عناصر الموضوع
فرعون
أولًا: اسمه ونسبه:
لقد اختلف في اسم فرعون اختلافًا كثيرًا، وسنتعرض لبعض أقوال المفسرين في ذلك، ثم نستعرض النظريات التي تحدثت عن حقيقة فرعون واسمه، لنستخلص أصح الأقوال في ذلك.
قال ابن عاشور في تفسير قوله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ) [البقرة:٤٩].
«واسم فرعون يومئذ أبو فيس أو أبيبي وأهل القصص ومن تلقف كلامهم من المفسرين سموه ريان بن الوليد وهذا من أوهامهم وكان ذلك في حدود سنة ١٧٣٩ قبل ميلاد المسيح» 1.
وقال الرازي: «واختلفوا في فرعون من وجهين، أحدهما: أنهم اختلفوا في اسمه فحكى ابن جريج عن قوم أنهم قالوا: مصعب بن ريان، وقال ابن إسحق: هو الوليد بن مصعب، وذكر وهب بن منبه أن أهل الكتابين قالوا: إن اسم فرعون كان قابوس وكان من القبط، الثاني: قال ابن وهب: إن فرعون يوسف عليه السلام هو فرعون موسى وهذا غير صحيح، إذ كان بين دخول يوسف مصر وبين أن دخلها موسى أكثر من أربعمائة سنة، وقال محمد بن إسحق: هو غير فرعون يوسف وأن فرعون يوسف كان اسمه الريان بن الوليد»2.
ولسيد قطب كلامٌ نفيس حيث يقول: «ولا يعرف على وجه التحديد من هو الفرعون الذي تجري حوادث القصة في عهده، فالتحديد التاريخي ليس هدفًا من أهداف القصة القرآنية ولا يزيد في دلالتها شيئًا، ويكفي أن نعلم أن هذا كان بعد زمان يوسف عليه السلام الذي استقدم أباه وإخوته، وأبوه يعقوب هو إسرائيل، وهؤلاء كانوا ذريته. وقد تكاثروا في مصر وأصبحوا شعبا كبيرًا» 3. وهذ ما يميل إليه الباحث.
ثانيًا: زمانه ومكانه:
قال ابن عاشور: «جاء في التاريخ أن مبدأ استقرار بني إسرائيل بمصر كان سببه دخول يوسف عليه السلام في تربية العزيز طيفار كبير شرط فرعون، وكانت مصر منقسمة إلى قسمين مصر العليا الجنوبية المعروفة اليوم بالصعيد لحكم فراعنة من القبط وقاعدتها طيوة، ومصر السفلى وهي الشمالية وقاعدتها منفيس وهي القاعدة الكبرى التي هي مقر الفراعنة وهذه قد تغلب عليها العمالقة من الساميين أبناء عم ثمود وهم الذين يلقبون في التاريخ المصري بالرعاة الرحالين والهكسوس في سنة ٣٣٠٠ أو سنة ١٩٠٠ قبل المسيح على خلاف ناشىء عن الاختلاف في مدة بقائهم بمصر الذي انتهى سنة ١٧٠٠ ق م عند ظهور العائلة الثامنة عشرة، فكان يوسف عند رئيس شرط فرعون العمليقي وكان ذلك في حدود سنة ١٧٣٩ قبل ميلاد المسيح، ثم كانت سكنى بني إسرائيل مصر بسبب تنقل يعقوب وأبنائه إلى مصر حين ظهر أمر يوسف وصار بيده حكم المملكة المصرية السفلى. وكانت معاشرة الإسرائيليين للمصريين حسنة زمنا طويلا غير أن الإسرائيليين قد حافظوا على دينهم ولغتهم وعاداتهم فلم يعبدوا آلهة المصريين وسكنوا جميعا بجهة يقال لها أرض (جاسان) ومكث الإسرائيليون على ذلك نحوا من أربعمائة سنة تغلب في خلالها ملوك المصريين على ملوك العمالقة وطردوهم من مصر حتى ظهرت في مصر العائلة التاسعة عشرة وملك ملوكها جميع البلاد المصرية ونبغ فيهم رمسيس الثاني الملقب بالأكبر في حدود سنة ١٣١١ قبل المسيح، وكان محاربا باسلا وثارت في وجهه الممالك التي أخضعها أبوه ومنهم الأمم الكائنة بأطراف جزيرة العرب، وتقول التوراة إنهم بنوا لفرعون مدينة مخازن (فيثوم) ومدينة (رعمسيس) ثم خشي فرعون أن يكون الإسرائيليون أعوانا لأعدائه عليه فأمر باستئصالهم فكان يأمر بقتل أبنائهم وسبي نسائهم وتسخير كبارهم ولا بد أن يكون ذلك لما رأى منهم من التنكر، أو لأن القبط لما أفرطوا في استخدام العبرانيين علم فرعون أنه إن اختلطت جيوشه في حرب لا يسلم من ثورة الإسرائيليين فأمر باستئصالهم»4.
ويقول أيضًا: «والأرض: هي أرض مصر، فالتعريف فيها للعهد؛ لأن ذكر فرعون يجعلها معهودة عند السامع؛ لأن فرعون اسم ملك مصر»5.
لقد وصف القرآن الكريم فرعون وصفًا دقيقًا في كثيرٍ من الآيات؛ فقد وصفه بالعلو والاستكبار، والطغيان، والإفساد، والإسراف، والكيد، والإضلال، والغرور، والاستبداد، وفيما يلي بيان ذلك.
أولًا: العلو والاستكبار:
إن فرعون تجبر في أرض مصر وتكبر، وعلا أهل مصر وقهرهم، حتى أقروا له بالعبودة6.
قال تعالى: (ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ) [القصص:٤].
قال القرطبي: «أي استكبر وتجبر، قاله ابن عباس والسدي وقال قتادة: علا في نقسه عن عبادة ربه بكفره وادعى الربوبية وقيل: بملكه وسلطانه فصار عاليا على من تحت يده»7.
وفي سورة المؤمنون يصفه الله عز وجل بالاستكبار والعلو أيضًا، قال تعالى: (ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ) [المؤمنون:٤٥-٤٦].
قال السمعاني: «أي: طالبين للعلو بغير الحق، والاستكبار طلب التكبر، ويقال: عالين، قاهرين لمن تحتهم بالظلم»8.
وفي سورة يونس قوله تعالى: (ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ) [يونس:٧٥].
وكان استكبارهم مجلبة للإثم والوزر عليهم كما قال الطبري: «يقول: فاستكبروا عن الإقرار بما دعاهم إليه موسى وهارون، وكانوا قومًا مجرمين، يعني: آثمين بربهم؛ بكفرهم بالله» 9.
وفي سورة الأعراف قوله تعالى: (ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ) [الأعراف:١٣٣].
قال المراغي: «فاستكبروا عن الإيمان بها (الآيات التسع) لرسوخهم في الإجرام والإصرار على الذنوب وإن كانوا يعتقدون صدق دعوته وصحة رسالته» 10.
وقال السعدي: «فاستكبروا لما رأوا الآيات وكانوا في سابق أمرهم قومًا مجرمين فلذلك عاقبهم الله تعالى، بأن أبقاهم على الغي والضلال»11.
وأكد هذا المعنى الزمخشري في تفسيره: فاستكبروا عن قبول الآيات التسع، وهو أعظم الكبر أن يتهاون العبيد برسالة ربهم بعد تبينها، ويتعظموا عن تقبلها وكانوا قومًا مجرمين كفارًا ذوى آثام عظام، فلذلك استكبروا عنها واجترءوا على ردها12.
وقال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ) [العنكبوت:٣٩].
قال الرازي: «فاستكبروا أي عن عبادة الله وقوله: في الأرض إشارة إلى ما يوضح قلة عقلهم في استكبارهم، وذلك لأن من في الأرض أضعف أقسام المكلفين، ومن في السماء أقواهم، ثم إن من في السماء لا يستكبر على الله وعن عبادته، فكيف يستكبر من في الأرض»13.
ولم يكن استكبارهم عن جهل ولكن كانوا على علم وفهم؛ قال ابن عاشور: «وأومأ قوله تعالى فاستكبروا في الأرض إلى أنهم كفروا عن عناد وكبرياء لا عن جهل وغلواء كما قال تعالى (ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ)[الجاثية:٢٣]»14.
ثانيًا: الطغيان:
ومن صفات فرعون الطغيان؛ حيث قال تعالى: (ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ) [طه:٢٤].
يقول الطبري: «إنه تجاوز قدره، وتمرد على ربه»15.
ويقول الزمخشري: «لما أمره بالذهاب إلى فرعون الطاغي لعنه الله عرف أنه كلف أمرًا عظيمًا وخطبًا جسيمًا يحتاج معه إلى احتمال ما لا يحتمله إلا ذو جأش رابط وصدر فسيح»16.
قال المراغي: «أي اذهب إليه بما رأيته من آياتنا الكبرى، وادعه إلى عبادتي، وحذره نقمتي، فإنه قد تجاوز قدره، وتمرد على ربه، حتى تجاسر على دعوى الربوبية، وقال: أنا ربكم الأعلى»17.
وقد ذهب إلى هذا المعنى ابن كثير ومدعمًا كلامه بقول وهب بن منبه فقال: «وقوله (ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ) أي: اذهب إلى فرعون ملك مصر، الذي خرجت فارا منه هاربًا، فادعه إلى عبادة الله وحده لا شريك له، ومره فليحسن إلى بني إسرائيل ولا يعذبهم، فإنه قد طغى وبغى، وآثر الحياة الدنيا، ونسي الرب الأعلى»18.
قال وهب بن منبه: قال الله لموسى: انطلق برسالتي فإنك بعيني وسمعي، وإني معك أيدي ونصري، وإني قد ألبستك جنة من سلطاني لتستكمل بها القوة في أمري، فأنت جند عظيم من جندي، بعثتك إلى خلق ضعيف من خلقي، بطر نعمتي، وأمن مكري، وغرته الدنيا عني، حتى جحد حقي، وأنكر ربوبيتي، وزعم أنه لا يعرفني، فإني أقسم بعزتي لولا القدر الذي وضعت بيني وبين خلقي، لبطشت به بطشة جبار، يغضب لغضبه السموات والأرض، والجبال والبحار، فإن أمرت السماء حصبته، وإن أمرت الأرض ابتلعته، وإن أمرت الجبال دمرته، وإن أمرت البحار غرقته، ولكنه هان علي، وسقط من عيني، ووسعه حلمي، واستغنيت بما عندي، وحقي إني أنا الغني لا غني غيري، فبلغه رسالتي، وادعه إلى عبادتي وتوحيدي وإخلاصي، وذكره أيامي وحذره نقمتي وبأسي، وأخبره أنه لا يقوم شيء لغضبي، وقل له فيما بين ذلك قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى»19.
قال تعالى: (ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ) [الفجر:١٠-١٢].
قال الرازي: «طغوا في البلاد أي عملوا المعاصي وتجبروا على أنبياء الله والمؤمنين ثم فسر طغيانهم بقوله تعالى: فأكثروا فيها الفساد ضد الصلاح فكما أن الصلاح يتناول جميع أقسام البر، فالفساد يتناول جميع أقسام الإثم، فمن عمل بغير أمر الله وحكم في عباده بالظلم فهو مفسد»20.
وقال الطبري: «وقوله: (ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ) يعني بقوله جل ثناؤه (ﮀ): عادًا وثمود وفرعون وجنده، ويعني بقوله (ﮁ): تجاوزوا ما أباحه لهم ربهم، وعتوا على ربهم إلى ما حظره عليهم من الكفر به. وقوله: (ﮂ ﮃ): التي كانوا فيها»21.
وقد تناول طغيانهم في البلاد جميع أنواع الإثم كما قال الخازن: «الذين طغوا في البلاد يعني عادًا وثمودًا وفرعون عملوا بالمعاصي، وتجبروا، ثم فسر ذلك الطغيان بقوله فأكثروا فيها الفساد يعني القتل والفساد ضد الصلاح، فكما أن الصلاح يتناول جميع أقسام البر فكذلك الفساد يتناول جميع أقسام الإثم»22.
ومما سبق يتضح أن فرعون تجاوز الحد في الظلم حتى تعدى حده.
ثالثًا: الإفساد:
وصف الله فرعون وقومه بالفساد والإفساد في كثيرٍ من الآيات؛ قال تعالى: (ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ) [الأعراف:١٠٣].
فلقد حل بهم العذاب نتيجة حتمية لفسادهم في الأرض قال ابن كثير: «وذلك لما حل بهم من العذاب والنكال باجترائهم على معاصي الله وتكذيب رسله»23.
وكان لورد تلك الفاصلة القرآنية (ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ) وقعٌ شديد وبلاغة رفيعة، قال البقاعي: «ولما كان للتعميم بعد التخصيص والتفصيل بعد الإجمال من الموقع في النفوس ما لا يخفى، وكان النهي عن الإفساد بالصد عن سبيل الله هو المقصود بالذات لأنه ينهى عن كل فساد، خصه بالذكر إشارة إلى أنه زبدة المراد بعد التعميم»24.
وقد عد الشوكاني تكذيب الرسل من أشد أنواع الفساد؛ وهذا ما وقع فيه فرعون وقومه، قال الشوكاني: «فانظر كيف كان عاقبة المفسدين أي: المكذبين بالآيات الكافرين بها وجعلهم مفسدين لأن تكذيبهم وكفرهم من أقبح أنواع الفساد»25.
وقال تعالى مخاطبًا فرعون: (ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ) [يونس:٩١].
قال الطبري: يقول تعالى ذكره، معرفًا فرعون قبح صنيعه أيام حياته وإساءته إلى نفسه أيام صحته، بتماديه في طغيانه، ومعصيته ربه، حين فزع إليه في حال حلول سخطه به ونزول عقابه، مستجيرًا به من عذابه الواقع به، لما ناداه وقد علته أمواج البحر، وغشيته كرب الموت: (ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ) له، المنقادين بالذلة له، المعترفين بالعبودية: الآن تقر لله بالعبودية، وتستسلم له بالذلة، وتخلص له الألوهة، وقد عصيته قبل نزول نقمته بك، فأسخطته على نفسك، وكنت من المفسدين في الأرض، الصادين عن سبيله؟ فهلا وأنت في مهلٍ، وباب التوبة لك منفتح، أقررت بما أنت به الآن مقرٌ26.
وقال تعالى أيضًا: (ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ) [القصص:٤].
وقد خص الزمخشري الإفساد بالقتل فقال: «وقوله (ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ) بيان أن القتل ما كان إلا فعل المفسدين فحسب، لأنه فعل لا طائل تحته27.
بينما أجمل الطبري كيف كان إفساد فرعون فقال: «وقوله: (ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ) يقول: إنه كان ممن يفسد في الأرض بقتله من لا يستحق منه القتل، واستعباده من ليس له استعباده، وتجبره في الأرض على أهلها، وتكبره على عبادة ربه»28.
قال تعالى: (ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ) [الفجر:١٠-١٢].
وقد تناول طغيانهم في البلاد جميع أنواع الإثم والفساد والإفساد قال الخازن: «ثم فسر ذلك الطغيان بقوله فأكثروا فيها الفساد يعني القتل والفساد ضد الصلاح، فكما أن الصلاح يتناول جميع أقسام البر فكذلك الفساد يتناول جميع أقسام الإثم»29.
رابعًا: الإسراف:
لقد أسرف فرعون؛ فادعى الربوبية، قال تعالى: (ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ) [يونس:٨٣].
وقد عد الواحدي ادعاء الربوبية هو الإسراف حيث قال: «وإنه لمن المسرفين: حيث كان عبدًا فادعى الربوبية»30.
بينما النسفي فقد أضاف الظلم والكبر لادعائه الروبية فقال: «وإنه لمن المسرفين في الظلم والفساد وفي الكبر والعتو بادعائه الربوبية»31.
بينما اعتبر الشيخ الشعراوي الإسراف تجاوز الحد بادعاء الألوهية فقال: «والمسرف: هو الذي يتجاوز الحدود، وهو قد تجاوز في إسرافه وادعى الألوهية، وقد قال الحق سبحانه ما جاء على لسان فرعون: (ﭹ ﭺ ﭻ) [النازعات:٢٤].
وقال الحق سبحانه أيضًا: (ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ) [القصص:٣٨].
وعلا فرعون في الأرض علو طاغية من البشر على غيره من البشر المستضعفين، وقال الحق سبحانه على لسان فرعون: (ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ) [الزخرف:٥١].
إذن: فقد كان فرعون مسرفًا أشد الإسراف»32.
أما الطبري فقد فصل كيف كان إسراف فرعون فقال: «(ﮓ ﮔ ﮕ)، وإنه لمن المتجاوزين الحق إلى الباطل، وذلك كفره بالله وتركه الإيمان به، وجحوده وحدانية الله، وادعاؤه لنفسه الألوهة، وسفكه الدماء بغير حلها»33.
وقال تعالى: (ﮤ ﮥﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ) [الدخان:٣١].
قال أبو السعود: «كان رفيع الطبقة من بين المسرفين فائقًا لهم بليغًا في الإسراف»34، ولقد أسرف فرعون فاجترأ على محارم الله، قال السعدي: المفسدون هم المتجاوزون لحدود الله المتجرئون على محارمه35.
قال الطبري: «إنه كان جبارا مستعليًا مستكبرًا على ربه، (ﮪ ﮫ) يعني: من المتجاوزين ما ليس لهم تجاوزه. وإنما يعني جل ثناؤه أنه كان ذا اعتداء في كفره، واستكبار على ربه جل ثناؤه»36.
قال الزحيلي «إن فرعون كان جبارا عنيدًا، مسرفًا في التمرد والعتو متجاوزًا الحد في الظلم والفساد، شديد البطش والفتك، حتى إنه ادعى الربوبية واسترق أسباط الأنبياء، وكانت له سطوة ومهابة تخاف رعيته منه خوفًا شديد»37.
ففرعون في إسرافه تجاوز كل حدود العقل كما قال محمود حجازي: «وإن فرعون لمن المسرفين المتجاوزين حدود العقل والإنسانية، وهكذا كل جبار عتيد»38.
خامسًا: الكيد:
الكيد هو المكر39، وقد كاد فرعون ومكر لموسى كثيرًا،؛ فقد أمر هامان ببناء صرحًا له كي يبلغ أبواب السماء فيطلع إلى إله موسى.
قال تعالى: (ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ) [غافر:٣٦-٣٧].
قال ابن عاشور: «والمراد بكيده ما أمر به من بناء الصرح والغاية منه»40.
وقال السمعاني: «أي: وما حيلة فرعون ومكره إلا في هلاك وخسران»41.
وقد قال الرازي: «وما كيد فرعون إلا في تباب والتباب الهلاك والخسران، ونظيره قوله تعالى: (ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ) [هود:١٠١].
وقوله تعالى: (ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ) [المسد:١]»42.
وقال تعالى: (ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷﯸ ﯹ ﯺ ﯻﯼ ﯽ ﯾ ﯿ) [غافر:٢٣-٢٥].
قال الطبري: «وما احتيال أهل الكفر لأهل الإيمان بالله إلا في جوز عن سبيل الحق، وصد عن قصد المحجة، وأخذ على غير هدى»43.
أما الرازي فقال: «(ﯹ ﯺ ﯻﯼ ﯽ ﯾ) ومعناه أن جميع ما يسعون فيه من مكايدة موسى ومكايدة من آمن معه يبطل، لأن ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها»44.
وقال الشوكاني: «في خسران ووبال، لأنه يذهب باطلا، ويحيق بهم ما يريده الله عز وجل»45.
وقال تعالى: (ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ) [طه:٦٠].
قال الواحدي: «أي: حيله وسحرته»46.
قال الرازي: «ودخل تحت قوله: (ﮰ ﮱ) السحرة وسائر من يجتمع لذلك ويدخل فيه الآلات وسائر ما أوردته السحرة ثم أتى دخل تحته أتى الموضع بالسحرة وبالقوم وبالآلات»47.
وقد أوضح ابن عاشور كيف جمع فرعون كيده فقال: «ومعنى جمع الكيد: تدبير أسلوب مناظرة موسى، وإعداد الحيل لإظهار غلبة السحرة عليه، وإقناع الحاضرين بأن موسى ليس على شيء، وهذا أسلوب قديم في المناظرات: أن يسعى المناظر جهده للتشهير ببطلان حجة خصمه بكل وسائل التلبيس والتشنيع والتشهير، ومبادأته بما يفت في عضده ويشوش رأيه حتى يذهب منه تدبيره»48.
وقد فسر الشنقيطي هذا الكيد بنظيره من القرآن فقال: «وقوله تعالى: فجمع كيده الظاهر أن المراد بـ (ﮱ) ما جمعه من السحر ليغلب به موسى في زعمه، وعليه فالمراد بقوله فجمع كيده هو جمعه للسحرة من أطراف مملكته، ويدل على هذا أمران: أحدهما تسمية السحر في القرآن كيدًا، كقوله (ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ) [طه:٦٩].
وقوله تعالى عن السحرة: (ﯻ ﯼ) [طه:٦٤].
وكيدهم سحرهم، الثاني أن الذي جمعه فرعون هو السحرة كما دلت عليه آيات من كتاب الله، كقوله تعالى في «الأعراف»: (ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ) [الأعراف:١١١-١١٢].
وقوله (ﮘ) أي: جامعين يجمعون السحرة من أطراف مملكته.
وقوله في «الشعراء»: (ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ) [الشعراء:٣٦-٣٨].
وقوله في «يونس»: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ) [يونس:٧٩].
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: (ﯓ ﯔ) أي: جاء فرعون بسحرته للميعاد ليغلب نبي الله موسى بسحره في زعمه»49.
سادسًا: الإضلال:
لقد أعطى الله فرعون وملأه الزينة والأموال، لكنهم استغلوها في إضلال الناس، ولم ينتفعوا بها في مرضات الله، قال تعالى: (ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ) [يونس:٨٨].
قال سيد قطب: «ينشأ عنها إضلال الناس عن سبيلك، إما بالإغراء الذي يحدثه مظهر النعمة في نفوس الآخرين، وإما بالقوة التي يمنحها المال لأصحابه فيجعلهم قادرين على إذلال الآخرين أو إغوائهم»50، فكانت العاقبة أن طمس الله على أموالهم، وشد على قلوبهم؛ بل وأصبحوا أئمة يدعون إلى النار، قال تعالى: (ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ) [القصص:٤١].
قال المراغي: «أي وجعلنا فرعون وقومه أئمة يقتدى بهم أهل العتو والكفر بالله، فهم يحثون على فعل الشرور والمعاصي، وتدسية النفوس بالفسوق والآثام التي تلقى بفاعلها في النار، وما كفاهم أن كانوا ضالين كافرين بالله ورسوله، بل دأبوا على إضلال سواهم وتحسين العصيان لهم، وبذا قد ارتكبوا جريمتين، فباءوا بجزاءين: جزاء الضلال وجزاء الإضلال»51.
ولقد وصفه الله بالإضلال بصريح الآية فقال: (ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ) [طه:٧٩].
قال ابن عاشور: «إن فرعون أوقع قومه في الجهالة وسوء العاقبة بما بث فيهم من قلب الحقائق والجهل المركب، فلم يصادفوا السداد في أعمالهم حتى كانت خاتمتها وقوعهم غرقى في البحر بعناده في تكذيب دعوة موسى عليه السلام»52.
وإلى هذا ذهب الطبري فقال: «يقول جل ثناؤه: وجاوز فرعون بقومه عن سواء السبيل، وأخذ بهم على غير استقامة، وذلك أنه سلك بهم طريق أهل النار، بأمرهم بالكفر بالله، وتكذيب رسله (ﭰ ﭱ) يقول: وما سلك بهم الطريق المستقيم، وذلك أنه نهاهم عن اتباع رسول الله موسى، والتصديق به، فأطاعوه، فلم يهدهم بأمره إياهم بذلك، ولم يهتدوا باتباعهم إياه»53.
وقال أبو السعود مبينا المعنى: «أي سلك بهم مسلكًا أداهم إلى الخيبة والخسران في الدين والدنيا معًا حيث ماتوا على الكفر بالعذاب الهائل الدنيوي المتصل بالعذاب الخالد الأخروي وقوله تعالى (ﭰ ﭱ) أي ما أرشدهم قط إلى طريق موصلٍ إلى مطلب من المطالب الدينية والدنيوية تقريرٌ لإضلاله وتأكيدٌ له إذ رب مضلٍ قد يرشد من يضله إلى بعض مطالبه، وفيه نوع تهكمٍ به في قوله (ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ) [غافر:٢٩].
فإن نفي الهداية عن شخص مشعرٌ بكونه ممن يتصور منه الهداية في الجملة، وذلك إنما يتصور في حقه بطريق التهكم وحمل الإضلال والهداية على ما يختص بالديني منهما يأباه مقام بيان سوقه بجنوده إلى مساق الهلاك الدنيوي، وجعلهما عبارةً عن الإضلال في البحر والإنجاء منه مما لا يقبله العقل السليم»54.
سابعًا: الغرور:
سيطر الغرور على قلب فرعون فأضله ضلالًا بعيدًا، واغتر بما آتاه الله من النعم.
قال تعالى: (ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ) [الزخرف:٥١-٥٢].
قال المراغي: «نادى: إني غني كثير المال عظيم الجاه، فلي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي، وموسى فقير مهين وليس له بيان ولا لسان»55.
وقال الخازن مبينًا غرور فرعون: «أفلا تبصرون أي عظمتي وشدة ملكي»56.
وقد بين القشيري أن غروره كان سبب هلاكه فقال: «تعزز بملك مصر، وجرى النيل بأمره! وكان في ذلك هلاكه ليعلم أن من تعزز بشيء من دون الله فحتفه وهلاكه في ذلك الشيء»57.
وقد أشار ابن كثير إلى غرور فرعون وعتوه وكفره في مقولته تلك فقال: «يقول تعالى مخبرا عن فرعون وتمرده وعتوه وكفره وعناده: أنه جمع قومه، فنادى فيهم متبجحًا مفتخرًا بملك مصر وتصرفه فيها: (ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ)» 58.
ولقد وصل الغرور بفرعون أن يدعي الألوهية ويأمر قومه بعبادته.
قال تعالى: (ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ) [القصص:٣٨].
«فتضمن كلامه نفي إلهية غيره وإثبات إلهية نفسه»59، ولقد أمر هامان أن يبني له قصرًا منيفًا ليظهر غروره بادعائه الألوهية كما قال ابن كثير: «فرعون بنى هذا الصرح الذي لم ير في الدنيا بناء أعلى منه، إنما أراد بهذا أن يظهر لرعيته تكذيب موسى فيما زعمه من دعوى إله غير فرعون»60.
بل وهدد وتوعد موسى بأن يسجنه أن لم يعبده ويتخذه إلهًا؛ قال تعالى: (ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ) [الشعراء:٢٩].
قال النسفي: «أي لأجعلنك واحدًا ممن عرفت حالهم في سجوني وكان من عادته أن يأخذ من يريد سجنه فيطرحه في هوة ذاهبة في الأرض بعيدة العمق فردًا لا يبصر فيها ولا يسمع فكان ذلك أشد من القتل ولو قيل لأسجننك لم يؤد هذا المعنى وإن كان أخصر»61.
ثامنًا: الاستبداد:
إن مقومات استبداد فرعون: ادعاء الربوبية، وأداء الألوهية. أما ادعاء الربوبية كما في قوله: (ﭹ ﭺ ﭻ) [النازعات:٢٤]وقوله: (ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ) [الزخرف:٥١]؛ فيدعي لنفسه صفات الربوبية التي وردت في قوله تعالى: (ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭﮮ ﮯ ﮰ ﮱﯓ ﯔ ﯕ ﯖﯗ ﯘ ﯙ ﯚ) [البروج:١٢-١٦].
وأما ادعاء الألوهية كما ورد في قوله تعالى: (ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ) [القصص:٣٨].
فيدعي صفة الألوهية التي جاءت في قوله تعالى: (ﯩ ﯪ ﯫ ﯬﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ) [الكهف:٢٦]؛ فالحاكم المستبد يبدأ فيدعي بأن كل البلد ملكه الشخصي، ويتصرف على هذا الأساس (ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ) ثم ينتقل إلى التصرف على أساس أن الناس العقلاء ملكه أيضا، تمهيدًا للادعاء الثاني، وهو ادعاء الألوهية، الذي يختص بالعاقل فقط كما في قوله: (ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ)وقوله تعالى: (ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ) [الأنبياء:٢٣].
فالألوهية تتضمن الطاعة الكاملة من الناس لفرعون، بألا يتصرفوا بشيء بقناعاتهم الشخصية دون إذن منه، لذا قال فرعون للسحرة (ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ) [الأعراف:١٢٣].
وأنزل بهم العقوبة بقوله: (ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ) [الأعراف:١٢٤]؛ لا لأنهم آمنوا برب موسى وهارون، وإنما لأنهم آمنوا قبل أن يأذن لهم، ولو أنهم استأذنوه لكان من الأرجح أن يأذن لهم، لأنهم باستئذانهم له، لا يتحدونه في ألوهيته.
وقد استبد فرعون لدرجة أنه لم يتفرد برأيه فقط بل ألزم قومه أن لا يروا إلا ما يرى، لاسيما في قتل موسى عليه السلام؛ قال تعالى: (ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ) [غافر:٢٩].
قال الزمخشري: «أي: ما أشير عليكم برأي إلا بما أرى من قتله، يعني لا أستصوب إلا قتله، وهذا الذي تقولونه غير صواب وما أهديكم بهذا الرأي إلا سبيل الرشاد»62.
وقد استنكر على السحرة أن يؤمنوا بالله قبل أن يأذن لهم؛ حتى الإيمان بالله لا يفترض إلا أن يكون بإذن منه.
قال تعالى: «(ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫﭬ ﭭ ﭮ ﭯ) [الأعراف:١٢٣].
قال الواحدي: «أصدقتم موسى من قبل أمري إياكم»63.
لقصة فرعون مع موسى فصولٌ كثيرة ومحطاتٌ عديدة، وسنتوقف عند بعض تلك المحطات؛ فالمحطة الأولى هي تربية فرعون لموسى عليه السلام.
أولًا: تربية فرعون لموسى عليه السلام:
يقول الطبري في تفسير قوله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ) [البقرة:٤٩].
كان من شأن فرعون أنه رأى في منامه أن نارا أقبلت من بيت المقدس حتى اشتملت على بيوت مصر، فأحرقت القبط وتركت بني إسرائيل، وأخربت بيوت مصر، فدعا السحرة والكهنة، فسألهم عن رؤياه فقالوا له: يخرج من هذا البلد الذي جاء بنو إسرائيل منه -يعنون بيت المقدس- رجل يكون على وجهه هلاك مصر؛ فأمر ببني إسرائيل أن لا يولد لهم غلام إلا ذبحوه، ولا تولد لهم جارية إلا تركت64.
ولقد ولد موسى في تلك الظروف، قال تعالى: (ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ) [القصص:٧].
فانصاعت لأمر ربها، وكانت النتيجة أن أخذه فرعون ليربيه في قصره تلبية لرغبة زوجته، وقر عين أمه بأن حرم عليه المراضع إلا هي.
قال تعالى: (ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ) [طه:٤٠].
قال المراغي: «فاستدعت أم موسى وأحسنت إليها وأعطتها العطاء الجزيل، ثم سألتها أن تقيم عندها وترضعه فأبت ذلك عليها وقالت إن لي بعلا وأولادًا ولا أستطيع المقام عندك، ولكن إن أحببت أن أرضعه في بيتي فعلت، فأجابتها إلى ما طلبت، وأجرت عليها النفقة والصلات والكسا وجزيل العطايا ورجعت بولدها إلى بيتها راضية مرضية قد أبدلها الله بعد خوفها أمنا وهى موفورة العز والجاه والرزق الواسع»65.
ومما يستنتج من تربية فرعون لموسى:
ثانيًا: آيات موسى عليه السلام إلى فرعون:
أيد الله موسى بآيات كثيرة، علها تثني فرعون عن كفره وتجعله يؤمن بالله وحده، ولكنه أبى واستكبر وكان من العالين، واتهم موسى بأنه رجلٌ مسحور.
قال تعالى: (ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ) [الإسراء:١٠١].
قال الطبري: «التسع الآيات البينات: يده، وعصاه، ولسانه، والبحر، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم آيات مفصلات»67.
وآيات موسى ذكرت كثيرًا في القرآن، وقد اختلف المفسرون في تحديدها اختلافًا كثيرًا، وهناك كلامٌ نفيس للرازي يجمع فيه بين الأقوال جميعًا حيث قال في تبينها:
أحدها: أن الله تعالى أزال العقدة من لسانه قيل في التفسير ذهبت العجمة وصار فصيحًا.
وثانيها: انقلاب العصا حية.
وثالثها: تلقف الحية حبالهم وعصيهم مع كثرتها.
ورابعها: اليد البيضاء.
وخمسة أخر وهي: الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم.
والعاشر: شق البحر، وهو قوله: (ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ) [البقرة:٥٠].
والحادي عشر: الحجر، وهو قوله: (ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ) [الأعراف:١٦٠].
الثاني عشر: إظلال الجبل، وهو قوله تعالى: (ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ) [الأعراف:١٧١].
والثالث عشر: إنزال المن والسلوى عليه وعلى قومه.
والرابع عشر والخامس عشر: قوله تعالى: (ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ) [الأعراف:١٣٠].
والسادس عشر: الطمس على أموالهم من النحل والدقيق والأطعمة والدراهم والدنانير، إذا عرفت هذا فنقول إنه تعالى ذكر في القرآن هذه المعجزات الستة عشر لموسى عليه الصلاة والسلام وقال في هذه الآية: ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات وتخصيص التسعة بالذكر لا يقدح فيه ثبوت الزائد عليه لأنه بينا في أصول الفقه أن تخصيص العدد بالذكر لا يدل على نفي الزائد بل نقول إنما يتمسك في هذه المسألة بهذه الآية ثم نقول: أما هذه التسعة فقد اتفقوا على سبعة منها وهي العصا واليد والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم، وبقي الاثنان ولكل واحد من المفسرين قول آخر فيهما68.
ثالثًا: دعاء موسى عليه السلام على فرعون:
بعد أن طال السجال بين موسى عليه السلام وفرعون، دعا موسى عليه السلام على فرعون وقومه، قال تعالى: (ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ) [يونس:٨٨].
فالوارد في كثيرٍ من الآثار أن أستجيب له بعد أربعين عامًا، لا أنه مكث أربعين عامًا يدعوا عليهم.
قال السيوطي في الدر المنثور: «أخرج ابن المنذر عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: يزعمون أن فرعون مكث بعد هذه الدعوة أربعين سنة، وأخرج ابن جرير عن ابن جريج مثله، وأخرج الحكيم الترمذي عن مجاهد ـ رضي الله عنه ـ في قوله: قال قد أجيبت دعوتكما ـ قال: بعد أربعين سنة»69.
وقال الزمخشري: «المعنى: إن دعاءكما مستجاب، وما طلبتما كائن، ولكن في وقته فاستقيما فاثبتا على ما أنتما عليه من الدعوة والزيادة في إلزام الحجة، فقد لبث نوح عليه السلام في قومه ألف عام إلا قليلا، ولا تستعجلا، قال ابن جريج: فمكث موسى بعد الدعاء أربعين سنة»70.
وقال السمرقندي: «قال مقاتل: فمكث موسى بعد هذه الدعوة أربعين سنة، وهكذا روى الضحاك: أن الإجابة ظهرت بعد أربعين سنة، وقال بعضهم: بعد أربعين يومًا، وقال بعضهم: كان هذا الدعاء حين خرج موسى ببني إسرائيل وأيس من إيمانهم»71.
وقال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ) [يونس:٨٩].
قال السمعاني: «أنه كان بين دعاء موسى وإجابته أربعون سنة، وكذلك كان بين دعاء يعقوب وإجابته أربعون سنة»72.
وقد بين ابن عاشور كيف كانت استجابة دعوة موسى وهارون على فرعون وقومه فقال: «ومعنى إجابة الدعوة إعطاء ما سأله موسى ربه أن يسلب عن فرعون وملئه النعم، ويوالي عليهم المصائب حتى يسأموا مقاومة دعوة موسى وتنحط غلواؤهم، قال تعالى: (ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ) [الأعراف:١٣٠].
وقال أيضًا: (ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ) [الأعراف:١٣٣]»73.
ومن هدايات هذه الآيات أن استجابة الدعاء لا يلزم أن يكون فوريًا، وإنما يكون في الوقت الذي تقتضيه حكمة الله، فلا ينبغي للداعي أن يستعجل.
أساليب فرعون في مواجهة دعوة موسى
للطغاة على مر العصور أساليب في مواجهة الحق الذي يزلزل أركان دولهم، ولقد انتهج فرعون مع نبي الله موسى عليه السلام أساليب شتى لمواجهته؛ فقد ادعى الألوهية والربوبية، واتهم موسى اتهامات كاذبة ما أنزل الله بها من سلطان، كالسحر والجنون وادعاء المؤامرة، وفيما يأتي بيان ذلك.
أولًا: دعوى الألوهية:
لقد طغى فرعون وتجبر لدرجة ادعاءه الألوهية،؛ قال تعالى: (ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ) [القصص:٣٨].
ولقد أوضح الرازي أسلوب فرعون في مواجهة دعوة موسى عليه السلام فيقول: «اعلم أن فرعون كانت عادته متى ظهرت حجة موسى أن يتعلق في دفع تلك الحجة بشبهة يروجها على أغمار قومه»74.
قال السعدي في معنى قوله هذا: «أي: أنا وحدي، إلهكم ومعبودكم، ولو كان ثم إله غيري، لعلمته»75.
لقد نفى علمه بآلهة أخرى ولم ينف وجودها أصلًا، لذلك هدد موسى عليه السلام قائلًا: (ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ) [الشعراء:٢٩].
وفي سورة طه يسأل موسى عن ربه قائلًا: (ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ) [طه:٤٩].
وفي سورة النازعات ظهر تجبره وطغيانه في ادعائه الربوبية، حيث قال: (ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ) [النازعات:٢٥-٢٦].
يقول السمرقندي: «ويقال: الآخرة والأولى. يعني: العقوبة بالكلمة الأولى، والكلمة الأخرى، فأما الأولى قوله: (ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ) ما والأخرى قوله: (ﭹ ﭺ ﭻ) وكان بين الكلمتين أربعون سنة، ويقال: قوله (ﭹ ﭺ ﭻ) كان في الابتداء، حيث أمرهم بعبادة الأصنام، ثم نهاهم عن ذلك، وأمرهم بأن لا يعبدوا غيره»76.
ويقول سيد قطب: «فأما فرعون فوجد في قومه من الغفلة ومن الذلة ومن خواء القلب من الإيمان، ما جرؤ به على قول هذه الكلمة الكافرة الفاجرة: (ﭹ ﭺ ﭻ)، وما كان ليقولها أبدًا لو وجد أمة واعية كريمة مؤمنة، تعرف أنه عبد ضعيف لا يقدر على شيء، وإن يسلبه الذباب شيئا لا يستنقذ من الذباب شيئا! وأمام هذا التطاول الوقح، بعد الطغيان البشع، تحركت القوة الكبرى: (ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ)» 77.
وقد خلد القرآن الكريم قوله ذلك ليبقى لعنة عليه إلى قيام الساعة، ويوم القيامة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب.
ثانيًا: الاتهامات الكاذبة:
منهج الطغاة في كل عصرٍ من العصور، إعراضٌ، ثم تكذيبٌ، فتشهير، فإيذاء، فقتل أو حبس، وقد لجأ فرعون الطاغية لأسلوب الاتهامات الكاذبة؛ والتي تتهم موسى بالكذب، والتشهير به؛ بأنه ساحر أو مجنون.
قال تعالى على لسان فرعون عندما عجزت الحجة أمام دعوة موسى عليه السلام وآياته البينة: (ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ) [الإسراء:١٠١].
فقد كذب فرعون تلك المعجزات الباهرات والآيات البينات، واعتبرها عجائبًا سحرية مكذبًا موسى ومتهمًا له بالسحر؛ قال الطبري: «فقال لموسى فرعون: إني لأظنك يا موسى تتعاطى علم السحر، فهذه العجائب التي تفعلها من سحرك»78.
وكلام الذين يكيلون الاتهامات الكاذبة غير متزن فضلًا عن تناقضه؛ فقد اتهم فرعون موسى بالسحر والجنون.
قال تعالى: (ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ) [الذاريات: ٣٨-٣٩].
«قال أهل العلم: هذا تناقض؛ لأن السحر لا يكون إلا بعقل كامل، والمجنون هو الذي لا عقل له»79.
ولما فشلت الاتهامات الكاذبة التي كالها لموسى انتقل لمرحلة التهديد بالقتل؛ فقال: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ) [غافر:٢٦].
مدعيًا خوفه على دينهم من التبديل؛ وما ذلك إلا للضعف حيلته وحجته؛ قال ابن عاشور: «وقد حمله غروره وقلة تدبره في الأمور على ظن أن ما خالف دينهم يعد فسادًا إذ ليست لهم حجة لدينهم غير الإلف والانتفاع العاجل»80.
ثالثًا: ادعاء المؤامرة:
كلما زاد البغي والطغيان على الدعاة إلى الله زادت الأتباع، هذه سنة إلهية؛ فبعدما فشلت الاتهامات الكاذبة والتهديد، وفشله بمقارعة موسى عليه السلام بالحجة؛ فهم أهل السحرة، والسحرة هم أحد أركان ملكه، بعد فشله في تحدي السحرة لموسى وانقلابهم عليه، اتهم موسى عليه السلام والسحرة بالمؤامرة عليه، هذا هو ديدن الطغاة وأساليبهم في مواجهة الحق.
وقد خلد الله هذه القصة فقال: (ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫﭬ ﭭ ﭮ ﭯ) [الأعراف:١١٣-١٢٣].
قال الزمخشري: «إن صنعكم هذا لحيلة احتلتموها أنتم وموسى في مصر قبل أن تخرجوا منها إلى هذه الصحراء قد تواطأتم على ذلك لغرض لكم، وهو أن تخرجوا منها القبط وتسكنوها بنى إسرائيل، وكان هذا الكلام من فرعون تمويها على الناس لئلا يتبعوا السحرة في الإيمان، وروى أن موسى عليه السلام قال للساحر الأكبر: أتؤمن بي إن غلبتك؟ قال لآتين بسحر لا يغلبه سحر»81.
وقد فند ابن كثيرٍ هذه الشبهة فقال: إن غلبه لكم في يومكم هذا إنما كان عن تشاور منكم ورضا منكم لذلك، وهو يعلم وكل من له لب أن هذا الذي قاله من أبطل الباطل كقوله في الآية الأخرى (ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ) [الشعراء:٤٩].
فإن موسى، عليه السلام، بمجرد ما جاء من مدين دعا فرعون إلى الله، وأظهر المعجزات الباهرة والحجج القاطعة على صدق ما جاء به، فعند ذلك أرسل فرعون في مدائن ملكه ومعاملة سلطنته، فجمع سحرة متفرقين من سائر الأقاليم ببلاد مصر، ممن اختار هو والملأ من قومه، وأحضرهم عنده ووعدهم بالعطاء الجزيل، وقد كانوا من أحرص الناس على ذلك، وعلى الظهور في مقامهم ذلك والتقدم عند فرعون، وموسى عليه السلام لا يعرف أحدا منهم ولا رآه ولا اجتمع به، وفرعون يعلم ذلك، وإنما قال هذا تسترا وتدليسا على رعاع دولته وجهلتهم82.
لكل طاغية متجبر بطانة سيئة، تزين له الباطل وتنافقه أو تتبعه، رجاء جاهٍ أو منصبٍ، أو عرضٍ زائل، لتكون دعامة من دعائم دولة الكفر والطغيان؛ وقد كانت دعائم دولة فرعون تتمثل في التالي: علية القوم، والسحرة، والجنود، وأصحاب الأموال، تفريق قومه، عملًا بقاعدة: فرق تسد؛ ففرق قومه لتبقى سيادته قائمة، فيما يلى تفصيل ذلك.
أولًا: علية القوم:
أولى دعائم ملك فرعون علية القوم، وهم علية القوم؛ «وعلية القوم: أشرافهم وصفوتهم وأرفعهم قدرًا وأسماهم مكانةً83.
ولقد أطلق القرآن عليه لفظ الملأ، قال الشعراوي: «الملأ: هم علية القوم، الذين يملأون العيون، ويتصدرون المجالس»84.
وقال ابن الأثير: «الملأ: أشراف الناس ورؤساؤهم، ومقدموهم الذين يرجع إلى قولهم. وجمعه: أملاء»85.
قال تعالى: (ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ) [القصص:٢٠].
يقول سيد قطب معلقًا على كلمة الملأ: «لقد عرف الملأ من قوم فرعون، وهم رجال حاشيته وحكومته والمقربون إليه أنها فعلة موسى»86.
قال تعالى: (ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ) [الأعراف:١٠٩-١١١].
قال ابن كثير: «أي قال الملأ وهم الجمهور والسادة من قوم فرعون»87.
وقال سيد قطب: «وأشار عليه الملأ وقد خدعتهم مكيدته، وهم شركاء فرعون في باطله، وأصحاب المصلحة في بقاء الأوضاع التي تجعلهم حاشية مقربة ذات نفوذ وسلطان وقد خافوا أن يغلبهم موسى وبنو إسرائيل على أرضهم لو اتبعتهم الجماهير، حين ترى معجزتي موسى وتسمع إلى ما يقول أشاروا عليه أن يلقى سحره بسحر مثله، بعد التهيئة والاستعداد»88.
ثانيًا: السحرة:
لقد كان السحرة بمثابة اليد الضاربة، والمعول الذي سيقضي على دعوة موسى من جذورها؛ فبعد تكذيب موسى والتشهير به ونسبه إلى الجنون لم يجد فرعون بدًا من المواجهة الحقيقية مع موسى، لذا فقد استخدم الدعامة الضاربة التي يبني ملكه عليها، ألا وهي السحرة، فجمعهم ثم أتى موسى.
قال تعالى: (ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ) [طه:٦٠].
قال الرازي: «فجمع كيده، السحرة وسائر من يجتمع لذلك ويدخل فيه الآلات وسائر ما أوردته السحرة ثم أتى دخل تحته أتى الموضع بالسحرة وبالقوم وبالآلات قال ابن عباس: كانوا اثنين وسبعين ساحرًا مع كل واحد منهم حبل وعصا وقيل كانوا أربعمائة وقيل أكثر من ذلك»89.
ولكن كيد فرعون في تباب وهلاك، ولقد انقلب السحر على الساحر قال تعالى: (ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ) [الأنفال:٣٦].
فقد جمع فرعون السحرة وأفق عليهم الأموال لجمعهم، ووعدهم بالعطايا والمكافآت، ولكن هي سنة الله فلقد انكفأت تلك القوة على صاحبها، وآمنت بالله إيمانًا حقيقيًا.
قال تعالى: (ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ) [الشعراء:٣٨-٤٨].
وهكذا انقلب السحرة المأجورون، مؤمنين من خيار المؤمنين. على مرأى ومسمع من الجماهير الحاشدة ومن فرعون وملئه ولا بد أن كان لهذا الانقلاب المفاجئ وقع الصاعقة على فرعون وملئه. فالجماهير حاشدة، فها هم أولًاء يرون السحرة يلقون ما يلقون باسم فرعون وعزته. ثم يغلبون حتى ليقرون بالغلب ويعترفون بصدق موسى في رسالته من عند الله، ويؤمنون برب العالمين الذي أرسله، ويخلعون عنهم عبادة فرعون، ها هم أولًاء يؤمنون برب العالمين، رب موسى وهارون، إن لنا أن نقدر ذعر فرعون لهذه المفاجأة، وذعر الملأ من حوله، عندئذ جن جنون فرعون، فلجأ إلى التهديد البغيض بالعذاب والنكال90.
وقد كان السحرة قد أقسموا جهد أيمانهم أن ينصروه؛ قال الزمخشري: «وذلك أن الواحد منهم لو أقسم بأسماء الله كلها وصفاته على شيء: لم يقبل منه، ولم يعتد بها حتى يقسم برأس سلطانه، فإذا أقسم به فتلك عندهم جهد اليمين التي ليس وراءها حلف لحالف»91.
ثالثًا: الجنود:
الجيم والنون والدال يدل على التجمع والنصرة والجنود: جمع جند وهو العسكر المتجمع للقتال، وأطلق على الأمم التي تجمعت لمقاومة الرسل92.
قال تعالى: (ﮟ ﮠ ﮡﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ) [الزخرف:٥٤-٥٥].
وقال أيضًا: (ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ) [القصص: ٣٩-٤٠].
من الآيات السابقة يتضح لنا أن الله قد أغرق قوم فرعون، وأنه أغرق جند فرعون؛ وهذا يعطي دلالة واضحة بأن قوم فرعون كان عبارة عن الملأ والجنود، بمعنى أن كل قوم فرعون غير الملأ هم جنود فرعون.
لـما علم فرعون بخروج بني إسرائيل مع موسى، أرسل في المدائن يجمع الجنود؛ قال تعالى: (ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ) [الشعراء:٥٢-٥٣].
يقول سيد قطب: «وعلم فرعون بخروج بني إسرائيل خلسة، فأمر بما يسمى «التعبئة العامة» وأرسل في المدائن حاشرين يجمعون له الجنود، ليدرك موسى وقومه ويفسد عليهم تدبيرهم وهو لا يعلم أنه تدبير صاحب التدبير! وانطلق عملاء فرعون يجمعون الجند»93.
ولقد استكبر فرعون وعلا في الأرض وزاده في ذلك غروره بقوة جنوده.
قال تعالى: (ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ) [القصص:٣٩].
فماذا كانت العاقبة.
قال تعالى: (ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ) [القصص:٤٠].
قال الطبري: «فجمعنا فرعون وجنوده من القبط فألقيناهم جميعهم في البحر فغرقناهم فيه»94.
وقد قضى الله في كتابه أن فرعون وجنوده كانوا خاطئين في حساباتهم وتقديرهم للأمور وأن الغلبة دائمًا حليف المؤمنين الصابرين المحتسبين وأن هلاكهم سيكون على يد من ربوه.
قال تعالى: (ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ) [القصص: ٨].
«كانوا خاطئين فيما كانوا عليه من الكفر والظلم، فعاقبهم الله تعالى بأن ربى عدوهم ومن هو سبب هلاكهم على أيديهم»95، وهذه نهاية طبيعية لكل ظالمٍ مستبد.
رابعًا: أصحاب الأموال:
القوة المستبدة، والسياسة المضللة، وسطوة المال، أساسات أصيلة وأركان ركينة لكل دولة ظلمٍ وطغيان، فقد تجسدت هذه الأركان بوضوح في دولة فرعون الطاغية.
قال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ) [العنكبوت:٣٩].
فقد تجسدت القوة والاستبداد في فرعون والذي اقترن اسمه بالجنود؛ فذكر فرعون وجنوده تلك القوة التي جعلته يستخف بالشعب ويوهمه أنه من يملك الارض والأنهار وأن الخير مقرون به وبدونه تعم الفوضى والفقر، وهامان تجسيد للإرادة السياسية لفرعون، تجسيد لحكومة المستبد تلك الحكومة التي تسخر كل ثروات الوطن ومقدراته لخدمة رغبات الفرعون فهامان يبني لفرعون البناء الذي اراده ويصوغ شريعة للظلم ويجسد طبقة رجال دولة الطاغوت؛ فالقوة العسكرية والجنود التي يتحكم بها فرعون لا تقدر على إقامة دولة شمولية لولا هامان وأمثاله، وقارون تجسيد طبقة رجال الأموال، طبقة نسيت كافة الاخلاق والمثل وبغت على الناس بأموالها وتسلطت عليهم بقربها من مركز الحكم فكنزت الاموال وادعت أنها جمعتها على علمٍ عندها.
قال تعالى: (ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ) [يونس:٨٨].
إنك أعطيت فرعون وأشراف قومه وكبراءهم زينة من الحلي والحلل والآنية والماعون والأثاث والرياش، وأموالا كثيرة الأنواع والمقادير، يتمتعون بها وينفقون منها في حظوظ الدنيا من العظمة الباطلة والشهوات البدنية بدون حساب، لتكون عاقبة هذا العطاء إضلال عبادك عن سبيلك الموصلة إلى مرضاتك باتباع الحق والعدل والعمل الصالح96.
قال المراغي: «جرت سنة الله بأن كثرة الأموال تورث الكبرياء والخيلاء والبطر والطغيان وتخضع رقاب الناس»97.
خامسًا: تفريق قومه:
شأن الطغاة في كل العصور تفريق أقوامهم حتى لا يجتمعوا عليهم فيهددوا سلطانهم، فالقاعدة عندهم هي: فرق تسد، وها هو فرعون يجسد تلك القاعدة واقعًا حقيقيًا.
قال تعالى: (ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ) [القصص:٤].
قال الطبري: «أي فرقًا يذبح طائفة منهم، ويستحيي طائفة، ويعذب طائفة، ويستعبد طائفة»98.
قال ابن عاشور: إن فرعون جعل أهل المملكة شيعًا وفرقهم أقسامًا وجعل منهم شيعًا مقربين منه، ويفهم منه أنه جعل بعضهم بضد ذلك، وذلك فساد في الأمة؛ لأنه يثير بينهما التحاسد والتباغض، ويجعل بعضها يتربص الدوائر ببعض، فتكون الفرق المحظوظة عنده متطاولة على الفرق الأخرى، وتكدح الفرق الأخرى لتزحزح المحظوظين عن حظوتهم بإلقاء النميمة والوشايات الكاذبة فيحلوا محل الآخرين، وهكذا يذهب الزمان في مكائد بعضهم لبعض فتنة، ولقد كان يستضعف طائفة من أهل مملكته فيجعلها محقرة مهضومة الجانب لا مساواة بينها وبين فرق أخرى ولا عدل في معاملتها بما يعامل به الفرق الأخرى، في حين أن لها من الحق في الأرض ما لغيرها؛ لأن الأرض لأهلها وسكانها الذين استوطنوها ونشئوا فيها99.
وقد بدىء بالحديث عن فرعون، فكشف عن شخصه الذي يكشف عن إنسان يلبس ثوب الجبروت والطغيان؛ فقد علا في الأرض، وجعل الناس شيعًا، وهم أمة واحدة، من طينة واحدة؛ فهو بعلوه واستكباره قد انعزل عن الناس، فكان رأسًا، وكان الناس جميعًا أرجلًا، كان سيدًا، وأصبح الناس كلهم في سلطانه عبيدًا، كان إلهًا، وصار الناس له مألوهين، ثم إنه بعمله هذا قد صنف الناس أصنافًا، ورتبهم طبقات، وبذلك تسلطت كل طبقة على من هي تحتها وبذلك أغرى الناس بالناس، وشغل بعضهم ببعض100.
امرأة فرعون: اسمها آسيا بنت مزاحم، وهي زوجة فرعون101، مدحها النبي صلى الله عليه وسلم؛ فعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران، وآسية امرأة فرعون، وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام)102.
أولًا: محبتها لموسى عليه السلام:
لقد قذف الله تعالى حب موسى منذ طفولته في قلب من يراه، لاسيما امرأة فرعون، قال تعالى: (ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ) [طه:٣٩].
قال الطبري: «فحببه إلى آسية امرأة فرعون، حتى تبنته وغذته وربته، وإلى فرعون، حتى كف عنه عاديته وشره، وقد قيل: إنما قيل: وألقيت عليك محبة مني، لأنه حببه إلى كل من رآه»103.
ولما ألقته أمه في اليم والتقطه آل فرعون وأتوا به إلى زوجته، تحركت محبتها تجاهه، قال تعالى: (ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ) [القصص:٨-٩].
قال ابن كثير: «فلما كشفت عنه إذا هو غلام من أحسن الخلق وأجمله وأحلاه وأبهاه، فأوقع الله محبته في قلبها حين نظرت إليه، وذلك لسعادتها وما أراد الله من كرامتها» 104.
ثانيًا: ثباتها على الإيمان:
كانت تعيش في أعظم القصور وأفخمها، وقد كان قصرها مليئًا بالجواري والعبيد والخدم فلقد كانت حياتها مترفة منعمة.
ولما دعا موسى عليه السلام إلى توحيد الله تعالى آمنت به وصدقته، ولكنها في البداية أخفت ذلك خشية فرعون وما لبثت حتى أشهرت إسلامها واتباعها لدين موسى عليه السلام، وجن جنون الفرعون لسماعه هذا الأمر المروع بالنسبة له، وحاول عبثًا ردها عن إسلامها وأن تعود كما كانت في السابق.
فتارة يحاول إقناعها بعدم مصداقية ما يدعو له موسى عليه السلام وتارة يرهبها بما قد يحل بها من جراء اتباعها لموسى عليه السلام ولكنها كانت ثابتة على الحق ولم يزحزحها فرعون في دينها وإيمانها مقدار ذرة105.
قال تعالى: (ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ) [الفجر:١٠-١١].
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، في قوله عز وجل: (ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ) قال: (وتد فرعون لامرأته أربعة أوتاد، ثم جعل على ظهرها رحًى عظيمًا حتى ماتت)106.
قال السمعاني: وهي آسية بنت مزاحم، وكانت آمنت بالله وبموسى عليه السلام سرا ثم أظهرت، فعذبها فرعون وعاقبها، وقد وتدها بأربعة أوتاد من حديد، فصبرت على ذلك، فأظهرت حينئذ آسية إيمانها107.
ولقد خلد الله ذكرها وجعلها مثلًا للثبات والإيمان إلى قيام الساعة.
قال تعالى: (ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ) [التحريم:١١].
قال سيد قطب: «وإفراد امرأة فرعون بالذكر هنا مع مريم ابنة عمران يدل على المكانة العالية التي جعلتها قرينة مريم في الذكر، وهما الاثنتان نموذجان للمرأة المتطهرة المؤمنة المصدقة القانتة»108.
وقال أبو السعود: «أي جعل حالها مثلًا لحال المؤمنين في أن وصلة الكفرة لا تضرهم حيث كانت في الدنيا تحت أعدى أعداء الله وهي في أعلى غرف الجنة»109.
فلقد عذبها فرعون عذابًا شديدًا، لكنها استعانت بالله طالبة منه ثلاثة أمور:
أولاها: أن يبني لها بيتًا في الجنة، وقد أراها الله بيتها في الجنة قبل موتها تحت العذاب.
وثانيها: أن ينجيها من أعمال فرعون الوثنية الخبيثة 110.
وثالثها: أن ينجيها من القوم الظالمين، قوم فرعون، وظلمهم هو شركهم بالله؛ فقد دعت بأن ينجيها الله من شركهم111.
قال ابن القيم: «فطلبت كون البيت عنده قبل طلبها أن يكون في الجنة فإن الجار قبل الدار»112.
وهذا يدل دلالة واضحة على ثبات إيمانها وصدقها، قال المراغي: «وفى هذا دليل على أنها كانت مؤمنة مصدقة بالبعث»113.
وقال ابن عاشور: «فكانت امرأة فرعون مثلا لمتانة إيمان المؤمنين»114.
لقد قيـض الله لموسى عليه السلام رجلًا من آل فرعون يدافع عنه، لتسكين الفتنة وإزالة الشر، ذلك الرجل الذي حمل هم الدعوة إلى الله، متبعا ومقتديا بموسى وهارون، وفيما يلي تفصيل قصته.
أولًا: التعريف به:
قال تعالى: (ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ) [غافر:٢٨].
قال الزمخشري: «كان قبطيًا ابن عم لفرعون: آمن بموسى سرًا وقيل كان إسرائيليًا ومن آل فرعون صفة لرجل، أو صلة ليكتم، أي: يكتم إيمانه من آل فرعون، واسمه: سمعان أو حبيب، وقيل: خربيل، أو حزبيل، والظاهر: أنه كان من آل فرعون»115.
وقيل: هو ذلك الرجل الذي حذر موسى من المؤامرة في قوله تعالى: (ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ) [القصص:٢٠].
قال السمعاني: «يقال: كان اسمه شمعون، ويقال: شمعان، وقيل: هو حزقيل مؤمن من آل فرعون»116.
قال القشيري: ومن جعله إسرائيليًا ففيه بعد؛ لأنه يقال: كتمه أمر كذا، ولا يقال: كتم منه، كما قال سبحانه: (ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ) [النساء:٤٢].
وأيضًا ما كان فرعون يحتمل من بني إسرائيل مثل هذا القول، يعني: كونه تكلم بهذا الكلام أمام فرعون، وجهر بكلمة الحق ونصر موسى نصرًا مؤزرًا، ودعا الناس إلى الإيمان بالله عز وجل، وخوف فرعون وقومه من أيام الأحزاب التي هلك فيها عاد وثمود وقوم نوح وغيرهم، لو كان من قوم من بني إسرائيل قوم موسى لما كان يحتمل منه فرعون هذا الكلام فهو من قوم فرعون كما تدل الآية 117.
وخلاصة الأمر أن هذا الرجل قد سماه الله مؤمنًا، وقد حمل رسالة للدفاع عن نبي الله موسى ودعوته؛ فقد خلد الله ذكره إلى يوم القيامة، دون النظر لاسمه أيًا كان.
ثانيًا: نهيه عن قتل موسى عليه السلام:
لقد كانت المهمة الأساسية لهذا الرجل المؤمن الصادق أن يوقف جريمة نكراء، ألا وهي قتل نبي الله موسى، فلقد أفصح عن إيمانه بموسى عليه السلام، معرضًا نفسه للقتل والإيذاء، متحديًا جبروت فرعون قائلًا: (ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ) [غافر:٢٨].
ولم يكتم هذا الرجل المؤمن إيمانه خوفًا؛ لذلك أظهر إيمانه في أحرج الأوقات، عندما قال فرعون: (ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ) [غافر:٢٦].
فعند ذلك أظهر هذا الرجل المؤمن إيمانه، فلو كان يكتم إيمانه خوفًا من فرعون لكان أجدر به أن يستمر على كتم إيمانه، وقد وصل الحال مع فرعون إلى أنه هدد بقتل موسى، وقال: (ﭓ ﭔ ﭕ).
والحق أنه كان لهذه الكلمة: (ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ) تأثير عظيم في نفس فرعون.
وقد كررها أبو بكر في محاولة عقبة بن أبي معيط خنق رسول الله صلى الله عليه وسلم، أخرج البخاري عن عروة بن الزبير قال: (قلت لعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: أخبرني بأشد شيء صنعه المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بفناء الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط، فأخذ بمنكب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولوى ثوبه في عنقه، فخنقه خنقا شديدا، فأقبل أبو بكر رضي الله عنه، فأخذ بمنكبه، ودفعه عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: أتقتلون رجلا أن يقول: ربي الله، وقد جاءكم بالبينات من ربكم؟)118119.
ثالثًا: تحذيره لفرعون وقومه من عذاب الله في الدنيا:
لقد كان ناصحًا أمينًا حكيمًا لا يخاف في الله لومة لائم؛ فبدأ بتذكيرهم نعم الله عليهم، ثم خوفهم بحال الأمم السابقة.
قال تعالى: (ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ) [غافر:٢٩-٣١].
يذكرهم بأنهم الآن ظاهرون في الأرض، وهذا الظهور ظهور وقتي، ويذكر أيضًا بأن الدولة التي تحارب الدين يؤذن بزوالها، قال ابن كثير: يحذرهم أن يسلموا هذا الملك العزيز، فإنه ما تعرضت الدولة للدين إلا سلبوا ملكهم، فأي دولة تحارب شرع الله لابد أن تزول وأن تذل بعد عز120.
ولقد حذر هذا الرجل المؤمن الصالح قومه بأس الله تعالى في الدنيا والآخرة، فبدأ بتخويف العذاب الدنيوي، فقال: يا قومي، إني أخشى عليكم إن كذبتم موسى أن يصيبكم مثلما أصاب الأقوام الذين تحزبوا على أنبيائهم وكذبوا رسلهم من الأمم الماضية، كقوم نوح وعاد وثمود ومن بعدهم كقوم لوط، فقد حل بهم بأس الله، ولم يجدوا لهم ناصرا ينصرهم، ولا عاصما يحميهم، فقوله: مثل دأب، أي مثل حالهم في العذاب، أو مثل عادتهم في الإقامة على التكذيب121.
رابعًا: تحذيره لفرعون وقومه من عذاب يوم القيامة:
أعقب تخويفهم بعقاب الدنيا الذي حل مثله بقوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم بأن خوفهم وأنذرهم عذاب الآخرة عاطفًا جملته على جملة عذاب الدنيا122.
قال تعالى: (ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ) [غافر:٣٢-٣٣].
في ذلك اليوم ينادي الملائكة الذين يحشرون الناس للموقف، وينادي أصحاب الأعراف على أصحاب الجنة وأصحاب النار، وينادي أصحاب الجنة أصحاب النار، وأصحاب النار أصحاب الجنة؛ فالتنادي واقع في صور شتى، وتسميته (ﯺ ﯻ)، تلقي عليه ظل التصايح وتناوح الأصوات من هنا ومن هناك، وتصور يوم زحام وخصام. وتتفق كذلك مع قول الرجل المؤمن: (ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ)، وقد يكون ذلك فرارهم عند هول جهنم، أو محاولتهم الفرار، ولا عاصم يومئذ ولات حين فرار. وصورة الفزع والفرار هي أولى الصور هنا للمستكبرين المتجبرين في الأرض، أصحاب الجاه والسلطان، (ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ)، ولعل فيها إشارة خفية إلى قولة فرعون: (ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ)123.
خامسًا: دعوته لقومه:
قال تعالى: (ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ) [غافر:٣٨-٤٤].
قال الزمخشري: «قال أهدكم سبيل الرشاد فأجمل لهم، ثم فسر فافتتح بذم لدنيا وتصغير شأنها، لأن الإخلاد إليها هو أصل الشر كله، ومنه يتشعب جميع ما يؤدى إلى سخط الله ويجلب الشقاوة في العاقبة، وثنى بتعظيم الآخرة والاطلاع على حقيقتها، وأنها هي الوطن والمستقر، وذكر الأعمال سيئها وحسنها وعاقبة كل منهما، ليثبط عما يتلف وينشط لما يزلف، ثم وازن بين الدعوتين: دعوة إلى دين الله الذي ثمرته النجاة، ودعوتهم إلى اتخاذ الأنداد الذي عاقبته النار، وحذر، وأنذر، واجتهد في ذلك واحتشد»124.
وقد أجمل المراغي قول الرجل المؤمن لقومه فقال: «اعلم أن هذا المؤمن لما رأى تمادى قومه في تمردهم وطغيانهم أعاد إليهم النصح مرة أخرى، فدعاهم أولًا إلى قبول هذا الدين الذي هو سبيل الخير والرشاد، ثم بين لهم حقارة الدنيا وعظم شأن الآخرة، وأنها هي الدار التي لا زوال لها، ثم ذكر أنه يدعوهم إلى الإيمان بالله الذي يوجب النجاة والدخول في الجنات، وهم يدعونه إلى الكفر الذي يوجب الدخول في النار، ثم أردف هذا بيان أن الأصنام لا تستجاب لها دعوة، فلا فائدة في عبادتها، ومرد الناس جميعا إلى الله العليم بكل الأشياء، وهو الذي يجازى كل نفس بما كسبت، وأن المسرفين في المعاصي هم أصحاب النار ثم ختم نصحه بتحذيرهم من بأس الله وتفويض أمره إلى الله الذي يدفع عنه كل سوء يراد به»125.
سادسًا: عاقبة أمره:
لقد كانت العاقبة للمتقين في هذه القصة، كما هي العاقبة دائمًا، قال تعالى: (ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ) [غافر:٤٥].
وكانت نهاية مؤمن فرعون تختلف عن نهاية مؤمن آل يس، فمؤمن آل يس قتلوه، ورجموه بالحجارة كما تهددوا الرسل، وانتقل من دار البلاء إلى رحمة الله عز وجل، ولما عاين الكرامة: (ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ) [يس:٢٦-٢٧].
وأما مؤمن آل فرعون(ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ)؛ فالمؤمن دائمًا رابح سواء قتل فانتقل إلى كرامة الله ورحمته وما عند الله خير، أو انتصر في الدنيا فوقاه الله سيئات ما مكروا.
فمن يعمل مع الله عز وجل، ويتاجر معه لا يمكن أن يخسر بحال من الأحوال، قال سبحانه: (ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ) [فاطر:٢٩].
وقال سبحانه: (ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ) [النساء:٧٤].
فالمؤمن رابح في كل الأحوال سواء انتصر أو استشهد، بخلاف الكافرين والمكذبين، الذين يحاربون شرع الله عز وجل، هم في خسارة وبوار في الدنيا والآخرة؛ كما قال تعالى: (ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ) [الأنفال:٣٦].
فتجارتهم خاسرة في الدنيا والآخرة.
قال السمعاني: اختلف القول في نجاته، منهم من قال: نجا حين نجا موسى وبنو إسرائيل، وذلك عند مجاوزة البحر، والقول الثاني: أن مؤمن آل فرعون لما قال هذه الأقوال، ونصح هذه النصيحة طلبه فرعون ليقتله فهرب، فبعث في طلبه جماعة، فوجدوه في جبل يصلي وحوله السباع يحرسونه ففزعوا ورجعوا126.
تعرض فرعون وقومه جراء كفره وادعائه الربوبية والالوهية، لأنواعٍ شتى من العقاب؛ فهناك العقاب الدنيوي، كالقحط والجدب، ونقص الثمرات، والموت غرقًا، وهناك العقاب البرزخي المتمثل في عرضه وقومه على النار غدوًا وعشيًا، ثم العذاب الأخروي، ألا وهو العذاب الشديد في نار جهنم، وفيما يلي تفصيل ذلك.
أولًا: العقوبات في الدنيا:
قال تعالى: (ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ) [الأعراف:١٣٠-١٣٦].
ولقد اختبرنا قوم فرعون وأتباعه على ما هم عليه من الضلالة بالسنين، أي بالجدب سنة بعد سنة، والقحط، يقال منه: «أسنت القوم»، إذا أجدبوا، ونقص من الثمرات، واختبرناهم مع الجدوب بذهاب ثمارهم وغلاتهم إلا القليل لعلهم يذكرون، عظة لهم وتذكيرًا لهم، لينزجروا عن ضلالتهم، ويفزعوا إلى ربهم بالتوبة127.
قال الزمخشري: «أما السنون فكانت لباديتهم وأهل مواشيهم. وأما نقص الثمرات فكان في أمصارهم»128.
قال تعالى: (ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ) [الأعراف:١٣٣].
أي: فأرسلنا عليهم عقوبة على جرائمهم تلك المصائب والنكبات، وهى آيات بينات على صدق رسالة موسى، إذ قد توعدهم بوقوع كل واحدة منها على وجه التفصيل، لتكون دلالتها على صدقه واضحة لا تحتمل تأويلًا بأنها وقعت لأسباب لا ارتباط لها برسالته، فاستكبروا عن الإيمان بها لرسوخهم في الإجرام والإصرار على الذنوب وإن كانوا يعتقدون صدق دعوته وصحة رسالته.
وقد عدد سبحانه هنا من الآيات خمسًا وفى سورة الإسراء تسعًا وهى:
ثم كان الانتقام بالغرق؛ قال تعالى: (ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ) [الأعراف:١٣٦].
قال الشعراوي: «يوضح هنا سبحانه أنه مادام قد أخذهم بالعقاب في ذواتهم، وفي مقومات حياتهم، وفي معكرات صفوهم لم يبق إلا أن يهلكوا؛ لأنه لا فائدة منهم؛ لذلك جاء الأمر بإغراقهم، لا عن جبروت قدرة، بل عن عدالة تقدير؛ لأنهم كذبوا بالآيات وأقاموا على كفرهم»130.
ويلاحظ هنا أن أهم ما في القضية وهو الإغراق، فقد ذكر على هيئة الإيجاز، وهو الحادث الذي جاء في سورة أخرى بالتفصيل.
ثانيًا: العقوبات في القبر:
قال تعالى: (ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ) [غافر:٤٦].
«ومعنى عرضهم على النار أن أرواحهم تشاهد المواضع التي أعدت لها في جهنم، وقوله: غدوًا وعشيًا كناية عن الدوام لأن الزمان لا يخلو عن هاذين الوقتين»131.
قال الجزائري: «إخبار بأن أرواح آل فرعون تعرض في البرزخ على النار غدوًا وعشيًا وذلك بأن تكون في أجواف طير سود على خلاف أرواح المؤمنين فإنها تكون في أجواف طير خضر ترعى في الجنة. إلى يوم القيامة»132.
والتحقيق أن فرعون يعذب هو وقومه بعد موتهم وقبل قيام الساعة، قال القرطبي: «والجمهور على أن هذا العرض في البرزخ»133.
وقال الزحيلي: «إن أرواح فرعون وقومه بعد موتهم في عالم البرزخ، وقبل مجيء القيامة تعرض على النار وتحرق فيها صباحًا ومساء إلى قيام الساعة»134.
وقد أخرج البخاري عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة وإن كان من أهل النار فمن أهل النار فيقال هذا مقعدك حتى يبعثك الله إليه يوم القيامة)135.
ثالثًا: العقوبات في الآخرة:
قال تعالى: (ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ) [غافر:٤٥].
قال الشنقيطي: «وحاق بآل فرعون سوء العذاب معناه: أنهم لما أرادوا أن يمكروا بهذا المؤمن وقاه الله مكرهم، ورد العاقبة السيئة عليهم، فرد سوء مكرهم إليهم، فكان المؤمن المذكور ناجيا في الدنيا والآخرة، وكان فرعون وقومه هالكين في الدنيا والآخرة والبرزخ»136.
لقد انهت الآيات قصة فرعون بفاصلة تناسب نهايته البغيضة.
قال تعالى: (ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ) [غافر:٤٦].
قال ابن عاشور: «هذا ذكر عذاب الآخرة الخالد، أي يقال: أدخلوا آل فرعون أشد العذاب، وعلم من عذاب آل فرعون أن فرعون داخل في ذلك العذاب بدلالة الفحوى»137.
ويقول الزحيلي: «ثم أوضح الله تعالى ذلك العذاب السيء، فقال: النار يعرضون عليها غدوا وعشيا، ويوم تقوم الساعة، أدخلوا آل فرعون أشد العذاب أي إن أرواح فرعون وقومه بعد موتهم في عالم البرزخ، وقبل مجيء القيامة تعرض على النار وتحرق فيها صباحًا ومساء إلى قيام الساعة، فإذا كان يوم القيامة اجتمعت أرواحهم وأجسادهم في النار، ويقال للملائكة: أدخلوا آل فرعون في جهنم، حيث يكون العذاب فيها أشد ألمًا وأعظم نكالًا»138.
ويجوز أن يعذب فرعون وقومه في المكان الذي يعذب به المنافقين كما قال الأخفش: «قال (ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ)، وقال (ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ) فيجوز أن يكون آل فرعون أدخلوا مع المنافقين في الدرك الأسفل وهو أشد العذاب»139.
ويؤكد الرازي هذا المعنى نقلًا عن ابن الأنباري فيقول: «إنه تعالى قال في صفة المنافقين (ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ)، وقال في آل فرعون (ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ)، فأيهما أشد عذابًا، المنافقون أم آل فرعون؟ وأجاب بأنه يحتمل أن أشد العذاب إنما يكون في الدرك الأسفل، وقد اجتمع فيه الفريقان»140.
لقد اشتملت قصة فرعون مع موسى على هداياتٍ جمة، نقتطف بعضًا منها كما يلي:.
موضوعات ذات صلة: |
الاستدراج، بنو إسرائيل، موسى |
1 التحرير والتنوير ١/٤٩٠
2 مفاتيح الغيب ٣/٥٠٥.
3 في ظلال القرآن ٥/٢٦٧٧.
4 التحرير والتنوير ١/٤٩٠.
5 المصدر السابق ٢٠/٦٧.
6 انظر: جامع البيان، الطبري ١٩/٥١٦.
7 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ١٣/٢٤٨.
8 تفسير القرآن ٣/٤٧٦.
9 جامع البيان ١٥/١٥٥.
10 تفسير المراغي ٩/٤٣.
11 تيسير الكريم الرحمن ص ٣٠١.
12 انظر: الكشاف ٢/٣٦١.
13 مفاتيح الغيب ٢٥/٥٦.
14 التحرير والتنوير ٢٠/٢٥٠.
15 جامع البيان ١٨/٢٩٩.
16 الكشاف ٣/٦٠.
17 تفسير المراغي ١٦/١٠٥
18 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٥/٢٨٠.
19 التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع، محمد بن أحمد الملطي ص١٢٢.
20 مفاتيح الغيب ٣١/١٥٤.
21 جامع البيان ٢٤/٤١٠.
22 لباب التأويل ٤/٤٢٦.
23 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٣/٤٤٧.
24 نظم الدرر ٧/٤٦١.
25 فتح القدير، الشوكاني ٢/٢٦٣.
26 انظر: جامع البيان ١٥/١٩٤.
27 الكشاف ٣/٣٩٢.
28 جامع البيان ١٩/٥١٧.
29 لباب التأويل ٤/٤٢٦.
30 الوجيز في تفسير كتاب الله العزيز ص٥٠٥.
31 مدارك التنزيل وحقائق التأويل ٢/٣٦.
32 تفسير الشعراوي ١٠/٦١٥١.
33 جامع البيان ١٥/١٦٧.
34 إرشاد العقل السليم ٨/٦٣.
35 انظر: تيسير الكريم الرحمن ص ٧٧٣.
36 جامع البيان ٢٢/٣٧.
37 التفسير المنير ١١/٢٤٤.
38 التفسير الواضح ٢/٨٤.
39 انظر: الصحاح، الجوهري ٢/٥٣٣.
40 التحرير والتنوير ٢٤/١٤٨.
41 تفسير القرآن ٥/٢١.
42 مفاتيح الغيب ٢٧/٥١٧.
43 جامع البيان ٢١/٣٧٣.
44 مفاتيح الغيب ٢٧/٥٠٦.
45 فتح القدير ٤/٥٦٠.
46 الوجيز الواحدي ٦٩٨.
47 مفاتيح الغيب ٢٢/٦٤.
48 التحرير والتنوير ١٦/٢٤٧.
49 أضواء البيان ٤/٣٢.
50 في ظلال القرآن ٣/١٨١٧.
51 تفسير المراغي ٢٠/٦٢.
52 التحرير والتنوير ١٦/٢٧٢.
53 جامع البيان ١٨/٣٤٥.
54 إرشاد العقل السليم ٦/٣٢.
55 تفسير المراغي ٢٥/٩٦.
56 لباب التأويل ٤/١١١.
57 لطائف الإشارات ٣/٣٧٠.
58 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٧/٢٣١.
59 اللباب في علوم الكتاب، ابن عادل ١٥/٢٦٠
60 تفسير القرآن العظيم ٦/٢٣٨.
61 مدارك التنزيل ٢/٥٦٠.
62 الكشاف ٤/١٦٤.
63 الوجيز في تفسير كتاب الله العزيز ص ٤٠٧.
64 انظر: جامع البيان ٢/٤٤.
65 تفسير المراغي ٢٠/٤١.
66 انظر: تيسير اللطيف المنان في خلاصة تفسير القرآن، السعدي ص٢٢٧.
67 جامع البيان ١٧/٥٦٤.
68 انظر: مفاتيح الغيب ٢١/٤١٤.
69 الدر المنثور ٤/٣٨٥.
70 الكشاف ٢/٣٦٦.
71 تفسير السمرقندي ٢/١٢٩.
72 تفسير القرآن ٢/٤٠١.
73 التحرير والتنوير ١١/٢٧٢.
74 مفاتيح الغيب ٢٤/٥٩٩.
75 تيسير الكريم الرحمن ص ٦١٦.
76 تفسير السمرقندي ٣/٥٤٣.
77 في ظلال القرآن ٦/٣٨١٥.
78 جامع البيان ١٧/٥٦٨.
79 تفسير السمعاني ٥/٢٦٠.
80 التحرير والتنوير ٢٤/١٢٥.
81 الكشاف ٢/١٤١.
82 انظر: تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٣/٤٥٨.
83 معجم اللغة العربية المعاصرة، أحمد مختار ٢/١٥٤٨.
84 تفسير الشعراوي ١٧/١٠٥٦٣.
85 النهاية في غريب الحديث والأثر ٤/٣٥١.
86 في ظلال القرآن ٥/٢٦٨٥.
87 مختصر تفسير ابن كثير ٢/٤١.
88 في ظلال القرآن ٥/٢٥٩٤.
89 مفاتيح الغيب ٢٢/٦٤.
90 انظر: في ظلال القرآن، سيد قطب ٥/٢٥٩٦.
91 الكشاف ٣/٣١٢.
92 انظر: مقاييس اللغة، ابن فارس ١/٤٨٥.
93 في ظلال القرآن ٥/٢٥٩٧.
94 جامع البيان ١٩/٥٨٢.
95 مفاتيح الغيب، الرازي ٢٤/٥٨٠.
96 انظر: تفسير المنار، محمد رشيد رضا ١١/٣٨٦.
97 تفسير المراغي ١١/١٤٨.
98 جامع البيان ١٩/٥١٦.
99 انظر: التحرير والتنوير ٢٠/٦٨.
100 انظر: التفسير القرآني للقرآن، عبدالكريم الخطيب ١٠/٣٠٩.
101 انظر: الكشف والبيان، الثعلبي ١٠/١٩٩.
102 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، باب فضل عائشة رضي الله عنها، رقم ٣٧٦٩، ٥/ ٢٩.
103 جامع البيان ١٨/٣٠٣.
104 تفسير القرآن العظيم ٦/٢٢٢.
105 انظر: تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٨/١٧٣.
106 أخرجه الحاكم، في المستدرك على الصحيحين، كتاب التفسير، باب تفسير سورة والفجر، رقم ٣٩٢٩، ٢/ ٥٦٨.
107 انظر: تفسير القرآن ٥/٤٧٩.
108 في ظلال القرآن ٦/٣٦٢٢.
109 إرشاد العقل السليم ٨/٢٧٠.
110 انظر: تفسير المراغي ٢٨/١٦٩.
111 انظر: التحرير والتنوير، ابن عاشور ٢٨/٣٧٧.
112 الفوائد ١٩٧.
113 تفسير المراغي ٢٨/١٦٩.
114 التحرير والتنوير ٢٨/٣٧٦.
115 الكشاف ٤/١٦٢.
116 تفسير القرآن ٤/١٢٩.
117 انظر: فتح القدير، الشوكاني ٤/٥٦٠.
118 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لو كنت متخذا خليلًا)، رقم ٣٦٧٨، ٥/ ١٠.
119 انظر: التفسير المنير، الزحيلي ٢٤/١١٣.
120 انظر: تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٧/١٤٠.
121 انظر: التفسير المنير، الزحيلي ٢٤/١١٦.
122 انظر: التحرير والتنوير، ابن عاشور ٢٤/١٣٦.
123 انظر: في ظلال القرآن، سيد قطب ٥/٣٠٨٠.
124 الكشاف ٤/١٦٨.
125 تفسير المراغي ٢٤/٧٤.
126 تفسير السمعاني ٥/٢٣.
127 انظر: جامع البيان، الطبري ١٣/٤٥.
128 الكشاف ٢/١٤٤.
129 انظر: تفسير المراغي ٩/٤٣.
130 الخواطر ٧/٤٣٢٣.
131 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٢٤/١٥٩.
132 أيسر التفاسير ٤/٥٣٨.
133 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ١٥/٣١٨.
134 التفسير المنير ٢٤/١٣١.
135 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجنائز، باب الميت يعرض عليه مقعده، رقم١٣٧٩، ٢/ ٩٩.
136 أضواء البيان ٦/٣٨٨.
137 التحرير والتنوير ٢٤/١٥٩.
138 التفسير المنير ٢٤/١٣١.
139 معانى القرآن ٢/٥٠٢.
140 مفاتيح الغيب ١١/٢٥١.
141 انظر: أيسر التفاسير، الجزائري ٤/٥٣، التفسير المنير، الزحيلي ٢٤/١١٨.