبل وأعيتهم الحجة انقلب كبرهم غضبًا وبطشًا، بل إن مجرد سماع آيات الله تتلى يستفز هذا الغضب في نفوسهم، فإذا هم (ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼﯽ).

    الأدب مع القرآن

    بين القرآن بيانًا شافيًا أدب الناس مع القرآن.

    أولًا: أدبهم مع صحفه:

    وصف الحق سبحانه وتعالى كتابه بأنه في صحف مطهرة بأيدي سفرة: (ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ) [عبس: ١١-١٦].

    قال ابن عطية: «وقال بعض المتأولين: الصحف هنا اللوح المحفوظ، وقيل: صحف الأنبياء المنزلة، وقيل: مصاحف المسلمين، واختلف الناس في (السفرة)، فقال ابن عباس: هم الملائكة؛ لأنهم كتبة يقال: سَفَرْتُ أي: كتبت، ومنه السِّفْرُ، وقال ابن عباس أيضًا: الملائكة سفرة؛ لأنهم يسفرون بين الله تعالى وبين أنبيائه، وقال قتادة: هم القراء، وواحد السفرة سافر، وقال وهب بن منبه: هم الصحابة؛ لأن بعضهم يسفر إلى بعض في الخبر والتعلم، والقول الأول أرجح» 84.

    وأما قوله تعالى: (ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ) [الواقعة: ٧٥-٨٠].

    فهو محتمل لكونه خبرًا أو أمرًا، قال ابن العربي: «فقيل: لفظه لفظ الخبر، ومعناه النهي، وقيل: هو نفي. وكان ابن مسعود يقرؤها: (ما يمسه إلا المطهرون)؛ لتحقيق النفي»85.

    وتفريعًا على ما سبق، فقد اختلف في المراد بالمس: أهو المس بالجارحة أم لا؟ وفي المراد بالمطهرين: هل هم المطهرون من الحدث أم من شيء آخر؟ قال القرطبي: «اختلف في معنى (ﭙ ﭚ) هل هو حقيقة في المس بالجارحة أو معنى؟ وكذلك اختلف في () من هم؟ فقال أنس وسعيد بن جبير: لا يمس ذلك الكتاب إلا المطهرون من الذنوب وهم الملائكة. وكذا قال أبو العالية وابن زيد: إنهم الذين طهروا من الذنوب كالرسل من الملائكة والرسل من بني آدم، فجبريل النازل به مطهر، والرسل الذين يجيئهم بذلك مطهرون.

    الكلبي: هم السفرة الكرام البررة، وقيل: معنى (ﭙ ﭚ) لا ينزل به () أي: الرسل من الملائكة على الرسل من الأنبياء. وقيل: لا يمس اللوح المحفوظ الذي هو الكتاب المكنون إلا الملائكة المطهرون. وقيل: إن إسرافيل هو الموكل بذلك، حكاه القشيري»86.

    ويرى ابن العربي أن الملائكة لا تصل إلى اللوح المحفوظ، قال: «أما قول من قال: إن المراد بالكتاب اللوح المحفوظ فهو باطل؛ لأن الملائكة لا تناله في وقت، ولا تصل إليه بحال؛ فلو كان المراد به ذلك لما كان للاستثناء فيه محل.

    وأما من قال: إنه الذي بأيدي الملائكة من الصحف فإنه قول محتمل؛ وهو الذي اختاره مالك قال: أحسن ما سمعت في قوله: (ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ) أنها بمنزلة الآية التي في (عبس وتولى): (ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ) يريد: أن المطهرين هم الملائكة الذين وصفوا بالطهارة في سورة (عبس) 87.

    وقيل: إن المراد المصحف الذي بأيدينا، قال الجصاص: «روي عن سلمان أنه قال: لا يمس القرآن إلا المطهرون فقرأ القرآن ولم يمس المصحف حين لم يكن على وضوء، وعن أنس بن مالك في حديث إسلام عمر قال: فقال لأخته: أعطوني الكتاب الذي كنتم تقرؤون، فقالت: إنك رجس وإنه لا يمسه إلا المطهرون! فقم فاغتسل أو توضأ، فتوضأ ثم أخذ الكتاب فقرأه -وذكر الحديث-، وعن سعد أنه أمر ابنه بالوضوء لمس المصحف، وعن ابن عمر مثله، وكره الحسن والنخعي مس المصحف على غير وضوء»88.

    واختاره القرطبي، قال: «وقيل: المراد بالكتاب المصحف الذي بأيدينا، وهو الأظهر. وقد روى مالك وغيره أن كتاب عمرو بن حزم الذي كتبه له رسول الله صلى الله عليه وسلم ونسخته: من محمد النبي إلى شرحبيل بن عبد كلال، والحارث بن عبد كلال ونعيم بن عبد كلال قيل ذي رعين ومعافر وهمدان: أما بعد؛ وكان في كتابه: ألَّا يمس القرآن إلا طاهر. وقال ابن عمر: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تمس القرآن إلا وأنت طاهر).

    وقالت أخت عمر لعمر عند إسلامه وقد دخل عليها ودعا بالصحيفة: (ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ) فقام واغتسل وأسلم، وعلى هذا المعنى قال قتادة وغيره: (ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ) من الأحداث والأنجاس»89.

    ويلاحظ من الاستظهار على تقرير النهي عن مس المصحف بالأخبار السالفة أن دلالة الآية عليه محتملة وغير صريحة، قال الجصاص: «إنْ حُمل اللفظ على حقيقة الخبر فالأولى أن يكون المراد القرآن الذي عند الله والمطهرون الملائكة، وإنْ حُمل على النهي وإن كان في صورة الخبر كان عمومًا فينا، وهذا أولى؛ لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في أخبار متظاهرة أنه كتب في كتابه لعمرو بن حزم: ولا يمس القرآن إلا طاهر، فوجب أن يكون نهيه ذلك بالآية؛ إذ فيها احتمال له»، واقتصر الكيا هراسي على النص على أنها تدل على وجوب الوضوء لمس المصحف من غير تفصيل للمسألة فقال: «قوله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ) يدل على منع مس المصحف من غير وضوء»90.

    ويرى السايس أن منع المحدث من مس المصحف مستفاد من السنة، وذلك يغني عن تكلف إيجاد الدلالة عليه في الآية، قال: «من المفسرين من يريد إرجاع الضمير في: (ﭙ ﭚ) إلى القرآن الكريم، وأن من الآراء في () رأيًا يقول: هم المطهرون من الناس، وأن طهارتهم هي الطهارة الشرعية من الحدثين. على هذين الاعتبارين يقوم استدلال بعض الفقهاء بالآية على عدم مس المحدثين للمصحف، وعدم مس المحدث للمصحف أمر يكاد يجمع عليه، ومن أجازه من الفقهاء أجازه لضرورة التعلم، أو التعبد عند بعضهم، وقد يكون الحكم مُسلَّمًا لا اعتراض عليه، إنما الذي لا يسلم هو أن يكون الحكم مأخوذًا من هذه الآية، فإنك لمست ما فيها من احتمالات كثيرة، بل ويرجح بعض العلماء أن الكتاب هو اللوح المحفوظ، وأن الضمير في () راجع إليه، وأنه حتى على فرض أن الكتاب القرآن، فليس هو المصحف، بل هو المصحف الذي بأيدي الملائكة، ولئن كان هو المصحف فالمطهرون يحتمل أن يراد منهم المؤمنون، ويراد من المس الإدراك، ويكون المعنى لا تفهمه إلا القلوب الطاهرة، وحرام على القلوب الملوثة أن تجد نور الإيمان. قال البخاري في هذه الآية: لا يجد طعمه إلا من آمن به» 91.

    ثم يقول: «إذا كان المفسرون تبعا للفقهاء يستدلون بالآية من وجهها الذي استدل بها منه ابن تيمية على الحكم كان حسنًا، حيث قال: إن الآية تدل على الحكم من باب الإشارة والتنبيه؛ لأنه ما دامت صحف القرآن في السماء لا يمسها إلا المطهرون، فالصحف التي بأيدينا كذلك ينبغي ألا يمسها إلا الطاهر» 92.

    وبناء على ما سبق، يمكن أن نقول: إن الطهارة عند لمس المصحف أدب يتأدب به المؤمن مشابهة للملائكة المطهرين، وهو يلقي في نفسه شعورًا بعظمة هذا الكتاب وجلال منزله والحفاوة التي صاحبت نزوله وتلاوته في الملأ الأعلى، فضلًا عن كونه واجبًا شرعيًا عند أكثر الفقهاء، قال القرطبي: «الجمهور على المنع من مسه (لغير المتوضئ)؛ لحديث عمرو بن حزم.

    وهو مذهب علي وابن مسعود وسعد بن أبي وقاص وسعيد ابن زيد وعطاء والزهري والنخعي والحكم وحماد، وجماعة من الفقهاء منهم مالك والشافعي. واختلفت الرواية عن أبي حنيفة، فروي عنه أنه يمسه المحدث، وقد روي هذا عن جماعة من السلف منهم ابن عباس والشعبي وغيرهما.

    وروي عنه أنه يمس ظاهره وحواشيه وما لا مكتوب فيه، وأما الكتاب فلا يمسه إلا طاهر. وقال مالك: لا يحمله غير طاهر بعلاقة ولا على وسادة. وقال أبو حنيفة: لا بأس بذلك. ولم يمنع من حمله بعلاقة أو مسه بحائل.

    وقد روي عن الحكم وحماد وداود بن علي أنه لا بأس بحمله ومسه للمسلم والكافر طاهرًا أو محدثًا، إلا أن داود قال: لا يجوز للمشرك حمله. واحتجوا في إباحة ذلك بكتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى قيصر، وهو موضع ضرورة فلا حجة فيه.

    وفي مس الصبيان إياه على وجهين: أحدهما: المنع اعتبارًا بالبالغ. والثاني: الجواز؛ لأنه لو منع لم يحفظ القرآن؛ لأن تعلمه حال الصغر، ولأن الصبي وإن كانت له طهارة إلا أنها ليست بكاملة؛ لأن النية لا تصح منه، فإذا جاز أن يحمله على غير طهارة كاملة جاز أن يحمله محدثًا» 93.

    ثانيًا: أدبهم عند سماعه:

    أمر الله سبحانه وتعالى المؤمنين أن يستمعوا وينصتوا إذا قرئ القرآن فقال: (ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ) [الأعراف: ٢٠٤].

    «وقد وردت الآية هكذا عامة في وجوب الاستماع والإنصات عند قراءة القرآن في كل الأحوال، وعلى جميع الأوضاع خارج الصلاة وداخلها، كل ذلك يجب فيه الاستماع والإنصات للقرآن الكريم إذا قرئ»94.

    قال السعدي: «هذا الأمر عام في كل من سمع كتاب الله يتلى، فإنه مأمور بالاستماع له والإنصات، والفرق بين الاستماع والإنصات، أن الإنصات في الظاهر بترك التحدث أو الاشتغال بما يشغل عن استماعه.

    وأما الاستماع له، فهو أن يلقي سمعه، ويحضر قلبه ويتدبر ما يستمع، فإن من لازم على هذين الأمرين حين يتلى كتاب الله، فإنه ينال خيرًا كثيرًا وعلمًا غزيرًا، وإيمانًا مستمرًّا متجددًا، وهدى متزايدًا، وبصيرة في دينه، ولهذا رتب الله حصول الرحمة عليهما، فدل ذلك على أن من تلي عليه الكتاب، فلم يستمع له وينصت، أنه محروم الحظ من الرحمة، قد فاته خير كثير» 95.

    لكن حمل الآية على ظاهرها بهذه الصورة المطلقة لم يجر على ألسنة المفسرين، وأغلبهم لا يناقش حتى هذا المفهوم المتبادر؛ فعقد ابن العربي مثلا للحديث عنها ثلاث مسائل تناول في أولها: سبب نزولها -وكأنه رآه مخصصًا ومبينًا لما يفهم من عمومها-، ثم تحدث في الثانية والثالثة عن حكم القراءة خلف الإمام96.

    وأما أبو بكر الجصاص فقد اقتصر في الحديث في أحكامه تحت الآية على مسألة القراءة خلف الإمام فقط97، وكذلك فعل الكيا هراسي الشافعي98.

    وقال الماوردي: «قوله عز وجل (ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ) أي: لقراءته. () أي: لا تقابلوه بكلام ولا إعراض (ﯟ ﯠ). واختلفوا في موضع هذا الإنصات على ثلاثة أقاويل:

    أحدها: أنها نزلت في المأموم خلف الإمام ينصت ولا يقرأ، قاله مجاهد.

    والثاني: أنها نزلت في خطبة الجمعة ينصت الحاضر لاستماعها ولا يتكلم، قالته عائشة، وعطاء.

    والثالث: ما قاله ابن مسعود: كنا يسلم بعضنا على بعض في الصلاة: سلام على فلان، سلام على فلان، فجاء القرآن من ( ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ)»99.

    وأما القرطبي فرغم تمسكه بالعموم في الرد على كل من زعم قصر الآية على موضع مخصوص فقال: «قال بعضهم في قوله: (ﯜ ﯝ): كان هذا لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصًّا ليعيه عنه أصحابه. قلت: هذا فيه بعد، والصحيح: القول بالعموم؛ لقوله: (ﯟ ﯠ) والتخصيص يحتاج إلى دليل 100.

    وقال أيضًا: «وذكر الطبري عن سعيد بن جبير أيضًا أن هذا في الإنصات يوم الأضحى ويوم الفطر ويوم الجمعة، وفيما يجهر به الإمام فهو عام. وهو الصحيح؛ لأنه يجمع جميع ما أوجبته هذه الآية وغيرها من السنة في الإنصات. قال النقاش: أجمع أهل التفسير أن هذا الاستماع في الصلاة المكتوبة وغير المكتوبة» 101.

    بل وذكر أنه يفيد (في اللغة) ما هو أعم من ذلك، فنقل عن النحاس: أنه «في اللغة يجب أن يكون في كل شيء، إلا أن يدل دليل على اختصاص شيء» 102، إلا أنه لم يصرح -بل ولم يناقش ولم يطرح مطلقًا- مسألة وجوب الإنصات خارج الصلاة.

    وقد ذكر الخازن في تفسيره أن الحسن والظاهرية أجروا الأمر على ظاهره، فقال: «وظاهر الأمر للوجوب فمقتضاه أن يكون الاستماع والسكوت واجبين وللعلماء في ذلك أقوال:

    القول الأول: وهو قول الحسن وأهل الظاهر أن تجري هذه الآيات على العموم، ففي أي وقت وأي موضع قرئ القرآن يجب على كل أحد الاستماع له والسكوت.

    والقول الثاني: إنها نزلت في تحريم الكلام في الصلاة.

    القول الثالث: إنها نزلت في ترك الجهر بالقراءة خلف الإمام»103.

    قال ابن عاشور: «هذه الآية مجملة في معنى الاستماع والإنصات، وفي مقتضى الأمر من قوله: (ﯜ ﯝ ﯞ)، يبين بعض إجمالها سياق الكلام والحمل على ما يفسر سببها من قوله تعالى: (ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ)، ويحال بيان مجملها فيما زاد على ذلك على أدلة أخرى.

    وقد اتفق علماء الأمة على أن ظاهر الآية بمجرده في صور كثيرة مؤول، فلا يقول أحد منهم بأنه يجب على كل مسلم إذا سمع أحدًا يقرأ القرآن أن يشتغل بالاستماع وينصت، إذ قد يكون القارئ يقرأ بمحضر صانع في صنعته، فلو وجب عليه الاستماع لأمر بترك عمله، ولكنهم اختلفوا في محمل تأويلها:

    فمنهم من خصها بسبب رأوا أنه سبب نزولها، فنزلت هذه الآية في أمر الناس بالاستماع لقراءة الإمام. وهؤلاء قصروا أمر الاستماع على قراءة خاصة دل عليها سبب النزول عندهم على نحو يقرب من تخصيص العام بخصوص سببه، عند من يخصص به، وهذا تأويل ضعيف؛ لأن نزول الآية على هذا السبب لم يصح، ولا هو مما يساعد عليه نظم الآية التي معها، وما قالوه في ذلك إنما هو تفسير وتأويل، وليس فيه شيء مأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم.

    ومنهم من أبقى أمر الاستماع على إطلاقه القريب من العموم، ولكنهم تأولوه على أمر الندب، وهذا الذي يؤخذ من كلام فقهاء المالكية، ولو قالوا: المراد من قوله: () قراءة خاصة، وهي أن يقرأه الرسول -عليه الصلاة والسلام- على الناس لعلم ما فيه والعمل به للكافر والمسلم، لكان أحسن تأويلًا»104. لكن هذا الذي يستحسنه قد اعترض عليه القرطبي -أيضًا- بعموم اللفظ كما تقدم.

    وبعيدًا عن الحكم الفقهي فإن الآية قد جاءت بأمر معلل تضمن أدبًا أُدب به المؤمنون:

    فأما الأدب فهو الاستماع للقرآن الكريم إذا تلي والإنصات له: (ﯙ ﯚ) عليكم أيها المؤمنون (ﯛ ﯜ ﯝ) يعني: أصغوا إليه بأسماعكم؛ لتفهموا معانيه وتتدبروا مواعظه، () يعني: عند قراءته، والإنصات السكوت للاستماع. يقال: نَصَتَ وأَنْصَتَ وانْتَصَتَ بمعنى واحد 105.

    وأما العلة: فهي رجاء المستمع المنصت أن تشمله رحمة منزله سبحانه وتعالى، وذلك حاصل من تدبر ما تضمنته آياته من معانٍ ودلائل ووصايا وأوامر ونواهٍ «فالاستماع والإنصات المأمور بهما هما المؤديان بالسامع إلى النظر والاستدلال، والاهتداء بما يحتوي عليه القرآن من الدلالة على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم المقضي إلى الإيمان به، ولما جاء به من إصلاح النفوس، فالأمر بالاستماع مقصود به التبليغ واستدعاء النظر والعمل بما فيه، فالاستماع والإنصات مراتب بحسب مراتب المستمعين»106.

    فإذا استبعدنا التفكير الفقهي الذي يربط المسألة بالإيجاب أو الندب، فإن محل الاتفاق أن الإنصات إلى آيات الذكر إذا تليت ليس أقل من أن يكون أدبًا عظيمًا يتأدب به العبد الراجي؛ لأن يكون من المشمولين برحمة منزله الرحمن الرحيم.

    ثالثًا: أدبهم مع دلالاته ومعانيه:

    في سياق مدحه لأوليائه، وصف الرحمن عباده المنسوبين تشريفًا إلى جلاله بأنهم إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صمًّا وعميانًا فقال: (ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ) [الفرقان: ٦٣].

    ثم قال سبحانه: (ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ) [الفرقان: ٧٣].

    عن قتادة قال: «لم يصموا عن الحق ولم يعموا عنه، هم قوم عقلوا عن الله فانتفعوا بما سمعوا من كتاب الله. وقال مجاهد: كم من قارىء يقرؤها بلسانه يخر عليها أصم أعمى»107.

    والمعنى: أنهم استمعوا إلى ما فيها من المواعظ وانتفعوا بها، قال أبو السعود: «(ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ) المنطوية على المواعظ والأحكام (ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ) أي: أكبوا عليها سامعين بآذانٍ واعيةٍ مجلين لها بعيون راعية، وإنما عبر عن ذلك بنفي الضد تعريضًا بما يفعله الكفرة والمنافقون»108.

    ومقصد الآية أن تثبت لهم الاتعاظ والانتفاع بعد حسن الإنصات والاستماع، فلما نفت ضده عنهم أضافت إلى ذلك معنى زائدًا، صورته الموازنة بين حالهم وحال المخذولين على جهة الترغيب في هذا، ونصبه في مقام القدوة، والترهيب من ذاك وبيان قبحه وتصويره في صورة النقيصة، «وإذا كان الكلام مقيدًا بقيد كما هنا، فإن النفي ينصب على ذلك القيد في غالب الاستعمال العربي. ونظيره: ما رأيت زيدًا راكبًا، نفيًا للركوب لا للرؤية. ولا يلقاني مُسلِّمًا نفيًا للسلام لا للقاء. فلم ينف عنهم الخرور، وإنما نفى عنهم الصمم والعمى عند الخرور»109. على أنه قد تقدم «وصفهم [هم أنفسهم]. فيما تقدم بإعراضهم عن الباطل، ومجانبتهم لأهله، وبعدهم عنه.

    ثم وصفهم هنا بإقبالهم على الحق، وإكبابهم عليه، متفهمين مستبصرين»110.

    فأما (الخرور): فـ«هو السقوط كسقوط الساجد»111، و «هاهنا أمران: ذكر الخرور، وتسليط النفي عليه. وهل هو خرور القلب أو خرور البدن للسجود؟ وهل المعنى: لم يكن خرورهم عن صمم وعمه. فلهم عليها خرور بالقلب خضوعًا، أو بالبدن سجودًا أو ليس هناك خرور، وعبر به عن القعود؟»112 كلٌّ محتمل. وبناء على اختيار أحد المعنيين يكون حمل الخرور على وقوع السجود منهم حقيقة، أو وقوع الهيبة والشعور بعظمة منزل هذه الآيات في القلب، ولا ريب أن الأمرين واقعان، يقع منهم هذا مرة، ويقع هذا منهم أخرى، وقد يجتمعان معا.

    و«(الأصم): فاقد حاسة السمع، أو الذي لا يتدبر ما يسمع فلا ينتفع به، وهو المراد هنا.

    و(الأعمى): فاقد حاسة البصر، أو الذي لا يعتبر فيما يبصر فلا ينتفع به، ويكون الأعمى بمعنى فاقد الإدراك القلبي، وهو عمى البصيرة، وما هنا يحتمل الوجهين الأخيرين.

    وعبر بـ (إذا)؛ لأن التذكير مما هو واقع محقق، كالذي يسمع من القرآن في الصلاة ومن الخطب في الجمع. وبنى الفعل للنائب؛ لأن التذكير بالآيات يجب قبوله من أي مذكر كان»113.

    وعلى هذا فهؤلاء الموصوفون -على جهة المدح والتشريف- بأنهم عباد الرحمن من صفاتهم التي استحقوا بها المنزلة والثناء «أنهم إذا ذكرهم مذكر بآية ربهم التي أنزلها على نبيهم - صلى الله عليه وآله وسلم- بما فيها من ذكر مخلوقاته وإنعاماته، وأيامه في أوليائه وأعدائه، ووعده ووعيده، وترغيبه وترهيبه- أقبلوا عليها، وأكبوا على سماعها، بآذان واعية، وأبصار راعية، وقلوب حاضرة، وعقول متدبرة. لا كمن يقبلون عليها ويكبون على سماعها، ولكنهم لا يسمعون ولا يبصرون؛ لأنهم لا يعقلون ولا يتدبرون»114.

    وعليه يكون الاتعاظ والانتفاع، والمبادرة والاستجابة والإسراع، من بعد حسن الإنصات والاستماع من أوجب الآداب التي يتأدب بها الطامع في رحمة ربه الراجي لها.

    هذا وقد ذكر كثير من المفسرين أن قوله جل وعلا في السورة نفسها: (ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ) [الفرقان: ٣٠].

    شامل لتارك التدبر والنظر في آيات الله. أي: (ﯘ ﯙ) مناديًا لربه وشاكيًا له إعراض قومه عما جاء به، ومتأسفًا على ذلك منهم: (ﯚ ﯛ ﯜ) الذي أرسلتني لهدايتهم وتبليغهم، (ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ) أي: قد أعرضوا عنه وهجروه وتركوه مع أن الواجب عليهم الانقياد لحكمه والإقبال على أحكامه، والمشي خلفه، قال الله مسليًا لرسوله ومخبرًا أن هؤلاء الخلق لهم سلف صنعوا كصنيعهم فقال: (ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨﯩ) أي: من الذين لا يصلحون للخير ولا يزكون عليه يعارضونهم ويردون عليهم ويجادلونهم بالباطل115.

    وقد ذكر ابن كثير لهذا الهجر صورًا ومراتب فقال: «يقول تعالى مخبرًا عن رسوله ونبيه محمد -صلوات الله وسلامه عليه دائمًا إلى يوم الدين- أنه قال: (ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ)، وذلك أن المشركين كانوا لا يصغون للقرآن ولا يسمعونه، كما قال تعالى: (ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ)، وكانوا إذا تلي عليهم القرآن أكثروا اللغط والكلام في غيره، حتى لا يسمعوه. فهذا من هجرانه، وترك علمه وحفظه أيضًا من هجرانه، وترك الإيمان به وتصديقه من هجرانه، وترك تدبره وتفهمه من هجرانه، وترك العمل به وامتثال أوامره واجتناب زواجره من هجرانه، والعدول عنه إلى غيره -من شعر أو قول أو غناء أو لهو أو كلام أو طريقة مأخوذة من غيره -من هجرانه، فنسأل الله الكريم المنان القادر على ما يشاء، أن يخلصنا مما يسخطه، ويستعملنا فيما يرضيه، من حفظ كتابه وفهمه، والقيام بمقتضاه آناء الليل وأطراف النهار، على الوجه الذي يحبه ويرضاه، إنه كريم وهاب»116.

    وبناء على ما قال فلا يخرج العبد عن أن يعد في أهل هذه الشكوى حتى يكون تاليًا متفهمًا متدبرًا لآيات الكتاب مستأنسًا بها مؤثرًا لها على غيرها.

    قال ابن باديس تحت عنوان (تحذير وتنبيه): «قد صورت الآية حالة المؤمن بالقرآن الذي ينكب عليه، ويتلقاه بالقبول، ثم لا يتفهمه ولا يتدبره، بحالة الأصم الأعمى في عدم انتفاعه بما انكب عليه؛ تقبيحًا لعدم التفهم والتدبر من المؤمن للآيات، وتحذيرًا منه، وتنبيهًا على أن الانتفاع بالقرآن الذي تتفتح به البصائر، وتتسع به المدارك، وتتهذب به الأخلاق، وتتزكى به النفوس، وتتقوم به الأعمال، وتستقيم به الأحوال؛ إنما يكون بتفهمه، وتدبره، دون مجرد الانكباب عليه بلا تفهم ولا تدبر»117.

    وحينئذ فإن «الناس عند تلاوة آيات القرآن على قسمين: معرضين، ومقبلين.

    فالمعرضون غير المؤمنين.

    والمقبلون على قسمين: مقبلين بظاهرهم دون باطنهم، ومقبلين بظاهرهم وباطنهم.

    فالمقبلون بظاهرهم دون باطنهم هم المنافقون.

    والمقبلون بظاهرهم وباطنهم على قسمين: مستمعين، مستبصرين، حاضرين، متدبرين. وغافلين غير متدبرين غير سامعين ولا مبصرين.

    والأقسام كلها مذمومة إلا قسم المقبلين بظواهرهم وبواطنهم، المستمعين المستبصرين. وهذا القسم هو الذي وصف به عباد الرحمن، فكانوا مباينين لأهل الإعراض من الكافرين والمنافقين، ولأهل الغفلة، وعدم التدبر من المؤمنين»118.

    أثر القرآن على المكلفين والجمادات

    قد ورد أنه لو قدر لكلام أن يخلع الجبال عن أماكنها، ويقطع الأرض، أو أن يكلم الموتى في قبورهم به لكان هذا القرآن، وأن لآياته عظمة حقيقة بأن تخشع لها الجبال وتتصدع.

    قال تعالى: (ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ) [الرعد: ٣١].

    فلعظمة القرآن وإعجازه كاد يحدث هذا الأثر العجيب في ما هو شديد من المخلوقات كالجبال، ومع ذلك فقد كفر به خلق وصدوا عنه.

    قال ابن كثير: «يقول تعالى مادحًا للقرآن الذي أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم، ومفضلًا له على سائر الكتب المنزلة قبله: (ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ) أي: لو كان في الكتب الماضية كتاب تسير به الجبال عن أماكنها، أو تقطع به الأرض وتنشق، أو تكلم به الموتى في قبورها، لكان هذا القرآن هو المتصف بذلك دون غيره، أو بطريق الأولى أن يكون كذلك؛ لما فيه من الإعجاز الذي لا يستطيع الإنس والجن عن آخرهم إذا اجتمعوا أن يأتوا بمثله، ولا بسورة من مثله، ومع هذا فهؤلاء المشركون كافرون به، جاحدون له»119.

    فقد كادت آيات القرآن تخلع الجبال، وكذا فإنه لو أنزل عليها لتصدعت وخشعت مع أن قلوب البشر لا تفعل، قال تعالى: (ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ) [الحشر: ٢١].

    فتضمنت الآية تعظيمًا لأمره، وتبيينًا لعلو قدره، وأنه ينبغي أن تخشع له القلوب، وتتصدع عند سماعه؛ لما فيه من الوعد والوعيد الأكيد: (ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔﮕ) أي: فإن كان الجبل في غلظته وقساوته، لو فهم هذا القرآن فتدبر ما فيه، لخشع وتصدع من خوف الله عز وجل، فكيف يليق بكم أيها البشر ألا تلين قلوبكم وتخشع، وتتصدع من خشية الله، وقد فهمتم عن الله أمره وتدبرتم كتابه؟

    ولهذا قال تعالى: (ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ)120، فمن تفكر علم أن في قلوب بعض الناس قسوة تفوق قسوة الجبال.

    وبناء على ما سبق، فإنه يفترض حصول الخشوع في قلوب الناس عند سماع القرآن الكريم، كما نصت على ذلك الآية التي اشتملت على أمر غير مباشر بتحقيق هذا الخشوع، فعن ابن عباس قال: يقول تعالى: لو أني أنزلت هذا القرآن على جبل حملته إياه تصدع وخشع من ثقله، ومن خشية الله، فأمر الله -عز وجل- الناس إذا أنزل عليهم القرآن أن يأخذوه بالخشية الشديدة والتخشع، قال: (ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ) 121.

    ونص على ذلك القرطبي أيضًا فقال: «قوله تعالى: (ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ) حث على تأمل مواعظ القرآن، وبين أنه لا عذر في ترك التدبر، فإنه لو خوطب بهذا القرآن الجبال مع تركيب العقل فيها، لانقادت لمواعظه، ولرأيتها على صلابتها ورزانتها خاشعة متصدعة، أي: متشققة من خشية الله. والخاشع: الذليل. والمتصدع: المتشقق»122.

    وهذا الخشوع أولى بأن يكون أثرًا في قلب المؤمن، وقد وصف القرآن الكريم حالة تحصل في نفس المؤمن تصاحب الخشوع سماها: (شرح الصدر) في قوله عز وجل: (ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ) [الزمر: ٢٢-٢٣].

    ودل سياق الآيات على أن حالة الانشراح هذه مصاحبة للخشوع: فقد قابلتها الآية بصورة القلب القاسي، قال ابن كثير: «وقوله: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚﭛ) أي: هل يستوي هذا ومن هو قاسي القلب بعيد من الحق؟! كقوله تعالى: (ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨﮩ) [الأنعام: ١٢٢]؛ ولهذا قال: (ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡﭢ) أي: فلا تلين عند ذكره، ولا تخشع ولا تعي ولا تفهم، (ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ)123، ثم أعقبت ذلك ببيان أثر القرآن على الجلود والقلوب.

    ومعنى الآية: «أفمن فسح الله قلبه لمعرفته، والإقرار بوحدانيته، والإذعان لربوبيته، والخضوع لطاعته (ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚﭛ) يقول: فهو على بصيرة مما هو عليه ويقين، بتنوير الحق في قلبه، فهو لذلك لأمر الله متبع، وعما نهاه عنه منته فيما يرضيه، كمن أقسى الله قلبه، وأخلاه من ذكره، وضيقه عن استماع الحق، واتباع الهدى، والعمل بالصواب؟

    وترك ذكر الذي أقسى الله قلبه، وجواب الاستفهام اجتزاء بمعرفة السامعين المراد من الكلام، إذ ذكر أحد الصنفين، وجعل مكان ذكر الصنف الآخر الخبر عنه بقوله: (ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡﭢ) فويل للذين جفت قلوبهم ونأت عن ذكر الله وأعرضت، يعني عن القرآن الذي أنزله تعالى ذكره، مذكرًا به عباده، فلم يؤمن به، ولم يصدق بما فيه.

    وقيل: (ﭟ ﭠ ﭡﭢ) والمعنى: عن ذكر الله، فوضعت (من) مكان (عن)، كما يقال في الكلام: أُتخمت من طعام أكلته، وعن طعام أكلته بمعنى واحد، هؤلاء القاسية قلوبهم من ذكر الله في ضلال مبين، لمن تأمله وتدبره بفهم أنه في ضلال عن الحق جائر»124.

    ومقابلة صورتي (منشرح الصدر مقشعر الجلد) و (قاسي القلب) تدل على أن هذا الانشراح مرتبط بالخشوع.

    وكما نصت الآية على انشراح الصدر نصت أيضًا على لين القلب: (ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻﭼ). «واللين: ضد الخشونة، وقوله: (ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻﭼ) فإشارة إلى إذعانهم للحق وقبولهم له بعد تأبيهم منه»125.

    وقد يكون هذا اللين هو المنصوص عليه في قوله عز وجل: (ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ) [الرعد: ٢٨]: أي: «تسكن قلوبهم وتستأنس بذكر الله»126.

    «و(طمأنينة القلوب) هي الاستكانة، والسرور بذكر الله، والسكون به كمالًا به. ورضى بالثواب عليه وجودة اليقين» 127.

    ودل قوله تعالى: (ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ) على أن الطمأنينة لا تحصل إلا بذكر الله وحده. فتكون هذه الحالة النفسية من انشراح الصدر ولين القلب وطمأنينته مصاحبة لهذا الخشوع أو أثرًا له.

    وقد ذكرت آية سورة الزمر تأثيرًا آخر للقرآن الكريم على ما يظهر على أبدانهم فنصت على أن جلودهم تقشعر عند سماعه، كما قال تعالى: (ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ) [الزمر: ٢٣].

    فـ «هذه صفة الأبرار، عند سماع كلام الجبار، المهيمن العزيز الغفار، لما يفهمون منه من الوعد والوعيد. والتخويف والتهديد، تقشعر منه جلودهم من الخشية والخوف»128.

    وهذه الحالة ترد عليهم أولًا، ثم تعقبها حالة أخرى هي لين الجلود والقلوب: «(ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ)؛ لما يرجون ويؤملون من رحمته ولطفه.

    قال السدي: (ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ) أي: إلى وعد الله»129.

    وفي قوله عز وجل: (ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ) «دليل على أن هذه القشعريرة ناتجة عن شيء في القلب وهو الخشوع والخشية؛ عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: «الوجل في القلب كإحراق السعفة، أَمَا تجد له قشعريرة؟ قال: بلى! قال: إذا وجدت ذلك في القلب فادع الله، فإن الدعاء يذهب بذلك»130.

    أي: إنها حالة متفرعة من الخشوع والخوف والوجل، وسائر ذلك مما يرد على قلب المؤمن عند سماعه آيات التنزيل تتلى.

    موضوعات ذات صلة:

    الإنجيل، التوراة، الكتب المنزلة، محمد صلى الله عليه وسلم


1 انظر: الصحاح، الجوهري ١/٦٤، مجمل اللغة، ابن فارس ١/٧٥٠.

2 انظر: التعليقات المختصرة على متن العقيدة الطحاوية، صالح الفوزان ص٦٦، بحوث منهجية في علوم القرآن، موسى إبراهيم الإبراهيم ص١٤.

3 انظر: المعجم المفهرس الشامل لألفاظ القرآن الكريم، عبد الله جلغوم، باب القاف١، ص٩٣٧-٩٣٨.

4 انظر: المفردات، الراغب الأصفهاني، ص٦٦٩.

5 انظر: مشارق الأنوار، القاضي عياض ١/٣٣٥.

6 التوقيف على مهمات التعاريف، المناوي ص٢٧٩.

7 انظر: مختار الصحاح، الرازي ص٢٧٢.

8 التوقيف على مهمات التعاريف، المنًاوي ص٢٨٣.

9 تهذيب الأسماء واللغات، النووي ٣/١١١.

10 الفتوحات الربانية شرح الأذكار النووية ١/٣٩٦.

11 انظر: جامع البيان، الطبري ١٢/٥٢٥.

12 إعجاز القرآن، الباقلاني ص ٥.

13 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل القرآن، باب كيف نزل الوحي إلى النبي صلى الله عليه، ٦/١٨٢، رقم ٤٩٨١.

14 الإتقان في علوم القرآن، السيوطي ٤/٣.

15 إعجاز القرآن، الباقلاني ص ٥.

16 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ١٣/٣٥٥.

17 الإتقان في علوم القرآن، السيوطي ٤/٣.

18 المصدر السابق ٤/٣.

19 قال ابن عاشور رحمه الله: «فالتحدي على صدق القرآن هو مجموع مماثلة القرآن في ألفاظه وتراكيبه، ومماثلة الرسول المنزل عليه في أنه أمي لم يسبق له تعليم ولا يعلم الكتب السالفة».

انظر: التحرير والتنوير ١/٣٣٩.

20 لباب التأويل، الخازن ٢/٤٤٤.

21 الإتقان في علوم القرآن، السيوطي ٤/٣.

22 المحرر الوجيز، ابن عطية ٣/١٥٥.

23 مفاتيح الغيب، الرازي ٢/٢٦٦.

24 بصائر ذوي التمييز، للفيروزآبادي ٥/٣١٤.

25 التفسير المنير، الزحيلي ١٥/٢٩.

26 التفسير الوسيط، طنطاوي ٨/٣٠٣.

27 التحرير والتنوير، ابن عاشور ١٥/٤٠.

28 المصدر السابق.

29 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٦/٢٠٩.

30 انظر ترتيب المدارك وتقريب المسالك، القاضي عياض ٤/٢٨٣

31 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٦/٢٠٩.

32 انظر الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٦/١٨٩ بتصرف يسير.

33 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٦/٢١٠.

34 جامع البيان، الطبري ١٠/٣٤٤.

35 المصدر السابق.

36 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٦/٢١٠.

37 جامع البيان، الطبري ١٠/٣٤٥.

38 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٦/٢١٠.

39 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٧/٢٨١.

40 مفاتيح الغيب، الرازي ١٤/٣٦٠.

41 جامع البيان، الطبري ١٩/٢٦٥.

42 مباحث في علوم القرآن لمناع القطان ص ١٠٦.

43 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٧/٣٦٥.

44 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٣/٣٠٠.

45 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص ٥٦.

46 انظر: لسان العرب، ابن منظور ١٥/٢٩٤، ولم يعزه لأحد.

47 زاد المسير، ابن الجوزي ١/٨١.

48 أنوار التنزيل، البيضاوي ١/٨٩.

49 الوجيز، الواحدي ص ٦٥٠.

50 إعجاز القرآن، الباقلاني ص ١٦.

51 المصدر السابق ص ١٨.

52 المصدر السابق.

53 أخرجه البخاري في صحيحه ٦/١٨٢.

54 فتح الباري، ابن حجر ٩/٧.

55 جامع البيان، الطبري ١١/٢٩٠.

56 المصدر السابق.

57 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٦/٣٩٩.

58 مفاتيح الغيب، الرازي ١٢/٤٩٩.

59 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٦/٣٩٩.

60 مفاتيح الغيب، الرازي ١٢/٤٩٩.

61 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٦/٣٩٩.

62 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٧/١٦٨.

63 جامع البيان، الطبري ١٩/٢٣٦.

64 المصدر السابق ١٤/١٣٨.

65 أحكام القرآن، ابن العربي ٢/٤٥٩.

66 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص٢٤١.

67 جامع البيان، الطبري ١٠/٥٠٧.

68 المصدر السابق.

69 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص٤٦٨.

70 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب تفسير القرآن، باب (فاسجدوا لله واعبدوا)، ٦/١٤٢، رقم ٤٨٦٣.

71 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب تفسير القرآن، باب (فاسجدوا لله واعبدوا)، ٦/١٤٢، رقم ٤٨٦٢.

72 التفسير الوسيط، طنطاوي ١٢/٢١٥.

73 جامع البيان، الطبري ١٠/٥٠٧.

74 تفسير ابن أبي حاتم ٤/١١٨٣.

75 جامع البيان، الطبري ١٠/٤٩٩.

76 جامع البيان، الطبري ١٠/٥٠٥.

77 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٦/٢٤٤.

78 زاد المسير، ابن الجوزي ٢/٤٩٨.

79 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص ٦٧٥.

80 المصدر السابق ص ٧٤٥.

81 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٢٤/٢٧٧.

82 المصدر السابق.

83 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٥/٨٢.

84 المحرر الوجيز، ابن عطية ٥/٤٣٨.

85 أحكام القرآن، ابن العربي ٤/١٧٤.

86 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ١٧/٢٢٦.

87 أحكام القرآن، ابن العربي ٤/١٧٥.

88 أحكام القرآن، الجصاص ٥/٣٠٠.

89 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ١٧/٢٢٦، وانظر: أحكام القرآن، ابن العربي ٤/١٧٥.

90 أحكام القرآن، الكيا الهراسي ٤/٣٩٩.

91 تفسير آيات الأحكام، السايس ص ٧٢١.

92 المصدر السابق.

93 تفسير آيات الأحكام، السايس ص ٧٢١.

94 المصدر السابق ص ٤٢٠.

95 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص ٣١٤.

96 انظر أحكام القرآن، ابن العربي ٢/٣٦٤.

97 أحكام القرآن، الجصاص ٤/٢١٥.

98 أحكام القرآن، الكيا الهراسي ٣/١٤٢.

99 النكت والعيون، الماوردي ٢/٢٩٠.

100 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٧/٣٥٤.

101 المصدر السابق ٧/٣٥٣.

102 المصدر السابق ٧/٣٥٤.

103 لباب التأويل، الخازن ٢/٢٨٦.

104 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٩/٢٤٠.

105 لباب التأويل، الخازن ٢/٢٨٦.

106 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٩/٢٣٩.

107 الدر المنثور ٦/٢٨٤.

108 إرشاد العقل السليم، أبو السعود ٦/٢٣١.

109 تفسير ابن باديس ص ٢٣٣.

110 المصدر السابق.

111 المصدر السابق.

112 التفسير القيم، ابن القيم ص ٤١٣.

113 تفسير ابن باديس ص ٢٣٣.

114 المصدر السابق ص ٢٣٤.

115 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص ٥٨٢.

116 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٦/١٠٨.

117 تفسير ابن باديس ص ٢٣٥.

118 المصدر السابق.

119 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٤/٤٦٠.

120 المصدر السابق ٨/٧٨.

121 جامع البيان، الطبري ٢٣/٣٠١.

122 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ١٨/٤٤.

123 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٧/٩٣.

124 جامع البيان، الطبري ٢١/٢٧٧.

125 المفردات، الراغب ص٧٥٢.

126 جامع البيان، الطبري ١٦/٤٣٢.

127 المحرر الوجيز، ابن عطية ٣/٣١١.

128 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٧/٩٣.

129 المصدر السابق.

130