عناصر الموضوع
غزوة تبوك
أولًا: أسماؤها:
ورد في كتب السيرة أكثر من تسمية لهذه الغزوة المباركة، وسوف أذكر هذه الأسماء وحكمة التسمية فيما يأتي:
١. غزوة تبوك.
وقد ورد هذا الاسم في أحاديث صحيحة، ففي صحيح مسلم عن معاذ بن جبل قال: (خرجنا مع رسول الله عام غزوة تبوك، فكان يجمع الصلاة، ثم قال: (إنكم ستأتون غدًا إن شاء الله عين تبوك وإنكم لن تأتوها حتى يضحى النهار)1.
وتسمية الغزوة بهذا الاسم واضح، فإنه المكان الذي انتهى إليه مسير المسلمين، وتبوك مدينة من مدن شمال الحجاز الرئيسية، بها إمارة الآن تعرف بإمارة تبوك، وهي تبعد عن المدينة ٧٧٨ كيلو مترًا على طريق معبدة تمر بخيبر وتيماء، وقد كانت وقتئذ من ديار قضاعة تحت سلطة الروم2.
٢. غزوة العسرة.
والعسرة: الشدة وضيق الحال والعدم، ومنه قوله تعالى: (ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ)[البقرة:٢٨٠].
وقد وردت هذه التسمية في سورة التوبة، قال تعالى: (ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ)[ التوبة: ١١٧] وساعة العسرة أي: وقت العسرة، والمراد جميع أوقات تلك الغزاة ولم يرد ساعة بعينها3.
ووردت التسمية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: (من جهز جيش العسرة فله الجنة)4.
ووردت التسمية عن جمع من الصحابة الكرام، منهم: أبو موسى الأشعري رضي الله عنه حيث قال: (أرسلني أصحابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أسأله الحملان لهم، إذ هم معه في جيش العسرة، وهي غزوة تبوك)5.
ومنهم: يعلى بن أمية رضي الله عنه حيث قال: (غزوت مع النبي صلى الله عليه وسلم جيش العسرة، فكان من أوثق أعمالي في نفسي)6.
ومما سبق يتضح أن التسمية كانت مشهورة بين الصحابة الكرام؛ لورودها في القرآن الكريم وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولأنهم كانوا يرون العسرة أمام أعينهم وليس بعد العيان بيان.ومن الشواهد الواردة على العسرة في الغزوة ما ورد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (خرجنا إلى تبوك في قيظ شديد، فنزلنا منزلا أصابنا فيه عطش شديد؛ حتى ظننا أن رقابنا ستقطع؛ حتى إن الرجل لينحر بعيره فيعتصر فرثه فيشربه)7.
ونحوه عن محمد بن عبد الله بن عقيل، وفيه تفصيل للعسرة حيث قال: «خرجوا في غزوة تبوك الرجلان والثلاثة على بعير، وخرجوا في حر شديد فأصابهم يومًا عطش؛ حتى جعلوا ينحرون إبلهم فيعتصرون أكراشها ويشربون ماءها، فكان ذلك عسرة من الماء، وعسرة من النفقة، وعسرة من الظهر»8.
٣. الفاضحة.
قال الزرقاني: «وتعرف بالفاضحة لافتضاح المنافقين فيها»9. ومن المعلوم أن عبد الله ابن عباس رضي الله عنهما كان يسمي سورة التوبة بالفاضحة، قال: «التوبة هي الفاضحة، ما زالت تنزل: ومنهم ومنهم حتى ظنوا أنها لن تبقي أحدًا منهم إلا ذكر فيها»10.
وقد نزلت سورة التوبة وفيها التعقيب على غزوة تبوك ففضحت سرائر المنافقين في الغزوة، وأظهرت ما كان خفيًّا من سوء باطنهم.
ثانيًا: زمان الغزوة:
اتفق أرباب السير على أن غزوة تبوك كانت في رجب من العام التاسع للهجرة11.
قال ابن عباس: «لبث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد خروجه من الطائف ستة أشهر، ثم أمره الله بغزوة تبوك، وهي التي ذكر الله ساعة العسرة»12.
قال ابن حجر: «وليس مخالفًا لقول من قال: في رجب، إذا حذفنا الكسور؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قد دخل المدينة من رجوعه من الطائف في ذي الحجة»13.
وقد ذكروا أن خروجه صلى الله عليه وسلم إلى تبوك كان يوم الخميس، عن كعب بن مالك قال: «إن ا لنبي صلى الله عليه وسلم خرج يوم الخميس في غزوة تبوك، وكان يحب أن يخرج يوم الخميس»14.
قال العامري: «لخمس خلون من رجب»15.وأقام رسول الله في تبوك عشرين ليلة16.
أما تحديد زمنها بالتقويم الشمسي فلا شك أنه كان في وقت اشتداد الحر في موسم الصيف، وهذا ما يظهر بوضوح في قوله تعالى مخبرًا عن المنافقين: (ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ)[التوبة:٨١].
وقد ذهب بعض المصنفين في السيرة إلى أنها كانت في نوفمبر، والأقرب ما ذكره بعضهم من أنها كانت في شهر إبريل والله أعلم»17.
وكان عدد المسلمين ثلاثين ألفًا منهم عشرة آلاف فارس18، واستخلف على المدينة سباع بن عرفطة، وعهد إلى علي بن أبي طالب القيام على أمور أهل بيته.
ثالثًا: حكمة ذكر غزوة تبوك في سورة التوبة:
سورة التوبة من السور المدنية التي تأخر نزولها، بل ورد عن البراء رضي الله عنه أنه قال: «آخر آية نزلت (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ)وآخر سورة نزلت براءة»19.
وفيها كثير من الأمور المحكمة التي لم تنسخ ومنها أحكام الجهاد، فمن خلال تتبع أحكام القتال ومراحل تشريعه وجدنا أن سورة التوبة قد ذكرت الموقف النهائي من كل الطوائف، قال ابن القيم: «ثم كان الكفار معه بعد الأمر بالجهاد ثلاثة أقسام: أهل صلح وهدنة، وأهل حرب، وأهل ذمة، فأمر بأن يتم لأهل العهد والصلح عهدهم وأن يوفي لهم به ما استقاموا على العهد، فإن خاف منهم خيانة نبذ إليهم عهدهم ولم يقاتلهم حتى يعلمهم بنقض العهد، وأمر أن يقاتل من نقض عهده. ولما نزلت سورة (براءة) نزلت ببيان حكم هذه الأقسام كلها، فأمره فيها أن يقاتل عدوه من أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية أو يدخلوا في الإسلام، وأمره فيها بجهاد الكفار والمنافقين والغلظة عليهم فجاهد الكفار بالسيف والسنان، والمنافقين بالحجة واللسان»20.
ففي السورة الأحكام النهائية للجهاد، وفيها المثال العملي بتفاصيل آخر غزوة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبيان ما حدث فيها من المؤمنين والمنافقين. وما استحقوه من جزاء رباني.
ومقصود السورة يشير إلى هذا، فقد ذكر البقاعي أن مقصود السورة: «معاداة من أعرض عما دعت إليه السور الماضية، من اتباع الداعي إلى الله في توحيده، واتباع ما يرضيه، وموالاة من أقبل عليه»21.
ولما كانت سورة التوبة من آخر السور نزولا فقد جاءت بالقول الفصل في كثير من الأحكام المتعلقة بالآخر، فقد ورد فيها تفصيل القول في عهود المشركين وأقسامهم، وورد فيها تفصيل الموقف من أهل الكتاب ومن المنافقين. وكلا الموضوعين مرتبط بغزوة تبوك.
لقد كانت غزوة تبوك مع نصارى الروم، وقد تعرضت السورة للكلام عن أهل الكتاب وموقفهم من الدعوة الإسلامية وذلك من الآية (٢٩)إلى الآية (٣٤) وكان هذا الحديث تمهيدا للحديث عن غزوة تبوك من أول الآية (٣٨)إلى الآية (١٢٧) وفيها حديث مطول عن المنافقين ومواقفهم قبل الغزوة وأثناءها وبعدها، وإذا كان الحديث عن المنافقين قد ورد في كثيرمن السور المدنية إلا أن أطول حديث وأشده كان في سورة التوبة، إن الغزوة كانت الفرصة الأخيرة والامتحان النهائي للصف المسلم قبل أن يلحق الرسول صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى، فكان لابد أن تتمايز الصفوف ويعرف كل فرد مكانه، ويميز الله الخبيث من الطيب وينكشف أمر النفاق انكشافًا تامًّا.
وأسلوب السورة فيه القوة والشدة معهم، فلم يعد هناك مجال أو وقت للملاينة بعد أن ظهر نفاقهم سافرًا في تبوك؛ ولذلك جاءت أسماء السورة تحمل هذه المعاني، فهي براءة من الكفار ومن على شاكلتهم، وهي الفاضحة التي نزلت بفضيحة المنافقين، وهي سورة العذاب التي نزلت بالعذاب على المنافقين، وهي المقشقشة التي تشفي قلب المؤمن من النفاق، وهي المثيرة والحافرة التي تكشف خبيئات المنافقين، وهي المبعثرة المخزية، المنكلة، المشردة، المدمدمة، الكاشفة، العاصفة، الفارقة، المحرضة22.
ومع هذه الشدة والغلظة في جهاد المنافقين الذي يعتمد على الكلمة لا على القوة وعلى اللسان لا على اليد، نجد مع هذا أن السورة هي سورة التوبة وأنها أكثر سورة في القرآن ورد فيها لفظ التوبة بمشتقاته المتعددة: (تاب، تابوا، تبتم، يتوب، التواب، يتوبوا، ليتوبوا، يتوبون، التوبة، التائبون) ولم يتكرر لفظ التوبة في أي سورة من القرآن كما تكرر في هذه السورة. وذلك حتى يظل باب المغفرة مفتوحًا لمن ندم وأناب (ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ)[التوبة:٧٤].
وقد تحدثت السورة عن جهاد المال، وقرنت بين الجهاد بالمال والنفس في خمس آيات، وبينت فضيلة الإنفاق وثواب المنفقين وعقوبة الكانزين، وفصلت مصارف الزكاة، وهذا الحديث مرتبط أيضا بغزوة تبوك، غزوة العسرة والشدة التي وعدت بالخيرات من جاهد بماله ونفسه، وكما كشفت السورة المنافقين فإنها كذلك نوَّهت بقدر المؤمنين وبإنفاقهم أموالهم في سبيل الله.
رابعًا: أسباب تصريح الرسول صلى الله عليه وسلم بالخروج لغزوة تبوك:
كانت عادة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستعمل التورية إذا أراد الخروج في غزوة؛ وذلك لكي يبغت العدو ويفجأهم فلا يأخذوا أهبتهم للقتال؛ وكان هذا الأمر مطَّردًا في كل الغزوات إلا غزوة تبوك، وهذا ما صرح به كعب بن مالك رضي الله عنه، حيث قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قلَّما يريد غزوة يغزوها إلا ورَّى بغيرها، حتى كانت غزوة تبوك، فغزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حر شديد، واستقبل سفرًا بعيدًا ومفازًا، واستقبل غزو عدوكثير، فجلَّى للمسلمين أمرهم، ليتأهَّبوا أهبة عدوهم، وأخبرهم بوجهه الذي يريد)23.
فالإسرار من قبيل الخداع المحمود في الحرب، أما خصوصية تبوك في عدم التورية وفي صريح الإعلان عنها فإن ذلك راجع لعدة أساب؛ منها ما ذكره المهلب بقوله: «وأخبرهم صلى الله عليه وسلم بغزوة تبوك لطول المدة؛ ليتأهبوا -كما ذكر فى الحديث- ولأنه آمن ألا يسبقه إليها الخبر لبعد الشقة التي بينه وبينها وقفرها»24.
ومنها ما ذكره اللواء محمود خطاب، حيث قال في تعليل التصريح: «لأن المسافة طويلة يجب قطعها صيفا، فلا بد من إكمال المؤنة والنقلية للمجاهدين قبل الحركة،حتى لايؤدي نقص القضايا الإدارية إلى إخفاق المسلمين في تحقيق هدفهم المنشود.وليس من السهل تجهيز قوات المسلمين الكبيرة بما تحتاجه من مؤنة ونقلية وأسلحة، مالم يشارك أغنياء المسلمين في تجهيز هذا الجيش مشاركة فعالة، فأقبل هؤلاء الأغنياء على بذل أموالهم بسخاء وعن طيبة خاطر»25.
ونستخلص من هذا أن للتصريح بالغزوة أسبابا عديدة نجملها فيما يأتي:
لقد ذكر كُتَّاب السِّير عدَّة أسباب لغزوة تبوك، منها:
قال ابن سعد: «بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الروم قد جمعت جموعًا كثيرة بالشام، وأن هرقل قد رزق أصحابه لسنة وأجلبت معه لخم وجذام وعاملة وغسان وقدموا مقدماتهم إلى البلقاء، فندب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلى الخروج»26.
ولم يأت هذا القول مسندًا، لكن ورد في السنة الصحيحة أن الصحابة كانوا يترقبون مجيء قبائل الروم إلى المدينة، فقد ورد عن عمر رضي الله عنه قال: «وكان لي صاحب من الأنصار إذا غبت أتاني بالخبر، وإذا غاب كنت أنا آتيه بالخبر، ونحن نتخوف ملكًا من ملوك غسان، ذكر لنا أنه يريد أن يسير إلينا، فقد امتلأت صدورنا منه، فإذا صاحبي الأنصاري يدق الباب، فقال: افتح افتح. فقلت:جاء الغساني؟ فقال: بل أشد من ذلك، اعتزل رسول الله صلى الله عليه وسلم أزواجه»27.
وقال اليعقوبي: «وغزاة تبوك غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في جمع كثير من أرض الشام، يطلب بدم جعفر بن أبي طالب»28.
ويرى آخرون أن السبب المباشر مقتل فروة بن عمرو الجذامي الذي كان قائدًا من قوَّاد الروم، وواليا لهم على من يليهم من العرب، وكان منزله معان وما حولها من أرض الشام. فلما بلغ الروم ذلك من إسلامه طلبوه حتى أخذوه فحبسوه وقتلوه29.
ومن الثابت أن مقتل جعفر رضي الله عنه كان في غزوة مؤتة سنة ثمان من الهجرة، وقد يكون هذا من جملة الأسباب الداعية إلى غزوة تبوك، ولكنه لا يرقى بمفرده أن يكون سببًا للغزوة. ويقال هذا في مقتل فروة أيضًا، والله أعلم.
وروي عند ابن عساكر عن عبد الرحمن ابن غنم رضي الله عنه أن اليهود أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا فقالوا: يا أبا القاسم، إن كنت صادقًا أنك نبي فالحق بالشام؛ فإن الشام أرض المحشر وأرض الأنبياء. فصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فغزا غزوة تبوك لا يريد إلا الشام. فلما بلغ تبوك أنزل الله عليه آيات من سورة بني إسرائيل (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ) [الإسراء:٧٦: ٧٧]30.
وفي الإسناد ضعف، والظاهر أن هذا ليس بصحيح، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخرج للغزوة بسبب قول اليهود، بالإضافة إلى أن الآية مكية31.
وروى الطبري عن مجاهد قال: «قال المؤمنون: كنا نصيب من متاجر المشركين. فوعدهم الله أن يغنيهم من فضله عوضًا لهم بأن لا يقربوهم المسجد الحرام. فهذه الآية من أول براءة في القراءة، ومن آخرها في التأويل: (ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ) [التوبة: ٢٩] إلى قوله: (ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ)[التوبة: ٢٩]. حين أمرمحمد وأصحابه بغزوة تبوك»32.
ومع أن النصوص النبوية تشير إلى أن الجهاد باب من أبواب الرزق كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (وجعل رزقي تحت ظل رمحي)33.
إلا أن حمل الآية على العموم أولى، فقد فتح الله أبواب الرزق للمسلمين من أكثر من وجه، وليس فقط من وجه الغنائم بدليل أنهم لم يغنموا شيئًا كثيرًا من تبوك، ولم يكن هدف المؤمنين من الغزو التربح فقط، بل هدفهم الأساس تعبيد الناس لربهم.
والظاهر أن الغزوة كانت امتثالًا نبويًّا لأمر الله بقتالهم؛ قال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ)[التوبة:١٢٣].
قال الطبري: «يقول لهم ابدؤوا بقتال الأقرب فالأقرب إليكم دارًا دون الأبعد فالأبعد، وكان الذين يلون المخاطبين بهذه الآية يومئذ الروم؛ لأنهم كانوا سكان الشام يومئذ»34.
وحكمة قتال الروم تتضح من الآية، وهي أن يجدوا في المؤمنين غلظة، فيرهبوهم ويقيموا لهم شأنًا، وهذا ما حدث في الغزوة، فلم يخرج الروم لقتال المسلمين ولم يواجهوهم، ولم يكن قصد إرهاب الكفار قاصرًا على الروم وحسب؛ بل امتد ليشمل القبائل المتنصرة المتحالفة معهم.
والملاحظ أن هذه الغزوة مع سابقتها (مؤتة) كانت متوجهة لقتال الروم بعد إخضاع الجزيرة العربية لسلطان الإسلام وفتح مكة ودخول كثير من العرب في الإسلام، وكذلك بعد انتهاء خطر اليهود من الجزيرة وإخلاء آخر معاقلهم في خيبر بعد الفتح، فجاءت هذه المرحلة الجديدة تمهيدًا لفتوح إسلامية تدك معاقل الرومان في شبه الجزيرة العربية وما حولها، واستجابة للأمر الإلهي في قوله تعالى:(ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ)[التوبة:٢٩].
قال الطبري: «وذكر أن هذه الآية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمره بحرب الروم، فغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزولها غزوة تبوك»35.
ومن أسباب الغزوة أيضًا: إدخال الرعب في قلوب القبائل العربية التي لم تدخل في الإسلام في جزيرة العرب، والقبائل العربية المتنصرة الخاضعة لنفوذ الإمبراطورية الرومانية، والتابعة لها، وإتاحة الفرصة لها للتفكير في أهمية الدين الإسلامي جديًّا، وأنه ليس من الأمور التي تعلو سطح الماء ثم تغيب، وأن له مستقبلًا زاهرًا، لعل ذلك يفتح لها الطريق في الدخول في الإسلام، الذي ظهر في أرضهم وبلادهم36.
كانت غزوة تبوك ميدانا للمنافسة واختبارًا شاقًا يتمحص به إيمان المؤمنين ويظهر صدقهم، وقد تعددت المواقف الإيمانية العظيمة في هذه الغزوة والتي نجملها فيما يأتي:
أولًا: الاستجابة للأمر بالنفير:
لقد تفاوتت درجات الناس في هذه الغزوة، فكان منهم السابق بالخيرات بإذن الله، وهم المؤمنون الصادقون الذين خرجوا استجابةً للأمر الإلهي بالنفير.
قال تعالى: (ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ)[التوبة:٣٨].
وفي الآية الكريمة ترغيب للمؤمنين وحث لهم على الخروج للقتال، وفي(ﭷﭸ) استفهام يفيد معنى التوبيخ والعتاب واللوم لمن تثاقل عن الجهاد، واللفظة «تمثل الجسم المسترخي وما لها من جاذبية تشد إلى أسفل»37.
والاستفهام في: (ﭷﭸ) للإنكار والتوبيخ، وكيف يرضى بالدنيا من رضي بالله ربا؟ وما متاع الدنيا بجوار الآخرة إلا كغمسة الأصبع في البحر المتلاطم الأمواج فماذا تأخذ وبم ترجع؟!
وقوله: (ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝﮞ ﮟ ﮠ ﮡﮢﮣ) [التوبة:٣٩].
يقول تعالى ذكره للمؤمنين من أصحاب رسوله متوعدًا لهم على ترك النفير إلى عدوهم من الروم: إن لم تنفروا أيها المؤمنون إلى ما دعاكم إليه نبيه صلى الله عليه وسلم يعذبكم الله عذابًا موجعًا، ويستبدل الله بكم نبيه قومًا غيركم ينفرون إذا استنفروا ويجيبونه إذا دعوا، ولا تضروا الله بترككم النصر شيئًا؛ لأنه لا حاجة إليكم، بل أنتم أهل الحاجة إليه، والله على إهلاككم واستبدال قوم غيركم بكم وعلى كل ما يشاء من الأشياء قدير38.
ثم تذكرهم الآية بموقف مر على حصوله تسع سنين، لم يذكره القرآن ولم يعقب عليه من قبل طيلة هذه المدة، على خلاف العادة القرآنية في التعقيب المباشر على الحدث، يدخر القرآن التعقيب على هجرة الرسول وصاحبه وإخراجهما من مكة إلى أن يأتي الأوان؛ لتذكر هذا الحدث العظيم، وذلك لتشابه المقدمات والأسباب، فالأسباب البشرية ضعيفة والظروف عصيبة وشديدة، ولكن متى كانت هذه الملابسات تفت في عضد المؤمنين؟!
إن التأييد الإلهي الذي حدث عند إخراج الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه من مكة وهما اثنان لا ثالث لهما إلا الله لهو قابل للتكرار في غزوة تبوك، فتذكروا -إن تراخيتم وتكاسلتم- فقد نصره الله وقت أن أخرجه الكفار هو صاحبه وهما في الغار ويطمئن النبي قلب أبي بكر بقوله: (ﯘ ﯙﯚﯛﯜ) فأنزل الله السكينة والأمن والاطمئنان وأيدهم بالثقة واليقين وجعل كلمة الذين كفروا السفلى. ودومًا كلمة الله هي العليا وهو سبحانه الغالب الذي يدبر الأمور بحكمته سبحانه.
ثم تأمر الآيات المؤمنين أن ينفروا إلى غزاة تبوك على كل حال من الخفة والثقل «ومعنى الخفة والثقل هنا مستعار لمن يمكنه السفر بسهولة ومن يمكنه بصعوبة»39، فيشمل الغني والفقير والشيخ والصغير ونحو ذلك.
وتأمرهم الآيات بالجهاد وإنفاق الأموال والأنفس رخيصة في سبيل الله، وقدم الأموال إذ هي أول ما يحتاجه المجاهد وقت التجهيز والإعداد للغزو، ثم شوقهم إلى ثواب ذلك وعظيم فضله فقال: ذلكم خير عظيم لكم إن كنتم تعلمون أنه خير.
وفي موضع آخر من السورة جاء الثناء على المؤمنين في استجابتهم لأمر رسول الله وذلك في قوله تعالى: (ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤﭥ ﭦ ﭧ ﭨﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷﭸ ﭹ ﭺ ﭻ)[التوبة: ٨٨- ٨٩].
وقد جاءت الآية الكريمة بعد الحديث عن مواقف المنافقين وعدم خروجهم للجهاد، فهم لم يجاهدوا، لكن الرسول والذين آمنوا معه وكانوا ملازمين له فلم يتخلفوا عنه جاهدوا بأموالهم فأنفقوها وجاهدوا بأنفسهم فقدموها وبذلوها في مرضاة الله، فأولئك لهم الخيرات وهي جمع خيرة وتشمل كل خير في الدنيا والآخرة، وهم المفلحون فلاحًا حقيقيًّا، وأعظم الفلاح ما أعده الله لهم من جنات تجري من تحت أشجارها الأنهار خالدين فيها لا يموتون ولا هم عنها يتحولون وأعظم به من فوز وفلاح في الدنيا والآخرة!
ومن جزائهم الحسن أيضًا في السورة ما ورد في قوله تعالى: (ﯙﯚﯛﯜﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ) [التوبة: ١١٧].
فقد تاب الله على نبيه صلى الله عليه وسلم، والتوبة معناها الرجوع، وهي في حق النبي صلى الله عليه وسلم رجوع من حال طاعة إلى أكمل منها، فقد رجع صلى الله عليه وسلم من حاله قبل تحصيل الغزوة وتحمل مشاقها إلى طاعة أكمل منها بعد ذلك، ويحتمل أن يكون جدد التوبة من غير أن يكون هفوة، ويكون لذلك حكم التجديد أو الثبات كسؤال الهدى وهم على الهدى، أو رده من حالة الغفلة إلى حالة الذكر40.
وكذلك تاب الله على المهاجرين والأنصار الذين خرجوا فلم يتثاقلوا ولم يخالفوا، بل اتبعوه صلى الله عليه وسلم في هذه الغزوة الشديدة العسيرة من بعد ما كاد قلب بعضهم أن يزيغ كأبي خيثمة، لكن الله عصمهم ثم قبل توبتهم، إنه سبحانه صاحب الرحمة السابقة والمستقبلة، وافتتح بالتوبة واختتم بها فهي: «نهاية كل عارف، وغاية كل سالك، وكما أنها بداية فهي نهاية فجعل الله سبحانه التوبة عليهم شكرانًا لما تقدم من تلك الأعمال وذلك الجهاد»41.
وإذا كان المعذرون قد اعتذروا ليؤذن لهم، فإن المؤمنين ما كان لهم أبدًا أن يتخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال تعالى: (ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ) [التوبة: ١٢٠-١٢١].
فلم يكن لساكني المدينة ولا لمن سكن حولها من أهل البوادي والأعراب أن يتأخروا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، فيطلبوا ويرغبوا نفع أنفسهم بالأمن والدعة والراحة دون نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيتركونه في الحر والمشقة.
قال الزمخشري: «أمروا بأن يصحبوه على البأساء والضراء، وأن يكابدوا معه الأهوال برغبة ونشاط واغتباط، وأن يلقوا أنفسهم من الشدائد ما تلقاه نفسه، علما بأنها أعز نفس عند الله وأكرمها عليه، فإذا تعرضت مع كرامتها وعزتها للخوض في شدة وهول، وجب على سائر الأنفس أن تتهافت فيما تعرضت له، ولايكترث لها أصحابها ولايقيموا لها وزنًا، وتكون أخف شيء عليهم وأهونه، فضلًا عن أن يربؤوا بأنفسهم عن متابعتها ومصاحبتها ويضنوا بها على ما سمح بنفسه عليه، وهذا نهى بليغ، مع تقبيح لأمرهم، وتوبيخ لهم عليه، وتهييج لمتابعته بأنفة وحمية»42.
وعلل النهي ببيان أنهم لا يصيبهم عطش ولا تعب بدن ولا شدة جوع في سبيل مرضاة الله، ولا يضعون أقدامهم موضعًا يغيظ الكفار ولا يصيبون من الكفار أي إصابة في أنفسهم أو أموالهم قليلة كانت أو كثيرة إلا كتبه الله لهم عملًا صالحًا، فهو سبحانه لا يضيع أجر من أحسن عملًا، ولا ينفقون نفقة في سبيل الله صغيرة ولا كبيرة ولا يتجاوزون واديًا في طريقهم إلا كتب لهم ليجزيهم بقدر عملهم ويزيدهم حتى يصير الثواب أحسن من عملهم، أو ليجزيهم الأحسن من أعمالهم.
وفي هذه الغزوة العظيمة نماذج طيبة لحرص الصحابة على عدم التخلف ومن أمثلة ذلك:
يقص أبو خيثمة موقفه في غزوة تبوك فيقول: (تخلفت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، حتى مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخلت حائطًا، فرأيت عريشًا قد رش بالماء، ورأيت زوجتي، فقلت: ما هذا بالإنصاف، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم في السموم والحميم، وأنا في الظل والنعيم، فقمت إلى ناضح فاحتقبته، وإلى تميرات فتزودتها، فنادت زوجتي: إلى أين يا أبا خيثمة؟ فخرجت أريد رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إذا كنت ببعض الطريق لحقني عمير بن وهب الجمحي، فقلت: إنك رجل جريء، وإني أعرف حيث النبي صلى الله عليه وسلم، وإني رجل مذنب، فتخلف عني حتى أخلو برسول الله صلى الله عليه وسلم، فتخلف عني عمير، فلما اطلعت على العسكر، فرأى الناس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كن أبا خيثمة)، فجئت فقلت: كدت أهلك يا رسول الله، فحدثته حديثي، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرًا، ودعا لي)43.
وفي القصة سرعة رجوع أبي خيثمة ولومه لنفسه على التأخير، وجلده على تحمل مشاق الطريق مع قلة الزاد وبعد الشقة، وفيها معرفة رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه الكرام وصدق فراسته فيهم.
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (لما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك جعل لا يزال يتخلف الرجل فيقولون: يا رسول الله، تخلف فلان، فيقول: (دعوه، إن يك فيه خير فسيلحقه الله بكم، وإن يك غير ذلك فقد أراحكم الله منه) حتى قيل: يا رسول الله، تخلف أبو ذر، وأبطأ به بعيره، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (دعوه، إن يك فيه خير فسيلحقه الله بكم، وإن يك غير ذلك فقد أراحكم الله منه).
فتلوم أبو ذر رضي الله عنه على بعيره فأبطأ عليه، فلما أبطأ عليه أخذ متاعه فجعله على ظهره، فخرج يتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم ماشيًا، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض منازله، ونظر ناظر من المسلمين، فقال: يا رسول الله، هذا رجل يمشي على الطريق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كن أبا ذر) فلما تأمله القوم، قالوا: يا رسول الله، هو والله أبو ذر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رحم الله أبا ذر يمشي وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده)44.
وفي القصة وضوح أسلوب الحسم النبوي في هذه الغزوة، وهذا واضح في كل أمورها، فلم يعط صك الأمان والخيرية لأحد، بل كانت الخيرية منوطة بالخروج وحسب، أما من لم يخرج فقد أراح الله منه عباده ووكل بالجهاد قوما يحبهم ويحبونه، وفي القصة تتجلى عزيمة أبي ذر رضي الله عنه وصبره الجميل على تحمل وعثاء الطريق ماشيًا حاملًا متاعه على ظهره، ويالها من مشقة تهون بمعرفة البشارة النبوية الكريمة له.
ثانيًا: المسارعة بالإنفاق في سبيل الله:
جاء تقديم الجهاد بالمال على النفس في سورة التوبة في خمس آيات هي قوله تعالى: (ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻﯼ ﯽ ﯾ ﯿ) [التوبة: ٢٠].
وقوله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ)[التوبة:٤١].
وقوله تعالى: (ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓﮔ ﮕ ﮖ ﮗ)[التوبة:٤٤].
وقوله تعالى: (ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ) [التوبة:٨١].
وقوله تعالى: (ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤﭥ ﭦ ﭧ ﭨ) [التوبة: ٨٨]45.
وما ذاك إلا لأهمية المال، فهو عصب الجهاد، وبذل المال مقدمة لبذل النفس، فمن هان عليه ماله هانت عليه نفسه، قال مسلم بن الوليد46:
يجود بالنفس إن ضن البخيل بها
والجود بالنفس أقصى غاية الجود
ودائرة الجهاد بالمال ربما تكون أوسع من دائرة الجهاد بالنفس، إذ هي متاحة لكل رجل وامرأة، وبالقليل والكثير، فالنفقة الصغيرة مكتوبة ولن يضيع عند الله أجرها.
وقد حفلت غزوة تبوك بصور رائعة للإنفاق في سبيل الله ومن ذلك:
وقد تحدث عنه عمر رضي الله عنه فقال: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتصدق فوافق ذلك عندي مالًا، فقلت: اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يومًا، قال: فجئت بنصف مالي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما أبقيت لأهلك؟) قلت: مثله، وأتى أبو بكر بكل ما عنده، فقال: (يا أبا بكر ما أبقيت لأهلك؟) قال: أبقيت لهم الله ورسوله. قلت: لا أسبقه إلى شيء أبدًا)47.
وهذا دليل عمليٌ على استحقاقه منزلة الصديقية، فهي من كمال التصديق، والصدقة برهان على كمال الإيمان فكيف بالتصدق بكل المال؟! قال ابن تيمية: «فكان ما فعله عمر من المنافسة والغبطة المباحة، لكن حال الصديق رضي الله عنه أفضل منه، وهو أنه خالٍ من المنافسة مطلقًا لاينظر إلى حال غيره»48.
من نص الرواية السابقة نعلم أنه أخرج نصف ماله، وقد جاء تقدير ذلك في بعض الروايات عن عبد الله بن عباس فقال: وأنفق عمر مائة أوقية49.
كانت نفقة عثمان في هذه الغزوة أعظم النفقات.
قال ابن إسحاق: «وأنفق عثمان بن عفان في ذلك نفقة عظيمة، لم ينفق أحد مثلها»50.
وقد وردت في ذلك روايات عدة أجتزئ منها ما ورد عن عبد الرحمن بن سمرة قال: (جاء عثمان بن عفان إلى النبي صلى الله عليه وسلم بألف دينار في ثوبه، حين جهز النبي صلى الله عليه وسلم جيش العسرة، قال: فصبها في حجر النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم، يقلبها بيده، ويقول: (ما ضر ابن عفان ما عمل بعد اليوم) يرددها مرارًا51.
وعن عبد الرحمن بن خباب السلمي، قال: (خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فحث على جيش العسرة. فقال عثمان بن عفان: عليَّ مائة بعير بأحلاسها وأقتابها. قال: ثم حث. فقال عثمان: عليَّ مائة أخرى بأحلاسها وأقتابها. قال: ثم نزل مرقاة من المنبر ثم حث. فقال عثمان بن عفان: عليَّ مائة أخرى بأحلاسها وأقتابها. قال: فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقول بيده هكذا يحركها. وأخرج عبدالصمد يده كالمتعجب: (ما على عثمان ما عمل بعد هذا)52.
أنفق عبد الرحمن بن عوف كثيرًا من ماله فقد ورد أنه جاء بأربعة آلاف درهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله مالي ثمانية آلاف، جئتك بأربعة آلاف، فاجعلها في سبيل الله، وأمسكت أربعة آلاف لعيالي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بارك الله فيما أعطيت، وفيما أمسكت)53.
وجاد كلٌ بما عنده، ولم يك أمر الإنفاق قاصرًا على الرجال فقط بل شارك فيه النساء بقوة.
روى الواقدي عن أم سنان الأسلمية قالت: «لقد رأيت ثوبًا مبسوطًا بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت عائشة رضي الله عنها فيه مسك، ومعاضد، وخلاخل وأقرطة وخواتيم، وخدمات، مما يبعث بها النساء يعن به المسلمين في جهازهم. والناس في عسرة شديدة»54.
إن مواقف الشدة هي التي تبين أقدار العظماء، ولما كانت غزوة تبوك في حالٍ من العسرة والضيق فإنها بينت بصدق معادن أولئك الصنف من الناس الذين تهون عليهم في المعالي أموالهم فيبذلونها ابتغاء وجه الله الأعلى.
ثالثًا: موقف الفقراء:
أنفق كثير من الصحابة كما أسلفت، لكن العدد كبير، والنفقة قاصرة، وليس في الإمكان في هذا الأوان سوى ما كان، فتخلف جمع من الصحابة، ما حبسهم إلا العذر والفقر، أرادوا الجهاد فلم يجدوا نفقة فأنفقوا الدمع ساخنًا أسفًا منهم على فوات نصيبهم من مقارعة الكفار، فأنزل الله في شأنهم قرآنًا يتلى إلى يوم القيامة.
قال تعالى: (ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ) [التوبة:٩١- ٩٢].
وقد رفعت الآية الكريمة الحرج عن ثلاثة أصناف من المؤمنين:
أولهم: الضعفاء وهم أصحاب الأمراض المزمنة التي يصعب معها الجهاد والذين هم ضعفاء في أصل خلقتهم ونحوهم الصبيان والنساء.
وثانيهم: المرضى الذين بهم علة تحول بينهم وبين الخروج للجهاد.
أما الصنف الثالث: فهم الذين لا يجدون الزاد والراحلة؛ كي يخرجوا للجهاد مع المؤمنين، قيل: هم من مزينة وجهينة وبني عذرة55.
وكل هؤلاء ومن كان على شاكلتهم ليس عليهم من إثم أو حرج طالما كانوا ناصحين لله ورسوله، والنصح «تحرِّي فعل أو قول فيه صلاح صاحبه وهو من الإخلاص والإحكام»56.
فيكون المعنى: لا حرج ولا لوم على هؤلاء إذا أخلصوا لله تعالى في الإيمان ولرسوله صلى الله عليه وسلم في الطاعة والانقياد وهذا نصح العمل، ونصح القول بأداء واجب النصيحة، فهي من مهمات الدين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الدين النصيحة.قلنا: لمن؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم)57.
وقوله تعالى: (ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ) لرفع الحرج عنهم؛ لأنهم حينئذ من أهل الإحسان، وما على المحسنين من سبيل «أي: لا يمر بهم العتاب ولا يجوز في أرضهم فما أبعد العتاب عنهم، وهو جار مجرى المثل»58.
ثم يأتي تذييل الآية بأن الله ذو المغفرة والرحمة التي وسعت كل شيء، ولا ينفك عن الاحتياج لها قادر أو عاجز.
ومن هؤلاء من تصدق بصدقة عجيبة غير مسبوقة، وهو علبة بن زيد الذي خرج من الليل فصلى ما شاء الله ثم بكى، وقال: (اللهم إنك قد أمرت بالجهاد ورغبت فيه ثم لم تجعل عندي ما أتقوى به مع رسولك، ولم تجعل في يد رسولك ما يحملني عليه، وإني أتصدق على كل مسلم بكل مظلمة أصابني بها في مال أو جسد أو عرض، ثم أصبح مع الناس. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أين المتصدق في هذه الليلة؟) فلم يقم أحد، ثم قال: (أين المتصدق في هذه الليلة؟ فليقم ولا يتزاهد ما صنع هذه الليلة) فقام إليه فأخبره. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أبشر فوالذي نفس محمد بيده لقد كتبت في الزكاة المتقبلة)59.
لقد شغله أمر البذل والتضحية، ولم يكتف بإراقة الدمع، بل قام خاليًا وتفتق ذهنه عن أمر رآه في مكنته، فبذل عرضه صدقة بينه وبين ربه، فتقبلها ربه، ونزل الوحي بذلك وأتته البشرى في فلق الصباح.
لقد تعددت مواقف المنافقين في هذه الغزوة، وسوف أذكرها مع التعقيب القرآني عليها وذلك في النقاط الآتية:
أولًا: استئذان المنافقين للقعود عن الجهاد:
بعد أن أمر الله المؤمنين بالجهاد ورغبهم فيه، وعنف من تثاقل عن الداعي التفت الخطاب القرآني إلى المنافقين بصيغة الغيبة تنزيها عن خطابهم بصورة الحاضر، فقال تعالى: (ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ)[التوبة: ٤٢].
أي: لو كان ما تدعوهم إليه أمرًا من أمور الدنيا التي هي سهلة المنال قريبة المأخذ، أو سفرًا هيِّنًا غير شاق؛ لأسرعوا في اتباعك والسير وراءك.
ولكنهم يؤثرون السلامة ويرون أن الشقة بعيدة عليهم، وما عرفوا أن مصيبتهم الكبرى ليست في بعد الطريق أو شدة الأمر، ولكن مصيبتهم الكبرى في نفوسهم التي زينت لهم القعود والركون، فلو فارقوا أنفسهم الأمارة خطوة لسهل عليهم كل أمر.
وما كان هؤلاء المنافقون ليفارقوا أنفسهم وراحتها إلى الجهاد وتبعاته؛ لأنهم لا يحركهم إلا المغنم العاجل، وهذا النموذج البشري موجود بكثرة، نموذج أولئك الذين يكثرون عند الطمع ويقلون ويفرون عند الفزع، وما ينكشف أمرهم إلا عند حلول البأس.
وإنهم ليتذرعون بالحجج الباطلة فيرهنون أمر الجهاد بالاستطاعة. وقد سجل القرآن هذا الأمر عليهم قبل أن يقولوه: (ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ) ليس لدينا من مال أو صحة أو زاد أو راحلة، أي حجة أو عذر، المهم أن لا يهلكوا أنفسهم بالقتال. وما درى هؤلاء أن الهلاك الحقيقي بترك الجهاد بالحلف الكاذب كما قال صلى الله عليه وسلم: (اليمين الفاجرة تذر الديار بلاقع)60.
وليس أمرهم بخاف على ربهم، فهو سبحانه يعلم أنهم مستطيعون وما منعهم إلا نفاق قلوبهم.
ثم تتوجه الآيات بالخطاب إلى النبي وتبدأ بهذا الخطاب الرقيق: (ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ) وفيه بيانٌ لفضيلة النبي صلى الله عليه وسلم وكرامته على ربه، حيث بدأ بالعفو قبل المعاتبة.وقيل: هي افتتاح كلام كما تقول: أصلحك الله وأعزك الله. وعلى هذا فلا يكون في الآية أى عتاب61.
والذي يقتضيه النظر الصحيح للآية، أن الإذن للمنافقين في التخلف لم يكن محظورًا قبل الآية حتى يكون فيه مخالفة، بل كان أمرًا متروكًا إلى الاختيار كما نقل القاضي عياض: «كان مخيَّرًا في أمرين، وقد كان له أن يفعل ما شاء فيما لم ينزل عليه فيه وحي»62 فليس في الإذن ذنب، بل غايته أنه اجتهاد فيما لا نص فيه، وهذا جائز في حق الأنبياء، فقد نص علماء الأصول على جواز الاجتهاد في حق الأنبياء فيما لا نص فيه، لكن الوحي يصوب لهم اجتهادهم، ولا ضير في ذلك63.
وقد أوضحت الآية الحكمة في عدم الإذن لهم: (ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ) وحتى للغاية، أي: هلا تأنيت إلى أن يظهر لك الصادق في إيمانه وفي وعده من الكاذب.
قال ابن عباس: لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرف المنافقين يومئذ64.
وقوله تعالى: (ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ) استئناف بياني قصد به إظهار الفرق بين المؤمن والمنافق، فالمؤمن لا يستأذن في الخروج للجهاد بل دأبه المبادرة والمسارعة دومًا. كما ورد في الحديث: (من خير معاش الناس لهم رجل ممسك بعنان فرسه في سبيل الله، يطير على متنه، كلما سمع هيعة أو فزعة طار عليه، يبتغي القتل والموت مظانه)65.
فالمؤمن الحق يخرج إلى الجهاد ولا يحتاج إلى استئذان، قال صاحب الكشاف: «وكان الخلص من المهاجرين والأنصار يقولون: لا نستأذن النبي صلى الله عليه وسلم أبدًا في الجهاد، ولنجاهدن أبدًا معه بأموالنا وأنفسنا»66.
وإذا كان المؤمنون لا يستأذنون في القيام بالجهاد، فإنهم لن يستأذنوا في تركه من باب أولى.
وفي مقابل هؤلاء المؤمنين جاء ذكر المنافقين الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر، والذين يحرصون على الاستئذان في ترك الجهاد والغزو، فوصفهم الله بعدم الإيمان، لأن الإيمان هو الباعث المحرك للنفس.
ثم بينت الآيات الكريمة أن المنافقين ما كانوا بذوي أعذار؛ لأنهم لم ينووا الخروج أصلًا، ولو نووا الخروج لأعدوا له عدة، والعدة أولًا عدة نفسية بالتهيؤ وصدق العزم، ثم عدة عسكرية تشمل كل ما يحتاجه المجاهد من مؤن وسلاح، وكان منهم عبد الله بن أُبي، وعبد الله بن نبتل، وأوس بن قيظي، ورفاعة بن التابوت، وغيرهم كما ورد عن مجاهد67، وقد كانوا ذوي مال وبأس، ولن يعجزهم إعداد العدة، لكنهم ما أرادوا وما خرجوا.
لم يخرج هؤلاء المنافقون بل ثبطهم الله وكسلهم وثقل عليهم الخروج لكراهة انبعاثهم، وقيل لهم: (ﮫ). والقائل: يحتمل أن يكون قول بعضهم لبعض، ويحتمل أن يكون من قول الرسول صلى الله عليه وسلم غضبًا عليهم، ويحتمل أن يكون من قول الشيطان لهم بالوسوسة، أو من قول الله تعالى أو هو خذلان أوقعه الله تعالى في قلوبهم68.
والقاعدون هم الذين تخلفوا بعذر كالنساء والأطفال، وفي لفظ: (ﯗ ﯘ) زيادة مذمة لهم بإلحاقهم بهذه الأصناف التي لا تخرج ولا يطلب منها خروج.
فإن قيل: إذا ما كان الأمر كذلك، فلم عوتب النبي صلى الله عليه وسلم على إذنه لهم بالقعود، ولا فائدة في خروجهم أصلًا؟
وللجواب نقول: لا شك أن المفسدة تحصل بخروجهم مع الجيش، لكن وجه العتاب كان للإذن قبل أن ينكشف أمرهم انكشافًا تامًّا، فقد كانت المصلحة تقتضي عدم الإذن لهم حتى يظهر الصادق من الكاذب69. هذا هو الوجه.
أما خروجهم فلا فائدة منه أصلًا، بل إنه كما قال ربنا: (ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧﯨ ﯩ ﯪ ﯫ) [التوبة:٤٧].
أولها: أنهم لن يزيدوا الصف المسلم شيئًا من القوة أو العزة، بل يزيدونكم خللًا في النظام واضطرابًا في الرأي، وفسادًا في القتال، فوجودهم لا خير فيه، والاستثناء على هذا الوجه متصل؛ لأنه مستثنى من أعم الأشياء70.
والمفسدة الثانية المترتبة على خروجهم: (ﯡ ﯢ) أي: لأسرعوا في السعي بالنميمة وتفريق الصف، وتخذيل المجاهدين، وبث الأراجيف والتخويف من العدو،ويبغونكم الفتنة يعني: يطلبون لكم ما تفتنون به عن الخروج إلى الغزو. وفيكم من الضعاف الذين يكثرون من سماع كلامهم ويتأثرون بهم فتضعف همتهم عن القتال، يقول قتادة: وفيكم من يسمع كلامهم71.وتفسير السماع بالتأثر والقبول هو ما عليه جمهور المفسرين72.
ثم تختتم الآية بهذا الوعيد والتهديد لهم: (ﯩ ﯪ ﯫ) فهو سبحانه عالم بدخائل نفوسهم مطلع عليها وسيجازيهم عليها، وهل الظالمون هنا المنافقون فقط أم المنافقون والسماعون؟ الظاهر الأول ولعله يشمل الثاني.
وليس هذا الفعل بجديد عليهم، فقد أرادوا وحاولوا التخذيل من قبل وذلك في غزوة أحد، فعندما وصل المسلمون إلى موضع بستان بين المدينة وأحد يسمى الشوط انسحب عبد الله بن أُبي بثلاثمائة من المنافقين قائلًا: أطاع الولدان ومن لا رأي له، أطاعهم وعصاني، علام نقتل أنفسنا؟73.
وكان مقصده من ذلك زلزلة الصف المسلم، حتى كادت طائفتان من المسلمين أن تفشلا وهما بنو سلمة وبنو حارثة وفيهم نزل قوله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ) [آل عمران:١٢٢].
وقوله: (ﭖ ﭗ ﭘ) يعني: أنهم أعملوا الحيل والمكايد، ودبروا الأمور وقلبوها على كل أوجهها، وحاولوا بكل جهدهم أن يفشلوا أمرك، ولكن الله أخزاهم؛ فجاء الحق وفتحت مكة وتم النصر وظهر دين الله وهم كارهون.
وبعد أن ذكرت الآيات السابقة موقف المنافقين من الجهاد واستئذانهم ومفاسد خروجهم على وجه الإجمال، جاءت هذه الآيات لتفصل القول في مواقفهم التي قاموا بها قبل الغزوة وأثناءها. وتذكر أمثلة عملية لأعذارهم الكاذبة في التخلف عن الجهاد.
عن جابر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لجد بن قيس: (يا جد هل لك في جلاد بني الأصفر؟) قال جد: أتأذن لي يا رسول الله؟ فإني رجل أحب النساء، وأخشى إن أنا رأيت نساء بني الأصفر أن أفتتن. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو معرض عنه: (قد أذنت لك). فأنزل الله: (ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ)74.
جاء أحد المنافقين وهو الجد يستأذن النبي صلى الله عليه وسلم ويذكر عذرًا هو في حد ذاته ذنب فيقول: ائذن لي في القعود وعدم الذهاب ولا تفتني، أي: لا تؤثمني بأمرك إياي في الخروج، وذلك غير متيسر لي فآثم، فإذنك لا يوقعني في الإثم.
وجاء الرد القرآني على شبهته الواهية: (ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ) وألا الاستفتاحية تفيد التنبيه لما يأتي بعدها، والسقوط يفيد معنى الهوي والضياع والتمكن في الوقوع، يقول سيد قطب: «والتعبير يرسم مشهدًا كأن الفتنة فيه هاوية يسقط فيها المفتونون، وكأن جهنم من ورائهم تحيط بهم، وتأخذ عليهم المنافذ والجهات فلا يفلتون، كناية عن مقارفتهم للخطيئة كاملة وعن انتظار العقاب عليها حتمًا جزاء الكذب والتخلف والهبوط إلى هذا المستوى المنحط من المعاذير»75.
إن فتنته الحقيقية ليست في ذهابه إلى بلاد الروم كما زعم، ولكن فتنته في تخلفه، وقبيح اعتذاره، وهذه هي الفتنة التي أصابته قبل أن يذهب. ثم يأتي التهديد القرآني له ولأمثاله: (ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ) فلن يستطيعوا منها فكاكًا ولن يجدوا عنها مهربًا.
ثم تذكر الآيات موقفًا آخر يبين سوء بواطنهم وخبث ضمائرهم ومحبتهم إلحاق الأذى بالمسلمين فيقول تعالى: (ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ) والحسنة نكرة في سياق الشرط فتفيد العموم.
وورد في نزولها عن جابر قال: «جعل المنافقون الذين تخلفوا بالمدينة يخبرون عن النبي صلى الله عليه وسلم أخبار السوء، يقولون: إن محمدًا وأصحابه قد جهدوا في سفرهم وهلكوا فبلغهم تكذيب حديثهم وعافية النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فساءهم ذلك، فأنزل الله تعالى: (ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ)»76.
ثم يعلم الله نبيه صلى الله عليه وسلم طريق الرد على هؤلاء بقوله: قل لهم يا محمد، لن يأتينا إلا ما قدره الله عز وجل وقضاه في اللوح المحفوظ، واللام تفيد الاختصاص أي: إن هذه الإصابة لصالحنا ولخيرنا. وقوله: (ﮎ ﮏ) أي: هو ناصرنا ومتولي أمورنا لا ولي لنا غيره؛ ولذلك فلن نتوكل إلا عليه، ولن نستعصم إلا بحبله المتين.
ويأتي تلقين الجواب الثاني على ما قام به المنافقون فيقول تعالى: (ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ) وهل للاستفهام وتفيد معنى التقرير، وفيه توبيخ للمنافقين، والمعنى: ما تنتظرون بنا إلا أحد أمرين كل منهما أحسن من العواقب الأخرى ومن عاقبة أمركم: أما أولهما فالنصر والفتح من الله، وفي ذلك عز الدنيا والآخرة. وثانيهما: الشهادة والمنزلة الرفيعة عند الله، ولا أفضل منهما، ولن يأتينا غيرهما.
أما أنتم أيها المنافقون فإنا نتربص بكم إحدى سوأتين: إما أن يأتيكم عذاب من الله في الدنيا فيهلككم كما أهلك الأولين والسابقين، أو يجعلنا الله أداة لقدرته فيهلككم بأيدينا، ولننتظر نحن وأنتم موعود الله بنا وبكم، فنحن على ثقة من نصره سبحانه، قال الحسن: تربصوا مواعيد الشيطان إنا معكم متربصون مواعد الله من إظهار دينه واستئصال من خالفه77.
ثم تأتي الآيات بعد ذلك لتبين أنه لا فائدة من نفقتهم؛ لأنها بنيةٍ مدخولةٍ ولن يكون مالهم إلا حسرة عليهم يوم القيامة.
قال تعالى: (ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ) والمعنى: قل يا محمد لهؤلاء المنافقين: لا فائدة من نفقتكم، فإن أنفقتموها طائعين باختياركم أو مكرهين من رؤسائكم فالأمران مستويان في عدم القبول، فالأمر بالإنفاق بمعنى التسوية.
وقد روي في سبب نزول الآية أن الجد ابن قيس قال: إني إذا رأيت النساء لم أصبر حتى أفتتن، ولكن أعينك بمالي. ففيه نزلت الآية78. لكن السبب ضعيف، وبفرض صحته فالآية تذكر أمرًا عامًّا بصيغة الجمع يصدق عليه وعلى غيره.
وقوله: (ﯕ ﯖ ﯗ) يحتمل أن يكون المعنى: لن يتقبلها منكم رسول الله ويأخذها، ويحتمل: لن يتقبلها الله منكم.
ثم تذكر الآية علة عدم قبول نفقتهم (ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ) والفسق مطلق الخروج ويراد به الكفر والمعاصي.
والظاهر إرادة المعنى الأول هنا بدليل التفصيل الوارد في الآية التي بعدها (ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ).
والمعنى: الذي منع قبول نفقاتهم في أي شيء من الأشياء في هذه الغزوة وفي غيرها ثلاثة أسباب:
أولها: الكفر بالله وبرسوله، ومعلومٌ أن العمل لا يقبل ولا يزكو إلا بالإيمان؛ فلا يتقبل الله إلا من المتقين.
والأمر الثاني: أنهم لا يأتون الصلاة إلا وهم على حال من الكسل والفتور والتراخي، وجاء التعبير بصيغة الحصر للدلالة على أن هذا شأنهم في كل صلاة يصلونها؛ إذ هم لا يرجون بها ثوابًا ولا يخافون عقابًا.
والسبب الثالث: أنهم لا ينفقون إلا وأنفسهم غير راضية؛ فهم يعدون النفقة مغرمًا وبها تنقص أموالهم.
والتعبير بلفظ: (ﯳ) للدلالة على أن مجرد الأمر لهم بالنفقة إكراه لهم، وقد جاء ذكر عدم الصلاة الصحيحة، وعدم الإنفاق الصادق بعد الكفر -وإن كان الكفر وحده سببًا كافيًا لعدم القبول- إشارة إلى أن فعل الصلاة والإنفاق منهم لا يدل على إيمان، وإنما يدل على تمكن النفاق في القلب؛ لأنها صلاة بلا روح ونفقة بلا رغبة، والله أعلم.
وقد كان هؤلاء المنافقون من ذوي السعة في المال، فجاءت الآية على سبيل التعليم للنبي والأمة ألا يعجبوا بكثرة المال والولد، فإنه مصدر شقاء لهم في الدنيا والآخرة (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ).
والمعنى: لا تظنن أن كثرة المال والولد مصدر سعادة وهناء لهؤلاء القوم، بل هي مصدر شقاءٍ وغمٍّ وهمٍّ وحسرةٍ في الدنيا قبل الآخرة، فقد قضى الله قضاءً لا يرد أن من أحب شيئًا من دون الله عُذِّب به في الدنيا قبل الآخرة، ومن استعز بغير الله أتاه الذل من مبتغاه.
ثم تفضح الآيات دخائل نفوسهم وتبين كذبهم في حلفهم وقولهم إنهم لمن المؤمنين، وتبين أن الذي دفعهم إلى ذلك أنهم قوم يخافون الإخراج من الديار، أو يخافون قتال المؤمنين لهم، فيهرعون إلى الحلف وإلى التأكيد بأكثر من مؤكد أنهم من المؤمنين، وأنهم ينسبون إليهم في الدين وفي طاعة الله والرسول، والحق أنهم ليسوا كذلك ولكنهم يتظاهرون بذلك؛ لأنهم قوم يفرقون.
وتأتي الآية التي تليها لتفصل فرقهم وشدة جزعهم وخوفهم، وأنهم لو وجدوا مكانًا حصينًا أو كهفًا في جبل، أو مغارة وسربًا تحت الأرض لفرُّوا إليها مسرعين لا يلوون على شيء، وما ذاك إلا لتماديهم في كراهيتكم وكراهية المعيشة معكم؛ ولفرقهم من اكتشاف نفاقهم. وفي الآية تصوير بليغ لموقف نفوسهم، وحركة أبدانهم وإسراعهم نحو التخفي، وهم على شر حال من الذعر والجبن والفزع حتى لكأنك تتمثل موقفهم هذا كالعيان أمامك.
ثانيًا: تثبيط المنافقين للمؤمنين عن الخروج للجهاد:
قال تعالى: (ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ) [التوبة:٨١- ٨٧].
روي عن ابن عباس قال: «وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر الناس أن ينبعثوا معه، وذلك في الصيف، فقال رجال: يا رسول الله، الحر شديد، ولا نستطيع الخروج فلا تنفر في الحر (ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅﮆ ﮇ ﮈ ﮉ) فأمره الله بالخروج»79.
بينت الآية السابقة أن المنافقين هم أهل الفسق، وجاءت الآيات التي بعدها لتذكر الأدلة العملية على فسقهم ومنها: فرحهم بالقعود وكراهة القتال ثم بينت أن ما فعلوه كان سببًا لعدم خروجهم مع الصف المسلم مرة أخرى.
وقد سجلت الآيات الكريمة ثلاثة مواقف لأهل النفاق:
أولها: فرحهم بالقعود في المدينة خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم أو بالمخالفة له، وفي وصفهم بالمخلفين بالبناء للمفعول مزيد ذم وتحقير لهم، فإن الذي خلفهم نفاقهم وشيطانهم وضعف همتهم، وسوء فعالهم وضعف إيمانهم، ويجوز أن يكون المخلف والمثبط لهم هو ربنا ومولانا، ذلك أنه تعالى كره انبعاثهم، أو يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد أذن لهم في التخلف، ولفظ مقعدهم يوحي بأسوأ الحالات عند الجهاد وهي حالة القعود، وما فرحهم إلا دلالة على خبث باطنهم.
وثاني الأمور: كراهيتهم الجهاد في سبيل الله، وهذا من العجب، فالجهاد شرف يحبه المؤمن؛ لأنه يرفع درجته عند الله، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (موقف ساعة في سبيل الله خير من قيام ليلة القدر عند الحجر الأسود)80 أرأيت كيف يكون ثواب وقوف ساعة واحدة؟ أفلا يحرك هذا الهمم ويحدو بالأرواح إلى بلاد الأفراح، فإذا كره إنسان الجهاد دل ذلك على أنه ما يؤثر إلا راحة بدنه وحفظ ماله.
وثالثة أثافيهم: أنهم قالوا: -تثبيطًا لأنفسهم وللمؤمنين- لا تخرجوا للقتال في الحر، ويدل ذلك على شدة تبجحهم وغلظة نفوسهم فهم مناعون للخير، أولم يعلموا أن حر جهنم أضعاف أضعاف حر الدنيا؟!
وإذا تحقق لهم شيء من الضحك والفرح بسبب عدم الخروج فإنه ضحك قليل في الدنيا وبكاء كثير في الآخرة81.
فصيغة الأمر هنا خرجت مخرج الإخبار عن صنيعهم كما يقول جمهور المفسرين، وفائدة لفظ الأمر للدلالة على أنه حتم واجب، والمعنى: إنكم فرحون في هذه الدنيا وسيكون في الآخرة بكاء شديد.
وقوله: (ﮐ ﮑ ﮒ) جمع في الآية بين صيغة الماضي والمضارع فهم كانوا وما زالوا يكسبون الإثم ويقترفونه.
وإذا كان أمرهم وحالهم كذلك فإنه يلزم أن ينبذوا بعيدًا عن الصف المجاهد إذ لا فائدة منهم؛ لأن الجهاد لا يكون إلا بذوي الهمم العالية الذين يكثرون عند الفزع؛ ولذلك فإن الله يوصي نبيه: إن رجعت إلى المدينة بعد هذه الغزوة وأرادت طائفة منهم أن تستأذنك للخروج فقل لهم: فات أوانه. لن تخرجوا أبدًا.
وقوله: (ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ) انتقال من الشاق إلى ما هو أشق منه فإن القتال أشد من الخروج؛ أو لأن الأول موافقة لسؤالهم والثاني أصرح في التأكيد؛ لأن القتال هو موضع بارقة السيوف التي تحتها الجنة، وقيل: بينهما عموم وخصوص إذ ربما يقاتلون العدو بلا خروج كما في الأحزاب82.
وعلة عدم الإذن لهم مرة أخرى أنهم دعوا من قبل فلم يلبوا، وكانت الحاجة إليهم أمس، فليس لهم بعد ذلك نصيب في الخير، وقد كان أمامهم فرفضوه، ولا يتحمل أمر الجهاد إلا رجال. فليكن مكانهم إذن مع الخالفين الذين لا خير فيهم في دنيا ولا دين.
وإذا كان الشهيد لا يصلى عليه تكريمًا له لأنه قتل في المعركة فإن هؤلاء الذين فروا من المعركة لا يصلى عليهم من باب الإهانة لهم،فجاء النهي الإلهي عن الصلاة عليهم وعن الوقوف على قبرهم لدفنهم والدعاء لهم. ثم عللت الآيات النهي عن الصلاة عليهم والدعاء بأنهم كفروا بالله وبرسوله، وظلوا على عتوهم وخروجهم حتى ماتوا، والآية عامة وإن كان سببها خاصا إلا أنها تشمل من مات منهم ومن سيموت.
وإذا كان التكريم المادي لم يلحقهم فإنهم لن ينالوا كذلك أي تكريم معنوي حتى الإعجاب بهم، وقد سبقت آية قريبة من هذه؛ فإما أن يكون التكرار لتأكيد الأمر وبيان خطورة الإعجاب بهم وبحالهم؛ لأن الفتنة بالمال والولد ليست هينة، أو لأنها نزلت في قوم آخرين.
وأموالهم وأولادهم لا وزن لها في ضمير المؤمن؛ لأنهم كأشباه الرجال وليسوا برجال، فإذا أنزلت سورة كاملة أو بعض سورة تأمرهم بالإيمان بالله وبالجهاد مع رسوله فر أولو الطول ليستأذنوا، وأولو الطول هم أهل الغنى، وهم الملأ المترفون الذين لا يوفقون إلى خير في الغالب، وذلك لأنهم ألفوا معيشة النعيم وغذوا بها.
ثم تسجل الآيات عليهم أنهم لم يكتفوا بالاستئذان وإنما قالوا: دعنا ننعم مع هؤلاء القاعدين من النساء وغيرهم، فرضوا لأنفسهم بالمهانة، فكان جزاؤهم أن طبع الله على قلوبهم فلا يصل إليها خير أبدًا، وتأمل الفرق بين «مع» الأولى والأخيرة، فأمامهم معية الرسول في الجهاد لكنهم تركوها إلى معية القاعدين الخالفين؛ ولذلك فهم لا يفقهون أوامر الله، ولا يفقهون حكمة الجهاد.
ثالثًا: لمز المنافقين للمؤمنين:
ذكرت سورة التوبة أكثر من موقف فيه لمز من المنافقين للمؤمنين، وقد فضحهم الله فيما قالوا وفعلوا ومن هذه المواقف ما ورد في سبب نزول قوله تعالى: (ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ) [التوبة:٦٥- ٦٦].
عن عبد الله بن عمر: (قال رجل في غزوة تبوك في مجلس: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء، أرغب بطونًا، وأكذب ألسنة وأجبننا عن اللقاء. فقال رجل في المسجد (في رواية الطبري هو عوف بن مالك): كذبت ولكنك منافق. لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم فبلغ ذلك رسول الله ونزل القرآن. قال عبد الله بن عمر: فنظرت إليه متعلقًا بحقب (بحبل) ناقة رسول الله تنكبه الحجارة يقول: إنما كنا نخوض ونلعب. فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون؟) ما يزيده)83.
والمعنى: لئن سألتهم عما قالوه ليقولن -على سبيل الاعتذار-: إنما كنا نقول ذلك هزلًا لا جدًّا، ولعبًا لا صدقًا وحقًّا، فقل لهم مستنكرًا وموبخًا: أما كان أمامكم غير الله وشرعه وأحكامه لتستهزئوا بها؟ إن العذر أقبح من الذنب؛ فلا لعب ولهو مع أحكام الله ودينه، وليس ثمة إلا الكفر بعد الإيمان، فمن تاب تاب الله عليه، وإلا فهو من المجرمين المعذبين.
ومن جملة لمزهم في الغزوة ما ورد في قوله تعالى: (ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ) [التوبة: ٧٩-٨٠].
عن أبي مسعود قال: لما أمرنا بالصدقة كنا نتحامل، فجاء أبو عقيل بنصف صاع، وجاء إنسان بأكثر منه، فقال المنافقون: إن الله لغنيٌ عن صدقة هذا، وما فعل الآخر إلا رئاء فنزلت: (ﯧ ﯨ)84.
لم يكتف أهل النفاق بمنع المال وإنما تعدى بهم الأمر إلى لمز المتصدقين والسخرية منهم، وكان هذا في غزوة تبوك فنزلت الآيات؛ لتبين موقفهم من الصدقة التي تطلب منهم وموقفهم من الصدقة التي يدفعها غيرهم عن طيب خاطر.
لقد ندب النبي صلى الله عليه وسلم الناس إلى الصدقة وحثهم عليها، فجاء كل امرئ بما يستطيع، وقدم عبد الرحمن بن عوف مالًا كثيرًا، وجاء رجل من الأنصار اسمه الحبحاب بمال قليل، وكان هذا طاقته وقدرته، فانتهزها المنافقون فرصة للمز والعيب والطعن على الصحابة، فصاحب الصدقة الكبيرة يتهمونه بالرياء وصاحب الصدقة اليسيرة ينالونه بالأذى: كيف يتصدق وهو محتاج؟ إن الله لغني عن صدقته! ما فائدة صدقته هذه؟ وما درى هؤلاء أن درهمًا واحدًا قد سبق ألف درهم، قال صلى الله عليه وسلم: (سبق درهم مائة ألف درهم قالوا: وكيف ذلك؟ قال: رجل له مال كثير أخذ من عرضه مائة ألف ورجل ليس له إلا درهمان، فأخذ أحدهما فتصدق به)85.
وإفراد: (ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ) وعطفها على ما قبلها من باب عطف الخاص على العام تطييبًا لخاطرهم وتنويهًا بما قاموا به؛ ذلك أن السخرية منهم تكون أشد، فلما اختصوا بمزيد سخرية اختصهم الله بالذكر، وكانت عقوبة هؤلاء الساخرين أن عاملهم الله بجنس ما يستحقون فسخر منهم، ويا لها من سخرية توجب ضياع الدنيا والآخرة.
ولأن ذا القلب الرحيم الرؤوف عليه السلام كان يتألف قلوب الناس ويستغفر لهم ويطيب قلوب أهليهم من المؤمنين، فإن ربه تبارك وتعالى خاطبه، وبيَّن له أن الاستغفار لهم وعدمه سواء، فهذا أمر في معنى الخبر، والمعنى: إن استغفرت أو لم تستغفر فلا فائدة، وقد ورد في القرآن الكريم التسوية بين الأمرين بلفظ الخبر صراحة، قال تعالى: (ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪﭫ) [المنافقون:٦].
والظاهر أن لفظ أو يحتمل التخيير86.
وهذا ما فهمه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ففي الصحيح عن عمر قال: لما توفي عبد الله بن أبي جاء ابنه عبد الله فسأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه أباه فأعطاه، ثم سأله أن يصلي عليه، فقام عمر فأخذ بثوب رسول الله فقال: يا رسول الله أتصلي عليه وقد نهاك ربك عن أن تصلي عليه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما خيرني الله فقال: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ) وسأزيده على السبعين)87.
ثم بينت الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم لو زاد على السبعين في الاستغفار لهم فلن تلحقهم مغفرة، وسبب ذلك أنهم كفروا بالله وبرسوله، وما كان الله ليوفق أهل الكفر إلى طاعته والإيمان به ومرضاته، فهم الذين يستحقون ذلك بسبب أفعالهم.
رابعًا: مسجد الضرار:
قال تعالى: (ﭑﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ) [التوبة: ١٠٧-١١٠].
عن أبي رهم الغفاري قال: أتى من بنى مسجد الضرار رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متجهز إلى تبوك، فقالوا يا رسول الله، إنا بنينا مسجدًا لذي العلة والحاجة، والليلة الشاتية والليلة المطيرة، وإنا نحب أن تأتينا فتصلي لنا فيه، فقال: (إني على جناح سفر، ولو قدمنا إن شاء الله أتيناكم فصلينا لكم فيه) فلما رجع نزل بذي أوان على ساعة من المدينة، فأنزل الله في المسجد: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ) فدعا مالك بن الدخشم ومعن بن عدي، أو أخاه عاصم بن عدي فقال: (انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدماه وحرقاه) ففعلا88.
يمكن أن تكون الآية متصلة بالحديث عن القوم الذين مردوا على النفاق، أي: تمرنوا عليه واستلان لهم، فيكون من جملة كيدهم الخفي بناء مسجدٍ للضرار، وسيكون هدم المسجد من جملة التعذيب الذي يجدونه في الدنيا، ويحتمل أن تكون الآية موصولة الحديث عن مكائد المنافقين عامة وهي كثيرة في السورة.
لقد اتخذ جماعة من بني غنم بن عوف89 مسجدًا ليصلوا فيه ويتركوا مسجد قباء وقد كان قريبًا منهم، وقد تعللوا بعلل كاذبة لإنشائه، لكن الآيات كشفت سرائرهم.
وبيَّنت أنهم اتخذوه لأربعة أهداف:
أولها: إيقاع الضرر بالمؤمنين؛ وذلك ببناء مسجد بجوار مسجد، ولا فائدة من البناء الثاني.
وثانيها: الإتيان بالكفر، أو تقوية ما هم عليه من الكفر؛ وذلك بتدبير الطعن والمكائد للمسلمين والتشاور في ذلك، وقد يكون كفرهم بالاعتقاد، قال ابن العربي «لما اتخذوا المسجد ضرارًا لاعتقادهم أنه لا حرمة لمسجد قباء ولا لمسجد النبي صلى الله عليه وسلم كفروا بهذا الاعتقاد»90.
وثالثها: التفريق بين المؤمنين؛ فقد كانوا يجتمعون في المسجد للصلاة، فتزداد ألفتهم وتجتمع كلمتهم إثر اجتماع قلوبهم وأبدانهم، وهذا مقصد كبير من مقاصد صلاة الجماعة، فإن تعددت المساجد بلا داع تفرقت الكلمة.
ورابعها: إعداد المكان انتظارًا لوصول أبي عامر الراهب؛ وقد كان من مُتنصِّرة العرب، وقد كان يطمع أن يكون زعيمًا في قومه، فلما رأى نصر المسلمين فرَّ إلى المشركين وألبهم على المسلمين، فلما كانت وقعه أُحد حاول أن يستزل بعض الأنصار فقال: أنا أبو عامر. فقالوا: لا أنعم الله بك عينًا يا فاسق. فلما سمع ردهم عليه قال: لقد أصاب قومي بعدي شر. ثم قاتلهم قتالًا شديدًا ورماهم بالحجارة، وظل يقاتل المسلمين في كل حرب حتى يوم حنين فيئس. ثم انقطع وخرج إلى ملك الروم، فوعده بالجند فأرسل إلى قومه أن يبنوا معقلًا يقوم عليهم فيه، ومنَّاهم بجيش يقاتل فيه المسلمين، فبنوا المسجد وأعدوه قبل خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى تبوك، فكان هذا إرصادهم لمن حارب الله ورسوله من قبل.
عن عبد الله بن عباس قال: «وهم أناس من الأنصار ابتنوا مسجدًا فقال لهم أبو عامر: ابنوا مسجدكم واستعدوا بما استطعتم من قوة ومن سلاح، فإني ذاهب إلى قيصر ملك الروم، فلآتي بجند من الروم فأخرج محمدًا وأصحابه. فلما فرغوا من مسجدهم أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: قد فرغنا من بناء مسجدنا، فنحب أن تصلي فيه وتدعو لنا بالبركة فأنزل الله: (ﭬ ﭭ ﭮ ﭯﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁﮂ ﮃ ﮄ ﮅ)91.
ثم يبين القرآن أنهم سيحلفون: أنهم ما قصدوا بالبناء إلا أفضل شيء حسن، وهو التوسعة على المسلمين والمنفعة لهم، وتيسير أمر الصلاة على الضعفاء والعجزة وغيرهم إذا جاء السيل يقطع الطريق ويحول بين الناس وبين الصلاة، أو يكون مقصدهم بالحسنى الجنة؛ أي: ما أردنا بعملنا هذا إلا دخول الجنة، وهذا قول ظاهره الخير وباطنه الشر والسوء، فسجل القرآن عليهم كذبهم، وكشف باطنهم، وكذبهم في قولهم.
ولأن هذا المسجد لم يُبْن على أساس من الطاعة، فقد نهى الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يصلي فيه؛ وذلك لأن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم تعد تزكية للمكان ولأهله، ولربما ينخدع بذلك بعض الناس، وليس معنى ترك الصلاة فيه أن الصلاة ستتأخر عن وقتها، فها هو الأصل موجود؛ المسجد الذي تأسس على تقوى الله من أول يوم أقيمت فيه الصلاة بالمدينة، وظاهر سياق الآيات ومعرض الحديث أنه مسجد قباء، وعلى ذلك ابن عباس وعروة وقتادة وغيرهم، لكن ورد عن أبي سعيد الخدري قال: (دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت بعض نسائه فقلت: يا رسول الله: ما المسجد الذي أسس على التقوى؟ فقال: فأخذ كفا من حصباء فضرب به الأرض فقال: (هو مسجدكم هذا) لمسجد المدينة)92.
وسياق القصة يشهد لمسجد قباء، لكن إذا صح الحديث فلا محيد عنه، وهو كما ترى صحيح، وقد ذهب جمع من العلماء إلى التوفيق، فقال السهيلي: «وليس بين الحديثين تعارض، وكلاهما أسس على التقوى»93؛ فكلاهما مراد من الآية ولا مانع من ذلك؛ فقولك: لرجل صالح أحق أن تجالسه، فلا يقتصر على هذا الشخص فقط.
ثم مدح الله أهل هذا المسجد بأن فيه رجالًا يحبون أن يتطهروا، وقد ورد في بعض الروايات أن المقصود الطهارة الحسية، ولا شك أن الطهارة الحسية دليل على طهارة الباطن وسلامته، فهم يتطهرون من الآثام الحسية والمعنوية؛ لينالوا أعظم ما يفوز به مسلم وهو محبة الله.
ثم تأتي المقابلة بين من بنوا المسجدين وبين بناء المسجدين، والاستفهام للتقرير، والمعنى: أفمن ابتدأ أساس بنيانه على رضوان الله تعالى وابتغاء محبته وجنته خير أم من ابتدأ البنيان على أضعف قاعدة وأهزلها، فهي على حافة منهارة لا تثبت أمام أي نائبة؟ فلا بد أن تكون النتيجة هي الانهيار والبوار والخسار والعار والشنار، كالشجرة الخبيثة ليس لها على الأرض قرار. وهذا مثل عجيب يكشف وضع المنافقين المادي والمعنوي، فهم على أضعف حال.
وهل الآية على سبيل التمثيل لحال المنافقين؟ يحتمل، ولا مانع من إرادة المعنى الظاهر، فيكون الانهيار الذي أصاب بنيانهم الهزيل قد أدى به في النار، وفي ذلك روايات: قال جابر: لقد رأيت الدخان يخرج من مسجد الضرار حيث انهار على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم94.
وبنحوه عن قتادة والسدي وسفيان والضحاك وغيرهم، وقد قام بعض أصحاب رسول الله بهدمه بعد نزول الأمر الإلهي، فصلى أهله فيه الجمعة والسبت والأحد فقط، وهُدم يوم الإثنين95.
ثم تختتم الآية بسنة الله عز وجل مع أهل الظلم؛ فالله تعالى لا يوفقهم إلى خير ولا يرشدهم إلى طاعة؛ لأنهم ظلموا أنفسهم بصنائعهم وما اقترفوه.
ويبقى وزر هؤلاء القوم ممتدًّا، وتظل معرَّة فعلهم لا تغادرهم، ولا يزال هذا البناء الذي بنوه ريبة في قلوبهم، أي: شكًّا96 عند بنائه، لخوف انفضاح أمرهم، وشكًّا عند هدمه لظهور نفاقهم أمام الكل، وحزازة في نفوسهم بعد ذلك لن يخرجها إلا تقطع قلوبهم بالموت والهلاك، والله عليم بأحوالهم حكيم في صنعه بهم. وقيل: إلا أن تقطع قلوبهم بالتوبة، وعندئذ يقبلهم ربهم ويعفو عنهم؛ فهو العليم بأحوال عباده جميعًا.
إن ما كان لله دام واتصل، وما كان لغيره انقطع لا محالة وانفصل، ومن فعل أمرًا بنية صالحة زكاه له ربه وبارك فيه، وأعلى قدر ما صنع، أما من عمل عملًا حتى وإن كان ظاهره عمل خير، لكن نيته فيه غير سليمة، فإن عمله سينقلب عليه ويبوء بإثمه ولا يبارك له فيه، وبناء مسجد الضرار ثم هدمه وتحريقه خير شاهد على ما نقول.
قال تعالى: (ﯭ ﯮ ﯯ ﯰﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ) [الرعد:١٧].
وفي الآيات إشارة إلى عدم تكثير سواد أهل الكفر والنفاق فلا تحضر مجالسهم ومنتدياتهم، حتى وإن كان ظاهرها الخير، فمن كثر سواد قوم فهو منهم، ولربما ينخدع بعض الناس بمعسول حديثهم فيكون من ذلك فتنة.
ومن فوائد القصة ما ذكره القرطبي: «كل مسجد بني على ضرار أو رياء أو سمعة فهو في حكم مسجد الضرار لا تجوز الصلاة فيه»97. ومنها: استحباب الصلاة في المساجد المؤسسة على الطاعة، المعمورة بأوتادها من أهل الخير والذكر والصلاح، وأن المسجد لا يمدح بأثاثه أو مفروشاته أو غير ذلك، وإنما يمدح بالرجال الذين يقيمون فيه ويتربون على هديه، وتتعلق قلوبهم وأرواحهم به، وتنطلق تصوراتهم وأفكارهم من خلال هديه ومنهجه.
خامسًا: محاولة قتل النبي صلى الله عليه وسلم:
قال تعالى: (ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ) [التوبة: ٧٤].
ذهب جمع من المفسرين98 إلى أن الهمَّ الذي لم ينالوه هنا هو محاولتهم قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ورد في هذا روايات صحيحة منها ما رواه أحمد عن أبي الطفيل، قال: (لما أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك أمر مناديًا فنادى: إن رسول الله أخذ العقبة، فلا يأخذها أحد، فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوده حذيفة ويسوق به عمار إذ أقبل رهط متلثمون على الرواحل، غشوا عمارا وهو يسوق برسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقبل عمار يضرب وجوه الرواحل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحذيفة: (قد، قد) حتى هبط رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما هبط رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل ورجع عمار، فقال: (ياعمار، هل عرفت القوم؟) فقال: قدعرفت عامة الرواحل والقوم متلثمون، قال: (هل تدري ما أرادوا؟) قال: الله ورسوله أعلم، قال: (أرادوا أن ينفروا برسول الله صلى الله عليه وسلم فيطرحوه)99.
يتعمد المنافقون الحلف الكاذب؛ فيحلفون ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا وهموا بقتل الرسول صلى الله عليه وسلم وتلك جريمة شنيعة سجل القرآن عليهم وزرها وعارها إلى يوم الدين، والعجب العجاب أنهم بادلوا إحسان رسول عليهم بأشد ألوان الإساءة؛ فقد كانوا عالة فقراء لا يجدون مالًا فأغناهم الله بالغنائم وأغناهم رسوله من عطاياه لهم حتى صاروا من أهل اليسار فهل هذا هو ما ينقمون به على الإيمان؟!
أولًا: أنواع المخلفين:
لقد تعددت أسباب التخلف عن غزوة تبوك، واختلف الموقف مع كل حالة، وقد أجمل ابن كثير أنواع المخلفين في أربعة أنواع فقال: «كان المتخلفون عن غزوة تبوك أربعة أقسام مأمورون مأجورون، كعلي بن أبي طالب ومحمد بن مسلمة وابن أم مكتوم. ومعذورون وهم الضعفاء والمرضى والمقلون، وهم البكاءون. وعصاة مذنبون، وهم الثلاثة، وأبو لبابة وأصحابه المذكورون. وآخرون ملومون مذمومون وهم المنافقون»100.
أما النوع الأول فقد ورد في شأنهم أحاديث تبين أنهم تخلفوا بإذن سابق؛ ففي الصحيح: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى تبوك واستخلف عليا فقال: أتخلفني في الصبيان والنساء؟ قال: (ألا ترضى أن تكون مني في منزلة هارون من موسى؟ إلا أنه لا نبي بعدي)101.
وسنفصل القول في الأقسام الثلاثة الأخرى؛ لأنه قد ورد فيها عظات قرآنية.
١. المعذورون.
قال تعالى: (ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ)[ التوبة: ٩١-٩٢].
وقد سبق التعرض للآية عند الحديث عن إنفاق الفقراء وبيان أنه لا حرج على المعوزين ولا لوم،ولا حرج كذلك على من «ملكوا قدر النفقة إلا أنهم لم يجدوا المركوب»102.
فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا بأعينهم تفيض من الدمع حزنًا، وذلك لأجل أنهم لا يجدون ما ينفقون.
لقد أعطى الله من فضله ورسوله قوما من المعوزين فوجدوا حمولة تحملهم ومن هؤلاء الأشعريون الذين روى قصتهم أبو موسى حيث قال: (أرسلني أصحابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أسأله الحملان لهم، إذ هم معه في جيش العسرة، وهي غزوة تبوك فقلت: يانبي الله، إن أصحابي أرسلوني إليك لتحملهم، فقال: (والله لا أحملكم على شيء) ووافقته، وهو غضبان ولا أشعر ورجعت حزينًا من منع النبي صلى الله عليه وسلم، ومن مخافة أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم وجد في نفسه علي.
فرجعت إلى أصحابي فأخبرتهم الذي قال النبي صلى الله عليه وسلم، فلم ألبث إلاسويعة، إذ سمعت بلالًا ينادي: أي عبدالله بن قيس، فأجبته، فقال: أجب رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوك، فلما أتيته قال: (خذ هذين القرينين، وهذين القرينين -لستة أبعرة ابتاعهن حينئذ من سعد-، فانطلق بهن إلى أصحابك، فقل: إن الله، أو قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحملكم على هؤلاء فاركبوهن). فانطلقت إليهم بهن، فقلت: إن النبي صلى الله عليه وسلم يحملكم على هؤلاء)103.
ولم تكف النفقة أقواما آخرين فعادوا باكين حزنين على فوات نصيبهم من الخير، ولشدة حزنهم وبكائهم عرفوا بهذا الاسم: (البكائين) في كتب التفسير والسير، وقد حفظت الكتب أسماءهم.
قال ابن إسحاق: «البكاؤون، وهم سبعة نفر من الأنصار وغيرهم من بني عمرو بن عوف: سالم بن عمير، وعلبةبن زيد، أخو بني حارثة، وأبوليلى عبدالرحمن بن كعب، أخو بني مازن بن النجار، وعمرو بن حمام بن الجموح، أخو بني سلمة، وعبدالله بن المغفل المزني-وبعض الناس يقول:بل هو عبدالله بن عمرو المزني- وهرمي بن عبدالله، أخو بني واقف، وعرباض بن سارية الفزاري»104.
٢. المؤمنون الذين خلطوا عملًا صالحًا وآخر سيئًا.
قال تعالى: (ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ) [التوبة:١٠٢-١٠٣].
هذا نوع آخر من الذين تخلفوا في هذه الغزوة،والآية معطوفة على (ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ) [التوبة:١٠١].
فهم ليسوا منافقين، ولكنهم قوم مؤمنون استزلهم الشيطان فقعدوا عن الغزو فخلطوا بين العمل السيء وهو ترك الغزو، وبين العمل الصالح وهو التوبة والاعتذار والندم؛ فاعترافهم بالذنب ومعرفتهم قبحه أرجى لقبول التوبة، وهم إن شاء الله أهل لأن يتوب الله عليهم إنه هو الغفور الرحيم.
عن ابن عباس قال: (كانوا عشرة رهطٍ تخلفوا عن النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، فلما حضر رجوع النبي صلى الله عليه وسلم، أوثق سبعةٌ منهم أنفسهم بسواري المسجد، فكان ممر النبي صلى الله عليه وسلم إذا رجع في المسجد عليهم. فلما رآهم قال: (من هؤلاء الموثقون أنفسهم بالسواري؟) قالوا: هذا أبولبابة وأصحابٌ له تخلفوا عنك يارسول الله، وحلفوا لايطلقهم أحد حتى تطلقهم وتعذرهم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (وأنا أقسم بالله لا أطلقهم ولا أعذرهم، حتى يكون الله هو الذي يطلقهم، رغبوا عني وتخلفوا عن الغزو مع المسلمين!) فلما بلغهم ذلك قالوا: ونحن لا نطلق أنفسنا حتى يكون الله الذي يطلقنا! فأنزل الله تبارك وتعالى: (ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ) فلما نزلت أرسل إليهم النبي صلى الله عليه وسلم فأطلقهم وعذرهم)105.
ثم أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يأخذ من أمولهم صدقة تطهرهم من تكاسلهم وتزكي نفوسهم، وهذا علاج قرآني مستمر لكل من خلط بين عمل صالح وغيره، وباب التوبة مفتوح على مصراعيه في سورة التوبة.
٣. المتخلفون من المنافقين.
قال تعالى: (ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ) [التوبة:٩٣- ٩٦ ].
ذكرت الآيات السابقة حال القوم المؤمنين الذين لم يجدوا ما ينفقون فأنفقوا الدمع الهتون في سبيل الله، وأمثال هؤلاء معذورون لأنهم لم يجدوا فلا مؤاخذة عليهم، إنما المؤاخذة على الخلي المليء؛ إذ لا عذر له في الحقيقة، وإن اجتهد في تلمس كواذب الأعذار. فجاءت هذه الآيات لتقطع عذرهم،ولتحدث المقارنة بينهم وبين المؤمنين الصادقين.
ما من سبيل على الضعفاء وغير الواجدين؛ لأنهم بذلوا وسعهم ولم يقصروا، إنما المؤاخذة والمعاتبة والمعاقبة على أولئك الذين يستأذنون في ترك الجهاد وهم ذوو يسار، وليس بهم ما يحول دون الخروج.
ولعل سائلًا يسأل: ما الذي دفعهم إذًا إلى الجبن والنكول؟ فيكون الجواب: ما دفعهم إلى ذلك إلا دناءة نفوسهم، ورضاهم بالدون والمذلة، فسلكوا أنفسهم في مسلك العجزة والنساء والأطفال، وما كان ذلك إلا بسبب خذلان الله لهم، حيث طبع على قلوبهم فلم يعلموا عاقبة الجهاد وفائدته في الدين والدنيا، وتلك نتيجة حتمية للكسل وحسب السلامة والنوم الذي يعقبه اللوم.
ثم ينبئ الله نبيه بما سيصنع هؤلاء المنافقون إذا رجع المسلمون إليهم وفي ذلك إعجاز غيبي بذكر المستقبل وبكشف المخبوء من نفوسهم، فإنهم سيأتون ليعتذروا للنبي صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين معه، وذلك ليكونوا رأيًا عامًا يناصرهم ويغض الطرف عن فعلتهم الشنيعة، لكن الآيات تنبه القائد الأعظم صلى الله عليه وسلم الذي سيقول الكلمة الفصل في هذا الأمر وتقول له: قل لهم إن اعتذاركم كلا اعتذار، فلا تعتذروا، لأننا لن نصدقكم، لن نؤمن لكم، لن تنطلي علينا خديعتكم، فقد فضحكم الوحي، لقد أعلمنا الله علمًا مؤكدًا بما كان في نفوسكم من السوء والقبح، وسيرى ويعلم عملكم كله الآتي في المستقبل.
وفي هذا إمهال لهم وإغراء بالعودة والإنابة، وبعد ذلك ستعودون إليه، ويومها: سيجازيكم على كل عملكم، وقد عدل التعبير القرآني عن لفظ الجلالة إلى: (ﭪ ﭫ ﭬ) لكي يعلموا أنه تعالى مطلع على خفيات نفوسهم وفي هذا تهديد لهم،والتنبئة يقصد بها نتيجتها وهي الجزاء على عملهم وجاءت بلفظ الإنباء لتوافق (ﭝﭞ) وفيه إشارة إلى أنهم قد تخفى عليهم بعض أعمالهم لكنها لا تخفى على الخبير سبحانه.
وقد حدث ما أخبر القرآن؛ فقد أتوا يعتذرون.
ويروي كعب بن مالك في حديثه الماتع موقفهم فيقول: (لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك جلس للناس فلما فعل ذلك جاء المخلفون فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له، وكانوا بضعة وثمانين رجلًا، فقبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم علانيتهم وبايعهم واستغفر لهم ووكل سرائرهم إلى الله وصدقته حديثي، قال كعب: والله ما أنعم الله علي من نعمة قط بعد أن هداني للإسلام أعظم في نفسي من صدقي رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا أكون كذبته فأهلك كما هلك الذين كذبوا، إن الله قال للذين كذبوا حين أنزل الوحي شر ما قال لأحد:(ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹﭺ ﭻ ﭼﭽ ﭾ ﭿﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ)106.
ولم يكتف هؤلاء المنافقون بالأعذار المنحولة المفتراة وإنما بالغوا في تأكيدها بالحلف، وقد نبأ القرآن عن ذلك قبل أن يحلفوا، وسيكون حلفهم إذا رجع المسلمون إليهم، وهدفهم من الحلف أن يعرض المؤمنون عن إيذائهم وأن يغضوا الطرف عن فعلتهم.
فيجيء التوجيه القرآني للمؤمنين (ﭻ ﭼ) هم أرادوا إعراض الستر والإغضاء فأعرضوا إعراض البغض والازدراء، والمقت والبغضاء.
وهذا هو الذي يستحقونه؛ لأنهم رجس، فدعوا معاتبتهم؛ إذ المعاتبة لمن تريد أن تستبقي وده أما هؤلاء فلا، لن تطهرهم المعاتبة لأنهم نجس وقذر، فهذا تعليل الإعراض؛ يعني: أعرضوا لأنهم لا فائدة منهم، فقد تلبسوا بالنجاسة المعنوية حتى صارت علمًا عليهم وبالتالي فلن يكون لهم من مأوى إلا نار جهنم وفاقًا بما صنعوا، وقد يحتمل المعنى: أعرضوا عنهم ولا تقتربوا منهم لأنهم رجس إذ الطبع يعدي. والأول أوفق عندي.
وبعد أن حاولوا بحلفهم أن يعرض المؤمنون عنهم فإنهم يحاولون أن يرتقوا مرتقى أصعب ليرضى عنهم المؤمنون، فيحلفون جهد أيمانهم لإرضاء المؤمنين، فإن توهم متوهمهم أن المؤمنين سيرضون عنه فهل يدل هذا على رضا الله؟ كلا وحاشا.
وهناك صنف آخر من المنافقين وهم الأعراب، فقد جاؤوا يعتذرون لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال تعالى: (ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ) [التوبة:٩٠].
ولفظ المعذرون يفيد أن عذرهم غير حقيقي.
قال الفراء: «وأماالمعذر على جهة المفعل فهو الذي يعتذر بغير عذر»107.
فهؤلاء اعتذروا وقبل عذرهم، أما المنافقون فقد قعدوا ومنهم من لم يعتذر؛ قال أبوعمرو بن العلاء: «كلا الفريقين كان مسيئا: قوم تكلفوا عذرا بالباطل، وهم الذين عناهم الله تعالى بقوله: (ﭽ ﭾ) وقوم تخلفوا عن غير تكلف عذر فقعدوا جرأة على الله تعالى، وهم المنافقون فأوعدهم الله بقوله: (ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ)108.
وهذا الوعيد للكفار من كلا الصنفين: المعتذرين والقاعدين.
ولأن سورة التوبة من أواخر السور نزولا فقد بينت مراتب وطبقات المجتمع ومنها طبقة أولئك الأعراب الذين يقيمون في البوادي، فتورثهم هذه الإقامة غلظة في الطباع، إنهم أشد كفرًا ونفاقًا من أهل الحضر في القرى والأمصار، وكانوا أخلق الناس وأولاهم بقلة المعرفة لحدود الله، ومن جنس هؤلاء الأعراب فريق آخر، يرون نفقتهم في الواجبات والمندوبات مغرمًا ثقيلًا ملازمًا لهم لا يستطيعون الفكاك منه، فهم ينفقون ولا يرجون لنفقتهم ثوابًا ولا يخشون بها عقابًا؛ لأنهم مكرهون عليها ولذا فهم يتربصون إصابة المسلمين بمكروه وسوء حتى لا يؤدوا المال.
وتعود الآيات مرة أخرى للحديث عن منافقي المدينة وما حولها بعد الحديث عن منافقي البادية، وذلك ليحذر المؤمنون منهم، فتبين الآيات أن في المدينة منافقين وكذا حولها من أهل الأعراب الذين أسلموا، ومنهم من مرد على النفاق، أي: توطن عليه وصار النفاق لهم سجية وخلقًا وطبعًا حتى لان لهم، وأسروه عن أعين الناس لمهارتهم في التخفي، حتى إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الفطن اللبيب ليخفى عليه حال هؤلاء القوم لكن الله عز وجل يعلمهم وسيعذبهم.
ثانيًا: قصة الثلاثة الذين خلفوا:
قال تعالى: (ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹﯺ ﯻ ﯼ ﯽ)[التوبة:١٠٦].
وقال سبحانه: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ)[التوبة:١١٨].
نزلت هاتان الآيتان في حديث الثلاثة الذين خلفوا، أما أولاهما فليست صريحة الدلالة عليهم إلا أن جمهور المفسرين على نزولها في شأنهم، وأما الثانية فهي نصٌ واضح فيهم.
قوله تعالى: (ﯱ ﯲ)المعنى: وآخرون من المتخلفين مرجون أي: مؤخرون وهي من الإرجاء أي التأخير ومنه: (ﮓ ﮔ) [الأعراف:١١١].
أي: أخرهما حتى ننظر في أمرهما. وقد قرئت بالهمزة والتسهيل109.
وهم مرجئون لأمر الله إما أن يعذبهم الله أو يتوب عليهم،فظل أمرهم معلقا بين الخوف والرجاء، وهو سبحانه العليم بحالهم الذي يفعل أموره كلها على مقتضى الحكمة.وإلى كونها نزلت في الثلاثة الذين خلفوا ذهب جمع من أهل التفسير؛ فهو قول مجاهد، وقتادة والضحاك ومقاتل110ورجحه جمهور المفسرين111.
أما الآية الثانية فهي معطوفة على قوله تعالى: (ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ) [التوبة: ١١٧].
والمعنى: لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصاروعلى الثلاثة الذين خلفوا عن الغزوة، حتى ضاقت الأرض بما وسعت عليهم بسبب ندمهم وحزنهم على ما بدر منهم، وضاقت عليهم أنفسهم لما نالهم من الكرب والغم والهم، وأيقنوا أن لا ملجأ لهم من الله إلا إليه، ثم رزقهم الله تعالى الإنابة إليه والرجوع إلى مرضاته إنه هو الموفق عباده للتوبة.
والآية نزلت في كعب بن مالك السلمي وهلال بن أمية الواقفي ومرارة بن الربيع العامري، وجاءت الآية بالخبر المؤكد بأداة القسم (اللام) ودخول حرف التحقيق(قد) على الماضي لتبين عظيم فضله وسابغ نواله وإحسانه على هؤلاء الصادقين الذين كانوا مع النبيصلى الله عليه وسلم، وعطف عليهم هؤلاء الثلاثة الذين خلفوا، وصيغة:(خلفوا) بالبناء للمفعول، والمعنى إما أن يكون خلفوا عن الغزوة لا نفاقًا بل تكاسلًا، أو خلفوا عن قبول التوبة، فكأنهم خلفوا عن المعتذرين الذين قبل الرسول صلى الله عليه وسلم عذرهم، والثاني: أرجح، لأن (إذا ضاقت) غاية للتخفيف، ولم يكن ذلك عن تخليفهم عن الغزو، وإنما ضاقت عليهم الأرض عن تخليفهم عن قبول العذر»112.
وهذا هو الذي نص عليه كعب بن مالك، حيث قال في تفسير الآية، وليس الذي ذكر الله مما خلفنا عن الغزو، وإنما هو تخليفه إيانا وإرجاؤه أمرنا، عمن حلف له واعتذر إليه فقبل منه»113.
ثم ذكرت الآية الكريمة أنه بسبب تأخر التوبةحصل لهم ثلاثة أشياء:
أولها: أنه ضاقت عليهم الأرض على اتساعها ورحابتها.
وثانيها: أنه ضاقت عليهم أنفسهم.
وثالثها: أنهم أدركوا يقينا ألا مفر من الله إلا إليه. ثم وفقهم الله لتوبة وقبلها منهم بفضله وجوده وكرمه.
وفي الصحيحين تفصيلٌ من كعب لأحداث التخلف وما بعدها وهو حديث طويل غزير الفوائد وسبق طرف منه، ومن فوائد القصة: لحوق اللوم بكل فرد تخلف، وترك قتل المنافقين، وعظم أمر المعصية، وأن القوي في الدين يؤاخذ بأشد مما يؤاخذ الضعيف في الدين، وجواز إخبار المرء عن تقصيره وتفريطه، وأن المرء إذا لاحت له فرصة في الطاعة فحقه أن يبادر إليها ولايسوف بها لئلا يحرمها،واستحباب بكاء العاصي أسفا على ما فاته من الخير وفيها إجراء الأحكام على الظاهر وفيها عظم مقدار الصدق في القول، وجواز الزجر بالهجر إلى غير ذلك من الفوائد114.
كانت قيادة النبي صلى الله عليه وسلم للمؤمنين الصادقين في تبوك قيادة عظيمة، وقد ظهر أثر هذه القيادة في أمور أوجزها فيما يأتي:
١.الاهتمام بمواطن العبرة عند المرور عليها.
فعن عبدالله بن عمر (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما مر بالحجر قال: (لاتدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم إلا أن تكونوا باكين، أن يصيبكم ماأصابهم) ثم تقنع بردائه وهوعلى الرحل)115.
وما ذلك إلا ليأخذ القوم العظة بما حل وأصاب المكذبين قبلهم، ولتكون النفس المؤمنة على وجل من العقوبة الدنيوية، وليفقه القوم حكمة المرور على أماكن العذاب.
٢. الاهتمام بالجند أحياء وأمواتًا.
وتجلى ذلك في قصة ذي البجادين؛ ويرويها عبدالله بن مسعود فيقول: (قمت من جوف الليل، وأنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، قال: فرأيت شعلة من نار في ناحية العسكر، قال: فاتبعتها أنظر إليها، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبوبكر وعمر، وإذا عبدالله ذوالبجادين المزني قد مات، وإذا هم قد حفروا له، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في حفرته، وأبوبكر وعمر يدليانه إليه، وهو يقول: أدنيا إلي أخاكما، فدلياه إليه، فلما هيأه لشقه قال: (اللهم إني أمسيت راضيًا عنه، فارض عنه). قال: يقول عبدالله بن مسعود: ياليتني كنت صاحب الحفرة)116.
وفيها الاهتمام النبوي بأمر الجنود جميعا، والعناية البالغة بالفقراء المخلصين من الصحابة في حياتهم ومماتهم.
٣. حدبه صلى الله عليه وسلم وحرصه على سلامة أصحابه من أي أذى.
عن أبي حميد قال: (وانطلقنا، حتى قدمنا تبوك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ستهب عليكم الليلة ريح شديدة، فلايقم فيها أحد منكم فمن كان له بعير فليشد عقاله) فهبت ريح شديدة، فقام رجل فحملته الريح حتى ألقته بجبلي طيئ)117.
وفيها من دلائل نبوته: إخباره بالريح قبل هبوبها، وفيها: الحرص البالغ على سلامة الصحابة وتحذيرهم من التعرض للهلاك.
٤. أسلوب الحزم والجدية.
ويتضح ذلك في الغزوة من مواقف متعددة؛ منها الحزم مع من تأخر، والعقوبة على من تخلف من المؤمنين.
٥. ومن بركات القيادة النبوية في هذه الغزوة: تكثير الماء والطعام.
وهذا من دلائل النبوة. وقد ورد في هذا أكثر من رواية، فعن معاذ بن جبل قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنكم ستأتون غدا، إن شاء الله، عين تبوك، وإنكم لن تأتوها حتى يضحي النهار، فمن جاءها منكم فلا يمس من مائها شيئا حتى آتي) فجئناها وقدسبقنا إليها رجلان، والعين مثل الشراك تبض بشيء من ماء، قال: فسألهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هل مسستما من مائها شيئا؟) قالا:نعم، فسبهما النبي صلى الله عليه وسلم، وقال لهما ما شاء الله أن يقول.
قال: ثم غرفوا بأيديهم من العين قليلًا قليلًا، حتى اجتمع في شيء، قال: وغسل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه يديه ووجهه، ثم أعاده فيها، فجرت العين بماء منهمر أو قال: غزير -شك أبوعلي أيهما قال- حتى استقى الناس، ثم قال: (يوشك، يامعاذ إن طالت بك حياة، أن ترى ما هاهنا قد ملئ جنانًا)118.
وفي الحديث يتضح أسلوب الحسم والقوة في معاتبة من خالف الأمر النبوي، وهو عنوان بارز في هذه الغزوة، وفيه بركة النبي صلى الله عليه وسلم وإخباره بالغيب الذي تحقق واقعًا. وحدث مثل ذلك في الطعام؛ فقد (طلب عمر من رسول الله أن يدعو بفضل الزاد ثم يدعو الله عليه بالبركة فجعل الرجل يجيء بكف ذرة، قال: ويجيءالآخر بكف تمر، قال: ويجيء الآخر بكسرة حتى اجتمع على النطع من ذلك شيء يسير، قال: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه بالبركة، ثم قال: (خذوا في أوعيتكم)، قال: فأخذوا في أوعيتهم، حتى ما تركوا في العسكر وعاء إلاملئوه، قال: فأكلوا حتى شبعوا، وفضلت فضلة)119.
وفي الحديث رحمة النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه وقبول مشورة عمر، والحرص على تموين الجيش بالطعام وفيه أيضا شاهد من دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم.
٦. السير ليلًا.
ومن معالم القيادة النبوية الرشيدة في هذه الغزوة: أن قطع المسلمون أكثر المراحل بين المدينة وتبوك ليلا، ليتخلصوا من الحرالشديد. إن الحركة ليلا في موسم الحر ضرورية جدا خاصة في الصحراء؛ وهذا ما تطبقه الجيوش الحديثة في العصر الحاضر. إن غزوة تبوك تدريب عنيف للمسلمين، كان غرض النبي صلى الله عليه وسلم منه إعدادهم لرسالة حماية حرية نشر الإسلام خارج شبه الجزيرة العربية وتكوين الدولة الاسلامية المترامية الأطراف؛ فقدكانت هذه الغزوة آخر غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم فلا بد من الاطمئنان إلى كفاية جنوده قبل أن يلتحق بالرفيق الأعلى120.
لم يحارب المسلمون في تبوك؛ بل مكثوا عشرين يوما صالحهم فيها حكام البلدان الشامية ودفعوا الجزية، ومن هؤلاء ملك أيله وملك دومة الجندل الذي أسره خالد بن الوليد فافتدى نفسه بألفي بعير، وثمان مئة رأس،وأربع مئة درع ودفع الجزية، وصالح المسلمون أهل جرباء وأذرح وتعاهدوا على دفع الجزية121، وإذا كان الأمر قد تم بدون خسائر مادية ومعنوية للمسلمين، فإن الغزوة في الواقع كان لها آثار عظيمة على المسلمين داخليًّا وخارجيًّا.
فقد كان للغزوة أثر خارجي تمثل في إبراز قوة المسلمين، وتأكيد سيطرتهم على الحدود الشمالية للجزيرة العربية، وإرهاب متنصرة العرب الذين كانوا خاضعين للروم؛ فقد أدركوا يقينا أن هناك قوة صاعدة لن يقف أمامها أحد ولابد لهم أن يعيدوا النظر في ولائهم للروم.
أما فوائدها وآثارها على الجماعة المسلمة فقد كانت جمة وافرة، انتفع بها الأولون، ولا زال معينها عذبا ينتفع منه كل وارد، ومن هذه العظات والعبر ما يأتي:
موضوعات ذات صلة: |
غزوات الرسول مع اليهود، غزوة أحد، غزوة الأحزاب، غزوة بدر |
1 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الفضائل باب في معجزات النبي صلى الله عليه وسلم رقم ٢٢٨١ .
2 انظر: معجم المعالم الجغرافية في السيرة النبوية، عاتق الحربي ص ٥٩.
3 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٨/٢٧٨.
4 أخرجه البخاري تعليقا في كتاب المناقب باب مناقب عثمان ٥/١٣ ووصله الدارقطني في سننه ٥/٣٥٥، والبيهقي في سننه ٦/٢٧٦وسنده حسن.
5 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المغازي باب غزوة تبوك وهى غزوة العسرة رقم ٤٤١٥.
6 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الإجارة باب الأجير في الغزو برقم/٢٢٦٥.
7 أخرجه ابن خزيمة في صحيحه، ١/٥٢، والحاكم في المستدرك ١٧/٣٦٢ وصححه على شرطهما ولم يتعقبه الذهبي.
وجود ابن كثير إسناده في .البداية والنهاية ٥/٩.
8 انظر: تفسير ابن أبي حاتم ٦/١٨٩٨ رقم ١٠٠٨١، دلائل النبوة، البيهقي رقم ١٩٨١.
9 شرح المواهب اللدنية ٤/٦٦.
وانظر: إمتاع الأسماع، المقريزي ٨/٣٩١.
10 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، باب سورة الحشر، رقم ٢٨٨٢.
11 انظر: طبقات ابن سعد ٢/١٦٥، عيون الأثر ٢/٢٦٨، زاد المعاد، ابن القيم ٣/٥٢٦.
12 تاريخ دمشق، ابن عساكر ٢/٢٨.
13 فتح الباري، ابن حجر ٨/١١١
14 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجهاد والسير باب من أراد غزوة فورَّى بغيرها، ومن أحب الخروج يوم الخميس، رقم ٢٩٤٩، ٤/٤٨.
15 بهجة المحافل وبغية الأماثل في تلخيص المعجزات والسير والشمائل، يحيى العامري ٢/٣١.
16 مغازي الواقدي ٣/١٠١٥.
17 انظر: السيرة النبوية، أبو الحسن الندوي ص ٤٨٧.
18 مغازى الواقدي ٣/١٠٠٢، دلائل النبوة، البيهقي ٥/٢١٩، عيون الأثر ٢/٢٦٨.
19 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، باب قوله: (براءة من الله ورسوله)، ٨/١٦٨، رقم ٤٦٥٤، ومسلم في صحيحه، كتاب الفرائض، ٣/١٢٣٧.
والراجح أن سورة النصر آخر سورة نزلت كاملة، وأن التوبة تأخر نزول معظمها إلا أن فيها ما نزل في سنة تسع وهو صدر السورة.
وانظر: فتح الباري، ابن حجر ٨/٧٣٤.
20 زاد المعاد، ابن القيم ٣/١٤٣- ١٤٤.
21 مصاعد النظر في الإشراف على مقاصد السور، البقاعي ٢/١٥٣.
22 انظر في ذلك: الكشاف ٢/٢٤١، محاسن التأويل، القاسمي ٥/٣٤٣.
23 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجهاد والسير، باب من أراد غزوة فورى بغيرها، رقم ٢٩٤٨، ٤/٤٨، ومسلم في صحيحه، كتاب التوبة، باب حديث توبة كعب بن مالك وصاحبيه، رقم ٢٧٩٦ ، ٤/٢٢١٨.
24 شرح صحيح البخاري، ابن بطال ٥/١٢٣.
25 الرسول القائد، محمود شيت خطاب ص٣٩٨.
26 انظر: الطبقات الكبرى، ابن سعد ٢/١٦٥.
27 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، باب تبتغي مرضات أزواجك، رقم٤٩١٣، ومسلم في صحيحه، كتاب الطلاق، باب الإيلاء واعتزال النساء، رقم ١٤٧٩.
28 تاريخ اليعقوبي ٢/٦٧.
29 انظر: السيرة النبوية لابن هشام ٢/٢٩١-٢٩٢.
30 تاريخ دمشق، ابن عساكر ١/٧٩، دلائل النبوة، البيهقي ٥/٢٥٤.
31 انظر: تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٥/١٠٠.
32 انظر: جامع البيان، الطبري ١١/٤٠٣، تفسير أبن أبي حاتم ٦/١٧٧٧.
33 أخرجه البخاري تعليقًا عن ابن عمر، كتاب الجهاد والسير باب ما قيل في الرماح، ٤/٤٠، ووصله أحمد في مسنده ٤/٥١٥.
34 جامع البيان ١٢/٨٥.
35 المصدر السابق ١٤/٢٠٠.
36 السيرة النبوية، الندوي ص٤٨٦.
37 في ظلال القرآن، سيد قطب ٢/١٦٥٥
38 انظر: جامع البيان، الطبري ١٤/٢٥١.
39 المحرر الوجيز، ابن عطية ٣/٣٧.
40 انظر: المحرر الوجيز، ابن عطية ٣/٩٢، تأويلات أهل السنة، الماتريدي ٥/٥٠٣، أحكام القرآن، ابن العربي ٢/٥٩٥.
41 مدارج السالكين، ابن القيم ٣/٤٠٣.
42 الكشاف، الزمخشري ٣/٣٢١.
43 أخرجه الطبراني في المعجم الكبير، ٦/٣١، رقم ٥٤١٩، والبيهقي في دلائل النبوة ٥/٢٢٣.
وإسناده ضعيف، وأصل القصة في الصحيحين في حديث توبة كعب بن مالك.
44 أخرجه الحاكم في المستدرك، كتاب المغازى والسرايا، ٣/٥٢، وصححه وقال الذهبي: فيه إرسال، وهو عند ابن إسحق في السيرة ٢/٥٢٣.
45 وفي أربعة مواطن أخرى في القرآن: في النساء آية ٩٥، والأنفال آية ٧٢، والحجرات آية ١٥، والصف آية ١١ .
46 شرح ديوان المتنبي، العكبري ٣/٣٩.
47 أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الزكاة، باب الرخصة في ذلك، رقم ١٦٧٨، والترمذي في سننه، أبواب المناقب، باب مناقب أبي بكر الصديق، رقم ٣٦٧٥.
قال الترمذي: حديث حسن صحيح.
48 مجموع فتاوى ابن تيمية ١٠/١١٧.
49 تاريخ دمشق، ابن عساكر ٢/٢٨.
50 السيرة النبوية، ابن هشام ٢/٥١٨.
51 أخرجه أحمد في مسنده، ٣٤/٢٣٢، والترمذى في سننه، أبواب المناقب، باب في مناقب عثمان بن عفان، رقم ٣٧٠١.
52 أخرجه أحمد في مسنده، ٢٧/٢٤٧، والترمذي في سننه، أبواب المناقب، باب في مناقب عثمان رقم ٣٧٠٠.
قال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث السكن بن المغيرة.
ومعنى بأحلاسها وأقتابها: بأكسيتها.
انظر: النهاية في غريب الحديث، ابن الأثير ١/٤٢٤.
53 انظر: جامع البيان، الطبري ١٤/٣٩١.
54 انظر: مغازي الواقدي ٢/٦٣٧.
55 انظر: الطبقات الكبرى، ابن سعد ٢/١٦٥، الكشاف، الزمخشرى٢/١٠٣.
56 انظر: المفردات، الراغب ص ٨٠٨.
57 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب بيان أن الدين النصيحة، عن تميم الداري، رقم ٥٥، ١/٧٤.
58 روح المعاني، الألوسي ٥/٣٤٦.
59 انظر: الروض الأنف، السهيلي ٧/٤٠١، الإصابة، ابن حجر٤/٤٥٠.
60 أخرجه البيهقي في سننه ١٠/٣٥ عن أبي هريرة.
وصححه الألباني في صحيح الجامع، ٢/٩٥٠، رقم ٥٣٩١.
وبلاقع: جمع بلقع وهي الأرض القفر التي لاشيء بها،يريدأن الحالف بها يفتقر ويذهب ما في بيته من الرزق.
انظر: النهاية، ابن الأثير ١/١٥٣.
61 انظر: الهداية، مكي بن أبي طالب ٤/٣٠١٢.
62 الشفا بتعريف حقوق المصطفى، القاضى عياض ٢/١٥٨.
63 انظر: المستصفى، الغزالى ص٣٥٩، شرح التلويح على التوضيح، التفتازاني ٢/٢٣٩.
64 انظر: معالم التنزيل، البغوي ٤/٥٥.
قال رشيد رضا في المنار ١٠/٤٠٤: والظاهرأن مراده لم يكن يعرفهم كلهم، ويعرف شؤونهم بمثل ما في هذه السورة من التفصيل.
65 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإمارة، باب فضل الجهاد والرباط، رقم ١٨٨٩ عن أبي هريرة مرفوعًا.
66 الكشاف ٢/٢٧٥.
67 جامع البيان، الطبري ١١/٤٨٤.
68 انظر: البحر المحيط، أبو حيان ٥/٤٨، حاشية الشهاب على البيضاوي ٤/٥٧٦.
69 انظر: مفاتيح الغيب، الرازي ٨/٢٦.
70 انظر: الكشاف، الزمخشري ٢/٢٧٦، إرشاد العقل السليم، أبو السعود ٢/٤١٤.
وأبو حيان يوجه اتصال الاستثناء بأنه كان في الغزوة منافقون ولهم خبال فلو خرج هؤلاء لزاد الخبال.
انظر: البحر المحيط ٥/٤٩.
71 انظر: جامع البيان، الطبري ١٠/١٠٢.
72 انظر:المحرر الوجيز، ابن عطية ٣/٤١.
73 انظر: السيرة النبوية لابن هشام ٢/٦٤.
74 أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره ٦/١٨٩ رقم ٩٦٠٠، وله طريق آخر عن ابن عباس عند الطبراني في الكبير رقم ١٢٦٥٤والأوسط رقم ٥٦٠٠، والبيهقي في الدلائل ٥/٢١٣.
75 في ظلال القرآن ٣/١٦٦٤.
76 انظر: تفسير ابن أبي حاتم ٦/١٨١٠، رقم ١٠٣٠٦.
77 لباب التأويل، الخازن ٢/١٠٦.
78 جامع البيان، الطبري ١٠/١٠٦.
79 انظر: جامع البيان، الطبري ٠/١٣٩، تفسير ابن أبي حاتم في التفسير ٦/١٨٥٥، رقم ١٠٥٠٤.
80 أخرجه ابن حبان في صحيحه ١٠/٤٦٢عن أبي هريرة مرفوعًا.
وصححه الألباني في صحيح الجامع، ٢/١١٢٧، رقم ٦٦٣٦.
81 انظر: تفسير عبد الرزاق الصنعاني ٢/١٦٠.
82 انظر:روح المعانى، الألوسي ٦/٢٢٢، تفسير المنار، محمد رشيد رضا ١٠/٤٩٣.
83 انظر: جامع البيان، الطبري ١٠/١١٩، تفسير ابن أبي حاتم ٦/١٨٢٩.
84 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، باب الذين يلمزون المطوعين، ٨/١٨١، رقم ٤٦٦٨، ومسلم في صحيحه، كتاب الزكاة، ٢/٧٠٦، رقم ١٠١٨.
85 أخرجه ابن خزيمة في صحيحه، ٤/٩٩، وابن حبان في صحيحه، ٨/١٣٥، والحاكم في المستدرك، ١/٥٧٦. وصححه على شرط مسلم.
86 انظر: المحرر الوجيز، ابن عطية ٣/٦٤، البحر المحيط، أبو حيان ٥/٧٦، روح المعاني، الألوسي ٦/٢١٤.
87 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، باب (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم)، ٨/١٨٤، رقم ٤٦٧٠.
88 انظر: سيرة ابن إسحاق ٥/٢١١، السيرة الحلبية، الحلبي ٣/١٢٣.
89 انظر: تفسير عبدالرزاق ٢/١٦٥، جامع البيان ١١/١٩، تفسير ابن أبي حاتم ٤/٩٥.
90 أحكام القرآن ٢/١٠١٣.
91 انظر: جامع البيان، الطبري ١١/١٩، تفسير ابن أبي حاتم ٦/١٨٧٨.
92 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الحج، رقم ١٣٩٧، ٢/٨٣٦.
93 انظر: الروض الأنف، السهيلي ٢/٢٤٦.
وعليه جماعة من المفسرين انظر: مفاتيح الغيب، الرازي ٨/٧٧، تفسير المنار، محمد رشيد رضا ١١/٣٤.
94 أخرجه الحاكم وصححه ٤/٦٣٨.
95 انظر: جامع البيان، الطبري ١١/٦٩٧.
96 انظر: جامع البيان، الطبري ١١/٢٥.
97 انظر: الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٨/٢٥٤.
98 انظر: الكشاف، الزمخشري ٢/٢٩١، مفاتيح الغيب، الرازى ١٦/١٠٤، تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٤/١٨١.
99 أخرجه مسند أحمد في مسنده، ٣٩/٢١٠، قال محققه:إسناده قوى على شرط مسلم.
قال الهيثمي في مجمع الزوائد ٦/١٩٥: رجاله رجال الصحيح.
100 السيرة النبوية، ابن كثير ٤/٥٠.
101 أخرجه البخاري في صحيحه،كتاب المغازى، باب غزوة تبوك وهي غزوة العسرة، رقم ٤٤١٦، ومسلم في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل علي، ٤/١٨٧٠، رقم ٢٤٠٤.
102 مفاتيح الغيب، الرازي ١٦/١٢٢.
103 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المغازي باب غزوة تبوك وهي غزوة العسرة، رقم ٤٤١٥.
104 انظر: السيرة النبوية، ابن هشام ٢/٥١٨.
105 انظر: جامع البيان، الطبري ١١/٦٥١، تفسير ابن أبي حاتم ٦/١٨٧٢.
106 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المغازي، باب حديث الثلاثة الذين خلفوا، رقم ٤٤١٨، ومسلم في صحيحه، كتاب الرقاق، باب حديث توبة كعب بن مالك وصاحبيه، رقم ٢٧٦٩.
107 معاني القرآن، الفراء ١/٤٤٨.
108 معالم التنزيل، البغوى ٤/٨٤.
109 قرأها بالهمز ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر ويعقوب وأبوبكر عن عاصم.وقرأالباقون بدون همز.
انظر: النشر في القراءات العشر، ابن الجزري ١/٤٠٦.
110 انظر: تفسير عبدالرزاق الصنعاني ٢/١٦٥، وجامع البيان، الطبري ١١/٦٧٠.
111 ورجحه الفراء في معاني القرآن١/٤٥١، والسمرقندي في تفسيره ٢/٨٧، والثعلبي في الكشف والبيان ٥/٩١.
112 المحرر الوجيز، ابن عطية ٣/٩٤.
113 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المغازي، باب حديث كعب بن مالك، رقم ٤٤١٨.
114 فتح الباري، ابن حجر ٨/١٢٣.
115 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب أحاديث الأنبياء، باب (وإلى ثمود أخاهم صالحا)، رقم ٣٣٨٠، ومسلم في صحيحه، كتاب الزهدوالرقائق، باب لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم، رقم ٢٩٨٠.
116 انظر: السيرة النبوية، ابن هشام ٢/٥٢٨.
117 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الفضائل باب في معجزات النبي، رقم ١٣٩٢، ٤/١٧٨٥.
118 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الفضائل، باب في معجزات النبي، ٤/١٧٨٤.
119 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، رقم ٤٥، ١/٥٦ عن أبي سعيد الخدري.
120 الرسول القائد، الواء محمود شيت خطاب ص٤١٥.
121 السيرة النبوية، ابن هشام ٢/٥٢٥.
122 الأم، الإمام الشافعي ٤/١٧٥.
123 المغنى، ابن قدامة ٩/٢٠١.
124 أخرجه أحمد في مسنده، ٤/٣٢٤، وأبو داود في سننه، كتاب الزكاة، رقم ١٦٧٧.
وصحيحه الألباني في صحيح الجامع، ١/٢٤٩، رقم ١١١٢.
125 زاد المعاد، ابن القيم ٣/٥٠٠.