عناصر الموضوع
الخيانة
المعنى اللغوي:
تدل مادة (خون) على التنقص. يقال: خانه يخونه خَوْنًا. وذلك نقصان الوفاء1.
يقال: خانه الدهر والنعيم خونًا، إذا تغير حاله إلى شر منها. وخائنة الأعين: ما تخون به من مسارقة النظر إلى ما لا يحل له2.
وقد يكون التخون بمعنى التنقص، ويقال: تخونته الدهور وتخوفته، أي: تنتقصه. فالتخون له معنيان: أحدهما التنقص والآخر التعهد. ومن جعله تعهدًا جعل النون مبدلة من اللام. ويقال: رجل خائن وخائنة إذا بولغ في وصفه بالخيانة3.
المعنى الاصطلاحي:
قال الراغب الأصفهاني: «الخيانة تعني التفريط في الأمانة»4.
وعرفها الفيروزآبادي بأنها: «أن يؤتمن الإنسان فلا ينصح»5.
فالخيانة نقص في الأمانة والوفاء.
ووردت مادة (خون) الدالة على الخيانة في القرآن الكريم (١٦) مرة6.
والصيغ التي وردت هي:
الصيغة |
عدد المرات |
المثال |
الفعل الماضي |
٢ |
(ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ) [الأنفال:٧١] |
الفعل المضارع |
٥ |
(ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ) [الأنفال:٢٧] |
اسم فاعل |
٥ |
( ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ) [الأنفال:٥٨] |
مصدر |
٢ |
(ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ) [الأنفال:٥٨] |
صيغة المبالغة |
٢ |
(ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ) [الحج:٣٨] |
وجاءت الخيانة في الاستعمال القرآني بمعناها اللغوي، وهو التنقّص، أو التفريط فيما يؤتمن عليه الإنسان7.
قال الله تعالى: (ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ) [الأنفال: ٧١].
يعني: «وإن أبطنوا خيانة ما رغبوا أن يؤتمنوا عليه من العهد، فقد خانوا الله من قبل بكفرهم وتركهم النظر في آياته»8.
المكر:
المكر لغة:
الاحتيال في خفية والخداع9.
المكر اصطلاحًا:
عرفه الراغب الأصفهاني بأنه: «صرف الغير عما يقصده بحيلة»10.
وعرّفه الجرجاني بأنه: «إيصال المكروه إلى الإنسان من حيث لا يشعر»11.
الصلة بين المكر والخيانة:
أن النوع المقارب للخيانة بداهة هو المكر المذموم، وقد ورد الحديث عنه في القرآن الكريم في صورة واضحة بينة.
الكيد:
الكيد لغةً:
هو المكر والخبث، والحيلة، والحرب12.
الكيد اصطلاحًا:
«إرادة مضرة الغير خفية، وهو من الخلق: الحيلة السيئة، ومن الله سبحانه وتعالى التدبير بالحق لمجازاة أعمال الخلق»13.
الصلة بين الكيد والخيانة:
كلاهما يشتركان في الإرادة بسوء، إلا أن الخيانة خدعة في مقام الائتمان، وهو مذموم مطلقًا، بخلاف الكيد، فإنه لو وقع لمستحق فهو كمال.
النفاق:
النفاق لغة:
المادة تدل على الخفاء والإغماض، والانقطاع والذهاب، يقول صاحب البصائر: «والنّفق، يدّل على انقطاع الشيء وذهابه، وتارةً على إخفاء الشيء وإغماضه، وعلى مضيّ شيء ونفاذه، ومنه نفق البيع نفاقًا: راج»14.
النفاق اصطلاحًا:
هو: «إظهار الإيمان باللسان وكتمان الكفر بالقلب»15.
والصلة بين الخيانة والنفاق:
الصلة بينة في إظهار المرء خلاف ما يبطن، وإيهام الغير بغير الواقع. قال الراغب الأصفهاني: «والخيانة والنفاق واحد، لكن الخيانة تقال اعتبارًا بالعهد والأمانة، والنفاق اعتبارًا بالدين، ثم يتداخلان»16.
الراصد لآيات القرآن الكريم يجد أنه بين أنواعًا للخيانة متعددة، تحدثت عنها الآيات بوضوح وجلاء، وفي النقاط الآتية نتناول تلك الأنواع على النحو الآتي:
أولًا: خيانة الله ورسوله:
من أشد أنواع الخيانة: خيانة الله والرسول؛ ذلك أنها تتعلق بمنبع الهدى ومصدر الإنعام، وتدل على تدني نفسية الخائن؛ فمن يخن الله والرسول لا يؤتمن على شيء، وكيف يؤتمن وقد خان مصدر وجوده في الحياة، والمنعم عليه بها، وخان رسول الحق الذي أنقذه من الضلال إلى الهدى، ومن الشقاء الأبدي إلى السعادة الخالدة، ولقد قال الله تعالى: (ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴﭵ ﭶ ﭷ ﭸ) [الأنفال: ٧١].
ولقد تعددت أقوال المفسرين في بيان المقصود من خيانة الله والرسول، فمنهم من يرى أن المقصود بخيانة الله تعالى والرسول هي كفرهم به وعدم إيمانهم بما بعث به رسوله، وتوحيدهم إياه، واستندوا في هذا إلى سبب نزول الآية الكريمة، فقد قال قتادة: نزلت في عبد الله بن سعد بن أبي السرح الكاتب حين ارتد ولحق بالمشركين17.
وخيانتهم للرسول: هي الغدر به والمكر والخداع له بإظهارهم له بالقول خلاف ما في أنفسهم18.
أو خيانته للرسول، أي: «في السعي لحربه ومنابذته»19.
يقول صاحب الظلال: «لقد خانوا الله فأشركوا به غيره، ولم يفردوه سبحانه بالربوبية، وهو قد أخذ العهد على فطرتهم فخانوا عهده. فإن أرادوا خيانة رسوله صلى الله عليه وسلم وهم أسرى في يديه، فليذكروا عاقبة خيانتهم الأولى التي أوقعتهم في الأسر، ومكّنت منهم رسول الله وأولياءه. والله (ﭷ) بسرائرهم (ﭸ) في إيقاع العقاب بهم»20.
ومنهم من يرى أن المقصود من خيانة الرسول: نكثهم العهد، والبيعة على الإسلام، والردّة، واستحباب دين آبائهم21.
وفي الآية طمأنة للرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه، وضمان لهم بأنهم إن خانهم الأسرى بعد رجوعهم إلى قومهم ونكثوا عهدهم وعادوا إلى القتال، بأنّ اللّه يمكّن المسلمين منهم مرّةً أخرى، كما أمكنهم منهم في هذه المرّة22.
وفي ذلك طمأنة لكل من وقعت عليه خيانة بأن الله تعالى مضت سنته في ذلك بأنه لا يهدي كيد الخائنين، ولا يضيع عمل من وقعت في حقهم تلك الخيانة.
كما يرى بعض المفسرين أن الخيانة المقصودة هنا هي شركهم بالله تعالى؛ فإنّه خيانةٌ للعهد الفطريّ الّذي أخذه اللّه على بني آدم فيما حكاه بقوله: (ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ) [الأعراف: ١٧٢] الآية. فإنّ ذلك استقرّ في الفطرة، وما من نفسٍ إلّا وهي تشعر به، ولكنّها تغالبها ضلالات العادات واتّباع الكبراء من أهل الشّرك23.
ومنهم من يرى أن المقصود بخيانة الرسول: «ترك سنّته وارتكاب معصيته»24.
ومن المفسرين من عبّر عن تلك الخيانة بالمعصية كما سبق، ومنهم من عبّر عنها بالغدر والمكر والخداع، كالطبري في جامع البيان؛ إذ يقول: «وإن يرد هؤلاء الأسارى الذين في أيديكم «خيانتك»، أي: الغدر بك والمكر والخداع، بإظهارهم لك بالقول خلاف ما في نفوسهم»25.
ومنهم من رآها في كذبهم على الرسول، وقولهم له: «آمنّا بك ونشهد أنّك رسول الله»26.
ومنهم من رآها في «الإخلال بالسّلاح في البعوث»27.
وكل تلك الصور التي ذكرها المفسرون ألوان من الخيانة لله والرسول، وتنوعها لا ينفي بعضها، ولا يخرجها من كونها خيانة لله والرسول.
ثانيًا: خيانة الدين:
وخيانة الدين من أقبح الخيانات وكل الخيانات قبيحة؛ ذلك أنها خيانة للنعمة التي بدونها لا يكون الإنسان إنسانًا، ولا يعيش إلا كما تعيش البهم السائبة، بلا شرع ضابط ولا قانون رابط، يدل المرء على هدى أو يردّه عن ردى، وقد رصد القرآن الكريم صورة من أشد صور الخيانة للدين؛ لأنها كانت في بيئة يفترض أن تكون هي الناصر والمعين لنشر الدين ورفع رايته والدعوة إليه، ومن يضلل الله فما له من هاد.
وتلك الصورة كانت في شخص امرأة نبي الله نوح وامرأة نبي الله لوط؛ إذ قال القرآن عنهما: (ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ)، [ التحريم: ١٠].
والخيانة المذكورة هنا هي خيانة الدين وليست خيانة العرض كما أجمع المفسرون على أنه ما خانت امرأة نبي قط.
فالخيانة هنا خيانة «في الدين، وما بغت امرأة النبي قط»28.
وقد نص الإمام الماوردي في النكت والعيون على أن خيانتهما كانت في الدين، وأورد صورًا أربعة كلها تمضي في نفس الاتجاه، فيقول: «في خيانتهما أربعة أوجه:
أحدها: أنهما كانتا كافرتين، فصارتا خائنتين بالكفر، قاله السدي.
الثاني: منافقتين تظهران الإيمان وتستران الكفر، وهذه خيانتهما. قال ابن عباس: ما بغت امرأة نبي قط، إنما كانت خيانتهما في الدين.
الثالث: أن خيانتهما النميمة، إذا أوحى الله تعالى إليهما شيئًا أفشتاه إلى المشركين، قاله الضحاك.
الرابع: أن خيانة امرأة نوح أنها كانت تخبر الناس أنه مجنون، وإذا آمن أحد به أخبرت الجبابرة به، وخيانة امرأة لوط أنه كان إذا نزل به ضيف دخنت لتعلم قومها أنه قد نزل به ضيف»29.
وفي بناء الآية الكريمة وتركيبها ما يبيّن شناعة الخيانة في الدين، مهما كانت درجة القرب والصحبة والمعايشة والمعاشرة، كما تبيّن صيانة الله تعالى وحفظه وكرامته للمخانين، وعدم نقصان حقهم، كما تبين أن الجزاء من جنس العمل، فكما استقلت المرأتان وتقدمتا في تلك الخيانة حتى عن بنات جنسهما زجّ بهما القرآن في صفوف الذكور في موطن لا محمدة فيه ولا كرامة، فقال تعالى: (ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ) ولم يقل: تحتهما، «بل أظهر بالوصف العبودية المضافة إليه سبحانه وتعالى والوصف بالصلاح؛ لأن ذلك أفخم، فيكون أشد تأثيرًا للمواعظ وأعظم، ودفعًا لأن يتوهم أحد بشيء لا يليق بمقامهما عليهما الصلاة والسلام، فقال: (ﮚ ﮛ) أي: كل واحدة منهما تحت عبد»30.
ثالثًا: خيانة العرض:
جاء الإسلام نقيًّا صافيًا يرقى بالبشرية إلى مدارج السمو الأخلاقي والمادي، ويأخذ بيدها إلى مصاف الإنسانية الحقيقة التي لم تدنّسها شهوانية ولم تغبّرها أدناس الحياة، فوضع منهاجًا سليمًا لصيانة الإنسان، يحفظه من خيانة العرض واختلاس ما ليس له بحق، بداية من الدعوة إلى غض البصر، ومرورًا بالنهي عن الاقتراب من الفاحشة، ووصولًا إلى بيان بشاعة الوقوع فيها، ووصفها بأنها فاحشة ومقت وساءت سبيلًا، وصوّر القرآن الكريم مشهدًا من أدق المشاهد التي تبيّن طبيعة النفس البشرية وميولها، ومع ذلك صاغه في صورة راقية شفافة، لا تجرح شعورًا ولا تهيج ساكنًا، وهو موقف زليخا من يوسف، وضمت الآية الكريمة في صدرها نفيًا للخيانة، وفي عجزها بيانًا لسنة الله تعالى في الخائنين، وهي أن الله لا يهدي كيدهم، ولا يبلغهم مرادهم، ولا ينالون أمنياتهم.
فقال تعالى: (ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ)، [يوسف: ٥٢].
أي: «ذلك القول الذي قلته في تنزيهه والإقرار على نفسي ليعلم زوجي أني لم أخنه بالكذب عليه، ولم تقع مني الفاحشة، وأنني راودته، واعترفت بذلك لإظهار براءتي وبراءته، وأن الله لا يوفّق أهل الخيانة، ولا يرشدهم في خيانتهم»31.
وكما يقول الإمام القرطبي: «أي: أقررت بالصدق ليعلم أني لم أخنه بالغيب، أي: بالكذب عليه، ولم أذكره بسوء وهو غائب، بل صدقت وحدت عن الخيانة»32.
وقد اختلف المفسرون فيمن قال هذا القول: فذهب بعضهم إلى أنه من قول امرأة العزيز، وبعضهم إلى أنه من قول يوسف عليه السلام، وواضح من السياق أنه من كلام امرأة العزيز، وكما اختلفوا في ذلك اختلفوا فيمن توجه هذا الكلام (ﰄ) لزوجها أم ليوسف؟، فقالوا: «يحتمل أن مرادها بذلك زوجها، أي: ليعلم أني حين أقررت أني راودت يوسف، أني لم أخنه بالغيب، أي: لم يجر منّي إلا مجرد المراودة، ولم أفسد عليه فراشه، ويحتمل أن المراد بذلك ليعلم يوسف حين أقررت أني أنا الذي راودته، وأنه صادق أني لم أخنه في حال غيبته عني. (ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ) فإن كل خائن، لابد أن تعود خيانته ومكره على نفسه، ولابد أن يتبين أمره»33.
تلك منهجية القرآن الكريم في تخلية المجتمع من أدران الجاهلية وتطهيرها من أرجاسها، ولا يتعالى على نوازع النفس البشرية بل يهذّبها ويوظّفها ويوجّهها إلى طريقها الحق، ووجهتها الصحيحة، وما ضلت البشرية وارتكست في حمأتها إلا بعد أن تخلت تعاليم الإسلام وتوجيهاته في حفظ العرض، والحفاظ على نقاء الإنسان وطهارته.
رابعًا: خيانة النفس والجوارح:
وكما أبان القرآن الكريم عن صور وألوان من الخيانات وبيّن منهجية التعامل معها تناول خيانة النفس في آيتين كريمتين منه.
الأولى: في مجال تعامل الزوج مع زوجه في بداية فرض الصيام.
قال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ) [البقرة:١٨٧].
والثانية: في نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الدفاع عن الذين يختانون أنفسهم بالسرقة واتهام الغير ظلمًا وعدوانًا، كما في واقعة طعمة بن أبيرق.
قال تعالى: (ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ) [النساء:١٠٧].
لكن كيف يخون الإنسان نفسه أو يختانها؟
قال المفسرون: إن خيانة المرء نفسه تكون بتعريضها للعقاب، ونقصان حظها من الثواب34.
ويعلق ابن عرفة على هذا التركيب اللغوي بأنه من باب القلب؛ لأنّ النفس هي الخائنة35.
أو أن المعنى: «يظلمون أنفسهم بالخيانة والسرقة ويرمي بها اليهودي»36.
وقد يكون معنى الاختيان إلجاء المرء نفسه إلى الخيانة37.
وقد يكون معنى الاختيان للنفس بما يعود عليها من الإثم والعقوبة في الدنيا والآخرة38.
ذلك أن من قدم على المعصية، فقد حرم نفسه الثّواب، وأوصلها إلى العقاب، فكان ذلك منه خيانة لنفسه؛ ولهذا المعنى، قيل لمن ظلم غيره: إنّه ظلم نفسه39.
ونلاحظ في تعبير القرآن خاصة في صيغة «تختانون» ما يدل على الافتعال؛ لأن خيانة المرء نفسه ليست سهلة، بل تحتاج إلى جهد ومشقة؛ لأن الأصل فيه أنه يسعى إلى صلاحها وفلاحها وصيانتها، فعندما يعود الحارس لصًّا فقد اختان نفسه.
«قال ابن قتيبة وطائفة من المفسرين: وجعلوا الإنسان قد خان نفسه، أي: ظلمها بالسرقة كما فعل ابن أبيرق -أو بجماع امرأته ليلة الصيام كما فعل بعض الصحابة- وهذا القول فيه نظر؛ فإن كل ذنب يذنبه الإنسان فقد ظلم فيه نفسه، سواء فعله سرًّا أو علانية»40.
إن القرآن الكريم حفظ نفس العبد حتى من نفسه، ونصحها حتى من ذاته؛ لأنها ثمينة عند الله، فالإنسان هو خليفة الله في أرضه، والقائم بشرعه والمتعبد له به، فنهاه عن تعريضها للظلم، أو تعرّضها للعقاب والحساب، أو الدفاع عن الظالم، فكيف بمن يعين الظالم ويسعى له، ويحلّل له فعله، ويبرّر له ظلمه، بل يخرج له هذا الظلم بطريقة شرعية.
خامسًا: خيانة الأمانة:
اختلف المفسرون في بيان المقصود من خيانة الأمانة، بل اختلفوا في بيان وتحديد مفهوم الأمانة، الوارد في قوله تعالى: (ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ) [الأنفال: ٢٧].
فمنهم من يرى أن الأمانة هي ما يخفى عن أعين النّاس من فرائض اللّه 41.
ومنهم من يرى أنها الأعمال، ومنهم من يرى أنها الدّين42.
وعن ابن عباس في قوله: «(ﭬ ﭭ): الأمانة: الأعمال التي ائتمن الله عليها العباد، يعني: الفريضة. يقول: لا تخونوا يعني: لا تنقضوها»43.
ومنهم من رآها في الغنيمة، ومنهم من جعلها في كل ما يؤتمن عليه الإنسان، يقول الإمام الماوردي: «(ﭬ ﭭ) فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: فيما أخذتموه من الغنيمة أن تحضروه إلى المغنم.
الثاني: فيما ائتمن الله العباد عليه من الفرائض والأحكام أن تؤدوها بحقها ولا تخونوها بتركها.
والثالث: أنه على العموم في كل أمانة أن تؤدى ولا تخان»44.
ويرى الإمام السمعاني أنها «في جميع الأمانات، نهي العباد عن الخيانة في الأمانات، وتدخل في الأمانات الطّاعات؛ فإن الطّاعات أمانات عند العباد على معنى أنّها بينهم وبين ربهم أدوها أو لم يؤدوها»45.
ومنهم من جعل الأمانة هي النفس والأموال، بكل ما تشتمل عليه، «فعلى ذلك أنفسكم وأموالكم لله عندكم أمانة استحفظكم فيها، فإن استعملتموها في غير ما أذن لكم فيها، خنتم الله والرسول فيها، فتخونوا أماناتكم التي لكم عند الله إذا ضيعتم الأمانة؛ كقوله: (ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ) [البقرة:٤٠].
وقال بعضهم: قوله: (ﭬ ﭭ)، أي: ولا تخونوا أماناتكم التي فيما بينكم. وأصله: أنه عز وجل امتحنهم فيما امتحنهم لمنافع أنفسهم ولحاجتهم، فيصيرون فيما خانوا فيما امتحنهم كأنهم خانوا أنفسهم وخانوا أماناتهم؛ كقوله: (ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ) وقوله: (ﮭ ﮮ ﮯ ﮰﮱ ﯓ ﯔ ﯕﯖ)، وقوله: (ﰎ ﰏ ﰐ ﰑﰒ) الآية. وقوله عز وجل: (ﭮ ﭯ). أن أنفسكم وأموالكم ليست لكم، إنما هي لله عندكم أمانة، فلا تخونوا فيها 46.
ومنهم من ترقى في بيان الأمانة إلى درجة الحديث عن الأعمال والأحوال، بأن الخيانة في الأعمال: الدعوى فيها بأنها من قبلك، دون التحقيق بأن منشئها الله.
والخيانة في الأحوال ملاحظتك لها دون غيبتك عن شهودها باستغراقك في شهود الحق، إن لم يكن استهلاكك في وجود الحق. وإذا أخللت بسنة من السنن أو أدب من آداب الشرع فتلك خيانة الرسول صلى الله عليه وسلم.
والخيانة في الأمانات -بينك وبين الخلق- تكون بإيثار نصيب نفسك على نصيب المسلمين، بإرادة القلب فضلًا عن المعاملة بالفعل47.
ومن بدائع أهل التفسير وروائعهم حقًّا أنهم لمحوا مسؤولية الأمة عن ريادتها للبشرية، وتكليفها بقيادة الأمم إلى توحيد الله تعالى، وهدايتها إلى ربها، ودلالتها عليه، وهذا ما يعبّر عنه في عصرنا بالشهود الحضاري؛ إذ جعلوا معنى الأمانة التي كلّف الله تعالى بها المسلمين أنهم مكلّفون بذلك ومؤهّلون له، بل حددوا مؤهلات هذا الشهود، ومقومات تلك المسؤولية، بأن الأمة وسط، وعدل، فـ«هذه الأمة وسطًا عدلًا بقوله: (ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ) [البقرة: ١٤٣]؛ فكأنه قال: يا أيها الذين آمنوا قد جعلكم الله أمناء عدلًا وسطًا، فلا تخونوا الله فيه؛ كقوله: (ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ) [النساء: ١٣٥].
وقال: (ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝﯞ) [المائدة: ٨].
وقال: (ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ) [الأحزاب: ٧٢].
أخبر أنه ألزمهم الأمانة -أعني: البشر- دون ما ذكر من الخلائق فمنهم من ضيع تلك الأمانة؛ من نحو المنافقين والمشركين، وخانوا فيها، فلحقهم الوعيد بالتضييع»48.
وفي هذا يقول صاحب الظلال رحمه الله: «إن التخلي عن تكاليف الأمة المسلمة في الأرض خيانة لله والرسول. فالقضية الأولى في هذا الدين هي قضية: «لا إله إلا الله، محمد رسول الله»، قضية إفراد الله سبحانه بالألوهية والأخذ في هذا بما بلّغه محمد صلى الله عليه وسلم وحده، ومن هنا كان التخلي عنها خيانة لله والرسول يحذّر الله منها العصبة المسلمة التي آمنت به وأعلنت هذا الإيمان، فأصبح متعيّنًا أن تجاهد لتحقيق مدلوله الواقعي والنهوض بتكاليف هذا الجهاد في الأنفس والأموال والأولاد.
كذلك يحذّرها خيانة الأمانة التي حملتها يوم بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام.
فالإسلام ليس كلمة تقال باللسان، وليس مجرد عبارات وأدعيات، إنما هو منهج حياة كاملة شاملة تعترضه العقبات والمشاق. إنه منهج لبناء واقع الحياة على قاعدة أن لا إله إلا الله، وذلك برد الناس إلى العبودية لربهم الحق وردّ المجتمع إلى حاكميته وشريعته، وردّ الطغاة المعتدين على ألوهية الله وسلطانه من الطغيان والاعتداء وتأمين الحق والعدل للناس جميعًا، وإقامة القسط بينهم بالميزان الثابت، وتعمير الأرض، والنهوض بتكاليف الخلافة فيها عن الله بمنهج الله.
وكلها أمانات من لم ينهض بها فقد خانها، وخاس بعهده الذي عاهد الله عليه، ونقض بيعته التي بايع بها رسوله»49.
وتلك أهم زاوية من زوايا الأمانة، وأعمق تعريف لها؛ لأنه يشمل كل التعاريف السابقة ويزيد عليها بيان مسؤولية الأمة عن ريادة العالم، وقيامها بمهمتها التي ندبها الله لها.
سادسًا: خيانة العهد:
لقد رسم القرآن الكريم للبشرية منهاجًا من الوفاء، لو اتبعته وسارت به لعزت في الدنيا ونجت في الآخرة، وتوالت وصايا القرآن الكريم مشدّدة على الوفاء بالعهد والبعد عن خيانته، فقال تعالى: (ﯚ ﯛﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ) [الإسراء: ٣٤].
وحذّرهم من نقضه والانقلاب عليه، ونبّههم إلى أن هذا العهد عهد مع الله، وأن الله كفيل عليهم، فقال تعالى: (ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ) [النحل: ٩١].
ووصف المؤمنين المفلحين بأنهم: (ﮀ ﮁ ﮂ) [المؤمنون: ٨].
وفي خيانة العهد تحدث القرآن الكريم مبيّنًا ضرره وخطره ومنهجية التعامل معه، كما يرد في عاقبتهم ومنهجية التعامل معهم، وورد هذا في قوله تعالى مخاطبًا الرسول صلى الله عليه وسلم: (ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ) [الأنفال: ٥٨].
وقد نص المفسرون على أن الخيانة هنا: خيانة العهد، يقول الإمام الماوردي رحمه الله: «قوله عز وجل: (ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ) يعني: في نقض العهد.
(ﮢ ﮣ ﮤ ﮥﮦ) أي: فألق إليهم عهدهم حتى لا ينسبوك إلى الغدر بهم. والنبذ هو الإلقاء»50.
لقد ربط القرآن الكريم بين الكفر ونقض العهد والخيانة فيه؛ تفظيعًا له، وبيانًا لما هو فيه من شر وضرر، فقال تعالى: (ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ) [الأنفال: ٥٥-٥٨].
وبيّن للنبي أنه إن شعر منهم بالنقض أو بوادره ينبذ إليهم على سواء؛ ذلك أن الله لا يحب الخائنين، حتى ولو كان ذلك الفعل مع الكفار.
وعلى (ﮥﮦ) هنا بمعنى: البيان والوضوح، ذكر ابن عادل الحنبلي في الموضع الرابع من مواضع معنى كلمة سواء: أنها «بمعنى: البيان»51.
لقد حذّر القرآن النبي من خيانة الخائنين، ومكر الماكرين، وبيّن له أن تلك سمتهم وهذا ديدنهم، فقال له: (ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ) [المائدة: ١٣].
(ﯜ ﯝ) أي: على معصية، وكانت خيانتهم نقض العهد، ومظاهرتهم المشركين على حرب رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم، وهمّهم بقتله وسمه، ونحوها من الخيانات الّتي ظهرت منهم.
وبيّن أن هذه الخيانة طبع اليهود، لا يغادرونها ولا تغادرهم، (ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ) يعني: مكرهم وغدرهم لك ولأصحابك52.
وقال مجاهدٌ وغيره: يعني بذلك تمالؤهم على الفتك بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم 53.
وتلك من خلائقهم التي ورثوها ممن قبلهم وورّثوها أولادهم وأحفادهم، والواقع المنظور خير دليل على ذلك.
المتتبع لآيات القرآن الكريم في قضية الخيانة يجد أنها رسمت في التعامل مع الخائنين منهاجًا واضح المعالم، بيّن القسمات، لو طبّقته الأمة المسلمة في التعامل معهم لنجوا من تكرار الخيانة في واقعهم، ولابتعدوا عن الوقوع فيها أفرادًا وجماعات، وشعوبًا وحكومات؛ ذلك المنهاج الحق، والطريق الصدق يتلخص في النقاط الآتية:
أولًا: عدم المدافعة عنهم:
وأول طريقة من طرق التعامل مع الخائنين هي عدم المدافعة عنهم، أو التستر عليهم؛ حتى لا ينبت هذا الداء العضال في أوصال المسلمين، أو يعشّش في بيوتهم وقلوبهم، وهو المجتمع الذي يتغيا الصفاء، ويبغي الطهر، ويسعى نحو الكمال البشري، ويبدو من ملامح الآية الكريمة التي تناولت تلك المنهجية، ومن خلال أسباب نزولها، أنها وقعت في أفراد من بين ثنايا المجتمع المسلم، قام به واحد، وشاركه آخرون، وسعى في الدفاع عنه غيرهم، فنزلت الآيات الكريمة -كما سيأتي- تبيّن للجميع منهاجية القرآن العادلة في التعامل معهم.
ولنا أن نقف أمام الآية الكريمة التي تناولت تلك المنهجية؛ حتى يتسنى لنا تبيّن معالم وملامح منهجية التعامل مع الخائنين، وسنجد الآية الكريمة تخاطب الرسول صلى الله عليه وسلم قائلة: (ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﭑ ﭒﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ) [النساء: ١٠٥-١٠٩].
وأول ما نقف أمامه من تلك الآية الكريمة هو سبب نزولها؛ حتى يتسنى لنا تبيّن الجو الذي نزلت فيه زمانًا، ومكانًا، وأفرادًا، فقد نزلت الآية في المدينة بمجتمعها الذي يجمع أنماطًا من الناس: مؤمنين ومسلمين ومشركين ويهود ومنافقين، حتى يكون هذا نموذجًا للمجتمع الجامع الذي يتعايش فيه الناس، متوحّدين على قاسم مشترك، مهما تباينت رؤاهم، واختلفت توجهاتهم، وتنزل الآيات تبيّن الحكم الفصل الذي ينطبق على الجميع بما أن قيادة هذا المجتمع في أيدي المسلمين القيمين على البشرية بما أوتوا من مؤهّلات تضعهم في الصدارة، وتعينهم على إقامة القسط والحكم بالعدل، ولو على أنفسهم والأقربين، كما سيتضح ذلك جليًّا في تضاعيف معالجة القرآن لهذا التعامل في قضية الخيانة.
وتذكر كتب التفسير وعلوم القرآن إجماعًا على نزول هذه الآيات في طعمة بن أبيرق، كما قال الإمام الكرماني: «أجمع المفسرون على أن هذه الآيات نزلت في طعمة بن أبيرق أحد بني ظفر بن الحرث، إلا ابن بحر فإنه قال: نزلت في المنافقين»54.
وفصّل ابن العربي سبب النزول «بأن بني أبيرق سرقوا طعام رفاعة بن زيد، واعتذر عنهم قومهم بأنهم أهل خير، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لقتادة بن النعمان ذلك، فطالبهم عن عمه رفاعة بن زيد، فقال رفاعة: الله المستعان، فأنزل الله تبارك وتعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم ونصر رفاعة وأخزى الله بني أبيرق بقوله: (ﯮ ﯯ ﯰﯱ) أي: بما أعلمك، وذلك بوحي أو بنظر»55.
كما يتبدّى أيضًا من متابعة سبب النزول أن الآية نزلت نصرة ليهودي على مسلم؛ لأن الحق في جانب اليهودي، وفي ذلك من ملامح قيام الأمة الممثّلة في رسولها صلى الله عليه وسلم على إقامة الحق ما فيه، والمتأمل لسياق الآية ودلالات السياق والسباق واللحاق يجد ذلك بيّنًا، فصدر الآية يؤكد للرسول صلى الله عليه وسلم أنه أنزل إليه الكتاب ليحكم بين الناس بالحق، ولك أن تتأمل (ﯬ ﯭ) وليس بين المسلمين فقط، «إنه مطلب تكليفي من الله للمسلمين حتى يشيع في كل الناس، ولا يخص المؤمنين يتعاملون به فيما بينهم، وإنما يشمل أيضًا ما بين المؤمنين والكافرين، وما بين الكافرين بعضهم مع بعض إن ارتضوا حكم رسول الله، وحينما أمر الحق رسوله أن يحكم بين الناس فذلك الحكم يقتضي عدم تمييز المؤمن على الكافر؛ لأن المسلمين هم القوّام، وهم خير أمة أخرجها الله للناس كافة. ولو فهم الناس أن خير الأمة الإسلامية عائد عليهم لما حاربوها. فنحن -المسلمين- لسنا خيرًا لأنفسنا فقط، ولكننا أمة لخير الناس جميعًا»56.
وكما قال المفسرون: «وفي هذه الآية تشريف للرسول صلى الله عليه وسلم، وتفويض الأمور إليه بقوله: (ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰﯱ)57.
إن الإسلام -والقرآن دستوره الخالد- يمتلك منهاج ريادة البشرية، والقدرة على العبور بها إلى بر الأمان، دون تفريق بين دين ودين، أو جنس وجنس، أو فصيل و فصيل، إن اليهود هم من أسسوا: (ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ)، ولكن الإسلام بما أنه كلمة الله الخاتمة إلى أهل الأرض يضع قانونًا عادلًا، ومنهاجًا وسطًا، الناس جميعهم أمامه سواء.
وكما قال شوقي في همزيته58:
الله فوق الخلق فيها وحده
والناس تحت لوائها أكفاء
وإن خطابات القرآن الكريم للنبي صلى الله عليه وسلم ترد في صورة حانية، هادئة، حتى في مواطن العتاب يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم بصيغ أهدأ وألطف، حتى يخاطبه بصيغة الغيبة في عتابه في ابن أم مكتوم: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ) [عبس: ١- ٢].
ويقدم العفو قبل بيان العتاب في: (ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ) في موطن آخر، أما هنا فالخطاب بصورة مباشرة، وبصيغة لافتة.
وإذا كان هذا الخطاب والتنبيه للنبي بتلك الصورة فهو لأمته من باب أولى، «إننا نحس في التعبير صرامة، يفوح منها الغضب للحق، والغيرة على العدل، وتشيع في جو الآيات وتفيض منها، وأول ما يبدو هذا في تذكير رسول الله صلى الله عليه وسلم بتنزيل الكتاب إليه بالحق ليحكم بين الناس بما أراه الله، وإتباع هذا التذكير بالنهي عن أن يكون خصيمًا للخائنين، يدافع عنهم ويجادل. وتوجيهه لاستغفار الله سبحانه عن هذه المجادلة.
ثم تكرار هذا النهي، ووصف هؤلاء الخائنين، الذين جادل عنهم صلى الله عليه وسلم بأنهم يختانون أنفسهم، وتعليل ذلك بأن الله لا يحب من كان خوّانًا أثيمًا.
وهم خانوا غيرهم في الظاهر، ولكنهم في الحقيقة خانوا أنفسهم، فقد خانوا الجماعة ومنهجها، ومبادئها التي تميّزها وتفردها، وخانوا الأمانة الملقاة على الجماعة كلها، وهم منها.
ثم هم يختانون أنفسهم في صورة أخرى، صورة تعريض أنفسهم للإثم الذي يجازون عليه شر الجزاء، حيث يكرههم الله، ويعاقبهم بما أثموا، وهي خيانة للنفس من غير شك.
وصورة ثالثة لخيانتهم لأنفسهم، هي تلويث هذه الأنفس وتدنيسها بالمؤامرة والكذب والخيانة»59.
لكن هل كان هؤلاء الذين دافعوا عن أبيرق يعلمون خيانته؟
إن المفسرين يقولون: إنهم «لم يكونوا أيضًا على يقين من أمر الخائن وسرقته، ولكنه لم يكن لهم الحكم جائزًا على اليهودي بالسرقة لأجل وجود الدرع في داره»60.
وهذا يدل على أنه غير جائز لأحد أن يخاصم عن غيره في إثبات حق أو نفيه وهو غير عالم بحقيقة أمره؛ لأن الله تعالى قد عاتب نبيه على مثله وأمره بالاستغفار منه، وهذه الآية وما بعدها من النهي عن المجادلة عن الخونة إلى آخر ما ذكر كله تأكيد للنهي عن معونة من لا يعلمه حقًّا61.
لكن أكان النبي صلى الله عليه وسلم هو المخاطب أصالة بهذا الخطاب أم كان المقصود من الخطاب أمته، وصدور الخطاب بهذه الصورة لشخص النبي صلى الله عليه وسلم مقصود به تفخيم الأمر والتنبيه على خطورته؟
يرى بعض المفسرين أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقصد شيئًا من ذلك، ولا علم له بالواقعة، لولا أطلعه تعالى، وعليه فلا نقص في اهتمامه، ولا درك يلحقه، وأن الآية خرجت مخرج التعريف بحقيقة الأمر في النازلة62.
ويرى بعضهم أن الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد به غيره، كقوله: (ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ) «والنبي لا يشك مما أنزل الله، فإن قيل: قد أمر بالاستغفار، قلنا: هو لا يوجب وجود الذنب، ولا يجب أن يستغفر كما أمر في سورة الفتح بالاستغفار من غير ذنب مقدّم»63.
وعلى كل حال فلا ينافي أن يكون الرسول مخاطبًا بذلك أصالة مقام النبوة؛ فهو صلى الله عليه وسلم بشر يوحى إليه، ولعل كون الخطاب له يشعر بعدالة السماء، فإذا كان القرآن قد تعامل مع أفضل الخلق بهذا فغيره من باب أولى.
كما يبدو من الآية أن من منهاج التعامل مع الخائنين عدم جواز المجادلة عنهم، وعدم جواز مجادلتهم هم عن أنفسهم؛ إذ كانت خائنة، «لها في السر أهواء وأفعال باطنة تخفى على الناس، فلا يجوز المجادلة عنها، فالاعتذار عن النفس بالباطل والجدال عنها لا يجوز»64.
ثانيًا: طرح عهودهم:
أما الملمح الثاني من ملامح منهج التعامل مع الخائنين، فيكمن في طرح عهودهم، ونبذ معاهداتهم، وهذا ما بيّنه قوله تعالى: (ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ) [الأنفال: ٥٨].
وهذا واضح فيه أنه في جانب الدول والأمم، حيث المعاهدات والمواثيق، وإن لم ينص المفسرون على هذا المعنى صراحة، لكن ورود العهد والنبذ والحرب وتشريد بهم من خلفهم يوحي بكونها في جانب الأمم والدول.
ومعنى (ﮢ ﮣ ﮤ ﮥﮦ): أعلمهم بأنّك قد نقضت عهدهم حتّى يبقى علمك وعلمهم بأنّك حربٌ لهم، وهم حربٌ لك، وأنّه لا عهد بينك وبينهم على السّواء، أي: تستوي أنت وهم في ذلك»65.
ومن تتبّع كلام المفسرين في معنى (ﮥﮦ) (ﮚ ﮛ) يبين لنا أنها تدل على واحد من خمسة معان: أحدها: على مهل. والثاني: على محاجزة مما يفعل بهم. والثالث: على سواء في العلم حتى لا يسبقوك إلى فعل ما يريدونه بك. والرابع: على عدل من غير حيف، أي: إلى العدل. والخامس: على الوسط66.
ومما يشعر بالجانب الحضاري في هذا الدين أن عدم حب الله للخائنين ليس مقصورًا على الخائنين للمسلمين فحسب، بل مطلق الخائنين، أي: «حتّى ولو في حق الكافرين، لا يحبّها أيضًا»67.
ولقد عاش الجيل القرآني الفريد هذا المعنى القرآني، وطبّقه في تعاملاته، حتى كانوا نماذج تحتذى للبشرية كلها، وفخرًا حقيقيًّا لكل مسلم على كرّ الدهور والعصور، فعن سليم بن عامر قال: «كان معاوية يسير بأرض الروم وكان بينهم وبينه أمد، فأراد أن يدنو منهم، فإذا انقضى الأمد غزاهم، فإذا شيخ على دابة يقول: الله أكبر الله أكبر وفاء لا غدر، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من كان بينه وبين قوم عهد فلا يحلن عقدة ولا يشدّها حتى ينقضي أمدها، أو ينبذ إليهم على سواء) فبلغ ذلك معاوية فرجع، وإذا الشيخ عمرو بن عبسة»68.
والمراد من خوف الخيانة ظهور آثارها، أو الإحساس ببدايتها، وليس ظن الخيانة، وليس الانتظار حتى يتمكن الخائنون، والنموذج التطبيقي لذلك ما حدث من بني قريظة في مظاهرتهم أبا سفيان ومن معه من المشركين69 وذلك في غزوة الأحزاب.
وهذا هو ثبات المعايير، وصدق المبادئ في حضارة الإسلام، مع العدو والصديق، والقريب والبعيد، وتلك من مؤهلات الشهود الحضاري، الذي اختصت به أمة الإسلام.
ودلت الآية على أنه إذا وجدت الخيانة المحققة منهم لم يحتج أن ينبذ إليهم عهدهم؛ لأنه لم يخف منهم، بل علم ذلك، ولعدم الفائدة، ولقوله: (ﮤ ﮥﮦ) وهنا قد كان معلومًا عند الجميع غدرهم. ودل مفهومها أيضًا أنه إذا لم يخف منهم خيانة، بأن لم يوجد منهم ما يدل على ذلك، أنه لا يجوز نبذ العهد إليهم، بل يجب الوفاء إلى أن تتم مدته70.
«إن الإسلام يعاهد ليصون عهده، فإذا خاف الخيانة من غيره نبذ العهد القائم جهرة وعلانية، ولم يخن ولم يغدر ولم يغش ولم يخدع، وصارح الآخرين بأنه نفض يده من عهدهم، فليس بينه وبينهم أمان.
وبذلك يرتفع الإسلام بالبشرية إلى آفاق من الشرف والاستقامة، وإلى آفاق من الأمن والطمأنينة، إنه لا يبيت الآخرين بالهجوم الغادر الفاجر وهم آمنون مطمئنون إلى عهود ومواثيق لم تنقض ولم تنبذ، ولا يروّع الذين لم يأخذوا حذرهم حتى وهو يخشى الخيانة من جانبهم.
فأما بعد نبذ العهد فالحرب خدعة؛ لأن كل خصم قد أخذ حذره، فإذا جازت الخدعة عليه فهو غير مغدور به إنما هو غافل! وكل وسائل الخدعة حينئذ مباحة؛ لأنها ليست غادرة! إن الإسلام يريد للبشرية أن ترتفع، ويريد للبشرية أن تعف، فلا يبيح الغدر في سبيل الغلب، وهو يكافح لأسمى الغايات وأشرف المقاصد، ولا يسمح للغاية الشريفة أن تستخدم الوسيلة الخسيسة.
إن الإسلام يكره الخيانة، ويحتقر الخائنين الذين ينقضون العهود، ومن ثمّ لا يحب للمسلمين أن يخونوا أمانة العهد في سبيل غاية مهما تكن شريفة، إن النفس الإنسانية وحدة لا تتجزأ ومتى استحلت لنفسها وسيلة خسيسة، فلا يمكن أن تظل محافظة على غاية شريفة، وليس مسلمًا من يبرّر الوسيلة بالغاية، فهذا المبدأ غريب على الحس الإسلامي والحساسية الإسلامية؛ لأنه لا انفصال في تكوين النفس البشرية وعالمها بين الوسائل والغايات.
إن الشط الممرع لا يغري المسلم بخوض بركة من الوحل، فإن الشط الممرع لابد أن تلوّثه الأقدام الملوثة في النهاية، من أجل هذا كله يكره الله الخائنين ويكره الله الخيانة.
ويجب أن نذكر أن هذه الأحكام كانت تتنزل والبشرية بجملتها لا تتطلع إلى مثل هذا الأفق المشرق. لقد كان قانون الغابة هو قانون المتحاربين حتى ذلك الزمان، قانون القوة التي لا تتقيد بقيد متى قدرت»71.
ثالثًا: التنكيل بهم:
ومن منهجية التعامل مع الخائنين التي رصدها القرآن الكريم، ودل عليها صريح الآيات وبيّنها سياقها أننا بعد النبذ إليهم على سواء، لابد من مناجزتهم، وعدم تركهم يعيثون في الأرض فسادًا، يفرّخون فسادهم، ويدبّرون مكائدهم، فمن أمن العقوبة أساء الأدب، كما قالوا في أدبنا العربي؛ ولذلك تجد الآية السابقة عليها في نفس سياقها تقول: (ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ)[ الأنفال: ٥٧].
والمعنى: «نكّل بهؤلاء الذين جاءوا لحربك أو نقضوا عهدك تنكيلًا يفرّق بينهم من خلفهم من جماعاتهم»72.
ذلك أن من الناس من لا يرعوي حتى يرى العقوبة ماثلة، بل في ذلك ما يجعلهم عبرة لكل من يجترأ على حرمات الديار وخفر الذمار، كما ختمت الآية بـ(ﮚ ﮛ) «أي: لعل المشردين يتعظون بما شاهدوا ما نزل بالناقضين، فيرتدعوا عن النقض أو عن الكفر»73.
وفي تذييل الآية الكريمة بعدم حب الله تعالى للخائنين لطائف بديعة، منها أنه تعليل للأمر بالنبذ، وأن الله تعالى لا يحب من كانت الخيانة طبعه، وفيه من طمأنة الرسول ومن سار على منهاجه ما فيه؛ فكون هؤلاء الخائنين محرومين من حب الله لهم، يعني أنهم محرومون من الأمن والهداية، ومحرومون من النصر والغلب، وممنوعون من التمكن، فمن حرم حب الله تعالى حرم كل خير، وتخلّت عنه كل سعادة.
كما تلمح من هذا التذييل والتعليل البديع إشارة من القرآن الكريم للرسول بمناجزة قتال الخائنين، وعدم تركهم، ما دام تيقن من عزمهم على الخيانة، ففي التذييل «تعليل للأمر بالنبذ، إما باعتبار استلزامه النهي عن مناجزة القتال؛ لكونها خيانة، فيكون تحذيرًا له صلى الله عليه وسلم منها، وإما باعتبار استتباعه للقتال، فيكون حثًّا له صلى الله عليه وسلم على النبذ أولًا، وعلى قتالهم ثانيًا، كأنه قيل: وإما تعلمن من قوم خيانة فانبذ إليهم، ثم قاتلهم»74.
وفي ذلك بيان صريح لمنهجية التعامل مع الخائنين في المستقبل، فيا ليت قومي يعلمون، يقول أبو حيان: «الظاهر أن هذا استئناف كلام، أخبره الله تعالى بما يصنع في المستقبل مع من يخاف منه خيانة إلى سالف الدهر»75.
بل جعلها صاحب المنار قاعدة، من (القواعد الحربية العسكرية والسياسية) التي اشتملت عليها سورة الأنفال، فقال في (القاعدة التاسعة): «وجوب معاملة ناقضي العهد بالشدة التي يكونون بها عبرة ونكالًا لغيرهم، تمنعهم من الجرأة والإقدام على مثل خيانتهم بنقضهم، ومنه يظهر الفرق بين تعاليم الإسلام الجامعة بين الحزم والعدل، والشدة والفضل، وبين ما عليه دول المدنية الإفرنجية من القسوة والظلم»76.
إننا أمام نظرية قرآنية جامعة ومنهجية متكاملة في التعامل مع الخائنين، سواء كانوا أفرادًا أم دولًا، وسواء كانت الخيانة مادية أم معنوية، إذا أخذ المسلمون بتلك المنهجية في تعاملهم مع هؤلاء الخائنين، كفّوا شرهم، ومنعوا أذاهم، ووأدوا فتنتهم في جحرها، ودفنوها في مهدها، ولا يتنافى هذا مع السماحة والندى، فلكل حلة لبوسها، ولكل عقوبة جزاؤها، وقديمًا كان العرب بفطرتهم الصحيحة يتفهّمون هذا المعنى، ويدركون قيمة القوة في مكانها، والمسامحة في بابها، قال أبو تمام77:
فقسا ليزدجروا ومن يك حازمًا
فليقس أحيانًا على من يرحم
لله عز وجل في الخائنين سنن ثابتة لا تتحوّل ولا تتبدّل، نصّت عليها آيات القرآن الكريم، ويمكننا أن نتناول تلك العاقبة في النقاط الآتية:
أولًا: حرمان الهداية إلى الحق:
ومن عقوبات الله تعالى للخائنين: أنه تعالى يحرمهم الهداية إلى الحق، والوصول إلى الصراط المستقيم، فهداية الله نوعان:
فالله تعالى يهدي عباده إلى طريقه المستقيم، ويعينهم على تلك الهداية، أما الناكثون عن طريق الحق، الرافضون لمنهاج الصدق فالله تعالى يكلهم إلى أنفسهم، ويخليهم إلى قدرتهم، وفي ذلك يقول تعالى: (ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ) [يونس: ٢٥].
ويقول لرسوله صلى الله عليه وسلم: (ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘﮙ) [القصص: ٥٦].
والآيات الكريمة في ذلك كثيرة.
وقد نصّت آيات بعينها على حرمان الخائنين من هداية الله، كقوله تعالى: (ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ) [يوسف: ٥٢].
والمعنى: «لا ينفذه ولا يسدده، أو لا يهدي الخائنين لكيدهم. وأوقع الفعل على الكيد مبالغة»78.
«أي: لا يصلح»79، أو: «وأن الله لا يوفّق أهل الخيانة، ولا يرشدهم في خيانتهم»80، أو أنه تعالى «لا يهدي الخائنين بكيدهم»81.
قال السدي: «يعني لا يصلح عمل الزناة»82.
ومن بدائع القرآن الكريم ومنهاجيته في البيان عن تلك القضية أنه أوردها بصورة قاعدية سننية، تمضي على الجميع، وتعم كل الخائنين، وهذا ما نلمحه من تذييل الآية الكريمة: (ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ)[يوسف: ٥٢].
فهي واردة في حادثة معينة، ومع ذلك وردت في صورة عامة بتلك الصورة البنائية البيانية المعبّرة.
ومن لطائف الكتاب العزيز هنا أنه عبّر عن الزنا بالخيانة؛ ذلك أن هذا الفعل في حق الزوج خيانة، ولعل السر في التعبير بهذه الصيغة التنزه عن ذكر اللفظ في هذا المقام، وإن كان قد ورد في موطن آخر، والتنبيه على استبشاعه؛ حيث جرمه يلحق أكثر من طرف: الزوج، والولي، وكل من يهمه أمرها، بل المجتمع بأسره.
كما عبّر عن تيسير الوصول بالهداية، وعبّر عن تركه بتركها؛ مبالغة في بيان تلك العقوبة التي تلحق الخائنين، وتعمهم؛ «لئلا يتوهّم أن الحديث عن خائن معين تعني نفسها، فيصير الجمع في هذه المواطن قرينة على قصد الاستغراق، فأطلقت الهداية التي هي الإرشاد إلى الطريق الموصلة على تيسير الوصول، وأطلق نفيها على نفي ذلك التيسير، أي أن سنة الله في الكون جرت على أن فنون الباطل وإن راجت أوائلها لا تلبث أن تنقشع83. كما قال تعالى: (ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚﮛ) [الأنبياء: ١٨].
«أي: أنها أقرّت بأنه سبحانه وتعالى لا ينفذ كيد الخائنين، ولا يوصّله إلى غايته»84.
وفي هذا التذييل البديع طمأنة لقلوب من وقعت عليهم الخيانة، وتسرية عن نفوسهم؛ حيث إن الله تعالى وعدهم أنه لا يهدي كيد من خانهم، ولا يوليهم إلى غايتهم التي خانوا من أجلها، كما أن «فيه إشارة إلى أن الله تعالى يوصل عباده الصادقين بعد الغم إلى السرور ويخرجهم من الظلمات إلى النور»85.
«لا يرشد من خان أمانته، ويفضحه في عاقبته»86.
والنص على إبطال كيد الخائنين ينبّه على أن غير الخائنين يهديهم الله تعالى، ويصلح أعمالهم؛ لأنه تعالى «خص الخائنين تنبيهًا أنه قد يهدي كيد من لم يقصد بكيده خيانة، ككيد يوسف بأخيه وقوله: (ﯺ ﯻ) [الأنبياء: ٥٧] أي: لأريدن بها سوءًا»87.
ومن أبرز الدلائل على عدم هداية الله للخائنين، وأنه لا ينعم عليهم بأن يكونوا في سبيله الحق، أو على طريقه المستقيم، أنه يحرمهم من اتباعه، ويخلي بينهم وبينه، ولو كانت مصادر الهداية أقرب ما تكون منهم، أو كانت بواكير الوحي بين أيديهم، وفي بيوتهم، وأقرب مثال لذلك بيوت كانت بيوت النبوة، وأشخاص عاصروها، وعاشروها في حياتهم، ونزل الوحي في مساكنهم، ومع ذلك لم يتنسّموا عبيره، ولم يجدوا ريحه، وليس مثال امرأة نبي الله نوح وامرأة نبي الله لوط اللتين قال الله عنهما: (ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ) [التحريم: ١٠] عنا ببعيد.
أي: «كانتا في عصمة نبيين عظيمين، متمكّنين من تحصيل خير الدنيا والآخرة، وحيازة سعادتهما، (ﮟ) بإفشاء سرهما، أو بالكفر والنفاق، (ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ) أي: فلم يغن الرسولان عن المرأتين بحق ما بينهما من الزواج شيئًا من الإغناء من عذاب الله تعالى، (ﮦ) لهما عند موتهما، أو يوم القيامة: (ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ) أي: مع سائر الداخلين من الكفرة، الذين لا وصلة بينهم وبين الأنبياء.
قال القشيري: لما سبقت للمرأتين الفرقة يوم القسمة لم تنفعهما القرابة يوم العقوبة.
قال ابن عطية: وقول من قال: إن في المثلين عبرة لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم بعيد، قلت: لا بعد فيه لذكره إثر تأديب المرأتين، وليس فيه غض لجانبهن المعظم، إنما فيه إيقاظ وإرشاد لما يزيدهم شرفًا وقربًا من تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم وطاعته، وصيانة سره، والمسارعة إلى ما فيه محبته ورضاه، وكل من نصحك فقد أحبك، وكل من أهملك فقد مقتك»88.
وليس هذا المثل خاصًّا بمن ضرب لهم، كعادة القرآن في منهجياته، بل عادة ضرب الأمثال في اللغة، فكل من خان وتنكب الطريق عقوبته الحرمان والتيه وعدم الدلالة وفقدان الهداية.
ففي «ضرب هذا المثل دليل على أن القرب من الأنبياء والصالحين، لا يفيد شيئًا مع العمل السيء»89.
فهم مع قربهما من مصدر الوحي، وصلتهما بمنبع الرسالة لم يغنيا عنهما من الله شيئًا؛ «تنبيهًا بذلك على أن العذاب يدفع بالطاعة دون الوسيلة»90، ودخلتا النار «مع سائر الداخلين من الكفرة الذين لا وصلة بينهم وبين الأنبياء عليهم السلام »91.
وفي ذلك بيان واضح لمن أراد أن يذّكر، وعبرة لمن أراد أن يعتبر، وورود هذا المثل بعد أن ذكر في صدر السورة ما يتعلق بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم إشارة إلى أنهن لا ينفعهن قربهن من النبي دون عملهن وطاعتهن، «وكذلك كفار مكة وإن كانوا أقرباء النبي صلى الله عليه وسلم لا ينفعهم صلاح النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك أزواجه إذا خالفنه»92.
وفي ذكر المثل في الآية الكريمة دليل على عموم القاعدة، وسننية القضية، وأنه ينسحب حكمها على كل من جمع صفاتها.
يقول الخازن: «وهذا مثل ضربه الله تعالى للصالحين والصالحات من النساء، وأنه لا ينفع العاصي طاعة غيره، ولا يضر المطيع معصية غيره، وإن كانت القرابة متصلة بينهم، وأن القريب كالأجانب بل أبعد، وإن كان القريب الذي يتصل به الكافر نبيًّا»93.
وهذه لمحة من لمحات العدالة المطلقة في شريعة الإسلام فلا قرب ولا بعد إلا بالعمل، ولا نسب ولا شرف إلا برضا الله تعالى، كما أنها سمة من سمات التأهل للشهود الحضاري، وريادة البشرية على منهاج عدل، «فإن الأسباب كلها تنقطع يوم القيامة إلا ما كان منها متصلًا بالله وحده على أيدي رسله، فلو نفعت وصلة القرابة والمصاهرة أو النكاح مع عدم الإيمان لنفعت الوصلة التي كانت بين لوط ونوح وامرأتيهما، فلما لم يغنيا عنهما من الله شيئًا (ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ)» 94.
وتلك «سنة الله فيمن توغل في الظلم والشر والفساد أنه يحرم التوبة فلا يموت إلا كافرًا»95.
ثانيًا: حرمان محبة الله عز وجل:
ومن أقسى عقوبات الله تعالى للخائنين: أنه يحرمهم محبته، ويمنعهم مودته، تلك المحبة التي هي سبب كل خير، وعدمها سبب كل بلاء وضر.
ومحبة الله معناها: «مراعاته لهم»96، أو هي: «حالة لا يعبر عنها مقالة»97.
وقال صاحب البصائر: «ولا يحدّ المحبّة بحدّ أوضح منها، والحدود لا تزيدها إلا خفاءً وجفاءً فحدّها وجودها. ولا توصف المحبّة بوصف أظهر من المحبّة، وإنّما يتكلّم النّاس في أسبابها وموجباتها وعلاماتها وشواهدها وثمراتها وأحكامها»98.
وقد نصّت آيات القرآن الكريم على تلك العقوبة، فقد أمر تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم في تعامله مع من يخاف خيانتهم أن ينبذ إليهم عهدهم على بيان ووضوح؛ ذلك أن الله تعالى لا يحب الخائنين، فقال تعالى: (ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ) [الأنفال: ٥٨].
وقال في بيان سبب من أسباب مدافعته عن المؤمنين: (ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ) [الحج: ٣٨].
وقال في سبب نهيه عن المجادلة عن الذين يختانون أنفسهم: (ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ) [النساء: ١٠٧].
أي: «لا يرضى فعلهم، وهو تعليل للأمر بالنبذ والنهي عن مناجزة القتال المدلول عليه بالحال»99.
فالله لا يحبهم؛ «لأنهم متصفون بالخيانة، فلا تستمر على عهدهم فتكون معاهدًا لمن لا يحبهم الله؛ ولأن الله لا يحب أن تكون أنت من الخائنين»100.
وموقع التذييل هذا من الآية ووروده عقب هذا الأمر بمناجزتهم والمنابذة إليهم على سواء مشعر بعلّية عدم حب الله للخائنين، ويحتمل أن تكون تلك الجملة الكريمة تعليلًا معنويًّا للأمر بنبذ العهد على عدل، وهو إعلامهم، وأن تكون مستأنفة سيقت لذم من خان رسول الله صلى الله عليه وسلم ونقض عهده101.
ومن روائع المنهاج القرآني أنه أورد صيغة عدم الحب خالية عن تحديدها حتى تكون عامة شاملة، سواء كانت تلك الخيانة في حق المؤمنين أو في حق الكافرين، أي: «حتى ولو في حق الكافرين، لا يحبها أيضًا»102.
وفي ذلك من خصائص السننية من الاطراد والعموم والشمول ما فيه.
كما أن في ذلك من دلالات تهيئة الأمة للشهود الحضاري ما لا يخفى؛ فالإسلام -والقرآن دستوره- ينهى عن الخيانة ولا يحب أصحابها، ولو كانت في حق الكافرين، ويؤمر نبيه بأن ينبذ إليهم على سواء، ولا يباغتهم قبل أن يعرفوا نقض عهدهم، وعلى سواء بما تحمله تلك الكلمة من بيان، أي: على وضوح وجلاء، أو بحيث يصل الخبر إليهم ويستوون في معرفته.
«وحاصل الكلام في هذه الآية أنه تعالى أمره بنبذ من ينقض العهد على أقبح الوجوه، وأمره أن يتباعد على أقصى الوجوه من كل ما يوهم نكث العهد ونقضه»103.
وعاش أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم تلك القيم عيشة حقيقية واقعية لفتت أنظار العدو قبل الصديق، إلى ربانية هذا الدين، ومثله العليا التي لا تقوم أخلاقه على نسبية تختلف من شخص إلى آخر ولا من جنس إلى جنس، ولا من دين إلى دين، بل الكل أمام القيمة سواء.
فقد «روي أنّ معاوية كان بينه وبين الروم عهد، وكان يسير نحو بلادهم حتى إذا انقضى العهد غزاهم فجاء رجل على فرس أو برذون وهو يقول: الله أكبر الله أكبر، وفاء لا غدرًا، فإذا هو عمرو بن عنبسة، فأرسل إليه معاوية يسأله فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من كان بينه وبين قوم عهد فلا ينبذ عقدة ولا يحلها حتى ينقضي أمدها أو ينبذ إليهم على سواء)104 فرجع معاوية»105.
ويؤكد هذا الفهم أن القرآن الكريم قال في موطن آخر: (ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰﯱ) [النساء: ١٠٥].
«تلاحظ أن الآية لم تقل: بين المؤمنين، ولكن قالت: (ﯬ ﯭ) حتى لا تكون هناك تفرقة في العدل بين مؤمن وغير مؤمن، فغير المؤمن مخلوق لله، استدعاه الله إلى هذا الوجود، وسبحانه قد أعد له مكانه في هذا العالم؛ لذلك لابد أن تراعي العدل معه في كل الأمور ولا تظلمه بل تعطيه حقه؛ لأنك بذلك تكون أنت مددًا من إمدادات الله. وقد كان هذا السلوك العادل الذي أمر به الله سببًا في دخول عدد كبير في الإسلام»106.
كما تلمح شدة بيان القرآن عن حرمانهم محبة الله تعالى من تركيب الجملة وسياقها، وقد أكد نفي محبة الله تعالى للخيانة «بالجملة الاسمية، وبـ(إن)، ونفي المحبة أبلغ في النهي؛ لأن محبة الله مطلوبة، فإذا كانت الخيانة لا تؤدي إليها فهي منهي عنها نهيًا شديدًا مؤكدًا»107.
كما تلمح بلاغة الآية وعمق دلالتها عن دفاع الله عن المؤمنين وعدم حبه للخائنين من ترتب الجملة الاستئنافية المبدوءة بإن كأنها تعليل لما سبق في صدر الآية، كما قال صاحب التحرير والتنوير: و«تعليل الدفاع بكونه عن الذين آمنوا، بأن الله لا يجب الكافرين الخائنين، فلذلك يدفع عن المؤمنين لرد أذى الكافرين، ففي هذا إيذان بمفعول (ﯿ) المحذوف، أي: يدافع الكافرين الخائنين»108.
وتلمح بلاغتها أيضًا في حذف مفعول (ﯿ) في صدر الآية «فلم يذكر ما يدفعه حتى يكون أفخم وأعظم وأعم، وإن كان في الحقيقة أنه يدافع بأس المشركين، فلذلك قال بعده: (ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ)؛ فنبّه بذلك على أنه يدفع عن المؤمنين كيد من هذا صفته، وهذه بشارة للمؤمنين بإعلائهم على الكفار»109.
وهي بشرى واضحة للمؤمنين الذين ابتلوا بالخيانة ممن ائتمنوهم، ووثقوا فيهم، بأن الله سيحفظهم وسينصرهم على هؤلاء الخائنين؛ فتلك سنة الله تعالى التي لا تتخلّف ولا تتبدل.
وبتلك المناهج التي يربي الإسلام عليها أتباعه يعلي قيمة البشرية، ويرسّخ معنى الحضارة الحقة التي تمسك بمقود العالم، فلا يظلم فيه فقير لحساب غني، ولا يهان فيه ضعيف إرضاء لقوي؛ لأن صاحب المنهاج هو رب البشرية، وسيد العالمين، الإله الحق الذي خلقه كلهم عنده سواء، وفضله عليهم كلهم سواء.
«إن الإسلام يريد للبشرية أن ترتفع؛ ويريد للبشرية أن تعف؛ لا يبيح الغدر في سبيل الغلب؛ وهو يكافح لأسمى الغايات وأشرف المقاصد؛ ولا يسمح للغاية الشريفة أن تستخدم الوسيلة الخسيسة.
إن الإسلام يكره الخيانة، ويحتقر الخائنين الذين ينقضون العهود؛ ومن ثمّ لا يحب للمسلمين أن يخونوا أمانة العهد في سبيل غاية مهما تكن شريفة، إن النفس الإنسانية وحدة لا تتجزأ؛ ومتى استحلت لنفسها وسيلة خسيسة، فلا يمكن أن تظل محافظة على غاية شريفة.. وليس مسلمًا من يبرّر الوسيلة بالغاية، فهذا المبدأ غريب على الحس الإسلامي والحساسية الإسلامية؛ لأنه لا انفصال في تكوين النفس البشرية وعالمها بين الوسائل والغايات.
إن الشط الممرع لا يغري المسلم بخوض بركة من الوحل؛ فإن الشط الممرع لابد أن تلوّثه الأقدام الملوثة في النهاية. من أجل هذا كله يكره الله الخائنين ويكره الله الخيانة، وفي مقابل هذه النصاعة وهذه النظافة يعد الله المسلمين النصر، ويهون عليهم أمر الكفار والكفر!»110.
والمبالغة في لفظة (ﰉ) ليست على بابها، فليس المراد نفي المحبة عن الخوان فتثبت للخائن، بل المراد أن المشركين خوانون، أو «لأن خيانة أمانة الله تعالى وكفران نعمته لا يكونان حقيرين، بل هما أمران عظيمان، أو لكثرة ما خانوا فيه من الأمانات، وما كفروا به من النعم، أو للمبالغة في نفي المحبة على اعتبار النفي أولًا، وإيراد معنى المبالغة ثانيًا»111.
وقد تكون صيغة المبالغة للنسب، فشملت ما لا مبالغة فيه، أو مراعاة الحال من الآية في شأنه.
ومما يؤيد نصرة الله تعالى لمن وقعت في حقه الخيانة، وينصره على الخائنين، الإذن بالقتال بعد نفي المحبة عن كل خوان كفور، وتلك سنة الله في الخيانة، لا تتبدل ولا تتغير، «وما دام هناك الخوّان والكفور فلابدّ للسماء أن تؤيّد رسولها، وأن تنصره في هذه المعركة أولًا، بأن تأذن له في القتال، ثم تأمره بأخذ العدة والأسباب المؤدية للنصر، فإن عزّت المسائل عليكم، فأنا معكم أؤيدكم بجنود من عندي»112.
وفي هذه الآية إشارة لطيفة بترك المدفوع عن المؤمنين عامًّا مطلقًا، وجعل سياقها يشير إلى الخيانة، وذلك بشارة عظيمة للمؤمنين الذين يتعرضون للخيانة، بأنه عز وجل متكفل بالدفاع عنهم.
إن لطف الله بعباده دائم، شامل، سواء عن طريق محبتهم وتأييدهم، أو عن طريق رصده لأعدائهم، فهو تعالى متكفل بالدفاع عنهم، ونصرتهم على أعدائهم، وتلك سنة الله الماضية، وناموسه الباقي، ما بقيت على الأرض حياة وأحياء.
ثالثًا: إبطال كيدهم:
ومن عقوبات القرآن الكريم للخائنين أن الله تعالى يبطل كيدهم، ويفلّ حدهم، ولا ينيلهم مبتغاهم، حتى وإن بدا للناظر المتعجل أنهم وصلوا إلى غايتهم، وظفروا بمنيتهم، ونالوا ما يصبون إليه، فمقاييس الحق غير مقاييس الباطل، وغايته غير غايته، وقد ومضت سنة الله تعالى بذلك، كما نصت الآيات الكريمة عليه.
لقد عبّر القرآن الكريم غب كيد امرأة العزيز على لسانها عن ذلك فقالت: (ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ) [ يوسف: ٥٢].
ومعنى عدم هداية كيدهم يبيّن سننية القرآن الكريم في إبطال كيدهم، فعدم هداية كيدهم يعني: أنه «لا ينفذه ولا يسدده، أو لا يهدي الخائنين لكيدهم. وأوقع الفعل على الكيد؛ مبالغةً»113.
وأتت الآية الكريمة مبينة استغراق الأمر لجميع الخائنين بـ(ال) التي تفيد الاستغراق، إضافة إلى ورودها بصيغة الجمع؛ «لئلا يتوهّم أن الحديث عن خائن معين.. فيصير الجمع في هذه المواطن قرينة على قصد الاستغراق»114.
فكل خائن بهذه الصورة لا يصل إلى مبتغاه، ويبطل الله كيده، وتلك سنة الله الماضية، وقانونه الدائم في الخلق.
أو المعنى: «أن الله لا يوّفق أهل الخيانة»115، وعدم توفيقهم وإرشادهم فيه إبطال لكيدهم، فمن يهديهم أو يرشدهم بعد أن خلاهم الله وحرمهم الرشاد والهداية؟
أو المعنى: «لا يوصّله إلى غايته»116، وإذا لم يصل إلى غايته فقد بطل، وفشل، ولم يحقق غايته.
أو أن المعنى: «لا يصلح»117، وفي عدم صلاحه إبطال له.
أو المعنى: «قال: لا يقرب»118، فكيف يصل من لا يقرب؟
أو المعنى: « لا يرشد من خان أمانته»119، وما دام فقد إرشاد الله له فكيف يصل إلى مبتغاه، أو ينال مناه؟
وقد دلت الآية الكريمة على عدد من الدلالات فيما يخص إبطال الكيد، منها: أنهم يفتضحون في الدنيا قبل الآخرة، وأن الله يخليهم لذواتهم، ويتركهم لقدراتهم البشرية، فلا يعينهم ولا يرشدهم، ولا يهديهم ولا يسدّد فعلهم.
ومبالغة في نفي وصول الخائنين إلى مبتغاهم، أو تحصيلهم نوالهم وردت الصيغة البنائية في الآية الكريمة بهذه الصورة، موقعة الفعل على الكيد، لا على الفعل، فلم يقل القرآن الكريم: (لا يهديهم) أو (لا يهدي فعلهم)، بل قال: (ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ)؛ كأن الكيد نفسه لن يهتدي، بل هو مثل أصحابه تائه ضال، لن يصل إلى غايته، فهو مبطل من البداية.
كما قال علماء التفسير: «أوقع الفعل على الكيد مبالغة»120، فسبحان من هذا كلامه.
ثالثًا: الإهلاك:
ومن عقوبات الله تعالى للخائنين أنه يعاجلهم بالهلكة، ويمكّن منهم من نقضوا عهده وخانوه، ووردت الآيات الكريمة مبيّنة ذلك، ومن ذلك قوله تعالى: (ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴﭵ ﭶ ﭷ ﭸ) [الأنفال: ٧١].
لقد وعد الله رسوله بأنه تعالى يتمكن من الخائنين، ويقهرهم ويخزيهم، وينصرك عليهم، وهذه سنة ماضية في الناس إلى يوم القيامة؛ لأن من سنته تعالى في الخائنين -كما سبق- أنه لا يحبهم، ولا يهديهم، ويعاجلهم بالعقوبة، ومعنى أمكن منهم أي: «أمكنكم أنتم أيها المؤمنون منهم فقتلتموهم وأسرتموهم»121.
والتذييل في الآية الكريمة له دلالة بديعة كعادة القرآن في تذييله؛ حيث ورد هنا صفتان من صفات الله تعالى، هما (عليم)، (حكيم)، وهما -كما لا يخفى- متناسبتان تمام التناسب مع الوعد بالإمكان من الخائنين؛ فهو عليم بهم، حكيم في تمكينك منهم؛ حتى لا يعلو الباطل على الحق، وحتى تمضي سنة الله تعالى في ردع الخائنين، والإمكان منهم.
وقد فعل تعالى بالمشركين في بدر «فأمكنك -يا رسول الله- منهم وأظهرك عليهم يوم بدر، حتى قهرتهم وأسرتهم. (ﭶ ﭷ) بخلقه، (ﭸ) حيث أمكنك منهم، يعني إن خانوك أمكنتك منهم؛ لتفعل بهم مثل ما فعلت من قبل»122.
وهذا من روائع القرآن الكريم وأسراره في التعبير؛ إذ يعبر عن المعنى بلفظ محدد له ظلال مقصوده، وهذا ما يسميه البلاغيون: العدول، حيث يترك القرآن لفظًا ويعبّر بآخر اختيارًا؛ لما للمختار من دلالة تتناسب مع السياق والمعنى المقصود للآية.
وفي ذلك من التطيب والتسرية والتطييب بالتهنئة والطمأنة ما فيه؛ «بأن ضمن لهم، إن خانهم الأسرى بعد رجوعهم إلى قومهم ونكثوا عهدهم وعادوا إلى القتال، بأن الله يمكّن المسلمين منهم مرة أخرى، كما أمكنهم منهم في هذه المرة، أي: إن ينووا من العهد بعدم العود إلى الغزو خيانتك، وإنما وعدوا بذلك لينجوا من القتل والرق، فلا يضركم ذلك، لأن الله ينصركم عليهم ثاني مرة»123.
وقد تطابق المسطور والمنظور في ذلك، في تمكين الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم ممن خانوه بعد وعد بعدم القتال ضده، كالشاعر ابن عزة الجمحي، «فإنه سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم المنّ عليه بغير شيء؛ لفقره وعياله، وعاهده على أنه لا يظاهر عليه أحدًا، ثم خان فظفر به في غزوة حمراء الأسد عقب يوم أحد أسيرًا، فاعتذر له وسأله العفو عنه فقال: (لا، لا يلدغ المؤمن من جحر واحد مرّتين) وأمر به فضربت عنقه»124.
وكما ورد الوعد بالإمكان منهم هنا ورد في قوله تعالى: (ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ)[ الحج: ٣٨].
وفي الآية الكريمة وعد بالدفاع عن الذين آمنوا، وتعليل لهذا الدفاع بأنه لا يحب كل خوّان كفور.
وفي تذييل الآية (ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ) «تعليل لما في ضمن الوعد الكريم من الوعيد للمشركين وإيذان بأن دفعهم بطريق القهر والخزي. وقيل: تعليل للدفاع عن المؤمنين ببغض المدفوعين على وجه يتضمن أن العلة في ذلك الخيانة والكفر، وأوثر (ﰆ ﰇ) على يبغض تنبيهًا على مكان التعريض وأن المؤمنين هم أحباء الله تعالى»125.
ومما يؤيد تأييد الله تعالى لمن وقعت في حقه الخيانة، وأنه ينصرهم على الخائنين، ويهلك هؤلاء الخونة بمغبة أفعالهم، إذنه تعالى للمؤمنين بالقتال، وتلك سنة الله في الخيانة، لا تتبدل ولا تتغير، «وما دام هناك الخوّان والكفور فلابدّ للسماء أن تؤيّد رسولها، وأن تنصره في هذه المعركة أولًا، بأن تأذن له في القتال، ثم تأمره بأخذ العدة والأسباب المؤدية للنصر، فإن عزّت المسائل عليكم، فأنا معكم أؤيدكم بجنود من عندي»126.
وفي هذه الآية إشارة لطيفة بترك المدفوع عن المؤمنين عامًّا مطلقًا، وجعل سياقها يشير إلى الخيانة، وذلك بشارة عظيمة للمؤمنين الذين يتعرضون للخيانة، بأنه عز وجل متكفل بالدفاع عنهم.
إن هلاك الخائنين ليس في الدنيا فقط، بالنصر عليهم وقهرهم وخزيهم، بل في الآخرة أيضًا، حتى يقال لهم: ادخلوا النار مع الداخلين، وقد أكد القرآن الكريم ذلك، حتى مع من كانوا أشد الناس قربًا من المرسلين، كامرأة نوح وامرأة لوط، إذ قال الله تعالى فيهم صراحة: (ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ) [التحريم: ١٠].
لقد جعلهم الله مثلًا يضرب، ونموذجًا مطلقًا على هلاك الخائنين مهما كانت مكانتهم، ومهما كان قربهم؛ لأن عداوتهم لهم وكفرهم بالله ورسوله قطع العلائق، وبتّ الوصل وجعلهم أبعد من الآمال، وإن كان المؤمن الذي يفصل به الكافر سائر أنبياء الله بحال امرأة نوح وامرأة لوط لما خانتا ونافقتا الرسولين عنهما بحق ما بينهما وبينهما من وصلة الأزواج أغنى من عذاب الله، وقيل لهما عند موتهما، أي: يوم القيامة: ادخلا النار مع سائر الداخلين الذين لا وصلة بينهم وبين الأنبياء ومع داخلها من إخوانكما من قوم نوح وقوم لوط.
وبذلك وضع القرآن قاعدة عامة في هلاك الخائنين مهما كانوا، بل صيّرهم مثلًا لغيرهم، «وقطع الله بهذه الآية طمع كل من يركب المعصية أن ينفعه صلاح غيره، ثم أخبر أن معصية غيره لا تضره إذا كان مطيعًا»127.
ويبيّن الإمام البقاعي -رحمه الله- سر القاعدية والسننية في هذا الإهلاك للخائنين في الدارين، وضرب الله بهم مثلًا، وأنهم لم تنفعهم قراباتهم، كما لا تضر المسلمين قراباتهم من الكافرين بأنه: «لما كان أمر الاستئصال في الإنجاء والإهلاك أشبه شيء بحال أهل الآخرة في الدينونة بالعدل والفضل، وكان المفتتح به السورة عتاب النساء، ثم أتبع بالأمر بالتأديب لجميع الأمة إلى أن ختم بهلاك المخالف في الدارين، وكان للكفار قرابات بالمسلمين وكانوا يظنون أنها ربما تنفعهم، وللمسلمين قرابات بالكفار وكانوا ربما توهموا أنها تضرهم، قال مجيبًا لما يتخيل من ذلك تأديبًا لمن ينكر عليه صلى الله عليه وسلم من النساء وغيرهن ضرب الله المثل بهؤلاء في عدم انتفاعهم مع كفرهم بما بينهم وبين المؤمنين من الوصل والعلائق، فيغلّظ عليهم في الدارين معاملة بما يستحقون من غير محاباة لأحد، وإن جل مقامه، وعلا منصبه ومرامه»128.
وتلك عقوبات الله تعالى للخائنين، حرمان من الهداية، وحرمان من محبة الله تعالى ومودته، وإبطال كيدهم، وإهلاك لا يتخلف ولا يتأجل، وتلك سنن الله الماضية، وعقوبته العاجلة، وناموسه الذي لا يتخلف، فليتعظ من خان ربه أو رسوله أو أمانة أو عرضًا، وليبادر بالتوبة النصوح قبل حلول الأجل، فسنة الله لا تنتقي ولا تنتخب، بل ماضية ما مضى الجديدان، دائمة ما كرّ الملوان، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
موضوعات ذات صلة: |
الأمانة، العهد، الميثاق، النفاق، الوفاء |
1 مقاييس اللغة، ابن فارس ٢/٢٣١.
2 تهذيب اللغة، الأزهري ٣/ ٢٥.
3 انظر: تهذيب اللغة ٧/ ٢٣٧، مختار الصحاح، الرازي ص١٩٦، لسان العرب ٧/٢٨٥.
4 المفردات ص ٣٠٥.
5 بصائر ذوي التمييز ٢/ ٥٨٢.
6 انظر: المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، محمد فؤاد عبد الباقي ص١٣٦- ١٣٩.
7 انظر: نزهة الأعين النواظر، ابن الجوزي ص٢٨١، مقاييس اللغة، ابن فارس ٢/ ٢٣١.
8 المحرر الوجيز، ابن عطية ٢/ ٦٣٥.
9 انظر: العين، الفراهيدي، ص٤٧٠، مقاييس اللغة، ابن فارس، ٥/٢٦٣، ٣٤٥، لسان العرب، ابن منظور، ٥/١٨٤.
10 المصدر السابق.
11 التعريفات، ص٢٢٧.
12 انظر: القاموس المحيط، الفيروزآبادي، ص٣١٦.
13 التعريفات، الجرجاني، ص١٨٩.
14 بصائر ذوي التمييز ٥/ ١٠٤- ١٠٥.
15 التعريفات، الجرجاني ص٣١١.
16 المفردات ص ٣٠٥، التوقيف على مهمات التعاريف ص ١٦٢.
17 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٤/ ٩٤.
18 جامع البيان، الطبري ١١/ ٢٨٧.
19 جامع البيان ١٤/ ٧٥.
20 في ظلال القرآن ٣/ ١٥٥٤.
21 انظر: الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل ٢/ ٢٣٩.
22 التحرير والتنوير ١٠/ ٨١.
23 المصدر السابق ١٠/ ٨٢.
24 تفسير ابن أبي حاتم ٥/ ١٦٨٤.
25 جامع البيان ١٤/ ٧٥.
26 الوجيز، الواحدي ص ٤٤٩.
27 تفسير ابن أبي حاتم ٥/ ١٦٨٤.
28 الكشف والبيان ٩/ ٣٥١.
29 النكت والعيون ٦/ ٤٦.
30 نظم الدرر ٨/ ٥٧.
31 التفسير الميسر ٤/١٥٢.
32 الجامع لأحكام القرآن ٩/٢٠٩.
33 تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص ٤٠٠.
34 أيسر التفاسير، ١/ ١٦٦.
35 تفسير ابن عرفة ٢/٥٥١.
36 الكشف والبيان ٣/٣٨٢.
37 التحرير والتنوير ٢/١٨٣.
38 المحرر الوجيز ٢/١٣٠.
39 انظر: اللباب في علوم الكتاب، ابن عادل ٧/٧، روح المعاني، الألوسي ٤/٢١٩.
40 مجموع فتاوى ابن تيمية ١٤/٤٣٨.
41 انظر: جامع البيان ١١/ ١٢٤.
42 انظر: المصدر السابق ١١/ ١٢٥.
43 أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره ٦/ ٢٩٠.
44 النكت والعيون ٢/ ٣١١.
45 تفسير القرآن، السمعاني ٢/ ٢٥٩.
46 النكت والعيون، الماوردي ٢/ ٣١١.
47 لطائف الإشارات، القشيري ١/ ٦١٨.
48 تأويلات أهل السنة، النيسابوري ٥/ ١٨٣.
49 في ظلال القرآن ٣/ ١٤٩٧-١٤٩٨.
50 النكت والعيون ٢/ ٣٢٨.
51 اللباب في علوم الكتاب ٧/٤٢.
52 انظر: المصدر السابق ٧/٢٥٤.
53 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٣/ ٦٦.
54 البحر المحيط، أبو حيان ٣/ ٢٧٩.
55 أحكام القرآن، ابن العربي ٢/ ٤٧٤.
56 تفسير الشعراوي ٢/٦٦٤.
57 أحكام القرآن، ابن العربي ٢/٤٧٤.
58 الشوقيات ١/ ٣٩.
59 في ظلال القرآن، سيد قطب ٢/٢٣٤.
60 أحكام القرآن، الجصاص ٣/٢٦٦.
61 المصدر السابق ٣/ ٢٦٤.
62 البحر المديد، ابن عجيبة ١/٤٨٢.
63 الكشف والبيان، الثعلبي ٣/٣٨٢.
64 مجموع فتاوى ابن تيمية ١٤/٤٤٥.
65 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٤/ ٧٩.
66 النكت والعيون، الماوردي ٢/ ٣٢٨.
67 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٤/ ٧٩.
68 أخرجه أحمد في مسنده ٢٨/٢٢٩، رقم ١٧٠١٥. وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، ٥/٤٧٢، رقم ٢٣٥٧.
69 انظر: جامع البيان، الطبري ١١/ ٢٣٩، تفسير القرآن، السمعاني ٢/ ٢٧٤.
70 انظر: تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص ٣٢٤.
71 في ظلال القرآن، سيد قطب ٣/١٥٤٢.
72 تفسير القرآن، السمعاني ٢/ ٢٧٤.
73 محاسن التأويل، القاسمي ٥/٣١٣.
74 المصدر السابق ٥/ ٣١٤.
75 البحر المحيط ٥/ ٣٤٠.
76 تفسير المنار، محمد رشيد رضا ١٠/ ١٢٧.
77 الفن ومذاهبه في النثر العربي، شوقي ضيف ص٣٢٨.
78 البحر المديد، ابن عجيبة ٣/ ١١٤.
79 اللباب في علوم الكتاب، ابن عادل ١/ ٢٧٤.
80 التفسير الميسر، مجمع الملك فهد ص٣٧٧.
81 النكت والعيون، الماوردي ٣/ ٤٧.
82 تفسير ابن أبي زمنين ١/ ٣٠٧.
83 انظر: التحرير والتنوير، ابن عاشور ١٢/٢٩٣.
84 تفسير الشعراوي ٣/١٦٣٥.
85 روح البيان، إسماعيل حقي ٦/ ١١٩.
86 زاد المسير، ابن الجوزي ٢/٤٤٨.
87 المفردات، الراغب الأصفهاني ص ٤٤٣.
88 البحر المديد، ابن عجيبة ٦/٣٦٥.
89 التفسير الميسر، مجمع الملك فهد ص١٨٧.
90 النكت والعيون، الماوردي ٦/ ٤٧.
91 أنوار التنزيل، البيضاوي ٤/ ٤٣.
92 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٨/ ١٧١.
93 لباب التأويل، الخازن ٧/١٢٣.
94 إعلام الموقعين، ابن القيم ١/٢٢٢.
95 أيسر التفاسير، الجزائري ٣/ ٢٦٥.
96 المفردات، الراغب الأصفهاني ص٨٦٠.
97 التوقيف، المناوي ص ٢٩٩.
98 بصائر ذوي التمييز، الفيروزآبادي ٢/ ٤١٦.
99 البحر المديد، ابن عجيبة ٢/ ٣٦٨.
100 التحرير والتنوير، ابن عاشور ١٠/ ٥٣.
101 الدر المصون، السمين الحلبي ٥/٦٢٢.
102 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير ٤/ ٧٩.
103 مفاتيح الغيب، الرازي ٧/ ٤٢١.
104 أخرجه أحمد في مسنده ٢٨/٢٢٩، رقم ١٧٠١٥.
وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، ٥/٤٧٢، رقم ٢٣٥٧.
105 السراج المنير، الشربيني ١/ ٤٥٦.
106 تفسير الشعراوي ٣/١٢٠٥.
107 زهرة التفاسير، أبو زهرة ٦/٣١٧٢.
108 التنوير والتحرير، ابن عاشور ٢٤/ ٨٣.
109 اللباب في علوم الكتاب، ابن عادل ١٤/٩٩.
110 في ظلال القرآن، سيد قطب ٣/٤٣١.
111 روح المعاني، الألوسي ١٣/ ٧٤.
112 تفسير الشعراوي ٦/٢٦١٥.
113 البحر المديد، ابن عجيبة ٣/٣٩٣.
114 التحرير والتنوير، ابن عاشور ١/٣٥٣.
115 التفسير الميسر ص ١٥٢.
116 تفسير الشعراوي ٩/٤٤٢٧.
117 اللباب في علوم الكتاب، ابن عادل ١/٢٧٤.
118 تفسير ابن أبي حاتم ٤/ ٣٤٥.
119 الوجيز، لواحدي ١/٥٥٠.
120 أنوار التنزيل، البيضاوي ١/٢٩٤.
121 أيسر التفاسير، الجزائري ٣/ ٢٧٦.
122 تفسير السمرقندي ٢/ ٢٠٩.
123 التحرير والتنوير، ابن عاشور ١٠/ ٨١.
124 السراج المنير، الشربيني ١/ ٤٦١.
125 روح المعاني، الألوسي ١٣/ ٧٤.
126 تفسير الشعراوي ٥/٢٦١٥.
127 أنوار التنزيل، البيضاوي ٥/ ٣٥٨.
128 نظم الدرر، البقاعي ٨/ ٥٧.