عناصر الموضوع

مفهوم القدر

القدر في الاستعمال القرآني

الألفاظ ذات الصلة

الإيمان بالقدر

الخلق والقدر

التعامل مع القدر

القدر

مفهوم القدر

أولًا: المعنى اللغوي:

أصل مادة (قدر) تدل على مبلغ الشيء وكنهه ونهايته، والقدر: قضاء الله تعالى الأشياء على مبالغها ونهاياتها التي أرادها لها1.

و«القدر والتقدير: تبيين كمية الشيء، يقال: قدرته وقدرته، وقدره بالتشديد: أعطاه القدرة، يقال: قدرني الله على كذا وقواني عليه، فتقدير الله الأشياء على وجهين:

أحدهما: بإعطاء القدرة.

والثاني: بأن يجعلها على مقدار مخصوص، ووجه مخصوص، حسبما اقتضت الحكمة»2.

«والقدير: هو الفاعل لما يشاء على قدر ما تقتضي الحكمة، لا زائدًا عليه، ولا ناقصًا عنه، ولذلك لا يصح أن يوصف به إلا الله تعالى»3.

ثانيًا: المعنى الاصطلاحي:

عرف ابن الأثير القدر بأنه: «عبارةٌ عما قضاه الله وحكم به من الأمور»4.

وقيل: «هو: تقدير الله تعالى الأشياء في القدم، وعلمه -سبحانه- أنها ستقع في أوقات معلومة عنده، وعلى صفات مخصوصة، وكتابته سبحانه لذلك، ومشيئته لها، ووقوعها على حسب ما قدرها جل وعلا وخلقه لها»5.

القدر في الاستعمال القرآني

وردت مادة (قدر) في القرآن الكريم (١٣١) مرة، يخص موضوع البحث منها (١٠٧) مرات6.

والصيغ التي وردت هي:

الصيغة

عدد المرات

المثال

الفعل الماضي

١٨

( ) [المرسلات:٢٣]

الفعل المضارع

١

( ) [المزمل:٢٠]

فعل الأمر

١

( ) [سبأ:١١]

المصدر

٢٣

( ) [الأحزاب:٣٨]

اسم الفاعل

١٨

( ) [الأنعام:٣٧]

اسم المفعول

١

( ) [الأحزاب:٣٨]

الصفة المشبهة

٤٥

( ) [البقرة:٢٠]

وجاء القدر في الاستعمال القرآني على ثلاثة أوجه7:

الأول: العظمة، ومنه قوله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ) [القدر:١]. أي: ليلة العظمة.

الثاني: التصوير، ومنه قوله تعالى: (ﭠ ﭡ ﭢ) [المرسلات:٢٣]. أي: صورنا فنعم المصورون.

الثالث: الجعل، ومنه قوله تعالى: (ﯞ ﯟ) [يونس:٥]. أي: جعل له منازل.

الألفاظ ذات الصلة

القضاء:

القضاء لغة:

«أصل كل قضاء أمرٍ: الإحكام، والفراغ منه، ومن ذلك قيل للحاكم بين الناس: القاضي بينهم، لفصله القضاء بين الخصوم، وقطعه الحكم بينهم وفراغه منه به»8.

القضاء اصطلاحًا:

لا يختلف معناه الاصطلاحي عن معناه اللغوي.

الصلة بين القدر القضاء:

قال الخطابي رحمه الله: «إنهما أمران لا ينفك أحدهما عن الآخر، لأن أحدهما بمنزلة الأساس والآخر بمنزلة البناء، فمن رام الفصل بينهما فقد رام هدم البناء ونقضه»9.

المشيئة:

المشيئة لغة:

المشيئة مهموزة: الإرادة، وقد شئت الشيء أشاؤه10.

المشيئة اصطلاحًا:

هي إرادة الله وأمره.

الصلة بين القدر والمشيئة:

القدر أعم من المشيئة، فالمشيئة جزء من القدر، وما قدره الله فقد شاءه.

الإرادة:

الإرادة لغة:

وهي: نقيض الكراهة، أو هي: المشيئة، والمشهور ترادفهما11.

الإرادة اصطلاحًا:

إرادة الله النافذة.

الصلة بين القدر والإرادة لغة:

القدر أعم من الإرادة، فالإرادة جزء من القدر، وما قدره الله فقد أراده.

الحكم:

الحكم لغة:

أصله في اللغة: المنع للإصلاح، والحكم بالشيء: أن تقضي بأنه كذا، أو ليس بكذا12.

الحكم اصطلاحًا:

لا يختلف المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغوي.

الصلة بين القدر والحكم:

الحكم أصله: المنع بهدف الإصلاح، أما القدر: فهو تقدير الله تعالى الأشياء في الأزل.

الإيمان بالقدر

الإيمان بالقدر شأنه عظيم، ومنزلته علية في الدين، وهو ليس على مرتبة واحدة؛ بل له مراتب، وللإيمان به فضائل وثمرات، نحاول في مطالب هذا المبحث أن نفصل - بما يقتضي المقام - هذه المسائل:

أولًا: منزلة الإيمان بالقدر:

قال الله تعالى مادحًا عباده المتقين بأول صفة من صفاتهم في أول سورة بعد الفاتحة: (ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ) [البقرة:٣].

ومن أعظم الغيب الذي أخفاه الله عن الخلق هو: القدر سر الله المكتوم، فالإيمان بالقدر منزلته عظيمة من دين الإسلام؛ فهو ركن من أركان الإيمان التي يقوم عليها، ولا يصح إيمان أحدٍ لم يؤمن بالقدر خيره وشره، وأنه كله من عند الله تعالى، يبين هذا بوضوح حديث جبريل الطويل، الذي رواه لنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وفيه: (قال: فأخبرني عن الإيمان، قال: (أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره)، قال: صدقت)13.

ومما يشهد لذلك: كثرة ورود (القدر) في الآيات القرآنية كما مر في مبحث (الاستعمالات القرآنية للفظ القدر)، وفيها ترسيخ لمعانيه في قلوب المؤمنين به سبحانه.

قال ابن عباس رضي الله عنه: «الإيمان بالقدر نظام التوحيد، فمن وحد الله وكذب بالقدر فإن تكذيبه بالقدر نقض للتوحيد»14.

فلا ينتظم أمر الدين ويستقيم إلا لمن آمن بالقدر وامتثل الشرع، كما قرر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال لأصحابه: (ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من النار، ومقعده من الجنة) قالوا: يا رسول الله، أفلا نتكل على كتابنا، وندع العمل؟ قال: (اعملوا فكلٌ ميسر لما خلق له، أما من كان من أهل السعادة فييسر لعمل أهل السعادة، وأما من كان من أهل الشقاء فييسر لعمل أهل الشقاوة)، ثم قرأ: ( ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ) [الليل:٥-١٠].

ثانيًا: مراتب القدر:

الإيمان بالقدر يقوم على أربعة مراتب، من أقر بها جميعها فإن إيمانه بالقدر يكون مكتملًا، ومن انتقص واحدًا منها أو أكثر فقد اختل إيمانه بالقدر:

المرتبة الأولى: العلم.

علم الرب سبحانه بالأشياء قبل كونها، وقد اتفق عليها الرسل من أولهم إلى خاتمهم، واتفق عليها جميع الصحابة ومن تبعهم من الأمة، وخالفهم مجوس الأمة.

قال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ) [البقرة:٣٠].

وقال سبحانه: (ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ) [لقمان:٣٤].

وقال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ) [الجاثية:٢٣].

«قال أبو إسحاق: (أي على ما سبق في علمه أنه ضال قبل أن يخلقه)، وهذا الذي ذكره جمهور المفسرين فالمعنى: أضله الله عالما به وبأقواله، وما يناسبه ويليق به، ولا يصلح له غيره؛ قبل خلقه وبعده، وأنه أهلٌ للضلال وليس أهلًا أن يهدى، وأنه لو هدي لكان قد وضع الهدى في غير محله وعند من لا يستحقه، والرب تعالى حكيم إنما يضع الأشياء في محالها اللائقة بها؛ فانتظمت الآية على هذا القول في إثبات القدر والحكمة التي لأجلها قدر عليه الضلال»15.

وقال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ) [الأنعام:٥٣].

«أي: ابتلينا واختبرنا بعضهم ببعض، فابتلى الرؤساء والسادة بالأتباع والموالي والضعفاء، فإذا نظر الرئيس والمطاع إلى المولى والضعيف أنفة، وأنف أن يسلم وقال: هذا يمن الله عليه بالهدى والسعادة دوني!! قال الله تعالى: (ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ)؟! وهم الذين يعرفون النعمة وقدرها، ويشكرون الله عليها بالاعتراف والذل والخضوع والعبودية، فلو كانت قلوبكم مثل قلوبهم تعرفون قدر نعمتي وتشكروني عليها، وتذكروني بها وتخضعون لي كخضوعهم، وتحبوني كحبهم؛ لمننت عليكم كما مننت عليهم، ولكن لمنني ونعمي محال لا تليق إلا بها، ولا تحسن إلا عندها»16.

المرتبة الثانية: الكتابة.

إن الله تعالى كتب مقادير كل شيء قبل أن يخلق السماوات والأرض.

قال الله تعالى: (ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ) [الأنبياء:١٠٥-١٠٦].

«فـ(ﭿ) هنا: جميع الكتب المنزلة من السماء لا تختص بزبور داود، و() أم الكتاب الذي عند الله، و() الدنيا، وعباده الصالحون17: أمة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، هذا أصح الأقوال في هذه الآية، وهي علم من أعلام نبوة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم؛ فإنه أخبر بذلك بمكة وأهل الأرض كلهم كفار أعداء له ولأصحابه، والمشركون قد أخرجوهم من ديارهم ومساكنهم، وشتتوهم في أطراف الأرض، فأخبرهم ربهم تبارك وتعالى أنه كتب في الذكر الأول أنهم يرثون الأرض من الكفار، ثم كتب ذلك في الكتب التي أنزلها على رسله.

وقال الله تعالى: (ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ) [يس:١٢].

فجمع بين الكتابين الكتاب السابق لأعمالهم قبل وجودهم، والكتاب المقارن لأعمالهم، فأخبر أنه يحييهم بعد ما أماتهم للبعث، ويجازيهم بأعمالهم، ونبه بكتابته لها على ذلك فقال: ( ﯣ ﯤ) من خير أو شر فعلوه في حياتهم، () ما سنوا من سنة خير أو شر فاقتدي بهم فيها بعد موتهم، وقوله: (ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ) وهو اللوح المحفوظ، وهو أم الكتاب، وهو الذكر الذي كتب فيه كل شيء، وكتابة أعمال العباد قبل أن يعملوها والإحصاء في الكتاب يتضمن علمه بها وحفظه لها والإحاطة بعددها وإثباتها فيه»18.

وقال سبحانه وتعالى: (ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ) [الأنعام:٣٨].

«أي: الجميع علمهم عند الله، ولا ينسى واحدًا من جميعها من رزقه وتدبيره، سواء كان بريًا أو بحريًا، كما قال: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ) [هود:٦]أي: مفصحٍ بأسمائها وأعدادها ومظانها، وحاصر لحركاتها وسكناتها»19.

وخير مفسر لكتاب الله تعالى هو كلام نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، فلنتأمل في هذا الحديث بيان رسول الله لمعنى مرتبة الكتابة؛ عن عبادة بن الوليد بن عبادة، قال: حدثني أبي قال: (دخلت على عبادة بن الصامت وهو مريض يتخيل فيه الموت -أو يتبين- فقلت: يا أبتاه، أوصني واجتهد لي، فقال: أجلسوني، فلما أجلسوه قال: يا بني، إنك لن تطعم طعم الإيمان، ولن تبلغ حق حقيقة العلم حتى تؤمن بالقدر خيره وشره، قلت: يا أبتاه، وكيف لي أعلم ما خير القدر من شره؟ قال: تعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك، يا بني، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن أول ما خلق الله عز وجل القلم قال: اكتب؛ فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة، يا بني، إن مت ولست على ذلك دخلت النار)20.

المرتبة الثالثة: المشيئة.

إن الله سبحانه وتعالى يفعل ما يشاء، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.

قال الله تعالى: (ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ) [الإنسان:٣٠]«أي: لا يقدر أحدٌ أن يهدي نفسه، ولا يدخل في الإيمان ولا يجر لنفسه نفعا (ﭻ ﭼ ﭽﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ) أي: عليم بمن يستحق الهداية فييسرها له، ويقيض له أسبابها، ومن يستحق الغواية فيصرفه عن الهدى، وله الحكمة البالغة، والحجة الدامغة، ولهذا قال تعالى: (ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ)»21، وقال سبحانه: (ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ) [الأنعام:٣٥].

وقال: (ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ) [يونس:٩٩].

وقال: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ) [هود:١١٨].

وقال: (ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ) [الأنعام:١١٢].

وقال: (ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ) [محمد:٤].

وهذه الآيات ونحوها تتضمن الرد على طائفتي الضلال: نفاة المشيئة بالكلية، ونفاة مشيئة أفعال العباد وحركاتهم وهداهم وضلالهم، وهو سبحانه تارة يخبر أن كل ما في الكون بمشيئته، وتارة أن ما لم يشأ لم يكن، وتارة أنه لو شاء لكان خلاف الواقع، وأنه لو شاء لكان خلاف القدر الذي قدره وكتبه، وأنه لو شاء ما عصي، وأنه لو شاء لجمع خلقه على الهدى، وجعلهم أمة واحدة؛ فتضمن ذلك أن الواقع بمشيئته، وأن ما لم يقع فهو لعدم مشيئته، وهذا حقيقة الربوبية، وهو معنى كونه رب العالمين، وكونه القائم بتدبير عباده، فلا خلق ولا رزق، ولا عطاء ولا منع، ولا قبض ولا بسط، ولا موت ولا حياة، ولا إضلال ولا هدى، ولا سعادة ولا شقاوة؛ إلا بعد إذنه، وكل ذلك بمشيئته وتكوينه؛ إذ لا مالك غيره، ولا مدبر سواه، ولا رب غيره، قال تعالى: (ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ) [القصص:٦٨].

قال الشافعي في رواية الربيع عنه: «المشيئة إرادة الله، قال الله عز وجل: ( ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ) [الإنسان:٣٠]فأعلم الله خلقه أن المشيئة له دون خلقه وأن مشيئتهم لا تكون إلا أن يشاء الله»22.

بقي أن ننبه هنا في آخر هذه المرتبة إلى أن «لفظ الإرادة ينقسم إلى: إرادة كونية؛ فتكون هي المشيئة، وإرادة دينية؛ فتكون هي المحبة، إذا عرفت هذا فقوله تعالى: (ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ) [الزمر:٧].

وقوله: (ﮍ ﮎ ﮏ) [البقرة:٢٠٥].

وقوله: (ﯜ ﯝ ﯞ) [البقرة:١٨٥].

لا يناقض نصوص القدر والمشيئة العامة الدالة على وقوع ذلك بمشيئته وقضائه وقدره؛ فإن المحبة غير المشيئة، والأمر غير الخلق، ونظير هذا لفظ: (الأمر) فإنه نوعان: أمر تكوين، وأمر تشريع، والثاني قد يعصي ويخالف، بخلاف الأول، فقوله تعالى: (ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ) [الإسراء:١٦]لا يناقض قوله: (ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ) [الأعراف:٢٨]ولا حاجة إلى تكلف تقدير: أمرنا مترفيها فيها بالطاعة فعصونا وفسقوا فيها، بل الأمر ههنا أمر تكوين وتقدير لا أمر تشريع»23.

المرتبة الرابعة: الخلق.

فكل ما سوى الله تعالى فهو مخلوق له سبحانه، خلقه بعد أن علمه وكتبه وشاءه.

قال الله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ) [الأنعام:١٠٢].

وقال سبحانه: (ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅﰆ ﰇ ﰈ ﰉ) [فاطر:٣].

«الاستفهام في قوله: (ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ) إنكاري فهو مضمن معنى النفي، والمعنى: لا خالق إلا الله وحده، والخالق هو المستحق للعبادة وحده»24.

«قال ابن الجوزي في (المقتبس): سمعت الوزير يقول في قوله تعالى: (ﯳ ﯴ ﯵ ﯶﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ) قال: فطلبت الفكر في المناسبة بين ذكر النعمة وبين قوله تعالى: ( ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ)؛ فرأيت أن كل نعمة ينالها العبد فالله خالقها، فقد أنعم بخلقه لتلك النعمة، وبسوقها إلى المنعم عليه»25.

«فلا خالق إلا الله، وأعمال عباد الله مخلوقة لله مقدورة له كما قال: (ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ) [الصافات:٩٦].

والعباد لا يقدرون أن يخلقوا شيئًا وهم يخلقون، كما قال: (ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ) [فاطر:٣].

وكما قال: (ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ) [الفرقان:٣].

وكما قال: (ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ) [النحل:١٧].

وكما قال: (ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ) [الطور:٣٥]وهذا في كتاب الله كثير»26.

قال ابن القيم: «وبالجملة فكل دليل في القرآن على التوحيد فهو دليل على القدر وخلق أفعال العباد، ولهذا كان إثبات القدر أساس التوحيد، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: «الإيمان بالقدر نظام التوحيد، فمن كذب بالقدر نقض تكذيبه التوحيد»27.

«ولهذا كان من تمام الإيمان بالقدر أن تؤمن بأن الله تعالى خالقٌ لأفعال العباد كما قال الله تعالى: ( ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ) [الصافات:٩٦].

ووجه ذلك: أن فعل العبد من صفاته، والعبد مخلوق لله، وخالق الشيء خالق لصفاته، ووجهٌ آخر: أن فعل العبد حاصل بإرادة جازمة وقدرة تامة، والإرادة والقدرة كلتاهما مخلوقتان لله عز وجل، وخالق السبب التام خالق للمسبب.

فإن قيل: كيف نجمع بين إفراد الله عز وجل بالخلق مع أن الخلق قد يثبت لغير الله، كما يدل عليه قول الله تعالى: (ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ) [المؤمنون:١٤]؟

فالجواب على ذلك: أن غير الله تعالى لا يخلق كخلق الله، فلا يمكنه إيجاد معدوم، ولا إحياء ميت، وإنما خلق غير الله تعالى يكون بالتغيير وتحويل الشيء من صفة إلى صفة أخرى، وهو مخلوق لله عز وجل، فالمصور مثلا إذا صور صورة فإنه لم يحدث شيئًا! غاية ما هنالك أنه حول شيئا إلى شيء، كما يحول الطين إلى صورة طير أو صورة جمل، وكما يحول بالتلوين الرقعة البيضاء إلى صورة ملونة، فالمداد من خلق الله عز وجل، والورقة البيضاء من خلق الله عز وجل، هذا هو الفرق بين إثبات الخلق بالنسبة إلى الله عز وجل، وإثبات الخلق بالنسبة إلى المخلوق، وعلى هذا يكون الله سبحانه وتعالى منفردًا بالخلق الذي يختص به»28.

ثالثًا: الاحتجاج بالقدر:

يجب على كل مؤمن بالله تعالى أن يوقن أنه سبحانه له الحكمة البالغة في كل خلقه، وأنه سبحانه (ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ) [الأنبياء:٢٣].

فهو عز وجل: (ﮋ ﮌ ﮍﮎ ﮏ ﮐ ﮑ) [الروم:٥٤].

و(ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ) [الشورى:٤٩-٥٠].

و(ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ) [البقرة: ٢٤٧].

و(ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ) [البقرة: ٢٦٩].

و(ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ) [آل عمران:٣٧].

إذا عرف هذا فنقول:

إنه يحرم الاحتجاج على الله تعالى بالقدر؛ كأن يقول الزاني مثلًا: ما زنيت من تلقاء نفسي! وإنما قدر الله علي الزنا! أو يقول المريض مثلًا: لماذا يا رب قدرت علي هذا المرض! فإن الله سبحانه لم ولن يكلف أحدًا من خلقه ما لا طاقة له به، كما قال سبحانه: (ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ) [البقرة:٢٣٣].

وقال: (ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ) [البقرة:٢٨٦].

فقد أرشدنا القرآن إلى أن المؤمن إن أصابه بلاء أو مصيبة صبر وقال: (ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ) [البقرة:١٥٦].

وإن وقع في معصية لله تعالى قال: (ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ) [القصص:١٦].

وأما الاحتجاج على الله تعالى بالقدر فإنما هو من سنن إبليس اللعين، حيث قال لله جل وعلا: (ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ) [الأعراف:١٦].

مع أنه هو الذي أبى أن يسجد لآدم - مختارًا - كما أمره الله! وهذا الاحتجاج بالقدر هو أيضًا من سنن المشركين الذين حكى الله نبأهم أنهم قالو: (ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ) [الأنعام:١٤٨].

وهذه شبهة تشبث بها المشركون في شركهم وتحريم ما حرموا؛ فإن الله مطلع على ما هم فيه من الشرك والتحريم لما حرموه، وهو قادر على تغييره بأن يلهمنا الإيمان، أو يحول بيننا وبين الكفر، فلم يغيره، فدل على أنه بمشيئته وإرادته ورضاه منا ذلك؛ ولهذا قال: (ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ) كما في قوله تعالى: (ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ) [الزخرف:٢٠].

وكذلك الآية التي في «النحل» مثل هذه سواء، قال الله تعالى: (ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ) أي: بهذه الشبهة ضل من ضل قبل هؤلاء، وهي حجة داحضة باطلة؛ لأنها لو كانت صحيحة لما أذاقهم الله بأسه، ودمر عليهم، وأدال29 عليهم رسله الكرام، وأذاق المشركين من أليم الانتقام، (ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ) أي: بأن الله تعالى راض عنكم فيما أنتم فيه (ﭼ ﭽ) أي: فتظهروه لنا وتبينوه وتبرزوه، (ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ) أي: الوهم والخيال، والمراد بالظن هاهنا: الاعتقاد الفاسد (ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ) أي: تكذبون على الله فيما ادعيتموه30.

لقد قال الله سبحانه عن أمثال هذا الصنف: (ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ) [الأنعام:٢٥].

فبين جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه جعل على قلوب الكفار أكنة -وهو ما يستر الشيء ويغطيه ويكنه- لئلا يفقهوا القرآن، أو كراهة أن يفقهوه، لحيلولة تلك الأكنة بين قلوبهم وبين فقه القرآن؛ أي: فهم معانيه فهمًا ينتفع به صاحبه، وأنه جعل في آذانهم وقرًا؛ أي صممًا وثقلًا لئلا يسمعوه سماع قبول وانتفاع.

وحتى لا يكون لهؤلاء الضلال حجة على الله في إضلالهم؛ بين سبحانه في مواضع أخر سبب الحيلولة بين القلوب وبين الانتفاع به، وأنه هو كفرهم، فجازاهم الله على كفرهم بطمس البصائر، وإزاغة القلوب، والطبع والختم والأكنة المانعة من وصول الخير إليها، كقوله تعالى: (ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ) [الصف:٥].

وقوله: (ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ) [النساء:١٥٥].

وقوله: (ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ) [الأنعام:١١٠].

وقوله: (ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ) [البقرة:١٠].

وقوله: (ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ) [التوبة:١٢٥].

إلى غير ذلك من الآيات31.

إن الاحتجاج بالقدر يتضمن تنزيه الجاني نفسه، وتنزيه ساحته، وهو الظالم الجاهل! ولو علم هذا الظالم الجاهل أن بلاءه من نفسه ومصابه منها، وأنها أولى بكل ذم وظلم، وأنها مأوى كل سوء، و(ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ) [العاديات:٦].

قال ابن عباس ومجاهد وقتادة: كفور جحود لنعم الله. وقال الحسن: هو الذي يعد المصائب، وينسى النعم.

فهو الغيم المانع لإشراق شمس الهدى على القلب، فما عليه أضر منه، ولا له أعداء أبلغ في نكايته وعداوته منه.

يحتج على ربه بما لا يقبله من عبده وامرأته وأمته إذا احتجوا به عليه في التهاون في بعض أمره، فلو أمر أحدهم بأمر ففرط فيه، أو نهاه عن شيء فارتكبه، وقال: القدر ساقني إلى ذلك؛ لما قبل منه هذه الحجة، ولبادر إلى عقوبته.

فإن كان القدر حجة لك أيها الظالم الجاهل في ترك حق ربك؛ فهلا كان حجة لعبدك وأمتك في ترك بعض حقك؟! بل إذا أساء إليك مسيء، وجنى عليك جانٍ، واحتج بالقدر لاشتد غضبك عليه، وتضاعف جرمه عندك، ورأيت حجته داحضة، ثم تحتج على ربك به، وتراه عذرا لنفسك؟! فمن أولى بالظلم والجهل ممن هذه حاله؟!»32.

وبعد: فإن «الله خلق الإنسان من نطفة ثم جعل له سمعًا وبصرًا، ونصب الأدلة على وجوده وقدرته على بعث الموتى، ومن ثم مجازاتهم على أعمالهم، وأرسل إليه رسله، وهداه النجدين، ثم هو بعد ذلك إما شاكرٌ وإما كفورٌ، ولو احتج إنسانٌ في الدنيا بالقدر لقيل له: هل عندك علم بما سبق في علم الله عليك؟»33.

فإن قال: نعم! فقد كذب، وإن قال: لا، قيل له: إذن فابذل الأسباب التي تجعلك من الفائزين بالجنة الناجين من النار.

ولا يعني ما سبق أن الاحتجاج بالقدر محرمٌ مطلقًا؛ بل المحرم ما كان فيه اعتراض على قدر الله تعالى، أو فيه دعوة للعاصي ليستمر في معصيته، لذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (احتج آدم وموسى، فقال له موسى: أنت آدم الذي أخرجتك خطيئتك من الجنة، فقال له آدم: أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالاته وبكلامه، ثم تلومني على أمرٍ قدر علي قبل أن أخلق)! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فحج آدم موسى) مرتين34.

قال ابن عثيمين رحمه الله: «لهذا فإن الاحتجاج بالقدر على المصائب لا بأس به، أرأيت لو أنك سافرت سفرًا وحصل لك حادث، وقال لك إنسان: لماذا تسافر؟! لو أنك بقيت في بيتك ما حصل لك شيء!

فستجيبه: إن هذا قضاء الله وقدره، أنا ما خرجت لأجل أن أصاب بالحادث، وإنما خرجت لمصلحة، فأصبت بالحادث»35.

رابعًا: ثمرات الإيمان بالقدر:

من تأمل في عقيدة القدر التي جاء بها الإسلام وجد لها ثمارًا كبيرة طيبة، كانت ولازالت سببًا في صلاح الفرد والأمة، وسأحاول أن أذكر هنا بعض ثماره التي ظهرت خلال آيات القرآن الكريم:

  1. تجنب الأسى والفرح المذمومين.

    فالإيمان بالقدر يري الإنسان أن كل شيء في الوجود إنما يسير وفق حكمة عليا، فإذا مسه الضر فإنه لا يجزع، وإذا حالفه التوفيق والنجاح فإنه لا يفرح فرحًا يوصله للبطر والفخر.

    وهذا هو معنى قول الله سبحانه: (ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ) [الحديد:٢٢-٢٣].

    قال السعدي رحمه الله: «وهذا شامل لعموم المصائب التي تصيب الخلق، من خير وشر، فكلها قد كتبت في اللوح المحفوظ، صغيرها وكبيرها، وهذا أمرٌ عظيم لا تحيط به العقول، بل تذهل عنده أفئدة أولي الألباب، ولكنه على الله يسير.

    وأخبر الله عباده بذلك لأجل أن تتقرر هذه القاعدة عندهم، ويبنوا عليها ما أصابهم من الخير والشر، فلا يأسوا ويحزنوا على ما فاتهم، مما طمحت له أنفسهم وتشوفوا إليه، لعلمهم أن ذلك مكتوب في اللوح المحفوظ، لا بد من نفوذه ووقوعه، فلا سبيل إلى دفعه، ولا يفرحوا بما آتاهم الله فرح بطر وأشر، لعلمهم أنهم ما أدركوه بحولهم وقوتهم، وإنما أدركوه بفضل الله ومنه، فيشتغلوا بشكر من أولى النعم ودفع النقم، ولهذا قال: (ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ) أي: متكبر فظٍ غليظٍ، معجب بنفسه، فخور بنعم الله، ينسبها إلى نفسه، وتطغيه وتلهيه، كما قال تبارك وتعالى: (ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ) [الزمر:٤٩]»36.

    وهذا لا يعني أن الفرح بالنعم والحزن على المصائب محرم بإطلاق! بل يفرح بنعم الله فرحًا يقوده لشكر ربه، ويحزن على المصائب حزنًا لا يخرجه إلى الاعتراض على القدر أو سب الدهر.

  2. طمأنينة القلب.

    قال الله تعالى: (ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ) [التغابن:١١].

    قال ابن جني: قرأ عكرمة وعمرو بن دينار: (ﭩ ﭪ) مهموزًا37 عن علقمة في هذه الآية قال: «هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم»38.

    «وقوله: (ﭩ ﭪ) أي: للتسليم لأمر الله، ونظيره قوله: (ﭫ ﭬ ﭭ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ) [البقرة:١٥٥-١٥٧].

    قال أهل المعاني: يهد قلبه للشكر عند الرخاء والصبر عند البلاء»39.

    وفي ضوء هذه الآية يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «اليقين عند المصائب بعد العلم بأن الله قدرها سكينة القلب وطمأنينته وتسليمه، وهذا من تمام الإيمان بالقدر خيره وشره»40.

  3. طريقٌ لشكر الله تعالى.

    فحينما يعلم المسلم أن النعم التي يتقلب فيها هي من فضل الله تعالى قدرها وبسطها له؛ يدعوه ذلك لشكر ربه على تلك النعم، كما حكى الله تعالى عن عبده الملك الصالح ذي القرنين بعد أن وفقه الله لبناية سد عظيم على يأجوج ومأجوج فقال: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ) [الكهف:٩٨].

    «فلما فعل هذا الفعل الجميل والأثر الجليل؛ أضاف النعمة إلى موليها وقال: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ) أي: من فضله وإحسانه علي، وهذه حال الخلفاء الصالحين إذا من الله عليهم بالنعم الجليلة، ازداد شكرهم وإقرارهم، واعترافهم بنعمة الله كما قال سليمان عليه السلام، لما حضر عنده عرش ملكة سبأ مع البعد العظيم، قال: ( ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ) [النمل:٤٠]بخلاف أهل التجبر والتكبر والعلو في الأرض؛ فإن النعم الكبار تزيدهم أشرًا وبطرًا.

    كما قال قارون -لما آتاه الله من الكنوز، ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة- قال: (ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ) [القصص:٧٨]»41.

    وشكرهم هذا لله تعالى إنما هو نابع عن إيمانهم الراسخ بأن الله تعالى هو الذي قدر لهم تلك النعم وأقدرهم عليها، ومعلوم أن الشكر هو طريق المزيد، كما قال تعالى: (ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ) [إبراهيم:٧].

  4. معرفة سعة علم الله تعالى وعظيم قدرته.

    فإن الله تعالى كثيرًا ما يختم آيات الخلق والقدر والمشيئة باسميه: العليم والقدير، من ذلك على سبيل المثال:

    قوله تعالى: (ﯘ ﯙ ﯚ ﯛﯜ ﯝ ﯞ ﯟﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ) [الشورى:٤٩-٥٠].

    «والذرية مظهر من مظاهر المنح والمنع والعطاء والحرمان، وهي قريبة من نفس الإنسان، والنفس شديدة الحساسية بها، فلمسها من هذا الجانب أقوى وأعمق.

    والتقديم بأن لله ملك السماوات والأرض هو التقديم المناسب لكل جزئية بعد ذلك من توابع هذا الملك العام، وكذلك ذكر: (ﯝ ﯞ ﯟ) فهي توكيد للإحياء النفسي المطلوب في هذا الموضع. ورد الإنسان، المحب للخير، إلى الله الذي يخلق ما يشاء مما يسر وما يسوء ومن عطاء أو حرمان.

    ثم يفصل حالات العطاء والحرمان: فهو (ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ) وهم كانوا يكرهون الإناث، (ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ)، ويهب لمن يشاء أزواجا من هؤلاء وهؤلاء، ويحرم من يشاء فيجعله عقيما -والعقم يكرهه كل الناس-، وكل هذه الأحوال خاضعة لمشيئة الله، لا يتدخل فيها أحد سواه، وهو يقدرها وفق علمه وينفذها بقدرته: (ﯴ ﯵ ﯶ)»42.

    وقوله سبحانه: (ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ) [الأنعام:٩٦].

    قال الرازي: «والعزيز إشارة إلى كمال قدرته والعليم إشارة إلى كمال علمه، ومعناه أن تقدير أجرام الأفلاك بصفاتها المخصوصة وهيئاتها المحدودة، وحركاتها المقدرة بالمقادير المخصوصة في البطء والسرعة لا يمكن تحصيله إلا بقدرة كاملة متعلقة بجميع الممكنات وعلم نافذ»43.

    وقوله جل وعلا: (ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉﮊ ﮋ ﮌ ﮍﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ) [الروم:٥٤].

    قال السعدي: «يخبر تعالى عن سعة علمه وعظيم اقتداره وكمال حكمته، ابتدأ خلق الآدميين من ضعف؛ وهو الأطوار الأول من خلقه من نطفة إلى علقة إلى مضغة، إلى أن صار حيوانًا في الأرحام إلى أن ولد، وهو في سن الطفولية وهو إذ ذاك في غاية الضعف وعدم القوة والقدرة، ثم ما زال الله يزيد في قوته شيئًا فشيئًا حتى بلغ سن الشباب، واستوت قوته، وكملت قواه الظاهرة والباطنة، ثم انتقل من هذا الطور ورجع إلى الضعف والشيبة والهرم.

    (ﮋ ﮌ) بحسب حكمته، ومن حكمته أن يري العبد ضعفه وأن قوته محفوفة بضعفين، وأنه ليس له من نفسه إلا النقص، ولولا تقوية الله له لما وصل إلى قوة وقدرة، ولو استمرت قوته في الزيادة لطغى وبغى وعتا.

    وليعلم العباد كمال قدرة الله التي لا تزال مستمرة يخلق بها الأشياء، ويدبر بها الأمور ولا يلحقها إعياء ولا ضعف ولا نقص بوجه من الوجوه»44.

  5. مواجهة الصعاب والأخطار بقلب ثابت45.

    يبين هذه الثمرة بجلاء: ما حكى الله تعالى من حال المنافقين مع النبي صلى الله عليه وسلم، وأنهم كانوا يفرحون بما يصيبه من بلاء، ويحزنون لما يصيبه من نصر وخير، فقال سبحانه: (ﭴ ﭵ ﭶ ﭷﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ) [التوبة:٥٠].

    وهنا يدل الله تعالى نبيه -وهو تعليم لجميع أمته- للتصرف الأمثل مع هؤلاء وأمثالهم فيقول سبحانه: ( ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ) [التوبة:٥١].

    «أي: قدره وأجراه في اللوح المحفوظ»46.

    قال ابن الجوزي في (المقتبس): سمعت الوزير يقول في قوله تعالى: (ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ)، قال: إنما لم يقل: «ما كتب علينا» لأنه أمرٌ يتعلق بالمؤمن، ولا يصيب المؤمن شيءٌ إلا وهو له، إن كان خيرًا، فهو له في العاجل، وإن كان شرا فهو ثواب في الآجل47.

    ويشير سيد قطب رحمه الله للفتة أخرى فيقول في قوله تعالى: (ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ): والله قد كتب للمؤمنين النصر، ووعدهم به في النهاية، فمهما يصبهم من شدة، ومهما يلاقوا من ابتلاء؛ فهو إعداد للنصر الموعود، ليناله المؤمنون عن بينة، وبعد تمحيص، وبوسائله التي اقتضتها سنة الله، نصرًا عزيزًا لا رخيصًا، وعزة تحميها نفوس عزيزة مستعدة لكل ابتلاء، صابرة على كل تضحية»48.

    فانظر كيف علمهم الله أن يواجهوا الأزمات والمحن والصعاب بذلك الإيمان الراسخ العظيم بقدر الله تعالى وقضائه، وهكذا فليكن أهل الإيمان في كل زمان ومكان.

    الخلق والقدر

    الخلق هو المرتبة الرابعة من مراتب القدر، والخلق صفة من صفات الله تعالى الفعلية، فهو سبحانه يقول للشيء: (كن) فيكون كما يريده الله سبحانه، وفي الزمن الذي يريده، وبالكيفية التي يريدها، لا يتخلف عن قدرته سبحانه شيء في الأرض ولا في السماء.

    أولًا: القدر سرٌ من أسرار الله تعالى:

    قضية القدر من أخطر القضايا وأغمضها، قال الله سبحانه: (ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ) [الأنبياء:٢٣].

    قال الطحاوي: «فويل لمن صار لله تعالى في القدر خصيمًا، وأحضر للنظر فيه قلبًا سقيمًا، لقد التمس بوهمه في فحص الغيب سرًا كتيمًا»49 أي: طلب بوهمه في البحث عن الغيب سرًا مكتومًا، إذ القدر سر الله في خلقه، فهو يروم ببحثه الاطلاع على الغيب، وقد قال تعالى: ( ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ) [النمل:٦٥].

    وصح عن نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم قوله: (إذا ذكر القدر فأمسكوا)50. قال طاووس رحمه الله لرجل: «القدر سر الله تعالى، فلا تدخلن فيه»51.

    ولكن على المسلم النظر فيما بينه الله تعالى في كتابه ورسوله عليه الصلاة والسلام في سنته في شأن القدر، ولا يسترسل مع عقله في هذا الباب العظيم، ولا يطلق لنفسه العنان بالقراءة في كتب أهل الكلام أو غيرهم ممن لم يلتزموا الوحي في حديثهم عن القدر.

    قال الطحاوي رحمه الله: «وأصل القدر سر الله تعالى في خلقه، لم يطلع على ذلك ملكًا مقربًا، ولا نبيًا مرسلًا، والتعمق والنظر في ذلك ذريعة الخذلان، وسلم الحرمان، ودرجة الطغيان، فالحذر كل الحذر من ذلك نظرا وفكرا ووسوسة، فإن الله تعالى طوى علم القدر عن أنامه52، ونهاهم عن مرامه53، كما قال تعالى في كتابه: (ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ) [الأنبياء:٢٣].

    فمن سأل - سؤال تكذيب وتعنت -: لم فعل؟ فقد رد حكم الكتاب، ومن رد حكم الكتاب كان من الكافرين»54، أما من سأل سؤال راغبٍ في المعرفة طالبٍ للحق فنعم ما صنع؛ فقد أمر الله سبحانه بسؤال أهل العلم.

    ثانيًا: شمولية القدر لجميع المخلوقات:

    قال الله تعالى: (ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ) [الطلاق:٣].

    «وهذا نص صريح أنه تعالى قد جعل لكل شيء من الأشياء -أيًا كان هو- قدرًا لا يتعداه لا بزيادة ولا بنقص، ولفظ (شيء) أعم العمومات.

    وقد جاءت آيات كثيرة دالة على هذا العموم عامة وخاصة:

    فمن الآيات العامة قوله تعالى: (ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ) [القمر:٤٩]».

    وهذا شامل للمخلوقات والعوالم العلوية والسفلية، أن الله تعالى وحده خلقها لا خالق لها سواه، ولا مشارك له في خلقها، وخلقها بقضاء سبق به علمه، وجرى به قلمه، بوقتها ومقدارها، وجميع ما اشتملت عليه من الأوصاف، وذلك على الله يسير، فلهذا قال بعدها: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ) [القمر:٥٠]»55.

    وقوله: (ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ) [الرعد:٨].

    وقوله: (ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ) [الفرقان:٢].

    «قدر حجمه وشكله، وقدر وظيفته وعمله، وقدر زمانه ومكانه، وقدر تناسقه مع غيره من أفراد هذا الوجود الكبير.

    وإن تركيب هذا الكون وتركيب كل شيء فيه، لما يدعو إلى الدهشة حقًا، وينفي فكرة المصادفة نفيًا باتًا.

    ويظهر التقدير الدقيق الذي يعجز البشر عن تتبع مظاهره، في جانب واحد من جوانب هذا الكون الكبير.

    وكلما تقدم العلم البشري فكشف عن بعض جوانب التناسق العجيب في قوانين الكون ونسبه ومفرداته؛ اتسع تصور البشر لمعنى ذلك النص القرآني الهائل: (ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ).

    يقول (أ. كريسي موريسون) رئيس أكاديمية العلوم بنيويورك في كتابه بعنوان: «الإنسان لا يقوم وحده»56، «ومما يدعو إلى الدهشة أن يكون تنظيم الطبيعة على هذا الشكل، بالغًا هذه الدقة الفائقة، لأنه لو كانت قشرة الأرض أسمك مما هي بمقدار بضعة أقدام لامتص ثاني أكسيد الكربون الأوكسجين، ولما أمكن وجود حياة النبات، ولو كان الهواء أرفع كثيرًا مما هو فإن بعض الشهب التي تحترق الآن بالملايين في الهواء الخارجي كانت تضرب جميع أجزاء الكرة الأرضية! وهي تسير بسرعة تتراوح بين ستة أميال وأربعين ميلا في الثانية، وكان في إمكانها أن تشعل كل شيء قابل للاحتراق، ولو كانت تسير ببطء رصاصة البندقية لارتطمت كلها بالأرض، ولكانت العاقبة مروعة!

    أما الإنسان فإن اصطدامه بشهاب ضئيلٍ يسير بسرعة تفوق سرعة الرصاصة تسعين مرة كان يمزقه إربًا من مجرد حرارة مروره!»57.

    ومن التقدير الخاص قوله: (ﯢ ﯣ ﯤ ﯥﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ) [يس:٣٨-٤٠].

    إنها قدرة باهرة وحكمة بالغة، وإرادة قاهرة، وسلطة غالبة، قدرة من أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون، وقد قال علماء الهيئة: أن حساب مسير هذه الأفلاك في منازلها أدق ما يكون من مئات أجزاء الثانية، ولو اختلف جزءٌ من الثانية لاختل نظام العالم، ولما صلحت على وجه الأرض حياة! ونحن نشاهد حركة الليل والنهار ونقصانهما وزيادتهما وفصول السنة كما قال تعالى: (ﭢ ﭣ ﭤ ﭥﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ) [المزمل:٢٠]وهو سبحانه وتعالى يحصيه.

    وكذلك التقدير لوجود الإنسان قبل وبعد وجوده، قال تعالى: (ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ) [عبس:١٨-١٩].

    أي: قدر خلقه وصورته ونوعه كما بين ذلك بقوله: (ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ) [الشورى:٤٩-٥٠].

    وقد جمع العام والخاص قوله سبحانه: (ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ) [الحجر:٢١]»58.

    ثالثًا: وقوع الأمر المقدر لا محالة:

    الله سبحانه وتعالى غالب على أمره، فما شاء كان في الوقت والمكان وعلى الصفة التي شاءها سبحانه، وما لم يشأ لم يكن ولو اجتمع له من في السماوات والأرض من دونه سبحانه، قال الله تعالى حاكيًا قول جبريل عليه السلام لمريم عليها السلام: (ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ) [مريم:٢١]أي: «وكان خلقه منك أمرًا قد قضاه الله، ومضى في حكمه وسابق علمه أنه كائنٌ منك»59.

    وفي هذا المعنى يقول سبحانه: (ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ) [الأحزاب:٣٨]«أي: وكان أمره الذي يقدره كائنا لا محالة، وواقعا لا محيد عنه ولا معدل، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن»60.

    ويقول جل وعلا: (ﯗ ﯘﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ) [البقرة:١١٧]قال الشنقيطي رحمه الله: «ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه لا يتعاصى على قدرته شيء، وإذ يقول للشيء: «كن»؛ فيكون بلا تأخير، وذلك أن الكفار لما أقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت، ورد الله عليهم كذبهم بقوله: (ﮮ ﮯ ﮰ) [النحل:٣٨] بين أنه قادر على كل شيء، وأنه كلما قال لشيء: «كن»؛ كان.

    وأوضح هذا المعنى في مواضع أخر؛ كقوله في الرد على من قال: (ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ) [يس:٧٨]: ( ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ) [يس:٨٢].

    وبين أنه لا يحتاج أن يكرر قوله: «كن»، بل إذا قال للشيء: «كن» مرة واحدة، كان في أسرع من لمح البصر، في قوله: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ) [القمر:٥٠].

    ونظيره قوله: (ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ) [النحل:٧٧].

    وقال تعالى: (ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ) [آل عمران:٥٩].

    وقال: (ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ) [لقمان:٢٨].

    إلى غير ذلك من الآيات»61.

    رابعًا: كل شيءٍ بأجل معلوم:

    قال الله سبحانه: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨﭩ ﭪ ﭫ ﭬﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ) [الأنعام:١-٢].

    قال الطبري بعد أن استعرض الأقوال في معنى هذه الآية: «وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب قول من قال: معناه: ثم قضى أجل هذه الحياة الدنيا، (ﭪ ﭫ ﭬ) [الأنعام:٢].

    وهو أجل البعث عنده، وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب: لأنه تعالى نبه خلقه على موضع حجته عليهم من أنفسهم، فقال لهم: أيها الناس! إن الذي يعدل به كفاركم الآلهة والأنداد هو الذي خلقكم! فابتدأكم وأنشأكم من طين، فجعلكم صورًا أجسامًا أحياء بعد إذ كنتم طينًا جمادا، ثم قضى آجال حياتكم لفنائكم ومماتكم، ليعيدكم ترابًا وطينا كالذي كنتم قبل أن ينشئكم ويخلقكم، (ﭪ ﭫ ﭬ) [الأنعام:٢] لإعادتكم أحياء وأجسامًا كالذي كنتم قبل مماتكم، وذلك نظير قوله: (ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ) [البقرة:٢٨]»62.

    وقال عن اليوم المشهود: (ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ) [هود:١٠٣-١٠٤].

    أي: «وما نؤخر يوم القيامة عجزا عن ذلك، لكن القضاء السابق قد نفذ فيه بأجل محدود لا يتقدم عنه ولا يتأخر»63.

    وقال سبحانه عن الشمس والقمر: (ﭰ ﭱ ﭲﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ) [الرعد:٢].

    «والأجل: هو المدة التي قدرها الله لدوام سيرها، وهي مدة بقاء النظام الشمسي الذي إذا اختل انتثرت العوالم وقامت القيامة.

    والمسمى: أصله المعروف باسمه، وهو هنا كناية عن المعين المحدد، إذ التسمية تستلزم التعيين والتمييز عن الاختلاط»64.

    وهذا الأجل الذي جعله الله تعالى لكل شيء؛ قد جعله الله تعالى في كتاب عنده لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، كما قال سبحانه: (ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮﮯ ﮰ ﮱ ﯓ) [الرعد:٣٨]«وقوله: (ﮰ ﮱ ﯓ) لفظ عام في جميع الأشياء التي لها آجال، وذلك أنه ليس كائنٌ منها إلا وله أجل في بدئه أو في خاتمته، وكل أجل مكتوب محصور، فأخبر تعالى عن كتبه الآجال التي للأشياء عامة»65.

    التعامل مع القدر

    القدر لأنه ركن من أركان الإيمان بالله تعالى؛ فقد علمنا الله تعالى في كتابه الكريم كيف نتعامل معه، وسنلخص -بعون الله- في هذا المبحث طرق التعامل مع القدر التي دلنا القرآن الكريم عليها، من خلال النقاط الآتية:

    أولًا: الرضا بالقدر.

    قال الله تعالى في أربعة مواضع يصف أهل الإيمان والطاعة: (ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ) [التوبة:١٠٠].

    قال ابن عطية: «قيل ذلك في الدنيا، فرضاه عنهم هو ما أظهره عليهم من أمارات رحمته وغفرانه، ورضاهم عنه: هو رضاهم بجميع ما قسم لهم من جميع الأرزاق والأقدار، قال بعض الصالحين: رضى العباد عن الله رضاهم بما يرد من أحكامه، ورضاه عنهم أن يوفقهم للرضى عنه»66.

    الرضا بالقدر واجب؛ لأنه من تمام الرضا بربوبية الله، فيجب على كل مؤمن أن يرضى بقضاء الله، ولكن المقضي فيه تفصيل؛ فالمقضي غير القضاء: لأن القضاء فعل الله، والمقضي مفعول الله، فالقضاء الذي هو فعل الله يجب أن نرضى به، ولا يجوز أبدا أن نسخطه بأي حال من الأحوال.

    وأما المقضي فعلى أقسام:

    القسم الأول: ما يجب الرضا به.

    القسم الثاني: ما يحرم الرضا به.

    القسم الثالث: ما يستحب الرضا به.

    فمثلا المعاصي من مقضيات الله، ويحرم الرضا بالمعاصي، وإن كانت واقعة بقضاء الله، فمن نظر إلى المعاصي من حيث القضاء الذي هو فعل الله يجب أن يرضى، وأن يقول: إن الله تعالى حكيم، ولولا أن حكمته اقتضت هذا ما وقع، وأما من حيث المقضي وهو معصية الله فيجب ألا ترضى به، والواجب أن تسعى لإزالة هذه المعصية منك أو من غيرك، قال نبي الله موسى عليه السلام بعد أن قتل ذلك الرجل خطأ: (ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ) [القصص:١٦].

    وقسم من المقضي يجب الرضا به: مثل الواجب شرعًا، لأن الله حكم به كونا، وحكم به شرعًا، فيجب الرضا به من حيث القضاء ومن حيث المقضي، كالصلاة والزكاة والحج.

    وقسم ثالث: يستحب الرضا به، ويجب الصبر عليه، وهو ما يقع من المصائب، فما يقع من المصائب يستحب الرضا به عند أكثر أهل العلم ولا يجب، لكن يجب الصبر عليه، والفرق بين الصبر والرضا: أن الصبر يكون الإنسان فيه كارها للواقع، لكنه لا يأتي بما يخالف الشرع وينافي الصبر.

    والرضا: لا يكون كارها للواقع، فيكون ما وقع وما لم يقع عنده سواء، فهذا هو الفرق بين الرضا والصبر؛ ولهذا قال الجمهور: إن الصبر واجب، والرضا مستحب67، قال الله تعالى عن المؤمنين الذين تحزبت عليهم قوى الكفر، حتى بلغت منهم القلوب الحناجر: (ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ) [الأحزاب:٢٢]فرضوا وسلموا أمرهم لله تعالى، وزاد يقينهم بموعود الله ورسوله، بخلاف المنافقين الذين فروا وهربوا من الموت يستأذنون رسول الله في الرجوع لديارهم بعد أن عاهدوا الله لا يولون الأدبار!

    ثانيًا: الصبر:

    ومما يميز المؤمن عن غيره في موضوع القدر هو: الصبر على أقدار الله تعالى المؤلمة للعبد.

    قال الله تعالى: (ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ) [البقرة:١٥٥-١٥٧].

    «قال سعيد بن جبير: لقد أعطيت هذه الأمة عند المصيبة ما لم تعط الأنبياء قبلها: (ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ) [البقرة:١٥٦].

    ولو أعطيته الأنبياء لأعطيها يعقوب، إذ قال: (ﯡ ﯢ ﯣ) [يوسف:٨٤]»68.

    وقال سبحانه آمرًا عباده ومشوقًا لهم: (ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ) [البقرة:١٥٣]ومن كان الله معه فقد زال عنه كل خوف، وزال عنه كل هم، وتأمل أخي المسلم كيف صدر الله هذه الآية بقوله: (ﯰ ﯱ ﯲ) فكأنه سبحانه يستحث عباده الذين آمنوا به ربًا وآمنوا بالقدر خيره وشره أن يستعينوا بهاتين الطاعتين العظيمتين على كل ما يعانونه من أمورهم، أو يلاقونه من صعوبات ومحن في هذه الدنيا.

    قال الرازي: «وإنما خصهما بذلك -الصبر والصلاة- لما فيهما من المعونة على العبادات، أما الصبر فهو قهر النفس على احتمال المكاره في ذات الله تعالى وتوطينها على تحمل المشاق وتجنب الجزع، ومن حمل نفسه وقلبه على هذا التذليل سهل عليه فعل الطاعات وتحمل مشاق العبادات، وتجنب المحظورات والاستعانة بالصلاة لأنه يجب أن تفعل على طريق الخضوع والتذلل للمعبود والإخلاص له، ويجب أن يوفر همه وقلبه عليها وعلى ما يأتي فيها من قراءة، فيتدبر الوعد والوعيد، والترغيب والترهيب، ومن سلك هذه الطريقة في الصلاة فقد ذلل نفسه لاحتمال المشقة فيما عداها من العبادات، ثم قال: (ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ) يعني في النصر لهم، كما قال: (ﮓ ﮔﮕ ﮖ ﮗ) [البقرة:١٣٧]فكأنه تعالى ضمن لهم إذا هم استعانوا على طاعاته بالصبر والصلاة أن يزيدهم توفيقًا وتسديدًا وألطافًا، كما قال: (ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ) [مريم:٧٦]»69.

    وعن قتادة أنه قال في قوله تعالى: (ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ ﰘ) [الزمر:١٠]: «لا والله ما هُناكم مكيال ولا ميزان»70.

    وقد عد الصبر من خصائص المؤمن نبينا الكريم عليه الصلاة والسلام فقال كما في حديث صهيب رضي الله عنه: (عجبًا لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر، فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له)71، فليس هذا الفضل إذن إلا لأهل الإيمان الذين من أعظم صفاتهم: أنهم يؤمنون بالقدر خيره وشره.

    ثالثًا: التفكر والاعتبار:

    قال سبحانه: (ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ) [المزمل:٢٠].

    «أي: يقدر ساعاتهما وأوقاتهما»72، و«يأخذ هذا من هذا، أو هذا من هذا»73.

    وقال تعالى عن القمر: () [يونس:٥].

    أي: جعل له منازل.

    وقال عن الأرض: (ﯘ ﯙ ﯚ) [فصلت:١٠].

    وقال عن كل شيء: (ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ) [الفرقان:٢].

    هذه الآيات التي تبين قدرة الله تعالى على هذا الكون الواسع، وعلى عظيم تصرفه فيه وتقديره له؛ تحث كل عاقل على التأمل والتفكر في هذه القدرة الهائلة، والتقدير المذهل الدقيق المتقن لهذا الكون الفسيح على اختلاف المخلوقات فيه.

    لهذا قال الله سبحانه: (ﭾ ﭿ ﮀ ﮁﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ) [آل عمران:١٨٩-١٩١].

    فانظر كيف ختم الآية الأولى بقدرته (ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ)، والآية الثانية بالعقول المتفكرة في عظيم صنعته وبديع قدرته وتقديره (ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ).

    قال ابن كثير: «(ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ) أي: يفهمون ما فيهما من الحكم الدالة على عظمة الخالق وقدرته، وعلمه وحكمته، واختياره ورحمته، وقال الشيخ أبو سليمان الداراني: إني لأخرج من منزلي، فما يقع بصري على شيء إلا رأيت لله علي فيه نعمة، أو لي فيه عبرة». رواه ابن أبي الدنيا في كتاب «التفكر والاعتبار»74، «وقال أبو الدرداء: تفكر ساعة خيرٌ من قيام ليلة»75.

    وروى ابن عباس رضي الله عنهما في هذا مثلًا تطبيقيًا للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: بت عند خالتي ميمونة، فتحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أهله ساعة، ثم رقد، فلما كان ثلث الليل الآخر، قعد فنظر إلى السماء، فقال: (ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ)76.

    رابعًا: الأخذ بالأسباب:

    ومن التعامل الذي حث القرآن المؤمن أن يتعامل به مع القدر: أن يبذل الأسباب المشروعة في دفع الأقدار المؤلمة عنه قبل أن تقع، أو رفعها بعد وقوعها، وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما عاتبه أبو عبيدة رضي الله عنه على فراره من الطاعون: «نفر من قدر الله إلى قدر الله»77.

    قال الله تعالى عن نبيه المبتلى أيوب عليه السلام: (ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ) [ص:٤١-٤٢].

    فكان الله تعالى قادرًا أن يشفي نبيه أيوب بأن يقول لمرضه: «كن» فيكون؛ لكنه سبحانه يعلم عباده بذل السبب لدفع القدر فقال له: (ﰋ ﰌ).

    وقال ربنا تعالى عن مريم عليها السلام لما جاء بها المخاض إلى جذع النخلة: (ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ) [مريم:٢٥]«قال القفال: الجذع من النخلة هو الأسفل»78، فقد «استدل بقوله تعالى: (ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ) [مريم:٢٥]على التسبب في الرزق، وتكلف الكسب، وإليه أشار القائل 79:

    ألم تر أن الله قال لمريم

    وهزي إليك الجذع يساقط الرطب

    ولو شاء أحنى الجذع من غير هزه

    إليها، ولكن كل شيء، له سبب

    ولأجل هذا المعنى قال الله تعالى لنبيه موسى عليه السلام عندما خرج مع قومه فارًا من فرعون وقومه، حتى أصبح البحر أمامهم، وفرعون وقومه خلفهم فقال له ربه: (ﭦ ﭧ ﭨﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ) [الشعراء:٦٣]مع قدرته سبحانه على فلق البحر بدون ضربه بالعصا؛ لكنه بذل السبب الذي يربينا عليه القرآن.

    خامسًا: اختيار الحق:

    يجب على المسلم أن يختار الحق، ويجتنب الباطل، ولا يحتج بالقدر في ترك الحق -كما مر سابقًا-؛ فإن الله تعالى قد بين له الطريقين -الخير والشر- فأمره باجتناب الشر واتباع الخير، وأنزل له من أجل ذلك الكتب، وأرسل الرسل، قال الله تعالى: (ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ) [الإنسان:٣].

    وقال سبحانه: (ﮠ ﮡ ﮢ) [البلد:١٠].

    وجعل له مشيئة وإرادة فقال تعالى: (ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ) [الكهف:٢٩].

    ثم خلق له عقلًا يستطيع به أن يميز بين الحق والباطل، قال الله سبحانه: (ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ) [الحديد:١٧].

    حتى أن كلمة: (العقل) بتصريفاتها وردت في القرآن الكريم في تسعة وأربعين موضعًا.

    ولم يتوقف إعذار الله تعالى لعباده عند هذا الحد؛ بل بث الله تعالى في هذا الكون الأدلة والآيات الباهرة التي تدل الإنسان على الخير والحق وعلى أن الله تعالى هو المعبود الذي لا شريك له، وبعدما بث الله الآيات في الكون حث العباد على النظر والتأمل والتفكر فيها لتدلهم على الهدى المستقيم والحق المبين؛ من ذلك قوله تعالى: (ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ) [البقرة:٢٥٩].

    فانظر كيف كرر الله هنا على عبده هذا الأمر بالنظر ثلاث مرات في آية واحدة! وقال سبحانه: (ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ) [الأعراف:١٨٥].

    وقال: (ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ) [ق:٦-٨].

    وبعد هذا من طلب الحق بصدق؛ وفقه الله تعالى له وهداه، كما قال الحق سبحانه: (ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ) [العنكبوت:٦٩].

    «قال السدي وغيره: نزلت هذه الآية قبل فرض القتال.

    قال ابن عطية: فهي قبل الجهاد العرفي، وإنما هو جهاد عام في دين الله وطلب مرضاته»80، ومن أعظم الجهاد: البحث عن الحق وطلبه من الله تعالى بالدعاء، مع التأمل والتفكر في آيات الله الكونية والشرعية، قال الله تعالى: (ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ) [محمد:١٧].

    وقال: (ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ) [المدثر: ٣١].

    فهؤلاء الذين يبذلون ما أعطاهم الله من العقل والبصيرة والعلم في طلب الحق والهدى واختياره؛ هم أهل هداية الله تعالى وتوفيقه وإرشاده.

    كل هذه الأمور تدعو المسلم لأن يكون من تعامله مع القدر: اختيار الحق والسعي في طلبه، واجتناب الباطل والسعي في تركه.

    موضوعات ذات صلة:

    الإيمان، التوكل، الرزق، الرضا، السعي، الصبر، الكتابة، الموت


1 مقاييس اللغة، ابن فارس ٥/٦٢.

2 المفردات، الراغب الأصفهاني ص ٦٥٨.

3 المصدر السابق.

4 النهاية في غريب الحديث والأثر، ابن الأثير ٤/٢٢.

5 الإيمان بالقدر.الصلابي ص ١٣.

6 انظر: المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، محمد فؤاد عبدالباقي ص ٥٣٦-٥٣٨.

7 انظر: الوجوه والنظائر، الدامغاني ص ٣٨٣-٣٨٤، الوجوه والنظائر، أبو هلال العسكري ص ٣٩٨-٣٩٩.

8 جامع البيان، الطبري ٢/٥٤٢ باختصار.

9 معالم السنن، الخطابي ٤/٣٢٣.

10 النهاية في غريب الحديث، ابن الأثير ٢/٥١٧.

11 التبيان في تفسير غريب القرآن، ابن الهائم ص ٦٢.

12 انظر: المفردات، الراغب ص ٢٤٨.

13 المفردات، الراغب ص ٨٠٣.

14 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب معرفة الإيمان، والإسلام، والقدر وعلامة الساعة، رقم ٨.

15 انظر: السنة، عبد الله بن الأمام أحمد ٢/٤٢٢.

16 شفاء العليل، ابن القيم ص ٣٠.

17 المصدر السابق ص ٣١.

18 قال التستري: «أضافهم إلى نفسه وحلاهم بحلية الصلاح، معناه: لا يصلح إلا ما كان خالصًا لي، لا يكون لغيري فيه أثر» تفسير التستري ص ١٠٥.

19 شفاء العليل.ابن القيم ص ٣٩-٤٠ باختصار.

20 تفسير القرآن العظيم.ابن كثير ٣/٢٥٣.

21 أخرجه أبو داود في سننه، أول كتاب السنة، باب في القدر، رقم ٤٧٠٠، والترمذي في سننه، أبواب تفسير القرآن، باب ومن سورة ن رقم ٣٣١٩ مختصرًا.

قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب.

وصححه البوصيري في إتحاف الخيرة المهرة ١/١٧٣.

22 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٨/٢٩٥.

23 شفاء العليل، ابن القيم ص ٤٤-٤٥ باختصار.

24 المصدر السابق ص ٤٨.

25 أضواء البيان،الشنقيطي ٦/٢٧٨.

26 تفسير ابن رجب الحنبلي ٢/٩٥.

27 الفتاوى الكبرى، ابن تيمية ٦/٦٥٦.

28 شفاء العليل، ابن القيم ص ٦٥.

29 مجموع فتاوى ورسائل العثيمين ١/١٨.

30 أدال الشيء: جعله مداولة، أي: تارة لهؤلاء وتارة للآخرين.

31 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٣/٣٥٧.

32 أضواء البيان، الشنقيطي ٣/١٦٠.

33 المصدر السابق ٨/١٩٨.

34 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب أحاديث الأنبياء، باب وفاة موسى، وذكره بعد رقم ٣٤٠٩، ومسلم في صحيحه، كتاب القدر، باب حجاج آدم وموسى عليهما السلام، رقم ٢٦٥٢.

35 مجموع فتاوى ورسائل العثيمين ٢/١٠٦.

36 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص ٨٤٢.

37 المحتسب في تبيين وجوه شواذ القراءات، ابن جني ٢/٣٢٣.

38 انظر: جامع البيان، .الطبري ٢٣/٤٢١، الدر المنثور، السيوطي ٨/١٨٣.

39 مفاتيح الغيب، الرازي ٣٠/٥٥٥.

40 الإيمان، ابن تيمية ص ١٨٢.

41 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص ٤٨٦.

42 في ظلال القرآن، سيد قطب ٥/٣١٦٩.

43 مفاتيح الغيب، الرازي ١٣/٧٩.

44 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص ٦٤٤.

45 القضاء والقدر، الأشقر ص ١١٠.

46 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص ٣٣٩.

47 انظر: تفسير ابن رجب الحنبلي ١/٥٢٥.

48 في ظلال القرآن، سيد قطب ٣/١٦٦٤.

49 العقيدة الطحاوية، الطحاوي ص ٥٣.

50 أخرجه الطبراني في المعجم الكبير، ١٠/١٩٨، رقم ١٠٤٤٨.

وحسن إسناده العراقي في المغني عن حمل الأسفار.العراقي ص ٣٩.

51 الشريعة، الآجري ٢/٩٤٠.

52 خَلْقه.

53 طَلَبه.

54 شرح الطحاوية، ابن أبي العز ص ٢٤٩.

55 تيسير الكريم الرحمن،السعدي ص ٨٢٨.

56 ترجمه محمود صالح الفلكي بعنوان: «العلم يدعو إلى الإيمان».

57 في ظلال القرآن، سيد قطب ٥/٢٥٤٨.

58 أضواء البيان، الشنقيطي ٨/٢١٣ بتصرف.

59 انظر: جامع البيان، الطبري ١٨/١٦٥، تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٥/٢٢١.

60 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٦/٤٢٧.

61 أضواء البيان، الشنقيطي ٢/٣٧٧.

62 جامع البيان، الطبري ٩/١٥٤.

63 المحرر الوجيز، ابن عطية ٣/٢٠٦.

64 التحرير والتنوير، ابن عاشور ١٣/٨١.

65 المحرر الوجيز، ابن عطية ٣/٣١٦.

66 المصدر السابق ٥/٥٠٩.

67 انظر: مجموع فتاوى ورسائل العثيمين ٢/٩٢.

68 تفسير ابن أبي حاتم ١/٢٦٥.

69 مفاتيح الغيب ٤/١٢٥.

70 جامع البيان، الطبري ٢٠/١٧٩.

71 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الزهد والرقائق، باب المؤمن أمره كله خير، رقم ٢٩٩٩.

72 إعراب القرآن، النحاس ٥/٤٣.

73 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٨/٢٥٨.

74 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٢/١٨٤.

75 الزهد، أحمد بن حنبل ص ١١٤.

76 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب تفسير القرآن، باب قوله: ﴿إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب﴾، رقم ٤٥٦٩.

77 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الطب، باب ما يذكر في الطاعون، رقم ٥٧٢٩، ومسلم في صحيحه، كتاب السلام، باب الطاعون والطيرة والكهانة ونحوها، رقم ٢٢١٩.

78 مفاتيح الغيب، الرازي ٢١/٥٢٨.

79 انظر: محاسن التأويل ٧/٩٤.

80 انظر: المحرر الوجيز، ابن عطية ٤/٣٢٦.