عناصر الموضوع

التعريف بذي القرنين

ذكر ذي القرآنين في القرآن الكريم

مناسبة قصة ذي القرنين وسبب نزولها

قصة ذي القرنين

الدروس من قصة ذي القرنين

لمسات بيانية في قصة ذي القرنين

ذوالقرنين

التعريف بذي القرنين

أولًا: اسمه:

اختلف فيه على أقوال كثيرة، فقيل: هو الإسكندر المقدوني.

وهناك من زعم أنه قورش الفارسي، أو دارا الفارسي، أو ملك من ملوك اليمن، أو ابن فرعون مصر.

ويرى أبو الكلام أزاد في كتابه: ويسألونك عن ذي القرنين، أنه قورش امبراطور فارس الذي غزا بلاد اليونان، وأنه كان عادلًا.

بينما يرى البعض أنه الإسكندر المقدوني الذي غزا بلاد فارس، وكان عادلًا.

قال المسعودي: «الإسكندر وذوالقرنين: وقد تنازع الناس فيه: فمنهم من رأى أنه ذو القرنين، ومنهم من رأى أنه غيره، وتنازعوا أيضًا في ذي القرنين: فمنهم من رأى أنه سمي بذي القرنين لبلوغه أطراف الأرض، وأن الملك الموكل بجبل قاف سماه بهذا الاسم، ومنهم من رأى أنه من الملائكة»1.

قلت: جبل قاف هذا من أخبار الإسرائيليات التي لا دليل عليها، ولا مستند من كتاب، أو سنة أو أثر صحيح، والقول بأنه ملك من الملائكة قول بعيد غريب، بل هو من البشر.

وقال القزويني: «وذكر بعض النساب أن أفريدون هو ذو القرنين الذي ذكره الله تعالى في كتابه العزيز، لأنه ملك المشرق والمغرب، وأمر بعبادة الله تعالى، وكان ذا عدل وإحسان»2.

والمتأمل في هذه الأقوال وما استندت إليه يجدها لا أصل لها في الكتاب أو السنة، كما أنها مبنيةٌ على الظن والاحتمال، فضلًا عن أن ذا القرنين كان مؤمنًا موحدًا.

وقيل: كان نبيًا من الأنبياء، فقد روى ابن أبي شيبة في المصنف عن عبد الله بن عمرو قال: ذو القرنين نبي3.

وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنه قال: ذو القرنين نبي4.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما أدري أتبع لعينًا كان أم لا، وما أدري ذو القرنين نبيًا كان أم لا، وما أدري الحدود كفاراتٌ لأهلها أم لا)5.

وهذا الحديث إن صح ففيه ردٌ على من قال بنبوة ذي القرنين.

والذي يتجلى لنا من خلال حديث القرآن عنه أنه ملك مؤمن على علمٍ وصلاحٍ، مكن الله له، فسعى جاهدًا ومتجردًا لنشر الحق والعدل.

والذي يعنينا أن نتدبر في قصته، ونستخلص منها الدروس والعبر في الدعوة والإصلاح والقيادة والإدارة والسياسة والقضاء. ثم إن السؤال ليس عن شخص ذي القرنين، وإنما عن حياته وجهاده وأمجاده.

قال البغوي: «والأكثرون على أنه كان مَلِكًا عادلًا صالحًا»6.

قال ابن القيم: «الإسكندر المقدوني، وهو ابن فيلبس، وليس هو بالإسكندر ذي القرنين الذي قص الله تعالى نبأه في القرآن، بل بينهما قرون كثيرة، وبينهما في الدين أعظم تباين، فذو القرنين كان رجلًا صالحًا موحدًا لله تعالى، يؤمن بالله تعالى وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وكان يغزو عباد الأصنام، وبلغ مشارق الأرض ومغاربها، وبنى السد بين الناس وبين يأجوج ومأجوج.

وأما هذا المقدوني فكان مشركًا يعبد الأصنام هو وأهل مملكته، وكان بينه وبين المسيح نحو ألف سنة وستمائة سنة، والنصارى تؤرخ له، وكان أرسطاطاليس وزيره، وكان مشركًا يعبد الأصنام، وهو الذي غزا دارا بن دار ملك الفرس في عقر داره، فثل عرشه ومزق ملكه وفرق جمعه، ثم دخل إلى الصين والهند وبلاد الترك فقتل وسبى. وكان لليونانيين في دولته عز وسطوة بسبب وزيره أرسطو، فإنه كان مشيره ووزيره ومدبر مملكته.

وكان بعده لليونان عدة ملوك يعرفون بالبطالسة، واحدهم بطليموس، كما أن كسرى ملك الفرس، وقيصر ملك الروم، ثم غلبهم الروم واستولوا على ممالكهم، فصاروا رعية لهم وانقرض ملكهم، فصارت المملكة للروم، وصارت المملكة واحدة، وهم على شركهم من عبادة الأصنام، وهو دينهم الظاهر ودين آبائهم»7.

وأثبت ابن عاشور أنه ليس إسكندر المقدوني، قال: « لأنه لم يكن ملكًا صالحًا، بل كان وثنيًا، فلم يكن أهلًا لتلقي الوحي من الله، وإن كانت له كمالات على الجملة، وأيضًا فلا يعرف في تاريخه أنه أقام سدًا بين بلدين»8.

وذكر أبو السعود أقوالًا عديدة في سر تسميته بذي القرنين، أكتفي بذكر أقربها للصواب، قال: «واختلف في وجه تسميته بذي القرنين، فقيل: لأنه بلغ قرني الشمس مشرقها ومغربها.وقيل: لأنه ملك الروم وفارس. وقيل: الروم والترك. وقيل: لأنه كان في تاجه ما يشبه القرنين. وقيل: لأنه كان له ذؤابتان. وقيل: لقب به لشجاعته»9.

ثانيًا: صفات ذي القرنين:

قال تعالى: ( ﰄﰅ ) [الكهف: ٨٣-٨٤].

ذو القرنين كان عبدًا صالحًا، وقائدًا حكيمًا محنكًا، وملكًا عادلًا، جمع الله له بين الصلاح والملك والعلم والهمة العالية في إقامة العدل ونشر الخير، والتيسير على الخلق، أخذ بالأسباب، بل طورها حتى مكن الله له.

قال تعالى: ( ) [الكهف: ٨٤-٨٥].

مكن الله له في الأرض، ووهبه أسباب النصر والتمكين، وأصول السياسة وفنون التدبير، فأحسن استغلال هذه المنح والمواهب على أتم وجهٍ، بل جعلها ركيزةً ومنطلقًا إلى ريادة الكون بالعلم والإيمان، والعدل والإحسان.

مكن له صاحب العظمة والسلطان تمكينًا عظيمًا في أنحاء المعمورة، وآتاه من الأسباب ما يحتاج إليه في توطيد ملكه وبسط سلطانه، وكبت أعدائه وتحقيق أهدافه.

قال ابن عاشور: «وجعل خبر ذي القرنين تلاوة وذكرًا للإشارة إلى أن المهم من أخباره ما فيه تذكير، وما يصلح لأن يكون تلاوة حسب شأن القرآن، فإنه يتلى لأجل الذكر، ولا يساق مساق القصص»10.

ذكر ذي القرآنين في القرآن الكريم

ورد ذكر (ذو القرنين) عليه السلام في القرآن الكريم (٣) مرات، في سورة الكهف.

وأما قصته عليه السلام فقد وردت في سورة الكهف.

السورة

الآيات

الكهف

٧٣-٩٨

مناسبة قصة ذي القرنين وسبب نزولها

أولًا: مناسبة القصة:

تتجلى لنا المناسبة بين هذه القصة والقصص التي سبقتها، وبين القصة ومحور السورة ومقصودها:

فبعد الحديث عن رحلة موسى مع الخضر وما انطوت عليه من عجائب وآيات، وما تفتقت عنه من فوائد وثمرات، وما أسفرت عنه من عبرٍ وعظاتٍ، يأتي الحديث عن قصةٍ أخرى عجيبة، قصة ذلك الرجل الصالح الذي مكن الله له، وهيأ له الأسباب فأخذ بها، واجتهد في استثمارها وتطويرها، فطوف في الأرض، وجال في أقطارها، قائدًا ظافرًا، وحكمًا عادلًا، وسلطانًا قويًا ، وعبدًا شكورًا، فملأ الدنيا عدلًا ونورًا.

طاف موسى عليه السلام طلبًا للعلم النافع، وطاف الخضر بأمر الله تعالى حاملًا لواء الجهاد وراية الإصلاح والتغيير، كذلك طاف ذو القرنين بجنده وعتاده، لينشر العدالة في ربوع الكون، ويبلغ دعوة الحق، ويصحح المفاهيم، ويقيم الموازين القسط، ويرسخ القيم الأصيلة، والأخلاق الفاضلة.

قال البقاعي: «ولما فرغ من هذه القصة التي حاصلها أنها طواف في الأرض لطلب العلم، عقبها بقصة من طاف الأرض لطلب الجهاد، وقدم الأولى إشارة إلى علو درجة العلم؛ لأنه أساس كل سعادةٍ، وقوام كل أمرٍ»11.

كذلك تضعنا الآيات أمام مقارنةٍ بينة بين صاحب الجنتين الذي اغتر بجنتيه وجحد النعمة وتمادى في الضلال، وبين صاحبه الذي يذكره بالله ويحذره من عقابه، وبين ذي القرنين الذي يتذكر دائمًا فضل الله عليه ورحمته به، ويلهج دائمًا بحمده تعالى على ما أولاه من النعم وأسداه من الكرم، ويوظف هذه النعم في نشر الحق والفضيلة في أرجاء الأرض.

( ﭿ ﮋﮌ ﮐﮑ ) [الكهف: ٣٥-٣٩].

أما ذو القرنين فإنه نموذجٌ رائعٌ للملك الصالح المتعفف الذي مكنه الله في الأرض فأقام ميزان العدل والإحسان، وأزال سلطان الكفر والطغيان، وحمل راية الحق ومصابيح الهدى، وعاش الناس في عهده حياةً آمنة مطمئنةً. فشتان بين عهدين : عهدٍ ساد فيه الكفر والفساد، وعهد أشرقت فيه شمس الهداية وأضاءت أنوار العدالة. مملكة كافرة تجعل الكفر لها دستورًا وسياجًا، وملكٌ غاصبٌ طاغيةٌ، ومملكة مؤمنة تجعل الإيمان لها عصمةً ومنهاجًا ونورًا وسراجًا! وبضدها تتبين الأشياء.

ومن أوجه المناسبة بين قصة أصحاب الكهف والهدف الرئيسي لسورة الكهف أنها خطت لنا طريق النجاة من الفتن، وأوردت نموذجا عمليًا يحتذى به، حيث تعرض الفتية لفتنة عظيمة عصمهم الله منها، حين سعى الملك إلى فتنتهم في دينهم واستغل سلطانه في مساومتهم على الحق وإغرائهم بكل المغريات، كما استخدم فتنة التهديد والوعيد، فعصمهم الله من كل تلك الفتن، لما خلصت نيتهم وصفت سريرتهم وقويت عزيمتهم وصدق توجههم إلى الله.

قال تعالى: ( ﮋﮌ ﯖﯗ ﯭﯮ ﯹﯺ ﯿﰀ ) [الكهف: ٩-١٦].

وهكذا نجد السورة الكريمة تبرز لنا طريق النجاة من جميع الفتن، فتنة السلطان وفتنة الأهل والعشيرة وفتنة المال وفتنة الولد وفتنة العلم وفتنة إبليس اللعين وفتنة القوة والتمكين من خلال قصة ذي القرنين، وفتنة يأجوج ومأجوج وفتنة اتباع الأهواء والاغترار بزخرف القول، مما يتواكب مع خواص السورة وفضائلها وعصمتها لتاليها من الفتن الحوالك.

لما بين الله عز وجل أن ما على الأرض من زينة إنما هو للابتلاء والامتحان الذي يبرز معادن الناس، ويجلي عن قصدهم وهمتهم نحو العمل الصالح.

قال تعالى: ( ﭿ ) [الكهف: ٧-٨].

لما بين الله تعالى ذلك ضرب أمثلة تكشف عن موقف الناس من زينة الدنيا، فبدأ بقصة أصحاب الكهف الذين لم يغتروا بزينة الشباب وزينة الأهل والعشيرة وزينة الأبهة والسلطان، بل تركوا كل هذه الملذات، وأعرضوا عن جميع الإغراءات، وهجروا الأهل والخلان في سبيل الله جل في علاه.

ثم جاءت قصة صاحب الجنتين الذي غره المال ولم يحمد الله عليه، بل ازداد بطرًا وأشرًا، في حين نجح صاحبه في الابتلاء حيث عرف حقيقة هذه الدنيا الفانية، فكان له ناصحًا أمينًا وواعظًا بليغًا.

ثم يأتي التعقيب على هذه القصة مبينًا حقيقة الدنيا الفانية، وما فيها من زينة تسلب القلوب وتأسر النفوس، وتصرفها عن غاية وجودها وعاقبة أمرها.

وإذا كان هناك من يغتر بالمال أو بالولد، فإن هناك من يغتر بالوعود الكاذبة والأماني الباطلة التي يمني بها إبليس اللعين، هذا العدو القديم الذي أظهر عداوته قديمًا يوم أن امتنع عن السجود لآدم.

قال تعالى: ( ﮪﮫ ﯔﯕ ) [الكهف: ٥٠].

ومن أشد أسلحة إبليس اللعين سلاح التزيين، فكم من معصية زينها، وكم من بدعة حسنها، وكم من طاعة صرف الناس عنها، وكم من ضلالة زخرفها، وكم من توبة سوَفها.

ثم يورد لنا السياق حقائق ساطعة، وسننًا ربانية، وقضايا عقدية حول الألوهية والرسالة واليوم الآخر، وسنن الله الماضية والجارية في الأمم، ومن الناس من يغتر بنعمة العلم، بل وربما ظن أنه أعلم الناس، وهنا تأتي قصة موسى والخضر عليهما السلام؛ لتبين أن العالم مهما بلغ من العلم، فإن هناك من هو أعلم منه، ومهما أوتينا من العلم فما قيمته وما قدره أمام علم علام الغيوب!

ثم يضرب الله مثلًا لمن لم يغتر بالقوة والسلطان العبد الصالح ذو القرنين الذي وظف ملكه وسلطانه في نشر الدين ورفع الظلم عن المظلومين ورد الطغاة الباغين، وكان كلما جدد الله له نعمة جدد لها شكرًا، وردها إلى المنعم عز وجل.

( ﯿ ) [الكهف: ٩٥].

( ﭕﭖ ﭜﭝ ) [الكهف: ٩٨].

فلنقارن بين من اغتر بجنتيه وجحد النعمة وتمادى في الضلال، وبين من يتذكر دائمًا فضل الله عليه ورحمته به، ويلهج دائمًا بحمده تعالى.

كما تدور هذه القصة مع المحور العام للسورة: العواصم من الفتن، فتبرز لنا أهمية التوكل على الله تعالى واليقين به تعالى مع الأخذ بالأسباب في النجاة من الفتن، كما يتجلى لنا من خلال هذه القصة دور الحاكم العادل في حماية البلاد من شرور الفتن.

ثانيًا: سبب نزول القصة:

ذكر ابن إسحاق: أن قريشًا بعثوا النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار يهود، وقالوا لهما: سلاهم عن محمدٍ، وصفا لهم صفته، وأخبراهم بقوله، فإنهم أهل الكتاب الأول، وعندهم علمٌ ليس عندنا من علم؛ فخرجا حتى قدما المدينة، فسألا أحبار يهود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ووصفا لهم أمره وأخبراهم ببعض قوله، وقالا لهم: إنكم أهل التوراة، وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا؟

فقالت لهما أحبار يهود: سلوه عن ثلاثٍ نأمركم بهن، فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسلٌ، وإن لم يفعل فالرجل متقول،ٌ فروا فيه رأيكم.

سلوه عن فتيةٍ ذهبوا في الدهر الأول: ما كان أمرهم؟ فإنه قد كان لهم حديثٌ عجبٌ. وسلوه عن رجلٍ طوافٍ قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها: ما كان نبؤه؟ وسلوه عن الروح ما هي؟ فإذا أخبركم بذلك، فاتبعوه فإنه نبيٌ، وإن لم يفعل فهو رجلٌ متقولٌ فاصنعوا في أمره ما بدا لكم.

فأقبل النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط حتى قدما مكة على قريشٍ، فقالا: يا معشر قريشٍ، قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمدٍ، قد أخبرنا أحبار يهود أن نسأله عن أشياء أمرونا بها، فإن أخبركم عنها فهو نبيٌ، وإن لم يفعل فالرجل متقولٌ، فروا فيه رأيكم. فجاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد أخبرنا عن فتيةٍ ذهبوا في الدهر الأول، قد كانت لهم قصةٌ عجبٌ، وعن رجلٍ كان طوافًا قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها؛ وأخبرنا عن الروح ما هي؟

قال فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: أخبركم بما سألتم عنه غدًا، ولم يستثن، فانصرفوا عنه، فمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم -فيما يذكرون- خمس عشرة ليلةً لا يحدث الله إليه في ذلك وحيًا، ولا يأتيه جبريل حتى أرجف أهل مكة، وقالوا: وعدنا محمدٌ غدًا، واليوم خمس عشرة ليلةً قد أصبحنا منها لا يخبرنا بشيء مما سألناه عنه، وحتى أحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث الوحي وشق عليه ما يتكلم به أهل مكة. ثم جاءه جبريل من الله عز وجل بسورة أصحاب الكهف، فيها معاتبته إياه على حزنه عليهم، وخبر ما سألوه عنه من أمر الله الفتية والرجل الطواف12.

قصة ذي القرنين

أولًا: بلوغه مغرب الشمس:

قال تعالى: ( ﭫﭬ ﭿ ﮋﮌ ﮎﮏ ) [الكهف:٨٦-٨٨].

كانت له ثلاث رحلات رئيسة، والظاهر أنه انطلق من المشرق إلى رحلته الأولى جهة المغرب، حيث بلغ بجنوده أقصى الغرب مستعينًا بما هيأه الله له من أسبابٍ، وهدف الرحلة كما يظهر من خلال الآيات نشر الحق، وهداية الناس، وإقامة العدل، انطلق في رحلته حتى شاهد غروب الشمس، ( ) عين ماء ذات حمأة، وقرئ ( حاميةٍ) يعني: أنها تغرب في عين ماء حارة، تلك إشارة إلى نظر المؤمن وتمتعه بجمال الكون وروعته، فللنظرة الجمالية انعكاسها على جمال الحضارة، جمعت بين كونها حمئة وبين حرارتها13.

( ﭫﭬ ): لما تمكن منهم، وخير في شأنهم: كان حكمًا مقسطًا، إذ حكم على من بقي على الظلم بالعذاب، وعلى من اختار طريق الهداية بالخير والإحسان، فقال: ( ﭿ ﮋﮌ ﮎﮏ ).

( ) ذكر جزاء الله له في الآخرة ( ﮎﮏ ) أي: الجنة، ثم أتبع ذلك بإحسانه له في الدنيا بقوله: ( ) أي: لا نقول له ما يتكلفه مما هو شاقٌ عليه، بل قولًا ذا يسر وسهولة، قولًا ميسورًا.

وقوله: (ﭿ ) أي: يوم القيامة فيعذبه العذاب الشديد الأليم، الذي يحار العقل في أمره، لأنه لم ير مثله، ولا قريبًا منه ليعتبره به14.

( ﮋﮌ ﮎﮏ) أي: يستحق البشارة بها، فضلًا عن حسن معاملته في الدنيا، ( ) فهو أهلٌ لكل فضل وسماحةٍ.

«فالمؤمن المستقيم يجد الكرامة والود والقرب من الحاكم العادل، ويكون من بطانته وموضع عطفه وثقته ورعاية مصالحه وتيسير أموره، أما المعتدي المتجاوز للحد، المنحرف الذي يريد الفساد في الأرض، فسيلقى العذاب الرادع من الحاكم المقسط في الدنيا، ثم يرد إلى ربه يوم القيامة ليلقى العقوبة الأشد بما اقترفت يداه في حياته الأولى » 15.

وحين يجد المحسن في الجماعة جزاء إحسانه جزاءً حسنًا، ومكانًا كريمًا، وعونًا وتيسيرًا؛ ويجد المعتدي جزاء إفساده عقوبة وإهانة وجفوة، عندئذ يجد الناس ما يحفزهم إلى الصلاح والاستقامة والجد والاجتهاد، أما حين يضطرب ميزان الحكم فإذا المعتدون المفسدون مقربون إلى الحاكم مقدمون في الدولة؛ وإذا العاملون الصالحون منبوذون أو محاربون؛ فعندئذ تتحول السلطة في يد الحاكم سوط عذاب وأداة إفساد، ويصير نظام الجماعة إلى الفوضى والفساد16.

قال ابن العربي: «وعلى الملك فرض أن يقوم بحماية الخلق في حفظ بيضتهم، وسد فرجتهم، وإصلاح ثغرهم من أموالهم التي تفيء عليهم، وحقوقهم التي يجمعها خزنتهم تحت يده ونظره، حتى لو أكلتها الحقوق، وأنفدتها المؤن، واستوفتها العوارض، لكان عليهم جبر ذلك من أموالهم، وعليه حسن النظر لهم، وذلك بثلاثة شروطٍ:

  1. ألا يستأثر بشيءٍ عليهم.
  2. أن يبدأ بأهل الحاجة منهم فيعينهم.
  3. أن يسوي في العطاء بينهم على مقدار منازلهم.

    فإذا فنيت بعد هذا ذخائر الخزانة وبقيت صفرًا، فأطلعت الحوادث أمرًا بذلوا أنفسهم قبل أموالهم، فإن لم يغن ذلك، فأموالهم تؤخذ منهم على تقديرٍ، وتصرف بأحسن تدبيرٍ.

    فهذا ذو القرنين لما عرضوا عليه المال قال: لست أحتاج إليه، وإنما أحتاج إليكم فأعينوني بقوةٍ، أي: اخدموا بأنفسكم معي، فإن الأموال عندي والرجال عندكم؛ ورأى أن الأموال لا تغني دونهم، وأنهم إن أخذوها أجرةً نقص ذلك مما يحتاج إليه، فعاد عليهم بالأخذ، فكان التطوع بخدمة الأبدان أولى17.

    ثانيًا: بلوغه مطلع الشمس:

    قال تعالى: ( ) [الكهف: ٩٠ - ٩٢].

    بعد رحلةٍ ناجحةٍ بلغ فيها ذو القرنين أقصى الغرب، سلك طريقًا إلى أقصى الشرق ليواصل مسيرته في حمل بشائر الخير ونشر مشاعل النور.

    ( ) أي: أقصى الشرق وجدها تطلع على قوم ليس لهم ما يسترهم، لا من البيوت ولا من اللباس، قيل: كانوا حفاة عراة لا يأوون إلى شيء من العمارة؛ وقيل: لأنهم بأرض لا يمكن أن يستقر عليها البناء، أو لما هم عليه من بداوةٍ، وخلوٍ من جميع مظاهر التمدن والرقي.

    عن قتادة، في الآية قال:«ذكر لنا أنهم بأرض لا يثبت لهم فيها شيء، فهم إذا طلعت دخلوا في أسراب حتى إذا زالت الشمس خرجوا إلى حروثهم ومعايشهم»18.

    ولا بد أنه رحمه الله وقد حمل مشاعل النور وراية الإصلاح قد ارتقى بتلك البلاد ونهض بها وألحقها بركب الحضارة، فرسالة العبد الصالح رسالة تنوير وتحرير، رسالة إصلاح وتعمير، رسالة نهوض وتطوير.

    ( ) أي: لا يعزب ذو القرنين وجيوشه عن علمنا مهما بلغوا من أصقاع بعيدة وبلادٍ نائيةٍ، ولا يخفى علينا تدبيره وسياسته، فهو مهما شرق أو غرب، في محيط ملك الله الواسع وسلطانه العظيم وتحت قهره وإرادته، وكل هذه البلاد البعيدة التي وصلها ذو القرنين: يعلمها الله تعالى فلا يخفى عليه من أحوالها خافيةٌ، وقد أحاط رب العالمين خبرًا بما لدى ذي القرنين من مواهب وملكات وطاقات وإمكانات تؤهله لارتياد الأقطار قائدًا مظفرًا وحاكمًا عادلًا.

    فكما مكن الله تعالى له وهيأ له الأسباب وأعانه على الأخذ به فهو تعالى مطلعٌ عليه محيط بما لديه، خبيرٌ ببواطن الأمور.

    ولو شاء الله تعالى لأخبر عن قصته على وجه التفصيل، ولكنه تعالى ذكر شيئًا منها للعظة والاعتبار، فلا يتوهمن أحدٌ أن إيجاز القرآن واقتضابه مما يقدح فيه، بل هو من وجوه بلاغته ومراعاته لمقتضى المقام، فذكر من القصة ما فيه تذكرةٌ، وأشار لذلك في البداية ( ).

    قال البقاعي: «( ) بما لنا من العظمة، ( ) أي: كله من الأمور التي هي أغرب المستغرب، () أي: من جهة بواطن أموره، فضلًا عن ظواهرها، فلا تستغرب إخبارنا عن ذلك، ولا عن أمر أصحاب الكهف، ولا يظن أن تفضيل أمر الوحي خفي عنا؛ لأنا مطلعون على خفايا الأمور وظواهرها، شواهدها وغوائبها، وكيف لا ونحن أوجدنا، ولكنا لا نذكر من ذلك إلا ما نريد، على ما تدعو إليه الحكمة، فلو شئنا لبسطنا هذه القصة وقصة أهل الكهف، وفصلنا أمر الروح تفصيلًا يعجز عن حفظه الألباء»19.

    «و( ) ما عنده من عظمة الملك من جندٍ وقوةٍ وثروةٍ. والخبر: العلم والإحاطة بالخبر، كنايةٌ عن كون المعلوم عظيمًا بحيث لا يحيط به علمًا إلا علام الغيوب»20.

    قال أبو السعود: «وقد أحطنا بما لديه من الأسباب والعدد والعدد خبرًا، يعني: أن ذلك من الكثرة بحيث لا يحيط به إلا علم اللطيف الخبير» 21.

    فلما بلغ بلاد الشرق الأقصى قضى فيهم بعدله وحكمته، كما قضى فيمن سبقهم من أهل الغرب، حيث دعاهم لدعوة الحق وأقام عليهم الحجج القاطعة والبراهين الساطعة، ثم عاقب الكفرة الظلمة، وسالم أهل الحق وكرمهم وقربهم وبشرهم بما عند الله من ثواب عظيم. ( ) أي: طريقًا آخر غير الطريق الأولى، وهي التي رجع بها من المغرب وسار فيها إلى المشرق.

    قال ابن عطية: «وقوله: ( ) المعنى: ثم سلك ذو القرنين الطرق المؤدية إلى مقصده، وكان ذو القرنين، على ما وقع في كتب التواريخ يدوس الأرض بالجيوش الثقال، والسيرة الحميدة، والإعداد الموفي، والحزم المستيقظ المتقد، والتأييد المتواصل، وتقوى الله عز وجل، فما لقي أمة ولا مر بمدينة إلا دانت له، ودخلت في طاعته، وكل من عارضه أو توقف عن أمره جعله عظةً وآيةً لغيره»22.

    فلا يزال يرتقي سلم النهوض والتقدم، ويجتهد في الأخذ بالأسباب وتنميتها، وفي تكرار هذه العبارة: ما يدل على حرص هذا القائد الرباني على الأخذ بالأسباب واجتهاده في تحصيلها وتطويرها وتطويعها لتحقيق الهدف، ونيل المراد.

    ثالثًا: بلوغه بين السدين:

    قال تعالى: ( ﯿ ﰇﰈ ﰏﰐ ﭕﭖ ﭜﭝ ) [الكهف: ٩٣ - ٩٨]

    بعد أن ساهم في نهوض هذه الشعوب البدائية الفقيرة وتنويرها، توجه بهذا الخير إلى موضعٍ عبر عنه القرآن بأنه بين السدين، منطقة يحيط بها جبلان شاهقان وعران، حيث يتسلل المفسدون من قوم يأجوج ومأجوج إلى البلاد المجاورة، ينهبون ثرواتها ويعيثون فيها فسادًا، فطلب أولئك المستضعفون المنكوبون من ذي القرنين أن يحميهم من أولئك المعتدين، واقترحوا عليه أن يبني سدًا منيعًا يحجزهم، على أن يجمعوا له ما يشاء من أموال وثروات، وفي هذا ما يدل على ثقتهم في أمانته وقدراته.

    ( )

    وجد ذو القرنين من دون السدين قومًا لا يكادون يفقهون قول قائل سوى كلامهم، ولا يكادون يفقهون أحدًا قولهم، مع ذلك تمكن من معرفة مطالبهم وفهمهم وتفهيمهم، بفضل ما وهبه الله تعالى من أسبابٍ. 23.

    ( )

    عرضوا على ذي القرنين أن يعطوه من أموالهم ما يستعين به على بناء السد، وأجرة بنائه؛ ليحميهم من أولئك المفسدين على سبيل حفزه وترغيبه، فقال لهم ( ﯿ ): أجابهم هذا القائد الزاهد والإمام الراشد إلى مطلبهم دون مقابلٍ، فهو صاحب رسالة إصلاح يؤديها في ربوع الكون، فهل يطمح في أعراض الدنيا الزائلة أم يجنح إلى هممٍ قاصرة؟ وقد وهبه الله تعالى من العلم والتمكين والفهم والتوفيق ما زاده طاعة وانقيادًا وعزمًا واجتهادًا في غرس بذور الخير أينما حل.

    «قال ذو القرنين: الذي مكنني في عمل ما سألتموني من السد بينكم وبين هؤلاء القوم ربي، ووطأه لي، وقواني عليه، خيرٌ من جعلكم، وأجرتكم التي تعرضونها علي لبناء ذلك، وأكثر وأطيب، ولكن أعينوني منكم بقوة، أعينوني بفعلة وصناعٍ يحسنون العمل والبناء»24.

    وهذا تأييد من الله تعالى لذي القرنين في هذه المحاورة، فإن القوم لو جمعوا له خرجًا لم يعنه أحد، ولو كلوه إلى البنيان ومعونته بأنفسهم أجمل به وأسرع في انقضاء هذا العمل، وربما أربى ما ذكروه له على الخرج25.

    ( ) يقول: أجعل بينكم وبين يأجوج ومأجوج ردمًا، والردم: هو الحاجز، ولعله سمى السد الذي وعد بإنجازه ردمًا تواضعًا.

    ( ﰇﰈﰉ ﰏﰐ) أي: جيئوني بزبر الحديد، وهي جمع زبرة، والزبرة: القطعة من الحديد. فجعلها بين الصدفين، أي: حافتي الجبلين، حتى إذا ساوى بينهما بما جعل بينهما من زبر الحديد، قال للعمال: انفخوا النار، فنفخوا حتى إذا جعل ما بين الصدفين من الحديد نارًا ( )، أصب عليه قطرًا، والقطر: النحاس المذاب.

    وقد استخدمت هذه الطريقة حديثًا في تقوية الحديد؛ فوجد أن إضافة نسبة من النحاس إليه تضاعف مقاومته وصلابته، كما أن النحاس أملس؛ لا يمكن تسلقه، فهدى الله ذا القرنين إلى هذه الوسيلة الناجحة.

    ( ) فما اسطاع يأجوج ومأجوج أن يعلوا الردم الذي جعله ذو القرنين حاجزًا بينهم، وبين من دونهم من الناس، فيصيروا فوقه وينزلوا منه إلى الناس لعلوه وملاسته، ولم يستطيعوا أن ينقبوه من أسفله؛ لسمكه وصلابته.

    قال بعد أن أتم البناء بإحكام وإتقان: ( ﭕﭖ) أي: هذا البنيان رحمة وفضل من الله الذي وهبني العلم ومنحني الملكات والطاقات، وهيأ لي الأسباب حتى تم البناء الذي يحجز أولئك المفسدين ويحمي هؤلاء المستضعفين، ( ) أي: إذا اقترب الوعد الحق ( ) أي: مساويًا للأرض، ( ) أي: كائنًا لا محالة. فأشار إلى مدة انتهاء صلاحية هذا الردم، وذلك عند تحقق الوعد الإلهي.

    عن زينب بنت أم سلمة عن أم حبيبة، عن زينب بنت جحشٍ رضي الله عنهن أن النبي صلى الله عليه وسلم استيقظ من نومه وهو يقول: (لا إله إلا الله، ويلٌ للعرب من شرٍ قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه) الحديث26.

    وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن يأجوج ومأجوج ليحفرون السد كل يومٍ، حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم: ارجعوا فستحفرونه غدًا، فيعودون إليه كأشد ما كان، حتى إذا بلغت مدتهم، وأراد الله عز وجل أن يبعثهم إلى الناس، حفروا حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم: ارجعوا فستحفرونه غدًا إن شاء الله، ويستثني، فيعودون إليه وهو كهيئته حين تركوه، فيحفرونه ويخرجون على الناس، فينشفون المياه، ويتحصن الناس منهم في حصونهم، فيرمون بسهامهم إلى السماء، فترجع وعليها كهيئة الدم، فيقولون: قهرنا أهل الأرض، وعلونا أهل السماء، فيبعث الله عليهم نغفًا في أقفائهم فيقتلهم بها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفس محمدٍ بيده، إن دواب الأرض لتسمن شكرًا من لحومهم ودمائهم)27.

    الدروس من قصة ذي القرنين

    من الدروس والعبر التي تؤخذ من قصة ذي القرنين ما يأتي:

    • من عوامل النهوض وأسباب الرقي: الأخذ بالأسباب المعينة على ذلك من الإيمان الخالص والعلم النافع والعمل الصالح، مع الإخلاص والتجرد والتوكل واليقين وعلو الهمة.
    • العقيدة الصحيحة والإيمان الراسخ من صفات ذي القرنين، لاحظ كثرة ترديده لكلمة ربي، حتى لا تكاد تمر جملة إلا ويذكرها: (ﭿ ). ( ). ( )، وفي هذا تعظيمٌ لله ومحبةٌ له، وترسيخٌ للعقيدة، وشكرٌ وامتنانٌ.
    • في هذا نموذج يحتذى لخطاب الحكام والساسة، وترسيخ لمعاني الربوبية وتذكيرٌ بآثارها، وفيه ما يدل على محبة وتعظيم وعبودية وتسليم لله تعالى، فهو وإن قاد العالم لكنه ينقاد لخالقه وبارئه.
    • خطاب الحاكم وكلماته لا بد وأن يعنى فيها بالترغيب والترهيب، ويذكر دائمًا بأمور الآخرة لما في ذلك من بالغ الأثر في إصلاح القلوب وتهذيب النفوس وحفز الهمم لثواب الآخرة.
    • قيام الحضارات لا يتأتى بين عشية وضحاها؛ بل يأتي بعد جهدٍ جهيدٍ وصبرٍ جميلٍ وإعدادٍ جيدٍ وتخطيطٍ محكمٍ، والأمم إن لم تنهض وتتقدم، فإنها تتقاعس وتتخلف.
    • الحضارة الإسلامية تبعث في النفس روح النهوض والأمل، وتنمي ملكة الابتكار والتطوير، ويسعى المسلمون لنشر روح الحضارة والرقي في كافة بقاع الأرض ليعم الخير الجميع.
    • ضرورة التخطيط الواعي المقترن بالتنفيذ المحكم لإصلاح البلاد والنهوض بها.
    • حتى تصل رسالة التوحيد إلى الأمم والشعوب التي لم تصلها بعد لا بد وأن نكون أمة متحضرة متقدمة حتى يسمع العالم لنا، فهذا ذو القرنين يستمع العالم له ويشيد بعدله ويحتمي بسلطانه.
    • في قصة ذي القرنين نموذجٌ رائعٌ ومثالٌ واقعيٌ للقائد الراشد والحاكم العادل والفاتح المؤيد، الذي يمكنه الله في الأرض، وييسر له الأسباب؛ فيبلغ مشارق الأرض ومغاربها ؛ فلا يتجبر ولا يتكبر، ولا يطغى ولا يتبطر، ولا يتخذ من الفتوح وسيلة للكسب المادي، واستغلال الأفراد وابتزاز الشعوب، ولا يعامل البلاد المفتوحة معاملة الرقيق؛ ولا يسخر أهلها في أغراضه وأطماعه. . إنما ينشر العدل في كل مكان يحل به، ويساعد المتخلفين المستضعفين، ويدرأ عنهم العدوان دون مقابل؛ ويستخدم القوة التي يسرها الله له في التغيير والإصلاح، ودفع العدوان وإحقاق الحق، وهكذا كانت الفتوحات الإسلامية في عهودها الأولى.
    • العدل في العقوبة، فلا يتجاوز الحاكم حدود الشرع فيها، والإحسان في المكافأة والإثابة، فهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟
    • الحزم في الأمور من صفات القائد والحاكم، تأمل قوله تعالى: ( ﭿ ) [الكهف: ٨٧].
    • الأدب مع الله: ( ) لما ذكر ما أعد الله له من الحسنى جزاء لم يناسب أن يذكر جزاءه بالفعل، بل اقتصر على القول أدبًا مع الله تعالى، وإن كان يعلم أنه يحسن إليه فعلًا وقولًا.
    • في تخيير ذي القرنين رحمه الله بين أن يعذبهم وبين أن يتخذ فيهم حسنًا، ما يدل على ما كانوا عليه من ظلمٍ بينٍ، وصدٍ عن الحق، مما يستوجب معاقبتهم، وفي هذا ما يرشد إلى وجوب مجابهة الظالمين وكفهم عن ظلمهم.
    • التيسير من مقاصد الشريعة ومظاهرها، وهو واجب شرعي على الحكام والمسؤولين، فينبغي مراعاته، سيما لمن هو أهله من أهل الصلاح والاستقامة، والتيسير في القول والفعل .
    • من صفات الحاكم والقائد الرحمة، فالرحمة من كريم الشمائل، ومن الواجبات والمقاصد الشرعية مهمة الحاكم تحقيقها ( ) [الكهف: ٩٨].
    • الحاكم العادل يعطي الرعية أكثر مما تطمح إليه، حيث بنى لهم سدًا منيعًا دون مقابل ماديٍ.
    • الحاكم المسلم لا بد وأن يكون مؤهلًا بمعارفه الواسعة وثقافاته المتشعبة وفقهه بأمور الدين والحياة.
    • أهمية تعلم اللغات للتفاهم والتواصل والتعاون مع الشعوب، عن ابن زيدٍ رضي الله عنه، في قوله: ( )، قال: «علمًا، من ذلك تعليم الألسنة، كان لا يعرف قومًا إلا كلمهم بلسانهم»28.
    • الأخذ بالأسباب وإعداد العدة للأسفار البعيدة بما يناسبها.
    • الهمة العالية والعزيمة القوية لبلوغ الأهداف.
    • التأكيد على أهمية طلب العلم والتزود بالمعرفة، والسؤال عما يجهله الإنسان أو السؤال للتثبت من الإجابة، والسؤال هو المفتاح الثاني بعد القراءة لطلب المعارف والعلوم واكتشاف المجهول.
    • حرص الحاكم القائد على نشر أصول الحضارة والمدنية في دائرة ملكه وخارجها.
    • ضرورة إعداد الجيوش وتجهيزها بأحدث التقنيات مع إعداد الجنود والقادة، فلا سبيل إلى إزاحة الأنظمة المستبدة وحماية المستضعفين، وتمهيد طريق الدعوة، وتأمين المدعوين، ونشر العدالة والرحمة، إلا بالجهاد.
    • من صفات الإمام العادل أنه حربٌ على أعداء الله وسلم لأولياء الله، يدني أهل الطاعة ويباعد أهل المعصية، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويذكر دائمًا بفضل الله ورحمته، ومن واجبه أن يصون البلاد من كل مكروهٍ.
    • جمع إلى جانب العلم النافع والخبرة الدقيقة والمهارة الفائقة والإمكانات الهائلة: التواضع الرفيع والإيمان العميق والنفس الراضية العفيفة، والأيادي السخية النظيفة، والأريحية والشهامة: ( ﯿ ). لم يستغل حاجتهم في تجريدهم من الممتلكات والثروات، كما تفعله في عصرنا الحاضر الأمم الغالبة المتحضرة مع الشعوب المقهورة النامية، من نهب ثرواتهم وحصد خيراتهم وجني ثمارهم! والتآمر على بقائهم تحت وطأة الجهل ونير الاستبداد. ما فعل ذو القرنين كما تفعل تلك الدول التي ترهق الشعوب الفقيرة بالديون المركبة، تطوق بها أعناقهم وتلهب بها ظهورهم، وتنتزع ولاءهم وخنوعهم! وترغم أنوفهم.
    • في حبس ذي القرنين ليأجوج ومأجوج وراء الردم: دليلٌ على اتخاذ السجون، وحبس أهل الفساد فيها، لمعاقبتهم ومنع شرهم وتقويم سلوكهم . قال القرطبي: في هذه الآية (آية السد) دليل على اتخاذ السجون، وحبس أهل الفساد فيها، ومنعهم من التصرف لما يريدونه، ولا يتركون وما هم عليه، بل يوجعون ضربًا ويحبسون، أو يكفلون ويطلقون29.
    • دفع الشر بأيسر ما يندفع به، ذلك أن ذا القرنين مع حزمه وقوته رأى أن بناء السد كافٍ في دفع أذى يأجوج ومأجوج دون الحاجة لإراقة الدماء.
    • شكر المنعم وإجلاله والتواضع لعظمته والإقرار بفضله: قال السعدي: «فلما فعل هذا الفعل الجميل والأثر الجليل، أضاف النعمة إلى موليها وقال: ( ﭕﭖ) أي: من فضله وإحسانه علي، وهذه حال الخلفاء الصالحين، إذا من الله عليهم بالنعم الجليلة، ازداد شكرهم وإقرارهم، واعترافهم بنعمة الله، كما قال سليمان عليه السلام ، لما حضر عنده عرش ملكة سبأ مع البعد العظيم، قال: ( ﮨﮩ ﮮﮯ ) [النمل: ٤٠]. بخلاف أهل التجبر والتكبر والعلو في الأرض، فإن النعم تزيدهم أشرًا وبطرًا»30.
    • ألا ما أحوج البشرية إلى الدعاة والمصلحين والقادة الراشدين، الذين يبددون ظلام الاستبداد، ويقطعون دابر الفساد، ويقيمون موازين القسط، ويرفعون مشاعل النور، كما قال محمد إقبال31:

      فأين جحافل الأبطال منا

      يضئ مسيرها للسالكين

      وتغبطها شعوبٌ أرهقتها

      بالاستبداد أيدي الظالمين

    • سرعة تحقيق العدالة وإنجاز الأعمال التي تجلب المصالح أو تدفع المضار للأمم والشعوب، فالعدالة البطيئة ظلم، والتواني في إنجاز المشاريع مفسدة عظيمة.
    • السياحة في الأرض والتجوال فيها لا بد وأن تكون هادفةً بناءةً ليس لمجرد المتعة والتسلية، بل لنشر قيم العدالة والخير.
    • النظر والتأمل والاستمتاع بروائع الكون وظواهره الخلابة، كمنظر الشمس وهي تغرب، فيلتقي قرصها وهو آخذٌ بالاحمرار مع زرقة البحار، في مشهد يأخذ بالأبصار.
    • السياحة في الأرض تؤدي إلى تلاقح الأفكار وتبادل الخبرات، فضلًا عن تقارب الأمم والشعوب ولقاء الحضارات.
    • السعي إلى غوث الملهوف ونصرة المظلوم دون ترددٍ ولا تقاعس.
    • أهمية الصناعات الثقيلة وأثرها في حالة السلم والحرب.
    • العلم والمعرفة والخبرات ملكٌ للإنسانية ليس لأحد أن يحتكرها.
    • ربط الأعمال كلها بمشيئة الله سبحانه.
    • التعاون والعمل الجماعي يساعد في إنجاز المهمات الكبرى.
    • لا تزال هناك أممٌ متخلفة عن ركب الحضارات، وقبائل تعيش في أصقاع الأرض، في جزر نائية أو أدغال، أو قمم جبال منعزلة تمامًا عن البشرية، وتلك مسؤولية الشعوب والحكومات المتحضرة أن تمد يد العون.

      لمسات بيانية في قصة ذي القرنين

    • حسن المطلع، ( ﰄﰅ) [الكهف: ٨٣ ]. فالبداية بالسؤال من بلاغة الاستهلال وروائعه، ومما يسترعي الانتباه ويلفت الأنظار، ويشوق النفوس، وفي الجواب شفاءٌ ووفاءٌ، بما يفي بحاجة السائل، «والتعبير بصيغة الاستقبال () لاستحضار الصورة الماضية؛ لما أن في سؤالهم على ذلك الوجه مع مشاهدتهم من أمره ما شاهدوا نوع غرابة، وقيل: للدلالة على استمرارهم على السؤال إلى ورود الجواب»32.
    • ( ) قصة ذي القرنين جديرةٌ بالمذاكرة والمدارسة لما فيها من عبرٍ وعظاتٍ وحكمٍ ومعانٍ وآدابٍ وشمائل، وفوائد للقادة والمصلحين والساسة والمربين والرعايا، فكان جديرًا بأن يذكر في أشرف الكتب ويتردد على مسامع خير الأمم، فهو أسوةٌ للحكام قدوة للقادة إمامٌ للمصلحين.
    • بداية القصة بقوله تعالى: ( ) من حسن المطلع وروعة الاستهلال، إذ قبل الحديث عن ملك من أعظم ملوك الأرض يأتي الحديث عن ملك الملوك، فهو من وهب لذي القرنين هذا الملك العظيم ومكن له، فالتمكين من الله تعالى. والتعبير بنون العظمة دليل على عظمة الله تعالى وعظمة ما وهبه لذي القرنين من ملك وسلطانٍ وتمكينٍ في الأرض، قال البقاعي: «ولما كانت قصته من أدل دليل على عظمة الله، جلاها في ذلك المظهر فقال: ( ) أي: بما لنا من العظمة، () بعظمتنا»33.
    • بلاغة الربط بين الأحداث، وجمال الفواصل بينها ( )، ( )، ( )، ( )، تكررت مع كل رحلة، وانتهاء الفاصلة بالألف المدية من جمال القرآن الكريم.
    • دقة القرآن الكريم في التعبير بالفاء ( ) وبـ(ثم) في ( ) فالفاء تدل على الجد والمبادرة إلى الأخذ بالمزيد من الأسباب، و(ثم) تدل على التراخي الزمني، بين هذه الرحلات.
    • والتعبير بالفاء ( ) يشير إلى همةٍ عالية وعزيمةٍ قويةٍ تأخذ الأمور بجدٍ، فلا توانٍ ولا تقاعس ولا تكاسل ولا تراخي عن الأخذ بأسباب التقدم والنهوض، أما التعبير بـ(ثم) مرتين ( ) فيشير إلى دأبه واستمراره على طلب المزيد.
    • قدم العذاب الدنيوي على الأخروي لأن الكافر يرعوي وينزجر بالعقاب الدنيوي، بينما قدم ما عند الله على ما عنده؛ لأن نفوس المؤمنين تطمح لما لها عند رب العالمين وتستشرف هذا الثواب المدخر، وتتشوف لنصيبها في الآخرة.
    • جاء التعبير بسوف: ( ) للدلالة على إمهاله لهم حتى تقام عليهم الحجج، فإن هم أصروا على كفرهم وظلمهم فقد استوجبوا العقاب، كما أن (سوف) أبلغ من السين، وفي ذلك إمعانٌ في تهديدهم إن لم يتوبوا، قال أبو حيان: «وأتى بحرف التنفيس في ( ) لما يتخلل بين إظهاره كفره وبين تعذيبه من دعائه إلى الإيمان وتأبيه عنه، فهو لا يعاجلهم بالقتل على ظلمهم، بل يدعوهم ويذكرهم، فإن رجعوا وإلا فالقتل»34.
    • ( ﮎﮏ ) تقديم () للاعتناء والتخصيص، وتأخير الحسنى للتشويق مع مراعاة الفاصلة، مع فصاحة التركيب.
    • المقابلة بين الظلم والإيمان: والأصل المقابلة بين الإيمان والكفر؛ لأن الكافر لا يعاقب دنيويًا على كفره فحسب، بل يعاقب على ظلمه واعتدائه.
    • دقة القرآن الكريم في ( )، ( ): قال البقاعي: «وزيادة التاء هنا تدل على أن العلو عليه أصعب من نقبه لارتفاعه وصلابته والتحام بعضه ببعض حتى صار سبيكة واحدة من حديد ونحاس في علو الجبل»35.

      موضوعات ذات صلة:

      التمكين، التطوع، الحضارة، السياسة، الفساد


1 مروج الذهب، المسعودي ١/١٢٧.

2 آثار البلاد وأخبار العباد، القزويني ١/٩٢.

3 المصنف ابن أبي شيبة ٧/٤٦٨.

4 انظر: الدر المنثور، السيوطي ٩/٦٣٢.

5 أخرجه الحاكم في المستدرك، رقم ٤٠٥، ٢/١٤.

قال الحاكم: هذا حديثٌ صحيحٌ على شرط الشيخين، ولم يخرجاه.

ولم يتعقبه الذهبي.

وصحح البخاري إرساله في التاريخ الكبير ١/٥٣.

6 معالم التنزيل، البغوي ٣/٢١٢.

7 إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان ٢/٢٦٤.

8 التحرير والتنوير ١٥/١٢٣.

9 إرشاد العقل السليم ٥/٢٤٠.

10 التحرير والتنوير ١٥/١٢٥.

11 نظم الدرر ٤/٥٠١.

12 هذه القصة رواها ابن إسحاق عن ابن عباس رضي الله عنه، كما في السيرة النبوية، ابن هشام ١/ ٣٢١.

وأخرجها الطبري في تفسيره، ١٧/٥٩٣، والبيهقي في دلائل النبوة ٢/٢٦٩.

13 قرأ ابن عاصم وعامر وحمزة والكسائي (حامية) أي: حارة، والباقون (حَمِئَة) أي: كثيرة الحمأة، وهي الطينة السوداء، تقول: حمأت البئر حمأ بالتسكين إذا نزعت حمأتها، وحمئت البئر حمأ بالتحريك كثرت حمأتها، ويجوز أن تكون حامية من الحمأة، فخففت الهمزة وقلبت ياء، وقد يجمع بين القراءتين، فيقال: كانت حارة وذات حمأة.

انظر: النشر في القراءات العشر، الجزري ٢/٣١٤.

14 نظم الدرر، البقاعي ٤/٥٠٢ بتصرف .

15 مباحث في التفسير الموضوعي، مصطفى مسلم ص ٣٠٥ بتصرف.

16 انظر: في ظلال القرآن، سيد قطب ٤/١٢.

17 أحكام القرآن، ابن العربي ٣/٢٤٣.

18 انظر: تفسير ابن أبي حاتم، ٩/٢٣٥.

19 نظم الدرر ٤/٥٠٣.

20 التحرير والتنوير، ابن عاشور ١٦/٣٠.

21 إرشاد العقل السليم ٥/٢٤٤.

22 المحرر الوجيز ٣/٥٤٠ .

23 انظر: جامع البيان، الطبري ١٨/١٠٣.

24 جامع البيان، الطبري ١٨/١١٣ بتصرف.

25 الجامع لأحكام القرآن ١١/٦٠.

26 أخرجه البخاري في صحيحه ، كتاب الأنبياء، باب قصة يأجوج ومأجوج، ٢/٣٦٨، رقم ٣٣٤٦، ومسلم في صحيحه، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب اقتراب الفتن وفتح ردم يأجوج ومأجوج، ٤/٢٢٠٧، رقم ٢٨٨٠.

27 أخرجه أحمد في مسنده، ١٦/٣٦٩، رقم ١٠٦٣٢، وابن ماجه في سننه، كتاب الفتن، باب فتنة الدجال وخروج عيسى ابن مريم وخروج يأجوج ومأجوج، ٢/١٣٦٤، رقم ٤٠٨٠.

وصححه الألباني في صحيح الجامع، ١/٤٥٢، رقم ٢٢٧٦.

28 انظر: تفسير ابن أبي حاتم ٩/٢٣٠.

29 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ١١/ ٥٩.

30 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص ٤٨٦

31 ديوان محمد إقبال، مختارات من شعره ص ٣، ٢٨، ١٠٧.

32 روح المعاني، الألوسي ١٦/٢٤.

33 نظم الدرر ٤/٥٠١.

34 البحر المحيط ٦/١٥٦.

35 نظم الدرر ٤/٥٠٥ .