عناصر الموضوع
الغيب
أولًا: المعنى اللغوي:
أصل مادة (غيب) تدل على تستر الشيء عن العيون، فالغيب: ما غاب، مما لا يعلمه إلا الله، ويقال: ووقعنا في غيبةٍ وغيابة، أي: هبطة من الأرض يغاب فيها، والغابة: الأجمة1.
والغيب: خلاف الشهادة، واستعمل في كل غائب عن الحاسة، وعما يغيب عن علم الإنسان بمعنى: الغائب، وكل مكان لا يدرى ما فيه فهو غيبٌ، وجمعه غيوب.
والغيب: المطمئن من الأرض؛ لأنه غاب عن الأبصار، و(الغيبة): الوقيعة في الناس؛ لأنها لا تقال إلا في غيبة، مأخوذة من الاغتياب، ويقال: اغتاب فلانٌ فلانًا يغتابه اغتيابًا وغيبة، وقال بعضهم: بدا غيبان الشجرة، وهي عروقها التي تغيبت في الأرض، فحفرت عنها حتى ظهرت2.
ثانيًا: المعنى الاصطلاحي:
قال الواحدي: «الغيب هو ما غاب علمه عن الحس والضرورة، مما يدرك بالدليل»3.
وقال الراغب الأصفهاني: «هو مالا يقع تحت الحواس، ولا تقتضيه بدائة العقول، وإنما يعلم بخبر الأنبياء عليهم السلام، وبدفعه يقع على الإنسان اسم الإلحاد»4.
وقال المناوي: «الغيب ما غاب عن الحس، ولم يكن عليه علم يهتدي به العقل، فيحصل به العلم»5.
إذًا فالغيب: ما غاب عن الحواس، أو ما لا يقع تحت الحواس ولا تقتضيه بدائة العقول، بحيث لا يدرك بواحدٍ منهما ابتداء، ونتوصل إلى معرفته بالخبر الصادق، وبالآثار التي تدل عليه.
وردت مادة (غيب) في القرآن الكريم (٥٩) مرة6.
والصيغ التي وردت هي:
الصيغة |
عدد المرات |
المثال |
اسم فاعل |
٤ |
(ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ) [الأعراف:٧] |
مصدر |
٥٣ |
(ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ) [الجن:٢٦] |
اسم |
٢ |
(ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ) [يوسف:١٠] |
وذكر بعض أصحاب الوجوه والنظائر أن الغيب في القرآن على أحد عشر وجهًا7، لكن بالتأمل في هذه الوجوه نجد أن الغيب في الاستعمال القرآني يرجع إلى وجهين:
الأول: كل ما غاب عن العيون: سواء كان محصلًا في القلوب أو غير محصل، مما لا يعلمه إلا الله8، قال الله تعالى: (ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ) [مريم: ٦١]. أي: هي من الغيب الذي يؤمنون به وما رأوه9؛ لأنهم لم يروها ولم يعاينوها، فهي غيب لهم10.
الثاني: الظن: ومنه قوله تعالى: (ﮈ ﮉ) [سبأ: ٥٣]. يعني: يرمون بالظن.
القضاء:
القضاء لغة:
قضى يقضي قضاء فهو قاضٍ إذا حكم وفصل، وقضاء الشيء: إحكامه وإمضاؤه والفراغ منه فيكون بمعنى: الخلق، والقضاء في اللغة على وجوه، مرجعها إلى انقطاع الشيء وتمامه، القضاء المقرون بالقدر، والمراد بالقدر التقدير، وبالقضاء الخلق11.
القضاء اصطلاحًا:
«عبارة عن الحكم الكلي الإلهي في أعيان الموجودات على ما هي عليه من الأحوال الجارية في الأزل إلى الأبد»12.
وقيل: تقدير الله للكائنات حسبما سبق به علمه، واقتضته حكمته13.
الصلة بين الغيب والقضاء:
القضاء جزء من الأمور الغيبية، فالغيب أعم من القضاء.
القدر:
القدر لغة:
من القدرة، فالله القادر والمقتدر والقدير، يقال: قدر الإله كذا تقديرًا، وإذا وافق الشيء الشيء قلت: جاءه قدره، والقدر القضاء والحكم، وهو ما يقدره الله عز وجل من القضاء ويحكم به من الأمور14.
القدر اصطلاحًا:
«القدر خروج الممكنات من العدم إلى الوجود، واحدًا بعد واحد، مطابقًا للقضاء، والقضاء في الأزل، والقدر فيما لا يزال»15.
وقيل: هو علم الله تعالى بالأشياء وكتابته لها قبل كونها، على ما هي عليه، ووجودها على ما سبق به علمه، وكتابته بمشيئته وخلقه16.
الصلة بين الغيب والقدر:
الغيب أعم من القدر، فالقدر جزء من الغيب.
الشهادة:
الشهادة لغة:
أصل معنى الشهادة في اللغة يدل على حضور وعلم وإعلام، والشاهد هو الحاضر17.
الشهادة اصطلاحًا:
والمشاهدة هي الإدراك بإحدى الحواس الظاهرة أو الباطنة، والمشاهدات هي المحسات، أي: الأمور التي نحكم عليها بإحدى الحواس، والمراد بـعالم الشهادة: كل ما هو حاضر مشاهد، نستطيع أن ندركه بحواسنا ونحكم عليه بها18.
الصلة بين الغيب والشهادة:
هما ضدان، فالغيب مالا يقع تحت الحواس، والمشاهد المحسوس.
إن القرآن الكريم دعوةٌ للناس جميعًا على اختلاف حظوظهم من العقل والقدرة على التفكير؛ لذا كان منه ما يتجه للقلب ليتفتح للموعظة، وكان منه ما يتجه للعقل ليذعن للمنطق والدليل، وكان منه -بجانب هذا وذاك- ما يشتمل على الحقيقة سافرةً يفهمها الجميع، وكان منه ما يجيء في شكل أمثالٍ: (ﮣ ﮤ ﮥ ﮦﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ) [العنكبوت: ٤٣].
وهذا «لأن الأمثال والتشبيهات هي الطرق إلى المعاني المحتجبة في الأستار»19.
فكان لابد إذًا من أن يتجه القرآن الكريم لتصحيح العقيدة قبل كل شيء، وبيان منزلة الإيمان بالغيب والحث عليه، ولبيان الحق في هذه القضية العقدية الخطيرة المؤثرة في الحياة البشرية، بوسائل وأساليب متنوعة، ونهج في ذلك منهجًا متكاملًا متوافقًا مع الفطرة والعقل20.
ويمكن إجمال هذه الأساليب في الآتي:
أولًا: اختصاص الله تعالى وحده بعلم الغيب:
تضافرت الآيات القرآنية الكريمة في بيان اختصاص الله تعالى وحده بعلم الغيب المطلق، بما لا يدع مجالًا للشك والريب، فهو سبحانه وحده الذي يعلم ذلك ويحيط به إحاطة شامله، وما كان لأحدٍ أن يطلع على شيء منه إلا باطلاع الله تعالى له عليه وفق حكمته ومشيئته. وسنجتزئ هنا ببعض النصوص الكريمة في ذلك، وسيأتي مزيد بيانٍ ينطوي على جملة من الأحاديث.
قال الله سبحانه وتعالى: (ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥﯦ ﯧ ﯨ ﯩﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ) [آل عمران: ١٧٩].
قال إمام المفسرين أبو جعفرٍ الطبري رحمه الله: «اختلف أهل التأويل في تأويل هذه الآية؛ فقال السدي: وما كان الله ليطلع محمدًا على الغيب، ولكن الله اجتباه فجعله رسولًا.
وقال ابن إسحاق: (ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ) فيما يريد أن يبتليكم به، لتحذروا ما يدخل عليكم فيه (ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ) فيصطفيه ويعلمه.
ثم قال: وأولى الأقوال في ذلك بتأويله: (ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ) على ضمائر قلوب عباده، فتعرفوا المؤمن منهم من المنافق والكافر، ولكنه يميز بينهم بالمحن والابتلاء -كما ميز بينهم بالبأساء يوم أحد- وجهاد عدوه، وما أشبه ذلك من صنوف المحن، حتى تعرفوا مؤمنهم وكافرهم ومنافقهم، غير أنه -تعالى ذكره- قال: (ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ) فيصطفيه، فيطلعه على بعض ما في ضمائر بعضهم، بوحيه ذلك إليه ورسالته»21.
ولئن ذكر الطبري رحمه الله بعضًا مما تصدق عليه الآية الكريمة، فإنها تبقى أبعد مدىً في الدلالة والشمول، قال ابن سعدي رحمه الله: «ما كان في حكمة الله أن يترك المؤمنين على ما أنتم عليه من الاختلاط وعدم التميز (ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ)، والمؤمن من المنافق، والصادق من الكاذب.
ولم يكن في حكمته أيضًا أن يطلع عباده على الغيب الذي يعلمه من عباده فاقتضت حكمته الباهرة أن يبتلي عباده، ويفتنهم بما به يتميز الخبيث من الطيب، من أنواع الابتلاء والامتحان، فأرسل الله رسله، وأمر بطاعتهم، والانقياد لهم، والإيمان بهم، ووعدهم على الإيمان والتقوى الأجر العظيم. فانقسم الناس بحسب اتباعهم للرسل قسمين: مطيعين وعاصين، ومؤمنين ومنافقين، ومسلمين وكافرين؛ ليرتب على ذلك الثواب والعقاب، وليظهر عدله وفضله، وحكمته لخلقه»22.
ثم جاءت آية مفاتح الغيب تحصر علم الغيب بالله تعالى23، فقال سبحانه: (ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ) [الأنعام: ٥٩].
وهذه الآية العظيمة من أعظم الآيات تفصيلًا لعلمه المحيط، وأنه شامل للغيوب كلها، التي يطلع منها ما شاء من خلقه، وكثيرٌ منها طوى علمه عن الملائكة المقربين، والأنبياء المرسلين، فضلًا عن غيرهم من العالمين، وأنه يعلم ما في البراري والقفار، من الحيوانات، والأشجار، والرمال والحصى، والتراب، وما في البحار من حيواناتها، ومعادنها، وصيدها، وغير ذلك مما تحتويه أرجاؤها، ويشتمل عليه ماؤها.
ولما طلب كفار قريش من النبي صلى الله عليه وسلم آية تدل على صدقه عندما ظنوا أنه غير مؤيد من الله، أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يجيب عن اقتراحهم بما هو الحقيقة المرشدة -وإن كانت أعلى من مداركهم- جوابًا فيه تعريض بالتهديد لهم.
فقال سبحانه وتعالى: (ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ) [يونس: ٢٠].
أي: إن الأمور المغيبة لا يقدر عليها إلا الله تعالى وحده.
وجاء الكلام بصيغة القصر للرد عليهم في اعتقادهم أن في مكنة الرسول الحق أن يأتي بما يسأله قومه من الخوارق، فجعلوا عدم وقوع مقترحهم علامة على أنه ليس برسول من الله، فلذلك رد عليهم بصيغة القصر الدالة على أن الرسول ليس له تصرف في إيقاع ما سألوه من أمور الغيب؛ ليعلموا أنهم يرمون بسؤالهم إلى الجراءة على الله تعالى بالإفحام24.
ثم جاء الحصر والقصر بأسلوب آخر في موضع آخر، فقال الله تعالى: (ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ) [هود: ١٢٣].
يقول -تعالى ذكره- لنبيه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: ولله ملك كل ما غاب عنك في السموات والأرض فلم تطلع ولم تعلمه، كل ذلك بيده وبعلمه، لا يخفى عليه منه شيء، وهو عالم بما يعمله مشركو قومك، وما إليه مصير أمرهم، من إقامة على الشرك، أو إقلاعٍ عنه وتوبة، وإلى الله معاد كل عاملٍ وعمله، وهو مجازٍ جميعهم بأعمالهم25.
ففي الآية الكريمة بيان اختصاص الله تعالى بعلم الغيب لأن اللام في قوله تعالى: (ﮐ) هي لام الملك، وهو ملك إحاطة العلم، أي: لله ما غاب عن علم الناس في السماوات والأرض. وهذا كلام يجمع بشارة المؤمنين بما وعدوا من النعيم المغيب عنهم، ونذارة المشركين بما توعدوا به من العذاب المغيب عنهم في الدنيا والآخرة. وتقديم المجرورين في قوله تعالى: (ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ) وقوله: (ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ) لإفادة الاختصاص، أي: إن الله تعالى لا غيره، يملك غيب السماوات والأرض؛ لأن ذلك مما لا يشاركه فيه أحد26.
ثم يخبر الله تعالى في آية أخرى بأنه المنفرد بعلم غيب السماوات والأرض، فيقول: (ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ) [النمل: ٦٥].
فالغيوب كلها -كتلك التي تقدمت الإشارة إليها في الآيات السابقة- اختص الله بعلمها، فلم يعلمها ملك مقرب ولا نبيٌ مرسل، وإذا كان هو المنفرد بعلم ذلك المحيط علمه بالسرائر والبواطن والخفايا فهو الذي لا تنبغي العبادة إلا له27.
وقد تقتضي حكمة الله تعالى أن يطلع أحد رسله على طرف من هذا الغيب، فقال الله سبحانه وتعالى: (ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ) [الجن: ٢٦-٢٨].
قال ابن الجوزي رحمه الله: «وذلك لأن علم الغيب لله وحده، فلا يطلع على غيبه الذي يعلمه أحدًا من الناس (ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ)؛ لأن من الدليل على صدق الرسل إخبارهم بالغيب. والمعنى: أن من ارتضاه للرسالة أطلعه على ما شاء من غيبه ثم ذكر سبحانه أنه يحفظ ذلك الذي يطلع عليه الرسول، فقال تعالى: (ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ) أي: من بين يدي الرسول، (ﰇ ﰈ ﰉ) أي: يجعل له حفظةً من الملائكة يحفظون الوحي من أن تسترقه الشياطين، فتلقيه إلى الكهنة، فيتكلمون به قبل أن يخبر النبي صلى الله عليه وسلم الناس. وقال الزجاج: «(ﰃ ﰄ ﰅ) يدي الملك (ﰇ ﰈ ﰉ). وقيل: يسلك من بين يدي الوحي. فـ (الرصد) من الملائكة يدفعون الشياطين عن أن تستمع ما ينزل من الوحي»28.
ثانيًا: الإيمان بالغيب من صفات المؤمنين:
يصف الله سبحانه وتعالى المؤمنين في مواضع كثيرة من القرآن بأنهم (ﭞ ﭟ)، فيجعل هذه الصفة قاعدةً من قواعد الإيمان الأساسية وركنًا من أركانه، وهذا منهج قرآني ونبويٌ، فكثيرًا ما يجعل الركن صفةً للمؤمنين ملازمة لهم، كما في قوله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖﭗ ﭘﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷﭸ ﭹ ﭺ ﭻ) [البقرة: ١ - ٥].
وهذا مشهد وديع أليف، رضي جميل، ترسمه الآيات الكريمة. إنه مشهد الجنة، تقرب من المتقين؛ حتى تتراءى لهم من قريب، مع الترحيب والتكريم: (ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ) [ق: ٣٠ -٣٣].
والتكريم في كل كلمة وفي كل حركة، فالجنة تقرب وتزلف، فلا يكلفون مشقة السير إليها، بل هي التي تجيء: (ﰄ ﰅ)! ونعيم الرضى يتلقاهم مع الجنة: (ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ) فيوصفون هذه الصفة من الملأ الأعلى، ويعلمون أنهم في ميزان الله أوابون، حفيظون، يخشون الرحمن ولم يشهدوه، منيبون إلى ربهم طائعون29.
قال محيي السنة الإمام البغوي رحمه الله: «(ﰁ ﰂ) قربت وأدنيت، (ﰃ) الشرك، (ﰄ ﰅ) ينظرون إليها قبل أن يدخلوها. (ﰇ ﰈ ﰉ) قرأ ابن كثير بالياء والآخرون بالتاء، يقال لهم: هذا الذي ترونه ما توعدون على ألسنة الأنبياء عليهم السلام، (ﰊ ﰋ) رجاع إلى الطاعة عن المعاصي.
قال سعيد بن المسيب: هو الذي يذنب ثم يتوب، ثم يذنب ثم يتوب.
وقال الشعبي ومجاهد: الذي يذكر ذنوبه في الخلاء فيستغفر منها.
وقال الضحاك: هو التواب.
وقال ابن عباس وعطاء: المسبح.
ومعنى الآية: من خاف الرحمن وأطاعه بالغيب ولم يره. وقال الضحاك والسدي: يعني في الخلوة حيث لا يراه أحد. قال الحسن: إذا أرخى الستر وأغلق الباب. (ﰒ ﰓ ﰔ) مخلصٍ مقبلٍ إلى طاعة الله.
(ﰖ) أي: يقال لأهل هذه الصفة: ادخلوها. أي: ادخلوا الجنة (ﰗ) بسلامة من العذاب والهموم. وقيل بسلام من الله وملائكته عليهم. وقيل: بسلامة من زوال النعم، (ﰙ ﰚ ﰛ).
(ﰝ ﰞ ﰟ ﰠ)، وذلك أنهم يسألون الله تعالى حتى تنتهي مسألتهم فيعطون ما شاؤوا، ثم يزيدهم الله من عنده ما لم يسألوه، وهو قوله: (ﰡ ﰢ)، يعني: الزيادة لهم في النعيم ما لم يخطر ببالهم. وقال جابر وأنس: هو النظر إلى وجه الله الكريم»30.
وهو المعنى نفسه يتكرر في آيات أخرى تجعل الإيمان بالغيب من صفات المؤمنين والمؤمنات، وترتب على ذلك آثاره الهائلة العظيمة، كما في قوله تعالى: (ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ) [الأنبياء: ٤٨ -٤٩].
(ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ) [النساء: ٣٤].
(ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀﰁ ﰂ ﰃ ﰄ) [فاطر: ١٨].
ثالثًا: التلازم بين أركان الإيمان والغيب:
والإيمان بالله سبحانه وتعالى وهو أعظم أركان الإيمان وأصلها، هو إيمانٌ بالغيب. فذات الله سبحانه غيب بالقياس إلى البشر، فإذا آمنوا به فإنما يؤمنون بغيب، يجدون آثار فعله، ولا يدركون ذاته، ولا كيفيات أفعاله.
والإيمان بالآخرة كذلك، هو إيمان بالغيب؛ فالساعة بالقياس إلى البشر غيب، وما يكون فيها من بعث وحساب وثواب وعقاب كله غيب يؤمن به المؤمن، تصديقًا لخبر الله سبحانه وتعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ) [الأحزاب: ٦٣].
والإيمان بالملائكة عليهم السلام إيمان بالغيب، لا يعرف عنهم البشر إلا ما يخبرهم به الله تعالى، على قدر طاقتهم وحاجتهم، وما كان البشر حاضرين شاهدين على خلق الملائكة وإيجادهم: (ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ) [الصافات: ١٤٩-١٥٤].
والغيب الذي يتحقق الإيمان بالتصديق به يشمل حقائق أخرى يذكرها القرآن الكريم في وصف واقع المؤمنين وعقيدتهم الشاملة كما في قوله تعالى: (ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫﮬ ﮭ ﮮ ﮯﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ) [البقرة: ٢٨٥ ].
فنجد في هذا النص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، كلٌ آمن بالله -وهو غيب- وآمن بما أنزل الله على رسوله، وما أنزل الله على رسوله فيه جانب من اطلاعه صلى الله عليه وسلم على جانب من الغيب بالقدر الذي قدره الله سبحانه كما قال في الآية الأخرى: (ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ) [الجن: ٢٦-٢٨].
ويبقى من الغيب الذي لا يقوم الإيمان إلا بالتصديق به: قدر الله -وهو غيب لا يعلمه الإنسان حتى يقع- كما جاء في قوله تعالى: (ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ) [الحديد: ٢٢-٢٣].
وهذا التلازم بين الإيمان بالغيب وسائر أركان الإيمان يدل عليه أيضًا ويؤكده: أن الله تعالى جعل الكفر بشيء من الأركان، وهو أيضًا غيب، جعله كفرًا بالله تعالى يستحق صاحبه العذاب المهين31.
فقال سبحانه وتعالى: (ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ) [النساء: ١٥٠ - ١٥١].
رابعًا: حسن عاقبة الذين يؤمنون بالغيب:
قال سبحانه وتعالى: (ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ) [مريم: ٦١ - ٦٣].
قال السمين الحلبي في (الدر المصون): «قوله: (ﯨ) فيه وجهان: أحدهما: أن الباء حاليةٌ. وفي صاحب الحال احتمالان، أحدهما: ضمير الجنة وهو عائدٌ الموصول، أي: وعدها، وهي غائبةٌ عنهم لا يشاهدونها. والثاني: أن يكون من (ﯧ)، أي: وهم غائبون عنها لا يرونها، إنما آمنوا بمجرد الإخبار منه. والوجه الثاني: أن الباء سببيةٌ، أي: بسبب تصديق الغيب، وبسبب الإيمان به»32.
وهذا الوجه الثاني ألصق وأوضح في الدلالة علة ما نريد في هذه السطور، فإن إيمانهم بالغيب، وهو أول صفات المؤمنين المتقين المهتدين، هو سبب دخولهم تلك الجنة التي وعدها الله تعالى عباده المؤمنين.
و لابأس بمقتطفات من أقوال المفسرين في تفسير هذه الآية الكريمة. قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: «يقول تعالى: الجنات التي يدخلها التائبون من ذنوبهم، هي (ﯢ ﯣ) أي: إقامة (ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ) بظهر الغيب، أي: هي من الغيب الذي يؤمنون به وما رأوه؛ وذلك لشدة إيقانهم وقوة إيمانهم. وقوله: (ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ) تأكيد لحصول ذلك وثبوته واستقراره؛ فإن الله لا يخلف الميعاد ولا يبدله، كقوله: (ﯱ ﯲ ﯳ) [المزمل: ١٨].
أي: كائنًا لا محالة. وقوله هاهنا: (ﯭ) أي: العباد صائرون إليه، وسيأتونه»33.
ثم يأتي البيان بأن عاقبة الإيمان بالغيب هي دخول الجنة التي يورثها الله عباده الصالحين المتقين. ولا نزال نذكر أن مفتتح سورة البقرة جعلت الكتاب الكريم هدىً للمتقين الذين يأتي في أول صفاتهم صفة الإيمان بالغيب. وهنا يأتي قوله تعالى: (ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ) أي: هذه الجنة التي وصفنا بهذه الصفات العظيمة هي التي نورثها عبادنا المتقين، وهم المطيعون لله عز وجل في السراء والضراء، والكاظمون الغيظ والعافون عن الناس.
وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله: «قوله: (ﯨ) يحتمل أن تكون متعلقة بـ (ﯥ ﯦ) فيكون المعنى على هذا، أن الله وعدهم إياها وعدًا غائبًا، لم يشاهدوه ولم يروه فآمنوا بها، وصدقوا غيبها، وسعوا لها سعيها، مع أنهم لم يروها، فكيف لو رأوها، لكانوا أشد لها طلبًا، وأعظم فيها رغبة، وأكثر لها سعيًا! ويكون في هذا مدح لهم بإيمانهم بالغيب، الذي هو الإيمان النافع.
ويحتمل أن تكون متعلقة بـ(ﯧ)، أي: الذين عبدوه في حال غيبهم وعدم رؤيتهم إياه، فهذه عبادتهم ولم يروه، فلو رأوه لكانوا أشد له عبادة، وأعظم إنابة، وأكثر حبًا، وأجل شوقًا! ويحتمل أيضًا أن المعنى: هذه الجنات التي وعدها الرحمن عباده، من الأمور التي لا تدركها الأوصاف، ولا يعلمها أحد إلا الله، ففيه من التشويق لها، والوصف المجمل ما يهيج النفوس، ويزعج الساكن إلى طلبها، فيكون هذا مثل قوله: (ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ) [السجدة: ١٧].
والمعاني كلها صحيحة ثابتة»34.
ولا يقتصر حسن عاقبة المؤمنين على ما تستقيم به حياتهم الأخروية فحسب، بل إن العاقبة الحسنة تظهر وتبرز هنا في الدنيا قبل الآخرة، فالمؤمنات الصالحات القانتات الحافظات للغيب، تستقيم حياتهن مع أزواجهن في بيوتهن، وهن موضع عناية ووصية يوصي الله تعالى بها الأزواج رعيةً لهن بما حفظن بالغيب.
قال الله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦﭧ) [النساء: ٣٤].
فإنه يعني: حافظات لأنفسهن عند غيبة أزواجهن عنهن، في فروجهن وأموالهم، وللواجب عليهن من حق الله في ذلك وغيره، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خير النساء امرأةٌ إذا نظرت إليها سرتك، وإذا أمرتها أطاعتك، وإذا غبت عنها حفظتك في نفسها ومالك). قال: ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم الآية)35.
قال الإمام أبو جعفر الطبري رحمه الله: «وهذا الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدل على صحة ما قلنا في تأويل ذلك، وأن معناه: صالحاتٌ في أديانهن، مطيعاتٌ لأزواجهن، حافظات لهم في أنفسهن وأموالهم. وفي الكلام متروك استغني بدلالة الظاهر من الكلام عليه من ذكره، ومعناه: (ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ) [النساء: ٣٤].
فأحسنوا إليهن وأصلحوا. قال ابن عباس رضي الله عنهما قوله: (ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ)، يعني: إذا كن هكذا، فأصلحوا إليهن»36.
وقال الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله: «هذا تفصيل لحال النساء في هذه الحياة المنزلية التي تكون المرأة فيها تحت رياسة الرجل، ذكر أنهن فيها قسمان: صالحات وغير صالحات.
وأن من صفة الصالحات القنوت، وهو السكون والطاعة لله تعالى، وكذا لأزواجهن بالمعروف وحفظ الغيب. أي: حافظات لكل ما هو خاص بأمور الزوجية الخاصة بالزوجين، فلا يطلع أحد منهن على شيء مما هو خاص بالزوج.
ويدخل في هذا وجوب كتمان ما يكون بينهن وبين أزواجهن في الخلوة، ولا سيما حديث الرفث، فما بالك بحفظ العرض، و هذه العبارة هي أبلغ ما في القرآن من دقائق كنايات النزاهة، تقرؤها خرائد العذارى جهرًا، ويفهمن ما تومئ إليه مما يكون سرًا، وهن على بعد من خطرات الخجل أن تمس وجدانهن الرقيق بأطراف أناملها، فلقلوبهن الأمان من تلك الخلجات التي تدفع الدم إلى الوجنات.
ناهيك بوصل حفظ الغيب بما حفظ الله، فالانتقال السريع من ذكر ذلك الغيب الخفي إلى ذكر الله الجلي، يصرف النفس عن التمادي في التفكر فيما يكون وراء الأستار من تلك الخفايا والأسرار، وتشغلها بمراقبته عز وجل.
والمعنى: حافظات للغيب بحفظ الله أي: بالحفظ الذي يؤتيهن الله إياه بصلاحهن، فإن الصالحة يكون لها من مراقبة الله تعالى وتقواه ما يجعلها محفوظة من الخيانة، قوية على حفظ الأمانة، أو حافظات له بسبب أمر الله بحفظه، فهن يطعنه ويعصين الهوى، فعسى أن يصل معنى هذه الآية إلى نساء عصرنا اللواتي يتفكهن بإفشاء أسرار الزوجية، ولا يحفظن الغيب فيها».
وقال العلامة المفسر أبو السعود العمادي رحمه الله: «(ﭠ) شروع في تفصيل أحوالهن وبيان كيفية القيام عليهن بحسب اختلاف أحوالهن، أي: فالصالحات منهن (ﭡ) أي: مطيعات لله تعالى قائمات بحقوق الأزواج (ﭢ ﭣ) أي: لمواجب الغيب، أي: لما يجب عليهن حفظه في حال غيبة الأزواج من الفروج والأموال. وقيل: حافظات لأسرارهم.
(ﭤ ﭥ ﭦ) ما مصدرية، أي: بحفظه تعالى إياهن بالأمر بحفظ الغيب والحث عليه بالوعد والوعيد والتوفيق له، أو موصولة أي: بالذي حفظ الله لهن عليهم من المهر والنفقة والقيام بحفظهن والذب عنهن.
وقرىء (ﭤ ﭥﮓ) بالنصب على حذف المضاف أي: بالأمر الذي حفظ حق الله تعالى وطاعته وهو التعفف والشفقة على الرجال»37.
وفي هذا المعنى نفسه تتضافر الآيات الكريمة، في بيان ما ينتظر المؤمنين بالغيب من نعيم دائم لا ينقطع، ومن مزيد لهذا النعيم مما ادخره الله تعالى لهم من رؤية الله تعالى، وهي من أعلى وأعظم أنواع النعيم بعد دخول الجنة، مع ما أكرمهم الله تعالى به من الفوز والمغفرة والأجر الكريم، فقال الله تعالى: (ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗﰘ ﰙ ﰚ ﰛ ﰜ ﰝ ﰞ ﰟ ﰠ ﰡ ﰢ) [ق: ٣٣ -٣٥].
وقال سبحانه: (ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ) [الملك: ١٢].
خامسًا: طريقة القرآن في عرض علم الله الشامل للغيب:
السياق القرآني يعرض المؤثرات العميقة التأثير في القلب البشري، كهذه المؤثرات الغيبية، في رقعة فسيحة هائلة، رقعة فسيحة في الزمان والمكان، وفي الحاضر الواقع، والمستقبل المنظور، والغيب السحيق، وفي خواطر النفس، ووثبات الخيال: ما بين الساعة البعيدة المدى، والغيث البعيد المصدر، وما في الأرحام الخافي عن العيان، والكسب في الغد، وهو قريب من الزمان ومغيب في المجهول، وموضع الموت والدفن، وهو مبعد في الظنون.
إنها رقعة فسيحة الآماد والأرجاء، ولكن اللمسات التصويرية العريضة بعد أن تتناولها من أقطارها، تدق في أطرافها، وتجمع هذه الأطراف كلها عند نقطة الغيب المجهول، وتقف بها جميعا أمام كوة صغيرة مغلقة، لو انفتح منها سم الخياط لاستوى القريب خلفها بالبعيد، و لانكشف منها القاصي والداني، ولكنها تظل مغلقة في وجه الإنسان ووراء علم الإنسان، تبقى خالصة لله لا يعلمها غيره، إلا بإذن منه وإلا بمقدار38.
«وفي مجال الغيب المكنون، كما في كل مجال من مجالات الكون وآفاقه وآماده، يحيط علم الله سبحانه، وهو العليم بكل شيء، بكل ما في الوجود، كبيره وصغيره، ظاهره وخفيه، دقه وجله، في مجال الزمان: ماضيًا وحاضرًا مهما بلغت كثرة وعظمة، ذاك كله يحيط الله سبحانه وتعالى به علمًا: (ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ) [الأنعام: ٥٩].
إنها صورة لعلم الله الشامل المحيط، الذي لا يند عنه شيء في الزمان والمكان، في الأرض ولا في السماء، في البر ولا في البحر، في جوف الأرض ولا في طباق الجو، من حيٍ وميت ويابس ورطب، ولكن أين هذا الذي نقوله نحن -بأسلوبنا البشري المعهود- من ذلك النسق القرآني العجيب؟ وأين هذا التعبير الإحصائي المجرد، من ذلك التصوير العميق الموحي؟
إن الخيال البشري لينطلق وراء النص القصير يرتاد آفاق المعلوم والمجهول، وعالم الغيب وعالم الشهود، وهو يتبع ظلال علم الله في أرجاء الكون الفسيح، ووراء حدود هذا الكون المشهود، وإن الوجدان ليرتعش وهو يستقبل الصور والمشاهد من كل فجٍ ووادٍ، وهو يرتاد -أو يحاول أن يرتاد- أستار الغيوب المختومة في الماضي والحاضر والمستقبل البعيد الآماد والآفاق والأغوار، مفاتحها كلها عند الله، لا يعلمها إلا هو، ويجول في مجاهل البر وفي غيابات البحر، المكشوفة كلها لعلم الله. ويتبع الأوراق الساقطة من أشجار الأرض، لا يحصيها عدٌ، وعين الله على كل ورقة تسقط هنا وهناك. ويلحظ كل حبة مخبوءة في ظلمات الأرض لا تغيب عن عين الله، ويرقب كل رطب ويابس في هذا الكون العريض، لا يند منه شيء عن علم الله المحيط.
إنها جولة تدير الرؤوس، وتذهل العقول. جولة في آماد من الزمان، وآفاق من المكان، وأغوار من المنظور والمحجوب، والمعلوم والمجهول، جولة بعيدة موغلة مترامية الأطراف، يعيا بتصرف آمادها الخيال، وهي ترسم هكذا دقيقةً كاملة شاملة في بضع كلمات، ألا إنه الإعجاز!
وننظر في هذه الآية القصيرة من أي جانب فنرى هذا الإعجاز الناطق بمصدر هذا القرآن.
ننظر إليها من ناحية موضوعها، فنجزم للوهلة الأولى بأن هذا كلام لا يقوله بشر، فليس عليه طابع البشر، إن الفكر البشري -حيث يتحدث عن مثل هذا الموضوع: موضوع شمول العلم وإحاطته- لا يرتاد هذه الآفاق، إن مطارح الفكر البشري وانطلاقاته في هذا المجال لها طابع آخر، ولها حدود، إنه ينتزع تصوراته التي يعبر عنها من اهتماماته، فما اهتمام الفكر البشري بتقصي وإحصاء الورق الساقط في أنحاء الأرض، ومن ثم لا يخطر له أن يتجه هذا الاتجاه ولا أن يعبر هذا التعبير عن العلم الشامل! إنما الورق الساقط شأن يحصيه الخالق، ويعبر عنه الخالق!
وما اهتمام الفكر البشري بكل حبة مخبأة في ظلمات الأرض؟ إن أقصى ما يحفل به بنو البشر هو الحب الذي يخبؤونه هم في جوف الأرض ويرتقبون إنباته، فأما تتبع كل حبة مخبوءة في ظلمات الأرض، فما لا يخطر للبشر على بال أن يهتموا به ولا أن يلحظوا وجوده، ولا أن يعبروا به عن العلم الشامل! إنما الحب المخبوء في ظلمات الأرض شأن يحصيه الخالق، ويعبر عنه الخالق!
وما اهتمام الفكر البشري بهذا الاطلاق: (ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ) إن أقصى ما يتجه إليه تفكير البشر هو الانتفاع بالرطب واليابس ما بين أيديهم، فأما التحدث عنه كدليل للعلم الشامل، فهذا ليس من المعهود في اتجاه البشر وتعبيراتهم كذلك! إنما كل رطب وكل يابس شأنٌ يحصيه الخالق، ويعبر عنه الخالق!
ولا يفكر البشر أن تكون كل ورقة ساقطة وكل حبة مخبوءة، وكل رطب وكل يابس في كتاب مبين، وفي سجل محفوظ، فما شأنهم بهذا، وما فائدته لهم؟ وما احتفالهم بتسجيله؟ إنما الذي يحصيه ويسجله هو صاحب الملك، الذي لا يند عنه شيء في ملكه الصغير كالكبير، والحقير كالجليل، والمخبوء كالظاهر، والمجهول كالمعلوم، والبعيد كالقريب.
إن هذا المشهد الواسع العميق الرائع، مشهد الورق الساقط من شجر الأرض جميعًا، والحب المخبوء في أطوار الأرض جميعًا والرطب واليابس في أرجاء الأرض جميعًا، إن هذا المشهد كما أنه لا يتجه إليه الفكر البشري والاهتمام البشري، وكذلك لا تلحظه العين البشرية ولا تلم به النظرة البشرية، إنه المشهد الذي يتكشف هكذا بجملته لعلم الله وحده المشرف على كل شيء المحيط بكل شيء الحافظ لكل شيء الذي تتعلق مشيئته وقدرته بكل شيء، الصغير كالكبير، والحقير كالجليل والمخبوء كالظاهر والمجهول كالمعلوم، والبعيد كالقريب.
والذين يزاولون الشعور ويزاولون التعبير من بني البشر يدركون جيدًا حدود التصور البشري وحدود التعبير البشري أيضًا، ويعلمون -من تجربتهم البشرية- أن مثل هذا المشهد لا يخطر على القلب البشري، كما أن مثل هذا التعبير لا يتأتى له أيضًا والذين يمارون في هذا عليهم أن يراجعوا قول البشر كله؛ ليروا إن كانوا قد اتجهوا مثل هذا الاتجاه أصلًا!»39.
الغيب نوعان رئيسان:
وكل منهما يندرج تحته مراتب فرعية، من حيث إمكانية الاطلاع عليه ومعرفته، وعدم إمكانية ذلك40.
وفيما يلي إيجاز لهذين النوعين الرئيسين، وما يتفرع عنهما، ثم بيان مفاتح الغيب. وذلك فيما يأتي:
أولًا: الغيب المطلق الحقيقي:
وهو ما يغيب عن الحواس والعقول معًا، ولا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى، فهو محجوب عن الخلق جميعًا، ولا يمكن لمخلوق أن يعلمه.
وهذا هو الغيب الذي تتناوله الآية الكريمة: (ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ)[النمل: ٦٥].
وقال الله تعالى: (ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ) [الأنعام: ٥٩].
ثم إن الغيب من هذا النوع ينطوي على مرتبتين اثنتين:
المرتبة الأولى: ما ورد فيه نصٌ صريح بأن الله تعالى قد كتمه عن الخلق جميعًا، حتى الأنبياء والملائكة، كعلم قيام الساعة، وسائر الأمور الخمسة التي هي مفاتح الغيب.
فهذا النوع لا سبيل إلى علمه بالوحي ولا بغير الوحي، فقد قال الله تعالى: (ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃﰄ ﰅ ﰆ ﰇ) [لقمان: ٣٤].
وهذه الآية الكريمة من سورة لقمان تفسيرٌ لآية سورة الأنعام السابقة: (ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ) [الآية ٥٩].
وقد جاء في الحديث الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مفاتيح الغيب خمسٌ لا يعلمها إلا الله؛ لا يعلم ما في غدٍ إلا الله، ولا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله، ولا يعلم متى يأتي المطر أحدٌ إلا الله، ولا تدري نفسٌ بأي أرضٍ تموت، ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله)41.
وعنه أيضًا رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (مفاتح الغيب خمسٌ، ثم قرأ: (ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ))42.
وعن بريدة رضي الله عنه مرفوعًا: (خمسٌ لا يعلمهن إلا الله: (ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ))43.
ومفاتح الغيب هذه، التي جاءت في سورة لقمان، وفي الأحاديث السالفة، لا مطمع لأحدٍ في علم شيء منها، فمن ادعى علم شيء منها غير مسنده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كان كاذبًا في دعواه44.
وعلى هذه المرتبة من الغيب يحمل نفي العلم الذي جاء في سورة النمل، في قوله سبحانه وتعالى: (ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ) فهو محجوب حتى عن أنبياء الله تعالى ورسله وملائكته المقربين. وسيأتي فيما بعد إن شاء الله تعالى أن هذا العموم قد يدخله التخصيص في بعض الحالات والمراحل.
المرتبة الثانية: ما لم يرد فيه نصٌ صريح في أن الله كتمه عن الخلق جميعًا، فلله سبحانه وتعالى أن يطلع من شاء من رسله على ما شاء منه، ولا يطلع على هذا النوع أحدًا غير الرسل عليهم الصلاة والسلام.
وقد أخرج الإمام أحمد عن ابن عمر مرفوعًا، وعن ابن مسعود موقوفًا رضي الله عنهم قال: (أوتي نبيكم صلى الله عليه وسلم مفاتيح كل شيءٍ غير الخمس)45.
وأخرج الطيالسي في (مسنده) عن إبراهيم بن سعد، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر: (أوتي نبيكم مفاتيح الغيب إلا الخمس)46.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما: (أوتيت مفاتيح كل شيءٍ إلا الخمس: (ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ) الآية)47.
وهذا النوع من الغيب هو الذي يشير إليه قول الله تبارك وتعالى: (ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ) [الجن: ٢٦-٢٧].
وقوله سبحانه وتعالى: (ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥﯦ) [آل عمران: ١٧٩].
والمراد بالاطلاع على الغيب -في الآية الكريمة- علم ما سيقع قبل أن يقع على تفصيله، فلا يدخل في هذا ما يكشف لهم عن الأمور المغيبة عنهم48.
فالمدعى في هذا النوع شيئان:
وعلى هذا الفهم لهذا النوع من الغيب بحصر معرفته بإعلام الله تعالى لمن ارتضى من أنبيائه ورسله ينزل قوله تعالى عن يوسف عليه السلام: (ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ) [يوسف: ٣٧].
وقوله تعالى عن عيسى عليه السلام فيما أعطاه الله من المعجزات: (ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ) [آل عمران: ٤٩].
وكذلك إخباره عليه السلام عن أشياء كثيرة مما أطلعه الله تعالى عليه من فتوحاتٍ إسلامية وقعت كما أخبر بها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، واستشهاد بعض الصحابة، والشهادة لبعضهم وبشارتهم بالجنة، وما يكون من علامات بين يدي الساعة، في أمور كثيرة جدًا واردة في الصحاح وغيرها49.
ثانيًا: الغيب النسبي أو الإضافي:
وهو ما غاب علمه عن بعض المخلوقين دون بعض، أو غاب عنهم في حال دون حال، بحيث يمكن التعريف به في الدنيا، إما مطلقًا، أو بشروط واستعدادات لذلك. وهو ينطوي على أربع مراتب.
المرتبة الأولى: أن يغيب الشيء عن حواسك، ولكن يتناوله غيرك بالمشاهدة، كالعلم بالأقطار النائية، والطبقات الأرضية، والأجهزة الداخلية للإنسان والحيوان.
فهذا غيب بالنسبة لبعض الخلق دون بعض، وقد يعلمه الغائب عنه بسماع أخباره المتواترة عمن شاهده وعلمه، فيمكن معرفة هذا النوع مطلقًا، وعندئذ لا يكون غيبًا، أي: بعد هذه المعرفة50.
المرتبة الثانية: أن يغيب الشيء عن الحواس، ولا يمكن التعريف به في الدنيا بحال من الأحوال؛ إذ تختلف طبيعته عما عرفناه نحن في حياتنا الدنيا، كالحياة البرزخية وما فيها.
فهذا غيبٌ عنا، ولا نستطيع أن نتعرف عليه حاليًا، بل نعقل وجوده بالخبر الصادق، ولم نمر بتجربة أو حال تعرفنا على هذا النوع من عالم الغيب، فهذا يعرفه من يعيش في العالم البرزخي، وكذلك كل ما يعلمه الملائكة عليهم الصلاة والسلام من أمر عالمهم، لا يعلمه البشر مثلًا.
المرتبة الثالثة: أن يغيب الشيء عن حواسنا، ولا يمكننا التعرف عليه في الدنيا إلا على وجه مجمل، فقد أخبر الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم: أن في الجنة لحمًا ولبنًا وعسلًا وخمرًا، ونحو ذلك. وهذا يشبه ما في الدنيا لفظًا ومعنى، ولكنه ليس مثله ولا هو حقيقته. والإخبار عن الغائب لا يفهم إن لم يعبر عنه بالأسماء المعلومة معانيها في عالم الشهادة، و هذه يعلم بها ما في الغائب بواسطة العلم بما في الشاهد، مع العلم بالفارق المميز بينهما، وأن ما أخبر الله به من الغيب أعظم مما يعلم في عالمنا المشاهد. وفي الغائب ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر51.
وفي الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (يقول الله: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشرٍ، فاقرءوا إن شئتم: (ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ))52.
فما لا يخطر بالقلوب، إذا عرفت به لم تعرفه إلا إذا كان له نظير، وإلا لم يمكن التعريف به على وجهه53.
المرتبة الرابعة: أن يغيب الشيء عن حس الناس جميعًا، ولكنه يكون في متناول عقولهم، يعرفونه بشروط واستعدادٍ لذلك؛ فإن لبعض الغيوب أسبابًا قد يستدل بها عليها.
ومن هذه الشروط والأسباب:
كعلم ما سيقع في العام أو الأعوام المقبلة من الكسوف والخسوف، والشروق والغروب، ومنازل الشمس والقمر، ونحو ذلك، استنباطًا من التجارب الكونية، التي أجرى الله تعالى بها سنته في سير الكواكب، وقال في شأنها: (ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ) [الأنعام: ٩٦].
وقال: (ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ) [الإسراء: ١٢].
كما نعلم حياة الجنين بتجربته، وكما نستدل على عقل الرجل بمنطقه، أو بالخلق على خالقه.
فهذا كله من الغيب الذي يتناوله العلم، بل يتناوله الإيمان الذي هو أخص من العلم؛ فإنه علمٌ يطمئن إليه القلب ويرتاح له الوجدان54.
مفاتح الغيب:
إن مفاتح الغيب التي سبقت الإشارة إليها، هي الطرق والوسائل التي يتوصل بها للغيب أو على خزائن الغيب؛ لأن علمها كلها خاصٌ به تعالى، وأما الأمور التي لها أمارات، مثل: أمارات الأنواء، وعلامات الأمراض عند الطبيب، فتلك ليست من الغيب، بل من أمور الشهادة الغامضة، وغموضها متفاوت، والناس في التوصل إليها متفاوتون، ومعرفتهم بها من قبيل الظن لا من قبيل اليقين، فلا تسمى علمًا.
وقيل: المفاتح جمع مفتح -بفتح الميم- وهو البيت أو المخزن الذي من شأنه أن يغلق على ما فيه ثم يفتح عند الحاجة إلى ما فيه. ونقل هذا عن السدي، فيكون استعارة مصرحة، والمشبه هو العلم بالغيب، شبه في إحاطته وحجبه المغيبات ببيت الخزن تشبيه معقولٍ بمحسوس55.
وقد جاء النص صريحًا أن هذه المفاتح لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى، يقف الإنسان -مهما أوتي من العلم- عاجزًا عن إدراك شيء منها، بل إن أحدًا من الأنبياء والمرسلين والملائكة المقربين عليهم الصلاة والسلام لا يعرف عنها شيئًا56.
فقد روى الإمام أحمد رحمه الله عن رجل من بني عامر أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (فهل بقي من العلم شيء لا تعلمه؟ قال: (قد علمني الله عز وجل خيرًا، وإن من العلم ما لا يعلمه إلا الله عز وجل: الخمس (ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ) الآية)57.
وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد: (جاء رجل من أهل البادية إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن امرأتي حبلى، فأخبرني متى تلد؟ وبلادنا مجدبةٌ فأخبرني متى ينزل الغيث؟ وقد علمت متى ولدت فأخبرني متى أموت؟ فأنزل الله عز وجل: (ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ))58.
وفيما يلي إلماعة موجزة إلى كل هذه المفاتح، وبالله التوفيق.
كانت قضية البعث وقيام الساعة وما فيها أمرًا من أشد الأمور غرابة على حس المشركين الذين واجههم النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن ابتعدوا عن دين إبراهيم الخليل عليه السلام دين التوحيد، وكانوا يستبعدون وقوعها، ويعجبون لذلك أشد العجب، ويستنكرون ذلك أشد الاستنكار، وقد حكى الله سبحانه وتعالى عنهم ذلك فقال: (ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ) [سبأ: ٧-٨].
ولقد أنفق الرسول صلى الله عليه وسلم جهدًا كبيرًا في تقرير حقيقة البعث والقيامة في نفوس الناس؛ إذ لا تستقيم حياة أمة من الأمم ما لم يستقم أمر الآخرة، عقيدةً راسخةً في ضميرها.
وفي هذا يقول الأستاذ سيد قطب رحمه الله: «إن العقيدة في الآخرة فسحة التصور، وسعة النفس، وامتداد في الحياة ضروريٌ في تكوين النفس البشرية ذاتها لتصلح أن تناط بها وظيفة القيادة للبشرية والشهادة عليها.
كذلك هي ضرورية لضبط النفس عن شهواتها الصغيرة ومطامعها المحدودة، ولفسحة مجال الحركة حتى لا تيئسها النتائج القريبة، ولا تقعدها التضحيات الأليمة عن المضي في التبشير بالخير وفعل الخير، والقيادة إلى الخير على الرغم من النتائج القريبة والتضحيات الأليمة، وهي صفات ومشاعر ضرورية كذلك للنهوض بتلك الوظيفة الكبيرة.
والاعتقاد في الآخرة مفرق الطريق بين فسحة الرؤية والتصور في نفس الإنسان، وضيق الرؤية واحتباسها في حدود الحس في إدراك الحيوان، وما يصلح إدراك الحيوان في قيادة البشرية والقيام بأمانة الله في الخلافة الراشدة»59.
والساعة غيبٌ اختص الله تعالى به واستأثر بعلمه، فلم يطلع عليه أحدًا من خلقه جميعًا، بما فيهم الأنبياء المرسلون والملائكة المقربون، رغم ما كان من إكثار المشركين من السؤال عنها، استبعادًا لوقوعها وتعنتًا منهم وجحودًا، فقال سبحانه وتعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ) [الأحزاب: ٦٣].
وقال: (ﭒ ﭓ ﭔ ﭕﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ) [فصلت: ٤٧].
وقال: (ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ) [طه: ١٥].
وقال: (ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ) [النازعات: ٤٢-٤٥].
وعندما سأل جبريل عليه السلام النبي صلى الله عليه وسلم متى الساعة؟ قال: (ما الـمسئول عنها بأعلم من السائل، وسأخبرك عن أشراطها، إذا ولدت الأمة ربها، وإذا تطاول رعاة الإبل البهم، في البنيان في خمسٍ لا يعلمهن إلا الله. ثم تلا النبي عليه السلام: (ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ))60.
وإذا استأثر الله سبحانه وتعالى بعلمٍ الساعة، فلا فائدة تتحقق من وراء البحث عن زمن وقوعها؛ لأن هذا خارج عن طوق العلم البشري، فحريٌ بالعاقل أن يكون على استعداد لها وتهيؤ، فما كان إخفاؤها إلا لحكمة كبرى، فلا يتشاغل الناس عنها إذا كانت بعيدة عنهم، ولا ينصرفون عن العمل للحياة الدنيا إذا كانت قريبة لهم. ولذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول لمن يسأله عن الساعة: (ويحك! إن الساعة آتيةٌ، فما أعددت لها؟)61.
ولئن حجب الله تعالى علم الساعة عن الخلق، فإن حكمته جل شأنه اقتضت أن يكون بين يدي الساعة أمارات وأشراط، تأتي مقدمة لها بين يديها؛ إيقاظًا للغافلين وحثًا لهم على التوبة والاستعداد، فقد قال الله سبحانه وتعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ) [الحج: ١-٢].
وقال سبحانه وتعالى: (ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾﯿ ﰀ ﰁ ﰂﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ) [محمد: ١٨].
وقال سبحانه وتعالى: (ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ) [النازعات: ٤٢-٤٣].
فبعثة الرسول محمدٍ صلى الله عليه وسلم من علامات الساعة و أشراطها؛ لأنه خاتم الرسل الذي أكمل الله تعالى به الدين وأقام به الحجة على العالمين، وقد أخبر عن علامات الساعة وأشراطها، وأبان عن ذلك وأوضحه، بما لم يؤته نبيٌ قبله؛ ولهذا جاء في أسمائه عليه السلام: نبي التوبة ونبي الملحمة، والحاشر الذي يحشر الناس على قدميه، و العاقب الذي ليس بعده نبيٌ.
وهذه العلامات إما أن تكون علاماتٍ على قرب الساعة ووقوعها، وإما على حصولها.
فمن النوع الأول: الدجال، ونزول عيسى عليه السلام، ويأجوج ومأجوج، والخسف
ومن الثاني: الدخان، وطلوع الشمس من مغربها، وخروج الدابة، والنار التي تحشر الناس62.
وهذه العلامات والعلم بها لا ينافي ما سبق من اختصاص الله سبحانه وتعالى بعلم الساعة؛ لأن علم قربها لا يستلزم علم وقت مجيئها معينًا.
وكذلك فإن معرفة هذه العلامات لا تعطي الإنسان علمًا بوقت وقوعها متى يكون؟ فهي تأتي بغتة تفجأ الناس وتبغتهم، وهم عنها غافلون.
قال الله تعالى: (ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ) [الأنعام: ٣١].
وقال سبحانه وتعالى: (ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ) [يوسف: ١٠٧].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ولتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما فلا يتبايعانه ولا يطويانه، ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته فلا يطعمه، ولتقومن الساعة وهو يليط حوضه فلا يسقي فيه، ولتقومن الساعة وقد رفع أكلته إلى فيه فلا يطعمها)63.
وروى سهل وأنس وأبو هريرة رضي الله عنهم أن الرسول عليه السلام قال: (بعثت أنا والساعة كهاتين) يشير بإصبعيه)64.
وعن المستورد بن شداد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بعثت في نفس الساعة فسبقتها، كما سبقت هذه لهذه) لأصبعيه السبابة والوسطى)65.
وعن خالد بن عمير العدوي قال: خطبنا عتبة بن غزوان، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «أما بعد فإن الدنيا قد آذنت بصرمٍ وولت حذاء، ولم يبق منها إلا صبابةٌ كصبابة الإناء يتصابها صاحبها، وإنكم منتقلون منها إلى دارٍ لا زوال لها، فانتقلوا بخير ما بحضرتكم»66.
والمفتاح الثاني من مفاتح الغيب بعد علم الساعة هو إنزال الغيث، وهو آية الله في خلقه على إمكانية قيام الساعة حيث يحيي به الأرض بعد موتها.
والله سبحانه وتعالى وحده الذي ينزل الغيث ويختص بالقدرة على إنزاله، ويختص بعلمه علمًا كاملًا شاملًا. فهو ينزله في إبانه من غير تقديم و لا تأخير في بلد لا يتجاوزه به، وبالقدر الذي يريده وتقتضيه حكمته، فهو اختصاص قدرة واختصاص علم.
قال الله تعالى: (ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ) [الواقعة: ٦٨-٦٩].
وقال سبحانه: (ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ) [النحل: ١٠].
وقد تجري بعض المحأولًات البشرية، فيما أسموه (المطر الصناعي)، والمقصود منه حتى الآن هو: عصر السحب الممطرة أو القابلة للإمطار، وذلك بتوليد حالات من فوق التشبع داخلها بطرق صناعية، كقذف بلورات من الثلج الجاف مباشرة بواسطة الطائرات أعلى السحب الركامية، لا تلبث أن تسقط إلى المناطق الوسطى من تلك السحب لتبدأ قصة سقوط المطر الصناعي. أو بقذف مسحوق بدلًا من بلورات الثلج، أو حرقه بحيث يكون سحبًا كثيفة، أو برش نقاط من الماء أسفل السحب وأعلاها. ولكلٍ من هذه الطرق ظروفها الخاصة67.
وهذا لا يعني أن البشر يستطيعون إنزال الغيث، أو أن ذلك بمقدورهم، فالله تعالى وحده هو الذي خلق الأسباب الكونية لإنزال المطر، وجعل تلك الخصائص للسحب وتركيبها بعامة، والسحب الركامية خاصة، التي خصها الله تعالى بنزول البرد ونشوء الرعد والبرق، وكذلك توفير الظروف المناخية لنزول الغيث، والهواء الصاعد المحمل ببخار الماء، كل هذا خلقه الله تعالى وليس بإمكان البشر ذلك.
فكان إنزال الغيث مختصًا بالله تعالى وحده. وليس هنالك عاقل يزعم أن ذلك بمقدوره، وحتى الكفار قديمًا حكى الله تعالى إقرارهم بذلك فقال: (ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻﯼ ﯽ ﯾ ﯿﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ) [العنكبوت: ٦٣].
ولئن حاول بعض الناس التعرف بالتجارب والمقاييس والعادات قرب نزول المطر، ظنًا لا علمًا يقينيًا، إنهم لا يقدرون على علم ذلك يقينًا؛ إذ إن التنبؤات الجوية كثيرًا ما تخيب، والتجارب كثيرًا ما تختلف، والعادة قد تخرق، والظنون تخطئ.
فلا يستطيع البشر أن يجزموا بشيء في موعد نزول المطر وكميته أو عمومه على الأرض، أو خصوصه لبقعة معينة، أو غير ذلك من الصفات في إنزال المطر. ويبقى العلم اليقيني لله وحده. وشتان بين علم الله المحيط الشامل اليقيني وأوهام البشر وظنونهم!
ولكن إن حجب الله تعالى هذا العلم عن الخلق قبل إعلام الملائكة الموكلة بالمطر، فإنه إذا أمر به علمته الملائكة الموكلون بذلك ومن يشاء الله تعالى من خلقه، فلا يكون عندئذ بعد هذا الإعلام غيبًا بالنسبة لمن أعلمه الله تعالى به.
ويلاحظ أن الآية الكريمة عن مفاتح الغيب قال الله تعالى فيها: (ﯰ ﯱ) فصيغة الآية لا تنفي أن أحدًا غير الله تعالى يعلم إنزاله، بخلاف أول الآية في قوله سبحانه: (ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ) الذي يفيد الاختصاص. ولكن جاء الحديث الصحيح وفسر ذلك، حيث أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه الخمس في سورة لقمان بأنها هي مفاتح الغيب التي لا يعلمها إلا هو. والله سبحانه وتعالى أعلم.
ومن هنا جاء التشديد عن النبي صلى الله عليه وسلم على من يزعم معرفة شيء من ذلك لمعرفته بالأنواء، فينسبه إلى منازل القمر مثلًا، ففي حديث زيد بن خالد أنه قال: (صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية على إثر سماءٍ كانت من الليلة، فلما انصرف النبي صلى الله عليه وسلم أقبل على الناس فقال: (هل تدرون ماذا قال ربكم؟). قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: (قال أصبح من عبادي مؤمنٌ بي وكافرٌ، فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمنٌ بي وكافرٌ بالكوكب، وأما من قال مطرنا بنوء كذا وكذا. فذلك كافرٌ بي مؤمنٌ بالكوكب)68.
والخلاصة: أن علم البشر متى يكون نزول المطر هو أمرٌ مستحيل. ولا يرد على ذلك أن بعض الناس يدرك نزول المطر متى انعقدت أسبابه، بحيث يغلب على الظن ذلك، إذا نشأ السحاب الممطر عادة، وهبت الرياح التي يصاحب هبوبها نزول المطر، وتهيأ الجو المشبع بالرطوبة، والذي تعتمد عليه -وعلى غيره من الأسباب الأخرى- الأرصاد الجوية في حدسها وظنونها، وما لم تنعقد هذه الأسباب فلا أحد يعلم متى ينزل المطر.
والمفتاح الثالث من مفاتح الغيب هو علم الأجنة. فالله سبحانه وتعالى وحده هو الذي يعلم علمًا يقينيًا محيطًا شاملًا بما في الأرحام، في كل لحظة وفي كل طور، فيعلم قبل تلقيح البويضة بالحيوان المنوي، يعلم نوع الجنين الذي يقدر الله تعالى خلقه: هل هو ذكر أو أنثى؟ وهل هو تام الخلقة أم ناقص الخلقة؟ وهل هو سليم من التشوهات أو غير سليم؟ هل هو واحد أو أكثر؟ وما هي طبائع هذا الجنين بعد الولادة؟ إلى ما هنالك من اختلاف في المقادير والصفات والطبائع والأخلاق والشمائل والكسب والصنائع، والتقلبات في مقدار العمر والرزق والأوقات والأماكن، وغير ذلك من الأحوال التي لا يحصيها إلا بارئ النسم ومحيي الرمم سبحانه.
ولما كانت للخلق في ذلك -لكثرة الملابسات والمعالجات- ظنون في وجود الحمل أولًا، ثم في كونه ذكرًا أو أنثى ثانيًا، ونحو ذلك بسبب ما أقام الله تعالى من الأمارات الناشئة عن طول التجارب وكثرة الممارسة عبر بالعلم فقال: (ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ) أي: من ذكر أو أنثى، حيٍ أو ميت وغير ذلك، وبصيغة المضارع التي تدل على التجدد وحدوث الفعل شيئًا فشيئًا، ووقتًا بعد وقت69.
(ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ)، هذا هو المفتاح الرابع، الكسب فيما يستقبل من الزمن، من خير، أو شرٍ، من شقاء أو سعادة، ومن كسبٍ ماديٍ أو معنويٍ، ومن صداقة أو عداوة، ومن صحة أو مرض، ومن أحوال الناس وتقلباتهم في معاملته لهم ومعاملتهم له، وغير ذلك من الأحوال والكسب بعامة، لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى.
وقد جعل الله كل ذلك غيبًا مغلقًا أمام الإنسان، يتطلع المرء لمعرفة شيء منه، ولكنه لن يستطيع أن يعود من ذلك بشيء - إلا أن يكون ذلك الشيء جملة من الأوهام والظنون، مهما حاول بكل وسيلة، ومهما أوسع الحيلة ليتعرف على ما يتشوق إليه من ذلك الغيب المجهول الذي يحيط به.
يقول الإمام البقاعي رحمه الله: «ولكون الإنسان -مع أنه ألصق الأشياء وألزمه له- لا يعلمه مع إيساعه الحيلة في معرفته، عبر فيه بالدراية؛ لأنها تدل على الحيلة بتصريف الفكر وإجالة الرأي -كما تقدم في سورة يوسف عليه السلام أن مادة (درى) تدور على الدوران، ومن لوازمه إعمال الحيلة وإمعان النظر، فهي أخص من مطلق العلم فقال: (ﯷ ﯸ ﯹ) أي: من الأنفس البشرية وغيرها (ما) وأكد المعنى بـ (ذا) وتجريد الفعل فقال: (ﯺ ﯻ ﯼ) أي: في المستقبل من خير أو شرٍ بوجه من الوجوه، وفي نفي علم ذلك من العبد -مع كونه ألصق الأشياء به- دليلٌ ظاهر على نفي علم ما قبله عنه؛ لأنه أخفى منه، وقد تقدم إثبات علمه له سبحانه وتعالى، فصار على طريق الحصر، وعلم أيضًا أنه لا يسند إلى العبد إلا على طريق الكسب؛ لأنه لو كان مخلوقًا له لعلمه قطعًا، فثبت أنه سبحانه وتعالى خالقه، فعلم اختصاصه بعلمه من هذا الوجه أيضًا»70.
وهذا هو المفتاح الخامس من مفاتح الغيب: مكان الموت و نهاية المرحلة في هذه الحياة الدنيا، وهي المصير المحتوم لكل مخلوق، ومع ذلك لا يستطيع الإنسان ولا تستطيع أي نفس كانت أن تدري مكان موتها، هل هو في الأرض التي ولدت فيها أم في غيرها؟ في هذا البلد أو ذاك من بلاد الله الواسعة المترامية الأطراف، وفي أي بقعة أو مكان من هذا البلد أو ذاك؟ و هل يكون ذلك في بر أو بحر أو سهل أو جبل.، إلى غير ذلك مما يقف الإنسان أمامه عاجزًا، إذ لا يعلم ذلك كله إلا الخالق سبحانه الذي أحاط بكل شيء علمًا.
وقد جاء في الحديث: (إذا أراد الله قبض روح عبدٍ في أرضٍ جعل له فيها -أو قال بها- حاجةً)71.
ولما كان علم مكان الموت، لا يعلمه أحد من الناس بنوع حيلة، مع شدة حذره منه وحبه -لو أنفق جميع ما يملكه لكي يعلمه- عبر عنه بما عبر عن الذي قبله، فقال مؤكدًا بإعادة النافي والمسند: (ﯷ ﯸ) وأظهر؛ لأنه أظهر وأليق بالتعميم فقال: (ﰀ) أي: من البشر وغيره (ﰁ ﰂ ﰃﰄ ﰅ ﰆ ﰇ)، ولم يقل: بأي وقت؛ لعدم القدرة على الانفكاك عن الوقت، مع القدرة على الانفكاك عن مكان معين، وإحاطة العلم بكراهة كل أحد للموت، فكان ذلك أدل دليل على جهله بموضع موته؛ إذ لو علم به لبعد عنه ولم يقرب منه72.
الحكمة في أن للغيب مفاتح:
وقد تلمس بعض العلماء الحكمة فيما جاء في الآية الكريمة وفي الحديث الشريف من التعبير عن هذه الغيوب وأصولها بـ (المفاتح)، فذكر الشيخ ابن أبي جمرة الأندلسي73 أن الحكمة في أن للغيب مفاتح تظهر في أمور، منها:
حكمة حصر الغيب بهذه المفاتح:
وأمور الغيب ليست محصورة في هذه الخمس التي جاءت في سورة لقمان وفي حديث مفاتيح الغيب -الذي سبق- فهي لا يحصيها إلا الله سبحانه وتعالى الذي يعلمها كلها، بكلياتها وجزئياتها، وظواهرها وبواطنها. فهي (ﯭ ﯮ)، لا على معنى أن الغيب محصور فيهن -كما زعمه بعضهم- فقد صرح القرآن الكريم بغيرهن في مواطن كثيرة؛ من ذلك: معرفة حقيقة الروح، و تفصيل بدء الخلق، و تفاصيل النشأة الآخرة، و جنود الله، إلى غير ذلك. وإنما اقتصر في الحديث على الأمور المجموعة في آية لقمان المذكورة؛ لأن النفوس كلها تتشوق لمعرفتها، ولأنها وردت مجموعة في سؤال الناس للنبي صلى الله عليه وسلم على ما روي في سبب النزول، وقد تقرر أن العدد لا مفهوم مخالفة له، بل يثبت مضمونه ولا ينفي ما زاد عنه75.
ولتقريب هذا إلى الأذهان جاء التعبير بـ(ﯭ ﯮ)؛ إذ أن أقرب الأشياء إلى الاطلاع على ما غاب عن الإنسان هو الأبواب، والمفاتح أيسر الأشياء لفتح الباب، فإذا كان أيسر الأشياء لا يعرف مكانها فما فوقها أحرى أن لا يعرف ولا يعلم علمًا حقيقيًا. وإن كان لبعض الغيوب أسبابًا قد يستدل بها عليها، لكن ليس ذلك حقيقيًا، ولما كان جميع ما في الوجود محصورًا في علمه شبهه بالمخازن، واستعار المفتاح لأبواب تلك المخازن.
وتلمس العلامة ابن أبي جمرة الأندلسي رحمه الله الحكمة في حصر أمور الغيب في هذه الخمسة، فوجدها في الإشارة إلى حصر العوالم في هذه الخمس من المفاتح:
فالمفتاح الأول: (ﯮ ﯯ) فيه إشارة إلى علوم الآخرة كلها، ويوم القيامة أولها، وهو مفتاح علومها. وإذا انتفى علم الأقرب انتفى ما بعده من باب أولى.
والمفتاح الثاني: (إنزال الغيث) إشارة إلى علوم العالم العلوي، وخص منه المطر مع أن له أسبابًا قد تدل بمجرى العادة وسنة الله الكونية على وقوعه وإنزاله، لكنه من غير تحقيق وعلم يقيني.
والمفتاح الثالث: (علم ما في الأرحام) إشارة إلى ما يزيد في النفس وينقص، وخص الرحم بالذكر لكون الأكثر يعرفونها بالعادة، ومع ذلك نفى أن يعرف أحد حقيقتها، فغيرها منفيٌ بطريق أولى.
والمفتاح الرابع: (علم ما في غد) إشارة إلى أنواع الزمان وما فيها من الحوادث والكسب، وعبر بلفظ: (غد) لتكون حقيقته أقرب الأزمنة، وإذا كان -مع قربه- لا يعلم حقيقته وحقيقة ما يقع فيه -مع إمكان الأمارة والعلامة الدالة عليه-، فما بعده أولى أنه لا يعرف.
والمفتاح الخامس: (علم مكان الموت) إشارة إلى أمور العالم السفلي، مع أن عادة أكثر الناس أن يموت ببلده، ولكن ليس ذلك حقيقة، بل لو مات في بلده، لا يعلم في أي بقعة يدفن فيها، ولو كان هناك مقبرة لأسلافه الماضين، بل ولو كان له قبر أعده لنفسه76.
وقال السيد محمد رشيد رضا: «العوالم ثلاثة:
الأول: القريب الداني الذي نقيم فيه قبل الموت.
الثاني: الذي نقيم فيه بعد الموت أبدًا إلى غير نهاية.
الثالث: الوسط بينهما، وهو ما نقيم فيه بين العالمين حتى يتم جمعنا بانتهاء الدنيا، ونفد على الله جميعًا.
فالثاني والثالث: من الغيب الذي ليس مشهودًا لنا، ولا يحصل فيه زيادة يبرزها الله تعالى من العدم، كالأحجار والمعادن ونحوها من الموجودات، التي وجدت في الكون تدريجيًا، أو دفعة واحدة، ومنه ما هو غيب، وهو ما يتجدد بصورة مخصوصة لم تكن مشهودة، وهو النبات ومفتحة الغيث، والحيوان ومفتحة الأرحام غالبًا، أو عبر بها عنه، وكسب الحيوان وعمله وهو مفتح وخزانة من خزائن الغيب»77.
استأثر الله سبحانه وتعالى بعلم الغيب، واختص به نفسه، فليس لأحد من الخلق أن يزعم أنه قادر على معرفة ما استأثر الله تعالى به، فقد قال الله عز وجل: (ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ) [الأنعام: ٥٩].
وقال سبحانه وتعالى: (ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰﭱ) [النمل: ٦٥].
ومفاتح الغيب هذه هي التي أشار الله تعالى إليها وفصـلها في سورة لقمان: (ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ) [لقمان: ٣٤].
ولم يطلع الله تعالى أحدًا على الغيب إلا من اختاره من رسله لإطلاعه على بعض أنواع الغيوب، مما شاءت حكمة الله تعالى أن يعلمه لهم في مرحلة من مراحل الغيب -على ما سبق بيانه في أنواع الغيب- فقال سبحانه وتعالى: (ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥﯦ) [آل عمران: ١٧٩].
وقال أيضًا: (ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ) [الجن: ٢٧].
وما استأثر الله تعالى بعلمه، فلا يعلمه أحد من الخلق حتى الرسل عليهم الصلاة والسلام؛ ولذلك قالت عائشة رضي الله عنها: من زعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبر بما يكون في غدٍ فقد أعظم على الله الفـرية؛ والله تعالى يقول: (ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰﭱ)78.
ولذلك ينبغي أن نتعرف على حكم من يدعي شيئـًا من علم الغيب الذي استأثر الله تعالى به، أو لم يستأثر به، ولكن لم يهيئ للخلق أسباب المعرفة له. ويدخل في ذلك حكم التنجيم والكهانة والعرافة.
أولًا: حكم ادعاء علم الغيب والاستسقاء بالنجوم والكواكب:
وفيما يلي إشارة إلى حكم ذلك كله، كما ذكره علماء الإسلام في كتب التفسير، وكتب التوحيد، وكتب الفقه، ونجتزئ ببعض النصوص الدالة على ذلك من المذاهب الفقهية المختلفة. وبالله التوفيق:
يقول ابن أبي العز الحنفي: «ومن ادعى علم الغيب كان من الكافرين. قال الله تعالى: (ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ) [الجن: ٢٧].
وقال سبحانه وتعالى: (ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ) [لقمان: ٣٤].
ولا يلزم من خفاء حكمة الله علينا عدمها، ولا من جهلنا انتفاء حكمته. ألا ترى أن خفاء حكمة الله علينا في خلق الحيات والعقارب والفأر والحشرات، التي لا يعلم منها إلا المضرة -لم ينف أن يكون الله تعالى خالقًا لها-، ولا يلزم أن لا يكون فيها حكمة خفيت علينا؛ لأن عدم العلم لا يكون علمًا بالمعدوم»79.
ويقول ابن عابدين الحنفي: «إن دعوى علم الغيب معارضةٌ لنص القرآن الكريم، فيكفر بها، إلا إذا أسند ذلك صراحةً أو دلالةً إلى سببٍ من الله تعالى، كوحيٍ أو إلهامٍ، وكذا لو أسنده إلى أمارة عادية بجعل الله تعالى. وقال أيضًا: وأما ما وقع لبعض الخواص كالأنبياء والأولياء بالوحي والإلهام فهو بإعلام من الله تعالى، فليس مما نحن فيه»80.
و يقول القرطبي المالكي: «قال علماؤنا: أضاف سبحانه علم الغيب إلى نفسه في غير ما آيةٍ من كتابه إلا من اصطفى من عباده، فمن قال: إنه ينزل الغيث غدًا وجزم فهو كافر، أخبر عنه بأمارة ادعاها أم لا. وكذلك من قال: إنه يعلم ما في الرحم فهو كافر، فإن لم يجزم وقال: إن النوء ينزل الله به الماء عادة، وأنه سبب الماء عادة، وأنه سبب الماء على ما قدره وسبق في علمه لم يكفر، إلا أنه يستحب له ألا يتكلم به، فإن فيه تشبيهًا بكلمة أهل الكفر، وجهلًا بلطيف حكمته؛ لأنه ينزل متى شاء، مرةً بنوء كذا، ومرةً دون النوء. قال الله تعالى في الحديث القدسي: (أصبح من عبادي مؤمنٌ بي وكافرٌ)»81.
وقال أيضًا: «فلا مطمع لأحدٍ في علم شيء من الأمور الخمس، ولا طريق لعلم شيء من ذلك إلا أن يعلم الله تعالى بذلك -أو بشيء منه- أحدًا ممن شاءه، فمن ادعى علم شيء من هذه الأمور، كان في دعواه كاذبًا، إلا أن يسند ذلك إلى رسولٍ بطريقةٍ تفيد العلم القطعي، ووجود ذلك متعذر بل ممتنعٌ. وأما ظن الغيب: فلم يتعرض شيء من الشرع لنفيه ولا إثباته؛ فقد يجوز أن يظن المنجم -أو صاحب خط الرمل، أو نحو هذا- شيئًا مما يقع في المستقبل، فيقع على ما ظنه، فيكون ذلك ظنًا صادقًا، إذا كان عن موجبٍ عاديٍ يقتضي ذلك الظن، وليس بعلم، فتفهم هذا؛ فإنه موضعٌ غلط بسببه رجال، وأكلت به أموال»82.
وقال أبو بكرٍ ابن العربي المالكي: «مقامات الغيب الخمسة التي لا يعلمها إلا الله لا أمارة عليها، ولا علامة عليها، إلا ما أخبر به الصادق المجتبى لاطلاع الغيب من أمارات الساعة، والأربعة سواها لا أمارة عليها، فكل من قال: إنه ينزل الغيث غدًا فهو كافرٌ، أخبر عنه بأماراتٍ ادعاها، أو بقولٍ مطلق.
ومن قال: إنه يعلم ما في الرحم فهو كافر، فأما الأمارة على هذا فتختلف، فمنها كفرٌ، ومنها تجربةٌ. والتجربة منها أن يقول الطبيب: إذا كان الثدي الأيمن مسود الحلمة فهو ذكر، وإن كان ذلك في الثدي الأيسر فهو أنثى، وإن كانت المرأة تجد الجنب الأيمن أثقل فهو ذكرٌ، وإن وجدت الجنب الأشأم (الأيسر) أثقل فالولد أنثى، وادعى ذلك عادة لا واجبًا في الخلقة لم نكفره، ولم نفسقه.
فأما من ادعى علم الكسب في مستقبل العمر فهو كافر، أو أخبر عن الكوائن الجملية أو المفصلة فيما يكون قبل أن يكون، فلا ريبة في كفره أيضًا.
فأما من أخبر عن كسوف الشمس والقمر، فقد قال علماؤنا: يؤدب ويسجن ولا يكفر. أما عدم تكفيره: فلأن جماعة قالوا: إنه أمر يدرك بالحساب، وتقدير المنازل، حسبما أخبر الله سبحانه في قوله جل وعلا: (ﯬ ﯭ ﯮ) [يس:٣٩].
فلحسابهم له، وإخبارهم عنه، وصدقهم فيه، توقفت علماؤنا عن الحكم بتكفيرهم.
وأما أدبهم فلأنهم يدخلون الشك على العامة في تعليق العلم بالغيب المستأنف، ولا يدرون قدر الفرق بين هذا وغيره، فتشوش عقائدهم في الدين، وتتزلزل قواعدهم في اليقين فأدبوا حتى يسروا ذلك إذا عرفوه ولا يعلنوا به»83.
وقال الوزير عون الدين بن هبيرة: «ما يدعيه المنجمون من أنهم يعرفون الكسوف قبل كونه من طريق، فلا يختص بهم دون غيرهم ممن يعرف الحساب، بل هو مما إذا حسبه الحاسب عرفه، وليس مما يدل على أنهم يتخصصون فيه، مما يجعلونه حجة في دعواهم علم الغيب مما تفرد الله سبحانه بعلمه، فإنه لا دلالة لهم على ذلك، ولا فيما تعلقوا به من هذا الاحتجاج على ما أرهجوا به»84.
وقال الشيخ سليمان بن عبد الله آل الشيخ: «الاستسقاء بالنجوم نوعان:
أحدهما: أن يعتقد أن المنزل للمطر هو النجم، فهذا كفرٌ ظاهر؛ إذ لا خالق إلا الله، وما كان المشركون هكذا، بل كانوا يعلمون أن الله هو المنزل للمطر، كما قال تعالى: (ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻﯼ) [العنكبوت: ٦٣].
الثاني: أن ينسب إنزال المطر إلى النجم، مع اعتقاده أن الله تعالى هو الفاعل لذلك المنزل له، إلا أنه سبحانه وتعالى أجرى العادة بوجود المطر عند ظهور النجم، فحكى ابن مفلح خـلافـًا في مذهب أحمد في تحريمه وكراهته، وصـرح أصحاب الشافعي بجوازه.
والصحيح أنه محرم؛ لأنه من الشرك الخفي، وهو الذي أراده النبي صلى الله عليه وسلم وأخبر أنه من أمر الجاهلية، ونفاه، وأبطله بقوله صلى الله عليه وسلم: (أربعٌ في أمتى من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر في الأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة)85.
وهو الذي كان يزعم المشركون، ولم يزل موجودًا في هذه الأمة إلى اليوم»86.
وعندما ينسب المطر إلى الأنواء ومنازل القمر وغير ذلك، يدعي بهذا علمـًا للغيب؛ إذ إنه عندما يرى هذه المظاهر والأسباب يدعي نزول المطر، وقد سبق أن هذا مما اختص الله تعالى به، وإن كان قد يعلمه الإنسان ظنـًا في مرحلة انعقاد أسبابه، كما سبق بيانه في مفاتح علم الغيب، والله سبحانه أعلم.
ثانيًا: الكهانة وصور ادعاء علم الغيب:
ومما يدخل في باب ادعاء علم الغيب: العـرافة، والتنجيم، والكهانة، والطرق بالحصى، وقد يطلق عليها جميعها اسم الكهانة87.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية88: «وممن يدخل في ذم السحرة: الكهان والعرافون والمنجمون والذين يخطون في الرمل، وكل هؤلاء يدعون علم الغيب، وهم كفرة خارجون عن الإسلام بادعائهم الغيب. قال الله تعالى: (ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ) [النمل: ٦٥].
ومن صدقهم في دعواهم فهو كافرٌ بالله مشركٌ. عن أبى هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أتى حائضًا، أو امرأةً في دبرها، أو كاهنًا فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل الله على محمدٍ)89.
وسنفرد أهم هذه الصور بكلمة موجزة، نبين من خلالها حكم من يدعي شيئـًا من ذلك أو يفعله أو يصدقه.
الكهانة:
قال ابن سيده: «كهن يكهن ويكهن، وتكهن يتكهن تكهنًا و تكهينًا: قضى له بالغيب. ورجلٌ كاهنٌ من قوم كهنةٍ وكهانٍ. وكهن كهانةً صار كاهنًا، وحرفته الكهانة»90.
والمراد من علم الكهانة مناسبة الأرواح البشرية مع الأرواح المجردة من الجن والشياطين، والاستعلام بهم عن الأحوال الجزئية الحادثة في عالم الكون المخصوصة بالمستقبل. فالكهانة هي: ادعاء علم الغيب أو القضاء به، كالإخبار بما سيقع في الأرض مع الاستناد إلى سبب. والأصل فيه: استراق الجني السمع من كلام الملائكة، فيلقيه في أذن الكاهن.
والكاهن لفظ يطلق على العراف، والذي يضرب بالحصى، والمنجم، ويطلق على من يقوم بأمر آخرٍ، ويسعى في قضاء حوائجه. والعرب تسمي كل من آذن بشيء قبل وقوعه كاهنـًا. فهو يخبر عما يكون في المستقبل ويدعي معرفة الأسرار ومطالعة علم الغيب91.
قال الخطابي92: «الكهنة قوم لهم أذهان حادة ونفوس شريرة وطباع نارية، فألفتـهم الشياطين؛ لما بينهم من التناسب في هذه الأمور، وساعدتهم بكل ما تصل قدرتهم إليه. فالكاهن هو الذي يدعي مطالعة علم الغيب، ويخبر الناس عن الكوائن».
وكانت الكهانة في الجاهلية فاشية، خصوصـًا في العرب؛ لانقطاع النبوة فيهم، وهي على أربعة أصناف:
الأول: ما يتلقونه من الجن، فإن الجن كانوا يصعدون إلى جهة السماء، فيركب بعضهم بعضـًا إلى أن يدنو الأعلى بحيث يسمع الكلام، فيلقيه إلى الذي يليه، إلى أن يتلقاه من يلقيه في أذن الكاهن فيزيد فيه، فلما جاء الإسلام، ونزل القرآن، حرست السماء من الشياطين وأرسلت عليهم الشًهب، فبقي من استراقهم ما يتخطفه الأعلى، فيلقيه إلى الأسفل قبل أن يصيبه الشهاب، وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى: (ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ) [الصافات: ١٠].
وكانت إصابة الكهان قبل الإسلام كثيرة جدًا، كما جاء في أخبار شق وسطيح ونحوهما، وأما في الإسلام فقد ندر ذلك جدًا حتى كاد يضمحل، ولله الحمد.
والثاني: ما يخبر الجني به من يواليه بما غاب عن غيره، مما لا يطلع عليه الإنسان غالبـًا، أو يطلع عليه من قـرب منه لا من بـعد عنه.
والثالث: ما يستند إلى ظنٍ وتخمين وحدس، وهذا قد يجعل الله فيه لبعض الناس قوة، مع كثرة الكذب فيه. وإذا كان كذلك فسؤالهم عن غيب ليخبروا عنه حرامٌ، وما يأخذون على ذلك حرامٌ، ولا خلاف فيه؛ لأنه حلوان الكاهن المنهي عنه.
والرابع: ما يستند إلى التجربة والعادة، فيستدل على الحادث بما وقع قبل ذلك. ومن هذا القسم الأخير ما يضاهي السحر، وقد يعتضد بعضهم في ذلك بالزجر والطرق والنجوم، وكل ذلك مذموم شرعـًا93.
ونقل القرطبي عن علماء المالكية أنه «يجب على من ولي الحسبة أن يقيم هؤلاء الكهنة من الأسواق، وينكر عليهم أشد النكير، ولا يدع أحدًا يأتيهم لذلك، وإن ظهر صدق بعضهم في بعض الأمور، فليس ذلك بالذي يخرجهم عن الكهانة، فإن تلك الكلمة إما خطفة جني، أو موافقة قدر ليغتر به بعض الجهال، ولقد انخدع كثير من المنتسبين للفقه والدين، فجاءوا إلى هؤلاء الكهنة والعرافين فبهرجوا عليهم بالمحال، واستخرجوا منهم الأموال، فحصلوا من أقوالهم على السراب والآل، ومن أديانهم على الفساد، والضلال»94.
وورد في ذم الكهانة ما أخرجه أصحاب السنن وصححه الحاكم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من أتى حائضًا، أو امرأةً في دبرها، أو كاهنًا فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل الله على محمدٍ)95.
وله شاهد من حديث جابر وعمران بن حصين، أخرجهما البزار بسندين جيدين، ولفظهما: (من أتى كاهنًا فصدقه)96.
وأخرجه مسلم من حديث امرأةٍ من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم -ومن الرواة من سمـاها حفصة- بلفظ: (من أتى عرافـًا)97.
وأخرجه أبو يعلى من حديث ابن مسعود بسند جيد، لكن لم يصرح برفعه، ومثله لا يقال بالرأي، ولفظه: (من أتى عرافـًا أو ساحرًا أو كاهنـًا)98.
واتفقت ألفاظهم على الوعيد بلفظ حديث أبي هريرة، إلا حديث مسلم فقال فيه: (لم يقبل لهما صلاة أربعين ليلة).
ووقع عند الطبراني من حديث أنس بسند لين مرفوعـًا بلفظ: (من أتى كاهنًا فصدقه بما يقول، فقد برئ مما نزل على محمدٍ، ومن أتاه غير مصدقٍ له لم تقبل صلاته أربعين يومـًا)99.
والأحاديث الأول مع صحتها وكثرتها، أولى من هذا. والوعيد جاء تارة بعدم قبول الصلاة وتارة بالتكفير، فيحمل على حالين من الآتي100.
فما أعظم ضلال أولئك الذين يدعون معرفة الغيب بالكهانة! وما أشدً عقوبة أولئك الذين يأتونهم ويصدقونهم فيما يزعمون، حتى إن الشكوى ارتفعت على ألسنة كثير من العلماء في قرون سلفت، عم فيها ذلك الضلال.
فقال القرطبي رحمه الله : «وقد انقلبت الأحوال في هذه الأزمان -زمان القرطبي- بإتيان المنجمين والكـهـان لاسيما بالديار المصرية، فقد شاع في رؤسائهم وأتباعهم وأمرائهم اتخاذ المنجمين، بل ولقد انخدع كثير من المنتسبين للفقه والدين فجاءوا إلى هؤلاء الكهنة والعرافين، فبهرجوا عليهم بالمـحال، واستخرجوا منهم الأموال فحصلوا من أقوالهم على السراب والآل، ومن أديانهم على الفساد والضلال. وكل ذلك من الكبائر؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (لم تقبل له صلاة أربعين ليلة) فكيف بمن اتخذهم وأنفق عليهم معتمدًا على أقوالهم؟»101.
روى مسلم رحمه الله عن عائشة رضي الله عنها قالت: (سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أناس عن الكهان؟ فقال: (إنهم ليسوا بشيء) فقالوا يا رسول الله، إنهم يحدثونا أحيانًا بشيء فيكون حقًا! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تلك الكلمة من الحق يخطفها الجني فيقرها102 في أذن وليه قر الدجاجة، فيخلطون معها مائة كذبةٍ)103.
وأخرجه البخاري أيضًا من حديث أبي الأسود محمد بن عبد الرحمن، عن عروة، عن عائشة أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الملائكة تنزل في العنان، وهو السحاب - فتذكر الأمر قضي في السماء فتسترق الشياطين السمع فتسمعه فتوحيه إلى الكهان، فيكذبون معها مائة كذبةٍ من عند أنفسهم)104.
العرافة:
هي معرفة الاستدلال ببعض الحوادث الخالية على الحوادث الآتية بالمناسبة أو المشابهة الخفية التي تكون بينهما، أو الاختلاط أو الارتباط، على أن يكونا معلولي أمر واحد، أو يكون ما في الحال علة لما في الاستقبال. وشرط كون الارتباط المذكور خفيًا أن لا يطلع عليه إلا الأفراد، وذلك إما بالتجارب أو بالحالة المودعة في أنفسهم عند الفطرة105.
والعراف هو الذي يزعم أنه يعرف الأمور الغيبية بمقدمات وأسباب قولية أو فعلية يستدل بها على مواقعها، كالشيء يسرق، فيعرف المظنون به السرقة، وتتهم المرأة بالزنا فيعرف من صاحبها106.
وقال ابن تيمية: «العراف اسم للكاهن والمنجم والرمال ونحوهم، كالحازي الذي يدعي علم الغيب أو يدعي الكشف». وقال أيضًا: «والمنجم يدخل في اسم الكاهن عند الخطابي وغيره من العلماء»، وعند آخرين: «هو من جنس الكاهن وأسوأ حالًا منه، فيلحق به من جهة المعنى». وقال الإمام أحمد: «العراف طرف من السحر، والساحر أخبث»107.
وقال ابن الأثير: «العراف: المنجم أو الحازي الذي يدعي علم الغيب وقد استأثر الله تعالى به»108.
وقال ابن القيم: «من اشتهر بإحسان الزجر عندهم سموه عائفًا وعرافًا»109.
والمقصود من هذا: معرفة أن من يدعي علم شيء من المغيبات، فهو إما داخل في اسم الكاهن، وإما مشارك له في المعنى فيلحق به، وذلك أن إصابة المخبر ببعض الأمور الغائبة في بعض الأحيان يكون بالكشف، ومنه ما هو من الشياطين، ويكون بالفأل، والزجر والطير، والضرب بالحصى، والخط في الأرض، والتنجيم، والكهانة والسحر، ونحو هذا من علوم الجاهلية. ونعني بالجاهلية: كل من ليس من أتباع الرسل، كالفلاسفة والكهان والمنجمين، وجاهلية العرب الذين كانوا قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم، فإن هذه من علوم قوم ليس لهم علم بما جاءت به الرسل عليهم السلام.
وكل هذه الأمور يسمى صاحبها كاهنًا وعرافًا، فمن أتاهم فصدقهم بما يقولون لحقه الوعيد.
وقد ورث هذه العلوم عنهم أقوام، فادعوا بها علم الغيب الذي استأثر الله تعالى بعلمه، وادعوا أنهم أولياء، وأن ذلك كرامة، ولا ريب أن من ادعى الولاية، واستدل عليها بإخباره ببعض المغيبات، فهو من أولياء الشيطان، لا من أولياء الرحمن.
إذ الكرامة أمر يجريه الله على يد عبده المؤمن المتقي، إما بدعاء أو أعمال صالحة لا صنع للولي فيها، ولا قدره له عليها، بخلاف من يدعي أنه ولي لله، ويقول للناس: اعلموا أني أعلم المغيبات، فإن مثل هذه الأمور قد تحصل بما ذكر-آنفًا- من الأسباب، وإن كانت أسبابًا محرمة كاذبة في الغالب.
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في وصف الكهان: «فيكذبون معها مائة كذبةٍ» فبين أنهم يصدقون مرة ويكذبون مائة. وهكذا حال من سلك سبيل الكهان ممن يدعي الولاية والعلم بما في ضمائر الناس، مع أن نفس دعواه دليل على كذبه؛ لأن في دعواه الولاية تزكية النفس المنهي عنها بقوله تعالى: (ﯙ ﯚ ﯛﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ) [النجم: ٣٣].
وليس هذا من شان الأولياء، بل شأنهم الإزراء على نفوسهم وعيبهم لها، وخوفهم من ربهم.
فكيف يأتون الناس ويقولون: اعرفوا أنا أولياء، وأنا نعلم الغيب. وفي ضمن ذلك طلب المنزلة في قلوب الخلق، واقتناص الدنيا بهذه الأمور، وحسبك بحال الصحابة والتابعين، وهم سادات الأولياء، أفكان عندهم من هذه الدعاوى والشطحات شيء؟
لا والله، بل كان أحدهم لا يملك نفسه من البكاء إذا قرأ القرآن كالصديق، وكان عمر يسمع نشيجه من وراء الصفوف يبكي في صلاته، وكان يمر بالآية في ورده بالليل فيمرض منها ليالٍ يعوده الناس، وكان تميم الداري يتقلب في فراشه، لا يستطيع النوم إلا قليلًا، خوفًا من النار، ثم يقوم إلى صلاته.
ويكفيك في صفات الأولياء: ما ذكر الله تعالى من صفاتهم في سورة الرعد، والمؤمنين، والفرقان، والذاريات والطور، فالمتصفون بتلك الصفات هم الأولياء الأصفياء، لا أهل الدعوى والكذب، ومنازعة رب العالمين فيما اختص به من الكبرياء والعظمة، وعلم الغيب، بل مجرد دعواه علم الغيب كفر، فكيف يكون المدعي لذلك وليا لله؟
ولقد عظم الضرر، واشتد الخطب بهؤلاء المفترين، الذين ورثوا هذه العلوم عن المشركين، ولبسوا بها على خفافيش البصائر. نسأل الله السلامة والعافية في الدنيا والآخرة110.
التنجيم:
وقد يزعم بعض الناس أن هناك مدركًا من مدارك علم الغيب يلجئون إليه للتعرف على ما سيقع مستقبلًا، وهو التنجيم. وهو علم يعرف به الاستدلال بالتشكلات الفلكية على الحوادث السفلية111.
والمنجمون هم القائلون بالدلالات النجومية ومقتضى أوضاعها في الفلك، وآثارها في العناصر، وما يحصل من الامتزاج بين طباعها بالتناظر، ويتأدى من ذلك المزاج إلى الهواء، وهؤلاء المنجمون ليسوا من الغيب في شيء، إنما هي ظنون حدسية وتخمينات مبنية على التأثير والنجومية، وحصول المزاج منه للهواء، مع مزيد حدس، يقف به الناظر على تفصيل في الشخصيات في العالم، وذلك كله باطل112.
حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (من اقتبس علمًا من النجوم اقتبس شعبةً من السحر زاد ما زاد)113.
قال الإمام الخطابي: «علم النجوم المنهي عنه: هو ما يدعيه أهل التنجيم من علم الكوائن والحوادث التي لم تقع، وستقع في المستقبل، كإخبارهم بأوقات هبوب الرياح، ومجيء المطر، وظهور الحر والبرد، وتغير الأسعار، وما كان في معانيها من الأمور، يزعمون أنهم يدركون معرفتها بسير الكواكب في مجاريها، وباجتماعها واقترانها، ويدعون لها تأثيرًا في السفليات، وأنها تتصرف على أحكامها، وتجري على قضايا موجباتها. وهذا منهم تحكم على الغيب وتعاطٍ لعلمٍ استأثر الله سبحانه به، لا يعلم الغيب أحد سواه.
فأما علم النجوم الذي يدرك من طريق المشاهدة والحس، كالذي يعرف به الزوال، ويعلم به جهة القبلة، فهو غير داخل فيما نهي عنه. وذلك: أن معرفة رصد الظل ليس شيئًا بأكثر من أن الظل ما دام متناقصًا، فالشمس بعد صاعدةٌ نحو وسط السماء في الأفق الشرقي، وإذا أخذ في الزيادة فالشمس هابطة من وسط السماء نحو الأفق الغربي.
وهذا علم يصح دركه من جهة المشاهدة، إلا أن أهل هذه الصناعة قد دبروه، بما اتخذوا له من الآلة التي يستغني الناظر فيها عن مراعاة مدته ومراصده.
وأما ما يستدل به من جهة النجوم على جهة القبلة: فإنما هي كواكب أرصدها أهل الخبرة بها من الأئمة الذين لا نشك في عنايتهم بأمر الدين ومعرفتهم بها، وصدقهم فيما أخبروا به عنها. مثل أن يشاهدوها بحضرة الكعبة، ويشاهدوها في حال الغيبة عنها، فكان إدراكهم: الدلالة عنها بالمعاينة، وإدراكنا لذلك بقبولنا لخبرهم؛ إذ كانوا غير متهمين في دينهم ولا مقصرين في معرفتهم»114.
وقال الحافظ ابن رجبٍ الحنبلي: «والمأذون في تعلمه: علم التسيير لا علم التأثير، فإنه باطل محرم، قليله و كثيره. أما علم التسيير، فإذا تعلم ما يحتاج إليه للاهتداء، ومعرفة القبلة والطريق كان جائزًا عند الجمهور. وما زاد عليه فلا حاجة إليه، وهو يشغل عما هو أهم منه، وربما أدى تدقيق النظر فيه إلى إساءة الظن بمحاريب المسلمين في أمصارهم، كما وقع ذلك كثيرًا من أهل هذا العلم قديمًا وحديثًا، وذلك يفضي إلى اعتقاده خطأ الصحابة والتابعين في صلاتهم في كثير من الأمصار، وهو باطل»115.
ونقل ابن عابدين الحنفي عن (مختارات النوازل) أن علم النجوم في نفسه حسنٌ غير مذموم؛ إذ هو قسمان:
أحدهما: حسابيٌ وهو حق، وقد نطق به الكتاب، قال تعالى: (ﮂ ﮃ ﮄ) [الرحمن: ٥]. أي: سيرهما بحساب.
والثاني: استدلاليٌ بسير النجوم وحركة الأفلاك على الحوادث بقضاء الله تعالى وقدره، وهو جائز، كاستدلال الطبيب بالنبض على الصحة والمرض.
ولو لم يعتقد بقضاء الله تعالى أو ادعى علم الغيب بنفسه يكفر. ثم إن تعلم ما يعرف به مواقيت الصلاة والقبلة: لا بأس به116.
وأما الشيخ سليمان بن عبد الله آل الشيخ، فقد جعل التنجيم ثلاثة أقسام:
الأول: وهو القول بأن الموجودات في العالم السفلي مركبة على تأثير الكواكب والروحانيات، وأن الكواكب فاعلة مختارة. وهو قول الصابئة المنجمين الذين بعث إليهم إبراهيم الخليل عليه السلام. وهذا كفر بإجماع المسلمين.
الثاني: الاستدلال على الحوادث الأرضية بمسير الكواكب، واجتماعها وافتراقها، ونحو ذلك. ويقول: إن ذلك بتقدير الله ومشيئته، فلا ريب في تحريم ذلك. واختلف المتأخرون في تكفير القائل بذلك، وينبغي أن يقطع بكفره؛ لأنها دعوى لعلم الغيب، الذي استأثر الله تعالى بعلمه، بما لا يدل عليه.
الثالث: وهو تعلم منازل القمر والشمس؛ للاستدلال بذلك على القبلة وأوقات الصلوات والفصول117.
ثالثًا: معرفة نوع الجنين وعلم الغيب:
تقدمت الإشارة في مفاتح الغيب إلى اختصاص الله سبحانه وتعالى بعلم ما في الأرحام، وقد يقع في أذهان بعض الناس أن البشر يستطيعون أن يعلموا ما في الأرحام بمعرفة جنس الجنين هل هو ذكر أو أنثى؟ وذلك عندما يمكن أن تغرز إبرة لسحب نقطة من السائل الامنيوسي لفحص خلال الجنين، هل تحمل شارة الذكورة أو الأنوثة، ويكون ذلك بعد مضي أربعة أشهر على الأقل من الحمل118.
وقد يخيل لبعضهم أن في هذا معرفةً للغيب الذي اختص الله تعالى به. وهنا ينبغي أن نلاحظ جملة أمور لا يجوز أن تغيب عن أذهاننا؛ إذ هي تلقي ضوءًا على ذلك، وتحرر محل الخلاف، وتحدد الإجابة، وتنفي الشبهة والظن إن شاء الله تعالى.
وفي خلال المدة التي تعقب الشهور الأربعة الأولى من بدء الحمل لا يكون الجنين في مرحلة الغيب المطلق الذي حجبه الله تعالى عن الخلق جميعًا، بل إن الملك الموكل يعرف ذلك بإخبار الله تعالى.
كما جاء في الحديث الصحيح عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق قال: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يومًا، ثم يكون في ذلك علقةً مثل ذلك، ثم يكون في ذلك مضغةً مثل ذلك، ثم يرسل الله الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلماتٍ: بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقيٌ أو سعيدٌ، فو الذي لا إله غيره، إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراعٌ، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينها وبينه إلا ذراعٌ، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها)120.
وفي بعض طرق الحديث: (ثم يبعث الله ملكًا بأربع كلماتٍ: فيكتب عمله، وأجله، ورزقه، وشقيٌ أو سعيدٌ، ثم ينفخ فيه الروح) الحديث121.
وفي حديث حذيفة بن أسيد، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يدخل الملك على النطفة بعد ما تستقر في الرحم بأربعين أو خمس وأربعين ليلة، فيقول: يا رب أشقيٌ أو سعيدٌ؟ فيكتبان، فيقول: أي رب أذكرٌ أم أنثى؟ فيكتبان، ويكتب عمله، وأثره، وأجله، ورزقه، ثم تطوى الصحف فلا يزاد فيها ولا ينقص)122.
ففي هذه المرحلة قد أعلم الله تعالى الملك الموكل بالنطفة بالكلمات السابقة، فأصبح الملك يعرفهم، فخرجت عندئذ عن كونها من الغيب المطلق الذي اختص الله به، ولا مانع بعد ذلك أن يهيئ الله تعالى للإنسان أداة أو وسيلة للتعرف على شيء من ذلك ظنًا أو يقينًا، وكأن عموم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله تعالى قد دخله التخصيص بحديث ابن مسعود وحديث حذيفة بن أسيد، فيقبل أيضًا تخصيصًا آخر بدليل ظنيٍ.
وأما المرحلة السابقة لإعلام الله تعالى الملك بذلك فإنها محجوبة قطعًا عن كل الخلق، ولا يعلمها إلا هو سبحانه وتعالى: (ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ) [الرعد: ٨].
قال ابن قيم الجوزية: «والتحقيق في معنى الآية: أنـه يعلم مدة الحمل وما يحدث فيها من الزيادة والنقصان، فهو العالم بذلك دونكم، كما هو العالم بما تحمل كل أنثى هل هو ذكر أو أنثى؟ وهذا أحد أنواع الغيب التي لا يعلمها إلا الله، كما في (الصحيح) عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (مفاتيح الغيب خمسٌ لا يعلمهن إلا الله: لا يعلم متى تجيء الساعة إلا الله، ولا يعلم ما في غدٍ إلا الله، ولا يعلم متى يجيء الغيث إلا الله، ولا يعلم ما في الأرحام إلا الله، ولا تدري نفسٌ بأي أرضٍ تموت إلا الله)123.
فهو سبحانه المتفرد بعلم ما في الرحم، وعلم وقت إقامته فيه، وما يزيد من بدنه، وما ينقص. وما عدا هذا القول فهو من توابعه ولوازمه، كالسقط التام، ورؤية الدم، وانقطاعه»124.
وقال أبو بكر الجصاص: «لا يعلم أحدٌ الفرق بين العلقة التي يكون منها الولد وبين ما لا يكون منها الولد إلا أن يكون قد شاهد علقًا كان منه الولد وعلقًا لم يكن منه الولد، فيعرف بالعادة الفرق بين ما كان منه ولد وبين ما لم يكن منه ولد بعلامة توجد في أحدهما دون الآخر في مجرى العادة وأكثر الظن، كما يعرف كثير من الأعراب السحابة التي يكون منها المطر والسحابة التي لا يكون منها المطر، وذلك بما قد عرفوه من العلامات التي لا تكاد تتخلف في الأعم الأكثر.
فأما العلقة التي كان منها الولد فمستحيل أن يشاهدها إنسان قبل كون الولد منها متميزة من العلقة التي لم يكن منها ولد، وذلك شيء قد استأثر الله بعلمه إلا من اطلع عليه من ملائكته حين يأمره بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد.
قال الله تعالى: (ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ) [الرعد: ٨].
وقال: (ﯲ ﯳ ﯴ ﯵﯶ). وهو عالم بكل شيء سبحانه وتعالى ولكنه خص نفسه بالعلم بالأرحام في هذا الموضع إعلامًا لنا أن أحدًا غيره لا يعلم ذلك، وأنه من علم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله ومن ارتضى من رسول. قال الله تعالى: (ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ) [الجن: ٢٦-٢٧]. والله أعلم»125.
وأيضًا: إن علم ما في الأرحام الذي لا يعلمه إلا الله هو علم ما تغيض الأرحام، فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن عدد ومسمى مفاتح الغيب في صيغتين: الصيغة الأولى: تشير إلى القضايا التي وردت في آية سورة لقمان، ففي حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (مفاتح الغيب خمسٌ، ثم قرأ: (ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ))126.
وفي الصيغة الثانية: عن ابن عمر أيضًا، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مفاتيح الغيب خمسٌ لا يعلمها إلا الله، لا يعلم ما في غدٍ إلا الله، ولا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله، ولا يعلم متى يأتي المطر أحدٌ إلا الله، ولا تدري نفسٌ بأي أرضٍ تموت، ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله)127.
فنحن الآن أمام حديثين وردا بصيغتين مختلفتين، في موضوع واحد، هو تحديد عدد ومسمى مفاتح الغيب، وصيغة الحديث الأول تماثل صيغة الحديث الثاني، في ثلاث قضايا هي: علم الساعة، وعدم دراية الأنفس لكسبها، ومكان موتها.
وهذه الثلاثة غيب حقيقيٌ لا يعلمه إلا الله باتفاق العلماء، لكن الحديثين يختلفان في مسمى قضية إنزال المطر، وقضية ما في الأرحام.
فالحديث الأول: أشار إلى أن الصيغة العامة لهما هي مفتاح الغيب، في قوله تعالى: (ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵﯶ).
وأما الحديث الثاني: فقد عدل عن صيغة العموم إلى صيغة الخصوص، فقد سماهما النبي صلى الله عليه وسلم بألفاظ مخصوصة محددة فقال: (ولا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله، ولا يعلم متى يأتي المطر أحدٌ إلا الله).
وبالجمع بين الروايتين يصير (غيض الأرحام)، وزمن مجيء المطر، هما الغيب الذي لا يعلمه إلا الله، ومن ثم يصبح مراد النبي صلى الله عليه وسلم في اللفظ العام في آية سورة لقمان بناء على الحديث الأول، هو المعنى المحدد باللفظ الخاص في الحديث الثاني، وبهذا تتوافق النصوص وينتهي الإشكال، و يكون (غيض الأرحام) هو أحد مفاتح الغيب الخمس، لا الذكورة ولا الأنوثة ولا العلم بصفات الجنين، ويكون أيضًا العلم بوقت نزول المطر الوارد في الحديث هو أحد مفاتح الغيب الخمس، لا مطلق إنزال الغيث الوارد في الآية الكريمة128.
وهنا يرد السؤال ما هو (غيض الأرحام)؟
يطلق الغيض في اللغة على: النقص والغور، والذهاب، والنضوب. وقد جاء في المعاجم اللغوية: غاض الماء غيضًا ومغاضًا ومغيضًا: قل ونقص، أو غار فذهب، أو قل ونضب، أو نزل في الأرض وغاب فيها. وغاضت الدرة: احتبس لبنها ونقص129.
وقد دار تفسير العلماء لـ (غيض الأرحام) حول معنيين:
الأول: الدم الذي ينزل على المرأة الحامل.
والثاني: هو السقط الناقص للأجنة قبل تمام خلقها.
إذن يمكننا القول بأن السقط المفسر للغيض والمراد في كلام علماء اللغة والتفسير هو: الجنين الذي سقط من بطن أمه قبل اكتمال خلقه، أو هو الجنين الذي يهلك في الرحم، ويتحلل ويغور وتختفي آثاره منها، ويصدق عليه أن الرحم تبتلعه كما تبتلع الأرض الماء 130.
وعلم الأجنة الحديث يجلي الحقيقة؛ حيث يقول علماء الأجنة: عندما تهلك الأجنة في الأسابيع الثمانية الأولى من عمرها، إما أن تسقط خارج الرحم، أو تتحلل وتختفي تماما من داخله، ويسمي علماء الأجنة هذا الهلاك بصورتيه: الإسقاط التلقائي المبكر. وهو متوافق تمامًا مع أقوال علماء اللغة والتفسير في تعريفهم للغيض.
وعليه يمكننا أن نقول: إن (غيض الأرحام) هو الإسقاط التلقائي المبكر. وهو الذي يحدث خلال الأسابيع الثمانية الأولى من الحمل، وهو ظاهرة شائعة، ونسبة حدوثه كبيرة، إذ تصل إلى حوالي ٦٠٪، في الأسابيع الثمانية الأولى من الحمل.
وفي عدة مشاهدات للسقط المبكر لم يكن الجنين موجودًا، أي: إن الجنين قد تحلل واختفى داخل الرحم. وعدم رؤية جنينٍ في حويصلة الحمل، يسمى: (كيس الحمل الفارغ).
وتمثل هذه الحالات حوالي نصف حالات السقط التلقائي المبكر، وبعد اكتشاف جهاز الأشعة فوق الصوتية واستخدامه في تشخيص الحمل ومتابعته، تأكدت حالات غور الأجنة واختفائها من داخل الأرحام131. والله سبحانه وتعالى أعلم.
نتائج الإيمان بالغيب أو إنكاره
إن الإيمان بكل الأركان وعلى رأسها الركن الأول والأعظم فيها وهو الإيمان بالله تعالى، إنما هو إيمان بالغيب. إن هذا الإيمان يثمر في نفس الإنسان ثمراتٍ كثيرةً، وله آثاره العظيمة، على مستوى الفرد والأسرة والجماعة، في الحياة الدنيا وفي الحياة الآخرة، فكل آثار الإيمان بالله تعالى وتوحيده هي آثار للإيمان بالغيب، و كل ما نجده من خير واستقامة وسعادة وتقدم و إبداع، وكل ما يتطلع الإنسان إليه من القيم و الأخلاق العالية كالتوكل على الله، و اليقين، والعلم، والصدق، والخوف من الله، والرضا، والرجاء، وغير ذلك، هذا كله وأضعافه، إنما هو أثر من آثار الإيمان بالغيب!
وعلى الجانب الآخر؛ عندما يتنكر الإنسان للإيمان بالغيب، تختلف الصورة، وتختلف النتيجة، فكل ما تعاني منه البشرية، على مستوى الفرد والجماعة والأمة، في كل المجالات، من أمراض ومساوئ ومفاسد وأدواء، كاتباع الشهوات والركون للدنيا، والشقاء والاضطراب النفسي و الاجتماعي، والقلق ونحوه، علاوة على التمزق النفسي والضياع والتيه، وإطفاء نور الفطرة التي فطر الله تعالى الإنسان عليها، مع ما ينتظره من الخلود في النار في الآخرة. كل هذا وغيره، إنما هو أثر ونتيجة لهذا الإنكار والإلحاد.
وفيما يلي نتحدث عن: ثمرات الإيمان بالغيب، وبعض نتائج إنكار الغيب، بحسب ما يسمح به المقام.
أولًا: ثمرات الإيمان بالغيب:
١. تحقيق إنسانية الإنسان وكرامته.
جعل الله تعالى الإنسان أكرم المخلوقات وفضله عليها جميعها، فقال سبحانه وتعالى: (ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ) [الإسراء: ٧٠ ].
وهذا التكريم الإلهي للإنسان يتجلى في صور كثيرة، يأتي على رأسها فطرة الإيمان بالغيب ومالا تدركه الحواس، والإيمان بالغيب هو العتبة التي يجتازها الإنسان، فيتجاوز مرتبة الحيوان الذي لا يدرك إلا ما تدركه حواسه، إلى مرتبة الإنسان الذي يدرك أن الوجود أكبر وأشمل من ذلك الحيز الصغير المحدد الذي تدركه الحواس -أو الأجهزة التي هي امتداد للحواس-.
وهي نقلة بعيدة الأثر في تصور الإنسان لحقيقة الوجود كله ولحقيقة وجوده الذاتي، ولحقيقة القوى المنطلقة في كيان هذا الوجود، وفي إحساسه بالكون وما وراء الكون من قدرة وتدبير. كما أنها بعيدة الأثر في حياته على الأرض، فليس من يعيش في الحيز الصغير الذي تدركه حواسه كمن يعيش في الكون الكبير الذي تدركه بديهته وبصيرته، ويتلقى أصداءه وإيحاءاته في أطوائه وأعماقه، ويشعر أن مداه أوسع في الزمان والمكان من كل ما يدركه وعيه في عمره القصير المحدود. وأن وراء الكون ظاهره وخافيه، حقيقة أكبر من الكون، هي التي صدر عنها، واستمد من وجودها وجوده، حقيقة الذات الإلهية التي لا تدركها الأبصار ولا تحيط بها العقول.
وعندئذ تصان الطاقة الفكرية المحدودة المجال عن التبدد والتمزق والانشغال بما لم تخلق له، وما لم توهب القدرة للإحاطة به، وما لا يجدي شيئا أن تنفق فيه، وهذا الاحترام لمنطق العقل في هذا الشأن هو الذي يتحلى به المؤمنون، وهو الصفة الأولى من صفات المتقين.
لقد كان الإيمان بالغيب هو مفرق الطريق في ارتقاء الإنسان عن عالم البهيمة، ولكن جماعة الماديين في هذا الزمان -كجماعة الماديين في كل زمان- يريدون أن يعودوا بالإنسان القهقرى، إلى عالم البهيمة الذي لا وجود فيه لغير المحسوس! ويسمون هذا (تقدمية)، وهو النكسة التي وقى الله المؤمنين إياها، فجعل صفتهم المميزة، صفة: (ﭝ ﭞ ﭟ) [البقرة: ٣]132.
٢. الاستقامة وتربية الشعور الديني.
الإيمان بالغيب هو الأساس والركن الذي يقوم عليه الشعور الديني والمراقبة لله تعالى والالتزام بالأحكام الشرعية والأوامر الإلهية، وذلك يؤهل المؤمن للوقوف أمام محكمـة الضمير أو النفس اللوامة التي أقسم الله تعالى بها، وهو سبحانه لا يقسم إلا بما هو عظيم، فقال: (ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ) [القيامة: ١-٢].
وهي محكمة باطنية، بينما محكمة المجتمع محكمة سطحية ظاهرية لا تتناول من أعمالنا إلا ما يقع تحت السمع والبصر، و لا تتناول من هذه الأعمال إلا ما يصل إلى علمها، فهل هناك محكمة تحيط بظواهرنا و بواطننا، ولا يخفى عليها شيء من أمرنا، و إن بعدنا عن أعين الرقباء؟ نعم! تلك هي المحكمة الإلهية العليا133.
إن تربية الشعور الديني هي الدافع للاستقامة وحسن السلوك، وهي الضابط الذي يعصمنا من الجريمة ومن ارتكاب الحرام ومن مخالفة الأوامر، فاستقرار الإيمان في النفس البشرية هو سببٌ واضح في عدم مخالفة الأوامر التي يأمر بها الشارع وهو الله -عزوجل-، حتى إن لم يكن هناك أي رقابة خارجية، فالإيمان بالله ومراقبته في السر والعلن والالتزام بأوامره تقوي علاقة الإنسان بربه، وتجعله يستشعر مراقبة الله تعالى له في كل تصرف من تصرفاته.
وهناك أمثلة من الواقع التاريخي تدل على سلطة الايمان في الاستقامة والبعد عن المأثم. ونذكر هنا مثالًا على ذلك، وهو تحريم الخمر في الإسلام، وذلك بمجرد نزول الأمر القاطع في ذلك، بينما فشلت في ذلك أكبر النظم المعاصرة رغم تقدمها المادي والعلمي؛ لأنها لا تقوم على الإيمان، أو لا تنظر إلى حلال أو حرام فيما تشرعه من قوانين.
قال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚﮛ ﮜ ﮝ ﮞ) [المائدة: ٩٠-٩٣].
لقد تمت هذه المعجزة التشريعية؛ لأن المنهج الرباني أخذ النفس الإنسانية بطريقته الخاصة، أخذها بسلطان الله وخشيته ومراقبته، وبحضور الله سبحانه فيها حضورًا لا تمللك الغفلة عنه لحظة من زمان أخذها جملة لا تفاريق، وعالج الفطرة بطريقة خالق الفطرة134.
٣. محاسبة النفس والاستعداد للحساب.
إن إيمان المرء بالله تعالى، وإيمانه بكل ما ينطوي عليه من أمر الغيب، له أثره في عمق الشعور بتقوى الله وخشيته، والخوف من حسابه يوم القيامة، ويترتب على ذلك انضباط السلوك وحساسية الضمير تجاه مسئولية الإنسان عن أعماله. فإن الإسلام يرسي قاعدة المسئولية بأوسع معانيها، فهي تشمل الفرد و الجماعة، والحاكم والمحكوم، وتكون هذه المسئولية أمام محكمة الضمير أو الوجدان، كما تكون أمام الرأي العام في الجماعة، وأعلى من هذا كله المسئولية أمام الله تعالى، وهي تقتضي الاستعداد لهذا الحساب الدقيق.
وللدكتور محمد عبدالله دراز رحمه الله كلمةٌ في بيان المحكمة التي سنقف أمامها للمسئولية ونقدم فيها الحساب لمعرفة أثر ذلك في التربية والتهذيب والاستقامة. يقول رحمه الله: «إن القرآن الكريم يضعنا أمام سلطة ثلاثية كأنه يقول لنا: تصوروا أنفسكم في نقطة مركزية تحيط بكم ثلاث دوائر مدرجة الاتساع، و تصوروا أنه قد خرج من كل دائرة سهام أو أنصاف أوتار متجهة نحو هذا المركز، هي أشعة العين التي تراقبكم. انظروا في أنفسكم تجدوا محكمة، وانظروا من حولكم تجدوا محكمة، وانظروا فوقكم تجدوا محكمة، محكمة الضمير في قلوبكم، ومحكمة البشر من حولكم، ومحكمة السماء من فوقكم، و لكل واحدة منها أمانة في أعناقكم سنحاسبكم عليها»135.
اقرءوا -إن شئتم- قول الله تعالى: (ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ) [الأنفال: ٢٧].
وقال الله تعالى: (ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻﭼ ﭽ ﭾ ﭿ) [الأنبياء: ٤٧].
وهذا الاستعداد للحساب لا يقتصر على الحياة الفردية، بل يمتد ليشمل مستوياتٍ أوسع وأعلى، فإن إمام المسلمين، أو رئيس الدولة بالتعبير المعاصر، كذلك يكون أكثر محاسبة للنفس واستعدادًا للحساب يوم القيامة؛ لأنه يشعر بعظم المسئولية وأهمية الولاية، فإن الولاية العامة أمانةٌ توجب المسئولية الدينية أمام الله تعالى: (ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ) [الزلزلة: ٧ - ٨].
(ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ) [النساء: ٥٨].
وهذا الذي جعل الخليفة الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقف ليحاسب نفسه وليعلن أنه مسئول، في كلمات كثيرة مأثورة عنه، و في وقائع عملية شاهدة. وحسبنا ما قاله لجرير بن عبد الله البجلي: «يا جرير إني قاسمٌ مسئولٌ، ولو أن سخلةً بالعراق عثرت لخفت أن يسألني الله عنها: لم لم تسو لها الطريق»136. وغيرها من النصوص عن الخلفاء الراشدين كثيرة متوافرة، و الوقائع العملية التطبيقية شاهدة ناطقة. وما ذاك إلا ثمرة من ثمرات الإيمان بالله تعالى و بالحساب والجزاء.
٤. أثره في سلوك الفرد والجماعة: القيم والغايات.
حين يؤمن الإنسان بالغيب، فيؤمن باليوم الآخر وهو غيب، ويؤمن بالجنة والنار، وهو إيمان بالغيب -كما تقدم- ويؤمن بالجزاء والحساب، حين يؤمن بهذا كله إيمان اليقين، نستطيع أن ندرك أهمية هذا فى سلوك الفرد وسلوك الجماعة إذا عرفنا نفسية الشخص الذى لا يؤمن بالآخرة وطبيعة تصوره للحياة الدنيا وطريقة شعوره بها. إن الحياة الدنيا فى حسه هى الأولى والأخيرة، والعمر فرصة واحدة إن لم تنتهب فسوف تضيع! وإذا كان العمر -مهما طال - محدودًا بسنوات، ولذائذ الحس كثيرة ومتنوعة، فالبدار البدار!
هكذا تكون القضية فى حس الذى لا يؤمن باليوم الآخر. فرصة وحيدة محدودة ينبغى أن تنتهز ويؤخذ فيها أكبر قدر من الملذات؛ ولذلك تتكالب الجاهليات دائمًا على متاع الأرض وتتصارع عليه، وتنحصر اهتماماتها فى حدود الدنيا.
والجاهلية المعاصرة نموذج لما نقول، فما الذى يشغل الأفراد فيها ويشغل الجماعات؟
أما الفرد فهو يعمل وينتج ليحصل على أكبر قدر يستطيع الحصول عليه من المال، ثم ينفق هذا المال فى الحصول على أكبر قدر من المتاع، يستوى فى حسه أن يكون من المتاع الحلال أو الحرام! بل إن فكرة الحرام لا تخطر على باله على سبيل الجد! فالأصل عنده هو الاستمتاع، قبل أن تفوت الفرصة التى إن مضت لا تعود! فما معنى الحرام فى حسه؟! إنه ليس إلا قيدًا على المتاع! وهو قيد - فى نظره- غير معقول ولا موجب له؛ لأنه يضيع الفرص المحدودة التى لن تعود!
لذلك أيضًا فإن قيد الأخلاق وقيد الضمير وقيد المشاعر الإنسانية كلها قيود غير معقولة، كقيد الحرام سواء بسواء! ومن ثم تفسد الأخلاق فى الجاهليات، ويضعف وازع المضير وتحل المصلحة محله. أما المشاعر الإنسانية والقيم العليا فتعد سخفًا وسذاجة لا تليق بإنسان عاقل، إذا هى فوتت عليه فرصة المتاع!
أما الأمم والجماعات، فقصتها لا تختلف كثيرًا عن قصة الفرد، فكل جماعة همها الحصول على أكبر قدر من المتاع (أو المزايا بتعبيرهم!) على حساب جماعة أخرى! وكل أمة همها أن تتغلب على أمة أخرى؛ لتسلبها حظها من المتاع وتأخذه لنفسها فتنشأ من ذلك الصراعات والحروب.
وأين القيم العليا؟ وأين حقوق الإنسان؟ وأين الضمير العالمي؟ وأين العهود والمواثيق؟ وأين التعاون فى سبيل الخير؟ وأين العدل؟ وأين الإخاء والمساواة؟
إنها كلها -فى الجاهلية- ألفاظ! يلوكها الناس نفاقًا ورياء، فإذا (ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ) [البقرة: ١٤ ]! لأنها كلها معوقات عن المتاع فى الفرصة والوحيدة المتاحة للمتاع!
ويتقاتل الناس، ويموت منهم من يموت، ولكنهم يموتون وهم يقاتلون فى سبيل هذا المتاع الأرضي، فإذا قيل لهم: تعالوا قاتلوا فى سبيل الله، أو فى سبيل الحق المجرد الذى لا مصلحة لهم فيه مباشرة، هزوا أكتافهم وأعرضوا عنك، إن لم يهبوا لمقاتلتك أنت؛ لأنك تدعوهم إلى شىء يفسد عليهم مصالح الدنيا ومتاع الأرض!
ومن ثم تهبط القيم فى الجاهليات وتنحصر الآفاق، كما يضعف الضمير وتفسد الأخلاق. إنه لا شيء يرفع الإنسان من ثقلة الأرض -بعد الإيمان بالله- إلا الإيمان باليوم الأخر. الإيمان بأن كل متاع زائد يتنازل عنه الإنسان فى الحياة الدنيا -طاعة لله والتزامًا بأمره- يعوض عنه فى الآخرة متاعًا أشف وأعلى وأخلد وأبقى. والإيمان فى ذات الوقت بأن كل خروج على أمر الله فى الحياة الدنيا -من أجل متاع الأرض الزائل- سيجازى عليه فى الآخرة عذابًا ليس فى طوق البشر احتماله: (ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ) [النساء: ٥٦].
أما حين يؤمن الإنسان بالغيب، فيؤمن باليوم الآخر وبما أعد الله تعالى للمؤمنين في الجنة، فإن القضية تحسم فى حسه حسمًا كاملًا وتستقر الأمور، فكل نعيم فى الدنيا لا يقاس إلى نعيم الآخرة، ولا يساوي من جهة أخرى غمسةً واحدة فى العذاب من أجله، وكل عذابٍ فى الدنيا -فى سبيل الله- لا يقاس إلى عذاب الآخرة ولا يوازي من جهة أخرى غمسة واحدة من أجله فى النعيم. وعندئذ يقدر الإنسان على موازنة ثقلة الأرض، ويقدر على الارتفاع إلى القيم العليا والأخلاق الفاضلة والمثل الرفيعة؛ لأن يوقن بالجزاء الذى سوف يناله على ذلك كله: (ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ) [آل عمران: ١٥ - ١٧].
٥. الخلود في جنات النعيم.
إن أعظم ثمرات الإيمان بالغيب، -وأركان الإيمان إنما هي في حقيقة الأمر إيمان بالغيب- هي دخول النعيم والخلود فيها أبدًا، ويرسم القرآن الكريم صورًا وضيئة وجميلة للمؤمنين يعرض فيها خصالهم وأحوالهم، وأثر الإيمان فى قلوبهم وسلوكهم، تجعلنا نحبهم ونحب أن نكون منهم؛ لتنطبق علينا تلك الأوصاف الجميلة، ولنحظى برضا الله فى الدنيا والآخرة.
وهذه الصور والأوصاف كثيرة فى القرآن؛ لأن فيها دروسًا تربوية يربينا بها الله سبحانه وتعالى حتى تستقيم فطرتنا ويستقيم سلوكنا وتصلح أحوالنا. وإليك بعض النماذج منها:
قال تعالى: (ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡﮢ ﮣ ﮤ ﮥ) [الرعد: ١٩-٢٤].
تبدأ الآيات بموازنة بين المؤمنين والكافرين يتبين منها لأول وهلة أنهم مفترقون بعضهم عن بعض فى صفاتهم ومقومات حياتهم وفكرهم. والقرآن يصف المؤمنين بأنهم هم الذين يعلمون أن ما أنزل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم من ربه هو الحق، بينما يصف الأخرين بأنهم عمى. ثم يسأل هذا السؤال الإنكاري (أي الذى جوابه دائمًا: لا) (ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ) [الرعد: ١٩]؟ والجواب لابد أن يكون: لا! فمن يقول: إن الأعمى كالبصير، وإن من يعلم كمن لا يعلم؟!
والتعبير القرآنى الجميل يوحي إلينا بأن من يعلم أن القرآن والوحي حق هو المبصر، الذى يسير فى الطريق على نور، ولا يتخبط فى سيره؛ لأنه يرى ما حوله، بينما الذى يشك فى الوحي ولا يتبعه هو الأعمى الذى يتخبط فى الطريق؛ لأنه لا يراه. وهذه حقيقة، فإن المؤمن يعرف -من وحي إيمانه- ما هى غايته فى الحياة، وما الطريق الذى ينبغي أن يسلكه ليصل إلى غايته. فغايته هى إرضاء الله سبحانه وتعالى والتقرب إليه، ووسيلته هي الأعمال الصالحة، هي الطاعة لأوامر الله. بينما الكافر لا يعرف لماذا يعيش، إلا لإرضاء ملذاته القريبة، غافلًا عن النهاية التي تنتظره فى آخر الطريق.
ثم تجيء الصفات التي يتصف بها هؤلاء المؤمنون الذين يستحقون دخول الجنة، إن الصفة الكبرى التى يتصف بها أولئك العالمون بأن القرآن حق هى أنهم يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق، ولا تحدد الآية عهدًا معينًا ولا ميثاقًا معينًا، إنما تشمل كل عهد وكل ميثاق مع الله. والعهد الأكبر هو الذي أودعه الله في الفطرة وأشهد الفطرة عليه، وهو عبادة الله الواحد بلا شريك: (ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳﭴ ﭵ ﭶﭷ ﭸﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ) [الأعراف: ١٧٢].
ولا تنتهي صفة المؤمنين بأنهم يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق، بل يستمر السياق فيصفهم بأنهم: يصلون كل ما أمر الله به أن يوصل بإطلاق وعموم وشمول، ومع القيام بهذه الصلات التى أمر الله بوصلها فهم يخشون ربهم، وهي خشية بالغيب، وهذه الخشية تجعلهم يتصرفون فى أمورهم بما يرضي الله، فيتعاملون بالصدق والأمانة والإخلاص؛ خشية أن يغضب الله عليهم، وكذلك يخافون سوء الحساب، فيتجنبون الأعمال والأقوال التى تعرضهم للحساب الشديد، مع سائر ما وصفهم الله تعالى به من صفات.
ثم يرتب الله تعالى على ذلك كله هذا الجزاء العظيم الذي يتطلع إليه المؤمنون، وياله من جزاء! ويالها من جائزة جميلة على السلوك الجميل! تتجاوزهم لتصل إلى من صلح من الآباء والأزواج و الذريات. ثم يكون التكريم والفضل الآخر العظيم والاحتفاء الكبير: (ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡﮢ ﮣ ﮤ ﮥ) [الرعد: ٢٢-٢٤].
وحسبنا في هذا المقام هذه الإشارة التي تومئ إلى الآيات الكريمة التي تتضافر لتدل على هذا الأثر للإيمان في الخلود بجنات النعيم، ونسأله تعالى الجنة وما يقرب إليه من قول أو عمل أو اعتقاد.
ثانيًا: نتائج إنكار الغيب:
١. إنكار الغيب إلحادٌ ونقصٌ في العلم، وعائقٌ أمام التقدم العلمي.
إن التنكر للغيب وجحوده من قبل الماديين، يبدو في مفهوم العلم المادي الحديث جهلًا وضلالًا وبعدًا عن العلم والحق؛ لأن العلم المادي لا يستطيع أن يحكم على الغيب؛ لأنه خارج عن مجاله، فلا يجوز علميًا إنكار شيء لأجل أنه غير مشاهد أو غير محس، أو لأنه غير قابل للتفسير.
يقول الدكتور ألكسيس كاريل: «وإذن فقد سجن الإنسان نفسه بطريقة تحكمية في حدود حواسه الخمس منذ عصر النهضة (الأوربية). أما اليوم: فنحن نعرف الكثير من ظواهر التليباثي أو (انتقال الأفكار) التي لا تقبل النقض137. ولا شك أن طبيعة التليباثي ورؤية الماضي والتنبؤ بالمستقبل لا تزال غير معروفة في أيامنا هذه، كما كانت في عهد أرسطو، ولكنا نعلم أنه لا يجوز لنا بحالٍ ما أن ننكر ظاهرة لمجرد أنها غير قابلة للتفسير أو عسيرة على الملاحظة»138.
وبمقدار ما وهب الله تعالى الإنسان من القدرة على إدراك قوانين المادة، و التعرف على طاقات الكون ومذخوراته، بمقدار ما حجب عنه من أسرار هذا الوجود وخفاياه؛ ولذلك نجد الذين يتشدقون بالعلم والمنهج العلمي اليوم، لينكروا الغيب أو ما وراء عالم الحس والمادة، نجدهم متناقضين مع العلم الذي يفرحون به؛ لأن العلم نفسه يقف أمام كثير من الظواهر لا يستطيع لها تفسيرًا ماديًا، وإنما يخضعون فيها لقدر غيبي، جعله الله تعالى جزءًا من نواميس الكون.
ويؤكد هذا ويوضح مبدأ عدم التأكد (نظرية هيزنبرغ) الذي أسهم بمشاركة مهمة في تركيب الذرة، فقد توصل من خلال أبحاثه النظرية على التركيب الذري، إلى مبدأ عدم التأكد الذي ينص على «استحالة تعيين موقع الإلكترون وسرعته معًا وبدقة». وفي ضوء هذا المبدأ يلاحظ أن المنهج العلمي التجريبي نفسه يقوم على الاحتمال، فهو يفترض أشياء وتجارب خيالية مستحيلة ثم يبني عليها نظريات معينة139.
وهذا كله وغيره أيضًا يؤكد أن إنكار الغيب إلحادٌ ونقصٌ في العلم وعائق أمام التقدم العلمي، فلو كان الإيمان بالغيب والتطلع إليه عنصرًا من عناصر الفكرة الدينية أو العقيدة وحدها، لكان الإنكار للغيب وما وراء الحس إلحادًا فحسب، ولو كانت هي النتيجة الختامية لتقدم العلوم واتساع أفقها لكان هذا الإنكار نقصًا في العلم وقصرًا في النظر وكفى. ولكن تلك الفطرة للإيمان بالغيب بنت الغريزة و الجبلة، فالأمر أعظم من النقص في العلم، إنه نكسة في فطرة الإنسان ترده إلى مستوى الحيوان الأعجم140.
٢. اتباع الهوى والشهوات والركون للدنيا.
عندما يغيب الإيمان بالغيب، وعندما يغفل الإنسان عن الآخرة وما فيها من حساب وجزاء، عندئذ يقع الإنسان فريسة الأمراض التي تصيب الفطرة البشرية، فيغلب عليه اتباع الهوى والشهوات التي تجعل الإنسان عبدًا لها، وتسيطر عليه فلا يستطيع الخلاص منها، وهي التي تورده المهالك وتنزل فيه بالدركات.
ذلك أن دين الله المنزل يشمل دائمًا أحكامًا إلهية يأمر الله تعالى البشر أن يلتزموا بها وينفذوها؛ لتستقيم حياتهم وتتوازن. قال الله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ) [الحديد: ٢٥].
ولكن حين يغلب عليها الهوى وحب الشهوات فإنها تضيق بما أنزل الله، وتحب أن تتبع شهواتها. وفى ذلك يقول الله تعالى: (ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ) [لقمان: ٢١].
(ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ) [القصص: ٥٠].
(ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ) [آل عمران: ١٤].
ومن أجل هذه الشهوات يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة كما يصفهم الله تعالى: (ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫﮬ ﮭ ﮮ ﮯ) [النحل: ١٠٧-١٠٨].
(ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ) [ إبراهيم: ٣].
وهؤلاء يرفضون الهدى الرباني، ويرفضون أن يعترفوا بالوحي المنزل من عند الله تعالى، ولو استيقنوا في دخيلة أنفسهم أنه الحق؛ لأنهم لو اعترفوا لكان عليهم أن يلتزموا، وهم يكرهون الالتزام بما أنزل الله؛ لأن شهواتهم تغلبهم وتثقل في حسهم؛ لذلك ينكرون أن ما جاء من عند الله هو الحق، ويجادلون فيه بالباطل، ويضعون قواعد وموازين للحياة وللأعمال غير ما قرر الله، ثم يزعمون أنهم هم الذين على الحق، وأن ما يتبعونه من نظم وقواعد وموازين أحق أن يتبع مما أنزل الله، فيقعون بذلك في الشرك -شرك الاتباع-.
وعلى هذه الصورة، كانت الجاهلية العربية التي ذكرها الله في القرآن ذكرًا مفصلًا في كثير من الآيات الكريمة في السور المكية بخاصة. وعلى هذه الصورة كذلك نجد نماذج كثيرة من الجاهلية المعاصرة التي غرفت في الشهوات إلى أذنيها، ورفضت الاعتراف بالوحى الرباني؛ لأنها تريد أن تتبع أهواءها، ولا تريد أن تلتزم بما أنزل الله141.
٣. الخلود في النار.
تقدم آنفًا أن أعظم ثمرات الإيمان بالله تعالى والإيمان بالغيب هو دخول جنات النعيم، مع ما أعده الله تعالى للمؤمنين من أنواع مما لا يخطر على قلب بشر. وعلى الضفة الأخرى: فإن إنكار الغيب وجحوده -الذي هو في حقيقته إنكار لله تعالى وإنكار لما أخبر الله به من الغيوب، كالجنة والنار والملائكة- يترتب عليه الخلود في نار جهنم، ولن تنفعه تلك الأعمال التي كان يعملها، ويظن أنها تدفع عنه شيئًا، أو أنها تقبل مع ما هو عليه من ضلال وحجود.
قال الله تعالى: (ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈﮉ ﮊ ﮋ ﮌ) [النور: ٣٩].
وأبان الله تعالى عن مصيرهم وخلودهم في النار، فقال سبحانه: (ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭﮮ ﮯ ﮰ ﮱ) [الزمر: ٧١- ٧٢].
يقول الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله: «لما ذكر الله تعالى حكمه بين عباده، الذين جمعهم في خلقه ورزقه وتدبيره، واجتماعهم في الدنيا، واجتماعهم في موقف القيامة، فرقهم تعالى عند جزائهم، كما افترقوا في الدنيا بالإيمان والكفر، والتقوى والفجور، فقال: (ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ) أي: سوقًا عنيفًا، يضربون بالسياط الموجعة، من الزبانية الغلاظ الشداد، إلى شر محبس وأفظع موضع، وهي جهنم التي قد جمعت كل عذاب، وحضرها كل شقاء، وزال عنها كل سرور.
ويساقون إليها (ﮈﮉ) أي: فرقًا متفرقة، كل زمرة مع الزمرة التي تناسب عملها، وتشاكل سعيها، يلعن بعضهم بعضًا، ويبرأ بعضهم من بعض. (ﮊ ﮋ ﮌ) أي: وصلوا إلى ساحتها (ﮍ) لهم أي: لأجلهم (ﮎ) لقدومهم وقرًى لنزولهم. (ﮏ ﮐ ﮑ) مهنئين لهم بالشقاء الأبدي، والعذاب السرمدي، وموبخين لهم على الأعمال التي أوصلتهم إلى هذا المحل الفظيع.
(ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ) أي: من جنسكم تعرفونهم وتعرفون صدقهم، وتتمكنون من التلقي عنهم؟ (ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ) التي أرسلهم الله بها، الدالة على الحق اليقين بأوضح البراهين. (ﮚ ﮛ ﮜ ﮝﮞ) أي: وهذا يوجب عليكم اتباعهم والحذر من عذاب هذا اليوم، باستعمال تقواه، وقد كانت حالكم بخلاف هذه الحال؟
(ﮟ) مقرين بذنبهم، وأن حجة الله قامت عليهم: (ﮠ) قد جاءتنا رسل ربنا بآياته وبيناته، وبينوا لنا غاية التبيين، وحذرونا من هذا اليوم (ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ) أي: بسبب كفرهم وجبت عليهم كلمة العذاب، التي هي لكل من كفر بآيات الله، وجحد ما جاءت به المرسلون، فاعترفوا بذنبهم وقيام الحجة عليهم.
فـ(ﮨ) لهم على وجه الإهانة والإذلال: (ﮩ ﮪ ﮫ) كل طائفة تدخل من الباب الذي يناسبها ويوافق عملها. (ﮬ ﮭﮮ) أبدًا، لا يظعنون عنها، ولا يفتر عنهم العذاب ساعة ولا ينظرون. (ﮯ ﮰ ﮱ) أي: بئس المقر، النار مقرهم؛ وذلك لأنهم تكبروا على الحق، فجازاهم الله من جنس عملهم، بالإهانة والذل، والخزي»142.
وفي آيات كثيرة جاء النص بصيغة التأبيد كقوله تعالى: (ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ) [النساء: ١٦٨- ١٦٩].
وقوله سبحانه وتعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ) [الأحزاب: ٦٣ - ٦٥].
وفي هذه الآية الكريمة الأخيرة إشارة إلى أن كفر هؤلاء الكفار وما ترتب عليه من تخليد في النار على جهة التأبيد، وليس على جهة المكث الطويل، كما قد تفيده العبارة أحيانًا. في هذا إشارة إلى أن هذا الحكم عليهم بالكفر إنما هو نتيجة تكذيبهم بالساعة، وهي غيب من غيوب كثيرة. والله أعلم.
موضوعات ذات صلة: |
الإيمان، التقوى، التوحيد، اليوم الآخر |
1 انظر: مقاييس اللغة، ابن فارس ٤/٤٠٣.
2 انظر: الصحاح، الجوهري ١/١٩٦، تهذيب اللغة، الأزهري ٢/١٨٣، المحكم والمحيط الأعظم، ابن سيده ٦/٢٥، لسان العرب، ابن منظور ١/٦٥٤، القاموس المحيط، الفيروزآبادي ٣/٤٣١، تاج العروس، الزبيدي ٢/٤٩٨-٥٠٢.
3 التفسير البسيط، الواحدي ٢/٦٩.
4 المفردات ص ٣٦٦.
وانظر: أنوار التنزيل، البيضاوي ١/٨، إرشاد العقل السليم، أبو السعود ١/٥٣.
5 التوقيف على مهمات التعاريف ص ٥٤٤.
6 انظر: المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، محمد فؤاد عبد الباقي، ص٥٠٧.
7 انظر: الوجوه والنظائر، الدامغاني ص٣٥٠، ٣٥١، نزهة الأعين النواظر، ابن الجوزي ص٤٥٧- ٤٥٨.
8 انظر: مقاييس اللغة، ابن فارس ٤/٤٠٣، لسان العرب، ابن منظور ١/٦٥٤.
9 انظر: تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٥/٢٤٦.
10 انظر: جامع البيان، الطبري ١٥/٥٧٥.
11 انظر: لسان العرب، ابن منظور ١٥/١٨٦.
12 التعريفات، الجرجاني ١/١٧٧.
13 انظر: رسائل في العقيدة، ابن عثيمين ص٣٧.
14 انظر: لسان العرب، ابن منظور ٥/٧٤.
15 التعريفات، الجرجاني ص ١٧٤.
16 انظر: تعريف القضاء والقدر وحكم الإيمان به، محمد الشاوي، شبكة الألوكة.
17 انظر: مقاييس اللغة، ابن فارس ٣/١٢١.
18 انظر: التوقيف على مهمات التعاريف، المناوي ١/٢٠٨، التعريفات، الجرجاني ص ١٠٩، كشاف اصطلاحات الفنون، التهانوي ١/١٠٤٣.
19 انظر: الكشاف، الزمخشري ٣/١٩١.
20 انظر: لعقيدة الإسلامية في القرآن الكريم، عثمان جمعة ضميرية، ص٢٦-٦٢.
21 انظر: جامع البيان، الطبري ٧/٤٢٧.
22 تيسير الكريم الرحمن ص١٥٨.
وقال ابن عاشور في التحرير والتنوير ٤/١٧٩: «(ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ) عطف على قوله: (ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ) يعني: أنه أراد أن يميز لكم الخبيث فتعرفوا أعداءكم، ولم يكن من شأن الله إطلاعكم على الغيب، فلذلك جعل أسبابًا من شأنها أن تستفز أعداءكم فيظهروا لكم العداوة فتطلعوا عليهم، وإنما قال: (ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ)، لأنه تعالى جعل نظام هذا العالم مؤسسًا على استفادة المسببات من أسبابها، والنتائج من مقدماتها».
23 وليس في الآية الكريمة أداة حصر، كما في حديث مفاتح الغيب خمس، ثم قرأ الآية الكريمة كما سيأتي.ووجه الحصر في هذه الأمور الخمسة: أن الفعل إذا كان عظيم الخطر، وما ينبني عليه الفعل رفيع الشأن، فهم منه الحصر على سبيل الكناية، لاسيما إذا لوحظ فيه ما ذكر في أسباب النزول من أن العرب كانوا يدعون علم نزول الغيث، فيشعر بأن المراد من الآية نفي علمهم بذلك واختصاصه بالله سبحانه وتعالى وحده، وفي تقديم قوله: (ﯬ) ما يشعر بذلك أيضًا.
انظر:فتح الباري، ابن حجر ١/١٢٤، عمدة القاري، العيني ٢/٢٩٣.
24 انظر: التحرير والتنوير، ابن عاشور ١١/١٣١.
25 جامع البيان، الطبري ١٥/٥٤٤-٥٤٥.
26 انظر: التحرير والتنوير ١٢/١٩٤.
27 انظر: تيسير الكريم الرحمن، السعدي، ص ٦٠٨.
28 زاد المسير، ابن الجوزي ٦/٨٤.
29 في ظلال القرآن، سيد قطب ٦/٣٣٦٥.
30 معالم التنزيل، البغوي ٧/٣٦٢-٤٦٣.
31 انظر: جامع البيان، الطبري ٩/٣٥٢-٣٥٣، البحر المحيط، أبو حيان ٣/٣٨٥، دراسات قرآنية، محمد قطب، ص ١٠٢، الإسلام وعلاقته بالشرائع الأخرى، عثمان ضميرية، ص٢٢-٢٥.
32 انظر: الدر المصون ٧/٦١٢.
33 انظر: تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٥/٢٤٧-٢٤٨.
34 انظر: تيسير الكريم الرحمن، السعدي، ص ٤٩٦.
35 أخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده، ص ٣٠٦، والحاكم في المستدرك ٢/١٦١، وقال: صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه.
36 انظر: جامع البيان، الطبري ٨/٢٩٥-٢٩٨، ومعالم التنزيل، البغوي ٢/٢٠٧-٢٠٨.
37 انظر: إرشاد العقل السليم، أبو السعود ٢/٧٧.
وأفاض في هذا المعنى السيد رشيد رضا في المنار ٥/٥٥-٥٨.
38 في ظلال القرآن ٢١/٢٧٩٩.
39 في ظلال القرآن ٧/١١١١-١١١٣.
40 كشاف اصطلاحات الفنون ٣/١٠٩٠، وأصله في أنوار التنزيل، البيضاوي، ١/٨.
41 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التوحيد ١٣/٣٦١، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، ١/٣٩-٤٠.
42 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، ٨/٢٩١، رقم ٥١٣-٥١٤.
43 أخرجه الإمام أحمد في المسند ٥/٣٥٣، والبزار ١٠/٢٥، ورجال أحمد رجال الصحيح، كما قال الهيثمي في مجمع الزوائد ٧/٩٠-٨٩.
44 فتح الباري، ابن حجر ١/١٢٤.
45 أخرجه أحمد في المسند ١/٨.و الطيالسي، ص٥١ و٢٤٩.
قال الهيثمي في مجمع الزوائد ٨/٢٦٣: «أخرجه أحمد وأبو يعلى ورجالهما رجال الصحيح».
46 مسند الطيالسي، ص٢٤٩ رقم ١٨٠٩.
وانظر: فتح الباري، ابن حجر ٨/٥١٤، وذكره ابن كثير في التفسير: ٣/٤٥٥، وقال: «هذا إسناد حسن على شرط أصحاب السنن ولم يخرجوه».
47 أخرجه أحمد في المسند ٢/٨٥، وأبو يعلى في المسند رقم ٥١٥٣. ويشهد له ما في الصحيحين كما تقدم.
48 انظر: فتح الباري ١٣/٣٦٤.
49 انظر: المختار من كنوز السنة، محمد عبد الله دراز ص ٢٩٨-٣٠٠، تفسير المنار، محمد رشيد رضا ٧/٤٢٢-٤٢٦وما بعدها، الوحي المحمدي، محمد رشيد رضا، ص ٢٠٨.
50 انظر: درء تعارض العقل والنقل، ابن تيمية ٥/٧٣، والمنار، محمد رشيد رضا ٧/٤٢٢، وفتح الباري، ابن حجر ١٣/٣٦٥، و المختار من كنوز السنة، محمد عبد الله دراز، ص ٢٩٨.
51 الرسالة التدمرية، ابن تيمية، ص٦١-٦٢، وهي في مجموع الفتاوى أيضًا ٣/١-١٢٨.
52 أخرجه البخاري في بدء الخلق ٦/٣١٨، وفي التفسير ٨/٥١٥، ومسلم في الجنة وصفة نعيمها ٤/٢١٧٤.
53 انظر: درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية ٥/٧٣.
54 درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية ٥/٧٣، ويقول أيضًا في مجموع الفتاوى ٢٤/٢٥٦: «أما العلم بالعادة في الكسوف والخسوف، فإنما يعرفه من يعرف حساب جريانهما، وليس خبر الحاسب بذلك من باب علم الغيب ولا من باب ما يخبر به من الأحكام التي يكون كذبه فيها أعظم من صدقه، فإن ذلك قول بلا علم ثابت وبناء على غير أصل صحيح».وانظر: فتح الباري، ابن حجر ١٣/٣٦٥، المختار من كنوز السنة، د.محمد عبد الله دراز ص ٢٩٨، مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح لملا علي القاري ١/٦٢.
55 انظر: التحرير والتنوير، ابن عاشور: ٦/١٣٦.
56 ولا يفهم من هذا أن الغيب محصور في تلك الخمس التي ذكرها الله تعالى من سورة لقمان وفسر بها النبي عليه الصلاة والسلام مفاتح الغيب، فقد صرح الله تعالى في القرآن الكريم بغيرهن في مواطن كثيرة من ذلك: حقيقة الروح، وتفصيل بدء الخلق وتفصيل النشأة...إلى غير ذلك. وإنما اقتصرت الآية على تلك الخمس؛ لأن النفوس كلها تتطلع وتتشوق إلى معرفتها، ولأنها وردت مجموعة في سؤال الناس للنبي كما سيأتي في السياق.
57 أخرجه الإمام أحمد في المسند ٣٨/٣٠٧، والنسائي في عمل اليوم والليلة، رقم ٣١٦.
وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، ٦/٤٧٧، رقم ٢٧١٢.
58 انظر: جامع البيان، الطبري ٢١/٨٨.
59 في ظلال القرآن، سيد قطب ٧/١٠٦٨ـ ١٠٧٣، ٩/١٤٠٨.
60 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الإيمان، باب سؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان والإسلام والإحسان، ١/١٩، رقم ٥٠، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان، ١/٤٠، رقم ١٠.
61 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب عمر رضي الله عنه، ٥/١٢، رقم ٣٦٨٨.
62 انظر: فتح الباري، ابن حجر ١١/٣٥٢-٣٥٣.
63 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الرقاق، باب طلوع الشمس من مغربها، ٨/١٠٦، رقم ٦٥٠٦، ومسلم في صحيحه، كتاب الفتن، باب قرب الساعة، ٤/٢٢٧٠، رقم ٢٩٥٤.
64 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الرقاق، باب قول النبي: (بعثت أنا والساعة كهاتين)، ٨/١٠٥، رقم ٦٥٠٤، ومسلم في صحيحه، كتاب الفتن، باب قرب الساعة، ٤/٢٢٦٨، رقم ٢٩٥١.
65 أخرجه الترمذي في سننه، أبواب القدر، باب ما جاء في قول النبي: (بعث أنا والساعة كهاتين)، ٤/٤٩٦، ٢٢١٣.
قال الترمذي: «هذا حديث غريب».
وضعفه الألباني في ضعيف الجامع، ص ٣٤٥، رقم ٢٣٣٩.
66 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الزهد، ٤/٢٢٧٨، رقم ٢٩٦٧.
67 انظر: الله والكون، محمد جمال الدين الفندي، ص١٧٩.
68 أخرجه البخاري في صحيحه، أبواب الاستسقاء، باب قول الله: (وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون)، ٢/٣٣، رقم ١٠٣٨، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب بيان كفر من قال: مطرنا بالنوء، ١/٨٣، رقم ٧١.
69 انظر: نظم الدرر، البقاعي ١٥/٢١٧.
70 المصدر السابق ١٥/٢١٨-٢١٩.
وانظر فتح الباري، ابن حجر ١/١٢٤، روح المعاني، الألوسي ٢١/١١.
71 أخرجه أحمد في المسند، ٣/٤٢٩، والبخاري في الأدب المفرد ص٣٧٠.
وصححه الألباني في صحيح الجامع، ١/١١٨، رقم ٣١١.
72 نظم الدرر، البقاعي ١٥/٢١٩.
73 في كتابه: بهجة النفوس وتحليها بمعرفة ما لها وما عليها ٤/٢٧١.
74 سبق تخريجه قريبًا.
75 انظر: المختار من كنوز السنة، محمد عبدالله دراز، ص ٢٩٧.
76 بهجة النفوس شرح مختصر البخاري، ابن أبي جمرة ٤/٢٧١.
77 تفسير المنار، محمد رشيد رضا ٧/٤٦٨-٤٦٩.
78 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب معنى قول الله عز وجل: (ولقد رآه نزلة أخرى)، ١/١٥٩، رقم ١٧٧.
79 شرح العقيدة الطحاوية ١/٣٤٣.
80 حاشية ابن عابدين ٤/٢٤٢-٢٤٣.
81 الجامع لأحكام القرآن ٧/٢.
82 نقله عنه ابن حجر العسقلاني في فتح الباري ١/١٢٣-١٢٤.
83 أحكام القرآن، ابن العربي ٢/٧٣٨-٧٣٩.
84 الفروع، ابن مفلح ٣/٢٢٤.
85 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الجنائز، باب التشديد في النياحة، ٢/٦٤٤، رقم ٩٣٤.
86 تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد، سليمان بن عبد الله آل الشيخ، ص ٤٥٤ - ٤٥٥.
87 قال المناوي: «العراف الكاهن، لكن العراف يختص بالأحوال المستقبلية، والكاهن يخبر بالماضي».وقيل غير ذلك.والمنجم الذي يترصد النجوم ثم استعمل بمعنى الذي يحسب سير النجوم وعلاقتها بالأفعال البشرية.وفي الفرق بين هذه الألفاظ انظر: الكليات، الكفوي: ٤/١٢٩، التوقيف على مهمات التعاريف، المناوي، ص٥٠٩، المفردات، الراغب، ص ٧٢٨، عمدة الحفاظ للسمين الحلبي، ص ٥٠٤، بصائر ذوي التمييز، الفيروزآبادي: ٤/٣٩٨.
88 الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، ص ٤٢.
89 أخرجه الإمام أحمد في المسند ،٢/٤٢٩، ٤٧٦، وأبو داود في سننه، كتاب الطب، باب الكاهن، ٥/٣٧٠، والترمذي في سننه، أبواب الطهارة، باب ما جاء في كراهية اتيان الحائض، ١/٤١٨-٤١٩.
قال الترمذي: «لا نعرف هذا حديث حكيم الأثرم عن ابن تميمة الهجمي عن أبي هريرة وضعف محمدٌ، البخاري، هذا الحديث قبل إسناده».
وصححه الألباني في إرواء الغليل، ٧/٦٨، رقم ٢٠٠٦.
90 انظر: المحكم والمحيط الأعظم، ابن سيده ٤/١٤٣، لسان العرب، ابن منظور ١٣/٣٦٢-٣٦٣.
91 انظر: أبجد العلوم، محمد صديق خان ٢/٤٥٣، مفتاح السعادة، طاش كبرى زاده ١/٣٤٠-٣٤١.
92 كما نقله ابن حجر في الفتح ١٠/٢١٧.
93 المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، القرطبي ١٨/١٠٦.
94 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٧/٣-٤.
95 سبق تخريجه قريبًا.
96 أخرجه البزار في مسنده، ٥/٢٥٦و٣١٥، و١٦/٢٩٤.
قال الهيثمي في المجمع ٥/١١٧: «رجاله رجال الصحيح خلا عقبة ابن سنان، وهو ضعيف».
97 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب السلام، باب تحريم الكهانة وإتيان الكهان، ٤/١٧٥١، رقم ٢٢٣٠.
98 أخرجه أبو يعلى في المسند، رقم ٥٤٠٨.
99 أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط، ٧/٣٤٧، رقم ٦٦٦٦، والبزار في مسنده، ٥/٢٥٦.
قال الهيثمي في مجمع الزوائد ٥/١١٨: رجال الكبير والبزار ثقات.
100 فتح الباري، ابن حجر ١٠/٢١٧.
وانظر: مرقاة المفاتيح، ملا علي القاري ٩/١٦-١٧.
101 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٧/٣.
102 القر: ترديد الكلام في أذن المخاطب حتى يفهمه
103 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب السلام، باب تحريم الكهانة وإتيان الكهان، ٤/١٧٥٠، رقم ٢٢٢٨.
104 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب بدء الخلق، باب ذكر الملائكة، ٤/١١١، رقم ٣٢١٠.
105 انظر: أبجد العلوم، صديق خان ٢/٣٧٩، ومفتاح السعادة، طاشكبري زاده ١/٣٣٢.
106 معالم السنن، لخطابي، بهامس مختصر سنن أبي داود للمنذري ٥/٣٧٠.
107 انظر: تيسير العزيز الحميد ص ٤١٢.
108 النهاية، ابن الأثير ٣/٢١٨.
109 مفتاح دار السعادة، ابن القيم ٢/٢٢٩.
110 تيسير العزيز الحميد، سليمان بن عبد الله، ص ٤١٢-٤١٤.
111 انظر: كشف الظنون، حاجي خليفة ٢/١٩٣-١٩٤، أبجد العلوم صديق خان ٢/٥٥١-٥٥٩.
112 انظر: مقدمة ابن خلدون ١/١٩٥.وقد رد عليهم شيخ الإسلام ابن تيمية وبين خطأهم، كما في مجموع فتاوى ابن تيمية ٣٥/١٧٢-١٧٣.
113 أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الطب، باب في النجوم ٥/٣٧١، وابن ماجه في سننه، كتاب الأدب، باب تعلم النجوم ٢/١٢٢٨.
وصححه الألباني في صحيح الجامع، ٢/١٠٤٩، رقم ٦٠٧٤.
114 معالم السنن، الخطابي ٥/٣٧١-٣٧٢، مع مختصر المنذري.
115 فضل علم السلف على علم الخلف، ابن رجب الحنبلي، ص٣٤-٣٥.
116 حاشية ابن عابدين ١/٤٣-٤٤ و٤/٢٤٣.
117 تيسير العزيز الحميد، ص٤٤١-٤٤٨.
118 انظر: خلق الإنسان بين الطب والقرآن، محمد علي البار، ص ٢٩٧- ٢٩٩.
119 المصدر السابق، ص ٢٩٩.
120 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب بدء الخلق، باب ذكر الملائكة، ٤/١١١، رقم ٣٢٠٨، ومسلم في صحيحه، كتاب القدر، باب كيفية الخلق الآدمي في بطن أمه، ٤/٢٠٣٦، رقم ٢٦٤٣.
121 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب أحاديث الأنبياء، باب خلق آدم، ٤/١٣٣، رقم ٣٣٣٢.
122 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب القدر، باب كيفية الخلق الآدمي في بطن أمه، ٤/٢٠٣٧، رقم ٢٦٤٤.
123 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الاستسقاء، باب لا يعلم متى يجيء المطر إلا الله، ٢/٣٣، رقم ١٠٣٩.
124 تحفة المودود بأحكام المولود، ابن القيم، ص ٣٨١-٣٨٢.
125 أحكام القرآن، الجصاص ٣/٢٢٨.
126 أخرجه البخاري في كتاب التفسير، باب قوله: (إن الله عنده علم الساعة)، ٦/١١٥، رقم ٤٧٧٨.
127 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التوحيد، باب قوله: (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدًا)، ٩/١١٦، رقم ٧٣٧٩.
128 مفاتح الغيب وعلم ما في الأرحام، مقال للدكتور عبد الجواد محمد الصاوي، بمجلة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة، تصدرها رابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة، العدد ٢٨ ص٣٣.
129 المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية ٢/٦٦٨-٢٦٩.
130 انظر: جامع البيان، الطبري ١٦/٣٥٩-٣٦٥، ومعالم التنزيل، البغوي ٤/٢٩٧-٢٩٨.
وانظر: خلق الإنسان بين الطب والقرآن، محمد علي البار، ص ٦٩-٨٢.
131 مجلة الإعجاز العلمي في القرآن، مقال الدكتور عبد الجواد الصاوي ص ٣٥، و له أيضًا: غيض القرآن بمجلة الفرقان الأردنية، العدد ٥٢، جمادى الأولى ٢٠٠٦م.
132 في ظلال القرآن، سيد قطب ١/١١٨-١١٩.
133 دراسات إسلامية، محمد عبد الله دراز، ص٧٣-٧٨.
134 انظر: ماذا خسر العالم بانحطاط المسمين، أبو الحسن الندوي، ص ٩٣، في ظلال القرآن، سيد قطب ٢/٦٦٣-٦٦٦.
135 انظر: دراسات إسلامية، محمد عبد الله دراز، ص٧٣-٧٨.
136 أخرجه أبو يوسف في الخراج، ص١٢٧، وابن الجوزي في سيرة عمر بن الخطاب، ص١١٣.
137 كنداء عمر بن الخطاب رضي الله عنه في المدينة المنورة لسارية بن زنيم في العراق عندما كان على رأس جيش الفتح لبعض البلاد.فبينما عمر يخطب جعل ينادي: «يا ساري الجبل ثلاثًا! ثم قدم رسول الجيش، فسأله عمر، فقال: يا أمير المؤمنين هزمنا، فبينما نحن كذلك إذ سمعنا مناديًا: يا سارية الجبل، ثلاثًا، فأسندنا ظهورنا بالجبل، فهزمهم الله.فقيل لعمر: إنك كنت تصيح بذلك».
انظر:البداية والنهاية، ابن كثير ٧/١٣١، والسلسلة الصحيحة، الألباني ٣/١٠١.
138 تأملات في سلوك الإنسان، إلكسيس كاريل، ص ١٦٢.
139 انظر: الكيمياء العامة تفاعل المادة، الطاقة، الإنسان، تأليف فريدريك لونجو، ترجمة مروان كمال ومجموعة أساتذة جامعيين، ص ٦٦-٦٨، عالم الغيب والشهادة في التصور الإسلامي، عثمان جمعة ضميرية، ص٥٧-٦١.
140 انظر: الدين، بحوث ممهدة لدراسة تاريخ الأديان، محمد عبد الله دراز، ص٩٥.
141 انظر: ركائز الإيمان، محمد قطب، ص ٧٨.
142 تيسير الكريم الرحمن، السعدي، ص ٧٣٠.