عناصر الموضوع
الخوف
أولًا: المعنى اللغوي:
تدور مادة (خوف) حول الذعر والفزع1، يقال: خاف يخاف خوفًا وخيفة ومخافة، ومنه التخويف والإخافة، والنعت منها خائف2.
ثانيًا: المعنى الاصطلاحي:
لا يخرج عن معناه في اللغة تقريبًا، فالأصفهاني يعّرف الخوف بأنه: « توقّع مكروه عن أمارة مظنونة، أو معلومة، كما أنّ الرّجاء والطمع توقّع محبوب عن أمارة مظنونة، أو معلومة، ويضادّ الخوف الأمن، ويستعمل ذلك في الأمور الدنيوية والأخروية»3.
وعرفه الجرجاني بأنه: «توقع حلول مكروه، أو فوات محبوب»4.
وقال التفتازاني: «غم يلحق الإنسان مما يتوقعه من السوء»5.
يتضح مما سبق أن الخوف شعور بالاضطراب وعدم الأمن نتيجة حدوث مكروه في الحال، أو توقع حدوثه في المستقبل.
وردت مادة (خوف) في القرآن الكريم (١٢٤) مرة6.
والصيغ التي وردت هي:
الصيغة |
عدد المرات |
المثال |
الفعل الماضي |
١٨ |
(ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ) [الرحمن:٤٦] |
الفعل المضارع |
٦٨ |
(ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ) [النحل:٥٠] |
فعل الأمر |
١ |
(ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ) [آل عمران:١٧٥] |
المصدر |
٣٤ |
(ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ) [قريش:٤] |
اسم الفاعل |
٣ |
(ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ) [القصص:١٨] |
وجاء الخوف في القرآن الكريم على ثلاثة وجوه7:
الأول: الخوف نفسه: ومنه قوله تعالى: (ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ) [الأعراف:٥٦].
الثاني: القتل أو القتال: ومنه قوله تعالى: (ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ) [النساء:٨٣] أي: القتل، وقوله تعالى: (ﮝ ﮞ ﮟ) [الأحزاب:١٩] يعني: انجلى الحرب والقتال.
الثالث: العلم أو الظن: ومنه قوله تعالى: (ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ) [البقرة:٢٢٩] يعنى: علمتم أو ظننتم.
الخشية:
الخشية لغة:
تدل مادة (خشي) على خوفٍ وذعرٍ8.
الخشية اصطلاحًا:
عرفها الأصفهاني بأنها: «خوف يشوبه تعظيم، وأكثر ما يكون ذلك عن علم بما يخشى منه، ولذلك خصّ العلماء بها في قوله: (ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ) [فاطر:٢٨]»9.
وعرفها الجرجاني بأنها: «تألم القلب بسبب توقع مكروه في المستقبل، يكون تارة بكثرة الجناية من العبد، وتارة بمعرفة جلال الله وهيبته. وخشية الأنبياء من هذا القبيل»10.
الصلة بين الخوف والخشية:
الخشية أعلى من الخوف وأشد منه.
وقيل: «الخشية تكون من عظم المخشي وإن كان الخاشي قويًّا، والخوف يكون من ضعف الخائف، وإن كان المخوف أمرًا يسيرًا»11.
الرعب:
الرعب لغة:
ذكر ابن فارس أن معنى الرعب يرجع إلى ثلاثة أصول: الخوف، والملء، والقطع12.
وقال الراغب: «الرّعب: الانقطاع من امتلاء الخوف»13.
الرعب اصطلاحًا:
هو الذعر والخوف الشديد من خطر يؤدي إلى فقدان القدرة على الحركة أحيانًا.
الصلة بين الخوف والرعب:
الرعب أخص من الخوف وهو يدل على امتلاء القلب بالخوف وسيطرته عليه مما يسبب الانقطاع والذهول.
الشفقة:
الشفقة لغةً:
أشفقت من الأمر، إذا رققت وحاذرت14، وهي «صرف الهمة إلى إزالة المكروه عن الناس»15. شفق: الشّفق والشّفقة: الاسم من الإشفاق. والشّفق: الخيفة16.
الشفقة اصطلاحًا:
الشفقة هي ضرب من الرقة وضعف القلب ينال الإنسان، وهي عناية مختلطة بخوف17.
«الإشفاق رقة الخوف، وهو خوف برحمة من الخائف لمن يخاف عليه، فنسبته إلى الخوف نسبة الرأفة إلى الرحمة، فإنها ألطف الرحمة وأرقها»18.
الصلة بين الخوف والشفقة:
«إن الشفقة ضرب من الرقة وضعف القلب ينال الإنسان، ومن ثم يقال للأم إنها تشفق على ولدها، أي: ترق له، وليست هي من الخشية والخوف في شيء.
قال تعالى: (ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ) [المؤمنون:٥٧].
ولو كانت الخشية هي الشفقة لما حسن أن يقول: ذلك، كما لا يحسن أن يقول يخشون من خشية ربهم»19.
الرهبة:
الرهبة لغة:
رهب: خاف رَهْبَةً ورُهْبًا. ورجلٌ رَهَبوتٌ، أي: مرهوبٌ، يقال: رَهَبُوتٌ خيرٌ من رحموتٍ. أي: لأن تُرْهَب خيرٌ من أن تُرْحَم20.
الرهبة اصطلاحًا:
الرهبة: هي الإمعان في الهرب من المكروه، وهي مخافة مع تحرز واضطراب، وهي ضد الرغبة التي هي سفر القلب في طلب المرغوب فيه21.
الصلة بين الخوف والرهبة:
قال العسكري: «الرهبة طول الخوف واستمراره، ومن ثمّ قيل للراهب راهب؛ لأنّه يديم الخوف»22.
فالرهبة خوف مخصوص.
الإشفاق:
الإشفاق لغةً:
أشفقت من الأمر، إذا رققت وحاذرت23، وهي «صرف الهمة إلى إزالة المكروه عن الناس»24. شفق: الشّفق والشّفقة: الاسم من الإشفاق. والشّفق: الخيفة25.
الإشفاق اصطلاحًا:
«الإشفاق رقة الخوف، وهو خوف برحمة من الخائف لمن يخاف عليه، فنسبته إلى الخوف نسبة الرأفة إلى الرحمة، فإنها ألطف الرحمة وأرقها»26.
الصلة بين الخوف والإشفاق:
«الشّفقة ضرب من الرقة وضعف القلب ينال الإنسان، ومن ثمّ يقال للأم إنّها تشفق على ولدها، أي: ترق له»27.
وهكذا فالإشفاق من أعلى درجات الخوف، مصحوب برقة كبيرة وعناية ونصح للمشفق عليه، يرافقه التوقع والحذر.
الفزع:
الفزع لغة:
قال ابن فارس: «(فزع) الفاء والزّاء والعين أصلان صحيحان، أحدهما الذّعر، والآخر الإغاثة»28.
يقال: «فزع منه وفزع فزعًا وفزعًا وفزعًا، وأفزعه وفزّعه: أخافه وروّعه، فهو فزعٌ»29.
الفزع اصطلاحًا:
«انقباض ونفار يعتري الإنسان من الشيء المخيف، وهو من جنس الجزع، ولا يقال: فزعت من الله، كما يقال: خفت منه» 30.
الصلة بين الخوف والفزع:
«الفزع مفاجأة الخوف عند هجوم غارة أو صوت هدة وما أشبه ذلك، وهو انزعاج القلب بتوقع مكروه عاجل»31.
وهكذا فالفزع يختص بالمفاجأة، ويصاحبه توقع مكروه عاجل، وانقباض ونفور من المخوف.
الأمن:
الأمن لغة:
ضد الخوف، والفعل منه: أمن يأمن أمنًا32.
الأمن اصطلاحًا:
عدم توقع مكروه في الزمان الآتي33، وأصله: طمأنينة النفس وزوال الخوف34.
الصلة بين الأمن والخوف:
الأمن ضد الخوف.
إن المتدبر في كتاب الله عز وجل يجد أن الخوف ينقسم -حسب مشروعيته- إلى قسمين:
أولًا: خوف مشروع:
وهو ينقسم إلى قسمين:
١. خوف الفطري.
وهو حالة انفعالية تتسم بالقلق وعدم الراحة بسبب التواجد قريبًا من مصادر الخطر، أو الشرور، أو الألم التي يتوقع الإنسان حدوثها أو مصادفتها، ويتوق إلى تجنبها.
وهذا الخوف موجود عند جميع البشر بمن فيهم الأنبياء، وهو ليس صفة ذم أو نقص بالعموم ما دامت تتناسب مع حجم المخوف، لذا فلا يلام عليها الإنسان؛ لأنه مفطور عليه في الغالب.
٢. خوف محمود.
وهو الخوف الذي يرضاه الله ورسوله.
ويشمل كل ما يحجز المرء عن محارم الله، ويردعه عن الانزلاق في مستنقع المعاصي والآثام، ويسوقه إلى التوبة النصوح كلما استزله الشيطان أو أصابه رذاذ الغفلة والنسيان.
و«الخوف له قصور، وله إفراط، وله اعتدال، والمحمود هو الاعتدال والوسط.
فأما القاصر منه: فهو الذي يجري مجرى رقة النساء، يخطر بالبال عند سماع آية من القرآن فيورث البكاء وتفيض الدموع، وكذلك عند مشاهدة سبب هائل، فإذا غاب ذلك السبب عن الحس ورجع القلب إلى الغفلة، فهذا خوف قاصر قليل الجدوى ضعيف النفع وهو كالقضيب الضعيف الذي تضرب به دابة قوية لا يؤلمها ألمًا مبرحًا فلا يسوقها إلى المقصد ولا يصلح لرياضتها.
وأما المفرط: فإنه الذي يقوى ويجاوز حد الاعتدال حتى يخرج إلى اليأس والقنوط وهو مذموم أيضًا؛ لأنه يمنع من العمل.
وأما خوف الاعتدال: فهو الذي يكف الجوارح عن المعاصي ويقيدها بالطاعات، وما لم يؤثر في الجوارح فهو حديث نفس وحركة خاطر لا يستحق أن يسمى خوفًا»35.
قال ابن رجب الحنبلي رحمه الله: «والقدر الواجب من الخوف ما حمل على أداء الفرائض واجتناب المحارم، فإن زاد على ذلك بحيث صار باعثًا للنفوس على التشمير في نوافل الطاعات، والانكفاف عن دقائق المكروهات، والتبسط في فضول المباحات، كان ذلك فضلًا محمودًا، فإن تزايد على ذلك بأن أورث مرضًا أو موتًا أو همًّا لازمًا، بحيث يقطع عن السعي في اكتساب الفضائل المطلوبة المحبوبة لله عز وجل لم يكن محمودًا»36.
وهذا الخوف المحمود يشمل ثلاثة أمور:
ورد الخوف من مقام الله تعالى في القرآن الكريم في ثلاثة مواضع:
منها قوله تعالى: (ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ) [الرحمن:٤٦].
قال القرطبي: «والمعنى خاف مقامه بين يدي ربّه للحساب فترك المعصية. فـ(ﭱ) مصدرٌ بمعنى القيام. وقيل: خاف قيام ربّه عليه، أي: إشرافه واطّلاعه عليه، بيانه قوله تعالى: (ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ)[الرعد:٣٣].
وقال مجاهدٌ وإبراهيم النّخعيّ: هو الرّجل يهمّ بالمعصية فيذكر اللّه فيدعها من خوفه»37.
والخوف من مقام الله يشمل الخوف من عظمته وجلاله وكبريائه، ومراقبته لعبده واطلاعه عليه وإحصائه لأعماله، والخوف من غضبه وسخطه وسطوته، كل ذلك يدفع المؤمن إلى تقوى الله بفعل طاعته واجتناب نواهيه، وزجر نفسه كلما دعته إلى اتباع الهوى ومقارفة السيئات. وهكذا يصوغ الخوف شخصية المؤمن وفق مسار التقوى فلا ينحرف عنه يمنة أو يسرة. يقول الأستاذ سيد قطب: «والذي يخاف مقام ربه لا يقدم على معصية، فإذا أقدم عليها بحكم ضعفه البشري قاده خوف هذا المقام الجليل إلى الندم والاستغفار والتوبة، فظل في دائرة الطاعة.
ونهي النفس عن الهوى هو نقطة الارتكاز في دائرة الطاعة. فالهوى هو الدافع القوي لكل طغيان، وكل تجاوز، وكل معصية. وهو أساس البلوى، وينبوع الشر، وقل أن يؤتى الإنسان إلا من قبل الهوى، فالجهل سهل علاجه، ولكن الهوى بعد العلم هو آفة النفس التي تحتاج إلى جهاد شاق طويل الأمد لعلاجها.
والخوف من الله هو الحاجز الصلب أمام دفعات الهوى العنيفة. وقل أن يثبت غير هذا الحاجز أمام دفعات الهوى. ومن ثم يجمع بينهما السياق القرآني في آية واحدة. فالذي يتحدث هنا هو خالق هذه النفس العليم بدائها، الخبير بدوائها، وهو وحده الذي يعلم دروبها ومنحنياتها، ويعلم أين تكمن أهواؤها وأدواؤها، وكيف تطارد في مكامنها ومخابئها! ولم يكلف الله الإنسان ألا يشتجر في نفسه الهوى. فهو سبحانه يعلم أن هذا خارج عن طاقته، ولكنه كلفه أن ينهاها ويكبحها ويمسك بزمامها، وأن يستعين في هذا بالخوف؛ الخوف من مقام ربه الجليل العظيم المهيب»38.
تعددت النصوص القرآنية التي تحذر العباد من عذاب الله تعالى سواء الدنيوي أو الآخروي.
قال تعالى: (ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ) [الإسراء:٥٧].
قال ابن كثير: «أي: ينبغي أن يحذّر منه، ويخاف من وقوعه وحصوله، عياذًا باللّه منه»39.
إن غفلة الناس عن عذاب الله تعالى تدفعهم إلى الاستخفاف بحرماته وتضييع أوامره، وربما استغل الشيطان هذه الفرصة ففتح لهم أبواب الرجاء الكاذب والأمل الخادع ليجعلهم يتخذون من الطمع في رحمة الله، مدخلًا يدخلون به على المعاصي فى جرأة فاجرة، ناسين أن من يرجو ويطمع في رحمة الله عز وجل، يجب أن يكون ممن يخشاه، ويتوقّى محارمه.
ولقد قصَّ علينا القرآن الكريم صورًا كثيرة من عذاب الله الدنيوي للأمم السابقة التي تمادت في الكفر والجحود والعناد حتى أهلكها الله بعذابه، كما قال تعالى: (ﭠ ﭡ ﭢﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ) [العنكبوت:٤٠]
قال ابن كثير: «(ﭠ ﭡ ﭢ) أي: كانت عقوبته بما يناسبه.
(ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ)، وهم عادٌ، وذلك أنّهم قالوا: من أشدّ منّا قوّةً؟ فجاءتهم ريحٌ صرصرٌ باردةٌ شديدة البرد، عاتيةٌ شديدة الهبوب جدًّا، تحمل عليهم حصباء الأرض فتقلبها عليهم، وتقتلعهم من الأرض.
(ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ)، وهم ثمود، قامت عليهم الحجّة وظهرت لهم الدّلالة، من تلك النّاقة الّتي انفلقت عنها الصّخرة، مثل ما سألوا سواءًا بسواءٍ، ومع هذا ما آمنوا بل استمرّوا على طغيانهم وكفرهم، وتهدّدوا نبيّ اللّه صالحًا ومن آمن معه، وتوعّدوهم بأن يخرجوهم ويرجموهم، فجاءتهم صيحةٌ أخمدت الأصوات منهم والحركات.
(ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ)، وهو قارون الّذي طغى وبغى وعتا، وعصى الرّبّ الأعلى، ومشى في الأرض مرحًا، وفرح ومرح وتاه بنفسه، واعتقد أنّه أفضل من غيره، واختال في مشيته، فخسف اللّه به وبداره الأرض.
(ﭲ ﭳ ﭴ)، وهم فرعون ووزيره هامان، وجنوده عن آخرهم، أُغرقوا في صبيحةٍ واحدةٍ، فلم ينج منهم مخبرٌ.
(ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ) أي: فيما فعل بهم، (ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ) أي: إنما فعل ذلك بهم جزاءً وفاقًا بما كسبت أيديهم»40.
كما قال تعالى في موضع آخر: (ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ) [هود:١٠٢].
إنها سنة الله تعالى في إهلاك المجرمين الذين يستخفون بالإنذار والوعيد، ويتمادون في العناد والطغيان، فعندما يأتي عذاب الله في الأجل المقدر له فلا مفر منه ولا مهرب، فليحذر المجرمون من عقاب الله وعذابه، ولا يغرهم تأخر نزوله، فإنما هو إملاء واستدراج.
عن أبي موسى الأشعري رضى اللّه عنه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: (إن اللّه تعالى ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته. ثم قرأ: (ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ))41.
وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن المرور بمنازل أهل العذاب إلا مع البكاء والخشية، فقد ذكر ابن عمر رضي الله عنه قال: لما مر النبي بالحجر- منازل ثمود قوم صالح- قال: (لا تدخلوا مساكن الّذين ظلموا أنفسهم، أن يصيبكم ما أصابهم إلاّ أن تكونوا باكين)، ثمّ قنّع رأسه وأسرع السّير حتّى أجاز الوادي42.
أما عن العذاب الآخروي فقد وصفه الله تعالى بأنه أشد وأبقى كما قال تعالى: (ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ) [طه:١٢٧].
«أي: أفظع من المعيشة الضّنك، وعذاب القبر. (ﭧ) أي: أدوم وأثبت؛ لأنّه لا ينقطع ولا ينقضي»43.
كما وصف العذاب بأنه أخزى كما قال تعالى: (ﯕ ﯖ ﯗ) [فصلت:١٦].
«والخزي: هو الذّلّ، والهوان بسبب ذلك الاستكبار ولعذاب الآخرة أخزى، أي: أشدّ إهانةً وذُلًّا، ووصف العذاب بذلك، وهو في الحقيقة وصفٌ للمعذّبين؛ لأنّهم الّذين صاروا متّصفين بالخزي»44.
كما وصف بصفات أخرى منها: العذاب الأليم، كما في قوله: (ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ) [الذاريات:٣٧].
ووصف أيضًا بالكبير كما في قوله تعالى: (ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ) [هود:٣].
ووصف بأنه عذاب يوم محيط، كما في قوله تعالى: (ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ) [هود:٨٤].
قال القرطبي: «وصف اليوم بالإحاطة، وأراد وصف ذلك اليوم بالإحاطة بهم، فإنّ يوم العذاب إذا أحاط بهم فقد أحاط العذاب بهم، وهو كقولك: يومٌ شديدٌ، أي: شديدٌ حرّه. واختلف في ذلك العذاب، فقيل: هو عذاب النّار في الآخرة. وقيل: عذاب الاستئصال في الدّنيا»45.
إن القلوب العامرة بالتقوى إذا تذكرت عذاب الله عز وجل امتلأت خشية وخوفًا، وسارعت إلى مرضاته وطاعته، وتجنبت ما يسخطه ويغضبه، ولقد مدح القرآن الكريم المؤمنين الذين يخشون عذابه في قوله تعالى: (ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ) [المعارج:٢٧-٢٨].
إنها «درجة الحساسية المرهفة، والرقابة اليقظة، والشعور بالتقصير في جنب الله على كثرة العبادة، والخوف من تلفت القلب واستحقاقه للعذاب في أية لحظة، والتطلع إلى الله للحماية والوقاية.
وفي قوله هنا: (ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ) إيحاء بالحساسية الدائمة التي لا تغفل لحظة، فقد تقع موجبات العذاب في لحظة الغفلة فيحق العذاب. والله لا يطلب من الناس إلا هذه اليقظة وهذه الحساسية، فإذا غلبهم ضعفهم معها، فرحمته واسعة، ومغفرته حاضرة. وباب التوبة مفتوح ليست عليه مغاليق!»46.
ولشدة عذاب الله عز وجل وخطورته، ذكر القرآن الكريم حرص وخوف عدد من الأنبياء عليهم السلام على أقوامهم وتحذيرهم من الكفر والتكذيب المستحق لعذاب الله الدنيوي والأخروي، فمن ذلك خوف نوح عليه السلام على قومه في قوله تعالى: (ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ) [هود:٢٥-٢٦].
ومن ذلك خوف هود عليه السلام على قومه في قوله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ) [الأحقاف:٢١].
كما حذر شعيب عليه السلام قومه من عذاب ربهم إذا استمروا على عنادهم وكفرهم وتطفيفهم في الميزان، في قوله تعالى: (ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ) [هود:٨٤].
وقد سجل القرآن الكريم أيضًا خوف بعض الصالحين على أقوامهم، ونصحهم لهم، فمن ذلك نصيحة مؤمن آل فرعون لقومه في قوله تعالى: (ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ) [غافر:٣٠-٣٣].
لما علم المؤمنون أن ميزان الحساب دقيق يجازي على مثقال الذرة، كما قال تعالى: (ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ) [الزلزلة:٧-٨].
وأن الكتاب لا يترك خطيئة صغيرة ولا كبيرة، إلا وهي مكتوبة فيه، محفوظة لم ينس منها عمل سر ولا علانية، ولا ليل ولا نهار، كما قال تعالى: (ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ) [الكهف:٤٩].
دفعهم ذلك إلى المراقبة الدائمة والمحاسبة المستمرة لجميع أعمالهم خشية أن يتسرب إليها شيء يفسدها أو مخافة ألا يؤدوها على الوجه الأكمل.. وقد أشار الله عزوجل إلى ذلك في قوله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ) [المؤمنون:٦٠].
«قال الزّجّاج: قلوبهم خائفةٌ؛ لأنّهم إلى ربّهم راجعون، وسبب الوجل هو أن يخافوا أن لا يقبل منهم ذلك على الوجه المطلوب، لا مجرّد رجوعهم إليه سبحانه. وقيل: المعنى: أنّ من اعتقد الرّجوع إلى الجزاء والحساب وعلم أنّ المجازي والمحاسب هو الرّبّ الّذي لا تخفى عليه خافيةٌ لم يخل من وجلٍ»47 .
«قيل: وجل العارف من طاعته أكثر من مخالفته؛ لأنّ المخالفة تمحوها التّوبة والطّاعة تطلب التّصحيح. وقال الحسن: المؤمن يجمع إحسانًا وشفقةً، والمنافق يجمع إساءةً وأمنًا»48.
وروي عن عائشة رضي الله عنها قالت: (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ) قالت عائشة: أهم الذين يشربون الخمر ويسرقون؟ قال: (لا يا بنت الصّدّيق، ولكنّهم الذين يصومون ويصلّون ويتصدّقون، وهم يخافون أن لا يقبل منهم (ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ) [المؤمنون:٦١])49.
وهكذا يطهر الخوف والوجل قلوب المؤمنين من شوائب الاغترار أو العجب أو الرياء أو غير ذلك من آفات القلوب، ليمنح هذه القلوب الوجلة حساسية وتوقّيًا لكل مفسدات الأعمال.
ثانيًا: خوف غير مشروع:
وهو الذي لم يكن من الله، ولا من صفاته المقتضية للهيبة والخشية، ولا من معاصي العبد وجناياته، بل يكون لغير ذلك من الأمور.
وقد ذكر القرآن الكريم صورًا من الخوف المذموم، نذكر منها:
منذ اللحظة الأولى لرفض إبليس اللعين السجود لآدم وإعلانه تمرده، واستحقاقه الطرد من رحمة الله، ناصب إبليس آدم وذريته العداء وسعى بشتى الطرق لإضلالهم وإغوائهم.
لذا تعددت النصوص القرآنية التي تحذر من عداوة هذا الخبيث، ودعت عباد الله إلى عدم الخوف من كيده ومكره، كما دعتهم إلى عدم الاستجابة لوساوسه التي يلقيها عبر أوليائه من الكافرين والمنافقين لتوهين عزيمة المؤمنين وتثبيطهم عن الدعوة والجهاد، كما صور القرآن الكريم حال المؤمنين بعد غزوة أحد وهم في طريقهم إلى حمراء الأسد حيث أثخنتهم الجراح وأنهكهم القتال.
فاستغل الشيطان هذه الفرصة ليلقي بالوهن في قلوبهم ويخوفهم من عدوهم ويوهمهم بأنهم عدد كثير وأولو قوة وبأس شديد، وأن من مصلحة المؤمنين أن يقعدوا عن لقائهم، ويجبنوا عن مدافعتهم، وذلك في قوله تعالى: (ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ) [آل عمران:١٧٣-١٧٥].
«وفي تخويف أوليائه قولان:
أحدهما: أنه يخوف المؤمنين من أوليائه المشركين، وهذا قول ابن عباس، ومجاهد، وقتادة.
والثاني: أنه يخوف أولياءه المنافقين ليقعدوا عن قتال المشركين، وهذا قول الحسن، والسدي»50.
والقول الأول أولى بالصواب، فالشيطان يسعى لتثبيط المؤمنين عن قتال عدوهم بما يقذفه في قلوبهم من الخوف من كثرة أعدادهم وقوة أسلحتهم.
(ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ) «أي: فلا تخافوا المشركين أولياء الشيطان، فإن نواصيهم بيد الله، لا يتصرفون إلا بقدره، بل خافوا الله الذي ينصر أولياءه الخائفين منه المستجيبين لدعوته. وفي هذه الآية وجوب الخوف من الله وحده، وأنه من لوازم الإيمان، فعلى قدر إيمان العبد يكون خوفه من الله»51.
ومن المخاوف التي يثيرها الشيطان في قلوب العباد الخوف من الفقر، كما قال تعالى: (ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ) [البقرة:٢٦٨].
(ﯔ ﯕ ﯖ) «أي: يخوّفكم منه، وينذركم به، إذا أنتم أنفقتم في سبيل اللّه، والأصل فى الوعد أن يكون بالخير، والإيعاد بالشرّ، ووعد الشيطان هنا لمن يوسوس له بالشحّ والإمساك مخافة الفقر وعده له بالفقر، إنما هو في صورة الخير، إذ يحذره ويريه عاقبة أمره، فهو وعد الناصح الأمين الحريص على مصلحة من ينصحه. هكذا يزين الشيطان للناس الشر ويلبسه وجه النفع والخير»52.
وفي مقابل وعد الشيطان بالفقر، هناك وعد الله بالمغفرة والفضل وسعة العطاء ووفرته لمن أعطى وبذل وأنفق فى سبيل اللّه.. فمن استجاب لوعد الشيطان قاده إلى الهلاك والخسران، ومن استجاب لدعوة الرحمن نال الرحمة والرضوان.. وقد قدمت الآية السابقة الدواء الناجع لعلاج وساوس الشيطان في تخويف العباد بالفقر، وذلك بتذكيرهم بأن الله تعالى بيده خزائن السماوات والأرض، يرزق عباده من حيث يحتسبون ومن حيث لا يحتسبون، ويعوّض عليهم من واسع فضله أضعاف ما أنفقوه، كما أنه سبحانه يجعل إنفاقهم سببًا في مغفرة سيئاتهم والعفو عن ذنوبهم مع أنه غني عنهم ولا تنفعه طاعتهم أو تضره معصيتهم.
فهل يبقى مع وعد الله عز وجل لعباده أي وساوس أو مخاوف من الفقر؟!
وهكذا يستغل الشيطان خوف كثير من الناس من الفقر ليمنعهم من الإنفاق في سبيل الله ومرضاته، ويغريهم بالبخل، ويصيبهم بالهم والقلق الدائمين، فينغص عليهم عيشهم، ويحرمهم من السكينة والطمأنينة.
فأي جريمة يرتكبها المرء في حق نفسه عندما يستجيب لوعود الشيطان بالفقر وينسى أن ربه عز وجل واسع العطاء عظيم الفضل والإنعام!
إن القلب المؤمن لا يطرقه خوف الشيطان؛ لأنه يسجد في محراب الخشية لله عز وجل، فإذا اقترب منه الشيطان يغريه بالأوهام ويوسوس له بما يخيفه عاد سريعًا إلى حصن مولاه خائفًا ذاكرًا عابدًا، كما قال تعالى: (ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ) [الأعراف:٢٠١].
فيا لسعادة المؤمن بقوة صلته بمولاه وحسن توكله عليه يمنحانه الثقة والطمأنينة في معركته مع الشيطان!
اقتضت سنة الله تعالى أن يواجه المجرمون دعوات الأنبياء والدعاة -على مر العصور- بالصد والتكذيب تارة، وبتدبير المكائد والمؤامرات تارة أخرى، واتخذ أعداء الإسلام في سبيل ذلك كافة الوسائل والتدابير التي من شأنها بث الخوف في قلوب المؤمنين وتثبيطهم، وإضعاف روحهم المعنوية. لذا كان الخوف من الأعداء من صور الخوف المذموم التي حذر الله عزوجل منها في أكثر من آية؛ كقوله تعالى: (ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ) [آل عمران:١٧٥].
وقوله تعالى: (ﯩﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ) [التوبة:١٣].
وقوله تعالى: (ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ) [المائدة:٣].
وكيف يخاف المؤمن من أعدائه وهو يوقن بأن الله عز وجل وليه وناصره، صاحب القدرة النافذة والعزة الحقيقية، بيده الآجال والأرزاق، بيده وحده الأمر كله من خير وشر، كما قال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ) [يونس:١٠٧]؟!
نعم.. إن الخوف من العدو أمر طبيعي إذا دفع المؤمن إلى الاستعداد والتجهز لهذا العدو، أما إذا تجاوز الخوف الحدود ودعا أصحابه إلى الجبن والفرار أو الاستسلام فهذا هو الخوف المذموم الذي يعاقب عليه صاحبه. وقد مدح الله عز وجل عباده المؤمنين ووصفهم بأنهم (ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ) [المائدة:٥٤].
قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: «أي: لا يردّهم عمّا هم فيه من طاعة اللّه، وقتال أعدائه، وإقامة الحدود، والأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، لا يردّهم عن ذلك رادٌّ، ولا يصدّهم عنه صادٌّ، ولا يحيك فيهم لوم لائمٍ ولا عذل عاذلٍ»53.
فهم «يظهرون الشّدّة والغلظة والتّرفّع على الكافرين، ويجمعون بين المجاهدة في سبيل اللّه وعدم خوف الملامة في الدّين، بل هم متصلّبون لا يبالون بما يفعله أعداء الحقّ وحزب الشّيطان من الإزراء بأهل الدّين وقلب محاسنهم مساوئ ومناقبهم مثالب، حسدًا وبغضًا وكراهةً للحقّ وأهله»54.
وقد قص القرآن علينا موقف بني إسرائيل لما أصابهم الخوف من عدوهم وجبنوا عن مقاتلتهم، ورفضوا دخول الأرض المقدسة، فاستحقوا الخزي والهوان.
قال تعالى: (ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ) [المائدة:٢١-٢٢].
وهكذا تصور هذه الآيات مدى الخوف الذي تمكن من قلوب بني إسرائيل حتى أصابهم بضعف الهمة وخور العزيمة والجبن عن ملاقاة عدوهم رغم وعد الله عز وجل لهم بالغلبة والنصر.
«وهذا الجبن والخوف والوهن هو أساس الداء عند أية أمة تسلك ما سلكه أولئك اليهود، حيث ترفض طريق القتال والجهاد والاستشهاد، وتؤثر عليه طريق الذل والضعف والاستسلام، وخداع النفوس بأوهام وخيالات، تتوهم فيها الانتصار على الأعداء عن طرق الضغط السلمي أو المفاوضات المباشرة وغير المباشرة. أو تنتظر خروج أعدائها من البلاد، وانسحابهم من الميدان بكرم وأريحية، وتعتبر هذا المنطق هو قمة الوعي والفطنة والدهاء والواقعية والاعتدال!»55.
وقد نجح أعداء الإسلام في استخدام سلاح بث الشائعات ونشر الأكاذيب والأراجيف عبر وسائل الإعلام التي تصور قوة العدو بأنها لا تقهر، وأنهم يمتلكون من الأسلحة الحديثة الفتاكة ووسائل القتال المتطورة والتي لا يمكن مواجهتها، وذلك من أجل بث الخوف والرعب في قلوب المسلمين، وهو ما يعرف بالحرب النفسية. ولا بديل أمام المسلمين حيال ذلك إلا الاعتصام بالله والتوكل عليه وإعداد القوة واتخاذ الأسباب، ولتكن لهم عبرة في أسلافهم الأبرار عندما مدحهم الله عز وجل في كتابه بقوله تعالى: (ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ) [آل عمران:١٧٣].
فلم يزدهم إرجاف المرجفين وتثبيط المخذّلين إلا إيمانًا وتسليمًا.
إن الخوف من الموت خوف طبيعي أو فطري لا يلام عليه العبد إلا إذا كان سببًا لترك واجب، أو فعل محرم. فالخوف من الموت محفز قوي لأصحاب القلوب الحية يدفعها للمسارعة إلى الخيرات والبعد عن المعاصي والسيئات، كما يسوقها إلى التوبة كلما حادت عن الصراط المستقيم.
أما إذا أدى الخوف من الموت إلى الجبن والخور، وترك تكاليف الجهاد، فهو خوف مذموم.
ولقد قص علينا القرآن الكريم قصة قوم خرجوا من ديارهم على كثرتهم واتفاق مقاصدهم خوفًا من الموت.
قال تعالى: (ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ) [البقرة:٢٤٣].
يقص الله تعالى علينا قصة الذين خرجوا من ديارهم فرارًا من الموت، إما بسبب الخوف من العدو، أو بسبب وباء عام كالطاعون ونحوه، فأماتهم الله تعالى، ثم أحياهم، ليروا هم وكل من خلف بعدهم أن الإماتة إنما هي بيد الله تعالى لا بيد غيره، فلا معنى لخوف خائف، ولا لاغترار مغتر.
«وفي هذه القصّة عبرةٌ ودليلٌ على أنّه لن يغني حذرٌ من قدرٍ وأنّه، لا ملجأ من اللّه إلّا إليه، فإنّ هؤلاء فرّوا من الوباء طلبًا لطول الحياة فعوملوا بنقيض قصدهم وجاءهم الموت سريعًا في آنٍ واحدٍ»56.
«إن الحذر من الموت لا يجدي، وإن الفزع والهلع لا يزيدان حياة، ولا يمدان أجلًا، ولا يردان قضاءً، وإن الله هو واهب الحياة، وهو آخذ الحياة، وإنه متفضل في الحالتين: حين يهب، وحين يسترد، والحكمة الإلهية الكبرى كامنة خلف الهبة وخلف الاسترداد. وإن مصلحة الناس متحققة في هذا وذاك، وإن فضل الله عليهم متحقق في الأخذ والمنح سواء.
إن تجمع هؤلاء القوم (ﮡ ﮢ) وخروجهم من ديارهم (ﮣ ﮤ) لا يكون إلا في حالة هلع وجزع، سواء كان هذا الخروج خوفًا من عدو مهاجم، أو من وباء حائم، إن هذا كله لم يغن عنهم من الموت شيئًا»57.
ذكرنا أن الخوف المحمود ما حجز عن محارم الله، فإذا زاد عن حده، وأورث اليأس والقنوط، دفع المرء إلى استمراء المعاصي والذنوب نتيجة قوة يأسه.
لذا فالواجب على المؤمن ألا «يدع الخوف يفضي به إلى حد يوقعه في القنوط واليأس من رحمة الله، فإن هذا الخوف مذموم، وهذا الخوف الموقع في الإياس: إساءة أدب على رحمة الله تعالى التي سبقت غضبه وجهل بها»58.
لذا تنوعت النصوص القرآنية التي تدعو المؤمن إلى الجمع بين الخوف والرجاء، مثل قوله تعالى: (ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ) [الأنبياء:٩٠].
وقوله تعالى: (ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ) [الزمر:٩].
كما جمع تعالى بين مغفرته وعذابه في قوله تعالى: (ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ) [الحجر:٤٩-٥٠].
«فالعبد ينبغي أن يكون قلبه دائمًا بين الخوف والرجاء، والرغبة والرهبة، فإذا نظر إلى رحمة ربه ومغفرته وجوده وإحسانه، أحدث له ذلك الرجاء والرغبة، وإذا نظر إلى ذنوبه وتقصيره في حقوق ربه، أحدث له الخوف والرهبة والإقلاع عنها»59.
كما حذر تعالى عباده من اليأس من روحه والقنوط من رحمته.
قال تعالى: (ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ) [يوسف:٨٧].
وقال سبحانه: (ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ) [الحجر:٥٦].
«إنه لا يقنط من رحمة ربه إلا الضالون؛ الضالون عن طريق الله الذين لا يستروحون روحه، ولا يحسون رحمته، ولا يستشعرون رأفته وبره ورعايته؛ فأما القلب الندي بالإيمان، المتصل بالرحمن، فلا ييأس ولا يقنط مهما أحاطت به الشدائد، ومهما ادلهمت حوله الخطوب، ومهما غام الجو وتلبد، وغاب وجه الأمل في ظلام الحاضر وثقل هذا الواقع الظاهر؛ فإن رحمة الله قريب من قلوب المؤمنين المهتدين، وقدرة الله تنشئ الأسباب كما تنشئ النتائج، وتغير الواقع كما تغير الموعود»60.
«وللقنوط من رحمة الله واليأس من روحه سببان محذوران:
أحدهما: أن يسرف العبد على نفسه ويتجرأ على المحارم، فيصر عليها ويصمم على الإقامة على المعصية، ويقطع طمعه من رحمة الله لأجل أنه مقيم على الأسباب التي تمنع الرحمة، فلا يزال كذلك حتى يصير له هذا وصفًا وخلقًا لازمًا، وهذا غاية ما يريده الشيطان من العبد، ومتى وصل إلى هذا الحد لم يرج له خير إلا بتوبة نصوح وإقلاع قوي.
الثاني: أن يقوى خوف العبد بما جنت يداه من الجرائم، ويضعف علمه بما لله من واسع الرحمة والمغفرة، ويظن بجهله أن الله لا يغفر له ولا يرحمه ولو تاب وأناب، وتضعف إرادته، فييأس من الرحمة، وهذا من المحاذير الضارة الناشئ من ضعف علم العبد بربه، وما له من الحقوق، ومن ضعف النفس وعجزها ومهانتها. فلو عرف هذا ربه ولم يخلد إلى الكسل: لعلم أن أدنى سعي يوصله إلى ربه وإلى رحمته وجوده وكرمه»61.
وهناك صور أخرى للخوف المذموم تشمل: خوف المرء من وثن، أو طاغوت، أو ميت، أو غائب من جن أو إنس أن يصيبه بما يكره؛ كما قال الله عن قوم هود عليه السلام أنهم قالوا له: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ) [هود:٥٤].
«أي: ما نقول إلّا أنّه أصابك بعض آلهتنا الّتي تعيبها وتسفّه رأينا في عبادتها بسوءٍ: بجنونٍ، حتّى نشأ عن جنونك ما تقوله لنا وتكرّره علينا من التّنفير عنها، فأجابهم بما يدلّ على عدم مبالاته بهم وعلى وثوقه بربّه وتوكّله عليه، وأنّهم لا يقدرون على شيء مما يريده الكفّار به، بل اللّه سبحانه هو الضّارّ النّافع، فقال: (ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ) أي: من إشراككم من دون اللّه من غير أن ينزّل به سلطانًا فكيدوني جميعًا أنتم وآلهتكم إن كانت كما تزعمون من أنّها تقدر على الإضرار بي وأنّها اعترتني بسوء ثمّ لا تنظرون، أي: لا تمهلوني، بل عاجلوني واصنعوا ما بدا لكم. وفي هذا من إظهار عدم المبالاة بهم وبأصنامهم الّتي يعبدونها ما يصكّ مسامعهم، ويوضّح عجزهم وعدم قدرتهم على شيءٍ إنّي توكّلت على اللّه ربّي وربّكم فهو يعصمني من كيدكم، وإن بلغتم في تطلّب وجوه الإضرار بي كلّ مبلغٍ، فمن توكّل على اللّه كفاه»62.
وقد خوّف المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم من أوثانهم؛ كما قال تعالى: (ﮄ ﮅ ﮆ ﮇﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ) [الزمر:٣٦].
وهذا من ضلال المشركين إذ يحسبون أن آلهتهم الزائفة تلك تملك ضرًّا أو نفعًا، وتستطيع أن تلحق الأذى والسوء بمن يريدون.. فالله عز وجل هو الذي يتولى رعاية نبيه وحفظه كما يتولى رعاية عباده الصالحين، فمن ذا الذي يجرؤ أن يمس أولياء الله بسوء وهم في كنفه وعنايته؟
ومن ذا الذي يصيبه القلق أو الخوف من أوثان المشركين على اختلاف صورها وأشكالها وهو يتوكل على من بيده ملكوت السماوات والأرض؟
وقد أعلن إبراهيم عليه السلام هذه الحقيقة في وجه المشركين في يقين جازم وحسم قاطع، في قوله تعالى: (ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ) [الأنعام:٨١].
من لوازم الإيمان بالله: الإيمان بأسمائه وبصفاته، والإيمان بهذه الصفات يشمل إثبات كل صفات الكمال والجلال والجمال لله عز وجل، وتنزيهه عن كل صفات النقص وعن مشابهته شيئًا من مخلوقاته، وقد وصف الله تعالى نفسه بأنه له المثل الأعلى، فقال تعالى: (ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖﮗ ﮘ ﮙ ﮚﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ) [النحل:٦٠].
وقال تعالى في موضع آخر: (ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼﭽ ﭾ ﭿ ﮀ) [الروم:٢٧].
يقول الشوكاني: «وللّه المثل الأعلى وهو أضداد صفة المخلوقين من الغنى الكامل والجود الشّامل والعلم الواسع، أو التّوحيد وإخلاص العبادة، أو أنّه خالقٌ رازقٌ قادرٌ مجازٍ»63.
وأضاف الشيخ السعدي رحمه الله: «(ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ) وهو كل صفة كمال، والكمال من تلك الصفة والمحبة والإنابة التامة الكاملة في قلوب عباده المخلصين والذكر الجليل والعبادة منهم. فالمثل الأعلى هو وصفه الأعلى وما ترتب عليه»64.
ومن الصفات المنفية عن الله عز وجل: صفة الخوف، «فالخوف يتضمن نقصان العلم والقدرة والإرادة، فإن العالم بأن الشيء لا يكون، لا يخافه، والعالم بأنه يكون ولا بد قد يئس من النجاة منه فلا يخاف، وإن خاف فخوفه دون خوف الراجي، وأما نقص القدرة فلأن الخائف من الشيء هو الذي لا يمكنه دفعه عن نفسه، فإذا تيقن أنه قادر على دفعه لم يخفه.
وأما نقص الإرادة فلأن الخائف يحصل له الخوف بدون مشيئته واختياره، وذلك محال في حق من هو بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير، ومن لا يكون شيء إلا بمشيئته وإرادته، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وهذا لا ينافي كراهته سبحانه وبغضه وغضبه، فإن هذه الصفات لا تستلزم نقصًا لا في علمه ولا في قدرته ولا في إرادته، بل هي كمال؛ لأن سببها العلم بقبح المكروه المبغوض المغضوب عليه، وكلما كان العلم بحاله أهم كانت كراهته وبغضه أقوى ولهذا يشتد غضبه سبحانه على من قتل نبيه أو قتله نبيه»65.
قال الله تعالى: (ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ) [الشمس:١٤-١٥].
«قال ابن عبّاسٍ: لا يخاف اللّه من أحدٍ تبعةً. وكذا قال مجاهدٌ، والحسن، وبكر بن عبد اللّه المزنيّ، وغيرهم. وقال الضّحّاك والسّدّيّ: (ﮒ ﮓ ﮔ) أي: لم يخف الّذي عقرها عاقبة ما صنع. والقول الأوّل أولى؛ لدلالة السّياق عليه، واللّه أعلم»66.
وقال أبو السعود: (ﮒ ﮓ ﮔ) «أي: عاقبتها وتبعتها كما يخاف سائر المعاقبين من الملوك فيبقي بعض الإبقاء وذلك أنّه تعالى لا يفعل فعلًا إلاّ بحق وكلّ من فعل بحق فإنه لا يخاف عاقبة فعله وإن كان من شأنه الخوف»67.
(ﮒ ﮓ ﮔ) وهذا يعني: «أن الله لا يخاف من عاقبة هؤلاء الذين عذبهم، ولا يخاف من تبعتهم؛ لأن له الملك وبيده كل شيء، بخلاف غيره من الملوك لو انتصروا على غيرهم، أو عاقبوا غيرهم تجدهم في خوف يخشون أن تكون الكرة عليهم. أما الله عز وجل فإنه لا يخاف عقباها. أي: لا يخاف عاقبة من عذبهم؛ لأنه سبحانه وتعالى له الملك كله، والحمد كله، فسبحانه وتعالى ما أعظمه، وما أجل سلطانه»68.
وخلاصة القول إن الخوف صفة نقص تتصف بها المخلوقات الحية من أجل تحقيق افتقارها وفرارها وحاجتها الدائمة إلى مولاها.. أما الخالق جل وعلا فإنه متنزه عن الخوف، فهو صاحب الإرادة التامة والمشيئة النافذة والقدرة الكاملة والهيمنة التامة والقوة القاهرة، لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه.. فهل يستطيع أحد من البشر الضعاف المهازيل أن يحول بينه سبحانه وبين تصرفه المطلق في شئون كونه بالحساب والمجازاة ؟! «سبحانه وتعالى ومن ذا يخاف؟ وماذا يخاف؟ وأنى يخاف؟ إنما يراد من هذا التعبير لازمه المفهوم منه. فالذي لا يخاف عاقبة ما يفعل، يبلغ غاية البطش حين يبطش. وكذلك بطش الله كان: (ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ)[البروج:١٢]، فهو إيقاع يراد إيحاؤه وظله في النفوس»69.
ألا فلترتدع وترعوي نفوس الطغاة التي استمرأت العدوان والظلم والطغيان، ولتستفق من نشوة سكرتها واغترارها بإمهال الله عز وجل لها واستدراجها!
ولتتأمل في حال المكذبين على مر العصور الماضية كانوا أشد منهم قوة، فأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر وجعلهم أثرًا بعد عين، كما قال تعالى: (ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ) [مريم:٩٨].
الخوف شعور فطري أوجده الله تعالى في النفس البشرية؛ ليعين الإنسان على اتقاء الأخطار التي تهدده مما يساعده على الحياة والبقاء، يقوى ويضعف حسب الحالة التي يكون فيها الإنسان والمؤثر الذي يتعرض له، فلا يخلو شخص من هذا الشعور مهما علت منزلته.
وهذا ما يؤكده علماء النفس: « فالخوف حالة انفعالية داخلية طبيعية يشعر بها الإنسان فى بعض المواقف، ويسلك فيها سلوكًا يبعده عادة عن مصادر الضرر، وهذا كله ينشأ عن استعداد فطري أوجده الخالق فى الإنسان والحيوان، ويسمى الغريزة، ولابد أن يكون الخالق قد أوجد هذا الاستعداد الغريزي لحكمة تتعلق بصالح الكائن الحي، فالخوف هو الذي يدفعنا لحماية أنفسنا وللمحافظة عليها، فإذا كنا لا نخاف النار مثلًا فقد تحرقنا، وإذا كنا لا نخاف الحشرات والحيوانات الضارية فقد تقتلنا، وإذا كنا لا نخاف الجراثيم فقد تفتك بنا، وهناك كذلك الخوف من الزلل، وخوف الإنسان على سمعته وما إلى ذلك، ومن الطبيعي أن تقترن الحالة الشعورية الانفعالية (وهي الخوف) بالسلوك الملائم وهو الخلاص من الخطر»70.
يقول د. محمد بني يونس: «الخوف: ظاهرة طبيعية أو سوية، و لا يدل على أي اضطراب نفسي أو انحراف في الشخصية و طالما أن هناك أسبابًا معقولة له، وأن مستوى الخوف الذي يبديه الشخص الخائف يتناسب مع حجم المثير المخوف، والخوف في حد ذاته ليس شيئًا رديئًا يجب القضاء عليه، أو يجب الاستغناء عنه في مجالات التربية والمجالات الاجتماعية العادية»71.
أما إذا تجاوز الخوف الحد المطلوب فإنه يصبح حالة مرضية تنغص على المرء معيشته، وتشل ذاكرته وتصيبه بالشلل الحركي، وتدفعه إلى الاستسلام والجمود.
ولقد وصف القرآن الكريم انفعال الخوف عند بعض الأنبياء عليهم السلام نتيجة تعرضهم لمؤثرات مختلفة72، نتناولها بإيجاز:
١. الخوف نتيجة شدة الموقف وعامل المباغتة.
ويتجلى ذلك بصورة واضحة في قصص موسى وداود ولوط عليهم السلام:
ويتجلى ذلك في موقفين:
الموقف الأول: عندما تحولت العصا في يده إلى ثعبان يتحرك يمينًا وشمالًا، قال تعالى: (ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ) [النمل:٩-١٠].
قال عز وجل: (ﮂ ﮃ ﮄﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ) [القصص:٣١].
لقد فوجىء موسى عليه السلام بمجرد أن ألقى العصا أنها صارت حية كبيرة هائلة مخيفة، تهتز وتضطرب، تسعى وتسير، وتتحرك حركة سريعة مخيفة.
وقوله تعالى: (ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ) «أي: انطلق مسرعًا، فأعطاها ظهره، وأطلق ساقيه للريح فرارًا من هذا الهول الذي طلع عليه من تلك العصا التي كانت خشبة جامدة في يده منذ لحظات»73.
لقد كان الأمر بالغ الصعوبة خاصة أن موسى عليه السلام فى مثل هذا الموقف كان يحوطه القلق والاضطراب، وتغمره الوحشة، ويحتويه الظلام وهو عائد من مدين إلى مصر يبحث عن الأنس والدفء فى ظلمة الليل، ووحشة الصحراء، كما قال تعالى: (ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ) [طه:٩-١٠].
لذا طمأنه الله عزوجل فقال له: (ﮐ ﮑ ﮒ ﮓﮔ ﮕ ﮖ ﮗ) «وهذا أبلغ ما يكون في التأمين، وعدم الخوف.
فإن قوله: (ﮑ) يقتضي الأمر بإقباله، ويجب عليه الامتثال، ولكن قد يكون إقباله، وهو لم يزل في الأمر المخوف، فقال: (ﮒ ﮓ) أمر له بشيئين، إقباله، وأن لا يكون في قلبه خوف، ولكن يبقى احتمال، وهو أنه قد يقبل وهو غير خائف، ولكن لا تحصل له الوقاية والأمن من المكروه، فقال: (ﮕ ﮖ ﮗ) فحينئذ اندفع المحذور من جميع الوجوه، فأقبل موسى عليه السلام غير خائف ولا مرعوب، بل مطمئنًّا، واثقًا بخبر ربه، قد ازداد إيمانه، وتم يقينه، فهذه آية، أراه الله إياها قبل ذهابه إلى فرعون، ليكون على يقين تام، فيكون أجرأ له، وأقوى وأصلب»74.
الموقف الثاني: عند لقاء السحرة، وإذا حبالهم وعصيّهم بما عمل فيها من حيل يخيّل للناظر إليها أنها حيات تسعى.
قال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ) [طه:٦٥-٦٨].
(ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ) «أي: أحسّ، وقيل: وجد، وقيل: أضمر، وقيل: خاف، وذلك لما يعرض من الطّباع البشريّة عند مشاهدة ما يخشى منه، وقيل: خاف أن يفتتن النّاس قبل أن يلقي عصاه، وقيل: إنّ سبب خوفه هو أنّ سحرهم كان من جنس ما أراهم في العصا، فخاف أن يلتبس أمره على النّاس فلا يؤمنوا، فأذهب اللّه سبحانه ما حصل معه من الخوف بما بشّره به بقوله: (ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ)»75.
إن خوف موسى عليه السلام في هذا المشهد ليس خوف جبن أو خوفًا على حياته، بل كان خائفًا من أن يقع الناس تحت تأثير هذا المنظر بصورة يصعب معها إرجاعهم إلى الحقّ. «فالتعبير عن الحالة العرضية التي مرت بموسى عليه السلام بكلمة (ﭮ) بدل (خوف)، وتعيين هذه الحالة بأنها كانت في نفسه، يشير إلى أنها كانت حالة نفسية عرضية سريعة، سرعان مازالت وتلاشت، وحلَّ محلها يقينه وثقته وثباته، وهذا التوجس النفسي لم يؤثر على موقفه وتحديه، ولم يتحول إلى خوف وجودي، ينتج آثارًا عملية سيئة »76.
فما أروع عناية الله عز وجل بأوليائه تربط على قلوبهم وتثبت أقدامهم في أحلك المواقف وأصعب اللحظات لتسكب في قلوبهم السكينة والطمأنينة.
قال الله عز وجل: (ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂﮃ ﮄ ﮅ ﮆﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ) [ص:٢١-٢٢].
«تتحدّث الآيات عن قصة حدثت لداود عليه السلام، وتذكر أن خصمين دخلا عليه مجلسه فى صورة غير مألوفة، إذ تسورا عليه السور، ولم يدخلا من المدخل الطبيعي إليه. ففزع منهما، وتوقع الشر من دخولهما على تلك الصورة، التي يقتحمان عليه فيها مجلسه اقتحامًا، من غير استئذان، وهو الملك، ذو البأس والسلطان، الذي تقوم على حراسته الجنود، والحجّاب»77.
وكأن هذه الآيات تبين لنا أن داود عليه السلام مع ما أتاه الله من الحكم، والملك، والسلطان، والجاه، والجيوش والحراس. يفزع ويخاف، ويتوقع الشر، وحصول المكروه. مما يؤكد أن الخوف انفعال فطري لا يخلو منه أحد مهما كانت قوته وسلطانه أو علت مكانته ومنزلته.
قال الله عز وجل: (ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ) [العنكبوت:٣٣-٣٤].
تصور هذه الآيات الكرب والضيق والهم والأسى والحزن والخوف الذي أصاب لوطًا عليه السلام عندما جاءته الملائكة في صورة سويّة من صور البشر، فيهم الشباب، والنضارة، والجمال. فخاف عليهم من تعرض قومه الشاذين لهم وقد اشتهروا بفعل الفاحشة دون تحرج أو حياء، فأحس لوط عليه السلام وهو في هذا الموقف العصيب بأنه عاجز عن حماية ضيوفه والتصدي لقومه الذين أعمتهم سكرة الشهوة عن الاستجابة لنداءاته المتكررة عبر استثارة النخوة الآدمية فيهم أو استجاشة وجدان تقوى الله فيهم، فقول الملائكة للوط عليه السلام: (ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ) يدل على ظهور أمارات الخوف عليه مع ما أصابه من الهم والأسى.
٢. الخوف نتيجة الضغوط المتنوعة والشعور بالألم.
ويتجلى ذلك في خوف موسى عليه السلام من ضغط فرعون وإفراطه في التعدي.
قال تعالى: (ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ) [طه:٤٢-٤٦].
لما كلف الله تعالى موسى وهارون عليهما السلام بالذهاب إلى فرعون ودعوته إلى الحق، تذكر موسى عليه السلام -وقد تربى في قصره- بطش فرعون وطغيانه وجبروته، كما أن موسى قد قتل القبطي بطريق الخطأ، فهناك احتمال كبير أن يتعرض للمساءلة والحساب، كما قال تعالى: (ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ) [الشعراء:١٤].
فعندها توجه موسى وهارون عليهما السلام إلى الله عز وجل: (ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ)، فقد خاف موسى عليه السلام من أن يعجل فرعون بعقابه قبل أن يسمع منه ما أرسل به إليه، وهكذا شأن الطاغية دومًا إذا سمع شيئًا لا يعجبه ولا يتفق مع هواه، تعجل الأمر بالقتل.
وهنا تأتي المعية الربانية بالحفظ والتأييد والرعاية والعناية (ﯝ ﯞ ﯟﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ).
قال الإمام ابن كثير في تفسير هذه الآية: «لا تخافا منه، فإنّني معكما أسمع كلامكما وكلامه، وأرى مكانكما ومكانه، لا يخفى عليّ من أمركم شيءٌ، واعلما أنّ ناصيته بيدي، فلا يتكلّم ولا يتنفّس ولا يبطش إلّا بإذني وبعد أمري، وأنا معكما بحفظي ونصري وتأييدي»78.
فأي ثقة وطمأنينة يستشعرها القلب المؤمن وهو يوقن أنه في معية من بيده ملكوت كل شيء، ومن يقول للشيء كن فيكون! فيا لقرة أعين المؤمنين بمعية ربهم تحفظهم في أشد المواقف وتحميهم من كيد الطغاة وبطش المجرمين!
٣. الخوف من المجهول أو غير المعلوم.
ويتجلى ذلك في هذه المواقف الثلاثة:
قال تعالى: (ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺﯻ ﯼ ﯽ ﯾﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ) [الذاريات:٢٤-٢٨].
يصور هذا المشهد القرآني وصول مجموعة من الملائكة على صورة رجال إلى منزل إبراهيم عليه السلام، وكان إبراهيم لا يعرفهم، دخلوا عليه منزله، فقام من فوره وقدم لهم طعامًا شهيًّا، فلم تمتد أيديهم إليه، فلما رأى إبراهيم ذلك منهم نكرهم.
يقول الشيخ محمد رشيد رضا: «نكر الشيء وأنكره: ضد عرفه، أي: نكر ذلك منهم، ووجده على غير ما يعهد من الضيف، فإن الضيف لا يمتنع من طعام المضيف إلا لريبة، أو قصد سيء، وأحس في نفسه خيفة منهم وفزعًا، أو أدرك ذلك وأضمره إذ شعر أنهم ليسوا بشرًا، أو أنهم ربما كانوا من ملائكة العذاب، والوجس يطلق على ما يعتري النفس من الشعور والخواطر عند الفزع»79.
وقد عبر الله عز وجل عن هذا الموقف نفسه في سورة هود بقوله سبحانه: (ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ) [هود:٧٠].
ثم اكتشف إبراهيم حقيقة ضيوفه وأنهم ملائكة الرحمن جاءوا لإهلاك قوم لوط كما بشروه بغلام عليم يكون له من زوجه العجوز العقيم.
«والجميل في التعبير أنه بمجرد ما داخل إبراهيم الخوف، وظهرت علاماته على وجهه، بادر الملائكة إلى طمأنته، وطرد الشعور بالخوف من فؤاده، بالكشف عن هويتهم الملائكية الكريمة، وتعزيزها بإلقاء بشرى الولد، بردًا وسلامًا على إبراهيم، فالرسول آمن عند ربه، وما كان ليروعه شيء ولا أحد أبدًا، وإنما كان خوف إبراهيم توجسًا، أي: شعورًا خفيًّا، فقوله: (ﯮ) من الوجس، وهو إضمار الشعور بالخوف في النفس. ومع ذلك سارعت الملائكة إلى طرد ذلك الخاطر من قلبه، وتمكين وجدانه من روح الأمن والسلام»80.
منذ اللحظة الأولى التي قصَّ فيها يوسف رؤياه على أبيه يعقوب عليهما السلام، أدرك يعقوب أنه سيكون ليوسف مستقبل مشرق زاهر، فطلب من يوسف ألا يقص رؤياه على إخوته خوفًا من كيدهم ومكرهم، خاصة وأنهم كانوا يرون تعلق يعقوب به وإيثاره عليهم في زعمهم، ثم جاءت اللحظة التي طلب فيها إخوة يوسف من أبيهم أن يرسل معهم يوسف في نزهة للهو واللعب، ووعدوه بحفظه وحمايته، كما حكى القرآن في قوله سبحانه: (ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ) [يوسف:١١-١٣].
«لقد سلّم لهم أبوهم بما طلبوه، ولكنه أظهر لهم بعض مخاوفه، إذا هو أجابهم إلى ما طلبوا.. فهو يحزن لبعد يوسف عنه، ولو ليوم أو بعض يوم، إذ كان سلوته، وأنسه.
ثم هو يخشى أن يصيبه مكروه إذا هم غفلوا عنه، فيعدو عليه ذئب من تلك الذئاب المتربّصة لصيد تناله من إنسان أو حيوان في هذه الفلاة التي يرعون فيها! وفي قوله: (ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ) قد وضع بين أيديهم السلاح الذي يستعملونه في تنفيذ أمرهم الذي دبّروه، وليكون لهم منه ما يصدّق ظنون أبيهم ومخاوفه فيما ظنّه وتخوّفه؛ فكانت قصّة الذئب التي جاءوا أباهم بها، هي من وحي هذه الظنون وتلك المخاوف التي أعلنها أبوهم لهم.
(ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ) [يوسف:١٤]. إنهم التقطوا من أبيهم كلمة (ﯽ) وجعلوها العدوّ المتربص بهم، وأنهم سيأخذون حذرهم منه، وهم عشرة رجال، وإنه لن يستطيع أن ينال شيئًا منهم »81.
«وهذا المشهد يؤكد حصول انفعال الخوف عند يعقوب عليه السلام تجاه ولده وقرّة عينه يوسف عليه السلام، وهذا الأمر طبيعي جدًّا، وهو فطرة بشرية مغروزة في أعماق الآباء تجاه أولادهم، فالخطر قد يدهم يوسف عليه السلام من غيرة إخوته وحسدهم، أو من بطشهم به من خلال وسوسة الشيطان لهم، فجاء تحذير يعقوب عليه السلام له. ومن حق يعقوب عليه السلام أن يخاف وينفعل، سواء خوفه من الذئب، أو من إهمالهم أخاهم فيأكله الذئب، أو من إخوته أنفسهم، وهو يستشعر تغلغل الحسد إلى قلوبهم»82.
قال الله تعالى: (ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ) [القصص:١٨-٢١].
تصور هذه الآيات لحظات الحيرة والاضطراب التي انتابت موسى بعد قتله للقبطي بطريق الخطأ وانتشار الخبر في قصر فرعون، وخوف موسى من اكتشاف أمره، خاصة بعدما نصحه أحد الناصحين من آل فرعون بالخروج من مصر قبل أن تصل إليه أيدى زبانية فرعون.
«وقد صور القرآن حالة موسى عندما خرج من المدينة.
قال تعالى: (ﰈ ﰉ ﰊ ﰋﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ) [القصص:٢١].
خرج من المدينة خائفًا، وكان قد أصبح في المدينة خائفًا، وخرج من المدينة يترقب، وكان قد أصبح في المدينة يترقب. كان في المرة الأولى خائفًا أن يتعرف عليه أحدهم؛ لأنه قتل قبطيًّا بالأمس، وكان يترقب ويتلفت وينظر يمنة ويسرة.
أما الآن فهو خائف من جنود فرعون، لأن معهم أمرًا بالقبض عليه وقتله.
وخوف موسى طبيعي، لا يلام ولا يعاب عليه، وليس جبنًا ولا ضعفًا، ألا تريد من رجل مطلوب القبض عليه وقتله أن يخاف من ذلك؟
ولكن خوف موسى الطبيعي من الخطر الفرعوني المحدق به لم يؤثر على إيمانه بالله وتوكله عليه وثقته به، فكل حياته كانت هكذا، وكان يرى فضل الله عليه وحفظه له، في كل ما مر به من أحداث»83.
أولًا: معرفة الله بصفات جلاله وعظمته وكبريائه:
إن التفكر في عظمة الله تعالى عبر التدبر في أسمائه وصفاته، يفتح للقلب البشري نافذة يطل منها على أوصاف العظمة والكبرياء لله عز وجل، بما يسكب في القلب الخوف منه والحرص على خشيته وتقواه، فالقلب اليقظ حين يتأمل في صفات مولاه ويعلم أنه هو القوي المتين، الكبير المتعال، الواحد القهار، الحميد المجيد، القادر المقتدر والجبار المتكبر، ذو العرش المجيد، الفعال لما يريد، ذو الجبروت والملكوت، عندها تنتابه قشعريرة ووجل تدفعه إلى سلوك سبيل الهدى.
قال تعالى: (ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ) [الأنفال:٢].
إنها الارتعاشة الوجدانية التي تنتاب القلب المؤمن حين يذكر بالله في أمر أو نهي فيغشاه جلاله، وتنتفض فيه مخافته ويتمثل عظمة الله ومهابته، إلى جانب تقصيره هو وذنبه، فينبعث إلى العمل والطاعة، وهي الحال التي يجدها القلب المؤمن حين يذكر بالله في صدد أمر أو نهي فيأتمر معها وينتهي كما يريد الله؛ وَجَلًا وتَقْوًى لله84.
وقد نعى الله عز وجل على أولئك الذين لا يتفكرون في عظمة ربهم في قوله تعالى: (ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ) [نوح:١٣].
وقد ذكر الماوردي في هذه الآية خمس تأويلات نذكر منها:
«أحدها: ما لكم لا تعرفون للّه عظمة، قاله مجاهد، وعكرمة.
الثاني: لا تخشون للّه عقابًا وترجون منه ثوابًا، قاله ابن عباس في رواية ابن جبير.
الثالث: لا تعرفون للّه حقه ولا تشكرون له نعمه، قاله الحسن.
الرابع: لا تؤدون للّه طاعة، قاله ابن زيد»85.
فما أعجب من يرى آيات الله مبثوثة في الكون والأنفس تنبىء عن عظمته وجلاله، ثم ينصرف دون أن يخشع قلبه أو تنتفض جوارحه أو يسكن الإيمان واليقين وجدانه!
قال تعالى: (ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ) [الزمر:٦٧].
ثانيًا: الشعور بالتفريط في جنب الله، ومعرفة قبح عواقب الذنوب والمعاصي:
إن القلب اليقظ المترع بالخوف من مولاه ينتفض وجلًا وخشية كلما وقع في المعصية أو قصّر في الطاعة؛ لأنه يعلم ما للمعاصي والذنوب من أضرار سيئة وعواقب وخيمة في الدنيا والآخرة، وأنها قد تشكل -مع إلفها والتعود عليها- حجابًا يحرمه تذوق حلاوة الإيمان ولذة العبادة، ويقوده إلى الغفلة واتباع الهوى.
«إن الخوف منه تعالى مانعٌ للذنب، عاصمٌ من الخطأ، حافظٌ من الزلل، مبعدٌ عن الخلل، حافزٌ للنفس، موقظٌ للضمير، حاثٌّ على الاجتهاد، وأنى لقلب لم يزرع فيه خوف الله أن يرتدع عن الهوى، ويرعوي عن الجهل، وكيف لفؤادٍ لم تسكنه خشية الله والهيبة لجلاله، والوجل من بطشه، والإشفاق من وعيده؛ كيف له أن يعمر بالطاعة، ويتجافى عن المعصية، ويتنكر للخطيئة، ويستوحش من الذنب»86.
فالخوف من الله يجعل العبد في حساسية وتوق للذنوب؛ لأنه يعلم أن كل ما يفعله من طاعات ومعاصٍ مسجل في صحيفته، منشور في ديوانه، كما قال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤﭥ ﭦ ﭧ ﭨﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ) [آل عمران:٣٠].
كما أخبر تعالى أن الميزان دقيق يزن أصغر الأشياء وأحقرها، من خير أو شر.
قال تعالى: (ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ) [الأنبياء:٤٧].
قال ابن القيم: «العبد إما أن يكون مستقيمًا أو مائلًا عن الاستقامة، فإن كان مائلًا عن الاستقامة فخوفه من العقوبة على ميله، ولا يصح الإيمان إلا بهذا الخوف، وهو ينشأ من ثلاثة أمور:
أحدها: معرفته بالجناية وقبحها.
والثاني: تصديق الوعيد وأن الله رتب على المعصية عقوبتها.
والثالث: أنه لا يعلم لعله يمنع من التوبة ويحال بينه وبينها إذا ارتكب الذنب.
فبهذه الأمور الثلاثة يتم له الخوف، وبحسب قوتها وضعفها تكون قوة الخوف وضعفه، فإن الحامل على الذنب إما أن يكون عدم علمه بقبحه، وإما عدم علمه بسوء عاقبته، وإما أن يجتمع له الأمران لكن يحمله عليه اتكاله على التوبة، وهو الغالب من ذنوب أهل الإيمان، فإذا علم قبح الذنب، وعلم سوء مغبته، وخاف أن لا يفتح له باب التوبة بل يمنعها ويحال بينه وبينها اشتد خوفه هذا قبل الذنب، فإذا عمله كان خوفه أشد. وبالجملة، فمن استقر فى قلبه ذكر الدار الآخرة وجزائها، وذكر المعصية والتوعد عليها، وعدم الوثوق بإتيانه بالتوبة النصوح هاج فى قلبه من الخوف ما لا يملكه ولا يفارقه حتى ينجو»87.
ثالثًا: مراقبة الله تعالى في السر والعلن:
إن علم المؤمن بسعة علم الله تعالى وإحاطته وشموله ومراقبته، وأنه لا تخفى عليه خافية، ولا تغيب عنه ذرة، وأنه معه أينما كان، وأنه لا تأخذه سنة ولا نوم، يعلم خلجات الأنفس، وخواطر القلب، وخائنة الأعين وما تخفي الصدور، كل هذه الحقائق إذا تمثلها القلب المؤمن غرست فيه شجرة الخوف من الله وامتدت فروعها إلى الجوارح، فآتت أكلها الطيبة بإذن ربها وأثمرت عملًا صالحًا، وقولًا رابحًا، وسلوكًا قويمًا، وفعلًا كريمًا.
قال تعالى: (ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ) [المائدة:٩٤].
يخبر الله عز وجل في هذه الآية أنه ابتلى عباده المؤمنين بصيد البر يتمكنون من أخذه بالأيدي والرماح سرًّا وجهرًا،ويقع في متناول أيديهم من غير معاناة، أو بحث عنه، إذ هو قريب دان، يغري بصيده، وذلك امتحان للتقوى في قلوبهم واختبار للخشية في نفوسهم، حيث لا يمنع المرء من الصيد في هذا الموطن إلا تقوى الله والخوف منه.
رابعًا: تذكر الموت وشدته والقبر وظلمته:
من أهم أسباب الخوف التفكر في الموت، المصير المحتوم، والأجل المكتوب، والخاتمة المنتظرة، لا مهرب منه ولا مفر، كما قال تعالى: (ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ) [الجمعة:٨].
لايفرق بين غني وفقير، ملك أو مملوك، عظيم أو حقير، الموت هو موعد ظهور نتيجة امتحان الدنيا وعندها ينقسم الناس إلى فريقين: فريق ينتظره التكريم والإحسان، كما قال تعالى: (ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ) [فصلت:٣٠].
وفريق آخر ينتظره الخزي والهوان كما قال تعالى: (ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ) [الأنفال:٥٠].
يقول أبو حامد الغزالي مصورًا هذه اللحظات العصيبة:
«اعلم أنه لو لم يكن بين يدي العبد المسكين كرب، ولا هول، ولا عذاب سوى سكرات الموت بمجردها لكان جديرًا بأن ينغص عليه عيشه، ويتكدر عليه سروره، ويفارقه سهوه وغفلته، وحقيقًا بأن يطول فيه فكره، ويعظم له استعداده، لا سيما وهو في كل نفس بصدده، كما قال بعض الحكماء: كرب بيد سواك لا تدري متى يغشاك. والعجب أن الإنسان لو كان في أعظم اللذات، وأطيب مجالس اللهو فانتظر أن يدخل عليه جندي فيضربه خمس خشبات لتكدرت عليه لذته، وفسد عليه عيشه وهو في كل نفس بصدد أن يدخل عليه ملك الموت بسكرات النزع وهو عنه غافل»88.
وقد عرض القرآن الكريم صورة لحظة الموت وخروج الروح بما يبث الخشية في القلب، ويغرس المراقبة في النفوس، وذلك في قوله تعالى: (ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ) [القيامة:٢٦-٣٠].
(ﭹ ﭺ ﭻ) «أي: اجتمعت الشدائد والتفت، وعظم الأمر وصعب الكرب، وأريد أن تخرج الروح التي ألفت البدن ولم تزل معه، فتساق إلى الله تعالى، حتى يجازيها بأعمالها، ويقررها بفعالها.فهذا الزجر الذي ذكره الله يسوق القلوب إلى ما فيه نجاتها، ويزجرها عما فيه هلاكها»89.
ويلحق بالخوف من الموت الخوف من القبر وضمته وظلمته ووحشته.. عن عبداللّه ابن عمر رضي اللّه عنهما: أنّ رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم قال: (إنّ أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشيّ، إن كان من أهل الجنّة فمن أهل الجنّة، وإن كان من أهل النّار فمن أهل النّار، فيقال: هذا مقعدك حتّى يبعثك اللّه يوم القيامة)90.
خامسًا: التفكر في القيامة وأهوالها:
قال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ) [الحج:١].
«أي: اخشوه في أوامره أن تتركوها، ونواهيه أن تقدّموا عليها. والاتّقاء: الاحتراس من المكروه، والمعنى: احترسوا بطاعته عن عقوبته. قوله تعالى: (ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ) الزّلزلة: شدّة الحركة، وأصل الكلمة من زلّ عن الموضع، أي: زال عنه وتحرّك، وهذه اللّفظة تستعمل في تهويل الشّيء. وقيل: هي الزّلزلة المعروفة الّتي هي إحدى شرائط السّاعة، الّتي تكون في الدّنيا قبل يوم القيامة، هذا قول الجمهور» 91.
إنه يوم عصيب شديد الأهوال «ومن هنا كان الذين يؤمنون بالآخرة، ولا يعملون لها، مطالبين بأن ينتبهوا، وأن يعملوا أكثر مما عملوا.. فإنهم على يقظتهم، وعلى خوفهم من لقاء ربّهم، وعلى إعدادهم ليوم اللقاء، إنهم مع هذا كله أشبه بالغافلين، فإن الهول شديد، والموقف لا يمكن تصوره، ومن هنا أيضًا كان المؤمن فى حاجة دائمة إلى تذكر هذا اليوم، وإلى الحياة معه، وإلى العمل له، وإنه مهما أكثر من عمل، فإنه قليل إلى المطلوب منه لهذا اليوم، لو علم هوله، وتصور صورته»92.
ولقد تعددت النصوص القرآنية التي تصف أهوال ذلك اليوم العصيب، منها على سبيل المثال قوله تعالى: (ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ) [المزمل:١٧-١٨].
وقوله سبحانه: (ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ) [لقمان:٣٣].
وقوله سبحانه: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ) [الزمر:٦٨].
روى الترمذي وأحمد من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من سره أن ينظر إلى يوم القيامة كأنه رأي العين فليقرأ: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ) [التكوير:١]، و (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ) [الانفطار:١]، (ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ) [الانشقاق:١])93.
إن تنوع النصوص القرآنية التي تصف أهوال ذلك اليوم وكثرتها يهدف إلى بث الخوف في قلوب العباد حتى يستقيم سيرهم على الصراط المستقيم في رحلتهم في الحياة الدنيا، ويسهل عليهم تقوى الله في السر والعلن، فتصبح التقوى هي الميزان الذي يزنون به جميع أقوالهم وأفعالهم، ويحتكمون إليه في خلافاتهم وخصوماتهم، ولا ينتفع بهذه الآيات إلا أصحاب القلوب الحية الذين لا تشغلهم الدنيا بزخارفها وزينتها عن ذكر ربهم وعبادته، ابتغاء رضوانه، وخوفًا من لقائه في يوم تضطرب فيه القلوب هولًا وفزعًا، وتزيغ فيه الأبصار، كربًا وجزعًا كما وصفهم ربهم بقوله: (ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ) [النور:٣٧].
سادسًا: التفكر في النار وشدة عذابها:
إن المتدبر للنصوص القرآنية يجد القرآن قد عرض صورًا متكررة لعذاب النار من أجل بث الخوف في نفوس العباد وحمل القلوب على الاستقامة على طاعة الله والفرار من معصيته.
قال تعالى: (ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ) [المدثر:٣٥-٣٦].
«أي: إنّ هذه النّار لإحدى الكبر، أي: لإحدى الدّواهي، و(ﯸ): هي العظائم من العقوبات، وقال الحسن: واللّه ما أنذر الخلائق بشيءٍ أدهى منها»94، كما وصف الله تعالى النار بأنها تلهب وتتوقّد وذلك في قوله تعالى: (ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ) [الليل:١٤].
كما أخبر سبحانه أن ما أعده لأهل الشقاء من العذاب داع يدعو عباده إلى التقوى وزاجر عما يوجب العذاب، وذلك في قوله تعالى: (ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖﮗ ﮘ ﮙ ﮚ) [الزمر:١٦].
كما تنوعت الآيات التي تصف عذاب أهل النار، فقد ذكر تعالى أن حرها شديد، وقعرها بعيد، ومقامعها من حديد، ثيابهم من قطران، يصب فوق رؤوسهم الماء المغلي، فلا يفتر عنهم العذاب، ولا هم ينظرون، كما في قوله تعالى: (ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ) [الحج:١٩-٢٢].
ويكفي في وصف عذاب النار أن غمسة واحد فيها تنسي المرء كل ألوان النعيم والمتاع في الدنيا، فما بالك بالخلود الأبدي والعذاب السرمدي.
عن أنس بن مالك رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: (يؤتى بأنعم أهل الدّنيا من أهل النّار يوم القيامة، فيصبغ في النّار صبغةً، ثمّ يقال له: يا ابن آدم، هل رأيت خيرًا قطّ، هل مرّ بك نعيمٌ قطّ؟ فيقول: لا واللّه يا ربّ)95.
يا لها من أهوال وشدائد يود المرء لو يفتدي في سبيل الخلاص منها بكل ما يملك، قال تعالى: (ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ) [المائدة:٣٦].
ولكن هيهات هيهات!
ولما تدبر عباد الرحمن صور عذاب أهل النار وما يقاسونه من الألم والحرمان، دعوا الله عز وجل في ضراعة وخشوع أن يصرف عنهم عذابها وينجيهم من أهوالها، كما قال تعالى: (ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ) [الفرقان:٦٥-٦٦].
وهكذا يفعل الخوف في نفوس الصالحين يمنحهم يقظة دائمة تجعلهم يفكرون كثيرا في عذاب النار، حتى تصبح النجاة منها شغلهم الشاغل.
سابعًا: مجالسة الصالحين والاستماع لنصائحهم:
فالجليس لا يخفى أثره سلبًا أو إيجابًا على أحد، فمجالسة الخائفين تورث الخوف من الله، ومجالسة الغافلين تورث الغفلة عن الله.
ألم يوص الله تعالى نبيه عليه الصلاة والسلام بصحبة أولياء الله تعالى المريدين لوجهه والمبتغين لفضله، وذلك في قوله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ) [الكهف:٢٨].
فهي دعوة للنبي عليه الصلاة والسلام -ولأمته من بعده- بالمداومة على مجالسة الذين يذكرون الله ويحمدونه ويسبحونه ويكبرونه ويسألونه ويدعونه في كل وقت يبتغون وجهه ويطلبون مرضاته، ومجاهدة النفس على صحبتهم ومخالطتهم، فإن صحبتهم ترقق القلب، وتزكي النفس، وتحفز على العمل للآخرة، وتثبّت المرء على الطاعة والعبادة، فشتان شتان بين صحبة تذكرك بالله، وتغرس الخشية منه تعظيمًا وإجلالًا لمقامه، وبين صحبة تزين لك شهوات الدنيا، وتغريك بالإقبال على مغرياتها، وتضعف رغبة القلب في السير إلى الآخرة.
عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنّما مثل الجليس الصّالح والجليس السّوء، كحامل المسك ونافخ الكير. فحامل المسك إمّا أن يحذيك96، وإمّا أن تبتاع منه، وإمّا أن تجد منه ريحًا طيّبةً. ونافخ الكير إمّا أن يحرق ثيابك، وإمّا أن تجد ريحًا خبيثةً)97.
«قال الراغب: نبه بهذا الحديث على أن حق الإنسان أن يتحرى بغاية جهده مصاحبة الأخيار ومجالستهم فهي قد تجعل الشرير خيّرًا كما أن صحبة الأشرار قد تجعل الخير شريرًا، وليس إعداء الجليس جليسه بمقاله وفعاله فقط بل بالنظر إليه والنظر في الصور يورث في النفوس أخلاقًا مناسبة لخلق المنظور إليه»98.
وهكذا فمجالسة الصالحين سبب للتشبه بهم، والأخذ عنهم والاتعاظ بأحوالهم.
ثامنًا: تدبر القرآن:
وتدبر القرآن يجمع كل ما سبق من أسباب الخوف، ففيه تدبر صفات الجلال والعظمة والكبرياء لله تعالى مما يثمر المراقبة له سبحانه، وفيه آيات الوعيد وما أعده الله عز وجل للعصاة من العذاب الأليم، وفيه وصف لأهوال الموت والقيامة والنار، وفيه ذكر عاقبة التفريط في جنب الله واستمراء الذنوب، وفيه عقوبات الله تعالى الدنيوية للأمم السابقة لما أصرت على التكذيب والعناد.
قال الإمام ابن القيم: «فليس شيء أنفع للعبد في معاشه ومعاده وأقرب إلى نجاته؛ من تدبر القرآن وإطالة التأمل وجمع الفكر على معاني آياته، فلا تزال معانيه تنهض العبد إلى ربه بالوعد الجميل، وتحذره وتخوفه بوعيده من العذاب الوبيل، وتحثه على التضمر والتخفف للقاء اليوم الثقيل»99.
قال الله تعالى: (ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ) [ق:٤٥].
«قال ابن عبّاسٍ: قالوا: يا رسول اللّه لو خوّفتنا، فنزلت: (ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ) أي: ما أعددته لمن عصاني من العذاب»100.
وهكذا «إن كلمات القرآن إنما تقع موقع الإيمان من القلوب المشفقة من اليوم الآخر، ومن الفطر السليمة التي تصغي إلى وعيد الله ونذيره، فتدرك أنه الحق، ولا تعميها الأهواء والشهوات عن الاستجابة لله ولرسوله» 101.
وقد بين الله عز وجل أن لآياته المجيدة أعظم أثر في تخويف القلوب من باريها وتحذيرها سطواته، كما قال تعالى: (ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ) [الزمر:٢٣].
«والقشعريرة، حال تعتري الجسد من أثر رهبة أو خوف، فيموج الجلد بموجات أشبه بمسّة الكهرباء. واقشعرار جلود الذين يخشون ربّهم من هذا الحديث المنزل من عند اللّه، هو لما يقع فى قلوبهم من رهبة وجلال لما يسمعون من كلام اللّه، الذي يقول سبحانه وتعالى فيه: (ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ) [الحشر:٢١].
فإذا نزل هذا القرآن على القلوب المؤمنة اهتزت لجلاله، وزلزلت أقطارها لرهبته»102.
فيا لروعة القلوب المؤمنة تتلقى آيات ربها في وجل وارتعاش، وفي تأثر شديد تقشعر منه الجلود، فيستشعرون الرهبة منه عز وجل في حالة عصيانه أو التقصير في طاعته، فتعيدهم هذه الرهبة إلى الصراط المستقيم، لينعموا بالأمن والسلام والأمان.
للخوف المحمود آثار إيجابية منها:
أولًا: الاستقامة على طاعة الله، واجتناب الكبائر والموبقات.
إن الخوف من الله يمنح القلب يقظة تعينه على توقّي عثرات ومزالق الطريق، وتدفعه للاستقامة على طاعة ربه واجتناب كل ما حرمه من الكبائر والصغائر، كما تسوقه إلى التوبة إذا شرد عن الطريق أو غشيته سحب الغفلة.
وقد قص الله علينا في كتابه الكريم خبر ابني آدم عندما تقبل الله قربان أحدهما لصلاحه ولم يتقبل من الآخر لفساده، فعزم الأخير على قتل أخيه حسدًا وحقدًا، فأخبره الأخ الصالح أنه لا يريد أن يتعرض لقتله، لا ابتداء ولا مدافعة بسبب خوفه من الله، كما قال تعالى: (ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ) [المائدة:٢٨].
والعبرة في هذا الموقف أن الخوف من الله إذا استقر في القلب أورث مراقبة الله عز وجل، والتي بدورها تمنعه من ارتكاب المحرمات، وفعل المعاصي والمنكرات.
فالخوف هو صمام الأمان في حياة الأفراد والجماعات، وإنه أقوى حارس لهم، يمنعهم من الاعتداء والظلم والطغيان.
فالمؤمن عندما يواجه طوفان المغريات والموبقات، أو يزين له الشيطان الوقوع في المحرمات، يرفع دائمًا شعار (ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ)، فيثبت على الطاعة، ويلزم الاستقامة.
يقول الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله: «اعلم أن الشهوات لا تنقمع بشيء كما تقمع بنار الخوف، فالخوف هو النار المحرقة للشهوات، فإن فضيلته بقدر ما يحرق من الشهوات، وبقدر ما يكف عن المعاصي ويحث على الطاعات، ويختلف ذلك باختلاف درجات الخوف، وكيف لا يكون الخوف ذا فضيلة وبه تحصل العفة والورع والتقوى والمجاهدة وهي الأعمال الفاضلة المحمودة التي تقرب إلى الله زلفى»103.
وقد ذكر ابن القيم بعض الأقوال التي تؤكد على أهمية الخوف في تحقيق الاستقامة منها: «قال أبو سليمان: ما فارق الخوف قلبًا إلّا خرب، وقال إبراهيم بن شيبان: إذا سكن الخوف القلوب أحرق مواضع الشّهوات منها، وطرد الدّنيا عنها، وقال ذو النّون: النّاس على الطّريق ما لم يزل عنهم الخوف، فإذا زال عنهم الخوف ضلّوا الطّريق»104.
ثانيًا: المسارعة إلى الخيرات والتنافس في الأعمال الصالحات:
تنوعت النصوص القرآنية التي تبين أن الخوف من الله باعث على المسارعة إلى الخيرات والتنافس في القربات.. فقد أثنى الله تعالى على أنبيائه لما كانوا عليه من الخوف من عذابه والخشوع لعظمته وجلاله والطمع فى رحمته.
وذلك في قوله تعالى: (ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭﯮ ﯯ ﯰ ﯱ) [الأنبياء:٩٠].
وقوله: (ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ) «أي: في عمل القربات وفعل الطّاعات، (ﯫ ﯬ ﯭ) قال الثّوريّ: (ﯬ) فيما عندنا، (ﯭ) ممّا عندنا، (ﯯ ﯰ ﯱ) قال عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ: أي: مصدّقين بما أنزل اللّه. وقال مجاهدٌ: مؤمنين حقًّا. وقال أبو العالية: خائفين. وقال أبو سنان: الخشوع هو الخوف اللّازم للقلب، لا يفارقه أبدًا»105.
كما مدح الله عز وجل عباده الصالحين الذين دفعهم الخوف منه سبحانه إلى هجر مضاجعهم ليذكروا اللّه ويدعوه، خائفين من عذابه، طامعين في رحمته، كما في قوله تعالى: (ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ) [السجدة:١٦].
إنها «صورة وضيئة للأرواح المؤمنة، اللطيفة، الشفيفة الحساسة المرتجفة من خشية الله وتقواه، المتجهة إلى ربها بالطاعة المتطلعة إليه بالرجاء، في غير ما استعلاء ولا استكبار. هذه الأرواح هي التي تؤمن بآيات الله، وتتلقاها بالحس المتوفز والقلب المستيقظ والضمير المستنير»106.
والآيات التي تدل على أثر الخوف في المسارعة إلى الخيرات كثيرة منها: قوله تعالى في وصف عباده الذين جعلوا طاعة الله وعبادته غاية مرادهم، ونهاية مقصودهم: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ) [النور:٣٧].
وقوله تعالى: (ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ) [الإنسان:٧-١٠].
فالخوف من أهوال يوم القيامة دفعهم إلى المسارعة إلى الطاعات والإخلاص في أدائها.
ونظير ذلك قوله تعالى: (ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ) [المؤمنون:٥٧-٦١].
«إن قلب المؤمن يستشعر يد الله عليه، ويحس آلاءه في كل نفس وكل نبضة، ومن ثم يستصغر كل عباداته، ويستقل كل طاعاته، إلى جانب آلاء الله ونعمائه. كذلك هو يستشعر بكل ذرة فيه جلال الله وعظمته، ويرقب بكل مشاعره يد الله في كل شيء من حوله، ومن ثم يشعر بالهيبة، ويشعر بالوجل، ويشفق أن يلقى الله وهو مقصر في حقه، لم يوفه حقه عبادة وطاعة ولم يقارب أياديه عليه معرفة وشكرًا»107.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: (من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إنّ سلعة اللّه غاليةٌ، ألا إنّ سلعة اللّه الجنّة)108.
الجرأة والشجاعة في طلب الحق والانتصار له: إذا تمكن خوف الله من القلب أزال كل خوف من سواه، فالمؤمن يوقن أن الله وحده بيده الضر والنفع وأن ما سواه تحت سيطرته لا يشاؤون إلا أن يشاء الله، لذا فهو يجاهر بالحق، ويدافع عنه، ويجاهد في سبيل نصرته باللسان والسنان، لا يخاف أحدًا من المخلوقين ولو حصل منهم إرهاب أو أذى له في نفسه أو أهله أو ماله.
ولقد قصّ الله علينا في كتابة صورة سامقة لأثر الخوف من الله في تحصيل الجرأة والشجاعة في ميدان الجهاد.
فعندما رفض الجبناء من بني إسرائيل دخول الأرض المقدسة مجاهدين، وجلسوا ينتظرون خروج أهلها منها مختارين، وقف رجلان منهما أنعم الله عليهما بالشجاعة والجرأة والثبات لخوفهما منه وحده ينصحانهم ويذكرانهم، كما في قوله تعالى: (ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ) [المائدة:٢٣].
وقوله: (ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ) «أي: فلمّا نكل بنو إسرائيل عن طاعة اللّه ومتابعة رسول اللّه موسى عليه السّلام حرّضهم رجلان للّه عليهما نعمةٌ عظيمةٌ، وهما ممّن يخاف أمر اللّه ويخشى عقابه»109.
وهكذا المؤمن لا يجبن في مواطن اللقاء، ولا يخاف من مواجهة الأعداء، ولا يهادن الباطل خوفًا من بطشه، ولا يقصر في تبليغ الحق مهما واجه من صعوبات؛ لأنه يعلم أن الله عز وجل وحده المستحق للتعظيم والخشية، وأن ما عداه من البشر ضعفاء مهازيل لا يقدرون على إيصال الأذى له إلا أن يشاء الله.
وقد قص الله عز وجل علينا موقف سحرة فرعون عندما خالطت بشاشة الإيمان قلوبهم، واستقرت الخشية من الله وحده في نفوسهم، فلم يبالوا بتهديدات فرعون وبطشه، ولم ترهبهم قوة فرعون الغاشمة، فالقلب المتصل بالله يستخف بكل عذاب في سبيل إعلاء راية الحق، كما قال تعالى: (ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ) [طه:٧٢-٧٣].
«إن قوى الأرض كلها لا تخيف -أو لا ينبغي أن تخيف- لأنها قوى مسخرة. لا تستمد من نفسها، ولا تملك لنفسها ضرًّا ولا نفعًا، والقوة التي ينبغي أن تخاف حقًّا هي القوة التي بيدها كل شيء. هي المانحة حقًّا والمانعة حقًّا. وإذن فخوفها هو الخوف الواجب، وخشيتها هي السبيل. الخوف ينبغي أن يكون من الله، ومما يخوف به الله»110.
ثالثًا: الانتفاع بالذكرى والإنذار، والتأثر بآيات القرآن:
قال تعالى: (ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ) [يس:١١].
وقال سبحانه: (ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ) [طه:٢-٣].
وقال عز وجل: (ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ) [الأنعام:٥١].
فهذه الآيات كلها تبين أن أهل الخوف والخشية من الله هم الذين ينتفعون بالإنذار ويستجيبون لمواعظ القرآن وهداياته، فالخوف يرقق قلوبهم، ويطهره من الآفات والأدران، ويمنحهم رؤية واضحة لعواقب الأمور. وقال سبحانه بعد ذكر أخذه الأليم الشديد للظالمين: (ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ) [هود:١٠٣].
(ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ) «أي: في أخذ اللّه سبحانه لأهل القرى، أو في القصص الّذي قصّه على رسوله لعبرةً وموعظةً لمن خاف عذاب الآخرة لأنّهم الّذين يعتبرون بالعبر، ويتّعظون بالمواعظ»111.
وقال عز وجل بعد إهلاك أصحاب الفاحشة من قوم لوط عليه السلام: (ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ) [الذاريات:٣٧].
إن المؤمن ليرتجف قلبه وهو يتأمل الآيات التي تصور عذاب الله للمجرمين في الدنيا أو الآخرة، فهو يلمح فيها مظهرًا من مظاهر الجبروت الرباني العظيم، وأثرًا من آثار العزة الإلهية، ولمحة من لمحات عذاب الله الأليم، فينتفض قلبه كلما هم بمعصية أو وقع فيها، ويتوجه إلى الله ضارعًا أن يقيه شر السيئات وأن يوفقه للتوبة كلما استزله الشيطان. ولقد ذم الله أصحاب القلوب القاسية، المحبوسة في سجن الغفلة، المقفرة من الخوف، والتي لا تتأثر بالنذر والمواعظ، بل ويستقبلونها بالضحك والاستهزاء، في قوله تعالى: (ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ) [النجم:٥٩-٦١].
«أي: كيف تعجبون منه تكذيبًا وتضحكون منه استهزاءًا مع كونه غير محلٍّ للتّكذيب ولا موضعٍ للاستهزاء ولا تبكون خوفًا وانزجارًا لما فيه من الوعيد الشّديد. والسّمود: الغفلة والسّهو عن الشّيء»112.
رابعًا: البكاء من خشية الله:
إن القلب إذا مازجته الخشية والخوف من الله، كان رفيقًا رقيقًا خاشعًا مستكينًا، لا تمر عليه آية رحمة أو عذاب إلا أثرت فيه أثرًا بليغًا، فلا ترى صاحبه إلا هطّال الدمع شوقًا وحزنًا، ورغبة فيما عند الله ورهبة من عقابه.. وقد أثنى الله عز وجل على أنبيائه لخشوعهم وبكائهم في قوله: (ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ) [مريم:٥٨].
«فهم أتقياء شديدو الحساسية بالله، ترتعش وجداناتهم حين تتلى عليهم آياته، فلا تسعفهم الكلمات للتعبير عما يخالج مشاعرهم من تأثر، فتفيض عيونهم بالدموع ويخرون سجدًا وبكيًّا»113.
كما وصف سبحانه صالحي أهل الكتاب في قوله تعالى: (ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ) [الإسراء:١٠٧-١٠٩].
«هكذا يخر عباد الرحمن لربهم، كلما وقعت الذكرى بقلوبهم ! يخرون كما تخر الجبال الرواسي إذا ازّلزلت الأرض من تحتها وانهارت من أعلاها خشوعًا وخضوعًا لله الواحد القهار! فلا يملك العباد عند ذلك إلا البكاء، البكاء الحار العميق، لما وقع في مواجيدهم من المعرفة بقدر الله العظيم وبمقامه العلي الكريم ولما تنـثره أسماؤه الحسنى على قلوبهم المتضرعة من أنوار التسبيح وجمال التقديس! وما يقتضيه ذلك كله من المشاهدة لحقوق الله على عباده! فيهرع العبد إلى منازل البوء بالنعمة والبوء بالذنب معًا، تائبًا منيبًا، تسبقه دموعه إلى حدائق السجود ومن ذا يقدر على حبس عيون الروح أن تتدفق بأشجان الذكرى؟! إلا من كانوا صمًّا بكمًا عميًا فهم لا يفقهون»114.
أولًا: جزاء الخائفين من الله في الدنيا:
١. النصر على الأعداء والتمكين في الأرض.
قال تعالى: (ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ) [إبراهيم:١٣-١٤].
«فقوله ذلك إشارةٌ إلى أنّ ما قضى اللّه تعالى به من إهلاك الظّالمين وإسكان المؤمنين ديارهم إثر ذلك الأمر حق لمن خاف مقامي، وفيه وجوهٌ:
الأوّل: المراد موقفي وهو موقف الحساب؛ لأنّ ذلك الموقف موقف اللّه تعالى الّذي يقف فيه عباده يوم القيامة، ونظيره قوله: ( ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ) [النازعات: ٤٠].
وقوله: (ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ) [الرحمن:٤٦].
الثاني: أن المقام مصدرٌ كالقيامة، يقال: قام قيامًا ومقامًا، قال الفرّاء: ذلك لمن خاف قيامي عليه ومراقبتي إيّاه كقوله: (ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ) [الرعد:٣٣].
الثّالث: ذلك لمن خاف مقامي، أي: إقامتي على العدل والصّواب، فإنّه تعالى لا يقضي إلّا بالحقّ ولا يحكم إلّا بالعدل، وهو تعالى مقيمٌ على العدل لا يميل عنه ولا ينحرف البتّة.
الرّابع: ذلك لمن خاف مقامي، أي: مقام العائذ عندي وهو من باب إضافة المصدر إلى المفعول.
ثم قال تعالى: (ﮠ ﮡ) قال الواحديّ: الوعيد اسمٌ من أوعد إيعادًا وهو التّهديد. قال ابن عبّاسٍ: خاف ما أوعدت من العذاب»115.
(ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ) «أي: إنّ ذلك الجزاء الحسن وهذا النصر العظيم، إنما هو لمن خاف مقام ربّه، وخشى بأسه، فوقّره وعظّمه، واتقى حرماته، وعظم شعائره، والرسل من هذا في المقام الأول، ثم من اقتفى أثرهم»116.
وهكذا فالخوف من الله يدفع المؤمنين إلى فعل الخيرات وترك المنكرات، والابتعاد عن الفساد والإفساد، والعلو والاستكبار، فهم يريدون التمكين في الأرض من أجل نشر العدل والإصلاح؛ لذا وعدهم الله تعالى بوراثة الأرض والنصر على أعدائه والتمكين لهم.
٢. قبول الدعاء.
قال تعالى: (ﯙ ﯚ ﯛﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ) [الأعراف:٥٦].
«أي: خوفًا ممّا عنده من وبيل العقاب، وطمعًا فيما عنده من جزيل الثّواب. ثمّ قال: (ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ) أي: إنّ رحمته مرصدة للمحسنين، الّذين يتّبعون أوامره ويتركون زواجره»117.
(ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ) «أي: إن رحمته تعالى قريبة من المحسنين أعمالهم؛ لأن الجزاء من جنس العمل كما قال: (ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ)[الرحمن:٦٠].
فمن أحسن فى عبادته نال حسن الثواب، ومن أحسن فى الدعاء أعطى خيرًا مما طلبه، أو مثل ما طلبه»118.
ففي هذه الآية ارتباط وثيق بين الخوف من الله وقبول الدعاء، وكيف لا والخوف يحمل صاحبه على التشمير في الطاعات والاجتهاد في العبادات، فكلما وهن عزمه أو فترت همته ساقه الخوف إلى الجد في الطاعات والبعد عن السيئات، فهو يتقلب دائمًا بين خوفه من ربّه وطمعه فى رحمته.
٣. التوفيق للهداية.
قال تعالى: (ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ) [البقرة:١٥٠] «وهذه الآية تدل على أنّ الواجب على المرء في كلّ أفعاله وتروكه أن ينصب بين عينيه: خشية عقاب اللّه، وأن يعلم أنّه ليس في يد الخلق شيءٌ البتّة، وأن لا يكون مشتغل القلب بهم، ولا ملتفت الخاطر إليهم»119.
فهذا هو الطريق للهدى والثبات على المنهج الحق، وتجنب الضلال، ومشابهة الأعداء والتلقي منهم خشية منهم، فالخوف من الله رأس كل خير، وأساس كل هداية.
قال تعالى: (ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ) [النازعات:٢٦].
«والعبرة: الحالة الّتي ينتقل الذّهن من معرفتها إلى معرفة عاقبتها وعاقبة أمثالها، وهي مشتقّةٌ من العبر، وهو الانتقال من ضفّة وادٍ أو نهرٍ إلى ضفّته الأخرى. والمراد بالعبرة هنا الموعظة وجعل ذلك عبرةً لمن يخشى، أي: من تخالط نفسه خشية اللّه؛ لأنّ الّذين يخشون اللّه هم أهل المعرفة الّذين يفهمون دلالة الأشياء على لوازمها وخفاياها»120.
وهكذا إن الذي يعرف ربه ويخاف منه يهتدي إلى المواعظ والإنذار، وينتفع بهما، وتغرس في قلبه شجرة التقوى لتثمر نظرة سديدة بعواقب الأمور والاستعداد لها قبل وقوعها، «أما الذي لا يعرف قلبه التقوى فبينه وبين العبرة حاجز، وبينه وبين العظة حجاب. حتى يصطدم بالعاقبة اصطدامًا. وحتى يأخذه الله نكال الآخرة والأولى. وكل ميسر لنهج، وكل ميسر لعاقبة. والعبرة لمن يخشى»121.
ثانيًا: جزاء الخائفين من الله في الآخرة:
١. المغفرة والأجر الكبير.
قال تعالى: (ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ) [الملك:١٢].
يقول تعالى مخبرًا عمّن يخاف مقام ربّه فيما بينه وبينه إذا كان غائبًا عن النّاس، فينكفّ عن المعاصي ويقوم بالطّاعات، حيث لا يراه أحدٌ إلّا اللّه، بأنّه له مغفرةٌ وأجرٌ كبيرٌ، أي: يكفّر عنه ذنوبه، ويجازى بالثّواب الجزيل.
«والذين يخشون ربهم بالغيب، هم الذين خافوا عذاب يوم القيامة، وخافوا لقاء ربهم، قبل هذا اليوم الغائب عنهم. ثم إنهم هم الذين يخشون ربهم فى سرهم، كما يخشونه فى علانيتهم، حيث يشهدون سلطان اللّه قائمًا عليهم فى كل حال من أحوالهم. فهم لشهودهم هذا السلطان، لا يعصون اللّه، ولا يفعلون ما لا يرضاه، وهم لهذا مجزيّون من اللّه تعالى، بمغفرة ذنوبهم التي تقع منهم، وإلى جانب غفران ذنوبهم يكون مضاعفة أجرهم لما يعملون من حسنات »122.
فيا لسعادة المؤمنين الخائفين بما أعده الله عز وجل لهم من النعيم المقيم، والملك الكبير، واللذات المتواصلات، والقصور العاليات، والحور الحسان، والخدم والولدان.
٢. الفوز بالجنة وحصول الأمن في الآخرة.
قال تعالى: (ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ) [الرحمن:٤٦].
قال تعالى: (ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ) [النازعات:٤٠-٤١].
«أي: خاف القيام عليه ومجازاته بالعدل، فأثر هذا الخوف في قلبه فنهى نفسه عن هواها الذي يقيدها عن طاعة الله، وصار هواه تبعًا لما جاء به الرسول، وجاهد الهوى والشهوة الصادين عن الخير، (ﯴ ﯵ) «المشتملة على كل خير وسرور ونعيم» (ﯶ ﯷ) لمن هذا وصفه»123.
ونظير ذلك قوله تعالى: (ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗﰘ ﰙ ﰚ ﰛ ﰜ) [ق:٣٢-٣٤].
(ﰎ ﰏ ﰐ) «أي: خافه على وجه المعرفة بربه، والرجاء لرحمته ولازم على خشية الله في حال غيبه، أي: مغيبه عن أعين الناس، وهذه هي الخشية الحقيقية، وأما خشيته في حال نظر الناس وحضورهم، فقد تكون رياء وسمعة، فلا تدل على الخشية، وإنما الخشية النافعة، خشية الله في الغيب والشهادة. (ﰖ ﰗ) أي: دخولًا مقرونًا بالسلامة من الآفات والشرور، مأمونًا فيه جميع مكاره الأمور، فلا انقطاع لنعيمهم، ولا كدر ولا تنغيص، (ﰙ ﰚ ﰛ) الذي لا زوال له ولا موت، ولا شيء من المكدرات»124.
كما أخبر تعالى في موضع آخر عن حال عباده الذين ألزموا قلوبهم الخوف منه سبحانه ومن عذابه، فأثابهم الله بالأمن والأمان والنجاة من عذاب النار، وذلك في قوله تعالى: (ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ) [الطور:٢٦-٢٧].
ونظير ذلك قوله تعالى: (ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ) [الإنسان:١٠-١٢].
وهكذا فالجزاء من جنس العمل؛ فالخوف من الله في الدنيا هو سبيل الأمن في الآخرة. عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي عليه الصلاة والسلام فيما رواه عن ربه جلا وعلا، أنه قال: (وعزتي لا أجمع على عبدي خوفين ولا أمنين، إذا خافني في الدّنيا أمّنته يوم القيامة، وإذا أمنني في الدّنيا أخفته يوم القيامة)125.
٣. نيل رضا الله عز وجل.
قال تعالى وهو يصف ما أعده من النعيم والتكريم لعباده الصالحين: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ) [البينة:٨].
(ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ) «ومقام رضاه عنهم أعلى ممّا أوتوه من النّعيم المقيم، (ﭡ ﭢ) فيما منحهم من الفضل العميم. وقوله: (ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ) أي: هذا الجزاء حاصلٌ لمن خشي اللّه واتّقاه حقّ تقواه، وعبده كأنّه يراه، وقد علم أنّه إن لم يره فإنّه يراه»126.
فيا لقرة أعين المؤمنين بهذه المنزلة العظيمة والكرامة السامقة برضا مولاهم عنهم، «هذا الرضا من الله وهو أعلى وأندى من كل نعيم، وهذا الرضا في نفوسهم عن ربهم؛ الرضا عن قدره فيهم، والرضا عن إنعامه عليهم، والرضا بهذه الصلة بينه وبينهم، الرضا الذي يغمر النفس بالهدوء والطمأنينة والفرح الخالص العميق، إنه تعبير يلقي ظلاله بذاته.
(ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ)حيث يعجز أي تعبير آخر عن إلقاء مثل هذه الظلال!
(ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ) وذلك هو التوكيد الأخير. التوكيد على أن هذا كله متوقف على صلة القلب بالله، ونوع هذه الصلة، والشعور بخشيته خشية تدفع إلى كل صلاح، وتنهى عن كل انحراف، الشعور الذي يزيح الحواجز، ويرفع الأستار، ويقف القلب عاريًا أمام الواحد القهار، والذي يخلص العبادة ويخلص العمل من شوائب الرياء والشرك في كل صورة من صوره»127.
موضوعات ذات صلة: |
الأمن، التقوى، الجهاد، الحذر، الخشية، القتل، القتال |
1 مقاييس اللغة ٢/٢٣٠ .
2 انظر: مختار الصحاح، الرازي ص ٨١، لسان العرب، ابن منظور ٢/١٢٩٠، القاموس المحيط، الفيروزآبادي ص٥١٢.
3 المفردات، الراغب الأصفهاني ص ٣٠٣.
4 التعريفات، الجرجاني ص ٩٠.
5 التوقيف، المناوي ص ١٦١.
6 انظر: المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، محمد فؤاد عبد الباقي، ص٢٤٦-٢٤٨، المعجم المفهرس الشامل، عبد الله جلغوم، باب الخاء ص٤٨٨-٤٩١.
7 انظر: الوجوه والنظائر، الدامغاني، ص٢٠٠-٢٠١، نزهة الأعين النواظر، ابن الجوزي، ص٢٧٩-٢٨١، بصائر ذوي التمييز، الفيروزآبادي، ٢/٥٧٦-٥٧٩، عمدة الحفاظ، السمين الحلبي، ١/٥٤٠-٥٤٢.
8 مقاييس اللغة، ابن فارس ٢/١٤٨.
9 المفردات، الراغب الأصفهاني ص٢٨٣.
10 التعريفات، الجرجاني ص ٨٦-٨٧.
11 الكليات، الكفوي ص ٤٢٨.
12 مقاييس اللغة، ابن فارس ٢/٤٠٩.
13 المفردات، الراغب الأصفهاني ص٣٥٦.
14 المصباح المنير، الفيومي ص٣١٧.
15 انظر: التعريفات، الجرجاني ص١٢٧.
16 انظر: لسان العرب، ابن منظور ١٠/١٧٩.
17 انظر: مدارج السالكين، ابن القيم ١/٥١٤، بصائر ذوي التمييز، الفيروزآبادي ٣/٣٣١.
18 مدارج السالكين، ابن القيم ١/٥١٤.
19 الفروق اللغوية، العسكري ص٢٤١.
20 مختار الصحاح، الرازي ١/١٣٠.
21 انظر: المفردات، الراغب الأصفهاني ١/٣٦٦، مدارج السالكين، ابن القيم ١/٥٠٨.
22 الفروق اللغوية، العسكري ص ٢٤١.
23 المصباح المنير، الفيومي ١/٣١٧.
24 انظر: التعريفات، الجرجاني ص١٢٧.
25 انظر: لسان العرب، ابن منظور ١٠/١٧٩.
26 مدارج السالكين، ابن القيم ١/٥١٤.
27 الفروق اللغوية، العسكري ص ٢٤١.
28 مقاييس اللغة، ٤/٥٠١.
29 لسان العرب، ابن منظور ٨/٢٥١.
30 المفردات، الراغب الأصفهاني ص ٦٣٥.
31 الفروق اللغوية، العسكري ص ٢٤٢.
32 العين، الفراهيدي ٨/٣٨٨.
33 التعريفات، الجرجاني، ص ٣٧.
34 التوقيف، المناوي، ص ٦٣.
35 إحياء علوم الدين، أبو حامد الغزالي ص ١٥٠٥.
36 التخويف من النار، ابن رجب ص ٢٨.
37 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٢٠/١٤٨.
38 في ظلال القرآن، سيد قطب ٦/٣٨١٨-٣٨١٩.
39 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٥/٨٩.
40 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٦/٢٧٨-٢٧٩ باختصار .
41 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب تفسير القرآن الكريم، باب قوله تعالى: (وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة)، رقم ٤٦٨٦، ومسلم في صحيحه، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم، رقم ٢٥٨٣.
42 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المغازي، باب نزول النبي الحجر، رقم ٤٤١٩.
43 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ١٤/١٥٩.
44 فتح القدير، الشوكاني ٤/٥١١.
45 الجامع لأحكام القرآن القرطبي ١١/١٩١-١٩٢.
46 في ظلال القرآن، سيد قطب ٦/٣٧٠٠ بتصرف.
47 فتح القدير، الشوكاني ٣/٤٨٨.
48 البحر المحيط، أبو حيان ٦/٣٧٩.
49 أخرجه الترمذي في سننه، أبواب التفسير، باب ومن سورة المؤمنين، رقم ٣١٧٥.
وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي، ٣/٢٨٧.
50 النكت والعيون، الماوردي ١/٤٣٨.
51 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص٤٥٧.
52 التفسير القرآني للقرآن، عبد الكريم الخطيب ١/٣٣٥.
53 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٣/ ١٣٦.
54 فتح القدير، الشوكاني ٢/٥١.
55 مع قصص السابقين في القرآن، صلاح الخالدي ص ١٨٩.
56 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ١/٦٦١.
57 في ظلال القرآن، سيد قطب ١/٢٦٤.
58 مدارج السالكين، ابن القيم ٣ /٢٣٧٤.
59 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص١٦٨.
60 في ظلال القرآن، سيد قطب ٤/٢١٤٨.
61 القول السديد شرح كتاب التوحيد، السعدي ص ٢١٣-٢١٤.
62 فتح القدير، الشوكاني ٢/٥٠٥.
63 المصدر السابق ٣/١٧٠-١٧١.
64 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص١٢٢.
65 الصواعق المرسلة، ابن القيم ٤ /١٤٤٥.
66 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٨/٤١٥.
67 إرشاد العقل السليم، أبو السعود ٦/٥٣٩.
68 تفسير جزء عم، ابن العثيمين ص ٢٢٩.
69 في ظلال القرآن، سيد قطب ٦/ ٣٩١٩.
70 أسس الصحة النفسية، عبد العزيز القوصي ص ٣٣٦.
71 سيكولوجية الدافعية والانفعالات، محمد بني يوسف ص ٢٤٤-٢٤٥.
72 ذكر أنواع هذه المؤثرات رمضان القذافي في كتابه علم النفس في الإسلام ص ١١٦.
73 التفسير القرآني للقرآن، عبد الكريم الخطيب ١٠ /٢١٧.
74 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص٢١.
75 فتح القدير، الشوكاني ٣/٣٧٤-٣٧٥.
76 القصص القرآني عرض وقائع وتحليل أحداث، صلاح الخالدي ٢/ ٤٥٣.
77 التفسير القرآني للقرآن، عبد الكريم الخطيب ١٢/١٠٦٦.
78 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٥/٢٩٦.
79 تفسير المنار، الشيخ محمد رشيد رضا ١٢/١٢٨.
80 مجالس القرآن، فريد الأنصاري ٢/١٠٧.
81 التفسير القرآني للقرآن، عبد الكريم الخطيب ٦/ ١٢٤٣- ١٢٤٤.
82 الانفعالات النفسية عند الأنبياء في القرآن الكريم، إبراهيم عبدالرحيم مصطفى، رسالة ماجستير، ص ٦٨-٦٩ باختصار.
83 القصص القرآني عرض وقائع وتحليل أحداث، صلاح الخالدي ٢/ ٣٢٣.
84 في ظلال القرآن، سيد قطب ٣/١٤٧٥ بتصرف.
85 النكت والعيون، الماوردي ٦/١٠١.
86 الله أهل الثناء والمجد، ناصر الزهراني ص ٦٤٣.
87 طريق الهجرتين، ابن القيم ص ٦١٦.
88 إحياء علوم الدين، أبو حامد الغزالي ٣/١٨٣٩-١٨٤٠.
89 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ٥٢٨.
90 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجنائز، باب الميت يعرض عليه مقعده بالغداة والعشي، رقم ١٣٧٩، ومسلم في صحيحه، كتاب الجنة وصفة نعيمها، باب عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه، رقم ٢٨٦٦.
91 فتح القدير، الشوكاني ٣/٤٣٥.
92 التفسير القرآني للقرآن، عبد الكريم الخطيب ٩/ ٩٧٣.
93 أخرجه الترمذي، كتاب القراءات عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، باب ومن سورة (إذا الشمس كورت)، رقم ٣٣٣٣.
وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، رقم ١٠٨١.
94 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ٢١/٣٩٣.
95 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب صفة القيامة والجنة والنار، باب صبغ أنعم أهل الدنيا في النار، وصبغ أشدهم بؤسًا في الجنة، رقم ٢٨٠٧.
96 أي: يعطيك.
انظر: شرح النووي على صحيح مسلم ٨/٣٩٥.
97 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الذبائح والصيد، باب المسك، رقم ٥٥٣٤، ومسلم في صحيحه، كتاب البر والصلة والآداب، باب استحباب مجالسة الصالحين، رقم ٢٦٢٨.
98 فيض القدير، المناوي ٥/٥٠٧ بتصرف.
99 مدارج السالكين، ابن القيم ٢/١١٦٠-١١٦٣ بتصرف.
100 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي ١٩/٤٦٧.
101 مجالس القرآن، فريد الأنصاري ٢/ ٧١.
102 التفسير القرآني للقرآن، عبد الكريم الخطيب ١٢/١١٤٥.
103 إحياء علوم الدين، أبو حامد الغزالي ٣/١٥٠٩.
104 مدارج السالكين، ابن القيم ٢ /١٣٠٥.
105 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٥/٣٧٠.
106 في ظلال القرآن، سيد قطب ٥/٢٨١٢.
107 في ظلال القرآن، سيد قطب ٤/ ٢٤٧٢.
108 أخرجه الترمذي في سننه، كتاب صفة القيامة والرقائق والورع عن رسول الله، رقم ٢٤٥٠.
قال الترمذي: حديثٌ حسنٌ غريبٌ.
وصحّحه الألباني لغيره في صحيح الترغيب، رقم ٣٣٧٧.
109 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٣/٧٦.
110 منهج التربية الإسلامية، محمد قطب ص ١٣١.
111 فتح القدير، الشوكاني ٢/٥٢٤.
112 فتح القدير، الشوكاني ٥/١١٨.
113 في ظلال القرآن، سيد قطب ٤/٢٣١٤.
114 مجالس القرآن، فريد الأنصاري ١/٢٦٧.
115 مفاتيح الغيب، الرازي ١٩/١٠٢.
116 التفسير القرآني للقرآن، عبد الكريم الخطيب ٧ /١٦١.
117 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٣/٤٢٩.
118 تفسير المراغي ٨/ ١٨٠.
119 مفاتيح الغيب، الرازي ٤/١٥٥.
120 التحرير والتنوير، ابن عاشور ٣٠/٨٢.
121 في ظلال القرآن، سيد قطب ٦/٣٨١٦.
122 التفسير القرآني للقرآن، عبد الكريم الخطيب ١٥ / ١٠٥٩.
123 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص٥٦٥.
124 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص١٥٦.
125 أخرجه ابن حبان في صحيحه، رقم ٦٤٠، والبيهقي في شعب الإيمان، رقم ٧٥٩. وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، رقم ٣٣٧٦.
126 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٨/٤٥٨.
127 في ظلال القرآن، سيد قطب ٦/٣٩٥٣.