عناصر الموضوع
الدين
أولًا: المعنى اللغوي:
أصل مادة (دين) تدل على الانقياد، والذُل، والدِين: انقيادٌ لله تعالى وذُلٌ له، والدَين فيه كل الذل للعبد1.
ودان: أخد الدين، ودنته: أقرضته، وأدنته: استقرضته منه، وقيل: رجل دائن ومدين ومديون، ومدان: عليه الدين، وقيل: هو الذي عليه دين كثير.
وأدان، واستدان، وادان أخذ بدين2.
ثانيًا: المعنى الاصطلاحي:
الدَين: «هو الحق الذي لا يسقط إلا بالأداء أو الإبراء»3.
وقيل: «ما ثبت في الذمة من مال الآخر، سواء كان مؤجلًا أم لم يكن»4.
وقيل: «كل معاوضة، يكون أحد العوضين فيها مؤجلًا»5.
وقال القرطبي: «وحقيقة الدين عبارة عن كل معاملة كان أحد العوضين فيها نقدًا، والآخر في الذمة نسيئة؛ فإن العين عند العرب ما كان حاضرًا، والدين ما كان غائبًا»6.
.
وردت مادة (دين) في القرآن الكريم (١٠١) ومرة7، والتي تتعلق بموضوع الدَين (٨) مرات.
والصيغ التي وردت هي:
الصيغة |
عدد المرات |
المثال |
الفعل الماضي |
١ |
(ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ) [البقرة:٢٨٢] |
المصدر |
٥ |
(ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ) [النساء:١٢] |
اسم المفعول |
٢ |
(ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ) [الصافات:٥٣] |
وجاء الدين في القرآن على معناه اللغوي، وهو: القرض ذو الأجل، ولم يخرج في الاستعمال القرآني عن هذا المعنى 8.
القرض:
القرض لغةً:
إعطاء رجلٍ قرضًا ودفعٌ إليه مالًا، وأقرضه: أعطاه قرضًا من ماله9.
القرض اصطلاحًا:
«الجزء من الشيء والقطع منه، كأنه يقطع له من ماله قطعة؛ ليقطع له من أثوابه إقطاعًا مضاعفة»10.
الصلة بين القرض والدين:
الدين: ما له أجلٌ، والقرض ما لا أجل له، والقرض أكثر ما يستعمل في العين والورق، هو أن تأخذ من مال الرجل درهمًا؛ لترد عليه بدله درهمًا، فيبقى دينًا عليك إلى أن ترده، فكل قرضٍ دينٌ، وليس كل دينٍ قرضًا11.
السلف:
السلف لغةً:
من الفعل سلف، والسلف من القرض، والسلف: كل شيءٍ قدمته فهو سلفٌ12.
السلف اصطلاحًا:
وهو المال الذي يقدم لما يشترى نساءً، أي: مؤخرًا13.
الصلة بين السلف والدين:
السلف هو ما قدم من الثمن على المبيع، والدين ما ثبت في الذمة من مال الآخر14.
الإعارة:
الإعارة لغة:
وهي اسم لعملية الاستلاف، أو لعقد الإعارة، مأخوذة من عار إذا ذهب وجاء، وقيل: من التعاور، أي: التداول أو التناوب.
الإعارة اصطلاحًا:
«تمليك المنفعة بغير عوض»15.
الصلة بين الدين والإعارة:
يتضح من خلال التعاريف السابقة أن الدين يكون في المال والأعيان التجارية. أما الإعارة فهي في الماعون.
الإيجار:
الإيجار لغةً:
«الهمزة والجيم والراء أصلان يمكن الجمع بينهما بالمعنى، فالأول: الكراء على العمل، والثاني: جبر العظم الكسير، فأما الكراء فالأجر والأجرة، وأما جبر العظم فيقال منه: أجرت اليد»16.
الإيجار اصطلاحًا:
«عقد على منفعة معلومة مباحة من عين معينة، أو موصوفة في الذمة، أو على عمل معلوم بعوض معلوم مدة معلومة»17.
الصلة بين الدين والإيجار:
من التعريفات السابقة يتبين أن الدين ما تعطيه غيرك من مال أو غيره على أن يرده إليك، والإيجار هو الأجرة على العمل دون أن يرد.
الهبة:
الهبة لغةً:
وهب له الشيء، أي: أعطاه إياه بلا عوض، وتصريفه: وهبه -يهبه- وهبًا18.
الهبة اصطلاحًا:
«تمليك العين بلا عوض»19.
الصلة بين الدين والهبة:
الدين تمليك لزمنٍ محدود يجب رده لصاحبه، وأما الهبة فهي تمليك لا يرد مطلقًا.
الغرم:
الغرم لغةً:
غرم يغرم غرمًا، ورجل مغرمٌ، من الغرم والدين، وقد أغرم بالشيء أي: أولع به، والغريم الذي عليه الدين، وقد يكون الغريم أيضًا الذي له الدين20.
الغرم اصطلاحًا:
«أداء شيءٍ لزم من قبل كفالةٍ، أو لزوم نائبةٍ في ماله من غير جناية»21.
الصلة بين الدين والغرم:
الغرم أثقل من الدين، فالمغرم: المثقل بالدين المولع به، لقوله تعالى: (ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ) [الطور: ٤٠]22.
السداد:
السداد لغةً:
الإصلاح والاستقامة والتوثيق، وسد يسد: صار سديدًا23.
السداد اصطلاحًا:
إرجاع الدين إلى الدائن من قبل المدين بتوثيق ذلك، واستقامة من قبل كليهما.
الصلة بين السداد والدين:
الدين تمليك لزمن محدد يجب رده، والسداد هو ذلك الرد.
تستمد أحكام الدين الإسلامي من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لقوله تعالى: (ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ) [آل عمران: ١٣٢].
وقوله أيضًا: (ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ) [الحشر: ٧].
وقد ورد في كتاب الله تعالى ما يبين الأمر بكتابة الدين؛ للإرشاد والتنبيه للمؤمنين، وذلك في قوله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ) [البقرة: ٢٨٢].
وقد جعل الله تعالى في مشروعية التداين بعض القواعد التي يجب أن يحتاط بها الدائن والمدين، خلاصتها في آية الدين من سورة البقرة، ومن أهم هذه القواعد ما يأتي:
١. تحديد الزمن.
قال تعالى: (ﭗ ﭘ ﭙ).
يقول أبو السعود: «أي: مسمى بالأيام أو الأشهر ونظائرهما، مما يفيد العلم ويرفع الجهالة»24.
٢. الكتابة.
ورد ذلك في قوله تعالى: (ﭚﭛ)، هذا توجيه من الله تعالى لعباده المؤمنين، إذا تعاملوا بديون مؤجلة بأن يكتبوها، وذلك أحفظ للدين سواء لمقداره أو ميقاته، وأضبط للشهادة فيه؛ لقوله: (ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ) [البقرة: ٢٨٢]25.
٣. حضور الشهود.
قال تعالى: (ﮉ ﮊ ﮋﮌﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ) [البقرة: ٢٨٢].
لقد أمرنا الله تعالى بالكتابة والإشهاد على الكتابة؛ لأن الكتابة بغير شهود لا تكون حجة، فأمرنا بالكتابة؛ كي لا ننسى، وبالشهود حجة على الطرفين حتى لا يغدر أحدهما بالآخر26.
وقد شدد النبي صلى الله عليه وسلم على قضايا الدين في حياة الأمة؛ لما لها من أهميةٍ اجتماعية وأخلاقية في المجتمع المسلم، وللحفاظ على المال العام والخاص من الضياع؛ فلذلك ذكر أحاديث كثيرة تحذر من مغبة أكل الدائن لمال المدين الذي استدان منه، أو المماطلة في سداده، ومن هذه الأحاديث:
٤. وفاء الدين.
يجب على الغني الوفاء بدينه، ويحرم عليه المماطلة في سداد الدين، فقد روي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (مطل الغني ظلمٌ)27.
معنى مطل الغني: أي: تسويف القادر المتمكن من أداء الدين الحال ظلم منه لرب الدين، فهو حرام بل كبيرة28.
وفيه دلالة على أن الحوالة إنما تكون بعد حلول الأجل في الدين؛ لأن المطل لا يكون إلا بعد الحلول، وفيه ملازمة المماطل وإلزامه بدفع الدين والتوصل إليه بكل طريق، وأخذه منه قهرًا29.
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يغفر للشهيد كل ذنبٍ إلا الدين)30.
وعن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه، سمعه يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنه قام فيهم، فذكر لهم أن الجهاد في سبيل الله والإيمان بالله أفضل الأعمال، فقام رجلٌ فقال: يا رسول الله أرأيت إن قتلت في سبيل الله تكفر عني خطاياي؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم، إن قتلت في سبيل الله وأنت صابرٌ محتسبٌ مقبلٌ غير مدبر، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف قلت؟ قال: أرأيت إن قتلت في سبيل الله أتكفر عني خطاياي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم، وأنت صابرٌ محتسبٌ مقبلٌ غير مدبر، إلا الدين؛ فإن جبريل عليه السلام قال لي ذلك)31.
ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يصلي على رجل مات وعليه دين، وليس أحدٌ يضمن سداده، فإذا تضمنه أحدٌ صلى عليه، وإلا أمر أن يصلى عليه.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يؤتى بالرجل المتوفى عليه الدين، فيسأل: هل ترك لدينه فضلًا، فإن حدث أنه ترك لدينه وفاء صلى، وإلا قال للمسلمين: (صلوا على صاحبكم)، فلما فتح الله عليه الفتوح قال: (أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فمن توفي من المؤمنين فترك دينًا فعلي قضاؤه، ومن ترك مالًا فلورثته)32.
إن التداين بدين إلى أجل مسمى يقتضي العمل على حفظ هذا الدين، حتى لا تضيع الحقوق، وتحدث المنازعات، ويخون الناس بعضهم بعضًا، وبيان هذه الأحكام فيما يأتي:
أولًا: حكم كتابة الدين:
وقد برز ذلك واضحًا في قوله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ) [البقرة: ٢٨٢].
ابتدأت الآية الكريمة بخطاب المؤمنين فقال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ)، فمن اتصف بالإيمان طبق ما كلفه الله تعالى به بأكمل وجه؛ فالله تعالى قد أمر بالكتابة في الدين لحكمة أراد بها حماية حركة الحياة عند الناس، ورفع الحرج فيما بينهم، لذلك جاء الأمر منه سبحانه بالكتابة فقال: (ﭚ)33.
والآية تحمل في طياتها الأمر بكتابة جميع عقود الديون؛ فقوله سبحانه: (ﭔ ﭕ ﭖ)، أي: إذا تعاملتم بدين ما، من أي صنف من أصناف المداينة، فاكتبوا هذا الصنف.
واختلف العلماء في هذه الكتابة أهي واجبة أم مستحبة؟
فقال بعضهم: هي واجبة؛ لأن الله تعالى يعلم طبيعة البشر، حيث إن فيهم من لا يؤتمن على حقوق الآخرين، فأمر بالكتابة لأجل أن يحفظها. والأكثرون قالوا: إنه أمر على الاستحباب، فإن ترك فلا بأس، كقوله تعالى في الانتشار بعد أداء صلاة الجمعة: (ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ) [الجمعة: ١].
وقال بعضهم: كانت كتابة الدين والإشهاد والرهن فرضًا، ثم نسخ الكل بقوله تعالى: (ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ) [البقرة: ٢٨٣]34، أي: بدون مكاتبة بينهما، تترك المكاتبة لأمانة المتداين ما دام صاحبه قد أمنه على ماله.
ثانيًا: شروط كاتب الدين:
ولأهمية الكتابة جعل الله تعالى لها شروطًا يحفظ من خلالها حقوق المتداينين، منها ما يتعلق بالدين نفسه، ومنها ما يتعلق بالمتداينين، ومنها ما يتعلق بكاتب الدين، ومنها ما يتعلق بشهود عقد الكتابة، وفيما يأتي نبين بعض الشروط المتعلقة بكاتب عقد الدين:
١. العدل بين المتداينين.
الذي له الدين قد يتهم في الكتابة من الذي عليه الدين، وكذلك بالعكس، فشرع الله سبحانه كاتبًا غيرهما، وأمر سبحانه أن يكتب بالعدل، فلا يكون في قلبه ولا قلمه مودة تؤدي إلى ظلم الآخر، فلا يكتب لصاحب الحق أكثر من حقه، محاباة له، وخاصة إذا كان الطرف الآخر لا يحسن القراءة، أو لا يفهم معاني اللغة، وذلك بالتدليس أو الالتفاف بالألفاظ التي يصعب عليه فهمها، أو بالتغير والتبديل فيما أملي عليه، وألا يزيد في المال أو الأجل، وكذلك لا يقلل في الكتابة من حق صاحب الحق بنفس الطريقة أو بغيرها35.
يقول الزحيلي في تفسيره: «لقد بين الله كيفية الكتابة وعين من يتولاها، وذلك بأن يكتب كاتب مأمون عادل محايد، فقيه متدين يقظ، دون ميل لأحد الجانبين، مع وضوح المعاني، وتجنب الألفاظ المحتملة للمعاني الكثيرة، فهو كالقاضي بين الدائن والمدين، وهذا يدل على اشتراط العدالة في الكاتب، والعلم بكيفية كتابة وثيقة الدين»36.
٢. العلم بكيفية كتابة العقود.
قال تعالى: (ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ) [البقرة: ٢٨٢].
(كاتب) أي: عالم بالأحكام الشرعية والفقهية والقانونية المتعلقة بالدين، والشروط المرعية عرفًا ونظامًا، كما شرعه الله وأمر به، فليكتب بحيث لا يزيد ولا ينقص، ويكتب ما يصلح أن يكون حجة عند الحاجة، ولا يخص أحد الخصمين بالاحتياط له دون الآخر، وأن يكون كل واحد منهما آمنًا من إبطال حقه، وأن يكون ما يكتبه متفقًا عليه عند العلماء، وأن يحترز من الألفاظ التي يقع النزاع فيها37.
ثالثًا: شروط كتابة الدين:
إن الله تعالى جعل كتابة الدين حفظًا للحقوق، ووضع سبحانه للكتابة شروطًا؛ لتقوية هذه العقود من أهمها:
١. أن يكون الكاتب من غير المتداينين.
لقد قرر الله تعالى لكاتب الدين أن يكون طرفًا ثالثًا غير المتداينين، حتى لا يكتب أحدهما لنفسه على الآخر، ولذلك اشترط سبحانه على الكاتب العدالة في نفسه، أي: أن يكون محقًا في كتابته، وبيان ذلك في قوله تعالى: (ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ) [البقرة: ٢٨٢].
أي: كاتب آخر غيركم، وأن يكتب بالحق والمعدلة، فالباء في قوله تعالى: (ﭟ) متعلقة بقوله: (ﭜ) وليست متعلقة بـكلمة (ﭞ)؛ لأنه كان يلزم ألا يكتب وثيقة إلا والعدل في نفسه، وقد يكتبها الصبي والعبد إذا أقاموا فقهها. أما المنتصبون لكتبها في مناصب الدولة فلا يجوز للولاة أن ينصبوهم للكتابة إلا عدولًا مرضيين، قال مالك رحمه الله تعالى: لا يكتب الوثائق بين الناس إلا عارف بها، عدل في نفسه مأمون؛ لقوله تعالى: (ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ) [البقرة: ٢٨٢].
على هذا تكون لفظة (ﭟ) في موضع صفة للكاتب الذي هو موكل بكتابة عقد الدين38.
٢. إملاء المدين.
لقد جعل الله تعالى الكتابة لأجل توثيق الدين، وجعل توثيق الدين لأجل حفظ الحقوق، ولذلك ينظر للضعيف في هذا العقد؛ لأجل حفظ حقه من القوي، فالجانب الضعيف هو المدين، فلذلك جعل الله تعالى إملاء الكتابة بيده لا بيد الدائن، فلذلك حدد الله الذي يملل في قوله تعالى: (ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ) [البقرة: ٢٨٢].
أي: يملي الذي عليه الدين، فيملي الصيغة التي تكون حجة عليه.
وإن من حكمته سبحانه بألا يملي الدائن؛ لأن المدين عادة يكون في مركز الضعف، ولو جعل الإملاء بيد الدائن لأملى ما لا يتحمله المدين، مستغلًا ضعفه وحاجته للدين، فعندما يأتي ميعاد السداد لا يستطيع تنفيذ ما أملي عليه. فلذلك جعل الله تعالى الإملاء بيد المدين، فيملي ما يكون عليه حجة عليه39.
فإن لم يكن المدين قادرًا على إملاء الدين، فإنه ينيب عنه غيره.
فقد يكون الذي عليه الدين سفيهًا، أو ضعيفًا، أو لا يستطيع أن يمل من ضعف في المعرفة، فالله تعالى وضع الحل في قوله تعالى: (ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ) [البقرة: ٢٨٢].
إن الحجر على مثل هؤلاء بالإملاء في كتابة عقود الدين يأتي من ضعف في الرأي عندهم، وخفة في عقولهم، وهو ما يسمى بالسفه، وليس السفه في هذه الآية بمعنى الفساد؛ لأنه لا يمكن وصف المؤمنين بالسفاهة التي بمعنى الفساد، فتسميتهم بهذا اللفظ هو لخفة في عقولهم، وليس ذلك لتحقيرهم، وكذلك من ضعف في القراءة والكتابة، فمثل هذه الأعذار تستوجب ممن يتولى الإشراف على كتابة عقد الدين، أن يستبدل أمثال هؤلاء بمن ينوب عنهم ممن يملكون الأهلية في الكتابة، وسفه بمعنى: استخف؛ لأن السفاهة خفة العقل واضطرابه، يقال: تسفهه، أي: استخفه40.
يقول الرازي: «إن إدخال حرف (ﭽ) بين هذه الألفاظ الثلاثة، أعني: السفيه، والضعيف، ومن لا يستطيع أن يمل، يقتضي أن تكون أمورًا متغايرة؛ لأن معناه: أن الذي عليه الحق إذا كان موصوفًا بإحدى هذه الصفات الثلاث، (ﮅ ﮆ ﮇ)، فيجب في الثلاثة أن تكون متغايرة، وإذا ثبت هذا وجب حمل السفيه على الضعيف الرأي، ناقص العقل من البالغين، والضعيف على الصغير والمجنون والشيخ الخرف، وهم الذين فقدوا العقل بالكلية، والذي لا يستطيع لأن يمل من يضعف لسانه عن الإملاء لخرس، أو جهله بماله وما عليه، فكل هؤلاء لا يصح منهم الإملاء والإقرار، فلا بد من أن يقوم غيرهم مقامهم، فقال تعالى: (ﮅ ﮆ ﮇ)، والمراد: ولي كل واحد من هؤلاء الثلاثة؛ لأن ولي المحجور السفيه، وولي الصبي، هو الذي يقر عليه بالدين، كما يقر بسائر أموره»41.
٣. كتابة الأجل.
إن من شرط كتابة عقد الدين أن يكون الدين لأجل، والأجل يجب تسميته وتحديده بحيث لا يكون مبهمًا، قال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ) [البقرة: ٢٨٢].
يعني الحق سبحانه بذلك: أن يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله إذا تداينتم دينًا، أو إذا تبايعتم بدين، أو اشتريتم به، أو تعاطيتم أو أخذتم به إلى وقت معلوم، فاكتبوا ذلك الدين أو البيع بينكم، ولا تتركوه مهملًا، فتقعوا في أمور محذورة لا تتوقعونها، ولا يحمد عقباها؛ إذ إن كتابة الدين تقتضي أن يوثق تاريخ الدفع فيه، وقد يدخل في ذلك القرض والسلم، وكل ما جاز فيه، فالسلم المسمى الذي أجل بيعه يصير دينًا على بائع ما أسلم إليه فيه. ويحتمل كذلك بيع الحاضر الجائز بيعه من الأملاك بالأثمان المؤجلة، كل ذلك من الديون المؤجلة إلى أجل مسمى، إذا كانت آجالها معلومة بحد موقوف عليه42.
وقد يكون البيع بالدين إلى أجل قريب، وقد يكون إلى أجل بعيد، فلما أمر بالكتابة عند المداينة، استثنى من الكتابة ما كان الأجل فيه قريبًا، والتقدير: (ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ) إلا أن يكون الأجل قريبًا، وهو المراد من التجارة الحاضرة، وإنما رخص الله تعالى في ترك الكتابة والإشهاد في هذا النوع من التجارة؛ لكثرة ما يجري بين الناس فيها، فلو تكلف فيها الكتبة والإشهاد؛ لشق الأمر على الخلق، ولذلك نجد أن من حكمة الله تعالى ورحمته بخلقه، استثناء هذا النوع من الدين من الكتابة43.
٤. قيمة الدين.
لقد اعتنى الشرع ببيان قيمة الدين المحرر في عقده، سواء كانت القيمة صغيرة أو كبيرة، أي: إن الله تعالى لم يحد نصابًا محدودًا لكتابة عقد الدين، إنما جعله في الكثير والقليل.
قال تعالى: (ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ)[البقرة: ٢٨٢].
قال ابن كثير: «هذا من تمام الإرشاد، وهو الأمر بكتابة الحق صغيرًا كان أو كبيرًا، فقال: (ﮦ ﮧ)، أي: لا تملوا أن تكتبوا الحق على أي حال كان من القلة والكثرة إلى أجله».
وقوله: (ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ) [البقرة: ٢٨٢].
أي: هذا الذي أمرناكم به من الكتابة للحق إذا كان مؤجلًا هو (ﮱ ﯓ ﯔ) أي: أعدل (ﯕ ﯖ)، أي: أثبت للشاهد إذا وضع خطه ثم رآه تذكر به الشهادة؛ لاحتمال أنه لو لم يكتبه أن ينساه، كما هو الواقع غالبًا، (ﯗ ﯘ ﯙ)، وأقرب إلى عدم الريبة، بل ترجعون عند التنازع إلى الكتاب الذي كتبتموه، فيفصل بينكم بلا ريبة.
رابعًا: مقاصد الكتابة:
إن الملاحظ من سياق الآيات أن تكرار لفظ الكتابة في آية واحدة مع التأكيد بحرف اللام، لهو دليل على حرص الشرع على الحفاظ على حق العباد من الضياع، فقال تعالى في موضع من الآية: (ﭚ)، وفي ثانٍ: (ﭜ)، وفي ثالثٍ: (ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ)، وفي رابعٍ: (ﭪ)، وفي خامسٍ: (ﭫ)؛ لأن الكاتب بالعدل إنما يكتب ما يملى عليه، وفي آخر: (ﭯ ﭰ ﭱ)، وهذا الأمر بالتقوى بعد تكرار لفظ الكتابة لهو تأكيد لأهمية الكتابة وما تحمل في طياتها من فوائد، أهمها:
١. حفظ المال، وعدم إضاعته.
وصونه من الهلاك والبوار بالمماطلة في سداد الدين، فالمكاتبة حصن منيع لحفظ المال.
٢. أعدل في الشهادة.
قال تعالى: (ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ) [البقرة: ٢٨٢].
أي: أثبت للشهادة، وكذلك أقرب لنفي الريب في معاملاتكم، أي: الشك، فالكتاب يدفع ما قد يعرض لهم من الريب كائنًا ما كان.
٣. اجتناب سخط الله والمواظبة على تقوى الله تعالى.
وذلك بمنع مسببات المماطلة في سداد الدين، حيث إن الكتابة هي من أهم عوامل سد باب المماطلة من الجانبين، وذلك أن صاحب الدين إذا علم أن حقه مقيد بالكتابة، والإشهاد تحذر من طلب زيادة، أو تقديم المطالبة قبل حلول الأجل، والمديون يحذر من الجحد، ويأخذ قبل حلول الدين في تحصيل المال؛ ليتمكن من أدائه وقت الحلول44.
٤. البعد عن الوقوع في المحرمات.
مثل: الربا وغيره من الطرق المحرمة؛ للحصول على المال، حيث إن المكاتبة تشجع على فتح باب الدين بدلًا من فتح باب الربا.
٥. إقامة العدل بين المتعاملين.
فالبيان الذي أمر به القرآن من الكتابة والإشهاد أعدل في إصابة حكم الله تعالى، وهو أحرى بإقامة العدل بين المتعاملين، وأعون على أداء الشهادة على وجهها الصحيح، وأقرب إلى إزالة الشكوك في تعيين جنس الدين ونوعه وقدره وأجله، فهذه مزايا ثلاث تؤكد العمل بكتابة الدين45.
ويستدل من الآيات السابقة على أن الشرع اهتم بكتابة الدين، وجعل الله أحكامًا وشروطًا تتعلق بالدائن والمدين ومن ينوب عنه، وبينت الآيات صفات وأهلية لكاتب الدين، والهدف والأثر لكتابة الدين.
لقد أعطى الحق سبحانه وتعالى للدين عناية كبيرة؛ لأن فيه مواساة الفقير وإغاثة الملهوف، ولأجل أن يضمن سير حركة الحياة الاجتماعية والاقتصادية أن تمر بسلام دون فوضى، شرع ربنا عز وجل الكتابة في الدين، وجعل للكتابة شروطًا تقوم عليها، من أهمها الشهادة على عقد كتابة الدين، وجعل للشهادة أيضًا بعض الشروط التي تقوم عليها، ومن أهمها ما يأتي:
أولًا: عدد الشهداء:
الله تعالى أمر في المداينة بأمرين:
أحدهما: الكتابة بقوله: (ﭚ).
والثاني: الإشهاد بقوله: (ﮉ ﮊ).
والله تعالى لأجل تحصين العقود وتوثيقها توثيقًا جيدًا بحيث لا يتخلله النسيان الذي قد يؤدي لجحد المال، جعل العقود وتوثيقها تعتمد اعتمادًا كبيرًا على الشهداء، وخوفًا من النسيان أو الحوادث الطارئة التي قد تؤدي فقدان الشاهد.
والله تعالى شرع العدد بأكثر من شاهد، وذلك حفظًا لما سبق من الحقوق.
قال تعالى: (ﮉ ﮊ ﮋﮌﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ) [البقرة: ٢٨٢].
وقوله تعالى: (ﮉ)، بمعنى: أشهدوا، فالسين والتاء فيه لمجرد التأكيد، أو للطلب، أي: اطلبوا شهادة شاهدين، فيكون تكليفًا بالسعي للإشهاد، وهذا التكليف متعلق بصاحب الحق46.
والشهادة حقيقتها الحضور والمشاهدة؛ لأجل الاطلاع على التداين، أي: لمشاهدة أو لسماع تعاقدٍ بين متعاقدين، وتطلق الشهادة أيضًا على الخبر الذي يخبر به صاحبه عن أمر حصل لقصد الاحتجاج به لمن يزعمه، والاحتجاج به على من ينكره، كما هو حال طلب الشهود على حالة الزنا47.
وقوله: (ﮋﮌ)، أي: من رجال المسلمين، فحصل به شرطان: أنهم رجال، وأنهم ممن يشملهم الضمير، والمراد به: المسلمون؛ لقوله في طالعة هذه الأحكام (ﭑ ﭒ).
والرجل في أصل اللغة يفيد وصف الذكورة، فخرجت الإناث ولهن حكم خاص، ويفيد البلوغ فخرج الصبيان؛ لضعف عقله عن الإحاطة بمواقع الإشهاد ومداخل التهم، وأما الكافر فلأن اختلاف الدين يوجب التباعد في الأحوال والمخالطات والمعاشرات والآداب، فهذا التباعد بين المسلم والكافر، لا يمكن للكافر الإحاطة بأحوال العدول والمرتابين من الفريقين المسلمين، ولذلك اشترط الشرع في تزكية المسلمين شدة المخالطة، وكذلك قد عرف من غالب أهل الملل استخفافهم بحقوق من خالفهم في دينهم، فقال الله تعالى عنهم قولهم: (ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ)[آل عمران: ٧٥]48.
ثم بين الشارع الحكيم شهادة النساء وعددهن وما يتعلق بشهادتهن.
قال تعالى: (ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ) [البقرة: ٢٨٢].
وقد بين الله تعالى إن لم يكن الشاهدان رجلين (ﮒ ﮓ) أي: فليشهد رجل وامرأتان بشرط أن يكونوا ممن ترضون من الشهداء، وعلمكم بعدالتهم، وبين سبحانه الحكمة والعلة من اعتبار عدد النساء اثنتين مقابل الرجل الواحد، وذلك لأجل أن إحداهما إن ضلت الشهادة بأن نسيتها ذكرتها الأخرى، أي: إن العلة في الحقيقة التذكير عند النسيان، وهذا فيه إشعار بنقصان عقلهن وقلة ضبطهن؛ لأنه ما قاله في الرجال49.
ثانيًا: صفات الشهداء:
والله تعالى بين صفات من يشهد على حقوق العباد، فقال تعالى: (ﮉ ﮊ ﮋﮌﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ) [البقرة: ٢٨٢].
فهذه الآية فيها من الدلالة على صفات الشهود، ومنها:
١. العدالة.
قال تعالى: (ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ) [الطلاق: ٢٠].
أي: رجلين مسلمين عدلين؛ لأن في الإشهاد المذكور، سدًا لباب المخاصمة، وكتمان كل منهما ما يلزمه بيانه50.
والعدل: كل مسلمٍ بالغٍ عاقلٍ سليم من أسباب الفسق وخوارم المروءة، فأخرج هذا التعريف الكافر وغير البالغ، وفي المميز نزاعٌ، والمجنون، والفاسق وهو: من يفعل الكبيرة ويصر على الصغيرة، والفسق نوعان: بشبهةٍ كالخوارج والشيعة، وبشهوةٍ كشرب الخمر والسرقة، وأخرج من يخالف الآداب الشرعية وعرف المجتمع المسلم51.
ومن شروط العدل:
قال تعالى: (ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ)، وقوله: (ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ)، ففيه دلالة على أن الله إنما عني المسلمين دون غيرهم، حيث إنه سبحانه وصف الشهود أنهم منا، وممن نرضى عنهم، فدل هذا على أنه لا يجوز أن نقضي بشهادة شهود من غيرنا، حيث إننا لا نرضى بشهادة الكافر، فلو شهد ذمي على شيء لا تقبل شهادته عند كثير من أهل العلم على الإطلاق، وهو قول مالك، والشافعي.
ولقد رد الشافعي على بعض من أجاز شهادة الكافر الذمي، فقال: «كيف يجوز أن ترد شهادة مسلم اشترط الله فيه العدل، وثبتت عدم عدالته، حيث نعرفه يكذب على بعض الآدميين، ونجيز شهادة ذمي وهو يكذب على الله تبارك وتعالى، والمسلم غير العدل خير من كل المشركين، فكيف نجيز شهادة الذي هو شر، الذي يحيا بلا كتاب ولا سنة ولا أثر، ولا أمر اجتمعت عليه عوام الفقهاء، ونرد شهادة الذي هو خير منه، وهو المسلم الذي اتصف بغير العدل، ولكنه موحد لله تعالى؟ فإن أهل الذمة أعدلهم أعظمهم بالله شركًا، وأسجدهم للصليب وألزمهم للكنيسة!!»52.
وذهب بعض أصحاب الرأي إلى أن شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض جائزة، وإن اختلفت مللهم، وذهب بعضهم إلى أن شهادة بعضهم على بعض تجوز عند اتفاق الملة، أما إذا اختلفت الملة بأن شهد يهودي على نصراني أو مجوسي فلا تقبل.
فإذا كان هذا الاختلاف في أهل الملل الأخرى، بأن لا تقبل شهادة من خالفهم في ملتهم، فكيف تقبل شهادتهم على الموحدين.
وذهب أكثر أهل العلم إلى أن شهادة أهل الذمة في حق المسلمين باطلة، ولكن أجاز بعضهم شهادتهم على وصية المسلم في السفر فقط، واحتجوا بقول الله سبحانه وتعالى: (ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ) [المائدة: ١٠٦] أي: «من غير أهل دينكم»53.
فشهادة من لم يبلغ سن الرشد لا تقبل؛ لقوله سبحانه وتعالى: (ﮉ ﮊ ﮋﮌ) [البقرة: ٢٨٢].
قال بعضهم: تقبل في أمور معينة، فقيل: تقبل شهادة الصبيان على الجراح التي تقع في محل اجتماعهم ما لم يتفرقوا، ولا تقبل في غيرها، أي: شهادتهم على بعضهم البعض قبل المفارقة54.
وروي عن ابن عباس في شهادة الصبيان قال: لا تجوز؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: (ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ)، والصبيان لا يستراح ولا يرضى بشهادتهم55.
فلا تقبل شهادة المجنون؛ لأنه لا حكم لقوله في شيء ما، وهذا إجماع العلماء، والعقل مناط التكليف، لأجل ذلك أحكام الشرع لا تجرى إلا على ذي عقل.
والعقل لغة: المنع، ولهذا يمنع النفس من فعل ما تهواه، مأخوذ من عقال الناقة: المانع لها من السير حيث شاءت، وهو أصل لكل علم، وكان بعض الأئمة يسميه أم العلم، وكثر الاختلاف فيه حتى قيل: إن فيه ألف قول، وقد تكلم فيه أصناف الخلق من الفلاسفة والأطباء والمتكلمين والفقهاء كل واحد ما يليق بصناعته، فأما الأطباء شأنهم الخوض فيما يصلح الأبدان، فالعقل سلطان البدن، وقال المتكلمون الذين هم أهل النظر: والنظر أبدًا يتقدمه العقل، والفقهاء تكلموا فيه من حيث إنه مناط التكليف، فقال الشافعي رضي الله عنه: «هو آلة خلقها الله لعباده يميز بها بين الأشياء وأضدادها، وقال في موضع آخر: والعقول التي ركبها الله فيهم؛ ليستدلوا بها على العلامات التي نصبها لهم على القبلة وغيرها منا منه ونعمة»56.
والمروءة شرط قبول الشهادة، وهي ما يتصل بآداب النفس مما يعلم أن تاركه قليل الحياء، وهي حسن الهيئة، والسيرة، والعشرة، والصناعة، فإذا كان الرجل يظهر من نفسه في شيء منها ما يستحي أمثاله من إظهاره في الأغلب، يعلم به قلة مروءته، وترد شهادته، وإن كان ذلك مباحًا57.
وقال الشافعي: «إذا كان الأغلب الأظهر من أمره الطاعة والمروءة قبلت شهادته، وإذا كان الأغلب الأظهر من أمره المعصية، وخلاف المروءة، ردت شهادته»58.
ومن خوارم المروءة الخيانة، ولقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم قد رد شهادة من ثبتت عدم عدالته بالخيانة والقذف، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رد شهادة الخائن والخائنة، وذي الغمر على أخيه، ورد شهادة القانع لأهل البيت، وأجازها لغيرهم)59.
وقوله: القانع، أي: هو السائل المستطعم، وقيل: هو المنقطع إلى القوم يخدمهم، وذلك مثل الأجير والوكيل، ترد شهادته؛ للتهمة، فيجر النفع إلى نفسه؛ لأن التابع لأهل البيت ينتفع بما يصير إليهم، وقوله: الغمر، أي: الحقد والظنين –بالظاء- أي: المتهم.
والقاذف فاسق مردود الشهادة، وإذا تاب وحسنت حالته، قبلت شهادته، سواء أتاب بعد ما أقيم عليه الحد أو قبله، لقوله تعالى: (ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ) [النور: ٤].
وهذا قول أكثر أهل العلم60.
٢. الحرية.
وهي شرط قبول الشهادة؛ لأنها من باب الولايات، والعبد ناقص الحال لا يملك زمام أمره، فيكون أمره في يد غيره.
اتفق الحنفية والمالكية والشافعية على أن الشاهد يشترط فيه أن يكون حرًا، فلا تقبل شهادة رقيق؛ لقوله تعالى: (ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ) [النحل: ٧٥].
ولأن الشهادة فيها معنى الولاية، وهو لا ولاية له.
وقال الحنابلة والظاهرية: تقبل شهادة العبد؛ لعموم آيات الشهادة؛ ولأن العبودية ليس لها تأثير في الرد، وقيدها الحنابلة فيما عدا الحدود والقصاص بقوله تعالى: (ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ) [البقرة: ٢٨٢]61.
وسأل رجل أحمد بن حنبل عن شهادة العبد هل تجوز؟ فقال: «تقبل شهادة العبد والأمة فيما تقبل فيه شهادة الحر والحرة، وقال: لا أعرف إلا ذلك، ولما سئل بأن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز شهادة أمة في الرضاع على شهادة العبد، هل يكون ذا حجة له؟ قال: نعم، وقبلها بعض العلماء في الأمور التافهة فقط»62.
٣. العلم بما يشهد.
وجب على الشاهد أن يكون على علم تام بما يشهد به، ولا يجوز أن يشهد بما لم يعلم، قال الله تعالى: (ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ) [الزخرف: ٨٦].
وقال أيضًا: (ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ) [الإسراء: ٣٦] أي: لا تتبعه.
والشهادة مشتقة من المشاهدة، وهي المعاينة؛ لأن الشاهد يخبر عما شاهده وعاينه وتم علمه به، ومعناها: الإخبار عما علمه بلفظ أشهد أو شهدت.
والشاهد: حامل الشهادة ومؤديها؛ لأنه شاهد وعالم لما غاب عن غيره، ولذلك قالوا: لا شهادة إلا بعلم، ولا يحل لأحد أن يشهد إلا بعلم.
ومن شروط العلم: العلم بالرؤية؛ كرؤية القتل والإتلاف، أو باستفاضة فيما يتعذر علمه غالبًا بدونها، ومنها ما يكتفى فيه بالسماع.
وتصح الشهادة بالاستفاضة عند الشافعية في النسب والولادة والموت والعتق والولاء والولاية والوقف والعزل والنكاح وتوابعه، وكذلك التعديل والتجريح والوصية والرشد والسفه والملك.
وقال أبو حنيفة: «تجوز في خمسة أشياء: (النكاح، والدخول، والنسب، والموت، وولاية القضاء)»، وقيل: تصح في سبعة: (النكاح، والنسب، والموت، والعتق، والولاء، والوقف، والملك المطلق)63.
ثالثًا: مقاصد الإشهاد:
لقد ورد بيان إشهاد الصادق العدل من المسلمين عليها؛ لحكم ومقاصد أرادها الله تعالى بالكتابة والشهود، بيان بعضها فيما يأتي:
حكمة الكتابة والإشهاد في دين المال وما كان في الأجل:
قال تعالى: (ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ) وقال في الوصية والرجعة (ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ)؛ لأن المستشهد هناك صاحب الحق، فهو يأتي بمن يرضاه لحفظ حقه، فإن لم يكن عدلًا كان هو المضيع لحقه64.
الحكمة من قبول شهود ترد شهاداتهم:
وقد اتفق العلماء على أن هناك مواضع حاجات يقبل فيها من الشهادات ما لا يقبل في غيرها65 من حيث الجملة، وإن اختلفوا في بعض التفاصيل، وذلك لحكم أرادها الشرع فيها، مثال ذلك: قد أمر الله سبحانه بالعمل بشهادة شاهدين من غير المسلمين عند الحاجة في الوصية في السفر، وذلك لحكمة حفظ الحقوق وعدم تركها للضياع، وكقبول شهادة النساء منفردات في الأعراس والحمامات، والمواضع التي تنفرد النساء بالحضور فيها، فقبول شهادتهن هنا أولى من قبول شهادة الكفار على الوصية في السفر، وذلك لحكمة الستر على العورات والأعراض، وكذلك عمل الصحابة وفقهاء المدينة بشهادة الصبيان على تجارح بعضهم بعضًا، وذلك لحكمة أن الرجال لا يحضرون معهم في لعبهم، ولو لم تقبل شهادتهم وشهادة النساء منفردات لضاعت الحقوق، وتعطلت وأهملت مع غلبة الظن، أو القطع بصدقهم، ولا سيما إذا جاءوا مجتمعين قبل تفرقهم ورجوعهم إلى بيوتهم، وتواطئوا على خبر واحد، واتفقت كلمتهم، فإن الظن الحاصل حينئذ من شهادتهم أقوى بكثير من الظن الحاصل من شهادة رجلين، وهذا مما لا يمكن دفعه وجحده، فلا نظن أن الشريعة الكاملة الحريصة على مصالح العباد في معاشهم ومعادهم وحياتهم، أنها تهمل مثل هذه الحكم والفوائد في الشهادة على الحقوق والمعاملات والحوادث وعدم تضيعها66.
ويستفاد من الآيات السابق ذكرها -آيتا سورة البقرة- أن الله جعل شهودًا على وثيقة الدين لما لها من أهمية في حفظ الحقوق للدائن والمدين، وبين صفات الشهود، مثل: الإسلام، والبلوغ، والعقل، والخلو من صفة الفسق وخوارم المروءة، وكذلك الحرية.
تحريم الإضرار في الكتابة والإشهاد
شرع الله لكتابة العقود المتعلقة بالديون وغيرها، والشهادة عليها ضوابط تضبطها، مع المحافظة على حقوق أخرى متعلقة بالكتابة والشهادة بحيث ألا تؤثر عليها، وهي مبينة فيما يأتي:
أولًا: تحريم الإضرار بالكتاب والشهود:
إن كتابة عقد الدين شرع شرعه الله تعالى، وكذلك الشهادة عليه شرع، وحماية الكاتب والشاهد والمتداينين كذلك شرع شرعه الله تعالى أوجب على عباده أن يحافظوا عليه.
قال تعالى: (ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ) [البقرة: ٢٨٢].
فالكاتب والشاهد في العقود المبرمة بين المتعاقدين يؤديان عملًا إنسانيًا، حسبة لوجه الله تعالى، فمن الظلم أن يقوما بعمل يبتغيان به وجه الله تعالى، وبعد ذلك يمسهما سوء، أو ينالهما أذى من أجل هذا العمل الذي يقومان به، فإذا لم يتيسر سبل كتابة العقد، والشهادة عليه، ولم يمط عنهما كل أذى، فهذا يؤدي لزهد الناس في هذا العمل الخير والابتعاد عنه.
لهذا جاء قول الله تعالى: (ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ) حماية للإحسان وللمحسنين من أن يكدر صفو الإحسان، وأن يساء إلى أهله بأي لون من ألوان الأذى المادي أو الأدبي67.
إن الله تعالى يعلم أن كل إنسان له مصالحه في الحياة، ويجب ألا تتعطل أو تتعطل هذه المصالح أمام قضاء مصالح غيره، فالشاهد أو الكاتب حينما يستدعى الواحد منهم ليشهد أو ليكتب لمصلحة غيره، يجب ألا تتعطل مصالحه؛ لذلك قال الله تعالى: (ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ).
والله تعالى قد حذر الدائن والمدين من أن ينال كلاهما أو أحدهما الكاتب أو الشاهد أذى منهم، فإن فعلوا كان ذلك فسقًا منهم، وخروجًا على سنة العدل والإحسان، وتعديًا على حدود الله، وذلك في قوله تعالى: (ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ)68.
ثانيًا: إضرار الكتاب والشهود بالمتداينين:
وكما أن الله تعالى قد حذر من مغبة الضرر بالكاتب والشهيد وتضيع مصالحهما، بسبب استغلال عدالتهما، نجد أن الله تعالى قد حذر أيضًا من إضرار الكاتب أو الشهيد لأحد المتداينين، فنجده سبحانه وضع شروطًا على الكتاب والشهود، من أهمها عدم الإضرار بالدائن أو المدين، قال تعالى: (ﯨ ﯩ ﯪﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ) [البقرة: ٢٨٢].
ومن أصناف الضرر الواقع في كتابة الدين: إضرار الكاتب والشاهد بأحد المتداينين، وبيان ذلك فيما يلي:
في قوله تعالى: (ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ) هذا نهي عن المضارة لأحد الطرفين سواء الشاهد والكاتب أو أحد المتداينين، وقد تبين فيما سبق كيفية إضرار الدائن أو المدين أو كليهما بالشاهد أو الكاتب، أما إضرار الشاهد والكاتب بالمتداينين، فإن أصل لفظة (ﯭ) هو يضارر، بكسر الراء الأولى، ومعناه: لا يضار الكاتب بأن يكتب أو يشهد، فيكون منه بذلك الضرر، والضرر منهما على عدة وجوه، منها:
الوجه الأول: بأن يدعى الكاتب للكتابة وهو أهل لها فيأبى أن يكتب، أو يدعى الشاهد للشهادة وهو أهل لها، فيأبى أن يشهد، فلا يجدان الرجل العدل الذي يكتب أو يشهد، فبذلك يضار المتداينان بكتابة أو شهادة غير عدل69.
الوجه الثاني: حيث يضر الكاتب فيزيد فيما يملى عليه في نص العقد، أو ينقص منه كلام أملي عليه كتابته، أو يحرف الكلام الذي أملي عليه بكلام غير مفهوم، أو كلام فيه غش وخداع لأحد الطرفين، فيضر صاحب الحق أو من عليه الحق70.
وكذلك الشاهد إذا غير وبدل بشهادته، أو أنكرها أو أنكر بعضها، أو كذب وحلف الأيمان الباطلة على شهادته، فهو بذلك قد أضر أحد الطرفين من المتداينين71.
يقول الثعلبي: في قوله: (ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ) هو نهي الغائب، وأصله: يضارر، فأدغمت الراء في الراء، ونصبت؛ لحق التضعيف؛ لاجتماع الساكنين، والفتح أخف الحركات فحركت إليه.
وأما تفسير الآية: فأجراها بعضهم على الفعل المعروف، وقال: أصله يضار بكسر الراء وجعل الفاعل الكاتب والشهيد، معناه: ولا يضار كاتب فيكتب ما لم يملل عليه، (يزيد أو ينقص أو يحرف)، ولا شهيد فيشهد مالم يشهد عليه، أو يمتنع من إقامة الشهادة. وهذا قول طاووس، والحسن، وقتادة، وابن زيد. وأجراه آخرون على الفعل المجهول، وجعلوا الكاتب والشهيد مفعولين، وقالوا: أصله لا يضار.
ومعنى الآية: أن الرجل يدعوا الكاتب أو الشهيد وهما على حاجة مهمة، فيقولان: إنا مشغولان فاطلب غيرنا، فيقول الذي يدعوه: إن الله أمركما أن تجيبا في الكتابة والشهادة، ويلح عليهما ويشغلهما عن حاجتهما، فنهى الله عز وجل عن مضارتهما، وأمر أن يطالب غيرهما.
وقال الربيع بن أنس: «لما نزلت هذه الآية: (ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ) وقوله: (ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ).
كأن أحدهما يجيء إلى الكاتب فيقول له: أكتب، فيقول: إني مشغول، أو لي حاجة، فانطلق إلى غيري، فيلزمه ويقول: إنك قد أمرت بالكتابة، فلا يدعه فيضاره بذلك، وهو يجد غيره، وكذلك يفعل مع الشاهد، فأنزل الله تعالى: الآية، ودليل هذا التأويل قراءة عمر وأبي وابن مسعود ومجاهد: (ﯬ يضارر ﯮ ﯯ ﯰ) بإظهار التضعيف على وجه من لم يمنع.
وقرأ أبو جعفر: ولا يضار، مجزومًا مخففًا براء واحدة أصلًا.
وقرأ الحسن: (ولا يضار) بكسر الراء مشددًا72.
ونستدل مما سبق أن الله تعالى كما حفظ حقوق المتداينين من أي ضياع يلحق بهما؛ فقد حفظ أيضًا الكاتب والشاهد من أي ضرر يلحق بهما من شهادته أو كتابته، أو يلحق الكاتب أو الشهيد أي ضرر بأحد المتداينين من خلال كتابته أو شهادته، ثم توعد من فعل مثل ذلك بالعقاب الشديد.
لقد اقتضت حكمة الله تعالى ورحمته بعباده تيسير أمور حياتهم، فجعل لهم البدائل لبعض الأحكام التي أقرها عليهم حينما يتعسر عليهم تطبيقها، ومن هذه الأمور: الرهن، فحينما يتعسر كتابة الدين لأي ظرف طارئ كالسفر، وعدم وجود كاتب أو شهيد لكتابة عقد الدين، يتم البدل عنه بالرهن، قال تعالى: (ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ) [البقرة: ٢٨٣].
والرهن: حبس الشيء بحق يمكن أخذه منه؛ كالدين73.
وقيل: «احتباس العين وثيقة بالحق؛ ليستوفي الحق من ثمنها أو من ثمن منافعها عند تعذر أخذه من الغريم»74.
والله تعالى جعل للرهن أحكامًا أوجب على المسلمين الأخذ بها، بيانها فيما يأتي:
١. القبض.
أي: قبض الشيء المرهون، قال تعالى: (ﭒ ﭓﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ).
يقول السعدي: «أي: إن كنتم مسافرين ولم تجدوا كاتبًا يكتب بينكم ويحصل به التوثق، فحينها رهان مقبوضة، أي: يقبضها صاحب الحق، وتكون وثيقة عنده حتى يأتيه حقه، ودل هذا على أن الرهن غير المقبوضة لا يحصل منها التوثق، ودل أيضًا على أن الراهن والمرتهن لو اختلفا في قدر ما رهنت به، كان القول قول المرتهن، ووجه ذلك أن الله جعل الرهن عوضًا عن الكتابة في توثق صاحب الحق، فلولا أن قول المرتهن مقبول في قدر الذي رهنت به لم يحصل المعنى المقصود، ولما كان المقصود بالرهن التوثق جاز حضرًا وسفرًا، وإنما نص الله على السفر؛ لأنه في مظنة الحاجة إليه؛ لعدم الكاتب فيه، هذا كله إذا كان صاحب الحق يحب أن يتوثق لحقه»75.
٢. الرهن بالسفر والحضر.
لما ذكر الله تعالى الندب إلى الإشهاد والكتابة لمصلحة حفظ الأموال، عقب ببيان حال الأعذار المانعة من الكتابة، وجعل لها بديلًا وهو الرهن، وجعل من أهم الأعذار، السفر الذي هو غالب على كل الأعذار، وليس معنى ذلك أن الرهن مرهون على السفر فقط، فرب وقت يتعذر فيه الكاتب في الحضر فيندب بذلك البدل، وهو الرهن، وأيضًا فالخوف على خراب ذمة الغريم عذر يوجب طلب الرهن، وقد رهن النبي صلى الله عليه وسلم درعه عند يهودي طلب منه سلف الشعير76.
عن عائشة قالت: (توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند يهودي بثلاثين صاعًا من الشعير)77.
فهذا بيان أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أعطى رهنًا في حضر، حيث الطعام لأهل بيته وليس للسفر78.
٣. الأمانة.
إن حكم الأمانة لا تتوقف على المدين فقط، بل تطلب من الدائن بحفظ الرهن الذي بحوزته، وذلك من الضياع أو الخراب أو التلف، إذًا طلب الأمانة لا تتوقف على المدين فقط، فهناك دائن قابض لرهن بدلًا من ماله يطلب منه الأمانة في حفظ ما عنده من رهن.
يقول الشعراوي: «قد نفهم أن الذي اؤتمن هو المدين، وهنا نقول: لا، إن الأمر مختلف، فهناك رهان، وذلك معناه وجود مسألتين:
المسألة الأولى: هي الدين.
والمسألة الثانية: هي الرهان المقبوضة، وهي مقابل الدين.
فواحد مأمون على الرهن في يده، والآخر مأمون على الدين، ولهذا يكون القول الحكيم مقصودًا به من بيده الرهن، ومن بيده الدين، ومعنى ذلك: أن يؤدي من معه الرهن أمانته، وأن يؤدي الآخر دينه.
وحين نرتقي إلى هذا المستوى في التعامل، فإن وازع الإنسان ليس في التوثيق الخارج عن ذات النفس، ولكنه التوثيق الإيماني بالنفس، ولكن أنضمن أن يوجد التوثيق الإيماني عند كل الناس؟ أنضمن الظروف؟ نحن لا نضمن الظروف، فقد توجد الأمانة الإيمانية وقت التحمل والأخذ، ولا نضمن أن توجد الأمانة الإيمانية وقت الأداء»79.
وقد وضع القرطبي في تفسيره عدة مسائل تتعلق بالرهن من أهمها80:
الأولى: قال جمهور من العلماء: الرهن في السفر بنص التنزيل، وفي الحضر ثابت بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، منها ما ورد في الصحيحين وغيرهما عن عائشة رضي الله عنها: (توفي رسول الله صلى الله عليه و سلم ودرعه مرهونة عند يهودي بثلاثين صاعًا من شعير لأهله)81.
الثانية: قوله تعالى: (ﭖ ﭗ ﭘ) قرأ الجمهور (كاتبًا) بمعنى: رجل يكتب، وقرأ ابن عباس وأبي ومجاهد والضحاك وعكرمة وأبو العالية: (ﭖ ﭗكتابًا)، فسره مجاهد فقال: «معناه: فإن لم تجدوا مدادًا، يعني: في الأسفار»، قال النحاس: «هذه القراءة شاذة، والعامة على خلافها، وقلما يخرج شيء عن قراءة العامة إلا وفيه مطعن، ونسق الكلام على (كاتب)»، قال الله تعالى: (ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ) [البقرة: ٢٨٢].
قال ابن عطية: «(كتابًا) يحسن من حيث لكل نازلة (كاتب)، فقيل: كتابًا للجماعة، أي: ولم تجدوا كتابًا».
وأما قراءة أبي وابن عباس: (كتابًا)، فقال النحاس ومكي: هو جمع كاتب، والمعنى: وإن عدمت الدواة والقلم والصحيفة، ونفي وجود الكاتب، يكون بعدم وجود أي آلة، ونفي الكتاب أيضًا يقتضي نفي الكتاب، فالقراءتان حسنتان إلا من جهة خط المصحف.
الثالثة: ولما كان الرهن بمعنى الثبوت والدوام، فمن ثم بطل الرهن عند الفقهاء إذا خرج من يد المرتهن إلى الراهن بوجه من الوجوه؛ لأنه فارق ما جعل باختيار المرتهن له.
قال أبو حنيفة: «إن رجع بعارية أو وديعة لم يبطل»، وقال الشافعي: «إن رجوعه إلى يد الراهن مطلقًا لا يبطل حكم القبض المتقدم ودليلنا: (ﭙ ﭚ)، فإذا خرج عن يد القابض لم يصدق ذلك اللفظ عليه لغة، فلا يصدق عليه حكمًا، وهذا واضح».
الرابعة: إذا رهنه قولًا ولم يقبضه فعلًا لم يوجب ذلك حكمًا؛ لقوله تعالى: (ﭙ ﭚ).
قال الشافعي: «لم يجعل الله الحكم إلا برهن موصوف بالقبض، فإذا عدمت الصفة، وجب أن يعدم الحكم وهذا ظاهر جدًا».
الخامسة: قوله تعالى: (ﭚ) يقتضي بينونة المرتهن بالرهن، وأجمع الناس على صحة قبض المرتهن، وكذلك على قبض وكيله، واختلفوا في قبض عدل يوضع الرهن على يديه، فقال مالك وجميع أصحابه وجمهور العلماء: قبض العدل قبض، وقال قتادة وعطاء: ليس بقبض، ولا يكون مقبوضًا إلا إذا كان عند المرتهن، وقول الجمهور أصح من جهة المعنى؛ لأنه إذا صار عند العدل صار مقبوضًا لغة وحقيقة؛ لأن العدل نائب عن صاحب الحق وبمنزلة الوكيل، وهذا ظاهر.
السادسة: ولو وضع الرهن على يدي عدل فضاع لم يضمن المرتهن ولا الموضوع على يده؛ لأن المرتهن لم يكن في يده شيء يضمنه، والموضوع في يد أمين، والأمين غير ضامن.
السابعة: انتفاع المرتهن من الرهن، روي من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الرهن يركب بنفقته، إذا كان مرهونًا، ولبن الدر يشرب بنفقته، إذا كان مرهونًا، وعلى الذي يركب ويشرب النفقة)82.
قال الطحاوي: «كان ذلك وقت كون الربا مباحًا، ولم ينه عن قرض جر منفعة ولا عن أخذ الشيء بالشيء، وإن كانا غير متساويين، ثم حرم الربا بعد ذلك، وقد أجمعت الأمة على أن الأمة المرهونة لا يجوز للراهن أن يطأها، فكذلك لا يجوز له خدمتها».
وقال بعضهم: ولو شرط المرتهن الانتفاع بالرهن فلذلك حالتان: إن كان من قرض لم يجز، وإن كان من بيع أو إجارة جاز؛ لأنه يصير بائعًا للسلعة بالثمن المذكور، ومنافع الرهن مدة معلومة، فكأنه بيع وإجارة، وأما في القرض فلأنه يصير قرضًا جر منفعة؛ ولأن موضوع القرض أن يكون قربة، فإذا دخله نفع صار زيادة في الجنس وذلك ربًا.
الثامنة: لا يجوز غلق الرهن، وهو أن يشترط المرتهن أنه له بحقه إن لم يأته به عند أجله، وكان هذا من فعل الجاهلية، فأبطله النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (لا يغلق الرهن من صاحبه الذي رهنه له غنمه وعليه غرمه)، قال الشافعي رضي الله عنه: «غنمه: زيادته، وغرمه: هلاكه ونقصه»83.
التاسعة: ورهن من أحاط الدين بماله جائز ما لم يفلس، ويكون المرتهن أحق بالرهن من الغرماء، وروي عن مالك خلاف هذا فقال: «إن الغرماء يدخلون معه في ذلك».
موضوعات ذات صلة: |
الأجل، الشهادة، المال، الوراثة، الوصية |
1 انظر: مقاييس اللغة، ابن فارس، ٢/٣١٩، ٣٢٠.
2 انظر: المحكم والمحيط الأعظم، ابن سيده ٩/ ٣٩٩.
3 التعريفات، الجرجاني ص١٤١.
4 الفروق اللغوية، العسكري ص٤٣٦.
5 المصدر السابق ص٤٢٦.
6 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، ٣/٣٧٧.
7 انظر: المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، محمد فؤاد عبد الباقي ص ٢٦٧-٢٦٩، المعجم المفهرس الشامل، عبد الله جلغوم، ص٥١٤-٥١٦.
8 انظر: الصحاح، الجوهري، ٥/٢١١٧-٢١١٨، المحيط في اللغة، الصاحب بن عباد، ٢/٣٥٩-٣٦٠، تهذيب اللغة، الأزهري، ١٤/١٢٨-١٣٠، المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية، ١/٣٠٧، معجم اللغة العربية المعاصرة، أحمد مختار ١/٧٩٥.
9 انظر: المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية ٢/٧٢٧.
10 التوقيف على مهمات التعاريف، المناوي، ص٢٦٩.
11 انظر: المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية، ٢/٧٢٧.
12 انظر: العين، الفراهيدي، ٧/٢٥٨.
13 انظر: مقاييس اللغة، ابن فارس، ٣/٧٣.
14 انظر: المفردات، الأصفهاني ص٢٣٩.
15 التوقيف على مهمات التعاريف، المناوي، ص٥٥.
16 مقاييس اللغة، ابن فارس، ٥/٣٥١- ٣٥٢.
17 الروض المربع، منصور البهوتي، ١/٣٦٥.
18 انظر: المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية، ٢/١٠٥٩.
19 أنيس الفقهاء، القونوي، ص٩٥.
20 انظر: مختار الصحاح، الرازي، ص٤٨٨.
21 العين، الفراهيدي، ٤/٤١٨.
22 انظر: القاموس الفقهي، سعدي أبو جيب، ص٣٧٤.
23 انظر: القاموس المحيط، الفيروزآبادي، ص٢٨٧.
24 إرشاد العقل السليم، أبو السعود، ١/٣٦٩.
25 انظر: تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، ١/٧٢٢.
26 انظر: الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، ٣/٣٥٨.
27 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الحوالات، باب مطل الغني، ٣/١١٨، رقم ٢٤٠٠.
28 انظر: التيسير بشرح الجامع الصغير، المناوي، ٢/٣٧٦.
29 انظر: عمدة القاري، العيني، ١٨/٣٢٧.
30 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإمارة، باب من قتل في سبيل في سبيل الله كفرت خطاياه إلا الدين، ٣/١٥٠٢، رقم ١٨٨٦.
31 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإمارة، باب من قتل في سبيل في سبيل الله كفرت خطاياه إلا الدين، ٣/١٥٠١، رقم ١٨٨٥.
32 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب النفقات، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من ترك كلًا أو ضياعًا فإلي)، ٧/٦٧، رقم ٥٣٧١.
33 انظر: تفسير الشعراوي ١/٧٧٩.
34 انظر: معالم التنزيل، البغوي ١/٣٤٩.
35 انظر: الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، ٣/٢٨٣.
36 التفسير المنير، وهبة الزحيلي، ٣/١٠٨.
37 انظر: المصدر السابق ٣/١٠٩.
38 انظر: الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، ٣/٣٨٤.
39 انظر: تفسير الشعراوي ١/٧٨١.
40 انظر: التحرير والتنوير، ابن عاشور، ١/٢٨٨.
41 مفاتيح الغيب، الرازي، ١/٥٣١.
42 انظر: جامع البيان، الطبري، ٦/٤٣.
43 انظر: مفاتيح الغيب، الرازي، ١/١٠٥٥.
44 انظر: اللباب في علوم الكتاب، ابن عادل، ٤/٤٨٠.
45 انظر: التفسير المنير، وهبة الزحيلي، ٣/١١٢.
46 انظر: التحرير والتنوير، ابن عاشور، ٣/١٠٥، ١٠٦.
47 انظر: المصدر السابق، ٣/١٠٥، ١٠٦.
48 انظر: المصدر السابق، ٣/١٠٧.
49 انظر: أنوار التنزيل، البيضاوي، ١/٥٧٨.
50 انظر: معالم التنزيل، البغوي، ٨/١٥٠.
51 انظر: التعريفات الندية على المنظومة البيقونية، حمد النابت، ١/٤.
52 معرفة السنن والآثار، البيهقي، ١٤/٢٦٧.
53 شرح السنة، البغوي، ٥/١٤٠.
54 انظر: المصدر السابق.
55 انظر: المصدر السابق.
56 انظر: البحر المحيط في أصول الفقه، الزركشي، ١/٦٥.
57 انظر: معالم التنزيل، البغوي، ١/٢٦٨، لباب التأويل، الخازن، ١/٣٠٦.
58 انظر: الأم، الشافعي، ٧/٥٣.
59 أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الأقضية، باب من ترد شهادته، ٥/٤٥٢، رقم ٣٦٠٠.وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود ٢/٣٩٧.
60 انظر: شرح السنة، البغوي، ٧/١٤٠.
61 انظر: جامع الأصول، ابن الأثير، ١٠/١٩١، الفقه الإسلامي وأدلته، وهبة الزحيلي، ٨/١٧٤.
62 انظر: المحرر، ابن عبدالهادي ٢/٣٠٧.
63 انظر: فقه السنة، سيد سابق، ٣/٢٢٨.
64 انظر: مفاتيح الغيب، الرازي، ١/١٠٥٠.
65 انظر: إعلام الموقعين، ابن القيم ١/٩٧، ٩٨.
66 انظر: المصدر السابق.
67 انظر: التفسير القرآني للقرآن، عبد الكريم الخطيب، ٣/٣٨٥.
68 انظر: تفسير الشعراوي ١/٧٨٣.
69 انظر: لباب التأويل، الخازن، ١/٣٠٨.
70 انظر: المصدر السابق.
71 انظر: المصدر السابق.
72 انظر: الكشف والبيان، الثعلبي، ٢/٢٩٧.
73 انظر: التعريفات، الجرجاني، ص١٥٠.
74 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، ٣/٤٠٩.
75 تيسير الكريم الرحمن، السعدي، ص١٩٠.
76 انظر: الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، ٣/٤٠٩.
77 أخرج البخاري في صحيحه، كتاب الرهن، باب ما قيل في درع النبي صلى الله عليه وسلم، ٤/٤١، رقم ٢٩١٦.
78 انظر: الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، ٣/٣٨٦.
79 تفسير الشعراوي ١/٧٨٩.
80 انظر: الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، ٣/٤٠٨-٤١٤.
81 سبق تخريجه قريبًا.
82 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الرهن، باب الرهن مركوب ومحلوب، ٣/١٤٣، رقم ٢٥١٢.
83 انظر: مسند الشافعي ص١٤٨.