عناصر الموضوع
الخلق
المعنى اللغوي والاصطلاحي:
الخاء واللام والقاف أصلان: أحدهما تقدير الشيء، كقولهم: فلان خليق بكذا، وأخلق به، أي: ما أخلقه، أي: هو ممن يقدّر فيه ذلك، وأما الأصل الثاني فملاسة الشيء، كقولهم: صخرة خلقاء، أي ملساء. ويقال: اخلولق السحاب، أي: استوى، ومن هذا الباب أخلق الشيء وخلق، إذا بلي. وأخلقته أنا: أبليته1.
«والخلق في كلام العرب: ابتداع الشيء على مثال لم يسبق إليه، وكل شيء خلقه الله فهو مبتدئه على غير مثال سبق إليه»2، وعلى هذا فالخلق المقصود في هذا البحث على معنيين: أحدهما: الإنشاء على غير مثال أبدعه، والآخر: التقدير.
ثانيًا: المعنى الاصطلاحي:
لم يوقف على معنى الخلق اصطلاحًا عند أيٍّ من المتقدمين، ولا حتى المتأخرين، ومن ثمّ فإنه تمّ وضع تعريف له بالاعتماد على أصله اللغوي، حيث يكون تعريفه اصطلاحًا: «كل ما أوجده الله سبحانه في العالمين، مما علمه البشر وما لم يعلموه، مع تقدير الله تعالى لكل هذه الموجودات»، وإنما ذكرت الشمولية في الإيجاد في قول الباحث: «كل ما أوجده الله سبحانه»؛ حتى يجمع التعريف ذكر كل المخلوقات، وذكرت جملة «العالمين، مما علمه البشر وما لم يعلموه»؛ لبيان أن هناك عالمين لا يعلمها البشر، والله تعالى خالقها، فهو (ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ)[الزمر: ٦٢].
وذكرت جملة «مع تقدير الله تعالى لكل هذه الموجودات»، فهو الله تعالى الذي نقرّ بأنه خالق كل شيء، ومالكه، القادر على ما يشاء، المقدّر لجميع الأمور، المتصرف فيها، المدبّر لها، ليس له في ذلك كله شريك3.
وردت مادة (خلق) في القرآن الكريم (٢٥٢) مرة4.
والصيغ التي وردت هي:
الصيغة |
عدد المرات |
المثال |
الفعل الماضي |
١٥٧ |
(ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ) [البقرة:٢٩] |
الفعل المضارع |
٢٧ |
(ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ) [آل عمران:٤٧] |
اسم فاعل |
١٢ |
( ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ) [الرعد:١٦] |
اسم مفعول |
٢ |
(ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ) [الحج:٥] |
مصدر |
٥٢ |
(ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ) [البقرة:١٦٤] |
صيغة المبالغة |
٢ |
(ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ) [الحجر:٨٦] |
وجاء الخلق في القرآن على أربعة أوجه5:
الأول: الدّين: كما في قوله تعالى: (ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ) [الروم: ٣٠]. يعني: لدين الله.
الثاني: الكذب: قال تعالى: (ﭐ ﭭ ﭮ) [العنكبوت: ١٧]. يعني: تخرصون كذبًا.
الثالث: التصوير: قال تعالى: (ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ) [المائدة: ١١٠]. يعني: وإذ تصوّر من الطين كهيئة الطير.
الرابع: الإيجاد: قال تعالى: ( ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ) [الأنعام: ١]. يعني: أوجدهما ولم يكونا شيئًا.
التصوير:
التصوير لغةً:
صورة كل مخلوق: هيئة خلقته6.
وصوّر الشيء: جعل له صورة مجسمة، أو رسمه على الورق أو الحائط ونحوهما بالقلم أو بآلة التصوير7.
التصوير اصطلاحًا:
التصوير في حق الله عز وجل: جعل الشيء على هيئة معينة.
وفي حق المخلوقين: محاكاة صورة الشيء وتقريبها.
الصلة بين التصوير والخلق:
الخلق إيجاد من العدم، والتصوير جعل هيئة معينة لهذا المخلوق.
الذرء:
الذّرء لغة:
ذرأ الله الخلق، أي: خلقهم8.
الذّرء اصطلاحًا:
لا يختلف معناه الاصطلاحي عن المعنى اللغوي.
الصلة بين الذّرء والخلق:
الذرء مختص بخلق الذرية9.
الإنشاء:
الإنشاء لغةً:
الإنشاء يدلّ على ارتفاعٍ وسموٍّ10، يقال: أنشأ الله الخلق، أي: أحدث وأوجد من عدم11.
الإنشاء اصطلاحًا:
إيجاد الله تعالى لكل المخلوقات من عدم، مع ما يبيّن عظيم قدرة الله تعالى وأنه يعلي ويرفع من يشاء.
الصلة بين الإنشاء والخلق:
يشترك الإنشاء مع الخلق في أن في كل منهما إيجادًا من عدم.
البعث:
البعث لغةً:
البعث: إحياء الله تعالى للموتى12.
البعث اصطلاحًا:
إحياء الله تعالى الأموات وإخراجهم من قبورهم وهم أحياء للحساب وللجزاء13.
الصلة بين البعث والخلق:
بينهما عموم وخصوص؛ فالبعث خلق خاص، يستعمل في إحياء الموتى.
أولًا: إثبات صفة الخلق لله عز وجل:
إن وجود هذا الكون الكبير، وعظمته ودقته، وجماله الباهر، وما فيه من سماوات وأرض، وشمس وقمر، ونجوم وكواكب، وليل ونهار، وجبال وتلال، وبحار وأنهار، إلى غير ذلك من المخلوقات التي لا تعد ولا تحصى، سواءٌ كانت مرئيةً لنا أو غير ذلك؛ لتدل على أن لهذا الكون المبهر خالقًا واحدًا ينزّه عن كل صفات النقص والعيب، وينزّه كذلك عن كل ما يشبه صفات المخلوقين. فهذا الخالق يتصف بكل صفات الكمال المطلق في ذاته العلية، وصفاته الجليلة، وفي أفعاله القديرة.
يقول الله تعالى: (ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦw ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ²)[البقرة: ٢١- ٢٢].
فالله سبحانه أمر العباد بعبادته جل وعلا، وأتبع هذا الأمر بما يدل على وجوده تعالى، -وهو الخالق الصانع- من خلق الناس المخاطبين، وخلق الذين كانوا من قبلهم، وخلق السماء، وخلق الأرض، وخلق الثمرات من الماء النازل من السماء إلى الأرض14.
ويقول عزّ وجلّ: (ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ)[الأعراف: ٥٤].
ففي هذه الآية يبيّن الله سبحانه صفات ربوبيته من خلق السماوات والأرض، واستوائه سبحانه على العرش، وتغشية الليل والنهار، وجعل الشمس والقمر والنجوم مسخراتٍ بأمره جل وعلا، وبعد أن ذكر تدبيره لهذا الكون، أتبعه بأن الخلق والأمر له وحده سبحانه، حيث قال: (ﮞ ﮟ ﮠ ﮡﮢ).
ومعلومٌ أن تقديم شبه الجملة من الجار والمجرور على المبتدأ يفيد الحصر والقصر، فقد أخبر الله تعالى أن الخلق والأمر له وحده، فيختصان به لا بأحدٍ غيره15.
وقال الألوسي في تفسيره: «ففي ذلك إشارة إلى أنهما -الخلق والأمر- طبق الحكمة وفي غاية الكمال، ولا يقال ذلك في غيره تعالى، بل هو صفة خاصة به سبحانه»16.
ثم ختم الله تعالى الآية ببيان أنه رب العالمين، الذي له صفات الكمال المطلق، والمنزّه عن جميع النقائص والعيوب.
وإثبات صفة الخلق والأمر لله تعالى وحده، يستلزم أن يكون خالقها متصفًا بالقدرة التامة، والعلم الشامل، والحكمة البالغة، والإرادة النافذة.
(ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ) أي: تنزه وتقدّس عن كل نقص وعيب، ويدخل في هذا تنزّهه تعالى عن أيّ نقص في خلقه وأمره، وهذا مصداقٌ لقوله تعالى: (ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ) [الملك: ٣].
والمعنى: لا ترى تفاوتًا، أي: نقصًا أو عيبًا أو عدم تناسق في خلق الله تعالى السماوات وغيرها من مخلوقاته عزّ وجلّ.
والمقصود من هذا هو التعريض بالمشركين؛ لأنهم أضاعوا النظر في الكون، والاستدلال بما فيه على وحدانية الله تعالى بما تشاهده أعينهم من نظام دقيق ومحكم.
وإضافة الخلق إلى اسم (الرحمن) يدل على «أن هذا النظام مما اقتضته رحمته بالناس؛ لتجري أمورهم على حالة تلائم نظام عيشهم؛ لأنه لو كان فيما خلق الله تفاوت، لكان ذلك التفاوت سببًا لاختلال النظام، فيتعرض الناس بذلك لأهوال ومشاق»17.
وعند قوله تعالى: (ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ) [الفرقان: ٢] قال الطبري: «يقول تعالى ذكره: فأفردوا أيها الناس لربكم الذي نزّل الفرقان على عبده محمد نبيه صلى الله عليه وسلم الألوهية، وأخلصوا له العبادة دون كلّ ما تعبدونه من دونه من الآلهة والأصنام والملائكة والجنّ والإنس، فإن كلّ ذلك خلقه وفي ملكه، فلا تصلح العبادة إلا لله الذي هو مالك جميع ذلك. وقوله: (ﯯ ﯰ) يقول: فسوّى كل ما خلق، وهيّأه لما يصلح له، فلا خلل فيه ولا تفاوت»18.
والغاية من ذكر الله تعالى لبديع خلقه وصنعه في الكون هي بيان أحقية الله تعالى وحده بالعبادة، وإفراده سبحانه بالسمع والطاعة، كما قال تعالى: (ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ ﰘ ﰙ ﰚ ﰛ)[الطلاق: ١٢].
قال السعدي: «أخبر تعالى أنه خلق الخلق من السماوات السبع ومن فيهن والأرضين السبع ومن فيهن، وما بينهن، وأنزل الأمر، وهو الشرائع والأحكام الدينية التي أوحاها إلى رسله لتذكير العباد ووعظهم، وكذلك الأوامر الكونية والقدرية التي يدبّر بها الخلق، كل ذلك لأجل أن يعرفه العباد ويعلموا إحاطة قدرته بالأشياء كلها، وإحاطة علمه بجميع الأشياء، فإذا عرفوه بأوصافه المقدسة وأسمائه الحسنى وعبدوه وأحبوه وقاموا بحقه، فهذه الغاية المقصودة من الخلق والأمر معرفة الله وعبادته، فقام بذلك الموفّقون من عباد الله الصالحين، وأعرض عن ذلك الظالمون المعرضون»19.
وعبّر باسم الجلالة (الله) في بداية الآية الذي له جميع صفات الكمال التي منها القدرة الشاملة على خلق المخلوقات، فأخبر عن ذلك بما يدل عليه؛ لأن الصنعة تدل على الصانع، فهو وحده الذي أوجد المخلوقات بشكل عام من عدم، وهذا بقدرة الله تعالى على وفق ما دبّر بعلمه سبحانه، فالناس يشاهدون عظمة هذه المخلوقات، ويشهدون أنه لا يقدر عليها إلا من هو تام العلم وكامل القدرة، ألا وهو الله عزّ وجلّ20.
وأخبر الله تعالى في قوله: (ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈYﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑb)[النحل: ٢٠-٢١].
أن الأصنام التي يعبدها المشركون من دون الله تعالى لا تتصف بالخلق؛ بل هي مخلوقة وليست خالقة، فهي جمادات لا أرواح فيها، ولا تسمع ولا تبصر، ولا تملك لنفسها نفعًا ولا ضرًّا، فكيف يعبدها هؤلاء المشركون، وهم أفضل منها بالحياة!21.
فأين العقول والأبصار التي تعتبر وتتّعظ ببديع خلق الله تعالى وصنعه المتقن، كما قال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ)[البقرة: ١٦٤].
أي: إن هذه المخلوقات الوارد ذكرها في الآية هي لقوم «ينظرون بعيون عقولهم ويعتبرون بها، فيستدلون بهذه الأشياء على قدرة موجدها، وحكمة مبدعها، ووحدانية منشئها»22.
ولما كانت صفة الخلق من أبرز صفات الله عز وجل، كان له اسمان مشتقان منها، وهما: الخالق والخلاق.
فأما الخالق:
قال الزجاج: «الخالق: أصل الخلق في الكلام: التقدير، يقال: خلقت الشيء خلقًا، إذا قدّرته. فالخلق في اسم الله تعالى هو ابتداء تقدير النشء، فالله تعالى خالقها ومنشئها ومتمّمها ومدّبرها»23.
وقال د.سعيد القحطاني في معنى الخالق: «الذي خلق جميع الموجودات وبرأها، وسوّاها بحكمته، وصوّرها بحمده وحكمته، وهو لم يزل ولا يزال على هذا الوصف العظيم»24.
إذًا فالخالق هو الذي أوجد جميع الأشياء بعد أن لم تكن موجودة، وقدّر أمورها في الأزل بعد أن كانت معدومة، ويكون أيضًا بمعنى أنه هو الذي ركّب الأشياء تركيبًا، ورتّبها بقدرته ترتيبًا.
وقد ورد اسم الله تعالى (الخالق) اثنتي عشرة مرة في القرآن الكريم، وهو على صيغة اسم الفاعل، وتدل مادته على معنيين رئيسين:
الأول: إيجاد الشيء من العدم، أو ابتداع مخلوق جديد ليس له سابق.
ولا شك أن هذا المعنى خاص بالله تعالى، ولا يشاركه فيه أحد، ومن هذه الآيات على سبيل المثال لا الحصر: قوله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ)[الأنعام: ١٠٢].
وقوله: (ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ)[غافر: ٦٢].
وقوله: (ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ)[فاطر: ٣].
الثاني: التهيئة والتقدير والتشكيل والتجميع والتركيب والتصنيع والتكوين.
ومن هذه الآيات على سبيل المثال لا الحصر: قوله تعالى: (ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ)[المؤمنون: ١٤].
وقوله: (ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ)[الصافات: ١٢٥].
والخلق على هذا المعنى يدخل فيه البشر، أي: أن الإنسان صنع الشيء من المادة التي خلق الله تعالى أصلها، فما ينسب إلى الإنسان وعقله البشري من خلق أشياء مبهرة، فهذا يعني أنه صنعها وركّبها من أشياء موجودة مخلوقة من الله تعالى، ويبقى العقل البشري من مخلوقات الله تعالى.
إذًا فالله تعالى هو الذي خلق المادة التي هي أصل الأشياء، كما خلق عقل الإنسان، وما أودع فيه من ذكاء وموهبة، استخدمها ذلك العقل في مجال التكنولوجيا وغيرها، ويبقى الله تعالى هو الخالق وحده.
فالإنجازات العلمية العديدة ما هي إلا مكتشفات صنعها وركّبها العقل البشري، أما أصل هذه الإنجازات فالله تعالى هو خالقها من العدم.
وإن معنى الخالق قائمٌ على المعنيين معًا.
وأما الخلاّق:
ورد ذكر هذا الاسم مرتين في القرآن الكريم، وهما: (ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ)[الحجر: ٨٦].
وقوله: (ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ) [يس: ٨١].
وكلمة (الخلاّق) صيغة مبالغة على وزن (الفعّال).
قال ابن عاشور في تفسير آية سورة يس: «أي: هو يخلق خلائق كثيرة، وواسع العلم بأحوالهم ودقائق ترتيبها»25.
والفرق بين الاسمين أن (الخالق): اسم فاعل، وهو الذي ينشئ الشيء من العدم بتقدير وعلم، ثم بتصنيع وخلق عن قدرة. فالخالق هو الذي قدّر بعلم، وصنع بقدرة، فخلق من عدم.
أما (الخلاّق): صيغة مبالغة من الخالق الموصوف بخلق غيره، وهو الذي يبدع في الخلق كمًّا وكيفًا بقدرته الشاملة المطلقة، ومن ثم فإن صفة الخلّاق أبلغ من صفة الخالق.
ومن المعلوم أن منهج السلف الصالح في أسماء الله تعالى الحسنى هو التسليم بها دون تكييف أو تأويل أو تعطيل أو تشبيه، فإن شرح هذين الاسمين قائم على معرفة معناه بما يتعبّد به، وبما يكون الإيمان من خلاله بما دلّت عليه هذه الصفات من المعاني العظيمة؛ فهو مختص بالذات العليّة26.
يقول الله تعالى: (ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ)[المؤمنون: ١٢-١٤].
والمعنى: إن الله تعالى شرع في بيان أصل النوع الإنساني، وهو آدم عليه الصلاة والسلام، فقد خلقه الله تعالى، ثم جعل نسله نطفًا في أصلاب الآباء، ثم قذفت في أرحام الأمهات، فصارت في حرزٍ حصين من أول وقت الحمل إلى حين وقت الولادة، ثم تطور خلق النطفة فأصبحت علقة، وهي الدم الجامد المتعلق بجدار الرحم، ثم أصبح هذا الدم الجامد مضغة، أي: قطعة لحم صغيرة بمقدار ما يمضغ، ثم صارت هذه المضغة عظامًا، ثم جعل الله تعالى اللحم كسوة لهذه العظام، ثم أنشأه الله تعالى وخلقه خلقًا آخر مباينًا ومختلفًا عن الخلق الأول، حيث نفخ فيه الروح، فصار كائنًا حيًّا بعد أن كان جمادًا لا روح فيه، وأصبح سميعًا بصيرًا ناطقًا، كما أودع فيه الله عزّ وجلّ من غرائب الخلق وعجائبه ما لا يعد ولا يحصى ظاهرًا وباطنًا27.
(ﯗ ﯘ) أي: تعالى شأنه في علمه الشامل، وقدرته الباهرة، وذكر اسم الجلالة (الله)؛ وذلك «لتربية المهابة، وإدخال الرّوعة، والإشعار بأنّ ما ذكر من الأفاعيل العجيبة من أحكام الألوهيّة، وللإيذان بأنّ حقّ كلّ من سمع ما فصّل من آثار قدرته عزّ وعلا أو لاحظه أن يسارع إلى التّكلّم به إجلالًا وإعظامًا لشؤونه تعالى»28.
وكلمة (ﯙ): على وزن (أفعل) التفضيل، أي: أحسن الخالقين خلقًا، بمعنى المقدّرين تقديرًا، وحذف المميز لدلالة كلمة (ﯚ) عليه29.
وإن هذا لا يعني أن هناك خالقين غيره، وأن الله تعالى هو الأفضل فهذا كفر، ولن يكون ذلك مراد القرآن، وإنما يعني إعطاء البرهنة الكاملة على عظيم قدرة الله تعالى، وأنه خلق فأحكم وأتقن.
ومعنى البركة في قوله: (ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ) يرجع إلى المعاني الآتية:
ثانيًا: إقرار المشركين بالخلق لله تعالى:
سبقت الإشارة إلى أن الخلق صفة من الصفات الربوبية لله تعالى، وهو يدخل تحت القسم الأول من أقسام التوحيد، وهو توحيد الربوبية، ويقصد به: «توحيد العبد ربه سبحانه بأفعاله الصادرة منه، كالخلق، والرزق، والإحياء، والإماتة، وإنزال المطر، وإنبات النبات، والنفع والضرر، وتدبير جميع الأمور إلى غير ذلك من أفعال الرب سبحانه »31.
وقد كان المشركون في عصر النبوة يعتقدون أن هذه الأمور هي من خصائص الله تعالى، ويقرّون ويعترفون أن أصنامهم التي كانوا يعبدونها من دون الله تعالى لا تملك لنفسها نفعًا ولا ضرًّا، فكيف تمتلكه لمن يعبدها، فهي لا تنزل الغيث، ولا تأتي بالرزق، ولا تملك موتًا ولا حياة ولا نشورًا، كما أنها لا تسمع ولا تبصر، فكانوا يعترفون أن الله تعالى هو وحده المتفرد بهذه الأمور، لكنهم جعلوا لله تعالى شركاء يعبدونهم من دونه عزّ وجلّ، فيزعمون أنهم ما يعبدونها إلا لتقرّبهم إلى الله زلفى، فتشفع لهم عند الله تعالى في الرزق والنصر وسائر الأمور الدنيوية، فقال الله تعالى فيهم: (ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ)[الزمر: ٣].
والمعنى: إن هؤلاء المشركين لم يخلصوا العبادة لله تعالى وحده؛ بل كانت شائبةً بعبادة غيره من الأصنام والملائكة وعيسى عليه الصلاة والسلام معتقدين أنهم لا يعبدونها لشيء من الأشياء إلا لتقرّبهم إلى الله تعالى تقريبًا32.
ولما كان حال المشركين في ناحية العبادة متخذين الأنداد والشركاء من دون الله تعالى، يدعونهم ويستغيثون بهم، ويطلبون منهم حاجاتهم الدنيوية، استخدم معهم القرآن الكريم أسلوب تقرير المخاطبين بطريق الاستفهام عن الأمور التي يسلّمون بها حتى يعترفوا بما يشركون، وهو صورة من صور المناظرات التي استخدمها القرآن في الرد على الخصوم ليلزم به أهل العناد33.
ومن الأمثلة على ذلك: الاستدلال بالخلق على وجود الخالق كما في قوله تعالى: (ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱBﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺKﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ Sﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ^ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓdﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛlﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡrﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ}ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ§)[الطور: ٣٥-٤٣].
وكذلك الاستدلال بالمبدأ على المعاد، كما في قوله تعالى: (ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ)[ق: ١٥].
كما دلّ القرآن الكريم في مواطن عدة من سوره على إقرار المشركين بربوبية الله تعالى مع إشراكهم به في العبادة، ومن هذه الآيات: قوله تعالى: (ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ)[الزمر: ٣٨].
وقوله تعالى: (ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ)، وقوله: (ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ)[الصافات: ١١].
ويظهر من هذا أن جميع الخلق مفطورون على الإقرار والاعتراف بربوبية الله عزّ وجلّ، حتى المشركين أنفسهم، كما مرّ في الآيات السابقة وغيرها، ويصدّق هذا الكلام قوله تعالى على لسان أنبيائه ورسله حين قالوا لأقوامهم الذين بعثوا إليهم: (ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ)[إبراهيم: ١٠].
حتى فرعون نفسه الذي قال: (ﭹ ﭺ ﭻ)[النازعات: ٢٤].
كان مقرًّا ومعترفًا بربوبية الله تعالى في قرارة نفسه، لكنه تجاهل هذه الفطرة، وتظاهر بإنكار الله تعالى، ويدل على هذا قوله تعالى على لسان موسى عليه الصلاة والسلام حين قال له: (ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ)[الإسراء: ١٠٢].
وقوله تعالى عن فرعون وقومه: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ)[النمل: ١٤].
لكن مع هذا الإقرار العام من المشركين إلا أن توحيدهم كان ناقصًا، لا ينقلهم إلى دائرة الإيمان؛ بل حكم الله تعالى عليهم بأنهم كافرون مشركون، فقال تعالى: (ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ) [يوسف: ١٠٦].
فقد ذكر القرطبي أن الآية نزلت في تلبية مشركي العرب، فكانوا يقولون في تلبيتهم: لبيك لا شريك لك، إلا شريكًا هو لك، تملكه وما ملك34، وورد أنهم كانوا إذا قالوا هذه التلبية، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (ويلكم قد قد)35.
قال ابن كثير36: «أي حسب حسب، وقال اللّه تعالى: (ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ)[لقمان: ١٣].
وهذا هو الشّرك الأعظم أن يعبد المرء مع الله إلهًا آخر، كما في الصّحيحين عن ابن مسعودٍ قلت: يا رسول اللّه، أيّ الذّنب أعظم؟ قال: (أن تجعل للّه ندًّا وهو خلقك)37».
فتوحيد الربوبية وحده لا يكفي إلا ويكون معه توحيد الألوهية؛ حتى ينجو صاحبه من عذاب الله تعالى، بل هو حجة على صاحبه؛ إذ كيف يؤمن بتوحيد الربوبية ويشرك بتوحيد الألوهية! فتوحيد الألوهية من لوازم توحيد الربوبية، وهذا ما نعاه الله تعالى على المشركين إذ قال: (ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ) [الأعراف: ١٩١].
فينبغي على المرء أن يخلص العبادة لله تعالى وحده. قال ابن القيم: «فما كان له سبحانه فهو متعلق بألوهيته، وما كان به فهو متعلق بربوبيته، وما تعلق بألوهيته أشرف مما تعلق بربوبيته، ولذلك كان توحيد الألوهية هو المنجى من الشرك دون توحيد الربوبية بمجرده، فإن عبّاد الأصنام كانوا مقرّين بأن الله وحده خالق كل شيء وربه ومليكه، ولكن لما لم يأتوا بتوحيد الألوهية وهو عبادته وحده لا شريك له لم ينفعهم توحيد ربوبيته»38.
ثالثًا: تنزيه الله تعالى عن التعب والنصب في الخلق:
إن القدرة والخلق صفات كمال، وقد يعتريها النقص بالنسبة للمخلوقين، فعندما يصنع الإنسان شيئًا ما، فإنه يعتريه التعب والإعياء، فيكون هذا نقصًا في الكمال. أما بالنسبة لله عزّ وجلّ، فإنه قد خلق هذا الكون العظيم، وما فيه من مخلوقات عظيمة بما فيها الإنسان الذي يعجز عن إحصائها وعدّها، وخلقه تعالى للكون كان في مدة وجيزة جدًّا، وهي ستة أيام، ومع ذلك لم يصب الله تعالى تعب ولا نصب ولا إعياء.
قال تعالى: (ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ)[ق: ٣٨].
فالآية دليل على عظمة الله سبحانه الذي يقول للشيء: كن فيكون، حيث إن المعنى: ما تعبنا بالخلق الأول حتى نعجز عن الإعادة في الخلق الثاني، كما قال تعالى: (ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ)[ق: ١٥]39.
هذا وقد دلّل الله تعالى على قدرته على الإعادة بعد الموت بأنه خلق السماوات والأرض على عظمهما وسعتهما، وإتقان خلقهما وما فيهما دون أن يكترث بذلك، ولم يصب الله تعالى بخلقها إعياء ولا نصب، فكيف يعجز عن إعادة الناس بعد الموت وهو على كل شيء قدير؟!40.
فقال عزّ وجلّ: (ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ)[الأحقاف: ٣٣].
قال الشوكاني: «الرّؤية هنا هي القلبيّة الّتي بمعنى العلم، والهمزة للإنكار، والواو للعطف على مقدّرٍ، أي: ألم يتفكّروا ولم يعلموا أنّ الّذي خلق هذه الأجرام العظام من السّماوات والأرض ابتداءًا ولم يعي بخلقهنّ أي: لم يعجز عن ذلك ولا ضعف عنه»41.
وإن في الآية ردًّا على اليهود الذين زعموا أن الله سبحانه تعب من الخلق، فاستراح في اليوم السابع وهو يوم السبت.
رابعًا: يخلق ما يشاء:
تكرر قوله تعالى: (ﭦ ﭧ ﭨ) في القرآن الكريم في ستة مواضع.
الموضع الأول: قوله تعالى: (ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ)[آل عمران: ٤٧].
فعندما بشّر الله تعالى مريم عليها السلام بعيسى عليه الصلاة والسلام، تعجّبت واستغربت هذا الأمر؛ وذلك لأنها علمت أنها لن تتزوج أبدًا؛ لأنها كانت محرّرة لله تعالى، مخلصةً له في العبادة، والولد لا يأتي إلا بالزواج، فتمت الإجابة على سؤالها بقوله تعالى: (ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨﭩ) كما ردّ عليها في موضع آخر بقوله: (ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ)[مريم: ٢١].
والتعبير في هذه الآية عن تكوين سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام بالفعل (يخلق)؛ لأن الخلق هو إيجادٌ من عدم، ولا يكون هذا إلا لله تعالى، أما في حق المخلوق فلا يقال: خلق، بل صنع واكتشف وركّب وغير ذلك مما يحمل المعنى نفسه.
الموضع الثاني: قوله تعالى: (ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ)[المائدة: ١٧].
فهذه الآية فيها ذم من الله تعالى للنصارى الذين حادوا عن الطريق المستقيم، فيقسم الله تعالى أنهم كافرون، وكفرهم متمثل في تغطيتهم الحق في تركهم نفي الولد عن الله تعالى، وادعائهم أن المسيح هو الله فريةً وكذبًا عليه، فيأمر الله تعالى نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يقول لهؤلاء الجهلة: لو كان عيسى عليه الصلاة والسلام إلهًا كما تزعمون لاستطاع أن يردّ أمر الله تعالى إذا جاءه بإهلاكه، وإهلاك أمه التي هلكت، ولم يقدر على دفع ما نزل بها، فهذا حجة عليكم في أن المسيح عليه الصلاة والسلام هو بشرٌ كسائر البشر، وأن الله تعالى هو الذي لا يردّ له أمر، ولا يغلب، ولا يقهر؛ بل هو الحي القيوم الذي يحيي ويميت، وهو حيٌّ لا يموت، كما أن الله تعالى له تصريف ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما، يبقي من يشاء، ويهلك من يشاء، لا يمنعه من ذلك مانع، ولا يردّه عن ذلك رادّ؛ بل ينفّذ فيهم أمره، ويمضي فيهم قضاءه، وليس المسيح كما زعموا، فمن كان عاجزًا عن دفع ضر أو سوء أراده به غيره، فكيف يكون إلهًا؟!
بل الإله المعبود بحق هو الذي ملك كل شيء، وبيده تصريف كل ما في السماوات والأرض وما بينهما42.
الموضع الثالث: قوله تعالى: (ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ)[القصص: ٦٨].
والمعنى: أن الله تعالى يخلق ويختار ما يشاء، فالله تعالى: (ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ) [الأنبياء: ٢٣].
وذكر المفسرون احتمال الآية للمعاني الآتية:
الأول: أن هذا متصل بذكر الشركاء الذين يعبدونهم من دون الله تعالى واختاروهم، والمعنى: الاختيار لله تعالى وحده، وليس لهم.
الثاني: المراد من الآية: أنه ليس لأحد من الخلق أن يختار؛ بل الاختيار هو لله تعالى وحده.
الثالث: إن هذه الآية نزلت جوابًا عن اليهود حين قالوا: لو الرسول إلى محمد غير جبريل لآمنّا به43.
والآية مكية، ولم يكن اليهود وجدالهم في الفترة المكية! فالقول الثالث مستبعد!
الموضع الرابع: قوله تعالى: (ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ)[الروم: ٥٤].
يخاطب الله تعالى عباده، ويقول لهم: إن الإله الذي يستحق أن يعبد هو الله تعالى الذي ابتدأ خلقكم من ضعف، فكان الضعف أساس خلقكم، أو خلقكم من أصل ضعيف وهو النطفة، ثم انتقل بكم إلى حال الشباب وبلوغ الأشدّ، ثم جعل بعد القوة حال الضعف والشيخوخة.
وقوله: (ﮋ ﮌ ﮍﮎ ﮏ ﮐ ﮑ) أي: يخلق ما يشاء من ضعف وقوة وشباب وشيبة، فهو العليم بأحوالهم، والقدير على تدبيرهم، والاختلاف في هذه الأحوال دليلٌ بيّن وواضح على وجود الخالق العليم القدير44.
الموضع الخامس: قوله تعالى: (ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ)[الزّمر: ٤].
هذه الآية مسوقةٌ لإحقاق حق، وإبطال باطل، فقد زعم النصارى أن عيسى عليه الصلاة والسلام هو الله تعالى، كما زعم المشركون أن الملائكة بنات الله، تعالى عن ذلك علوًّا كبيرًا، فبيّن الله تعالى استحالة اتّخاذ الولد في حقه تعالى، فلو أراد الله سبحانه أن يتخذ ولدًا لاتّخذ من جملة ما يخلق ما يشاء، ثم أكّد الله تعالى تنزّهه عن ذلك، فهو الله المتنزه عما زعموه وافتروا به عليه كذبًا وبهتانًا، وهو القهار لكل الكائنات المخلوقة، فكيف يتصوّر أن يتخذ من الأشياء الفانية ما يقوم مقامه؟!45.
الموضع السادس: قوله تعالى: (ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ)[الشورى: ٤٩].
والمعنى: أن الملك الأعظم هو لله عزّ وجلّ وحده، فله ملك السماوات كلها على عظمها وارتفاعها وعلوّها، وله ملك الأرض جميعها على تباينها واتساعها وتكاثف طبقاتها، فهو تعالى يخلق ما يشاء، وإن كان على غير اختيار العباد، واستدل على مسألة الخلق بما يشاهد من أحوال الناس في تفضيلهم للأولاد الذكور على الإناث اللواتي كانوا يعدونهن من البلاء في الجاهلية، فبيّن الله تعالى أنه يهب لمن يشاء إناثًا فقط دون أن يكون بينهن ذكر، كما يهب لمن يشاء الذكور فقط دون أن يكون بينهم أنثى، أو لا يهب أيّ الصنفين لأحد فيجعله عقيمًا لا يولد له. وبهذه الأصناف الأربعة تمت الدلالة على أن الله تعالى هو القادر على كل شيء46.
وبعد استعراض هذه المواضع الستة، يتبيّن أن الخلق من صفات الربوبية لله عزّ وجلّ، وهي صفة كمال، فالله سبحانه إذا أراد شيئًا كان ولا رادّ له، وما لم يشأ لم يكن ولا مكوّن له، ولا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع. ويلاحظ من ذلك أيضًا أن مفعول المشيئة محذوف في كل المواضع، ويقدر حسب السياق الذي ورد فيه.
خامسًا: يخلق ما لا يعلمون:
إن الله تعالى كما كانت له القدرة التامة على خلق ما يشاء، فكذلك له القدرة على خلق ما لا يعلمه الناس.
يقول الله تعالى في هذا: (ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ) [النحل: ٨].
فبعد أن عدّد الله تعالى مجموعة من النعم التي أنعمها على عباده من خلق السماوات والأرض، وخلق الإنسان، وخلق الأنعام، وعدّد ما فيها من منافع ومصالح للناس، ففيها دفء من ناحية اتخاذ أصوافها وأوبارها وأشعارها وجلودها من الثياب والفرش والبيوت، كما تنتفعون بها بالأكل، ولكم فيها جمال تتجمّلون به في وقت راحتها وسكونها، ووقت حركتها وسرحها، كما ذلّلها لكم بركوبها فتحملكم إلى البلد الذي تقصدونه، وتحمل أحمالكم الثقيلة إلى البلاد البعيدة، فسبحانه هو الذي سخّر لكم ما تحتاجونه، فله الحمد على ذلك، ثم خصّ الخيل والبغال والحمير بالذكر لاستخدامها في الركوب تارة، ولأجل الجمال والزينة تارة أخرى.
ثم قال: (ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ)، أي: «مما يكون بعد نزول القرآن من الأشياء، التي يركبها الخلق في البر والبحر والجو، ويستعملونها في منافعهم ومصالحهم، فإنه لم يذكرها بأعيانها؛ لأن الله تعالى لا يذكر في كتابه إلا ما يعرفه العباد، أو يعرفون نظيره، وأما ما ليس له نظير في زمانهم فإنه لو ذكر لم يعرفوه ولم يفهموا المراد منه، فيذكر أصلًا جامعًا يدخل فيه ما يعلمون وما لا يعلمون»47.
ويقول في موضع آخر: (ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ)[يس: ٣٦].
ويذكر النخجواني في تفسيرها: «(ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ) وقدّر الأصناف المتوالدة المتزايدة برمتها (ﮮ ﮯ ﮰ) من الشجر والنبات بأجناسهما وأنواعهما وأصنافهما، (ﮱ ﯓ) أي: ذكورهم وإناثهم أنواعًا وأصنافًا وأشخاصًا، وكذا من جميع ما يعلمون من أجناس الحيوانات وأنواعها وأصنافها، وممّا لا يعلمون أيضًا من المخلوقات التي لا اطلاع لهم عليها؛ إذ ما من مخلوق إلا وقد خلق شفعًا، إذ الفردية والوترية والصمدية لواجب الوجود، والقيومية المطلقة من أخص أوصاف الربوبية والألوهية لا شركة فيها للمصنوع المربوب أصلًا»48.
وهكذا فإن الله عزّ وجلّ يخلق ما يشاء مما نعلم ومما لا نعلم، فهناك مخلوقات عديدة لله تعالى يقصر العقل البشري عن علمها وتعدادها وحصرها، ومهما بلغ هذا العقل من التقدم والرقي إلا أنه يبقى عاجزًا عن علم جميع مخلوقات الله تعالى التي خلقها أول الخلق، والتي يخلقها إلى قيام الساعة.
سادسًا: الحكمة من اقتران الخلق بالحق:
ورد ذكر الحق مرتبطًا بخلق السماوات والأرض في اثنتي عشرة آية، وجميع السور الواردة فيها تلك الآيات مكية، كما وردت آية مكية تثبت أن خلق السماوات والأرض لم يكن باطلًا، وهي قوله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ)[ص: ٢٧].
فمعنى هذه الآية كما «قال ابن عبّاسٍ: لا لثوابٍ ولا لعقابٍ. (ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ) يعني أهل مكة هم الذين ظنوا أنهما خلقا لغير شيءٍ، وأنّه لا بعث ولا حساب، (ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ)»49.
وهذا يدلل على أن خلق السماوات والأرض بالحق في مفهومها الواضح العام ناسبت العهد المكي؛ لتناسبه مع الملامح العامة له، ويمكن التمثيل على ذلك بقوله تعالى: (ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮﯯ ﯰ ﯱﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸﯹ ﯺ ﯻ ﯼﯽ ﯾ ﯿ ﰀ) [الأنعام: ٧٣].
فيكون معنى الآية: «وهو الذي خلق السماوات والأرض بقوله: (كن) المقترنة بالقدرة التي بها يقع إيجاد المخلوق بعد عدمه، فعبّر عن ذلك بالحقّ»50، حيث إن أعظم ملامح العهد المكي في آياته القرآنية هو إثبات البعث والخلود، وبالتالي فإن خلق السماوات والأرض يثبت عمليًّا لأصحاب العقول أن الذي خلقهما حال كونها بالحق الراسخ قادرٌ على إحياء الخلق بعد مماتهم، ومن ثم مجازاتهم، وقد ورد الخلق مقترنًا بالحق في معرض الحديث عن تنزيه الله تعالى عن الشريك، ومن ثم إنكار البعث، كما في قوله تعالى: (ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ)[النحل: ٣].
فمعنى هذه الآية أن الله تعالى خلق السماوات والأرض، وهما إلى زوال وفناء، ولكن خلقهما بالحق؛ للدلالة على قدرته عزّ وجلّ، وأنه من حقه على عباده أن يطيعوه، ومن الحق الذي له أنه يحيي الخلق بعد الموت، فهو الخالق تنزّه عما يشركون من الأصنام، التي لا تقدر على خلق أي شيء51.
وقد وردت آيتان مكيتان تثبتان أن الله تعالى لم يخلق السماوات والأرض عن لعب، ولا تعب من خلقهما، فالآية الأولى هي قوله تعالى: (ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ)[الأنبياء: ١٦].
أي: لم يخلق السماوات والأرض وما بينهما «إلا حجة عليكم أيها الناس، ولتعتبروا بذلك كله، فتعلموا أن الذي دبره وخلقه لا يشبهه شيء، وأنه لا تكون الألوهية إلا له، ولا تصلح العبادة لشيء غيره، ولم يخلق ذلك عبثًا ولعبًا»52.
وأما الآية الثانية فهي قوله تعالى: (ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ)[ق: ٣٨].
أي: ما مسّ الخالق وما أصابه إعياء؛ لأن الذي يستريح هو المريض المرهق، وتعالى الله عزّ وجلّ عن ذلك علوًّا كبيرًا53.
وهذه الآية دليل واضح على قدرته تعالى على كل شيء، وأنه لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وبالتالي ليس غريبًا أن يكون البعث الذي يجازى فيه الخلق جميعًا.
وليس معنى ما ذكر في الآيات المكية من مدلولات وحكمٍ وأحكامٍ أن الآيات المدنية خلت من ذلك، ولكن ذلك يعني أن ما تمتاز به الآيات المكية المذكورة، وما لم تذكر هو تلك السمات العقدية التي ذكرت، وقد وردت آيةٌ مدنيةٌ تثبت أن خلق السماوات والأرض لم يكن باطلًا، ولكن السياق يدلل هذا الرّسوخ الإيماني الذي تمتع به أولو الألباب أصحاب العقول النيّرة، جعلهم يقرّون بهذه الحقيقة الإيمانية، بأن الله رب كل شيء ما خلق السماوات والأرض باطلًا، فإن ذلك سيصير بإذن الله تعالى إلى الميعاد، وربّنا سبحانه هو المنزّه عن أي نقص، ثم يدعو هؤلاء المتفكرون في خلقهما بأن ينجوا من عذاب النار، مع كامل الخضوع والتذلل والانكسار والتفويض لأمر الله تعالى54، والآية هي قوله تعالى: (ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ)[آل عمران: ١٩١].
تتناول هذه السطور نماذج من بدايات الخلق، مثل: خلق السموات والأرض، وخلق سيدنا آدم عليه السلام، وأن الله تعالى خلق مخلوقات قبل السماوات الأرض، وقبل سيدنا آدم عليه السلام، منه ما علمه البشر، ومنه ما لم يعلموه.
أولًا: خلق السماوات والأرض:
لقد تحدثت آيات كثيرة من القرآن الكريم عن خلق السماوات والأرض مع مجموعة من المخلوقات الأخرى التي أنعم الله تعالى بها على عباده.
ومنها قوله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ)[البقرة: ١٦٤].
وقوله تعالى: (ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ)[الروم: ٢٢].
وقوله تعالى: (ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ)[الشورى: ٢٩].
في حين حدّدت بعض الآيات المدة الزمنية لخلق السماوات والأرض وما بينهما، فكانت في ستة أيام.
ومن هذه الآيات: قوله تعالى: (ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ)[الأعراف: ٥٤].
وقوله تعالى: (ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ)[السجدة: ٤].
وعن ابتداء الخلق يروي أبو هريرة رضي الله عنه قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فقال: (خلق الله تعالى التربة يوم السبت، وخلق فيها الجبال يوم الأحد، وخلق الشجر يوم الاثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء، وبث فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم عليه السلام بعد العصر من يوم الجمعة في آخر الخلق في آخر ساعة من ساعات الجمعة فيما بين العصر إلى الليل)55.
وإن هذا لا يعني أن هناك تعارضًا بين آية خلق السماوات والأرض في ستة أيام، وهذا الحديث الذي يبين أنه خلق السماوات والأرض وما بينهما في سبعة أيام؛ فتكون الإجابة من عدة جوانب، منها:
إن العدد لا مفهوم له، ومن ثمّ فإنه قد لا ينحصر الأمر عند ستة أيام.
إن الخلق الأساس قد يكون في ستة أيام، أما التفاصيل فتقتضي أوقاتًا أكثر، والله أكبر وأعز وأعلم؛ لأن الله تعالى خالق كل شيء ومقدّره، وهو الذي خلق الأسباب، وله القدرة المطلقة على تحويلها كيفما يشاء.
وعن مسألة أيّهما أسبق في الخلق: السماء أم الأرض؟ ناقش هذه المسألة موضعان من كتاب الله تعالى، وهما: (ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐa ﮒ ﮓ ﮔeﮖ ﮗ ﮘ ﮙjﮛ ﮜ ﮝ ﮞoﮠ ﮡ ﮢ ﮣtﮥ ﮦwﮨ ﮩ ﮪ})[النازعات: ٢٧-٣٣].
فهذه الآيات تبيّن أن السماء أسبق في الخلق من الأرض، والمعنى: أن الله تعالى يذكر دليلًا واضحًا بيّنًا لمنكري البعث، ومستبعدي إعادة إحياء الله تعالى للأجسام الميتة، فيقول الله تعالى: أأنتم أيها البشر أشد خلقًا أم السماء ذات الجرم العظيم، والخلق القوي، والارتفاع الباهر، فقد بناها الله سبحانه، ورفع جرمها وصورتها، وسوّاها بإحكام دقيق، وإتقان يذهل أولي الألباب، كما أظلم ليلها، فعمّت الظلمة أرجاء السماء، وأظلم كذلك وجه الأرض، كما أخرج في السماء النور العظيم عندما خلق فيها الشمس، فانتشر الناس في النهار ينتفعون بمصالحهم، وأمور دينهم ودنياهم، ثم بعد ذلك خلق الأرض، وأودع فيها منافعها من الماء والمرعى، وتثبيت الجبال لها، فالذي خلق السماوات العظام وما فيها، وخلق الأرض الكثيفة وما فيها، لابد أن يبعث الخلق المكلّفين بعبادته، فيجازيهم على أعمالهم56.
أما قوله: (ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ± ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰÃ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ)[فصلت: ٩-١٢].
ففيه يذكر أن الأرض أسبق في الخلق من السماء، والظاهر أن هناك إشكالًا في المعنى يتعارض مع آيات النازعات، ولكن معنى آيات فصّلت: أن الله عزّ وجلّ أمر نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم بتوبيخ المشركين الذين يكفرون بالله تعالى، وهو خالق السماوات والأرض، وكما سبقت الإشارة فإن المشركين يعترفون أن الله تعالى هو الخالق، ولكنهم يشركون في العبادة معه غيره من الأصنام والأوثان.
فبيّن الله تعالى في هذه الآيات أنه خلق الأرض في يومين، ثم جعل الجبال في الأرض رواسي لتثبيتها، وبارك الله تعالى فيها بما خلق من المنافع وإنبات الشجر، وخلق البحار والأنهار والدواب، كما قدّر فيها أرزاق أهلها وما يصلح لعيشهم من التجارات والأشجار والمنافع في كل بلدة ما لم يجعله في بلدة أخرى، فكل هذه الأمور خلقها الله تعالى في تتمة أربعة أيام أخرى.
ثم خلق الله تعالى السماء، وسوّاها، ثم أمر السماء والأرض أن تأتيا بما خلق فيهما من المنافع والمصالح للخلق.
وعلى هذا المعنى، فإن الله تعالى قال ذلك لهما بعد خلقهما، وهو قول الجمهور، فقالتا: أتينا طائعين، فانقادا وأجابا لأمر الله تعالى، فقضى السماوات وجعلهن سبعًا، وأكمل بناؤهن، ثم أوحى الله تعالى في كل سماء أمرها، وزيّن السماء الدنيا بنجوم تضيئها، وحفظها الله تعالى من الشياطين الذين يسترقون السمع57.
والناظر في هذين الموضعين يرى أن آيات السورتين توهم في ظاهرهما الإشكال والتعارض، ولكن حبر الأمة ابن عباس رضي الله عنهما أزال هذا التعارض حين أتى إليه رجل، وقال له: إني أجد في القرآن أشياء تختلف عليّ، وعدّ له أربع مسائل، كان من ضمنها مسألة أيهما أسبق: خلق السماء أم الأرض؟ وساق له الآيات التي ذكرناها، فأجابه ابن عباس قائلًا: «وخلق الأرض في يومين ثمّ خلق السّماء، ثمّ استوى إلى السّماء فسوّاهنّ في يومين آخرين، ثمّ دحا الأرض، ودحوها أن أخرج منها الماء والمرعى، وخلق الجبال والجمال والآكام وما بينهما في يومين آخرين فذلك قوله: (ﮞ) وقوله: (ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ) فجعلت الأرض وما فيها من شيءٍ في أربعة أيّامٍ، وخلقت السّماوات في يومين»58.
وخلاصة القول: إن خلق الأرض نفسها كان في يومين، وكان متقدمًا على خلق السماء، ثم كان خلق السماء وما فيها من أنوار وأجرام في يومين آخرين، ثم كان دحو الأرض المخلوقة وخلق ما فيها من ضروريات الخلق ومنافعهم في يومين آخرين. وهكذا تكون السماوات خلقت وما فيها في يومين، وخلقت الأرض وما فيها في أربعة أيام، والله تعالى أعلم، وقد سبقت الإشارة إلى عظيم قدرة الله تعالى في تحويل الأسباب.
ثانيًا: خلق آدم عليه الصلاة والسلام:
بعد أن خلق الله تعالى السماوات والأرض وما فيهما، خلق آدم عليه الصلاة والسلام يوم الجمعة الذي هو خير أيام الله تعالى كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة؛ فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها)59.
وكان الله تعالى قد خلقه من تراب، كما قال تعالى: (ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ)[آل عمران: ٥٩].
أي: خلقه من تراب دون أب ولا أم؛ بل بكلمة (ﯕ) فكان آدم عليه الصلاة والسلام 60.
وورد في حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قدر الأرض، جاء منهم الأحمر والأبيض والأسود، وبين ذلك، والسهل والحزن، والخبيث والطيب)61.
وشرّف الله تعالى آدم عليه الصلاة والسلام حين خلقه بيده، ونفخ فيه من روحه، فقال تعالى: (ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ)[ص: ٧٥].
والمعنى: ما منعك يا إبليس عن السجود لآدم الذي تولّيت خلقه بنفسي من غير واسطة أب أو أم؟62، فخلقه الله تعالى في صورة بديعة وشكل حسن، حيث قال تعالى: (ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ)[السجدة:٧].
ثم علّمه الله تعالى جميع مسميات الأسماء، فقال تعالى:(ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ)[البقرة:٣١].
ففضّله على جميع خلقه، حتى الملائكة، فأمرها الله تعالى بالسجود له عليه الصلاة والسلام سجود تكريم، فقال تعالى: (ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ)[البقرة: ٣٤].
وبعد ذلك خلق الله تعالى له زوجه حواء، فقال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ)[النساء: ١].
فالله تعالى خلق حواء من ضلع آدم عليه الصلاة والسلام كما في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (استوصوا بالنّساء؛ فإنّ المرأة خلقت من ضلعٍ، وإنّ أعوج شيءٍ في الضّلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج، فاستوصوا بالنّساء)63.
ثم أمره الله تعالى هو وزوجه أن يسكنا في الجنة، ويأكلا منها ما شاءا، ولكن الله تعالى نهاهما عن أن يقربا شجرة عيّنها لهم، فإنهما إن قرباها وأكلا منها فسوف يكونان من الظالمين لأنفسهم، لكن الشيطان استزلّهما، وأوقعهما في الخطيئة، فأكلا من الشجرة التي نهيا عنها، فخرجا من الجنة التي كانا ينعمان فيها، حينئذ أمرهما الله تعالى بالهبوط من الجنة إلى الأرض، فهي موضع الاستقرار لهم، فلما شعر آدم عليه الصلاة والسلام بالذنب، علّمه الله تعالى كلمات يقولها، فيتوب الله تعالى عليه ويغفر له ذنبه64.
وقد ذكر القرآن الكريم هذه الحادثة، فقال تعالى: (ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ¹ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼÏ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉÜ)[البقرة: ٣٥-٣٧].
نتناول هنا بعضًا من المعالم المتعلقة بالخلق، والتي يشير إليها القرآن الكريم عند حديثه عن الخلق، ومن تلك المعالم.
أولًا: الزوجية:
إن قاعدة الزوجية تمثّل قاعدة مهمة من قواعد الخلق في هذه الأرض، وهناك العديد من الآيات القرآنية التي جاءت تدلل على هذه القاعدة، وهي في الوقت نفسه دليل على صدق النبي عليه الصلاة والسلام، وأن القرآن من لدن حكيم خبير.
فالمعرفة التي كانت موجودة في زمن النبي عليه الصلاة والسلام لا تمكّن من الكشف عن قاعدة الزوجية في الأحياء، فضلًا عن ميادين الوجود المختلفة، أما اليوم وفي ظل هذا التقدم العلمي المشهود، والاكتشافات الكونية المتسارعة في المجالات المختلفة، استطاع العلماء الكشف عن أشكال التزاوج والارتباط في كافة ميادين الحياة، ابتداءًا بالذرة وانتهاءً بالمجرة؛ مما يؤكّد صدق الوحي والنبوة.
ومن الآيات التي تقرّر هذه القاعدة قوله تعالى: (ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ) [الذاريات: ٤٩].
ففي هذه الآية حقيقة عجيبة تكشف عن قاعدة الخلق في هذه الأرض، وهي قاعدة الزوجية في الخلق، وهي ظاهرة في الأحياء، ولكن كلمة (ﯽ) تشمل غير الأحياء أيضًا، فالتعبير يقرّر أن الأشياء كالأحياء، مخلوقة على أساس الزوجية65.
ومعنى قوله تعالى: (ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ): قيل: مصطحبين ومتلازمين، إشارة إلى المتضادات والمتقابلات من الأشياء كالليل والنهار، والشقوة والسعادة، والهدى والضلالة، والأرض والسماء، والسواد والبياض، والصحة والمرض، والكفر والإيمان ونحو هذا.
وقيل: هي إشارة إلى الأنثى والذكر من كل كائن حي، ويدل على ذلك قوله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ)[النجم: ٤٥]66.
ورجّح الطبري القول الأول؛ لأنه دليل على قدرته تعالى على خلق الشيء وخلافه67.
وختمت الآية بقوله تعالى: (ﰀ ﰁ) أي: لتعلموا أيها المشركون أن الخالق الذي يستوجب العبادة واحد لا شريك له، هو القادر على خلق الشيء وخلافه، وابتداع زوجين من كل شيء، بخلاف ما لا يقدر على ذلك.
وهو دليل على المغايرة بين المخلوق والخالق، فهو المتفرد في ذاته وصفاته وأفعاله، حيث يدرك الناس تفرّد الخالق من خلال ما يشاهدون من ظواهر تزاوج الأشياء وتركيبها، وارتباطاتها، وتوازناتها على نحو يستحيل معه العبث، والارتجال، والمصادفة68.
وخلق الكون يقوم على مبدأ الزوجية، وقد جاءت الآيات مدلّلة على ذلك، ومن مخلوقات الكون التي يتمثل فيها مبدأ الزوجية النباتات.
قال تعالى: (ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ)[الرعد: ٣].
يقول سيد قطب: «إن كل الأحياء وأولها النبات تتألف من ذكر وأنثى، حتى النباتات التي كان مظنونًا أن ليس لها من جنسها ذكور، تبين أنها تحمل في ذاتها الزوج الآخر، فتضم أعضاء التذكير وأعضاء التأنيث مجتمعة في زهرة، أو متفرقة في العود، وهي حقيقة تتضامن مع المشهد في إثارة الفكر إلى تدبر أسرار الخلق بعد تملي ظواهره»69.
و«قيل: إنه تعالى أول ما خلق العالم وخلق فيه الأشجار خلق من كل نوع من الأنواع اثنين فقط، فلو قال: خلق زوجين، لم يعلم أن المراد النوع أو الشخص، أما لما قال: (ﮑ) علمنا أن الله تعالى أول ما خلق من كل زوجين اثنين، لا أقل ولا أزيد، والحاصل أن الناس فيهم الآن كثرة إلا أنهم لما ابتدءوا من زوجين اثنين بالشخص هما آدم وحواء، فكذلك القول في جميع الأشجار والزرع»70.
ثانيًا: الأطوار:
يعدّ خلق الإنسان من آيات الله العظيمة، خاصة إذا علمنا أن كل طور من الأطوار التي مرّ فيها خلق الإنسان هو آيةٌ ودليلٌ على صدق الوحي والنبوة، فالقرآن الكريم أخبر عن هذه الأطوار قبل أن تتوصل إليها الاكتشافات العلمية الحديثة.
وإذا أردنا الحديث عن المراحل والأطوار لخلق الإنسان لابد لنا من تقسيمه إلى قسمين:
الأول: مراحل خلق الإنسان الأول (آدم عليه الصلاة والسلام).
والثاني: مراحل خلق نسله (خلق الإنسان في بطن أمه)، وذلك كما يأتي:
١. مراحل خلق الإنسان الأول (آدم عليه الصلاة والسلام).
وهو ذلك المركّب من تراب وماء الذي يتكوّن منه جسد الإنسان، فبداية خلق الإنسان من التراب كما قال تعالى: (ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ)[آل عمران: ٥٩].
ومن الماء الذي يدخل في خلق كل شيء حي، قال تعالى: (ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ)[الأنبياء: ٣٠].
فإذا اختلط التراب مع الماء أصبح طينًا، قال تعالى: (ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ) [السجدة: ٧].
وقال أيضًا: (ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ)[المؤمنون: ١٢].
«والمراد به جنس الإنسان وأصله من خلاصة سلّت من طين، أو أول أفراده وهو آدم عليه الصلاة والسلام، وهذا دليل كاف على قدرة الله تعالى ووحدانيته، واتصافه بكل صفات الكمال»71.
وقد وصف الله تعالى هذا الطين باللازب، (ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ)[الصافات: ١١]. أي: اللاصق، وقيل: اللازق، والفرق بينهما أن اللاصق: هو الذي قد لصق بعضه ببعض، واللازق: هو الذي يلتزق بما أصابه، وقيل: اللازب اللزج72.
ويذكر سيدنا النبي صلى الله عليه وسلم أن قبضة التراب التي خلق منها آدم كانت من جميع الأرض؛ لذلك خرجت ذريّته متفرّعة متنوّعة مختلفة، منها الأسود والأبيض، والطويل والقصير، والصالح والطالح، قال عليه الصلاة والسلام: (إنّ اللّه تعالى خلق آدم من قبضةٍ قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قدر الأرض، فجاء منهم الأحمر والأبيض والأسود وبين ذلك، والسّهل والحزن والخبيث والطّيّب)73.
وهي المرحلة الثانية بعد الطين، فإذا ترك الطين أصبح حمأ مسنونًا، قال سبحانه: (ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ)[الحجر: ٢٦].
والحمأ: الطين الذي تغيّر واسودّ لونه من طول مجاورة الماء، ومسنون: اختلف أهل التفسير في معناه، فقيل: مصوّر من سنة الوجه، أو منصوب لييبس ويتصوّر، كأنه أفرغ الحمأ فصوّر منها تمثال إنسان أجوف، أو منتن من سننت الحجر على الحجر إذا حككته به، فإن ما يسيل بينهما يكون منتنًا74.
فبعد أن أصبح الطين حمأ مسنونًا يجف بعدها، ويصبح صلصالًا كالفخار، قال تعالى: (ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ)[الرحمن: ١٤].
فالصلصال: الطين اليابس، والفخار: الخزف الذي طبخ بالنار، والمعنى: أنه خلق الإنسان من طين يشبه في يبسه الخزف75.
في المراحل الثلاث الأولى لا روح في آدم عليه السلام، فإن الله تعالى خلق آدم عليه السلام من طين وصوّره، ثم صار صلصالًا؛ أي: يبس الطين بعد تصويره، ثم نفخ الله الروح في جسد آدم عليه الصلاة والسلام.
قال تعالى: (ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣt ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ~)[ص: ٧١- ٧٢].
وإضافة الروح إلى نفسه تعالى دليل على أنه جوهر شريف علوي قدسي76.
[انظر: آدم: خلق آدم]
٢. مراحل نسل آدم عليه الصلاة والسلام (خلق الإنسان في بطن أمّه).
بيّنت لنا الآيات الكريمة المراحل والأطوار التي يمر فيها خلق الإنسان وهو في بطن أمه، فكما أن القرآن الكريم تحدّث عن مراحل خلق الإنسان الأوّل، كذلك تدرّج في الحديث عن خلق سلالة هذا الإنسان، ومن الآيات التي تشير إلى هذه المراحل قوله تعالى: (ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ)[الحج: ٥].
وقوله تعالى: (ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛl ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ sﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ) [المؤمنون: ١٢-١٤].
فهذه الآيات وغيرها توضّح الأطوار التي يمرّ فيها خلق الإنسان، فبعد أن خلق آدم عليه الصلاة والسلام وخلقت حواء من ضلعه، تبيّن الآيات مراحل خلق نسله، وأول هذه المراحل:
وهي اختلاط ماء الرجل -الذي يحمل ملايين الحيوانات المنوية- مع ماء المرأة فتكون النطفة.
قال تعالى: (ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ)[النحل: ٤].
وقال أيضًا: (ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ)[الإنسان: ٢].
أمشاج: أي ماء الرجل، وماء المرأة يختلطان في الرحم فيكون منهما الولد77، وهي أول مرحلة من مراحل خلق الإنسان، ثم تأتي المرحلة الثانية وهي:
وهي الدم المتجمد78، وسميت بذلك لكونها تعلق في جدار الرحم، فبعد أن يلقح الحيوان المنوي البويضة في رحم المرأة في مدة أربعين يومًا، تتحوّل النطفة إلى دم متجمد، يلتصق بجدار الرحم مدة أربعين يومًا أيضًا، حتى تتحول إلى الطور الثالث وهو:
وهي القطعة الصغيرة من اللّحم بقدر ما يمضغ، وهذا الطور يمر بمرحلتين: المضغة غير المخلّقة، والمضغة المخلّقة، فالمضغة في أول أمرها تكون غير مخلّقة، أي: غير ظاهر فيها شكل الخلقة، ثم تكون مخلّقة، والمراد: تامة الخلقة بتشكيل الوجه ثم الأطراف79، ثم يأتي الطور الرابع وهو:
وفي هذا الطور تتحول قطعة اللحم إلى هيكل عظمي، ثم يأتي الطور الخامس وهو:
حيث يغطّى العظم بما يستره ويشدّه ويقوّيه، وهو اللحم؛ لأن اللحم يستر العظم، فجعل كالكسوة له.
يقول سيد قطب في معرض حديثه عن هذا الطور: «وهنا يقف الإنسان مدهوشًا أمام ما كشف عنه القرآن من حقيقة في تكوين الجنين لم تعرف على وجه الدقة إلا أخيرًا بعد تقدّم علم الأجنة التشريحي؛ ذلك أن خلايا العظام غير خلايا اللحم، وقد ثبت أن خلايا العظام هي التي تتكوّن أولًا في الجنين، ولا تشاهد خلية واحدة من خلايا اللحم إلا بعد ظهور خلايا العظام، وتمام الهيكل العظمي للجنين»80، ثم يأتي الطور السادس وهو:
وهو جنين الإنسان ذو الخصائص المتميزة، التي تميّزه عن غيره من المخلوقات، فيكون مستعدًّا للارتقاء والتمييز والتكليف81، فتبارك الله أحسن الخالقين.
أما عن المدة الزمنية لكل طور من الأطوار فقد جاء تحديدها في السنة النبوية، كما في حديث ابن مسعود، وهي أربعون يومًا لكل مرحلة، حتى يكسو الله العظام لحمًا وينشأ خلق آخر، فيستمر هذا الخلق في بطن أمه بقية زمن الحمل، حتى يخرج طفلًا، قال صلّى الله عليه وسلّم: (إنّ أحدكم يجمع خلقه في بطن أمّه أربعين يومًا نطفة، ثمّ يكون علقةً مثل ذلك، ثمّ يكون مضغةً مثل ذلك، ثمّ يبعث اللّه ملكًا فيؤمر بأربع كلماتٍ، ويقال له: اكتب عمله، ورزقه، وأجله، وشقيٌّ أو سعيدٌ، ثمّ ينفخ فيه الرّوح، فإنّ الرّجل منكم ليعمل حتّى ما يكون بينه وبين الجنّة إلّا ذراعٌ، فيسبق عليه كتابه، فيعمل بعمل أهل النّار، ويعمل حتّى ما يكون بينه وبين النّار إلّا ذراعٌ، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنّة)82.
وهكذا خلق الله تعالى الإنسان في عدة أطوار؛ حيث أنشأه بالتدرج طورًا بعد طور حتى صار في أحسن تقويم، وهو -جلّ شأنه- قادر على أن يقول له: كن فيكون، ولكنه سبحانه اختار لنفسه سنة التدرج في الإنشاء، وهذه هي سنة الله في خلقه؛ لذلك وجب علينا أن نأخذ هذا التدرج بعين الاعتبار في تربية الإنسان وتنشئته.
[انظر: الإنسان: خلق الإنسان]
ثالثًا: الأجل:
خلق الله تعالى الإنسان وكتب أجله في الدنيا، فالآجال بيد الله تعالى.
قال تعالى: (ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ)[الزّمر: ٤٢].
أي: أن الله يقبض النفس البشرية عند انتهاء آجالها، ويمسك الأنفس التي قضى عليها بالموت الحقيقي، ولا يردها إلى الدنيا، ويرد الأنفس النائمة إلى وقت الموت الحقيقي83.
والأجل: المدة المحدّدة والمضروبة للشيء84، وقد أخبر الله تعالى أنه قضى لعباده أجلين، أجلًا لمدة حياة كل فرد منهم، ينتهي بموت ذلك الفرد، وأجلًا لإعادة الأموات بعد موتهم، وانقضاء عمر الدنيا.
قال تعالى: (ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ) [الأنعام: ٢]85.
واختلف أهل التفسير في معنى الأجلين، فقيل: عن مجاهد وابن عباس: الأول مدة الدنيا، والثاني عمر الإنسان إلى حين موته.
وقيل: الأول قبض الأرواح في النوم، والثاني: قبض الروح عند الموت.
وقيل: الأول ما يعرف من أوقات الأهلة والبروج وما يشبه ذلك، والثاني: أجل الموت.
وقيل: الأول لمن مضى، والثاني لمن بقي ولمن يأتي86.
والآية حمّالة لكل المعاني، والله أعلم بمراده.
وقد جاءت كلمة الأجل في العديد من الآيات القرآنية وتحمل المعاني السابقة، ومن هذه الآيات قوله تعالى: (ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ)[النحل: ٦١].
أي: ولكن يؤخّرهم إلى أجل مسمى ليتوالدوا، وفي تفسير هذا الأجل قولان: القول الأول: وهو قول عطاء عن ابن عباس: أنه يريد أجل القيامة، والقول الثاني: أن المراد منتهى العمر، ووجه القول الأول أن معظم العذاب يوافيهم يوم القيامة، ووجه القول الثاني أن المشركين يؤاخذون بالعقوبة إذا انقضت أعمارهم وخرجوا من الدنيا87.
وقد يأتي الأجل ويحمل معنى وقت نزول العذاب، ومن ذلك قوله تعالى: (ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ)[يونس: ٤٩].
وقوله تعالى: (ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ)[الأعراف: ٣٤].
«أي: وقت معين محدود ينزل فيه عذابهم من الله»88.
كما أن الآجال محسومة لا يزاد فيها ولا ينقص منها، ولن يموت حي حتى يكمل ما له من عمر، وذلك لما روي عن الصادق المصدوق أنه قال: (إنّ أحدكم يجمع خلقه في بطن أمّه أربعين يومًا، ثمّ يكون علقةً مثل ذلك، ثمّ يكون مضغةً مثل ذلك، ثمّ يبعث اللّه ملكًا فيؤمر بأربع كلماتٍ، ويقال له: اكتب عمله، ورزقه، وأجله، وشقيٌّ أو سعيدٌ)89.
[انظر: الأجل: أجل الإنسان]
رابعًا: التفاضل:
شرّف الله تعالى بني آدم وكرّمهم، وفضّلهم، ورفع درجاتهم على غيرهم من سائر مخلوقاته.
قال سبحانه: (ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ)[الإسراء: ٧٠].
ولقد جعل الله تعالى الإنسان خليفته في الأرض، وكان من لوازم كون الإنسان خليفة أن يعمر الأرض في تكافل بين الناس وترابط، ولا يكون ذلك وهم في درجة واحدة.
يقول المولى تعالى: (ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ ﰘ ﰙ ﰚ ﰛ ﰜ ﰝ)[الأنعام: ١٦٥].
كأن من الخلافة أن لا نكون متماثلين متطابقين، بل أراد سبحانه أن نكون مختلفين في المواهب؛ لأن الناس لو كانوا صورة مكررة في المواهب، لفسدت الحياة، فلابد أن تختلف مواهبنا؛ لأن مطلوبات الحياة متعددة، إذًا فلابدّ من أن تتحقق إرادة الله في قوله سبحانه: (ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ)، أي: أنه تعالى خالف بين عباده فجعل بعضهم فوق بعض في الرزق، والعقل، والقوة، والعلم، وهذا التفاوت بين الخلق في الدرجات ليس لأجل العجز، فالله تعالى منزّه عن صفات النقص، وإنما لأجل الابتلاء، فيكون الجزاء أو العقاب منه سبحانه90.
يقول الإمام الشعراوي عند تفسيره لهذه الآية: «إن كل واحد فيكم مرفوع في جهة مواهبه، ومرفوع عليه فيما لا مواهب له فيه؛ لأن الحق يريد أن يتكاتف المخلوقون، ولا ينشأ التكاتف تفضلًا، وإنما ينشأ لحاجة، فلابد أن تكون إدارة المصالح في الكون اضطرارًا، وهذه هي هندسة المكون الأعلى سبحانه»91.
وقد بيّن الله تعالى الهدف والغاية من هذا التفاضل بين الخلق في العديد من الآيات.
قال تعالى: (ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ)[الزّخرف: ٣٢].
فالتفاوت في الرزق جعل هذا مسخّرًا لهذا، والعكس، فعلنا ذلك؛ ليستخدم بعضهم بعضًا في حوائجهم، ويعاون بعضهم بعضًا في مصالحهم، وبذلك تنتظم الحياة، وينهض العمران. ويعم الخير بين الناس، ويصل كل واحد إلى مطلوبه على حسب ما قدّر الله تعالى92.
وبيّن سبحانه أن التفاضل بين البشر كما هو في الدنيا فهو في الآخرة أيضًا، قال تعالى: (ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ)[الإسراء: ٢١].
ففي هذه الآية إشارة إلى هذه الدرجات المتفاوتة بين الناس، فيما أمدّهم به الله سبحانه وتعالى في هذه الدنيا، إذ فيهم من وسّع الله له في الرزق، فملك القناطير المقنطرة من الذهب والفضة، وفيهم من لا يملك شيئًا من ذلك، وبين هؤلاء وأولئك درجات، هذا كلّه في الدنيا، وهم في الآخرة كذلك، درجات متفاوتة، فريق في الجنة، وفريق في السعير، وأهل الجنة درجات، وأصحاب النار دركات، وشتّان ما بين الدنيا والآخرة، وما بين النار والجنة، (ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ) فهي دار البقاء والخلود93.
خامسًا: التنوع في مادة الخلق:
خلق الله تعالى الكون في أبدع صورة، وخلق فيه المخلوقات في صورة تظهر كمال القدرة وتنفي الألوهية عن غيره، فتنوّعت مخلوقاته في مادة الخلق، أما الجن فإن أصل خلقها من نار كما تقرر ذلك الآيات.
قال تعالى: (ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ)[الحجر: ٢٧].
قال ابن عباس في قوله: (ﯛ ﯜ ﯝ) الحارة التي تقتل، وقال ابن مسعود: (ﯝ) التي خلق منها الجان جزء من سبعين جزءًا من نار جهنم94.
وقال أيضًا: (ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ)[الرحمن: ١٥].
والمارج: اللهب الصافي الذي لا دخان فيه، وقيل: هو المختلط بسواد النار95.
أما الملائكة فقد بيّن لنا الرسول صلى الله عليه وسلم أنها مخلوقة من نور، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خلقت الملائكة من نور، وخلق الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم)96.
أما باقي الأحياء على وجه الأرض فقد خلقت من ماء، فالماء هو العنصر الذي خلق الله منه كل شيء سوى الملائكة والجن مما هو حي؛ لأن الملائكة خلقوا من النور، والجانّ خلق من النار كما بيّنا.
قال تعالى: (ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ)[الأنبياء: ٣٠].
ويدخل في قوله تعالى: (ﮡ ﮢ) جسم الإنسان، بل يمكن لنا أن نقول: وقد خلقه الله تعالى من الماء.
يقول الله تعالى: (ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ)[الفرقان: ٥٤].
فعند الحديث عن مراحل خلق الإنسان تبيّن أن الإنسان مخلوق من تراب.
قال تعالى: (ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ) [الروم: ٢٠].
وأضيف إليه الماء فأصبح طينًا، قال سبحانه: (ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ)[الأنعام: ٢].
وقد تحدثت آيات القرآن الكريم عن خلق آدم عليه الصلاة والسلام في أكثر من موضع، تمّ تناولها فيما سبق.
إنّ الله سبحانه وتعالى لم يخلق الخلق سدىً ولا عبثًا؛ وإنّما خلق سبحانه الخلق لغاية عظيمة، وحكمة جليلة، خلق سبحانه الخلق بالحقّ.
قال تعالى: (ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅØ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎá) [الدخان: ٣٨- ٣٩].
وقال سبحانه: (ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩz) [الأحقاف: ٣].
فالخلق كلّه قد خلقه الله تعالى بالحقّ، ولا يخلو خلقٌ خلقه الله من حكمة، علمها من علمها، وجهلها من جهلها، وإنّ من أجلّ تلك الحكم التّنبيه على أنّ لها خالقًا قادرًا حكيمًا97.
إنّ الله سبحانه وتعالى حكيم في فعله وخلقه، عليم بمصالح عباده، لا يصدر عنه إلا الحقّ، فهو العليم الحكيم، وهو اللطيف الخبير، وما خلق الخلق باطلًا، قال سبحانه: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ) [ص: ٢٧].
قال السعدي رحمه الله: «يخبر تعالى أنّه ما خلق السماوات والأرض عبثًا، ولا لعبًا من غير فائدةٍ؛ بل خلقها بالحقّ وللحقّ؛ ليستدل بها العباد على أنّه الخالق العظيم، المدبّر الحكيم، الرحمن الرحيم، الذي له الكمال كلّه، والحمد كلّه، والعزة كلّها، الصادق في قيله، الصادقة رسله فيما تخبر عنه، وأنّ القادر على خلق السماوات والأرض -مع سعتهما وعظمهما- قادر على إعادة الأجساد بعد موتها؛ ليجازي المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته»98.
فهذه بعض الحكم من خلق السماوات والأرض؛ أمّا خلق الإنس والجن فقد بيّن الله سبحانه الغاية من خلقهم، فقال: (ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸI ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂS ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ]) [الذاريات: ٥٦-٥٨].
وقد أنكر سبحانه على من ظنّوا أنّهم خلقوا عبثًا مهملين، لا حساب عليهم، ولا ثواب ولا عقاب فقال: (ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ§ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣµ) [المؤمنون: ١١٥- ١١٦].
وقد بيّن الله تعالى في آيات كثيرة من كتابه العزيز الغاية من خلق الكون، وعرّف عباده مقاصد إيجادهم، وعلة خلقهم، وفيما يأتي بيان لمقاصد خلق الثقلين من الجن والإنس خاصة، أمّا مقاصد خلق المخلوقات الأخرى فنكتفي بما أشرنا إليه.
أولًا: العبادة:
إنّ الله تعالى ما خلق الجنّ والإنس إلا لعبادته، وقد بيّن سبحانه ذلك لعباده أعظم بيان، فقال: (ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸI ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂS ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ]) [الذاريات: ٥٦-٥٨].
فعبادة الله هي الغاية العظمى لخلق الجنّ والإنس؛ فما خلقوا إلا ليستجيبوا لربّهم، وليذعنوا له سبحانه بالطاعة والعبادة؛ وذلك من خلال طاعة رسله، والتزام أمره، واجتناب نهيه، والخضوع لشرعه تعالى99.
فهذا هو المقصد الأعظم من خلق الجنّ والإنس، وهذه هي الغاية الكبرى، وما عدا ذلك من المقاصد والغايات لخلق الثقلين إنّما هو مندرج تحت هذه الغاية الكبرى، وعلى العباد -إن أرادوا الفوز برضوان الله تعالى- أن يحقّقوا تلك الغاية من خلقهم؛ فعليهم أن يعرفوا ربّهم، ويعلموا دينه وشرعه، ويطيعوا رسله، ويسلّموا لأمره، ويجتنبوا معصيته، فإن فعلوا ذلك فقد استجابوا لما أمرهم به ربّهم تعالى، وأصابوا الحكمة من خلقهم في ملكه سبحانه وتعالى.
وقد ذكر المفسرون عدّة أقوال في معنى قوله تعالى: (ﭷ ﭸ)، فقال بعضهم: المعنى ما خلقتهم إلا ليعبدني السعداء منهم ويعصيني الأشقياء؛ فالحكمة المقصودة من إيجاد الخلق -والتي هي عبادة الله تعالى- حاصلة بفعل السعداء منهم دون الأشقياء، وقال بعضهم: معنى (ﭷ ﭸ) أي: إلا ليقرّوا لي بالعبودية طوعًا أو كرهًا؛ لأنّ المؤمن يطيع باختياره، والكافر مذعن منقاد لقضاء ربه جبرًا عليه، وقال بعضهم: معنى (ﭷ ﭸ) أي: إلا لآمرهم بعبادتي؛ فيعبدني من وفّقته منهم لعبادتي دون غيره100.
وقد رجّح الإمام الطبري رحمه الله القول الثاني، والذي ذهب إلى أنّ المراد من الآية: أنّ الله تعالى ما خلق الجنّ والإنس إلا ليذعنوا له سبحانه بالعبوديّة طوعًا أو كرهًا101.
ورجّح القول الأخير جماعة من المفسرين، منهم الإمام الشنقيطي رحمه الله إذ قال: «التحقيق إن شاء الله في معنى هذه الآية الكريمة: (ﭷ ﭸ)، أي: إلا لآمرهم بعبادتي، وأبتليهم، أي: أختبرهم بالتكاليف، ثمّ أجازيهم على أعمالهم؛ إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر، وإنّما قلنا: إنّ هذا هو التحقيق في معنى الآية؛ لأنّه تدل عليه آيات محكمات من كتاب الله؛ فقد صرّح تعالى في آيات من كتابه أنه خلقهم ليبتليهم أيهم أحسن عملًا، وأنه خلقهم ليجزيهم بأعمالهم، فتصريحه جل وعلا في هذه الآيات بأنّ حكمة خلقه للخلق، هي ابتلاؤهم أيهم أحسن عملًا، يفسّر قوله: (ﭷ ﭸ)، وخير ما يفسّر به القرآن القرآن»102.
وما رجّحه الشنقيطي هو الراجح -والله أعلم-؛ فالله تعالى خلق الجنّ والإنس وأراد منهم أن يعبدوه، وهذه إرادة شرعيّة، أي أنّه سبحانه أمرهم بعبادته؛ فيطيعه من وفّقوا للطاعة، ويعصيه من لم يوفّقوا لها، وليست إرادة الله تعالى في الآية إرادة كونيّة؛ إذ لو كانت كذلك للزم أن يكون العباد جميعهم عابدين لله تعالى؛ لأنّ الإرادة الكونية لا تخالف ولا تعارض.
[انظر: العبادة: مكانة العبادة]
ثانيًا: الاستخلاف:
أراد الله تعالى أن يجعل في الأرض خليفة، خلقًا من خلقه يخلف بعضهم بعضًا، قرنًا بعد قرن، وجيلًا بعد جيل103، يقومون بتنفيذ أمر الله تعالى على أرضه، وإمضاء أحكامه104، واختار الله تعالى آدم عليه الصلاة والسلام وذريّته لتلك المهمة العظيمة، وقد أخبر سبحانه ملائكته بذلك الأمر، قال الله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ) [البقرة: ٣٠].
فالمراد بالخليفة في الآية الكريمة: إمّا آدم بتنفيذ أوامره سبحانه، وإمّا أن يكون المراد آدم عليه الصلاة والسلام وذريته، وقال بعض المفسرين: سمّى الله آدم عليه الصلاة والسلام خليفة؛ لأنّه صار خلفًا من الجنّ الذين كانوا يسكنون الأرض قبله105.
ولا شكّ أنّ مقصد استخلاف الإنسان في الأرض تابع لمقصد العبادة لله تعالى؛ إذ إنّ الله تعالى أراد من عباده أن يعبدوه، وجعلهم خلفاء في الأرض ليقوموا عليها بالعبادة المطلوبة منهم، والعبد بعمارته لأرض الله تعالى من خلال تنفيذ شرعه سبحانه، وفعل ما أمر، واجتناب ما نهى عنه وزجر، يكون بذلك قد حقّق العبودية المطلوبة منه لله تعالى؛ إذ إنّ العبادة اسم جامع لكلّ ما يحبه الله تعالى ويرضاه من الأعمال، والأقوال الظاهرة والباطنة.
ثالثًا: الابتلاء:
لقد ذكر الله تعالى في غير آية من كتابه العزيز أنّ المقصد والحكمة من خلق السماوات والأرض، والموت والحياة، هي ابتلاء العباد واختبارهم أيهم أحسن عملًا، فمن هذه الآيات قوله تعالى: (ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ) [هود: ٧].
وقوله تعالى في سورة الكهف: (ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ) [الكهف: ٧].
وفي مطلع سورة الملك: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ* ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢﭣ ﭤ ﭥ ﭦ) [الملك: ١-٢].
ومعنى قوله تعالى: (ﭟ) أي: يختبركم، والاختبار من الله تعالى هو إظهار ما يعلم سبحانه من خلقه106، فهو سبحانه بأمره ونهيه للعباد أراد أن يظهر ما قد علم منهم من طاعة وعصيان، فهو سبحانه يفعل بهم ما يفعل المبتلي107.
ومعنى قوله تعالى: (ﭠ ﭡ ﭢﭣ) أي: كل الصفات التي تجعل العمل أحسن في ميزان الحق فهي واردة هنا، بلا تخصيص بصفة دون غيرها، ولم يقل: أكثر عملًا، بل أحسن عملًا، ولا يكون العمل حسنًا حتى يكون خالصًا لله عز وجل، على شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فمتى فقد العمل واحدًا من هذين الشرطين حبط وبطل 108.
وهذا المقصد من الخلق تابع للمقصد الأكبر، وهو العبادة؛ إذ إنّ أمر الله تعالى عباده بعبادته وطاعته والاستسلام لأمره ونهيه بمنزلة الاختبار والامتحان لهم؛ فمن استجاب لربّه فقد فاز وأفلح، ومن عصى وأدبر فقد خاب وخسر.
رابعًا: الاختلاف:
إنّ من مقاصد خلق الله تعالى للعباد أنّه سبحانه و تعالى أرادهم أن يكونوا مختلفين؛ ولو أراد سبحانه أن يجعلهم مجتمعين على أمّة واحدة لفعل؛ ولكنّه سبحانه أرادهم مختلفين.
وقد أخبر سبحانه وتعالى عن ذلك في قوله: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗﭘ ﭙ ﭚ ﭛ, ﭝ ﭞ ﭟ ﭠﭡ ﭢ ﭣﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ) [هود: ١١٨- ١١٩].
وقد اقتضت حكمته أن لا يزالوا مختلفين، مخالفين للصراط المستقيم، متّبعين للسبل الموصلة إلى النار، كل يرى الحقّ، فيما قاله، والضلال في قول غيره، وقوله: (ﭢ ﭣ) أي: اقتضت حكمته أنّه خلقهم مختلفين؛ منهم المؤمن ومنهم الكافر؛ ليكون منهم السعداء والأشقياء، والمتفقون والمختلفون، والفريق الذين هدى الله، والفريق الذين حقّت عليهم الضلالة؛ ليتبيّن للعباد عدل الله سبحانه وحكمته، ولتقوم سوق الجهاد والعبادات التي لا تتم ولا تستقيم إلا بالامتحان والابتلاء109.
وعلى هذا يمكن الجمع بين الآيتين: الآية الأولى، قوله تعالى: (ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ) [الذاريات: ٥٦].
والآية الأخرى، قوله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗﭘ ﭙ ﭚ ﭛ, ﭝ ﭞ ﭟ ﭠﭡ ﭢ ﭣ) [هود: ١١٨-١١٩].
بأنّ الإرادة -التي أرادها الله تعالى من عباده- في الآية الأولى إرادة شرعيّة، حيث أمر الله تعالى عباده بعبادته وطاعته، والآية الأخرى تدل على الإرادة الكونيّة القدريّة110؛ فالله سبحانه قدّر من الأزل، وكتب عنده في اللوح المحفوظ أنّ الناس سيختلفون، وهذا ما أراده الله تعالى، أراد سبحانه أن يكون له أهل إيمان وطاعة، يجزيهم الجنّة والنعيم، وأراد أن يكون من عباده أهل كفر وضلال، يملأ بهم جهنّم، والله تعالى يفعل ما يريد، (ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ) [الرعد: ٤١].
وهذا المقصد لخلق العباد تابع للمقصد الأكبر وهو العبادة؛ فإنّ الله تعالى خلق العباد وأراد منهم أن يعبدوه، وهو سبحانه يعلم أنّ منهم من يستجيب ويطيع، ومنهم من يأبى ويعصي، ويعلم سبحانه أنّهم سيختلفون، وسيفترقون إلى فريقين؛ فريق السعداء الذين أطاعوا ربّهم، وفريق الأشقياء الذين عصوا أمر ربّهم، وكلّ ذلك أراده الله تعالى.
[انظر: الاختلاف: الاختلاف سنة الله في الخلق]
لا شكّ في أنّ الخلق يدلّ على وجود الخالق، ولا ريب أنّ عظم الخلق يدلّ على عظم الخالق سبحانه وتعالى، وإنّ العبد كلّما تفكّر فيما حوله من مخلوقاتٍ لله تعالى ؛ من سماءٍ، وأرضٍ، وجبالٍ، وأشجارٍ، وأنهارٍ، وأصناف الدّواب والطيور، يزداد إيمانًا بعظمة الخالق سبحانه، بديع السماوات والأرض، الذي فطر هذا الكون (ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ) [الفرقان: ٢].
ولا شكّ أنّ في هذا الخلق العظيم -الذي تعجز عن مجرد تصوّر عظمته واتساعه عقول البشر- لا شكّ أنّ فيه دلالات عظيمة، وبراهين جليلة، لا يغفل عنها إلا من أعمى الله بصره، وأصمّ أذنه، وعطّل عقله، وختم على قلبه.
ولقد مدح الله تعالى عباده الذين يتفكرون في خلق السماوات والأرض، ويستدلون بما حولهم من خلق عظيم، وآيات باهرة على عظيم قدرة ربّهم تعالى، وعلى صدق رسله، وصدق وعده، وتحقق وعيده، قال سبحانه: (ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓd ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩz) [آل عمران: ١٩٠-١٩١].
فخلق الله تعالى فيه دلالات عظيمة، وبراهين بيّنة جليلة، أراد الله تعالى من عباده أن يقفوا عليها، ويسترشدوا بها، وفيما يلي وقفة مع أهم دلالات الخلق.
أولًا: دلالة الخلق على استحقاق الخالق للعبودية:
إنّ الفطر السليمة، والعقول البصيرة تدرك أنّ من خلق وأوجد، واعتنى بخلقه لهو جدير وحده بأن يطاع ويعبد، فكيف يعبد سواه؟! ومن يستحق العبادة إلا إياه؟! وهل يستوي من خلق بمن هو مخلوق لا يملك حتى نفسه؟! (ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧﭨ ﭩ ﭪ) [النحل: ١٧].
وهل يستوي من أبدع هذا الكون وجعل فيه تلك الآيات الباهرة، والنعم المستفيضة بمن لا يقدر على نفع نفسه، قال الله تعالى مخبرًا عن نفسه العلية، ممتنًا على عباده، هاديًا لهم ومرشدًا: (ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯÂ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ, ﭝﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧﭨ ﭩ ﭪ ﭫ) [النحل: ١٤-١٧].
وما أكثر الآيات في كتاب الله تعالى التي يوجّه الله تعالى فيها عباده إلى التأمل والتفكر في ملكوت السماوات والأرض؛ ليعلموا من ذلك عظمة الخالق المبدع، وليعلموا أنّه لا يجوز أن يعبد غيره، ولا ينبغي أن يدعى سواه، (ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦw ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ) [البقرة: ٢١-٢٢].
ففي هذه الآيات وأمثالها في كتاب الله تعالى استدلّ الله تعالى لعباده على وجوب عبادته وحده دون سواه بأنّه سبحانه وحده هو الخالق المدبّر؛ فما دام أنّه سبحانه الخالق، وهو سبحانه الذي خلق العباد من العدم، وأنعم عليهم بالخلق والإيجاد، وأسبغ عليهم نعمه ظاهرة وباطنة، فهو سبحانه المستحق وحده للعبادة111.
إنّ مما تقرّه العقول وتسلّم له الألباب أنّ المخلوق ضعيف محتاج إلى خالقه، وهو مربوب لربّه الذي أوجده وربّاه، ولا يمكن له أن يستغني عنه بأي حال، وإذا كان الأمر كذلك فهل يجوز أن يعبد ذلك المخلوق الضعيف من دون خالقه؟! قال الله تعالى: (ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ) [الأنعام: ١٠٠].
ففي هذه الآية ردّ الله تعالى على أولئك الضالين المشركين بكلمة واحدة؛ إذ قال سبحانه: (ﯪ)، والضمير في هذه الكلمة إما عائد على أولئك المشركين، فيكون المعنى: أنّ هؤلاء المشركين جعلوا من لم يخلقهم شريكًا لخالقهم في العبادة وهذه غاية الجهالة؛ إذ المستحق للعبادة هو الخالق لا غيره، وإمّا أن يكون الضمير عائدًا على المعبودين من دون الله تعالى، فيكون المعنى: أن المشركين اتخذوا شركاء في العبادة، وهؤلاء الشركاء هم أصلًا مخلوقون لله تعالى، فكيف يناسب أن يعبدوا من دونه سبحانه؟!112.
وقد أنكر الله -تعالى في آيات كثيرة من كتابه العزيز- على من عبدوا مخلوقات مثلهم، لا تخلق شيئًا؛ وإنّما هي مخلوقة أصلًا.
قال الله تعالى: (ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ) [الرعد: ١٦].
قال الشنقيطي رحمه الله: «أشار تعالى في هذه الآية الكريمة إلى أنه هو المستحق لأن يعبد وحده؛ لأنه هو الخالق ولا يستحق من الخلق أن يعبدوه إلا من خلقهم وأبرزهم من العدم إلى الوجود»113.
وقال سبحانه في آيات أخرى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ) [الفرقان: ٣].
وبيّن سبحانه حال تلك المعبودات من دونه فقال: (ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈY ﮊ ﮋ ﮌﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑb) [النحل: ٢٠- ٢١].
وما أعظم ذلك البيان الرّبّاني الذي فيه إيقاظ للقلوب الغافلة، وتنبيه للعقول الضالة، التي ظنت -ولو لحظة واحدة- أنّه يجوز أن يعبد غير الله تعالى من مخلوقات ضعيفة فانية، ضعيفة عاجزة، يقول سبحانه وتعالى: (ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥv ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ~ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ® ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ¿ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋÞ) [الأعراف: ١٩١-١٩٥].
إنّ هذه المخلوقات في غاية العجز والضعف، لا تملك لنفسها -فضلًا عن غيرها- نفعًا ولا ضرًّا، فكيف يقدم من كان عنده عقل على عبادة من كان هذا حاله؟!
إنّ الله تعالى هو خالق كلّ شيء، ولا خالق غيره، وكل ما سواه سبحانه مخلوق له، فوجب أن يكون وحده المعبود، ووجب ألا يصرف شيء من العبادة لغيره، (ﭑ ﭒ ﭓﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ) [الأنعام: ١٠٢].
ثانيًا: دلالة الخلق على قدرة الخالق على البعث:
إنّ من الدلالات العظيمة التي يدلّ عليها خلق الله تعالى الدلالة على قدرته سبحانه وتعالى على البعث، وإعادة الموتى للحياة من جديد؛ لأجل أن يحاسبوا على أعمالهم، وقد كان كفّار العرب ومن جاء بعدهم من الكفار ينكرون تلك الحقيقة العظيمة، فجاء القرآن الكريم بأعظم الأدلة وأصدقها لإثبات هذه الحقيقة العظمى.
وقد استدلّ القرآن الكريم على حقيقة البعث بعدة أدلة، من أهمها دليل الخلق، وهو دليل بديهي، يوجبه العقل، ويستلزمه المنطق، ولا يمكن أن يطرأ عليه شكٌّ أو ريب.
ويتلخص دليل الخلق على البعث في أنّ الله تعالى الذي خلق الخلق أوّل مرة قادر على إعادة الخلق مرة أخرى؛ فالذي أوجدهم أولًا يوجدهم ثانيًا، بل العقل يقتضي أن تكون الإعادة أهون من الإيجاد الأول.
وقد ورد في كتاب الله تعالى آيات كثيرة تثبت حقيقة البعث بدلالة الخلق، فالذي خلق هذا الكون العظيم، وفطر السماوات والأرض، قادر سبحانه على بعث العباد بعد موتهم.
قال تعالى: (ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ) [الأحقاف: ٣٣].
ومن استدلال القرآن الكريم على حقيقة البعث بدلالة الخلق أنّ الله تعالى دعا أولئك المتشككين في حقيقة بعثهم إلى تذكر أصل خلقتهم، كيف كانوا في الأصل ترابًا، ثمّ تناسلوا من نطفة، ثم علقة، ثمّ مضغة، إلى أن صاروا بشرًا مكتملين.
قال تعالى: (ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ) [الحج: ٥].
يدعوهم ربّهم إلى النظر إلى مبدأ خلقهم؛ ليزول ريبهم؛ ويذهب شكّهم في قضية البعث والحساب114.
إنّ العقل يستلزم أن يكون الإيجاد الأول أعظم برهان على الإيجاد الثاني، وهذا ما أخبر به القرآن الكريم، قال الله تعالى: (ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳﭴ ﭵ ﭶﭷ ﭸ ﭹ ﭺ) [الأنبياء: ١٠٤].
وقال سبحانه ردًّا على من سألوا: من يعيدنا بعد الموت والفناء؟ (ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ) [الإسراء: ٥١].
إنّ دليل الخلق أول مرّة على الخلق مرّة أخرى دليل قوي عظيم، لا يرفضه إلا من فقد عقله، ونسي أصله، فبحسب الإنسان أن يذكر نشأته الأولى؛ ليعلم أن الله تعالى قادر على البعث والإحياء؛ لذا بيّن الله تعالى أنّ من أنكروا البعث قد نسوا أصلهم، ونسوا نشأتهم الأولى.
قال سبحانه وتعالى: (ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ) [يس: ٧٨].
فكان الرّدّ من الله تعالى على ذلك الجاحد بتذكيره بخلقه الأول: (ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ) [يس: ٧٩].
قال الشنقيطي رحمه الله: «ولأجل قوة دلالة هذا البرهان المذكور على البعث بيّن جل وعلا أنّ من أنكر البعث فهو ناسٍ للإيجاد الأول، كقوله تعالى: (ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘﮙ) [يس: ٧٨]؛ إذ لو تذكر الإيجاد الأول على الحقيقة لما أمكنه إنكار الإيجاد الثاني»115، ومثل هذه الآية قوله تعالى: (ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ)[مريم: ٦٦-٦٧].
[انظر: البعث: منهج القرآن في تقرير مبدأ البعث]
وردت العديد من الآيات التي تدعو إلى التفكر والتأمل في خلق الله تعالى، والتي تدلل على وحدانية الله تعالى، وقدرته، ومن هذه الآيات:
أولًا: قوله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ)[البقرة: ١٦٤].
وقد اشتملت هذه الآية على ثماني آيات كونية عظيمة دالة على عظمة الخالق تعالى وقدرته، وفيها دعوة للتفكر والتأمل في خلق الله تعالى.
أول هذه الآيات الدالة على عظم خالقها، هي السماوات، فالسماء على ارتفاعها طبقات مفصولة ومرفوعة بغير عمد، واتساعها، وكواكبها السيارة، وبروجها، ودوران فلكها، لهي من أكبر الآيات الدالة على قدرة المولى تعالى، وثانيها الأرض في مدها، وبسطها، وكثافتها، وانخفاضها، وجبالها، وبحارها، وقفارها، ووهادها، وعمرانها، وما فيها من المنافع العظيمة من معادن عظيمة بداخلها، والتي تشهد على وحدانية خالقها116.
ثم جاءت الآية الثالثة والمتمثلة في اختلاف الليل والنهار وتتابعهما دون تأخر، كما قال الله تعالى: (ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ)[يس: ٤٠].
تارة يطول هذا ويقصر هذا، وتارة يأخذ هذا من هذا ثم يتقارضان، كما قال تعالى: (ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ)[فاطر: ١٣].
فكل ذلك دليل على الخالق المبدع117.
قال الخازن: «والآية في الليل والنهار أن انتظام أحوال العباد بسبب طلب الكسب والمعيشة يكون في النهار، وطلب النوم والراحة يكون في الليل، فاختلاف الليل والنهار إنما هو لتحصيل مصالح العباد»118.
أما الآية الرابعة فمتمثّلة في قوله تعالى: (ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ) [البقرة:١٦٤].
أي: تسخير البحر لحمل السفن التي تنقل الناس من جانب لآخر، ونقل تجارتهم119، «والآية في الفلك تسخيرها وجريانها على وجه الماء، وهي موقّرة بالأثقال والرجال، فلا ترسب، وجريانها بالريح مقبلة ومدبرة، وتسخير البحر لحمل الفلك مع قوة سلطان الماء، وهيجان البحر فلا ينجي منه إلّا الله تعالى »120.
ثم الآية الخامسة في قوله تعالى: (ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ) [البقرة:١٦٤].
ففي هذه الآية دليل على قدرة الله تعالى، وفيها عبرة لأولي الألباب والعقول، ومدعاة للتفكر والتأمل في خلقه تبارك وتعالى، وذلك أنه قال: (ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ) [البقرة: ٢٢].
فمن شأن الماء الذي يسقي الأرض أن ينبع منها، لكنه جعل الماء نازلًا عليها من ضدها وهو السماء. وفي الآية عبرة علمية، أوضحها أهل العلم، «وذلك أنّ جعل الماء نازلًا من السماء يشير إلى أن بخار الماء يصير ماء في الكرة الهوائية عند ما يلامس الطبقة الزمهريرية، وهذه الطبقة تصير زمهريرًا عند ما تقل حرارة أشعة الشمس، ولعل في بعض الأجرام العلوية وخاصة القمر أهوية باردة يحصل بها الزمهرير في ارتفاع الجو، فيكون لها أثر في تكوين البرودة في أعلى الجو، فأسند إليها بإنزال الماء مجازًا عقليًّا»121.
وكما جاء في قوله تعالى: (ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ)[يس: ٣٣].
ثم تأتي الآية السادسة في قوله تعالى: (ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ) [البقرة:١٦٤].
أي: جعل فيها من جميع الحيوانات، على اختلاف أشكالها وألوانها ومنافعها وصغرها وكبرها، وهو يعلم ذلك كله ويرزقه لا يخفى عليه شيء من ذلك122، كما قال تعالى: (ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ)[هود: ٦].
«قال ابن عباس: يريد كل ما دب على وجه الأرض من جميع الخلق من الناس وغيرهم، والآية في ذلك أن جنس الإنسان يرجع إلى أصل واحد وهو آدم، ثم ما فيهم من الاختلاف في الصور والأشكال والألوان والألسنة والطبائع والأخلاق والأوصاف إلى غير ذلك، ثم يقاس على بني آدم سائر الحيوان»123، وعبّر عنه بالبث لتصوير ذلك الخلق العجيب المتكاثر124.
والآية السابعة في قوله تعالى: (ﭲ ﭳ) [البقرة:١٦٤].
أي: هبوبها من جهات مختلفة، وهي الجهات الأربع، وتنوعها مع ذلك، فتارة تأتي للعذاب، وتارة للرحمة، مع تفريق للعلماء بينهما125، وما بينها من صفات مختلفة كلها دليل على قدرة الله تعالى.
وآخر هذه الآيات متمثّلة في قوله تعالى: (ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ) [البقرة:١٦٤].
«والآية في ذلك أن السحاب مع ما فيه من المياه العظيمة التي تسيل منها الأدوية العظيمة يبقى معلّقًا بين السماء والأرض»126.
ثانيًا: قوله تعالى: (ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ)[الغاشية: ١٧].
هذه آية أخرى تحثّ على التفكر في مخلوقات الله تعالى، وجاء الحث في هذه الآية على التفكر في إحدى مخلوقاته التي كانت معهودة عند العرب، فقال الله تعالى: أفلا ينظر أهل مكة والناس عامة نظر اعتبار وتفكر إلى الإبل، وهي الجمال، جمع بعير، ولا مفرد لها من لفظها127، كيف جاء خلقها دقة في الإبداع، ودليل على كمال قدرته تبارك وتعالى.
وقد يتساءل البعض: لماذا جاء ذكر الإبل دون غيرها من الحيوانات التي كانت موجودة عند العرب؟ نقول: إن الإبل أكثر الحيوانات ذات قيمة عند العرب، ولما لها من خصائص تميّزها عن باقي الحيوانات.
وقد جاء ذكر هذه الخصائص في قوله تعالى: (ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ³ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ¼ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ)[النحل: ٥-٧].
«والأنعام: الإبل والبقر والغنم، وأكثر ما يقال: نعم وأنعام للإبل»128، وإن شيئًا من سائر الحيوانات لا يجتمع فيه هذه الخصال فكان اجتماع هذه الخصال في هذا المخلوق من العجائب129.
قال الإمام الرازي: «إنه في كل واحد من هذه الخصال أفضل من الحيوان الذي لا يوجد فيه إلا تلك الخصلة؛ لأنها إن جعلت حلوبة سقت فأروت الكثير، وإن جعلت أكولة أطعمت وأشبعت الكثير، وإن جعلت ركوبة أمكن أن يقطع بها من المسافات المديدة ما لا يمكن قطعه بحيوان آخر، وذلك لما ركّب فيها من قوة احتمال المداومة على السير والصبر على العطش، والاجتزاء من العلوفات بما لا يجتزئ حيوان آخر، وإن جعلت حمولة استغلّت بحمل الأحمال الثقيلة التي لا يستقل بها سواها، ومنها أن هذا الحيوان كان أعظم الحيوانات وقعًا في قلب العرب؛ ولذلك فإنهم جعلوا دية قتل الإنسان إبلًا، وكان الواحد من ملوكهم إذا أراد المبالغة في إعطاء الشاعر الذي جاءه من المكان البعيد أعطاه مائة بعير؛ لأن امتلاء العين منه أشد من امتلاء العين من غيره»130.
فكيف يصح للمشركين إنكار البعث والمعاد واستبعاد وقوع ذلك، وهم يشاهدون الإبل التي هي غالب مواشيهم وأكبر المخلوقات في بيئتهم، كيف خلقها اللّه على هذا النحو البديع، من عظم الجثة، ومزيد القوة، وبديع الأوصاف، فهي خلق عجيب، وتركيب غريب، ومع ذلك نراها تلين للحمل الثقيل، وتنقاد للولد الصغير، وتؤكل، وينتفع بوبرها، ويشرب لبنها، وتصبر على الجوع والعطش، وترعى كل ما يتيسر لها من شوك وشجر وغير ذلك، مما لا يكاد يرعاه سائر البهائم، فتبارك الله أحسن الخالقين131.
ثالثًا: قوله تعالى: (ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ)[يس: ٧٨].
تتحدث هذه الآية والتي قبلها عن بعض أهل الكفر الذين جادلوا النبي صلى الله عليه وسلم وأنكروا قدرة الله تعالى على البعث والجزاء، فكان الرد من الله تعالى عليهم، ودفع شبهتهم.
قال أهل التفسير: إن هذه الآية نزلت في العاص بن وائل السهمي، وقيل: هو أبي بن خلف الجمحي، وذلك أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم بعظم حائل فقال: يا محمد، أترى أن الله يحيي هذا بعد ما رمّ؟! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (نعم، ويبعثك الله ويدخلك النار) فنزلت هذه الآية132.
فالله تعالى يرد على منكري البعث، الذين يستبعدون عودة العظام إلى الحياة بعد أن تصبح بالية، فهذا الإنسان الجاهل المجادل بالباطل، ضرب مثلًا هو في غاية الغرابة، حيث أنكر قدرة الله تعالى على إحياء الموتى، وعلى بعثهم يوم القيامة، فقال: - دون أن يفطن إلى أصل خلقته- من يحيى العظام وهي بالية أشد البلى؟
ونسي أصل خلقه من تراب، ثم من نطفة، ثم المراحل التي يمر فيها خلق الإنسان، واختاروا العظم للذكر؛ لأنه أبعد عن الحياة؛ لعدم الإحساس فيه، ووصفوه بما يقوي جانب الاستبعاد من البلى والتفتت133.
لهذا لقّن الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم الجواب الذي يخرس ألسنة المنكرين للبعث، فقال تعالى: (ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ)[يس: ٧٩].
أي: يعلم العظام في سائر أقطار الأرض وأرجائها، أين ذهبت، وأين تفرّقت وتمزّقت134.
فحريٌّ بهذا المجادل أن ينظر في خلقه قبل التنكر والاستبعاد، فلو فكر وتدبر مليًّا في ذلك لما أنكر قدرة الله تعالى على إعادة الخلق، وعلى كل إنسان أن يمعن تفكيره في خلق الله تعالى الدال على قدرته، وتفرده بالألوهية.
رابعًا: قوله تعالى: (ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ)[الذاريات: ٢١].
في هذه الآية حثٌّ من المولى تعالى للإنسان على التفكر والتدبر في خلقه، ففيها دلالة واضحة على أن الإنسان معجز في خلقه، وفيه دليل على توحيد الله، وصدق ما جاءت به الرسل، فالله تعالى يخاطبنا قائلًا: أفلا تنظرون نظرة متأمل معتبر ناظر بعين البصيرة، فتستدلون بذلك على الخالق الرازق، المتفرد بالألوهية، فليست نفوسكم مخلوقة بالصدفة ولا بالطبيعة، وإنما خالقها الله القادر على كل شيء، وعلى البعث وإعادة الحياة، ففي النفس من بداية خلقها، وتنقلها من مرحلة إلى أخرى، وما في تراكيب أعضائها، واختلاف الألوان والألسنة والصور، من الأدلة المقنعة على قدرته تعالى ووحدانيته135.
قال ابن عجيبة: « (ﮢ ﮣ) آيات وعجائب القدرة؛ إذ ليس شيء في العالم إلا وفي الأنفس له نظير، مع ما فيه من الهيئات النابعة والمصادر البهية، والترتيبات العجيبة، خلقه نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، ثم فصلها إلى العظم والعصب والعروق، فالعظام عمود الجسد، ضمّ بعضها إلى بعض بمفاصل وأقفال ربطت بها، ولم تكن عظمًا واحدًا؛ لأنه إذ ذاك يكون كالخشبة، لا يقوم ولا يجلس، ولا يركع ولا يسجد لخالقه، ثم خلق تعالى المخ في العظام في غاية الرطوبة ليرطب يبس العظام، ويتقوّى به، ثم خلق سبحانه اللحم وعبأه على العظام، وسدّ به خلل الجسد، واعتدلت هيئته، ثم خلق سبحانه العروق في جميع الجسد جداول، يجري الغذاء منها إلى أركان الجسد، لكل موضع من الجسد عدد معلوم، ثم أجرى الدم في العروق سيالًا خاثرًا، ولو كان يابسًا، أو أكتف مما هو فيه، لم يجر في العروق، ثم كسى سبحانه اللحم بالجلد كالوعاء له، ولولا ذلك لكان قشرًا أحمر، وفي ذلك هلاكه، ثم كساه الشعر وقايةً وزينةً، وليّن أصوله، ولم تكن يابسة مثل رؤوس الإبر، وإلا لم يهنه عيش، وجعل الحواجب والأشفار وقاية للعين، ولولا ذلك لأهلكهما الغبار والسقط، وجعلها سبحانه طوع يده، يتمكن من رفعها عند قصد النظر، ومن إرخائها على جميع العين عند إرادة إمساك النظر عما يضر دينًا ودنيا، وجعل شعرها صفًّا واحدًا لينظر من خلالها، ثم خلق سبحانه شفتين تنطبقان على الفم تصونان الحلق والفم من الرياح والغبار، ولما فيهما من كمال الزينة، ثم خلق الله سبحانه الأسنان ليتمكن من قطع مأكوله وطحنه، ولم تكن له في أول خلقته؛ لئلا يؤذي أمه، وجعلها ثلاثة أصناف: قسم يصلح للكسر؛ كالأنياب، وقسم يصلح للقطع؛ كالرباعية، وقسم يصلح للطحن؛ كالأضراس، إلى غير ذلك مما في الإنسان من عجائب الصنع وبدائع التركيب»136.
ثم ختم سبحانه وتعالى الآية الكريمة بقوله: (ﮥ ﮦ) أي: تنظرون نظر من يعتبر، قال قتادة: «من تفكر في خلق نفسه عرف أنه إنما خلق ولينت مفاصله للعبادة»137.
موضوعات ذات صلة: |
آدم، الأرض، الإنسان، البصر، التفكر، الجبال، الحكمة، الحيوان، السماء، السير |
1 انظر: مقاييس اللغة، ابن فارس ٢/٢١٣.
2 لسان العرب، ابن منظور ١٠/٨٥.
3 انظر: تسهيل العقيدة الإسلامية، عبد الله الجبرين، ص٤١.
4 انظر: المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، محمد فؤاد عبد الباقي، ص٢٤١- ٢٤٤.
5 انظر: الوجوه والنظائر، مقاتل بن سليمان، ص٩٢- ٩٣، الوجوه والنظائر، الدامغاني، ص٢٠١-٢٠٢، نزهة الأعين النواظر، ابن الجوزي ص ٢٨٤-٢٨٥.
6 مقاييس اللغة، ابن فارس، ٣/٣٢٠.
7 انظر: المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية ١/٥٢٨.
8 انظر: مختار الصحاح، الرازي، ص١١٢.
9 انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، ابن الأثير ٢/١٥٦.
10 مقاييس اللغة، ابن فارس، ٥/٤٢٨.
11 انظر: المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية، ٢/٩٢٠.
12 انظر: تاج العروس، الزبيدي ٥/١٦٩.
13 مباحث العقيدة في سورة الزمر، ناصر الشيخ ص٥٦٧.
14 انظر: مفاتيح الغيب، الرازي، ٢/٣٢٣.
15 انظر: فتح القدير، الشوكاني، ٢/٢٤١.
16 روح المعاني، ٤/٣٧٨.
17 التحرير والتنوير، ابن عاشور، ٢٩/١٨.
18 جامع البيان، ١٩/٢٣٦.
19 تيسير الكريم الرحمن، ص٨٧٢.
20 انظر: نظم الدرر، البقاعي، ٢٠/١٧٢.
21 انظر: الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، ١٠/٩٤.
22 مدارك التنزيل، النسفي، ١/١٤٨.
23 تفسير أسماء الله الحسنى، ص٣٥، ٣٧.
24 شرح أسماء الله الحسنى في ضوء الكتاب والسنة، ص ١٧١.
25 التحرير والتنوير، ٢٣/٧٩.
26 انظر: العقيدة الصحيحة وما يضادها، ابن باز ص٦.
27 انظر: تفسير المراغي، ١٨/٨.
28 إرشاد العقل السليم، أبو السعود، ٦/١٢٦.
29 انظر: المصدر السابق.
30 انظر: مفاتيح الغيب، الرازي، ٢٣/٢٦٥.
31 الصواعق المرسلة الشهابية، سليمان بن سحمان ص٣٠٤.
32 انظر: فتح البيان، القنوجي، ١٢/٧٩.
33 انظر: مباحث في علوم القرآن، مناع القطان، ص٣١٣.
34 انظر: الجامع لأحكام القرآن، ٩/٢٧٢.
35 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الحج، باب التلبية وصفتها ووقتها، ٢/٨٤٣، رقم ١١٨٥، عن ابن عباس رضي الله عنهما.
36 تفسير القرآن العظيم، ٤/٤١٨.
37 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب تفسير القرآن، باب قوله تعالى: (الذي جعل لكم الأرض فراشًا)، ٦/١٨، رقم ٤٤٧٧، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب كون الشرك أقبح الذنوب وبيان أعظمها بعده، ١/٩٠، رقم ٨٦.
38 عدة الصابرين، ص٤٦.
39 انظر: مفاتيح الغيب، الرازي، ٢٨/١٥٢.
40 انظر: تيسير الكريم الرحمن، السعدي، ص٨٧٣.
41 فتح القدير، ٥/٣٢.
42 انظر: جامع البيان، الطبري، ١٠/١٤٦.
43 انظر: فتح القدير، الشوكاني، ٤/٢١١.
44 انظر: البحر المديد، ابن عجيبة، ٤/٣٥٤.
45 انظر: إرشاد العقل السليم، أبو السعود، ٧/٢٤٢.
46 انظر: نظم الدرر، البقاعي، ١٧/٣٥٣.
47 تيسير الكريم الرحمن، السعدي، ص٤٣٦.
48 الفواتح الإلهية ٢/٢٠٢.
49 معالم التنزيل، البغوي، ٤/٦٦.
50 المحرر الوجيز، ابن عطية، ٢/٣٠٩.
51 انظر: الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، ١٠/٦٨.
52 جامع البيان، الطبري، ١٨/٤١٩.
53 انظر: تفسير السمرقندي، ٣/٣٣٩.
54 انظر: تفسير القرآن العزيز، ابن أبي زمنين، ١/٣٤١.
55 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب صفة القيامة والجنة والنار، باب ابتداء الخلق وخلق آدم عليه الصلاة والسلام، ٤/٢٤٩، رقم ٢٧٨٩.
56 انظر: تيسير الكريم الرحمن، السعدي، ص٩٠٩.
57 انظر: الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، ١٥/٣٤٢-٣٤٥.
58 أخرجه البخاري في صحيحه تعليقًا، كتاب التفسير، باب قوله: (ومن آياته خلق السموات والأرض وما بث فيهما من دابة)، ٦/١٢٧.
59 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الجمعة، باب فضل يوم الجمعة، ٢/٥٨٥، رقم ٨٥٤، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
60 انظر: التحرير والتنوير، ابن عاشور، ٣/٢٦٣.
61 أخرجه أبو داود في سننه، كتاب السنة، باب في القدر، ٤/٣٥٨، رقم ٤٦٥٩، عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه. وصححه الألباني في صحيح الجامع، ١/٣٦٢، رقم ١٧٥٩.
62 انظر: التفسير المنير، الزحيلي، ٢٣/٢٣١.
63 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأنبياء، باب خلق آدم وذريته، ٤/١٣٣، رقم ٣٣٣١، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
64 انظر: فتح القدير، الشوكاني، ١/٧٩.
65 انظر: في ظلال القرآن، سيد قطب، ٦/٣٣٨٥.
66 انظر: المحرر الوجيز، ابن عطية، ٥/١٨١، تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، ٧/٤٢٤، الجواهر الحسان، الثعالبي ٥/٣٠٥.
67 انظر: جامع البيان، الطبري، ٢٢/٤٣٩.
68 انظر: جامع البيان، الطبري، ٢٢/٤٣٩، تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، ٧/٤٢٤.
69 في ظلال القرآن، ٤/٢٠٤٦.
70 مفاتيح الغيب، الرازي، ١٩/٧.
71 التفسير المنير، الزحيلي، ١٨/١٨.
72 انظر: الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، ١٥/٦٩.
73 أخرجه الترمذي في سننه، أبواب التفسير، باب ومن سورة البقرة، ٥/٥٤، رقم ٢٩٥٥.
وصححه الألباني في صحيح الجامع، ٢/٣٦٢، رقم ١٧٥٩.
74 انظر: أنوار التنزيل، البيضاوي، ٣/٢١٠، لباب التأويل، الخازن، ٣/٥٤.
75 انظر: فتح القدير، الشوكاني، ٥/١٦١، محاسن التأويل، القاسمي ٥/١٠٣.
76 انظر: مفاتيح الغيب، الرازي، ٢٦/٤١٠.
77 انظر: تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، ٨/٢٨٥، لباب التأويل، الخازن، ٤/٣٧٦.
78 انظر: فتح القدير، الشوكاني، ٣/٥١٥، البحر المديد، ابن عجيبة، ٣/٥١٢، في ظلال القرآن، سيد قطب، ٤/٢٤١٠.
79 انظر: التحرير والتنوير، ابن عاشور، ١٧/١٩٨، التفسير المنير، الزحيلي، ١٧/١٥٦.
80 في ظلال القرآن، ٤/٢٤٥٩.
81 انظر: المصدر السابق.
82 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب بدء الخلق، باب ذكر الملائكة، ٤/١١١، رقم ٣٢٠٨.
83 انظر: التسهيل لعلوم التنزيل، ابن جزي، ٢/٢٢٢، الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، ١٥/٢٦٠.
84 انظر: التفسير المنير، الزحيلي، ٧/١٣١.
85 انظر: تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، ٣/٢٤٠، فتح القدير، الشوكاني، ٢/١١٣.
86 انظر: جامع البيان، الطبري، ١١/٢٥٦، البحر المديد، ابن عجيبة، ٢/٩٦.
87 انظر: مفاتيح الغيب، الرازي ٢٠/٢٢٩.
88 فتح القدير، الشوكاني ٢/٢٣١.
89 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب بدء الخلق، باب ذكر الملائكة، ٤/١١١، رقم ٣٢٠٨.
90 انظر: مفاتيح الغيب، الرازي، ١٤/١٩٢، لباب التأويل، الخازن، ٢/١٧٩، الوسيط، طنطاوي، ٥/٢٣١.
91 تفسير الشعراوي، ٧/٤٠٢٧.
92 انظر: تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، ٧/٢٢٦، في ظلال القرآن، سيد قطب، ٥/٣١٨٧، الوسيط، طنطاوي، ١٣/٧٧.
93 انظر: البحر المديد، ابن عجيبة، ٢/١٩٠، التفسير القرآني للقرآن، الخطيب، ٨/٤٦٩.
94 انظر: الدر المنثور، السيوطي، ١/١٢٨.
95 انظر: الكشاف، الزمخشري، ٤/٤٤٥.
96 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الزهد والرقائق، باب في أحاديث متفرقة، ٤/٢٢٩٤، رقم ٢٩٩٦.
97 انظر: الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، ١١/٢٧٦.
98 تيسير الكريم الرحمن، ص٥٢٠.
99 انظر: الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، ١٧/٥٥.
100 انظر: زاد المسير، ابن الجوزي، ٨/٤٢.
101 انظر: جامع البيان، الطبري، ٢٢/٤٤٤.
102 أضواء البيان، ٧/٤٤٥.
103 انظر: تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، ١/٣٣٧.
104 انظر: الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، ١/٢٦٣.
105 انظر: أضواء البيان، الشنقيطي، ١/٢١.
106 تفسير السمرقندي، ٢/١٣٩.
107 اللباب في علوم الكتاب، ابن عادل، ١٠/٤٤١.
108 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، ٧/٤١٨.
109 انظر: الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، ٩/١١٤، تيسير الكريم الرحمن، السعدي ص٣٩٢.
110 انظر: أضواء البيان، الشنقيطي، ٧/٤٤٨.
111 انظر: تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، ١/٣٠٧، تيسير الكريم الرحمن، السعدي، ص٤٤.
112 انظر: البحر المحيط، أبو حيان، ٤/١٩٧.
113 أضواء البيان، ٢/٢٣٩.
114 إرشاد العقل السليم، أبو السعود، ٦/٩٣.
115 أضواء البيان، ٤/٢٦٥.
116 انظر: تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، ١/٤٧٤، البحر المديد، ابن عجيبة، ١/١٩١.
117 انظر: تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، ١/٤٧٤.
118 لباب التأويل، ١/١٠٠.
119 انظر: تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، ١/٤٧٤.
120 لباب التأويل، ١/١٠٠.
121 التحرير والتنوير، ابن عاشور، ٢/٨٣.
122 انظر: تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، ١/٤٧٤.
123 لباب التأويل، الخازن، ١/١٠٠.
124 انظر: التحرير والتنوير، ابن عاشور، ٢/٨٤.
125 انظر: تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، ١/٤٧٤، البحر المديد، ابن عجيبة، ١/١٩١.
126 لباب التأويل، الخازن، ١/١٠٠.
127 انظر: التفسير المنير، الزحيلي، ٣٠/٢١٤.
128 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، ١٠/٦٨.
129 انظر: مفاتيح الغيب، الرازي، ٣١/١٤٤.
130 المصدر السابق.
131 انظر: روح المعاني، الألوسي، ١٥/٣٢٩، محاسن التأويل، القاسمي، ٩/٤٢٦، التفسير المنير الزحيلي، ٣٠/٢١٤.
132 انظر: الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، ١٥/٧٥، لباب التأويل، الخازن، ٤/١٣.
133 انظر: مفاتيح الغيب، الرازي، ٢٦/٣٠٨.
134 انظر: تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، ٦/٥٦٤، التفسير الوسيط، الطنطاوي، ١٢/٥٦.
135 انظر: الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، ١٧/٤٠، محاسن التأويل، القاسمي، ٩/٤٠، التفسير المنير، وهبة الزحيلي، ٢٧/١٩.
136 البحر المديد، ابن عجيبة، ٥/٤٧١.
137 تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، ٧/٤١٩.