عناصر الموضوع
الفواحش
أولًا: المعنى اللغوي:
أصل مادة (فحش): تدل على قبحٍ في شيءٍ وشناعةٍ1.
و«الفحش والفحشاء والفاحشة: ما عظم قبحه من الأفعال والأقوال»2.
يقال: فحش الأمر فحشًا: جاوز حده، فهو فاحشٌ، وفحش القول أو الفعل فحشًا وفحاشةً: اشتد قبحه، والفاحشة مؤنث الفاحش القبيح الشنيع من قولٍ أو فعلٍ، والجمع: فواحش3.
وقيل: «المتفحش الذي يتكلف سب الناس ويتعمده، والفحش والفاحشة هو كل ما يشتد قبحه من الذنوب والمعاصي»4.
والفاحش: السيئ الخلق المتشدد البخيل5.
ثانيًا: المعنى الاصطلاحي:
قال الجرجاني: «الفاحشة هي التي توجب الحد في الدنيا والعذاب في الآخرة»6.
قال ابن فارس: «كل شيءٍ جاوز قدره فهو فاحشٌ، ولا يكون ذلك إلا فيما يتكره»7.
وقال الراغب: فَحُشَ فلانٌ: صار فاحشًا، والمتفحش الذي يأتي بالفُحش»8.
قال ابن الأثير: «وكثيرًا ما ترد الفاحشة بدلالة الزنا، ويسمى الزنا فاحشةً»9.
وقال الغزالي: «الفحش: هو التعبير عن الأمور المستقبحة بالعبارات الصريحة، وأكثر ذلك في ألفاظ الوقاع وما يتعلق به، فإن لأهل الفساد عبارات صريحة فاحشة يستعملونها فيه، وأهل الصلاح يتحاشون عنها بل يكنون عنها ويدلون عليها بالرموز؛ فيذكرون ما يقاربها ويتعلق بها»10.
وردت مادة (فحش) في القرآن الكريم (٢٤) مرة11.
والصيغ التي وردت هي:
الصيغة |
عدد المرات |
المثال |
الاسم |
٢٤ |
(ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ) [الأنعام:١٥١] |
وجاءت الفاحشة في القرآن الكريم على أربعة أوجه12:
الأول: المعصية: ومنه قوله تعالى: (ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ) [الأعراف: ٢٨] يعني: المعصية.
الثاني: الزنا: ومنه قوله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ) [النساء: ١٥] يعني الزنا.
الثالث: اللواط: ومنه قوله تعالى: (ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ) [العنكبوت: ٢٨] يعني: إتيان الرجال.
الرابع: نشوز المرأة: ومنه قوله تعالى: (ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ) [النساء: ١٩] يعني: العصيان والنشوز13.
الإثم:
الإثم لغةً:
هو الذنب 14، وقيل: أن يعمل ما لا يحل له.
الإثم اصطلاحًا:
الإثم: استحقاق العقوبة15. والإثم ما يجب التحرر منه شرعًا وطبعًا.
قال تعالى: (ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘﮙ ﮚ ﮛ) [البقرة:٢٠٦].
الصلة بين الفاحشة والإثم:
أن كل فاحشةٍ إثمٌ، وأن فاعلهما يستحق العقوبة في الدنيا والعذاب في الآخرة.
الذنب:
الذنب لغةً:
الإثم والجرم والمعصية، وعلى هذا يكون الذنب مرادفًا للإثم والفاحشة.
الذنب اصطلاحًا:
لا يختلف المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغوي.
الصلة بين الفاحشة والذنب:
أن الفاحشة والذنب كليهما يشعران المرتكب لهما بالخزي والبعد عن رضا الله.
الزنا:
الزنا لغة:
الزنا معناه الفجور، يقال: زنا يزني زنًا: فجر.
الزنا اصطلاحًا:
عرفه الحنفية بأنه وطء الرجل المرأة في القبل في غير الملك وشبهته».
الصلة بين الفاحشة والزنا:
الزنا إحدى الفواحش التي يعاقب فاعلها في الدنيا والآخرة.
المنكر:
المنكر لغةً:
خلاف المعروف ، والمنكر: الأمر القبيح، وأنكرت عليه فعله إذا عبته ونهيته16.
المنكراصطلاحًا:
ما ليس فيه رضا الله من قولٍ أو فعلٍ ، وهو ما أنكره الشرع بالنهي عنه، وهو يعم جميع المعاصي والرذائل والدناءات على اختلاف أنواعها، وقيل: هو الشرك.
الصلة بين الفاحشة والمنكر:
أن المنكر أعم من الفاحشة؛ لأنه يعم جميع المعاصي والرذائل.
الكبائر:
الكبائر لغة:
الكبائر جمع كبيرةٍ، وهي لغةً: الإثم.
الكبائر اصطلاحًا:
كل ذنبٍ عظم الشرع التوعد عليه بالعقاب وشدده، أو عظم ضرره في الوجود، وهي ما كان حرامًا محضًا شرع عليه عقوبة محضة بنصٍ قاطعٍ في الدنيا والآخرة17.
قال تعالى: (ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ) [الشورى:٣٧].
(ﮐ ﮑ) هي الآثام العظيمة التي نهى الشرع عنها، وتوعد فاعلها بعقاب الآخرة، نحو القذف، وقيل: «الكبائر هي كل ما توعد فيه بالنار، وقال الضحاك: أو كان فيه حدٌّ من الحدود. وقال علي وابن عباس: هي كل ما ختمه الله بنارٍ أو غضبٍ أو لعنةٍ أو عذابٍ»18.
تنزيه الله تعالى عن الأمر بالفواحش
لا يختلف العقلاء في أن الله سبحانه وتعالى جعل من أجل مقاصد الشريعة الإسلامية السمحة حفظ نظام الأمة، واستدامة صلاحه بصلاح الإنسان في هذا النظام، ويشمل صلاح عقله وصلاح عمله، ومن يقولون بغير ذلك فلا خلاق لهم.
قال تعالى: (ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ) [الإسراء:٤٣].
بيد أن حصول الأخطاء وارد على الناس كافة، وهذه طبيعة من تكوين البشر، ومن الناس من يقر بالخطأ ويتوب إلى الله؛ فيتقبل الله توبته؛ وجاء في الحديث «عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له)19.
ومن الناس من يجيد تبرير الأخطاء، فكل خاطئ يبرر ما شاء له أن يبرر، ومن ثم يلقون باللائمة والخطأ على الغير، فترى هؤلاء الكفرة يدعون على الله الكذب ويقولون على الله ما لا يعلمون.
قال تعالى: (ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ) [الأعراف:٢٨].
قيل: (فاحشة): «كانت النساء تطوف بالبيت عراة عليهن الرهاط» وفي الطبري: «كانوا يطوفون بالبيت عراة، يقولون: نطوف كما ولدتنا أمهاتنا. فتضع المرأة على قبلها النسعة»20.
فتلك الفاحشة التي وجدوا عليها آباءهم الطواف عرايا، ثم جاء الرد من الله فقد كذبهم الله؛ لأن الله لا يأمر بالقبيح من الأفعال.
قال القرطبي: «الفاحشة هنا في قول أكثر المفسرين طوافهم بالبيت عراة، وقال الحسن:هي الشرك والكفر، واحتجوا على ذلك بتقليدهم أسلافهم، وبأن الله أمرهم بها، وقالوا: لو كره الله ما نحن عليه لنقلنا عنه. (ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ) بين أنهم متحكمون، ولا دليل لهم على أن الله أمرهم بما ادعوا».
وفيه كشف لباطل الكافرين، ونقض لدعواهم أن الله أمرهم بتلك الفواحش، ومما يدحض كذبهم أن الله طيب لايقبل إلا طيبًا، وفي الحديث: عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر. قال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنًا ونعله حسنة. قال: إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس)21.
وقال تعالى: (ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ) [النحل:٨١].
قال القرطبي: «قوله تعالى: (ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ) يعني: القمص، واحدها سربال، قوله تعالى: (ﭼ ﭽ ﭾ) يعني: الدروع التي تقي الناس في الحرب».
فقد ذكر الله النعمة التي اختصهم بها، وهي ملابس تقيهم الحر، ثم بين نعمته عليهم بلبس الدروع التي تقيهم الجرح من السيف أو الرمح.
وقال تعالى: (ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ) [الأعراف:٣١].
قال القرطبي: «قوله تعالى: (ﭒ ﭓ)هو خطاب لجميع العالم، وإن كان المقصود بها من كان يطوف من العرب بالبيت عريانا، فإنه عام في كل مسجد، لأن العبرة للعموم لا للسبب.
وقال تعالى: (ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ) [النحل:٩٠].
الفحشاء: الفحش، وهو كل قبيح من قول أو فعل، قال ابن عباس: هو الزنا. والمنكر ما أنكره الشرع بالنهي عنه، وهو يعم جميع المعاصي: الرذائل والدناءات على اختلاف أنواعها، وقيل: هو الشرك، والبغي هو الكبر والظلم والحقد والتعدي، وحقيقته تجاوز الحد، وهو داخل تحت المنكر، ولكنه تعالى خصه بالذكر اهتماما به لشدة ضرره.
قال تعالى: (ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ) [الأعراف:٣٣].
قال: «لما لبس المسلمون الثياب وطافوا بالبيت وعَيَّرهم المشركون نزلت هذه الآية، والفواحش: الأعمال المفرطة في القبح (ﮅ ﮆ ﮇ) نكاح الأمهات في الجاهلية (ﮈ ﮉ) الزنا، وقيل: سرها وعلانيتها».
وقال الزمخشري: «(ﮄ): ما تفاحش قبحه، أي: تزايد، وقيل: هي ما يتعلق بالفروج»22.
تتعدد أنواع الفواحش التي يوسوس بها الشيطان للإنسان، فالشيطان لا ييأس من محاولة إغواء الإنسان ليقع فيما حرم عليه، ويتسرب إليه من خلال الشهوات الحيوانية الدنيئة والرذائل والقاذورات التي نهى الله عنها ليحيا المجتمع نقيًّا طاهرًا منها، وهي: (الزنا، واللواط، البذاءة، والقذف)، وغيرها مما ينكره الطبع السليم.
قال تعالى: (ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ) [الأنعام:١٥١].
في الآية الكريمة نهي عن مقاربة أو ملابسة جميع أنواع الفواحش، وهي المعاصي، وقيل: «قوله تعالى: (ﮅ ﮆ)نهي عن جميع أنواع الفواحش، وهي المعاصي، و(ﮈ ﮉ) ما عقد عليه القلب من المخالفة، وظهر وبطن حالتان تستوفيان أقسام ما جعلت له الأشياء»؛ لأن الله تعالى قد أمر خلقه بترك ظاهر الإثم وباطنه، وذلك سره وعلانيته، والإثم كل ما عصي الله به من محارمه، وقد يدخل في ذلك سر الزنا وعلانيته وكل معصية لله فيها أمر باجتنابها، فيكون الأمر عاما بالنهي عن كل ما ظهر أو بطن من الفواحش.
والفاحشة: الفعلة الشديدة السوء، بهذا غلب إطلاقها، والجمع الفواحش، وتشمل:
١. الزنا.
قال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ) [النساء:١٥].
الفاحشة في هذا الموضع الزنا، بدليل قوله تعالى: (ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ)، فجعل الله الشهادة على الزنا خاصة أربعة تغليظا على المدعي وسترا على العباد.
والزنا: الوطء في قبل خال عن ملك وشبهة.
لا شك أن الزنا فاحشة من أبشع الفواحش التي نهى الإسلام عنها وتوعد من يقترفها بالعذاب الشديد؛ لأنها تؤدي إلى اختلاط الأنساب التي حفظها الإسلام، كما أنها تؤدي إلى كشف العورات التي أمرنا الله تعالى بسترها وعدم الاقتراب منها.
قال تعالى: (ﮊ ﮋ ﮌﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ) [الإسراء:٣٢].
قال الزمخشري: «(ﮐ) قبيحة زائدة على حد القبح، (ﮑ ﮒ) وبئس طريقا طريقه، وهو أن تغضب على غيرك امرأته أو أخته أو ابنته من غير سبب»23.
في الحديث: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشرب وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن)24.
فآفة الزنا فاحشة حرم إتيانها، ونهى الله عن الاقتراب منها في آيات القرآن الكريم والحديث الشريف.
والإسلام حرم الانحراف عن السلوك القويم الذي يمثل خروجا عن الفطرة التي فطر الله الناس عليها، وشرع العلاج لمن يرتكب الفاحشة وينتهك المحارم حتى ينتهي عن ذلك، ووضع لها الحدود الرادعة التي تتناسب وخطورة الذنب وقاية للمجتمع من الضياع والفساد.
وقد حرم الله الزنا لمنع الإفساد واختلاط الأنساب، وجعل حد الزنا قاسيا لما يصيب المجتمع من الأمراض الأخلاقية والنفسية التي تهتك ستر المجتمع وتمزق أوصاله وتؤدي به إلى الهلاك، فكانت حكمة الله من تحريم الزنا وفرض العقوبات الرادعة لمقترفيها، فقال تعالى: (ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ) [النور:٢-٣].
وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خذوا عني خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلًا، البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم)25.
وقال تعالى: (ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ) [النجم:٣٢].
هذ نعت للمحسنين، أي: هم الذين لا يرتكبون كبائر الإثم، وهو الشرك؛ لأنه أكبر الآثام.
والفواحش الزنا، وقال مقاتل: كبائر الإثم كل ذنب ختم بالنار، والفواحش كل ذنب فيه الحد، (ﮣ): هي صغائر الذنوب التي لا يسلم من الوقوع فيها إلا من عصمه الله وحفظه».
قال الزمخشري: «الكبائر» الذنوب التي لايسقط عقابها إلا بالتوبة، «والفواحش» مافحش من الكبائر26.
وقوله تعالى: (ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ) [النحل:٩٠].
قال ابن عطية: (ﮅ) الزنا، قاله ابن عباس، وغيره من المعاصي التي شناعتها ظاهرة وفاعلها أبدا مستتر بها، وكأنهم خصوها بمعاني الفروج، والمنكر أعم منه؛ لأنه يعم جميع المعاصي والرذائل»
وتشمل اللواطة، كما في قوله تعالى: (ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ) [الأعراف:٨٠].
قال ابن عطية: (ﯚ) هنا إتيان الرجال في الأدبار، وروي أنه لم تكن هذه المعصية في أمم قبلهم، وأنهم كانوا يأتي بعضهم بعضًا، وروي أنهم إنما كانوا يأتون الغرباء»27.
٢. اللواط.
اللواط: إتيان الذكور في الدبر، وهو عمل قوم نبي الله لوط عليه السلام، وتعد أبغض الفواحش؛ لأنها تفسد الدين والدنيا معًا، وتهدم الأخلاق، وتمحق الرجولة، وتذهب الخير مـن حياة مقترفيها، ومن ثم يلحــق مرتكبيها الخـزي والعار؛ لأن اللواط ضرر عظيم للفرد والمجتمع، ومتى انتشرت هذه الآفة في مجتمع عاقبه الله بأمراض تنتشر فيه.
وقد بين القرآن الكريم جريمة اللواط، وما حل بقوم لوط عليه السلام الذين فعلوا الفواحش.
قال تعالى: (ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ) [النمل:٥٤-٥٥].
وفيها ينكر الله على قوم لوط إتيانهم للفاحشة، وعدم إنكارهم لها؛ فهم يبصرون المنكر، ولا ينكرونه، وهم يأتون الرجال شهوة، ويفسدون الفطرة السليمة التي فطر الله الناس عليها، وهي استمتاع الرجل بالمرأة.
قال النحاس: «أي: وأنتم تعلمون أنها فاحشة فذلك أعظم لذنبكم. وقيل: يرى بعضكم ذلك من بعض ولا يكتمه منه. وقيل: المراد بالبصر العلم بقبح هذا الصنيع. وقيل: كانوا يتناكحون أمام أنظار المشاهدين كما تفعل الكلاب والحمير؛ فالرؤية إذًا بصرية، أي: يرى بعضهم بعضًا دون خجل ولا حياء»28.
وقال تعالى: (ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ) [الأعراف:٨٠-٨١].
فهؤلاء القوم أحدثوا فاحشة استمتاع الرجال بالرجال، فأمر الله لوطا عليه السلام لما نزل بقريتهم سدوم في رحلته مع عمه إبراهيم عليه السلام أن ينهاهم، ويغلظ عليهم، والإتيان المستفهم عنه والعمل، أي: أتعملون الفاحشة؟! وكني بالإتيان على العمل المخصوص، وهي كناية مشهورة، والفاحشة: الفعل الدنيء الذميم، والمراد هنا فاحشة معروفة، فالتعريف للعهد، وأنكر عليهم إتيان الفاحشة، وعبر عنها بالفاحشة التي لم تكن معروفة في البشر.
وقوله تعالى: (ﯧ ﯨ ﯩ) لتفظيع فعل هذه الفاحشة، وتسمية هذا الفعل فاحشة؛ لأنه يشتمل على مفاسد كثيرة، منها استعمال الشهوة في غير ما خلقت له؛ لأن الله خلق في الإنسان الشهوة لإرادة بقاء النوع؛ ولأن ذلك الفعل يجلب أضرارا للفاعل والمفعول بسبب استعمال محلين في غير ما خلقا له.
وقال تعالى: (ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ) [العنكبوت: ٢٨-٢٩].
قطع السبيل: الطريق، يفعلون هذا مع فساد أخلاقهم وانتكاس فطرتهم.
قال ابن كثير: «فإن الله تعالى أهلكهم بأنواع من العقوبات، وجعل محلتهم من الأرض بحيرة منتنة قبيحة المنظر والطعم والريح، وجعلها بسبيل مقيم يمر بها المسافرون ليلا ونهارا» 29.
وقال تعالى: (ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ) [الشعراء:١٦٥].
وقال تعالى: (ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ) [القمر:٣٧].
«قوله تعالى: (ﮙ ﮚ) قال أبو عبيدة: مطموسة بجلد كالوجه. وقال ابن عباس والضحاك: استعارة، وإنما حجب إدراكهم فدخلوا المنزل ولم يروا شيئًا، فجعل ذلك كالطمس» 30.
وقال تعالى: (ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ) [الأنبياء:٧٤].
ومما سبق من الآيات نجد أن قوم لوط، قد وصفوا بعدد من الأوصاف نوجزها فيما يلي:
أنهم جاؤوا بفعل لم يسبقوا إليه، وأنهم مسرفون في ضلاهم؛ فقد جمعوا بين الشرك والرذيلة.
وأنهم أصحاب فطرة فاسدة؛ فهم مفسدون ظالمون؛ لإتيانهم الرجال؛ ولأنهم صاروا يرون القبيح حسنا والحسن قبيحا، فهم قوم سوء فاسقون، بل قوم مجرمون فاجرون، فهم لا يتناهون عن منكر فعلوه، فقد جمعوا بين أصناف المنكرات والرذائل، وهذه الأصناف كلها تدخل في إطار الفاحشة.
وإتيان المرأة في دبرها، منهي عنه.
قال تعالى: (ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ) [البقرة:٢٢٣].
قال ابن عطية: «قوله تعالى: (ﯡ ﯢ ﯣ) قال جابر: سببها أن اليهود قالت: إن الرجل إذا أتى المرأة من دبرها في قبلها جاء الولد أحول. وعابت على العرب ذلك، فنزلت الآية تتضمن الرد على قولهم، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، وانتشر كلام الناس، فنزلت الآية مبيحة الهيئات كلها، إذ كان الوطء موضع الحرث، فلفظة (الحرث) تعطي أن الإباحة لم تقع إلا في الفرج خاصة؛ إذ هو المزدرع»31.
تحريم فاحشة اللواط: إن اللواط أفحش فاحشة وشر رذيلة، وهو شر من الزنا؛ لهذا حرمت النصوص الشرعية هذه الفاحشة، ورهبت منها ترهيبًا عظيمًا، إن الله لما ذكر الزنا:
قال تعالى: (ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ) [الإسراء:٣٢].
فجاءت (ﮐ) نكرة، ولما ذكر اللواط.
قال تعالى: (ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ) [النمل:٥٤].
وقال تعالى: (ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ) [العنكبوت:٢٨].
فتعريف الفاحشة في اللواط إنما يدل على أنه أفحش من الزنا.
ولا خلاف أن عمل قوم لوط أعظم من الزنا.
قال ابن القيم: «ومن تأمل قوله سبحانه: (ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ)، وقوله تعالى في اللواط: (ﮭ ﮮ) تبين له تفاوت ما بينهما؛ فإنه سبحانه نكر الفاحشة في الزنا، أي هو فاحشة من الفواحش، وعرفها في اللواط، وذلك يفيد أنه جامع لمعاني اسم الفاحشة، أي: تأتون الخصلة التي استقر فحشها عند كل أحد، فهي لظهور فحشها وكماله غنية عن ذكرها بحيث لا ينصرف الاسم إلى غيرها»32.
والمسلم مأمور باجتناب الفواحش، فكل آية في القرآن تحرم علينا الفاحشة، فهي محرمة لفعل قوم لوط، وقد عاقب الله أهل هذه القرية بالهلاك، فجعل عاليها سافلها، وكذلك قلبوهم، ونكسوا في العذاب على رؤوسهم، فالجزاء من جنس العمل.
قال تعالى: (ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ) [الأعراف:٨٤].
وقال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ) [هود:٨٢-٨٣].
وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث عن مقارفة هذه الفاحشة اللعينة، ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم حرم دواعيها وما يؤدي إلى ملابستها، وقد جاء في الحديث عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل، ولا المرأة إلى عورة المرأة، ولا يفضي الرجل إلى الرجل في ثوب واحد، ولا تفضي المرأة إلى المرأة في الثوب الواحد)33.
ففي الحديث تجد النهي عن نظر الرجل إلى عورة الرجل، والمرأة إلى عورة المرأة، وكذا نظر الرجل إلى عورة المرأة والمرأة إلى عورة الرجل حرام بالإجماع، أما قوله صلى الله عليه وسلم: (ولا يفضي الرجل إلى الرجل في ثوب واحـد) وكــذا المرأة مع المرأة؛ فهو نهي تحريم إذا لم يكن بينهما حائل، وفيه دليل عـلى تحريم لمس عورة غيره بأي موضع من بدنه؛ لأن ممارسة الفواحش (الزنا واللواط) تؤدي إلى الإصابة بالأمراض المهلكة، إذ تنتقل الأمراض التناسلية عن طريق الاتصال الجنسي غير المشروع، ومنها: الإيدز، الزهري، السيلان.
الإيدز: يعني فقدان جسم الإنسان القدرة على مقاومة الأمراض، وينتقل المرض عن طريق الاتصال الجنسي المحرم بين الذكور والذكور (اللواط)، أو بين الذكور والإناث (الزنا).
الزهري: وهو مرض خطير ينتج عن ممارسات الجنس الشاذة.
السيلان: مرض ينتشر في أوساط الفسقة الفجرة لارتباطه بارتكاب الفاحشة، فهو غالبا ما يصيب الجهاز البولي والتناسلي للرجل والمرأة، وتنتقل العدوى من الشخص المصاب إلى السليم عن طريق المباشرة باللواط أو عند الزنا بالنساء، وغير ذلك.
وأما حد جريمة اللواط: فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل الفاعل والمفعول به، ففي الحديث: عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به)34.
وقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بقتل الفاعل والمفعول به؛ لأنه لا خير في بقائهما؛ لفساد طويتهما، فمن كان بهذه المثابة فلا خير للخلق في بقائه، فلا حياء ولا كرامة ولا إيمان لهؤلاء.
ولما كان الجرم شديدًا والعاقبة وخيمة وجب دعاء الله تبارك وتعالى والتضرع إليه؛ لأن الله لا يرد من طلب معونته بالصدق معه، والبعد عن أسبابها، وما يذكر المرء بها، والابتعاد عن أصحاب السوء، وأن يشغل المرء نفسه بالطاعة، فالنفس إن لم تشغلها بالطاعة شغلتك بالمعصية، فالعاقل من يفكر في كل عمل يقوم به، فيدرك أن النشوة المحرمة تعقبها منغصات وآلام وندم وقلق يلازمه دائمًا.
ومن ثم فإن عليه المبادرة بالزواج، فإن لم يستطع فالإكثار من الصوم، فالصوم جنة؛ لأنه يكبح جماح الشهوات، والخشوع في الصلاة، والإقبال على الله؛ فإنها تنهى عن كل فاحشة وكل منكر.
قال تعالى: (ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨﯩ ﯪ ﯫ ﯬﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ) [العنكبوت:٤٥].
ومن ثم فإنه يجب أن يدرك الناس أن الله يغفر الذنوب جميعا.
قال تعالى: (ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ) [الزمر:٥٣].
فلا يخرج من هذا العموم ذنب واحد، وهذا في حق التائبين خاصة.
٣. البذاءة.
قال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙﭚ ﭛ ﭜ ﭝﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩﭪ ﭫ ﭬ ﭭﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ) [الطلاق:١].
قال ابن عطية: «قال بعض الناس: الفاحشة متى وردت في القرآن معرفة فهي الزنا، ومتى وردت منكرة فهي المعاصي، يراد بها سوء عشرة الزوج، ومرة غير ذلك»35.
وقوله تعالى: (ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ) الفاحشة: الفعلة الشديدة السوء، بهذا غلب إطلاقها، وهي متى وردت منكرة فهي المعاصي، ووصفها بـ(ﭩ) يراد به أنها واضحة في جنس الفواحش، أي: فاحشة عظيمة، وقد اختلف في المراد من الفاحشة هنا، وفي معنى الخروج لأجلها، قال القرطبي: «قال ابن عباس وابن عمر والحسن والشعبي ومجاهد: هو الزنا، فتخرج ويقام عليها الحد. وعن ابن عباس أيضًا والشافعي أنه البذاء على أحمائها، فيحل لهم إخراجها»36.
وقال ابن عطية: «قال ابن عباس: ذلك النداء على الأحماء، فتخرج ويسقط حقها في السكنى»37.
وقال تعالى: (ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ) [الأحزاب:٣٠].
يخاطب الله نساء النبي؛ لأنهن صرن على عهد مع الله أن يؤتيهن أجرا عظيما، ويحذرهن من المعاصي، وجعل عذاب المعصية على فرض أن تأتيها إحداهن عذابا مضاعفا، والمراد بالنساء هنا الحلائل، والفاحشة المعصية، وكلما وردت الفاحشة في القرآن نكرة فهي المعصية، وإذا وردت معرفة فهي الزنا ونحوه.
وقال ابن عطية عن (الفاحشة): «إذا وردت موصوفة بالبيان فهي عقوق الزوج وفساد عشرته، ولذلك يصفها بالبيان، إذ لا يمكن سترها» 38.
وقد تطلق الفاحشة على الأعمال السئية عمومًا.
قال تعالى: (ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ) [الأعراف:٢٨] قيل: (فاحشة) «كانت النساء تطوف بالبيت عراة عليهن الرهاط»39.
كانوا يطوفون بالبيت عراة، يقولون: نطوف كما ولدتنا أمهاتنا. فتضع المرأة على قبلها النسعة، فتلك الفاحشة التي وجدوا عليها آباءهم الطواف عرايا.
وقال القرطبي: «الفاحشة هنا في قول أكثر المفسرين طوافهم بالبيت عراة، وقال الحسن:هي الشرك والكفر»40.
وقال تعالى: (ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ) [النساء:١٩].
قال ابن عطية: «واختلف الناس في معنى الفاحشة هنا، فقال الحسن بن أبي الحسن: هو الزنا. وقال ابن عباس رضي الله عنه: الفاحشة في هذه الآية البغض والنشوز. وقاله الضحاك وغيره»41.
وقوله تعالى: (ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ) [الأعراف:٣٣].
«قال الكلبي: لما لبس المسلمون الثياب وطافوا بالبيت عيرهم المشركون؛ فنزلت هذه الآية. والفواحش الأعمال المفرطة في القبح، ما ظهر منها وما بطن، وعن مجاهد قال: (ﮅ ﮆ ﮇ) نكاح الأمهات في الجاهلية (ﮈ ﮉ) الزنا. وقال قتادة: سرها وعلانيتها»42.
٤. نكاح المحارم.
من الإعجاز التشريعي في القرآن أن الله تبارك وتعالى أنزل فيه تحريم الزواج بين بعض الأفراد، وهذا المنع إما لشدة القرابة بين الذكر والأنثى، التي من شأنها أن تأبى على كل واحد منهما أن يعاشر الآخر معاشرة الأزواج، لما في ذلك من منافاة للفطرة، ولما قد ينعكس عن ذلك من آثار غير حميدة على أبناء المجتمع، كما يكون له تأثير على النسل، إلى جانب ما يكون هناك من موروثات تنتقل من فرد إلى فرد من أفراد الأسرة القريبين من بعضهم كل القرب، ومن ثم نص القرآن على حرمة التزوج بالمحارم: الأمهات، والبنات، والأخوات، والعمات، والخالات، وبنات الإخوة، وبنات الأخوات، وهو ما يعرف بنكاح المحارم.
قال تعالى: (ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ) [النساء:٢٢].
يقال: كان الناس يتزوجون امرأة الأب برضاها بعد نزول قوله تعالى: (ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ) حتى نزلت هذه الآية: (ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ)، فصار حرامًا في الأحوال كلها؛ لأن النكاح يقع على الجماع والتزوج؛ فإن كان الأب تزوج امرأة أو وطئها بغير نكاح حرمت على ابنه43.
وقيل: «الصحابة تلقت الآية على ذلك المعنى؛ ومنه استدلت على منع نكاح الأبناء حلائل الآباء، وقد كان في العرب قبائل قد اعتادت أن يخلف ابن الرجل على امرأة أبيه44.
وكانت في قريش مباحة مع التراضي، وقوله تعالى: (ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ) أي: تقدم ومضى، أي: لكن ما قد سلف فاجتنبوه ودعوه، فإن فعلتم تعاقبون وتؤاخذون إلا ما قد سلف، وقوله تعالى: (ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ) عقب بالذم البالغ المتتابع، وذلك دليل على أنه فعل انتهى من القبح إلى الغاية.
قال تعالى: (ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ) [النساء:٢٣-٢٤].
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: حرم من النسب سبع، ومن الصهر سبع، وتلا هذه الآية45.
وقوله تعالى: (ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ) فحرم نكاح أمهاتكم ونكاح بناتكم، فقد بين في هذه الآية ما يحل من النساء وما يحرم، كما ذكر تحريم حليلة الأب، فحرم الله سبعا من النسب وستا من رضاع وصهر، وألحقت السنة المتواترة سابعة، وذلك الجمع بين المرأة وعمتها، ففي الحديث: (عن قبيصة بن ذؤيب أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يقول: نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن تنكح المرأة على عمتها والمرأة وخالتها؛ فنرى خالة أبيها بتلك المنزلة؛ لأن عروة حدثني عن عائشة قالت: حرموا من الرضاعة ما يحرم من النسب)46.
فالسبع المحرمات من النسب: الأمهات، والبنات، والأخوات، والعمات، والخالات، وبنات الأخ، وبنات الأخت.
أما قوله تعالى: (ﭒ ﭓ ﭔ) فعطف على المحرمات المذكورات قبلها، وقد اختلف في تأويلها، فقيل: «المراد بالمحصنات هنا المسبيات ذوات الأزواج خاصة، أي: هن محرمات، إلا ما ملكت اليمين بالسبي من أرض المعركة، وفي قول آخر: هن ذوات الأزواج؛ ويرجع ذلك إلى أن الله حرم الزنا. وقيل: يراد به العفائف، أي: كل النساء حرام، وألبسهن اسم الإحصان، من كان منهن ذات زوج أو غير ذات زوج»47.
والسبع المحرمات بالصهر والرضاع: الأمهات من الرضاعة، والأخوات من الرضاعة، وأمهات النساء، والربائب: ابنة زوجه، وحلائل الأبناء -الحلائل جمع حليلة، وهي زوج الابن- والجمع بين الأختين، وألا يتزوج الابن امرأة أبيه، أي: من سبق للآباء الزواج منهن.
ومعنى قوله تعالى: (ﮔ ﮕ) أي: اللاتي دخلتم بهن.
وقوله تعالى: (ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ) أي: لا يحل له الزواج من ابنة زوجته التي دخل بها.
وقال ابن عطية: «اختلف العلماء في معنى قوله: (ﮝ ﮞ) فقال ابن عباس وطاوس وابن دينار: الدخول في هذا الموضع الجماع، فإن طلق الرجل بعد البناء وقبل الوطء؛ فإن ابنتها له حلال. وقال جمهور من العلماء منهم مالك ابن أنس وعطاء بن أبي رباح وغيرهم: إن التجريد والتقبيل والمضاجعة وجميع أنواع التلذذ يحرم الابنة كما يحرمها الوطء»48.
وقد جاء النهي صريحًا من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا نكح الرجل المرأة فلا يحل له أن يتزوج أمها دخل بالبنت أو لم يدخل، وإذا تزوج الأم فلم يدخل بها ثم طلقها فإن شاء تزوج البنت)49.
وعن مالك عن غير واحد أن عبد الله بن مسعود استفتي وهو بالكوفة عن نكاح الأم بعد الابنة إذا لم تكن الابنة مست فأرخص في ذلك، ثم إن ابن مسعود قدم المدينة فسأل عن ذلك فأخبر أنه ليس كما قال وإنما الشرط في الربائب، فرجع ابن مسعود إلى الكوفة، فلم يصل إلى منزله حتى أتى الرجل الذي أفتاه بذلك فأمره أن يفارق امرأته. قال مالك في الرجل تكون تحته المرأة ثم ينكح أمها فيصيبها: إنها تحرم عليه امرأته ويفارقهما جميعا ويحرمان عليه أبدًا إذا كان قد أصاب الأم، فإن لم يصب الأم لم تحرم عليه امرأته وفارق الأم.
وقال مالك في الرجل يتزوج المرأة ثم ينكح أمها فيصيبها: إنه لا تحل له أمها أبدًا، ولا تحل لأبيه ولا لابنه، ولا تحل له ابنتها وتحرم عليه امرأته. قال مالك: فأما الزنا فإنه لا يحرم شيئا من ذلك؛ لأن الله تبارك وتعالى قال: (ﮔ ﮕ) فإنما حرم ما كان تزويجًا ولم يذكر تحريم الزنا، فكل تزويج كان على وجه الحلال يصيب صاحبه امرأته فهو بمنزلة التزويج الحلال، فهذا الذي سمعت والذي عليه أمر الناس عندنا50.
وقوله تعالى: (ﮎ ﮏ ﮐ)، وهي في التحريم نحو ما جاء في الحديث الشريف:
عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (جاء عمي من الرضاعة فاستأذن علي، فأبيت أن آذن له حتى أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته عن ذلك فقال: إنه عمك فأذني له. قالت: فقلت: يا رسول الله، إنما أرضعتني المرأة، ولم يرضعني الرجل؟! قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه عمك فليلج عليك. قالت عائشة: وذلك بعد أن ضرب علينا الحجاب. قالت عائشة: يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة)51.
فإذا أرضعت المرأة طفلًا حرمت عليه؛ لأنها أمه، وبنتها؛ لأنها أخته، وأختها؛ لأنها خالته، وأمها؛ لأنها جدته، وبنت زوجها؛ لأنها أخته، وأخته؛ لأنها عمته، وأمه؛ لأنها جدته، وبنات بنيها وبناتها؛ لأنهن بنات إخوته وأخواته.
قوله تعالى: (ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ) أي: حرم جمع الزوجتين بعقد النكاح، وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تعرضن علي بناتكن ولا أخواتكن) كما جاء في الحديث.
عن عروة بن الزبير أن زينب بنت أبي سلمة أخبرته أن أم حبيبة بنت أبي سفيان أخبرتها أنها قالت: (يا رسول الله، انكح أختي بنت أبي سفيان. فقال: أوتحبين ذلك؟ فقلت: نعم، لست لك بمخلية، وأحب من شاركني في خير أختي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن ذلك لا يحل لي. قلت: فإنا نحدث أنك تريد أن تنكح بنت أبي سلمة. قال: بنت أم سلمة؟ قلت: نعم. فقال: لو أنها لم تكن ربيبتي في حجري ما حلت لي، إنها لابنة أخي من الرضاعة، أرضعتني وأبا سلمة ثويبة، فلا تعرضن علي بناتكن ولا أخواتكن. قال عروة: وثويبة مولاة لأبي لهب، كان أبو لهب أعتقها، فأرضعت النبي صلى الله عليه وسلم، فلما مات أبو لهب أريه بعض أهله بشر حيبة. قال له: ماذا لقيت؟ قال أبو لهب: لم ألق بعدكم غير أني سقيت في هذه بعتاقتي ثويبة)52.
ومن المحارم، كذلك تحريم الجمع بين المرأة وعمتها، أو بين المرأة وخالتها، فقد جاء في الحديث: (عن قبيصة بن ذؤيب أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يقول: نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن تنكح المرأة على عمتها والمرأة وخالتها، فنرى خالة أبيها بتلك المنزلة؛ لأن عروة حدثني عن عائشة قالت: حرموا من الرضاعة ما يحرم من النسب)53.
تتنوع أسباب ارتكاب الفواحش تبعا لاختلاف الأفراد في المجتمع، فتجد لكل عاص أسبابه الخاصة التي تدفعه لارتكاب الفاحشة، فقد تكون هذه الأسباب بسبب عصيان أوامر الله أو اجتناب نواهيه، وكل عصيان لله يكون بتتبع خطوات الشيطان، واتباع هوى النفس بممارسة الفاحشة، أو تقليد أصحاب السوء؛ لذلك كان الأمر من الله تعالى بعدم الاقتراب من الفواحش على نحو ما سنبينه.
أولًا: عصيان أوامر الله تعالى:
المعصية: مخالفة الأمر قصدًا54.
وهي نوعان:
وهذه تحدث وقت صدور الأمر بافعل أو لا تفعل، ويقال لك: افعل فلا تفعل، أو يقال لك: لا تفعل فتفعل، ولا تسمى عاصيًا إلا إذا لم تطبق الأمر ساعة صدوره إليك، فقد خلق الله الكون لحكمة يعلمها، وخلق الإنسان ليعبده ويمجده ويسبح بحمده ويفعل ما يأمره به، قال تعالى: (ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ) [الذاريات:٥٦].
قال ابن عباس وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما: المعنى: وما خلقت الجن والإنس إلا لآمرهم بعبادتي، وليقروا لي بالعبودية، فعبر عن ذلك بقوله (ﭸ) إذ العبادة هي مضمون الأمر55.
لذلك فإن الإنسان إذا ما سولت له نفسه عصيان أوامر الله تعالى وطاعة الشيطان فلا يلومن إلا نفسه.
قال تعالى: (ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ) [الأنعام:١٥].
قال تعالى: (ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ) [الشعراء:٢١٦].
فقد حذرنا الله تعالى من مغبة المعصية وعواقبها الوخيمة، وحذرنا من التمادي فيها.
قال تعالى: (ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ) [النساء:٤٢].
قال: «والمعنى: لو يسوي الله بهم الأرض، أي: يجعلهم والأرض سواء. تمنوا لو لم يبعثهم الله وكانت الأرض مستوية عليهم؛ أنهم من التراب نقلوا»56.
وذلك لأنهم عصوا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال تعالى: (ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ) [المائدة:٧٨-٧٩].
ولقد لعن العصاة المعتدون بسبب عصيانهم؛ ولأنهم لم يكونوا ينهون أنفسهم عن ارتكاب المعاصي.
قال القرطبي في قوله تعالى: (ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ) «أي: لا ينهى بعضهم بعضا، وقوله تعالى: (ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ) ذم لتركهم النهي، وكذا من بعدهم يذم من فعل فعلهم»57.
ذم الله تعالى هذه الفرقة الملعونة؛ لأنهم كانوا يتجاهرون بالمعاصي، وإن نهى منهم ناه فعن غير جد، بل كانوا لا يمتنع الممسك منهم عن مواصلة العاصي ومؤاكلته وخلطته.
وقال ابن عطية: «والإجماع منعقد على أن النهي عن المنكر فرض لمن أطاقه وأمن الضرر على نفسه وعلى المسلمين، فإن خاف فينكر بقلبه ويهجر ذا المنكر ولا يخالطه»58.
ثانيًا: اتباع خطوات الشيطان:
كل معصية لله فهي من خطوات الشيطان، وخطوات الشيطان هي نزغات الشيطان، فالشيطان يدعو البشر إلى الانغمـاس في الشهوات وعمل المنكرات والوقوع في الفحشاء، والخطوات التي يقـع فيها البشر كثيرة، وقد توعد الشيطان الإنسان بأن يفسد عليه إيمانه وطاعته لله، ليس فقط على سبيل الخطايا وحدها، أو السبل وحدها، بل هو تعبير لما يريده الشيطان من الإنسان منذ تكليفه إلى حين خروج الروح من الجسـد، فالشيطان يسلب الإنسان دينه من حيث لا يدري لا يكاد المرء يميز بين مراحله كحال الخطوة التـي تتـبعها الخطوة، وطريق الشيطان يبدأ بالوسوسة، فتسول له نفسه، أو التزيين بالتحسين تارة أخرى غير ذلك، ثم تتوالى الخطوات حتى يتم الزلل؛ فيقع الإنسان في المعصية، وهذا ما يتضح من خلال السياق القرآني، فالله يبين أن تلك الخطـوات إنما هي أوامر شر وفحش وسوء، ولذا جاء النهي عن اتباع خطوات الشيطان.
وقال تعالى: (ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ) [النور:٢١].
يأمر الله تعالى المؤمنين بألا يتبعوا خطوات الشيطان، وما يأمر به أولياءه، والشيطان إنما يأمر أولياءه بفعل الفاحشة وإشاعتها وارتكاب المنكرات، فمن اتبع خطوات الشيطان جره إلى ارتكاب هذه الموبقات.
أما خطوات الشيطان، فقيل: آثاره. وقيل: عمله. وقيل: طرقه التي يدعوهم إليها. وقال قتادة والسدي: «كل معصية لله، فهي من خطوات الشيطان»59.
وقال ابن عطية: «وكل ما عدا السنن والشرائع من البدع والمعاصي فهي خطوات الشيطان»60.
واتباع خطوات الشيطان إنما يقصد بها اتباع ما يصد عن سبيل الله، وقد تكرر النهي في القرآن الكريم عن اتباع خطوات الشيطان، ولم يقل: لا تتبعوا الشيطان. وجاء ذكر خطوات الشيطان في أربعة مواضع، كلها بصيغة النهي عن اتباعها، وهذه المواضع:
ذكر خطوات الشيطان في موضعين :
ومنهم من يفتون الناس بغير علم، ووجه دخوله في القول على الله بلا علم؛ لأنه لو علم عظمة الله لما اجترأ على انتهاك شريعته، وقال تعالى: (ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ) [الأنعام:١٤٢].
وخطوات الشيطان مع الإنسان فيما يتعلق بالطعام لها مسلكان: تحريم حلال، أو إباحة حرام.
إذ يزين الكسب المحرم بحيث يصير ما يشترى به الطعام مالا حرامًا، وقد يكون الدافع للكسب الحرام خوف الفقر والجوع، وهذا هاجس من الشيطان، وعلى أن خطوات الشيطان لا تقتصر على إباحة المحرم فقط، بل تكون كذلك في تحريم الحلال من الطعام أو غيره. «وعن مسروق قال: أتى عبد الله بن مسعود بضرع وملح، فجعل يأكل، فاعتزل رجل من القوم، فقال ابن مسعود: ناولوا صاحبكم. فقال: لا أريده. فقال: أصائم أنت؟ قال: لا. قال: فما شأنك؟ قال: حرمت أن آكل ضرعًا أبدًا. فقال ابن مسعود: هذا من خطوات الشيطان، فأطعم وكفر عن يمينك»61.
وجاء ذكر خطوات الشيطان في سياق الأمر بأخذ شرائع الإسلام كلها، قال تعالى: (ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ) [البقرة:٢٠٨].
فمن اتبع خطوات الشيطان في الترخيص للناس وإرضائهم بغير حق، فإنه ينتهي به المطاف إلى إباحة المحرمات وإسقاط الواجبات؛ لأن الله لما أمر بالدخول في الإسلام كافة وأخذ الشرائع كلها، نهى عن اتباع خطوات الشيطان؛ لأن الشيطان يصد الناس عن الأخذ بالشرائع كلها.
وجاء ذكر خطوات الشيطان في سياق النهي عن الفواحش، قال تعالى: (ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ) [النور:٢١].
وجاء ذكر خطوات الشيطان في سياق النهي عن الفواحش، وهي طريقة الشيطان في استدراج الإنسان إلى المعاصي بأخذهم إليها شيئا فشيئا، حتى يقعوا في الفاحشة؛ لذا حذرنا الله من اتباع خطوات الشيطان باختلاق الذرائع إلى الفواحش والمنكرات التي يأمر بها الشيطان.
قال ابن عاشور: «ومن يتبع خطوات الشيطان يفعل الفحشاء والمنكر؛ لأن الشيطان يأمر الناس بالفحشاء والمنكر، أي: بفعلهما، فمن يتبع خطوات الشيطان يقع في الفحشاء والمنكر؛ لأنه من أفراد العموم، والفحشاء كل فعل أو قول قبيح»62.
والشيطان في تحقيق عداوته للإنسان يسلك بخطواته كل طريق للإغواء، ويأتي الإنسان من كل مكان.
لذا كان واجبا على الإنسان أن يجعل الشيطان عدوا له، فلا يستسلم لوساوسه؛ لئلا يقوده إلى المحرمات.
ثالثًا: اتباع الهوى:
إن المتأمل لآيات القرآن الكريم يجد أن الله تعالى قد حذرنا من هوى النفس، فنهى عن اتباعه، وبين خطورته على الفرد والمجتمع؛ لأن اتباعه في غير طاعة الله إثم عظيم، وآفة تتطلب اليقظة والحذر، ومن ثم فإنه إذا تمكن الهوى من النفس حملها بما تهوى، وجعل الشهوة قائدها إلى كل شر ورذيلة، وينهاها عن كل خير وفضيلة، فهوى النفس يزين للشخصية المريضة المنكر، ويجمل لها الباطل، ويقلب لها المعروف منكرًا، والمنكر معروفًا؛ فترى صاحب الهوى يتبع هوى نفسه، فهي الآمرة بالشر الناهية عن الخير.
وقد حرص الإسلام على تخويف النفس من الله، فلا يعصيه من خلال منع النفس عن هواها.
قال تعالى: (ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ) [النازعات:٤٠].
«قال ابن عباس: المعنى خافه عند المعصية؛ فتنهى عنها و(الهوى) شهوات النفس وما جرى مجراها، وأكثر استعماله إنما هو في الشهوات»63.
وقال تعالى: (ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ) [الفرقان:٤٣].
«قوله: (ﯰ ﯱ ﯲ) معناه: جعل هواه مطاعًا فصار كالإله، والهوى قائد إلى كل فساد؛ لأن النفس أمارة بالسوء، وإنما الصلاح إذا ائتمرت للعقل، وقال ابن عباس: الهوى يعبد من دون الله»64.
وقال تعالى: (ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ) [الكهف:٢٨].
قال ابن عطية: «قوله تعالى: (ﭨ ﭩ) جعلناه غافلا، وقيل: من ظننا غافلين عنه، و(الفرط) يحتمل أن يكون بمعنى التفريط والتضييع، أي: أمره الذي يجب أن يلتزم، ويحتمل أن يكون بمعنى الإفراط والإسراف» 65.
وقال تعالى: (ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ) [الأعراف:١٧٦].
قال ابن عطية: «قوله تعالى: (ﮮ) معناه لازم وتقاعس وثبت، وقوله:(ﮯ ﮰ) يحتمل أن يراد إلى شهواتها ولذاتها وما فيها من الملاذ، ويحتمل أن يراد بها العبارة عن الأسفل والأخس، قوله تعالى: (ﯕ ﯖ ﯗ) قال الجمهور: إنما شبه به في أنه كان ضالا قبل أن يؤتى الآيات ثم أوتيها فكان أيضا ضالا لم تنفعه، فهو كالكلب في أنه لا يفارق اللهث في حال حمل عليه، وتحرير المعنى فالشيء الذي تتصوره النفس من حاله هو كالذي تتصور من حال الكلب»66.
فالحيرة والتخبط من أهم صفات هوى النفس في القرآن الكريم، وقد حذرنا الإسلام من اتباع هوى النفس.
قال تعالى: (ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ) [المائدة:١٠٥].
قال ابن عطية: «وجملة ما عليه أهل العلم في هذا: الأمر بالمعروف متعين متى رجي قبول أو رجي رد الظالم ولو بعنف، ما لم يخف المرء ضررا يلحقه في خاصيته، أو فتنة يدخلها على المسلمين، إما بشق عصا الطاعة وإما بضرر يلحق طائفة من الناس، فإذا خيف هذا فعليكم أنفسكم، محكم واجب يوقف عنده» 67.
لذا فالعاقل من علم ما أعد الله تعالى من الثواب لمن نهى النفس عن الهوى واستحضر عاقبة اتباع الهوى.
رابعًا: التقليد:
يقع كثير من الناس في المعصية ويرتكبون الفواحش بسبب التقليد الأعمى، أو التقليد عن جهل بالأمور، فقد يرتكب المرء الفاحشة رغبة في تقليد أصحاب السوء، فيكون في هذه الحالة إمعة لا رأي له، ولعل هذا ما نهينا عنه، وقد يكون التقليد لأسباب عقائدية، أو لعدم الرغبة في الدخول في دين الله وإنكارهم له.
قال تعالى: (ﯯ ﯰ ﯱ ﯲﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ) [البقرة:١٦٨-١٧٠].
فقوله تعالى: (ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ) نهي للمشركين المتلبسين بالمنهي عنه، وأما المؤمنون فتحذير وموعظة، واتباع الخطوات يراد به اتباع ذلك المسلك منه، فجعل المقتدي الذي لا دليل له سوى المقتدى به وهو يظن مسلكه مؤديا للصواب كالذي يتبع خطوات المقتدى به، والاقتداء بالشيطان خضوع النفس للعمل بما يوسوسه لها من الخواطر المؤذية لاتباعها، ولم يردعها بما له من الإرادة والعزيمة التي وهبها الله له، ولذلك أودع الله فينا العقل والإرادة.
وقوله: (ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ) أي: إنه لا يأمركم إلا بالسوء، أي: يحسن لكم ما فيه مضرتكم؛ لأن عداوته أمر خفي عرفناه من آثار أفعاله، والأمر في الآية للتعبير عن وسوسة الشيطان، وفي تلقيهم ما يوسوس لهم بأنهم لا إرادة لهم ولا يملكون أمرًا.
وقوله تعالى: (ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ) يشير إلى ما اختلقه المشركون وأهل الضلال من نسبة أشياء ما أمر الله بها، وسمي (الفحشاء) لاشتماله على أكبر الكبائر، وهو الشرك والافتراء على الله.
وقوله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ) [البقرة:١٧٠].
فإن المقصود بالخطاب في ذلك هم المشركون؛ فإنهم الذين ائتمروا لأمره بالسوء والفحشاء، وخاصة بأن يقولوا على الله ما لا يعلمون، وفي هذه الآية زيادة تفظيع لحال أهل الشرك، فبعد أن أثبت لهم اتباعهم خطوات الشيطان فيما حرموا على أنفسهم من الطيبات أعقب ذلك بذكر إعراضهم عمن يدعوهم إلى اتباع ما أنزل الله، وتشبثوا بعدم مخالفتهم ما ألفوا عليه آباءهم، وأعرضوا عن الدعوة دون تأمل ولا تدبر، وبدون حجة إلا بأنه مخالف لما ألفوا عليه آباءهم، ما وجدوهم عليه من أمور الشرك، كما قالوا في قوله تعالى: (ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ) [الزخرف:٢٢].
قال ابن عطية: (ﯿ ﰀ) وهي بمعنى الملة والديانة، والآية على هذا تعيب عليهم التقليد، وقرأ مجاهد (ﯿ ﰀ) أي: على نعمة؛ فالآية على هذا استمرار في احتجاجهم؛ لأنهم يقولون: وجدنا آباءنا في نعمة من الله، وهم يعبدون الأصنام، فذلك دليل رضا الله عنهم، وكذلك اهتدينا نحن بذلك (ﰂ ﰃ ﰄ)68.
وقوله تعالى: (ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ) إنما هو للرد على قولهم: (ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ) ويقصد منه الرد ثم التعجيب والتخطئة، هذه الآية ذم للذين أبوا أن يتبعوا ما أنزل الله وأصروا على تقليد العصاة، وقوله تعالى: (ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ) [الأعراف:٢٨].
والتقليد الذي يرفضه الإسلام هو التقليد الذي يمارسه الإنسان بدون تفكير، وهذه الآية لإبطال التقليد الذي تعيبه على المشركين هو تقليدهم من ليسوا أهلًا لأن يقلدوا؛ لأنهم لا يرتفعون عن رتبة مقلديهم إلا بأنهم أقدم جيلًا وأنهم آباؤهم، ولأن التقليد الذي رفضه الإسلام عليهم هو تقليد في أعمال الفساد، والتقليد في الفساد يستوي فيه التابع والمتبوع، وقد رد الله عملهم تلك الفواحش للضلال والغرور واتباع الشياطين أوليائهم من أئمة الكفر، فإن قولهم: (ﯓ ﯔ ﯕ) دعوى باطلة؛ إذ لم يبلغهم الله بها.
خامسًا: الاقتراب من دواعي الفواحش:
لاشك أن لكل جريمة أسبابها ودوافعها المؤدية إليها، وحتى يأمن المجتمع وقوع أي فاحشة فلا بد أن يسعى جادا إلى منع الأسباب المؤدية إليها؛ لأنه متى وجدت الأسباب والدوافع وجدت النتيجة، لذا جاء الإسلام بالقول الفصل بالبعد عن تلك الأسباب والدوافع التي تؤدي إلى كل شر وتدفع للهاوية.
قال تعالى: (ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ) [الأنعام:١٥١].
قال ابن عطية: «نهي عام عن جميع أنواع الفواحش، وهي المعاصي و(ظهر وبطن) حالتان تستوفيان أقسام ما جعلت له من الأشياء» 69.
والنهي عن مجرد الاقتراب يحمل في طياته دلالة؛ لأنه لا يوجد حكم شرعي في كتاب الله أو السنة إلا وله حكمة مقصودة منه، وأحكام الشرع تجلب المصالح، دنيوية أو أخروية، وتدرأ المفاسد بكل أنواعها؛ لأن الفواحش معاص يستحى منها؛ لأنها تشمل الإباحية، والانحلال الخلقي، والزنا، وخيانة الأمانة، والمال الحرام، والسرقة، هذه كلها فواحش، إذا انتشر خبرها كان فضيحة، لذا كان النهي عن الاقتراب منها، فلا تقربوا الظاهر من الأشياء المحرمة عليكم، فـ(ما ظهر) هي الأمور العلانية بين الناس، والباطن منها ما كان بين الإنسان وربه، وهي الأمور التي تأتونها سرا في خفاء لا تجاهرون بها، فإن كل ذلك حرام لأن النهي من الله جاء عن ظاهر كل فاحشة وباطنها، والفواحش الباطنة كبائر القلوب تقترف في السر، والفاحشة الظاهرة ما تقترفه الجوارح، العين تزني، وزناها النظر، الأذن تزني، وزناها سماع ما لا يحل لك سماعه، اليد ترتكب فاحشة باللمس أو الضرب، والرجل ترتكب فاحشة بالسير إلى المحرمات، واللسان يرتكب فاحشة بذكر العورات والخوض في الأعراض، وجاء في الحديث: عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة، فزنا العينين النظر، وزنا اللسان النطق، والنفس تمنى وتشتهي، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه)70.
لقد أعطى الإسلام الجانب الأخلاقي والسلوكي للمسلم الأهمية القصوى، إذ غرس معاني الخير والفضيلة والإيمان والتقوى في نفوس المسلم؛ لأن هذه المعاني تدفع نحو كل خير، وتمنع كل شر، وتجعل المؤمن مراقبا لله في السر والعلن، وتصقل الإنسان بأخلاق الإسلام وآدابه وأحكامه وتعاليمه.
قال تعالى: (ﮚ ﮛﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ) [البقرة:١٣٨].
إن المنهج الإسلامي فيه وقاية من الفواحش والرذائل، وجعل للمحافظة على المجتمع الإسلامي؛ ليكون طاهرا نقيا عفيفا يتحلى بالفضائل منهجا وسلوكا وتعاملا، وليتخلى عن الرذائل في مناحي الحياة كافة.
وقد جاءت رسالة رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم؛ لتتم مكارم الأخلاق؛ ولهذا اهتم الإسلام بجملة من التدابير الواقية من الفواحش بنوعيها: القولية والفعلية، فجعل من صفات عباد الرحمن أنهم لا يقترفون فاحشة الزنا.
قال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ) [الفرقان:٦٨].
وتتعدد وسائل الوقاية من الفواحش التي بينها الله تعالى في القرآن الكريم ووضع الضوابط التي ينبغي علينا التمسك بها، فجعل من بينها إقامة الحدود؛ لأن الإنسان إذا ما علم أنه إذا ما أجرم في حق الناس وأيقن أن المجتمع سيقيم عليه الحد فإنه سيفكر كثيرا قبل الإقدام على المعصية.
قال تعالى: (ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ) [الأنعام:١٥١].
وقد زودنا الله تعالى بعدد من النواهي، فنهانا عن مجرد الاقتراب من كل ما من شأنه أن يوقعنا في المعصية الموجبة للحد.
لعل أول الوسائل الوقائية من الوقوع في الفواحش التربية الإيمانية التي تدفع المؤمن إلى فعل الطاعات وترك المعاصي وتقيه من المعصية، وإذا ما وقع في الذنب بادر إلى التوبة بالندم على فعله والإقلاع عنه والعزم على عدم العودة للذنب مرة أخرى، ليحقق قوله تعالى: (ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ) [آل عمران:١٣٥].
إذ من صفات المؤمنين أنهم إذا صدر منهم ذنب أتبعوه بالتوبة والاستغفار، وفي الآية دلالة على أن الاستغفار من الذنب ينفع العاصين، فعن أنس رضي الله عنه قال: جاء رجل فقال: يا رسول الله، أذنبت ذنبًا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أذنبت فاستغفر ربك)، قال: فإني أستغفر، ثم أعود فأذنب. قال: (فإذا أذنبت فعد فاستغفر ربك) فقالها في الرابعة، فقال: (استغفر ربك حتى يكون الشيطان هو المحسور)71.
وقوله: (ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ) أي: لا يغفرها أحد سواه، وقوله: (ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ) أي: تابوا من ذنوبهم، ورجعوا إلى الله عن قريب، ولم يستمروا على المعصية ويصروا عليها، ولو تكرر منهم الذنب تابوا عنه72.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة)73.
وفي الحديث القدسي: عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يحكي عن ربه عز وجل قال: (أذنب عبد ذنبًا فقال: اللهم اغفر لي ذنبي. فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنبًا فعلم أن له ربًّا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، ثم عاد فأذنب فقال: أي رب، اغفر لي ذنبي. فقال تبارك وتعالى: عبدي أذنب ذنبًا فعلم أن له ربًّا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، ثم عاد فأذنب فقال: أي رب، اغفر لي ذنبي. فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنبًا فعلم أن له ربًّا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، اعمل ما شئت فقد غفرت لك. قال عبد الأعلى: لا أدري أقال في الثالثة أو الرابعة: اعمل ما شئت)74.
في الحديث دليل على صحة التوبة بعد نقضها بمعاودة الذنب؛ لأن التوبة الأولى طاعة، وقد انقضت وصحت، وهو محتاج بعد مواقعة الذنب الثاني إلى توبة أخرى مستأنفة، والعود إلى الذنب وإن كان أقبح من ابتدائه؛ لأنه أضاف إلى الذنب نقض التوبة، فالعود إلى التوبة أحسن من ابتدائها؛ لأنه أضاف إليها ملازمة الإلحاح بباب الكريم، وإنه لا غافر للذنوب سواه سبحانه وتعالى.
وفي الحديث عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده، لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم)75.
وهذا يدل على أن باب التوبة مفتوح أمام الناس كافة، ومن ثم يستطيع الإنسان أن يتوب إلى الله.
وقال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜﭝ ﭞ ﭟ ﭠﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ) [يوسف:٢٣].
فحسن إيمان يوسف عليه السلام منعه من الوقوع في الفاحشة التي حاولتها التي هو في بيتها.
وفي الحديث: عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: الإمام العادل، وشاب نشأ في عبادة ربه، ورجل قلبه معلق في المساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل طلبته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق أخفى حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه)76.
وهذا الأمر ليس قاصرًا على الرجال دون النساء، إنما هو مطلوب من الجنسين الرجال والنساء.
قال تعالى: (ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄﮅ ﮆ ﮇ ﮈﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ) [النور:٣٠-٣١].
في الآية بيان آداب ما تقتضيه المجالسة بعد دخول المرء المنزل، بألا يكون الداخل إلى البيت محدقا بصره إلى امرأة فيه، بل إذا جالسته غض بصره، واقتصر على الكلام، ولا ينظر إليها إلا النظر الذي يعسر صرفه؛ لأن الغض التام لا يمكن، ومن المفهوم أن المأمور بالغض فيه هو ما لا يليق تحديق النظر إليه، ويشمل غض البصر عما اعتاد الناس كراهية التحقق فيه، كالنظر إلى خبايا المنازل، بخلاف ما ليس كذلك.
وفي هذا الأمر بالغض أدب شرعي عظيم ويكون من الحياء، وجاء الأمر بحفظ الفروج عقب الأمر بالغض من الأبصار؛ لأن النظر رائد الزنا، فالمراد بحفظ الفروج حفظها من أن تباشر غير ما أباحه الدين.
نهى الله النساء عن إبداء زينتهن لما للزينة من أثر في إثارة الشهوات، فتكون سببًا لارتكاب الفاحشة.
قال تعالى: (ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ) [النور:٣١].
وكذلك منعهن من الضرب بالأرجل؛ لأن من النساء من كن إذا لبسن الخلخال ضربن بأرجلهن في المشي بشدة لتسمع قعقعة الخلاخل غنجًا وتباهيًا بالحسن، فنهين عن ذلك مع النهي عن إبداء الزينة؛ لأن سماع هذه الزينة أشد تحريكًا للشهوة من النظر للزينة، وهذا يقتضي النهي عن كل ما من شأنه أن يذكر الرجل بلهو النساء ويثير منه إليهن من كل ما يرى أو يسمع من زينة أو حركة، لئلا يثير ذلك دواعي الشهوة منهن إليه، قال تعالى: (ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ) [النور:٣١].
وضع الإسلام آدابا يلتزم بها المسلمون، فلا يجوز للمرأة أن تصف لزوجها ما تراه من محارم النساء، ففي الحديث: عن عبد الله بن مسعود قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تباشر المرأة المرأة فتنعتها لزوجها كأنه ينظر إليها)77.
ولا يخفى أن ذلك إنما سدا للذريعة، وحماية عن مفسدة وقوعها في قلبه وميله إليها بحضور صورتها في نفسه.
قال تعالى: (ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ) [آل عمران:١٠٤].
قال تعالى: (ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ) [الروم:٢١].
فقد جعل الله تعالى الزواج حماية للإنسان من الوقوع في الفاحشة؛ فكان الحض على النكاح؛ لأن فيه سترا للمسلم، ومن ثم كان الأمر بالاستعفاف لمن لا يجد النكاح، وفي الحديث: عن عبد الرحمن بن يزيد، عن عبد الله قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء) 78.
فقد حرم الإسلام تحريم المصافحة بين الرجال والنساء الأجنبيات، فقد كانت بيعة النساء في عهد النبي صلى الله عليه وسلم بالكلام دون مصافحة، وما مست يد رسول الله يد امرأة إلا زوجة، قال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ) [الممتحنة:١٢].
قال ابن عطية «اختلفت هيئة مبايعة رسول الله صلى الله عليه وسلم النساء بعد الإجماع على أنه لم تمس يده يد امرأة أجنبية قط، فروي عن عائشة رضي الله عنها وغيرها أنه صلى الله صلى الله عليه وسلم بايع باللسان قولًا»79.
ففي الحديث عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل، ولا تنظر المرأة إلى عورة المرأة، ولا يفضي الرجل إلى الرجل في الثوب الواحد، ولا تفضي المرأة إلى المرأة في الثوب الواحد)80.
لاشك أن مصاحبة الصالحين من علامات الأبرار، ومصاحبة الأخيار والصالحين من الإسلام؛ لأن الإنسان يحتاج دائما لمن يرشده، لذلك يجب علينا مصاحبة الصالحين، فمن عقل المرء أن يختار مصاحبة الصالحين فهم القوم لا يشقى بهم جليسهم، فالصديق الصالح هو الذي يرشد صاحبه إلى طاعة الله، فالمتقون يجتمعون على طاعة الله لا يغش بعضهم بعضًا، ولا يدل بعضهم بعضًا إلى ضلالة أو فاحشة أو ظلم، وإذا وجد صاحبه على ظلم رده عن ظلمه، وإن حصل من أحدهما معصية ينهاه أخوه ويزجره عنها، حتى لا يندم يوم لا ينفع الندم.
قال تعالى: (ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ) [الفرقان:٢٧-٢٩].
ولا شك أن مصاحبة الصالحين وسيلة لاكتساب الأخلاق الإسلامية الفاضلة، كالإيثار والمروءة، والمسلم يحرص على مصاحبتهم والجلوس معهم للنجاة يوم القيامة من فزع ذلك اليوم.
قال تعالى: (ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ) [الزخرف:٦٧-٦٨].
فإذا كان معهم في الدنيا نجا من الفزع، وفي الحديث: عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما مثل الجليس الصالح وجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحا طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه ريحا منتنة)81.
في الحديث حث على مجالسة أهل الخير، والتحذير من مجالسة أهل الشر، فمن خالط صحبة السوء ناله نصيب من أخلاقهم، إلا من رحمه الله، ومن خالط الصالحين وجالس ذوي التقوى والمروءة وأصحاب مكارم الأخلاق؛ فإنه غالبا ما تناله نفحة طيبة بصحبتهم، فيسلك مسالكهم.
يجب على المسلم أن يتجنب مواطن الفواحش ولا يقترب منها.
قال تعالى: (ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ) [الشورى:٣٧].
هذه صفات للمؤمنين الذين يجتنبون كبائر الإثم، وهي الآثام العظيمة التي نهى الشرع عنها، وتوعد فاعلها بعقاب الآخرة، نحو القذف والاعتداء والبغي، والفواحش جمع فاحشة، وهي الفعلة القبيحة التي شدد الدين في النهي عنها وتوعد عليها بالعذاب أو وضع لها عقوبات في الدنيا للذي يظهر عليه من فاعليها، مثل قتل النفس والزنا والسرقة والحرابة.
وكبائر الإثم والفواحش قد تدعو إليها القوة، ولما كان كثير منها متسببا عن قوة الغضب، كالقتل والجراح والشتم والضرب؛ فقد أثنى على الذين يجتنبونها، فبين أن من صفاتهم المغفرة عند الغضب.
لذا فليحرص المسلم على الحياء الذي يجنبه السقوط في المعصية، ففي الحديث: عن أبي السوار العدوي، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الحياء لا يأتي إلا بخير)82.
وعن سهل بن سعد رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة) 83.
والصدق مع النفس وتطهيرها من ظن السوء بالمؤمنين بفعل الفاحشة.
قال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ) [الحجرات:١٢].
قال ابن عطية: «أمر الله تعالى المؤمنين باجتناب كثير من الظن، وألا يعملوا ولا يتكلموا بحسبه لما في ذلك وفي التجسس من التقاطع والتدابر، وحكم على بعضه بأنه إثم»84.
وفي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إياكم والظن؛ فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا، ولا تجسسوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا)85.
إن عبادة الله هي المحرك الأساسي لحياة الأمة، والباعث لحضارتها، والضابط لمنظومة قيمها الإنسانية، إذ يهتم الإسلام بحياة المسلمين وعباداتهم الدينية، وفي علاقة الإنسان بربه، وعلاقة الإنسان بالإنسان الآخر، وهو ما يمكن من خلاله تحديد مدى فهم المسلم لدينه وتطبيقه لتعاليمه والعمل بقيمه وفضائله واجتناب نواهيه، والابتعاد عن الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ومفهوم العبادة في الإسلام مفهوم واسع شامل، ذكرها الله سبحانه وتعالى في معرض بيان وظيفة الإنسان في هذه الحياة، فجعلها الغاية من خلقه، فقال تعالى: (ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ) [الذاريات:٥٦].
قال ابن عطية: «اختلف الناس في معناه مع إجماع أهل السنة على أن الله تعالى لم يرد أن تقع العبادة من الجميع؛ لأنه لو أراد ذلك لم يصح وقوع الأمر بخلاف إرادته، فقال ابن عباس وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما: المعنى ما خلقت الجن والإنس إلا لآمرهم بعبادتي، وليقروا لي بالعبودية، فعبر سبحانه عن ذلك بقوله: (ﭸ) إذ العبادة هي مضمن الأمر» 86.
ولهذا كانت حياة المسلم كلها كما أرادها الله عبادة خالصة له سبحانه في جميع جوانبها، فالمسلم عبد لله في كل تحرك وسكون.
قال تعالى: (ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ) [الأنعام:١٦٢].
قال ابن عطية: «أمر من الله عز وجل أن يعلن بأن مقصده في صلاته وطاعته وذبيحته وغيرها وقصر تصرفه مدة حياته وحاله من الإخلاص والإيمان عند مماته إنما هو لله وإرادته وطلب رضاه، وفي إعلان النبي صلى الله عليه وسلم بهذه المقالة ما يلزم المؤمنين التأسي به حتى يلتزموا في جميع أعمالهم قصد وجه الله عز وجل»87.
ومتى اهتم المسلم بالعبادات التي فرضها الله عليه سلم من الوقوع في الخطيئة، إذ يجب توطيد العلاقة بين العبادة والمعاملة، حتى لا نجد من يؤدي فروض الإسلام كاملة تامة ولكنه يسقط أمام أول اختبارات المعاملة في خطابه للآخر، أو تعامله معه، أو أدائه الوظيفي، أو واجبه الأسري نحو أسرته وحمايتها.
والعبادات تقرب الإنسان مما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة، كالصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، وصدق الحديث، وأداء الأمانات، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والوفاء بالعهود، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والإحسان للجار واليتيم والمسكين وابن السبيل، وأمثال ذلك من العبادة.
ولم يترك الله سبحانه وتعالى عبده إذا وقع في المعصية، بل جعل له مخرجا منها، فجعل الصلاة هي السبيل.
قال تعالى: (ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨﯩ ﯪ ﯫ ﯬﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ) [العنكبوت:٤٥].
قال ابن عطية: «أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بالنفوذ لأمره وتلاوة القرآن الذي أوحى إليه، وإقامة الصلاة، أي: إدامتها والقيام بحدودها، ثم أخبر حكما منه: (ﯣ ﯤ ﯥ) صاحبها (ﯦ ﯧ ﯨ) وذلك عندي بأن المصلي إذا كان على الواجب من الخشوع والإخبات وتذكر الله تعالى وتوهم الوقوف بين يدي العظمة وأن قلبه وإخلاصه مطلع عليه مرقوب صلحت لذلك نفسه، تذللت وخامرها ارتقاب الله، فاطرد ذلك في أقواله وأعماله، وانتهى عن الفحشاء والمنكر»88.
ومن ثم تجد أن من يخلص في العبادة لله ينل البركة والطمأنينة في الدنيا والفوز بالجنة في الآخرة.
الإشاعة هي الإظهار والنشر للأخبار من غير تثبت وتحر للصواب، ولقد نهى الإسلام عن إشاعة أخبار الناس وبث الشائعات بألوانها المختلفة عنهم، ومن ثم عدم الخضوع لمبرراتها المصحوبة بالكذب والخداع وما تحمله من بث لبذور الفتنة في المجتمعات.
قال تعالى: (ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ) [الحجرات:٦].
فقوله تعالى: (ﭦ) أي: فتثبتوا، التبين: التعرف والتفحص، ومن التثبت الأناة وعدم العجلة والتبصر في الأمر الواقع والخبر الوارد إليكم حتى يتضح ويظهر، ومشاورة المختصين والرجوع إلى المصادر الموثوقة قبل نشر الخبر، فمن الخطر الجسيم إعادة نشر أي خبر قبل التثبت من مصدره ومن مضمونه والهدف منه، ولا سيما إذا كان هذا الخبر يتعلق بما ينال إنسانًا من رميه بالفاحشة وما قد يترتب عليه.
لذا فإن الله سبحانه وتعالى ذم المنافقين بإذاعة الأخبار الكاذبة على غير الحقيقة لأغراض خفية في نفوسهم .
قال تعالى: (ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ) [النساء:٨٣].
في الآية إنكار على من يبادر إلى الأمور قبل تحققها، فيخبر بها ويفشيها وينشرها، وقد لا يكون لها صحة، وفيها توبيخ للمنافقين ولوم لمن يقبل مثل تلك الإذاعة من المسلمين لما أخبروا به وأفشوا.
لذلك فمن الواجب على المسلم الحذر والتحري قبل إشاعة الأخبار، وعدم التحدث بكل ما يسمعه، جاء في الحديث عن حفص بن عاصم رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع)89.
وذلك إذا لم يتثبت من الخبر؛ لأنه يسمع عادة الصدق والكذب، فإذا حدث بكل ما سمع لا محالة يكذب، والكذب الإخبار عن الشيء على غير ما هو عليه وإن لم يتعمد ذلك.
وفي الإشاعة أضرار كثيرة، فإذا بلغك عن أخيك شيء فالتمس له عذرًا، فإن لم تجد له عذرًا فقل: لعل له عذرًا. فالستر مطلوب للناس، وهو أنفع من التشهير حتى مع فرض صحة الخبر، ولا شك أن التماس العذر للآخرين من محاسن الأخلاق، وقد بين القرآن الكريم والسنة النبوية طريقا واضحا للتعامل مع الشائعة يتمثل في التثبت والتبين دون قبول مضمون ما في الشائعة وعدم العمل بمقتضاها.
والمسلم مطالب بعدم الانسياق وراء الإشاعات مهما كانت، وأن يتحرى الصدق، وأن يتذكر قول الله تعالى: (ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ) [الانفطار:١٠-١٢].
وعلى كل عاقل أن يتروى ويتثبت في كل ما يقال وينقل، وألا يبادر بالتصديق، فإن الأصل في الإنسان البراءة، ولنتذكر دائما قوله تعالى: (ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ) [ق:١٨].
فكل إنسان محاسب على ما يقول، ومن ثم فإنه لا يجوز إشاعة أخبار الفواحش، ويجب على المسلم أن يتثبت من الأخبار والشائعات، ويعلم مصدرها والهدف منها قبل أن يشارك في نشرها، ففي الحديث: عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (المسلم أخو المسلم لا يظلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة)90.
ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يعيب إنسانا أو يفضحه لقول قاله أو لرأي، ولم يكن ليعنفه لذلك.
وفي الحديث عن ابن عمر قال: (صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر فنادى بصوت رفيع فقال: يا معشر من أسلم بلسانه ولم يفض الإيمان إلى قلبه، لا تؤذوا المسلمين ولا تعيروهم، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله. قال: ونظر ابن عمر يوما إلى البيت أو إلى الكعبة فقال: ما أعظمك وأعظم حرمتك! والمؤمن أعظم حرمة عند الله منك)91.
إن نعمة الله علينا تكمن في ديننا القويم من جميع الوجوه، في العبادة والأخلاق، والسلوك في المعاملات، وفي حقوق الله وحقوق العباد، فهو دين يجمع بين الرحمة والحكمة، إذ من طبيعة البشر أن تكون لهم إرادات متباينة، فمنهم من ينزع إلى الخير، ومنهم من ينزع إلى الشر، ولذلك فرض الله الحدود وأوجب على ولاة الأمور إقامتها، وقد أنزل الله تعالى الآيات للناس لتبين للناس ما يترتب على الشر من المفاسد في الدنيا والعذاب في الآخرة، وما يترتب على الخير من المنافع في الدنيا والثواب في الآخرة، وقد فرض الله بحكمته عقوبات دنيوية محددة أو مفوضة إلى ولاة الأمور، فأحكام الحدود هي من أعمال القضاء، إذ عليها يكون حفظ الضروريات، ففي حد الردة حفظ الدين، وفي حد الزنا حفظ الأنساب، وفي حد الخمر حفظ العقل، وفي حد القذف حفظ العرض، وفي حد السرقة حفظ المال.
قال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ) [النور:١-٢].
في الآيتين دليل واضح على أن الحدود فريضة فرضها الله على عباده، ويجب على ولاة الأمور أن ينفذوا ما فرض الله عليهم، وعليهم أن يقيموا فرائض الله التي فرضها عليهم في عقوبة المجرمين، حتى لا تعم فوضى لا يحدها حد، وقد اقتضت حكمة الله أن تتنوع هذه العقوبات بحسب الجرائم، لتردع المعتدين وتمحو الفساد، وتقيم أود الأمة وتكفر جريمة المجرم فلا يجمع له بين عقوبة الدنيا والآخرة.
ولا شك أن إقامة الحدود فرض واجب يقيمه ولي الأمر، لتستقيم حياة الناس، إذ يجب إقامة الحد على من اقترف إثما مما يوجب الحد، وقد شرع الله إقامة الحدود صونا للأعراض، ودفعا للفساد، وحماية للحقوق، وردعا للمجرمين، حتى تستقيم الحياة وتعم الطمأنينة، ولذلك قال تعالى: (ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ) [المائدة:٣٨].
حد الزنا: الزنا هو فعل الفاحشة في قبل امرأة لا تحل له، وهو فاحشة عظيمة من أكبر الكبائر بعد الشرك بالله وقتل النفس بغير حق.
والزنا درجات متفاوتة في القبح، فالزنا بامرأة ذات زوج من أعظم الفواحش، والزنا بحليلة الجار أعظم، والزنا بذات محرم أشد وأعظم، غير أنه في كل الأمور فاحشة ممقوتة تستحق إقامة الحد، قال تعالى:
(ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ)
[النور:2].
قال ابن عطية: «قدمت (الزانية) في اللفظ من حيث كان في ذلك الزمن زنا النساء أفشى، وكان لأمراء العرب وبغايا الوقت رايات، وكن مجاهرات بذلك، وإذا العار بالنساء ألحق إذ موضعهن الحجبة والصيانة فقدم ذكرهن تغليظا واهتماما. وهذه الآية باتفاق ناسخة لآية الحبس وآية الأذي اللتين في النساء»92.
وقوله تعالى: (ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ) المقصود بالآية الكريمة الإغلاظ والتشديد على الزناة والتوبيخ بحضرة الناس، فلا خلاف أن الطائفة كلما كثرت فهو أليق بامتثال الأمر.
ومن رحمة الله بعباده وما اقتضت حكمة الله تعالى التدرج في إنزال العقوبة بفاعل الزنا، فكان في أول الأمر عقوبة الزنا بالإيذاء والتوبيخ والتعنيف، ثم تدرج الحكم بالعقوبة من ذلك إلى الحبس في البيوت بقوله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ) [النساء:١٥-١٦].
ثم استقر الأمر وجعل السبيل، فجعل عقوبة الزاني البكر مائة جلدة والرجم للثيب حتى يموت، وهذا التدرج يأخذ به إلى العفاف والطهر، وحتى لا يشق على الناس هذا الانتقال فلا يكون عليهم في الدين حرج، وذلك كما في الحديث عن عبادة ابن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خذوا عني خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلًا، البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم)93.
الإسلام دين يحث على الفضيلة وينفر من الرذيلة، ولقد حرص الإسلام على محاربة العادات التي تتسم بالفواحش، لما تسببه من مفاسد، وتلحق أضرارا بالمجتمع، فانتشار الفواحش في أي مجتمع يعد تدميرًا له.
قال تعالى: (ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ) [الروم:٤١].
قال ابن عطية: «ظهور الفساد فيهما هو بارتفاع البركات ونزول رزايا، وحدوث فتن، وتغلب عدو كافر، وهذه الثلاثة توجد في البر والبحر، وقال ابن عباس: الفساد في البحر انقطاع صيده بذنوب بني آدم، وقلما تجد أمة فاضلة مطيعة مستقيمة الأعمال إلا يدفع الله عنها هذه، والأمر بالعكس في أهل المعاصي وبطر النعمة، وكذلك كان أمر البلاد في وقت مبعث النبي صلى الله عليه وسلم، وقد كان الظلم عم الأرض برا وبحرا، وقد جعل الله هذه الأشياء ليجازي بها عن المعاصي فيذيق الناس عاقبة أذنابهم لعلهم يتوبون ويراجعون بصائرهم في طاعة الله»94.
ولقد توعد الله الذين يتتبعون عورات الناس ويحبون أن يلصقوا بهم الشائعات الفاسدة بالعذاب الشديد في الدنيا والآخرة.
قال تعالى: (ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ) [النور:١٩].
قال ابن عطية: «الآية عامة في كل قاذف منافقا كان أو مؤمنا، فالقاذف المؤمن لا يتصف بحب شياع الفاحشة في المؤمنين جملة، لكنه يحبها لمقذوفه، وكذلك آخر لمقذوفه وآخر حتى تشيع الفاحشة من مجموع فعلهم»95.
وقد حرم الله ذلك لأن نشر الفاحشة في المجتمع طريق لهدم الأسرة والمجتمع بهذه الوسائل، ومن ثم تجد أعداء الله هم أحرص الناس على نشر الرذيلة وهدم الفضيلة بين المسلمين، وتراهم يمكرون بهم.
وكان من الأحرى بهم أن يأخذوا بيد الإنسان وإن كان عاصيًا؛ بهدف البقاء عليه.
ففي كل يوم تطالعنا بعض وسائل الإعلام بنشر أخبار الفساد التى تلقى قبولا يوما بعد يوم من الناس التي تتشوق لهذه الأخبار التي قد تحمل في طياتها تشهيرا بإنسان صدقا أو كذبا، وربما يتسبب هذا الخبر الذي يحمل تشهيرًا في تشويه سمعة إنسان بغير حق، وهذا التصرف ليس من الإسلام في شيء.
فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن تتبع سقطات الناس في المجتمع، فلم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يشهر بإنسان أخطأ في أمر ما؛ وإنما كان عندما يغضب من فعل شخص أو لا يعجبه قوله ويخشى أن ينتشر هذا القول أو الفعل بين الناس فى المجتمع المسلم كان صلى الله عليه وسلم يصعد المنبر، ويخطب الناس، ويقول: «ما بال أقوام يفعلون كذا»، ولا يذكر اسم الفاعل حتى لا يشعره بحرج، أو يجعله مسار تندر أو سخرية في المجتمع، فالإنسان وإن كان فاحشا؛ فإنه يجب الإبقاء عليه بحيث يمكن علاجه، ولا نكون سببًا في انحرافه، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يستر على مرتكب الجريمة؛ لعله يتوب بينه وبين نفسه أو يعود إلى الله.
ويجب على من ابتلي بشيء من الأذى والفساد والفسق وعدم المبالاة ألا يجاهر بما ارتكب من الفاحشة، إذ عليه أن يستر نفسه، وألا يعين الشيطان على نفسه، وليشعر بشيء من الحياء، فقد جاء في الحديث: «عن سالم بن عبد الله قال: سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملا ثم يصبح وقد ستره الله عليه فيقول: يا فلان، عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه، ويصبح يكشف ستر الله عنه)96.
بل إن الإسلام حرم حتى على الزوج أن يذكر فحولته وقدرته على الجماع مع زوجه، لما في ذلك من خصوصية لا ينبغي لأحد غير الزوجين أن يطلع عليها؛ لأنه ذريعة إلى تحريك النفوس، وقد لا يكون عند الرجل من يغنيه عن الحلال، فيتخطى إلى الحرام، ومن هذا كان المجاهرون خارجين عن منهج الله لأنهم متحدثون بما فعلوه من المعاصي.
ولا شك أن انتشار الفاحشة في المجتمع يؤدي إلى انتشار المفاهيم الخاطئة؛ لأن الناس إذا اعتادوا أن يروا الفواحش ليل نهار دون رادع فسوف يترسخ فى أذهانهم مفاهيم خاطئة عن المجتمع وأفراده، فيتخيل كل واحد منهم أن تلك الممارسات الفاحشة هي أمور طبيعية، وذلك حسب ما تكون لديه من أفكار ومفاهيم خاطئة، بل قد يقع فى تلك الرذائل والموبقات والفواحش دون إحساس أو وازع من ضمير.
لقد حرص الإسلام على محاربة فاحشة الزنا لما تسببه من مفاسد كبيرة تلحق أضرارًا بالغة في المجتمع، ومن ثم نرى أن فاحشة الزنا من أكبر المفاسد وأشدها خطرا على المجتمعات التي تنتشر فيها؛ لأن الزنا مناقض لصلاح المجتمع في حفظ الأنساب والأعراض والفروج، والزنا يجمع صفات الشر كلها، ويفتح على الناس أبواب المعاصي كلها، من ظلم الخلق، وإضاعة أهله وأمواله، وكسب الحرام، ويولد الأمراض، ويورث الفقر والمسكنة، وهذا الداء يورث نفرة الناس ووحشتهم منه، وسقوطه من أعينهم.
الإعجاز التشريعي في تحريم الفواحش
الإعجاز التشريعي في القرآن الكريم عبارة تشمل كل ما شرعه الله لعباده، وهو المنهج الذي أراده الله لعباده أن يسلكوه ويأتمروا به قال تعالى: (ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ) [المائدة:٤٨].
فالقرآن الكريم مصدر التشريع للمسلمين ثم يأتي بعده الحديث الشريف، وكلاهما مصدر تشريع، وبيان لكل من آمن بالله وباليوم الآخر، فالله يعلم ما يصلح لعباده، هذا ما تقر به الفطرة السليمة؛ لأن الله أعلم بما خلق، فينهاه عما يضره، قال تعالى: (ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ) [الملك:١٤].
وفيما يتعلق بالإعجاز التشريعي في تحريم الفواحش، فقد جاء القرآن هداية للناس أجمعين، واشتمل على أحكام تشريعية تكفل سعادة الناس في الدنيا والآخرة، وتصون أعراضهم، وتحقق لهم الأمن والطمأنينة والسكينة، وتضمن لهم الحقوق في الوفاء باحتياجاتهم.
قال تعالى: (ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ) [الإسراء:٩].
ومن ثم نرى أن منهج الإسلام في مكافحة الجريمة يقوم على أمرين: الأول هدفه منع وقوع الجريمة أصلًا، إذ يبين لهم مخاطرها وعواقب ارتكاب ما نهى عنه، باعتبار أن الوقاية خير من العلاج، فحرم الله الزنا، وشدد في عقوبة الزناة، ولم يدان منه عقوبة، بل حرم حتى الا قتراب من الزنا.
قال تعالى: (ﮊ ﮋ ﮌﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ) [الإسراء:٣٢-٣٣].
فكل ما يقرب من الزنا فهو حرام، كالقبلة والتبرج وإظهار الزينة المثيرة للشهوة والملامسة، ونشر الصور البذيئة، وقول الشعر الماجن، وغير ذلك من مثيرات الشهوات وما يقرب من ارتكاب الفاحشة.
أما الثاني فهو يأتي بعد وقوعها، وهدفه منع تكرارها سواء من فاعلها أو من غيره، ويسمى عقابًا.
قال تعالى: (ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ) [النور:٢].
كذلك حرم الله قذف المحصنات؛ لأن ذلك الجرم من الجرائم الاجتماعية التي تشيع الفاحشة بين المسلمين وتنزع الحياء من المجتمع، وتورث الضغائن والأحقاد، وربما تؤدي إلى ارتكاب الجرائم، وقد لعنهم الله في الدنيا والآخرة، وتوعدهم في الآخرة بعذاب شديد، قال تعالى: (ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ) [النور:٢٣].
وترى الإعجاز التشريعي في محاربة الإسلام للفاحشة التي فعلها قوم لوط عليه السلام، فقد فضح الذين ارتكبوا الفاحشة؛ لأن في فعلهم هذا مخالفة للفطرة السليمة التي فطر الله الناس عليها.
فهذه الفاحشة تنقل الأمراض الخبيثة عن طريق الاتصال الجنسي غير المشروع، ومنها: الإيدز، والزهري، السيلان، وغير ذلك، فالأمراض الجنسية هي الحصاد الطبيعي للإباحية البعيدة عن الأخلاق القويمة.
وترى الإعجاز التشريعي في حد اللواط وبيان عقوبته، فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل الفاعل والمفعول به، ففي الحديث: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به)97.
وقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بقتل الفاعل والمفعول به؛ لأنه لا خير في بقائهما؛ لفساد طويتهما، فمن كان بهذه المثابة فلا خير للخلق في بقائه.
فالتشريع يهدف لتحقيق حفظ النسل، وحفظ النسل من أعظم أسباب البقاء، ومن أسباب عمارة الأرض، قال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ) [البقرة:٣٠].
واستخلاف الله في الأرض بحفظ النسل بالترغيب بما يحصل به استمرار النسل وبقاؤه، بالنكاح الشرعي، بتحريم فاحشة اللواط، والمعاقبة على اقترافها.
وقد جعل الإسلام الإصلاح ذاتيا، بتزكية النفس، والقلب السليم هو أداة تطبيق هذه المرحلة، وإن كان وجوده لازما ليتميز به العاقل من غيره؛ لأن الإنسان في مرحلة الإصلاح الذاتي بحاجة لأن يختار من بين النصائح ما يملى عليه القرار المناسب، وما يصاحبه من عوامل وأسباب تكون مجموع المبادئ التي يجعلها العاقل نبراسا لا يحيد عنه؛ لأن أول ما جاء به الإسلام هو تغيير النفوس.
هذا الإصلاح يؤدي لصلاح المجتمع، ويحافظ على التقاليد التي تربط العلاقات بين أفراد المجتمع، وقد أشركت الشريعة المجتمع كله في الإصلاح، ليؤدي العمل الذي يعجز عنه الفرد مع نفسه، فالمجتمع لا يخلو من ضعاف النفوس الذين لا ينتفعون بالإيمان، والمجتمع الذي يريده الإسلام هو الذي يسود فيه الأمن والطمأنينة، ولذلك دعت الشريعة إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من غير عنف ولا غلظة.
وقد أوجب الإسلام تغيير المنكر على كل أفراد المجتمع، كل حسب طاقته، وهو فرض كفاية، ويصير فرض عين على القادر الذي لم يقم به غيره من الناس، ويدل على ذلك الوجوب قوله تعالى: (ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ) [آل عمران:١٠٤].
وجاء في الحديث الشريف الأمر بتغيير المنكر، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من رأى منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان) 98.
وقد ربط الإسلام هذا الواجب بحقيقة المسلم، وهي الإيمان، وهي أكثر حثا للمؤمن على الفعل.
ولا يخفى ما للإعجاز التشريعي في تحريم الفواحش من أهمية قصوى في القضاء على ممارسة الفاحشة، بل إن التشريع هو رأس الأمر ومناط التكليف، وبدونه تصير شريعة الغاب هي الغالبة، ويفجر أصحاب الأهواء، قال تعالى: (ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ) [ص:٢٦].
لقد حرم الإسلام بعض السلوكيات لما تفضي إليه من جرائم، والمتأمل في العقوبات الشرعية يلاحظ وجود الرادع، فمن يرتكب فاحشة الزنا ويشاهد عقوبتها؛ فإنه سيتحاشاها، ويفهم الردع جيدًا، قال تعالى: (ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ) [النور:٢].
فالردع قد يمنع المجرم من العود، وعقوبة القصاص التي تطبق في الجرائم العمدية ليس فيها عفو من جانب الأولياء، وتجد العقاب بالجلد على الجرائم الحدية، كما هو الحال في القذف والزنا لغير المحصن، هذه العقوبة تنطوي على فوائد متعددة، فهي تحقق الردع والزجر كونها تطبق أمام الناس.
إن التشريع القرآني يتميز بأن عقابه رادع زاجر مكفر عن الإثم الناتج عن الجرم، والأحكام التي نص عليها القرآن الكريم تحقق النتائج المرجوة، مما يدل على إعجاز القرآن التشريعي في تطهير المجتمع من الفاحشة.
وللتشريع الإسلامي مميزات تميزه وتساعد على دوامه بين الناس راضين بعدالته وتمشيه مع مصالح الأفراد في المجتمع، والشريعة الإسلامية لها مميزاتها التي تجعل الناس تنقاد إليها عن قناعة؛ لأنها تتفق والفطرة السليمة التي فطر الله الناس عليها، وهي تخاطب العقول السليمة، وتحض على العمل، وتنادي بالتقوى ونبذ الفاحشة.
موضوعات ذات صلة: |
الذنب، الربا، الزنا، المنكر |
1 انظر: مقاييس اللغة، ابن فارس ٤/٤٧٨.
2 المفردات، الراغب الأصفهاني ص ٣٧٣.
3 المعجم الوجيز ص ٤٦٣.
4 لسان العرب، ابن منظور ٥/٣٣٥٥.
5 مقاييس اللغة، ابن فارس ٤/٤٧٨.
6 التعريفات، الجرجاني ص ١٧١.
7 مقاييس اللغة، ابن فارس ٤/٤٧٨.
8 المفردات، الراغب الأصفهاني ص ٣٧٣.
9 النهاية في غريب الحديث والأثر، ابن الأثير ص ٤١٥.
10 إحياء علوم الدين، أبو حامد الغزالي ١/١٠١.
11 انظر: المعجم المفهرس الشامل لألفاظ القرآن الكريم، عبد الله إبراهيم جلغوم، ص ٨٦٧-٨٦٨.
12 انظر: نزهة الأعين النواظر، ابن الجوزي، ص٤٦٦-٤٦٧.
13 انظر: جامع البيان، الطبري ٨/١١٧.
14 لسان العرب، ابن منظور ١/٢٨.
15 الموسوعة الفقهية الكويتية، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت ١/٢٥٠.
16 لسان العرب، ابن منظور ٦/٤٥٣٩.
17 التعريفات، الجرجاني ص ١٩٣.
18 المحرر الوجيز، ابن عطية ٥/٣٩.
19 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب صلاة المسافرين، باب الترغيب في الدعاء، رقم ٧٥٨.
20 النسعة: قطعة من الجلد مضفورة. والرهط جلد يقد سيورا عرض السير أربع أصابع أو شبر، تلبسه الجارية الصغيرة قبل أن تدرك، وتلبسه أيضا وهي حائض.
21 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب تحريم الكبر، رقم ٩١.
22 الكشاف، الزمخشري ٢/٤٣٩.
23 الكشاف، الزمخشري ٣/٥١٥.
24 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب بيان نقصان الإيمان بالمعاصي، رقم ٥٧.
25 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الحدود، باب حد الزنى، رقم ١٦٩٠.
26 الكشاف، الزمخشري ٥/٦٤٥.
27 المحرر الوجيز، ابن عطية ٢/٤٢٤.
28 معاني القرآن، أبو جعفر النحاس، ٥/١٤٢.
29 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٧/٣٨.
30 المحرر الوجيز، ابن عطية ٥/٢١٩.
31 المحرر الوجيز، ابن عطية ١/٢٩٩.
32 الداء والدواء، ابن القيم ص٣٩٧.
33 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الحيض، باب تحريم النظر إلى العورات، رقم ٣٣٨.
34 أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الحدود، باب فيمن عمل عمل قوم لوط، ٤/١٥٨، رقم ٤٤٦٢.
وصححه الألباني في صحيح الجامع، ٢/١١٢١، رقم ٦٥٨٩.
35 المحرر الوجيز، ابن عطية ٥/٢٩٨.
36 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ١٠/٦٨٨.
37 المحرر الوجيز، ابن عطية ٥/٢٩٨.
38 المصدر السابق ٥/٢٩٨.
39 معاني القرآن الكريم، أبو جعفر النحاس ٣/٢٥.
40 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٣/٤٢.
41 المحرر الوجيز، ابن عطية ٥/٢٩٨.
42 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٤/٥٤٢.
43 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٣/٤٤٣.
44 المصدر السابق ٣/٤٤٥.
45 المصدر السابق.
46 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب النكاح، باب لا تنكح المرأة على عمتها، رقم ٥١٠٨، ص ١٠١٤.
47 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٣/٤٤٣.
48 المحرر الوجيز ٢/٣٢.
49 أخرجه الترمذي في سننه، أبواب النكاح، باب فيمن يتزوج المرأة ثم يطلقها قبل أن يدخل بها، ٣/٤١٧، رقم ١١١٧.
وضعفه الألباني في ضعيف الجامع، رقم ٢٢٤٢.
50 أخرجه مالك في الموطأ، كتاب النكاح، باب ٣/٢٠٤.
51 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب النكاح، باب لا تنكح المرأة على عمتها، رقم ٥١٠٨، ص ١٠١٤.
52 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب النكاح، باب (وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف)، رقم ٥١٠٧، ص ١٠١٤.
53 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب النكاح، باب لا تنكح المرأة على عمتها، رقم ٥١٠٨، ص ١٠١٤.
54 التعريفات، الجرجاني ص ٢٣٠.
55 المحرر الوجيز، ابن عطية ٥/١٨٣.
56 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٢/٤٥٢.
57 المصدر السابق، ٣/٣٤٦.
58 المحرر الوجيز، ابن عطية ٢/٢٢٤.
59 انظر: تفسير ابن أبي حاتم ١/٢٨٠.
60 المحرر الوجيز، ابن عطية ١/٢٣٧.
61 انظر: تفسير ابن أبي حاتم ١/٢٨٠.
62 التحرير والتنوير ١٨/١٨٧.
63 المحرر الوجيز، ابن عطية ٥/٤٣٥.
64 انظر: المصدر السابق ٤/٢١٢.
65 المصدر السابق ٣/٥١٢.
66 المصدر السابق ٢/٤٨٧.
67 المصدر السابق ٢ /٢٤٩.
68 المحرر الوجيز، ابن عطية ٥/٥٠.
69 المصدر السابق ٢/٣٦٢.
70 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب القدر، باب قدر على ابن آدم حظه من الزنا، رقم ٢٦٥٧.
71 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٢/١٢٥.
72 المصدر السابق.
73 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الدعوات، باب استغفار النبي صلى الله عليه وسلم، رقم ٦٣٠٧، ص ١٢١٣.
74 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب التوبة، باب قبول التوبة من الذنوب وإن تكررت الذنوب والتوبة، رقم ٢٧٥٨، ص ١٢٦٤.
75 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب التوبة، باب سقوط الذنوب بالاستغفار توبة، رقم ٢٧٤٩، ص ١٢٦٠.
76 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الحدود، باب فضل من ترك الفواحش، رقم ٦٨٠٦، ص ١٢٩٨.
77 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب النكاح، باب لا تباشر المرأة المرأة فتنعتها لزوجها، رقم ٥٢٤٠، ص ١٠٣٦.
78 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب النكاح، باب من لم يستطع الباءة، رقم ٥٠٦٦، ص ١٠٠٥.
79 المحرر الوجيز، ابن عطية ٥/٢٢٩.
80 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الحيض، باب تحريم النظر إلى العورات، رقم ٣٣٨.
81 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب البر والصلة، باب استحباب مجالسة الصالحين، رقم ٢٦٢٨.
82 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأدب، باب الحياء، رقم ٦١١٧.
83 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الرقاق، باب حفظ اللسان، رقم ٦٢٤٣.
84 المحرر الوجيز، ابن عطية ٥/١٥١.
85 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأدب، باب ما ينهى عن التحاسد والتدابر، رقم ٦٠٦٤ ص ١١٧٢.
86 المحرر الوجيز، ابن عطية ٥/١٨٢.
87 المصدر السابق ٢/٣٦٩ .
88 المصدر السابق ٤/٣١٩.
89 أخرجه مسلم في مقدمة صحيحه، باب النهي عن الحديث بكل ما سمع، رقم ٥.
90 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المظالم، باب لا يظلم المسلم المسلم ولا يسلمه، رقم ٢٤٤٢.
91 أخرجه الترمذي في سننه، أبواب البر والصلة، باب ما جاء في تعظيم المؤمن، ٤/٣٧٨، رقم ٢٠٣٢.
قال الترمذي: حسن غريب.
وصححه الألباني في صحيح الجامع، رقم ٧٩٨٥.
92 المحرر الوجيز ٤/١٦٠.
93 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الحدود، باب حد الزنا، رقم ١٩٦٠.
94 المحرر الوجيز ٤/٣٤٠.
95 المحرر الوجيز ٤/١٧١.
96 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأدب، باب ستر المؤمن على نفسه، رقم ٦٠٦٩.
97 أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الحدود، باب فيمن عمل عمل قوم لوط، ٤/١٥٨، رقم ٤٤٦٢.
وصححه الألباني في صحيح الجامع، ٢/١١٢١، رقم ٦٥٨٩.
98 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان، رقم ٤٩.